تفسير سورة الشعراء

اللباب
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الشعراء
مكية إلاّ قوله :﴿ والشعراء يتبعهم الغاوون ﴾ [ الشعراء : ٢٢٤-٢٢٧ ] إلى آخرها فإنها مدنية١ وهي مائتان وسبع وعشرون آية، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفاً.
١ انظر الكشاف ٣/١٠٧، والقرطبي ١٣/٨٧، والبحر المحيط ٧/٥..

مكية إلا قوله: ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون﴾ [الشعراء: ٢٢٤ - ٢٢٧] إلى آخرها فإنها مدنية وهي مائتان وسبع وعشرون آية، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿طسم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين﴾.
أظهر حمزة نُونَ «سِين» قبل الميم، كأنا ناوٍ الوقف، وإلاّ فإدغام مثله واجب والباقون يدغمون. وتقدم إعراب الحروف المقطعة. وفي مصحف عبد الله: «ط س م» مقطوعة من بعضها. قيل: وهي قراءة أبي جعفر، يعنون أنه يقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف، وإلا لم يتصور أن يلفظ بها على صورتها في هذا الرسم وقرأ عيسى - وتروى عن نافع - بكسر الميم هنا وفي القصص على البناء. وأمال الطاءَ الأخوان وأبو بكر، وقد تقدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال: (طسم) عجزت العلماء عن علم تفسيرها. وروى عليّ بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أنه قسم، وهو من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: اسم للسورة. وقال محمد بن كعب القرظي: قسمٌ بطوله وسناه وملكه. «تِلْكَ آيَاتُ» أي: هذه الآيات آيات «الكِتَابِ المُبِينِ» قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
3
نَّفْسَكَ}. قرأ قتادة: «بَاخِعٌ نَفْسِكَ» على الإضافة. والمعنى قاتل نفسك ﴿أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: إن لم يؤمنوا، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك، وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله هذه الآية، وهذا تسليَة للرسول، أي: لا تبالغ في الحزن والأسف، فصبّره وعزَّاه وعرّفه أن غمه وحزنه لا ينفع، كما أن وجود الكتاب ووضحوه لا ينفع.
قوله: ﴿إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ﴾. العامة على نون العظمة فيهما. وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما، أي: إِنْ يَشَأ الله يُنزِّل. و «إن» أصلها أن تدخل على المشكوك فيه أو المحقق المبهم زمانه، والآية من هذا الثاني.
قوله: «فَظَلَّتْ» عطف على «نُنَزِّلْ» فهو في محل جزم. ويجوز أن يكون مستأنفاً غير معطوف على الجزاء. ويؤيد الأول قراءة طلحة: «فَتَظْلَل» بالمضارع مفكوكاً. قوله: «خَاضِعِينَ». فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر عن «أَعْنَاقُهُمْ». واستُشكِل جمعه جمع سلامة؛ لأنه مختص بالعقلاء. وأجيب عنه بأوجه:
أحدها: أن المراد بالأعناقِ: الرؤساء كما قيل: لهم وجوه وصدور، قال:
٣٨٩٤ - فِي مَحْفِلٍ من نواصِي الخَيْلِ مَشْهُودِ... الثاني: أنه على حذف مضاف، أي: فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المُخْبَرِ عنه مراعاة للمحذوف، وتقدم ذلك قريباً عند قراءة: ﴿وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ [الفرقان: ٦١].
الثالث: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله:
4
٣٨٩٥ - كَمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ... الرابع: أن «الأعناق» جمع «عُنُقٍ» من الناس، وهم الجماعة، فليس المراد الجارحة البتة، ومنه قوله:
٣٨٩٦ - أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا
وهذا قريب من معنى الأول، إلا أن هذا القائل يطلق «الأعناق» على جماعة الناس مطلقاً، رؤساء كانوا أو غيرهم.
الخامس: قال الزمخشري: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت «الأعناق» لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهَبَتْ أهل [اليمامة، كأن الأهل غير مذكور. قال شهاب الدين: وفي التنظير بقوله: ذهبت أهل اليمامة] نظر، لأن (أهل) ليس مقحماً البتة، لأنه المقصود بالحكم، وأما التأنيث فلاكتسابه التأنيث (بالإضافة).
السادس: أنها عوملت معاملة العقلاء لمَّا أُسْنِدَ إليهم ما يكون فِعْل العقلاء، كقوله: «سَاجِدِينَ» و «طَائِعِين» في يوسف وفصلت.
وقيل: إنما قال: «خاضِعِينَ» لموافقة رؤوس الآي.
والثاني: أنه منصوب على الحال من الضمير في «أَعْنَاقُهُم» قال الكسائي وضعفه أبو البقاء، قال: لأن «خاضِعِين» يكون جارياً على غير فاعل «ظَلَّتْ» فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل، فكان يجب أن يكون: خاضعين هم.
5
قال شهاب الدين: ولم يجر «خاضِعِين» في اللفظ والمعنى إلا على من هُوَ له، وهو الضمير في «أَعْنَاقُهُمْ»، والمسألة التي قالها: هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى، فكيف يلزم ما ألزمه به، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله، لأن الكسائي والكوفيين لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة إذا أمن اللبسن فهو (لا) يلتزم ما ألزمه به، ولو ضعف بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب، على أنه لا يضعف؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله: ﴿مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧].
6
«تِلْكَ آيَاتُ » أي : هذه الآيات آيات «الكِتَابِ المُبِينِ ».
قوله :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ﴾. قرأ قتادة :«بَاخِعٌ نَفْسَكَ » على الإضافة١. والمعنى قاتل نفسك ﴿ أَلاَّ٢ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ أي : إن لم يؤمنوا، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك، وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله هذه الآية٣، وهذا تسليَة للرسول، أي : لا تبالغ في الحزن والأسف، فصبّره وعزَّاه وعرّفه أن غمه وحزنه لا ينفع، كما أن وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع.
١ المختصر (١٠٦)، الكشاف ٣/١٠٧، البحر المحيط ٧/٥..
٢ في ب: قوله: "ألا..."..
٣ انظر البغوي ٦/٢٠٥-٢٠٦..
قوله :﴿ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ ﴾. العامة على نون العظمة فيهما. وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما، أي : إِنْ يَشَأ الله يُنزِّل١. و «إن » أصلها أن تدخل على المشكوك فيه٢ أو المحقق المبهم زمانه، والآية من هذا الثاني.
قوله :«فَظَلَّتْ » عطف على «نُنَزِّلْ » فهو في محل جزم٣. ويجوز أن يكون مستأنفاً غير معطوف على الجزاء٤. ويؤيد الأول قراءة طلحة :«فَتَظْلَل »٥ بالمضارع مفكوكاً٦. قوله :«خَاضِعِينَ ». فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر عن «أَعْنَاقُهُمْ »٧. واستُشكِل جمعه جمع سلامة ؛ لأنه مختص بالعقلاء. وأجيب عنه بأوجه :
أحدها : أن المراد بالأعناقِ : الرؤساء كما قيل : لهم وجوه وصدور٨، قال :
٣٨٩٤ - فِي مَحْفِلٍ من نواصِي الخَيْلِ مَشْهُودِ٩ ***. . .
الثاني : أنه على حذف مضاف، أي : فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المُخْبَرِ عنه مراعاة للمحذوف١٠، وتقدم ذلك قريباً عند قراءة :﴿ وَقَمَراً مُنِيراً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ].
الثالث : أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم١١، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله :
٣٨٩٥ - كَمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ١٢ ***. . .
الرابع : أن «الأعناق » جمع «عُنُقٍ » من الناس، وهم الجماعة١٣، فليس المراد الجارحة البتة، ومنه قوله :
٣٨٩٦ - أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ *** عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا١٤
وهذا قريب من معنى الأول، إلا أن هذا القائل يطلق «الأعناق » على جماعة الناس مطلقاً، رؤساء كانوا أو غيرهم.
الخامس : قال الزمخشري : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين، فأقحمت «الأعناق » لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهَبَتْ أهل [ اليمامة، كأن الأهل غير مذكور١٥. قال شهاب الدين : وفي التنظير بقوله : ذهبت أهل اليمامة ]١٦ نظر، لأن ( أهل ) ليس مقحماً البتة، لأنه المقصود بالحكم، وأما التأنيث فلاكتسابه التأنيث١٧ ( بالإضافة )١٨.
السادس : أنها عوملت معاملة العقلاء لمَّا أُسْنِدَ إليهم ما يكون فِعْل العقلاء١٩، كقوله :«سَاجِدِينَ »٢٠ و «طَائِعِين »٢١ في يوسف وفصلت٢٢.
وقيل : إنما قال :«خاضِعِينَ » لموافقة رؤوس الآي.
والثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير في «أَعْنَاقُهُم » قال الكسائي٢٣ وضعفه أبو البقاء، قال : لأن «خاضِعِين » يكون جارياً على غير فاعل «ظَلَّتْ » فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل، فكان يجب أن يكون : خاضعين هم٢٤.
قال شهاب الدين : ولم يجر «خاضِعِين » في اللفظ والمعنى إلا على من هُوَ له، وهو الضمير في «أَعْنَاقُهُمْ »، والمسألة التي قالها : هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى، فكيف يلزم ما ألزمه به، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله، لأن٢٥ الكسائي والكوفيين٢٦ لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة٢٧ إذا أمن اللبس، فهو ( لا )٢٨ يلتزم ما ألزمه به، ولو ضعفه بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب، على أنه لا يضعف ؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله :﴿ مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً ﴾٢٩.
١ تفسير ابن عطية ١١/٧٨٨، البحر المحيط ٧/٥..
٢ (فيه): تكملة ليست في المخطوط..
٣ انظر الكشاف ٣/١٠٧، البيان ٢/٢١١، التبيان ٢/٩٩٣..
٤ انظر التبيان ٢/٩٩٣..
٥ في النسختين: فتظال..
٦ البحر المحيط ٧/٥..
٧ انظر البيان ٢/٢١١..
٨ نقله الفراء عن مجاهد. معاني القرآن ٢/٢٧٧، البيان ٢/٢١١، التبيان ٢/٩٩٣..
٩ عجز بيت من بحر البسيط، قالته أم قبيس الضبية، وصدره:
ومشهد قد كفيت الغائبين ***...
وهو في الكشاف ٣/١٠٧، اللسان (نصا) برواية (الناس) مكان (الخيل) والبحر المحيط ٧/٦..

١٠ انظر البيان ٢/٢١١، التبيان ٢/٩٩٣..
١١ قال الأخفش: ( أو يكون ذكره لإضافته على المذكر كما يؤنث لإضافته إلى المؤنث) معاني القرآن ٢/٦٤٤. وانظر البيان ٢/٢١١-٢١٢، التبيان ٢/٩٩٣..
١٢ عجز بيت من بحر الطويل، قاله الأعشى، وصدره:
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ***...
وتقدم تخريجه. والشاهد فيه قوله: شرقت فإنه أنثه مع أن الفاعل مذكر، لأنه مضاف إلى مؤنث وهو (القناة) فاكتسب التأنيث منه..

١٣ أشار إليه الأخفش؛ فإنه قال: ( يزعمون أنها على الجماعات نحو: هذا عنق من الناس. يعنون الكثير) معاني القرآن ٢/٦٤٣-٦٤٤، وانظر التبيان ٢/٩٩٣..
١٤ البيت من بحر الكامل، أنشده الفراء لرجل يدعو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للذهاب إلى العراق. وهو في معاني القرآن ٢/٤٠، الخصائص ١/٢٧٩، تفسير ابن عطية ١١/٨٩، ابن يعيش ٤/٣٢، اللسان (عنق، هيت)، البحر المحيط ٧/٥ عنق: بمعنى الجماعة، وهو موطن الشاهد، ورواية الفراء: سلم عليك فلا شاهد فيها. هيت: اسم فعل أمر بمعنى أسرع..
١٥ الكشاف ٣/١٠٧..
١٦ ما بين القوسين سقط من الأصل..
١٧ الدر المصون ٥/١٥٠..
١٨ زيادة يستقيم بها الكلام..
١٩ انظر تفسير ابن عطية ١١/٩١، البحر المحيط ٧/٦..
٢٠ من قوله تعالى: ﴿رأيتهم لي ساجدين﴾ [يوسف: ٤]..
٢١ من قوله تعالى: ﴿قالتا أتينا طائعين﴾ [فصلت: ١١]..
٢٢ في النسختين: والسجدة..
٢٣ انظر التبيان ٢/٩٩٣..
٢٤ التبيان ٢/٩٩٣..
٢٥ في ب: إلا أن..
٢٦ في ب: والكوفيون..
٢٧ ذهب الكوفيون إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له نحو قولك: هند زيد ضاربته هي لا يجب إبرازه. وذهب البصريون إلى أنه يجب إبرازه، واجمعوا على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه. انظر الإنصاف ١/٥٧-٥٨ المسألة (٨)..
٢٨ لا: زيادة يتم بها المعنى..
٢٩ [الحجر: ٤٧]. الدر المصون ٥/١٥٠. وهذا التنظير بناء منه على القول بأن "خاضعين" حال، وانظر البيان ٢/٢١١-٢١٢..
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ﴾ وعظ وتذكر ﴿مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ﴾ أي: محدث إنزاله فهو محدث في التنزيل. قال الكلبي: «كلما نزل من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول».
وقوله: «إلاَّ كَانُوا» جملة حالية، وتقدم تحقيق هذا وما قبله في أول الأنبياء. ومعنى «مُعْرِضِينَ» أي: عن الإيمان به.
قوله: «فَقَدْ كَذَّبُوا» أي: بلغوا النهاية في ردّ آيات الله، «فَسَيَأْتِيهِمْ» أي: فسوف يأيتهم «أَنْبَاءُ» : أخبار وعواقب ﴿مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا، أو عند المعاينة في الآخرة كقوله تعالى: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ﴾ [ص: ٨٨]. قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ﴾ أي: صنف، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال: «وجه كريم» إذا كان مرضياً في حسنه وجماله. و «كتاب
6
كريم» : إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه. و «النبات الكريم» : هو المرضيّ في منافعه مما يأكل الناس والأنعام يقال: نخلة كريمة: [إذا طاب حملها، وناقة كريمة] : إذا كثر لبنها. قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
قوله: «كَمْ أَنْبَتْنَا». «كَمْ» للتكثير، فهي خبرية، وهي منصوبة بما بعدها على المفعول به، أي: كثيراً من الأزواج أنبتنا، و ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ﴾ تمييز.
وجوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً. ولا معنى له. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بين «كَمْ» و «كُلِّ» ولو قيل: أنبتنا فيه من زوج كريم. قلت: قد دل «كُلّ» على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كَمْ» على أن هذا المحيط مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطٌ في الكثرة.
قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي ذكرت «لآيَةً» دلالة على لوجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وقوله: «لِلْمؤْمِنِينَ» كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] لأنهم المنتفعون بذلك ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ : مصدقين، أي: سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون.
وقال سيبويه: (كان) هنا صلة، مجازه: وما أكثرهم مؤمنين. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾ وإنما قدم ذكر «العزيز» على ذكر «الرَّحِيم» لأنه لو لم يقدِّمه لكان ربما قيل: إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر «العزيز» وهو لاغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً. فإن قيل: حين ذكر الأزواج دلَّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب، فكيف قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ ؟ وهلا قال: لآيات؟. فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر «أنبتنا» فكأنه قال: إن في ذلك الإنبات لآية.
والثاني: أن يراد: إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية.
7
قوله :«فَقَدْ كَذَّبُوا » أي : بلغوا النهاية في ردّ آيات الله، «فَسَيَأْتِيهِمْ » أي : فسوف يأتيهم «أَنْبَاءُ » : أخبار وعواقب ﴿ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا، أو عند المعاينة في الآخرة كقوله تعالى :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ﴾١.
١ [ص: ٨٨] انظر الفخر الرازي ٢٤/١١٩-١٢٠..
قوله١ :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ ﴾ أي : صنف، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال :«وجه كريم » إذا كان مرضياً في حسنه وجماله. و «كتاب كريم » : إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه. و «النبات الكريم » : هو المرضيّ في منافعه مما يأكل الناس والأنعام٢ يقال : نخلة كريمة :[ إذا طاب حملها، وناقة كريمة ]٣ : إذا كثر٤ لبنها. قال الشعبي : الناس مثل نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم٥.
قوله :«كَمْ أَنْبَتْنَا ». «كَمْ »٦ للتكثير، فهي خبرية، وهي منصوبة بما بعدها على المفعول به، أي : كثيراً من الأزواج أنبتنا، و ﴿ مِن كُلِّ زَوْجٍ ﴾ تمييز٧.
وجوَّز أبو البقاء أن تكون حالاً٨. ولا معنى له. قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين «كَمْ » و «كُلِّ » ولو قيل : أنبتنا فيها من زوج كريم٩. قلت : قد دل «كُلّ » على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كَمْ » على أن هذا المحيط مُتَكَاثِرٌ مُفْرِطٌ في الكثرة١٠.
١ في ب: قوله تعالى..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٠..
٣ ما بين القوسين مكرر في الأصل..
٤ في ب: كبر. وهو تحريف..
٥ انظر البغوي ٦/٢٠٧ القرطبي ١٣/٩١..
٦ في ب: لم. وهو تحريف..
٧ انظر التبيان ٢/٩٩٤..
٨ انظر التبيان ٢/٩٩٤..
٩ في النسختين: من كل زوج. والتصويب من الكشاف..
١٠ الكشاف ٣/١٠٨..
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الذي ذكرت «لآيَةً » دلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وقوله :«لِلْمؤْمِنِينَ » كقوله :﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] لأنهم المنتفعون بذلك، ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ : مصدقين، أي : سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون.
وقال سيبويه :( كان ) هنا صلة، مجازه : وما أكثرهم١ مؤمنين٢.
١ في ب: وما كان أكثرهم..
٢ أي: أن (كان) زائدة بين (ما)، و(أفعل). قال سيبويه: ( وتقول: ما كان أحسن زيداً. فتذكر (كان) لتدل أنه فيما مضى) الكتاب ١/٧٣..
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾ وإنما قدم ذكر «العزيز » على ذكر «الرَّحِيم » لأنه لو لم يقدِّمه لكان ربما قيل : إنه رحيم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر «العزيز » وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً١. فإن قيل : حين ذكر الأزواج دلَّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكان لا يحصيها إلا عالم الغيب، فكيف قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ ؟ وهلا قال : لآيات ؟. فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر «أنبتنا » فكأنه قال : إن في ذلك الإنبات لآية.
والثاني : أن يراد : إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية٢.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٠..
٢ المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى﴾ الآية. العامل في «إذْ نَادَى» مضمر، فقدره الزجاج: اتْلُ. وقدره غيره: اذكر. واختلف في النداء الذي سمعه موسى - عليه السلام - من الله تعالى، فقيل: هو الكلام القديم، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الذوات مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحرف والصوت مع أنه مسموع وقيل: كان نداء من جنس الحروف والأصوات.
وقالت المعتزلة: كان ذلك النداء حروفاً وأصواتاً علم به موسى من قبل الله تعالى فصار معجزاً، علم به موسى أن الله تعالى مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة.
قوله: ﴿أَنِ ائت القوم الظالمين﴾. يجوز أن تكون «أَنْ» مفسِّرة، وأن تكون مصدرية، أي: بأن. قوله: «قَوْمَ فِرْعَوْنَ». بدل أو عطف بيان ل «القَوْمَ الظَّلِمِينَ». وقال أبو البقاء: إنه مفعول (تَتَّقُونَ) على قراءة من (تَتَّقُونَ) بالخطاب وفتح النون، كما سيأتي. ويجوز على هذه القراءة أن يكون ماندى. قوله: «أَلاَ يَتَّقُونَ». العامة على الياء في «يَتَّقُونَ» وفتح النون، والمراد قوم فرعون، والمفعول محذوف، أي: يتقون عقابي، [وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وحماد، وشقيق بن سلمة بالتاء من فوق
8
على الالتفات، خاطبهم بذلك توبيخاً] والتقدير: يا قوم فرعون.
وقرأ بعضهم: «يَتَّقُونِ» بالياء من تحت، وكسر النون، وفيها تخريجان:
أحدهما: أن «يَتَّقُونِ» مضارع، ومفعوله ياء المتكلم اجتزئ عنها بالكسرة.
والثاني: جوَّزه الزمخشري، أن تكون «يا» للنداء، و «اتَّقُونِ» فعل أمر، كقوله: ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ﴾ [النمل: ٢٥] أي: يا قوم اتقون، أو يا ناس اتقون. وسيأتي تحقيق مثل هذا في السورة تحتها. وهذا تخريج بعيد.
وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
وجوّز الزمخشري أَن تكون حالاً من الضمير في «الظَّالمِينَ» أي: يظلمون غير متَّقين اللَّهَ وعقابَه، فأُدخلت همزةُ الإنكار على الحال. وخطأه أبو حيان من وجهين:
أحدهما: أنه يلزم عنه الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي منهما، فإن أعرب «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» عطف بيان ل «القَوْمَ الظَّالمينَ».
والثاني: أنه على تقدير تسليم ذلك لا يجوز أيضاً؛ لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها، قال: وقولك: (جئتُ أمسرعاً)، إن جعلت (مسرعاً) معمولاً ل (جئت) لم يجز، فإن أضمرت عاملاً جاز. والظاهر أن «أَلاَ» للعرض.
وقال الزمخشري: إنها (لا) النافية، دخلت عليها همزة الإنكار. وقيل: هي للتنبيه.
9

فصل


قوله: ﴿وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى﴾ حين رأى الشجرة والنار ﴿أَنِ ائت القوم الظالمين﴾ أي: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، فحكم عليهم بالظلم من وجهين:
الأول: ظلموا أنفسهم بكفرهم.
والثاني: ظلمهم بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب. «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» عطف «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» على «القَوْمَ الظَّالِمينَ» فهما يدلان لفظاً على معنى واحد. «أَلاَ يَتَّقُونَ» أي: يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. ومن قرأ «تَتَّقُونَ» بالخطاب فعلى الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، كمن يشكو من جناية والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية، وحمي غضبه قطع بأنه يخاطب صاحبه، وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه ويقول له: ألم تتق الله؟ ألم تستحي من الناس؟ فإن قيل: فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى - عليه السلام - في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟. قلنا: أجري ذلك في تكليم المرسل إليهم معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغهم، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية نزلت في الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً بها، واعتباراً بمواردها.
10
قوله :«قَوْمَ فِرْعَوْنَ ». بدل١ أو عطف بيان ل «القَوْمَ الظَّالِمِينَ »٢. وقال أبو البقاء : إنه مفعول ( تَتَّقُونَ ) على قراءة من قرأ ( تَتَّقُونَ ) بالخطاب وفتح النون٣، كما سيأتي. ويجوز على هذه القراءة أن يكون منادى٤. قوله :«أَلاَ يَتَّقُونَ ». العامة على الياء في «يَتَّقُونَ » وفتح النون، والمراد قوم فرعون، والمفعول محذوف، أي : يتقون عقابي، [ وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وحماد٥، وشقيق بن سلمة٦ بالتاء من فوق٧ على الالتفات، خاطبهم بذلك توبيخاً ]٨ ٩ والتقدير : يا قوم فرعون١٠.
وقرأ بعضهم :«يَتَّقُونِ » بالياء من تحت، وكسر النون١١، وفيها تخريجان :
أحدهما : أن «يَتَّقُونِ » مضارع، ومفعوله ياء المتكلم اجتزئ عنها بالكسرة١٢.
والثاني : جوَّزه الزمخشري، أن تكون «يا » للنداء، و «اتَّقُونِ » فعل أمر، كقوله :﴿ أَلاَّ يَسْجُدُوا للَّهِ ﴾١٣ أي : يا قوم اتقون١٤، أو يا ناس اتقون. وسيأتي تحقيق مثل هذا في السورة تحتها١٥. وهذا تخريج بعيد١٦.
وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب١٧.
وجوّز الزمخشري أَن تكون حالاً من الضمير في «الظَّالِمِينَ » أي : يظلمون غير متَّقين اللَّهَ وعقابَه، فأُدخلت همزةُ الإنكار على الحال١٨. وخطأه أبو حيان من وجهين :
أحدهما : أنه يلزم عنه الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي منهما، فإن أعرب «قَوْمَ فِرْعَوْنَ » عطف بيان ل «القَوْمَ الظَّالمينَ ».
والثاني : أنه على تقدير تسليم ذلك لا يجوز أيضاً ؛ لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها، قال : وقولك :( جئتُ أمسرعاً )١٩، إن جعلت ( مسرعاً ) معمولاً ل ( جئت ) لم يجز، فإن أضمرت عاملاً جاز٢٠. والظاهر أن «أَلاَ » للعرض٢١.
وقال الزمخشري : إنها ( لا ) النافية، دخلت عليها همزة الإنكار٢٢. وقيل : هي للتنبيه٢٣.

فصل٢٤ :


قوله٢٥ :﴿ وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى ﴾ حين رأى الشجرة والنار ﴿ أَنِ ائت القوم الظالمين ﴾ أي : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، فحكم عليهم بالظلم من وجهين :
الأول : ظلموا أنفسهم بكفرهم.
والثاني : ظلمهم بني إسرائيل٢٦ باستعبادهم وسومهم سوء العذاب٢٧. «قَوْمَ فِرْعَوْنَ » عطف «قَوْمَ فِرْعَوْنَ » على «القَوْمَ الظَّالِمينَ » فهما يدلان لفظاً على معنى واحد٢٨. «أَلاَ يَتَّقُونَ » أي : يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. ومن قرأ «تَتَّقُونَ » بالخطاب٢٩ فعلى الإلتفات إليهم وصرف٣٠ وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، كمن يشكو من جناية والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية، وحمي غضبه قطع بأنه يخاطب صاحبه، وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه ويقول له : ألم تتق الله ؟ ألم تستحي من الناس ؟ فإن قيل : فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى - عليه السلام٣١ - في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون ؟. قلنا : أجري ذلك في تكليم المرسل٣٢ إليهم معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغهم٣٣، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية نزلت في الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً بها، واعتباراً بمواردها٣٤.
١ انظر التبيان ٢/٩٩٤، القرطبي ١٣/٩١..
٢ انظر الكشاف ٣/١٠٨..
٣ حكاه أبو البقاء، فإنه قال: ( وقيل: هو مفعول "يتقون") التبيان ٢/٩٩٤..
٤ المرجع السابق..
٥ هو حماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة البصري، الإمام الكبير، روى عن عاصم، وابن كثير، وروى عنه حجاج بن المنهال، وغيره، مات سنة ١٦٧ هـ. طبقات القراء ١/٢٥٨..
٦ هو شقيق بن سلمة أبو وائل الكوفي الأسدي، أدرك زمن النبي- صلى الله عليه وسلم عرض على عبد الله بن مسعود، وروى عنه الأعمش. مات سنة ٨٢ هـ. طبقات القراء ١/٣٢٨..
٧ أي: "تتقون"، وخرجها ابن جني على إضمار قول، أي: قل لهم: ألا تتقون. انظر المحتسب ٢/١٢٧، وتفسير ابن عطية ١١/٩٣، البحر المحيط ٧/٧..
٨ انظر الكشاف ٣/١٠٨، البحر المحيط ٧/٧..
٩ ما بين القوسين تكملة من الدر المصون ٥/١٥١..
١٠ انظر التبيان ٢/٩٩٤..
١١ قال ابن خالويه: ("ألا يتقون" بكسر النون أجازه عيسى ) المختصر (١٠٦)..
١٢ قال الزمخشري: قرىء "ألا يتقون" بكسر النون، بمعنى: ألا يتقونني، فحذفت النون، لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة) الكشاف ٣/١٠٨..
١٣ في ب: "ألا يسجدوا" [النمل: ٢٥]، وما في الأصل قراءة الكسائي، وما في ب: قراءة الباقين..
١٤ قال الزمخشري: وفي "ألا يتقون" بالياء وكسر النون وجه آخر وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله: "ألا يسجدوا". الكشاف ٣/١٠٨..
١٥ أي: في السورة التي بعدها، وهي سورة النمل..
١٦ قال أبو حيان: ( وهو تخريج بعيد والظاهر أن (ألا) للعرض المضمن الحضّ على التقوى) البحر المحيط ٧/٧..
١٧ انظر الكشاف ٣/١٠٨..
١٨ المرجع السابق..
١٩ في النسختين: جئت مسرعاً. والتصويب من البحر المحيط..
٢٠ انظر البحر المحيط ٧/٧..
٢١ هو قول أبي حيان. البحر المحيط ٧/٧..
٢٢ تابع ابن عادل هنا أبا حيان في النقل عن الزمخشري، وعبارة الزمخشري هي: ( ويحتمل أن يكون "لا يتقون" حالاً من الضمير في "الظالمين" أي: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال) الكشاف ٣/١٠٨..
٢٣ فيكون المعنى: قل لهم: ألا تتقون. انظر القرطبي ٩١١٣. وقال أبو حيان: ( وقول من قال: إنها للتنبيه لا يصح) البحر المحيط ٧/٧..
٢٤ فصل: سقط من ب..
٢٥ قوله: سقط من الأصل..
٢٦ إسرائيل: سقط من ب..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢١..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ وهي قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار، وحماد، وشقيق بن سلمة..
٣٠ في النسختين: وضرب. والتصويب عن الفخر الرازي..
٣١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٢ في النسختين: الرسل. والتصويب من الفخر الرازي..
٣٣ في النسختين: مبلغه. والتصويب من الفخر الرازي..
٣٤ انظر: الفخر الرازي ٢٤/١٢٢..
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ لما أمر موسى - عليه السلام - بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى - عليه السلام - أن يبعث معه هارون - عليه السلام - ثم ذكر الأمور الداعية إلى ذلك السؤال. فقوله: «أَنْ يُكَذِّبُونِ» مفعول «أَخَافُ» أي: أخاف تكذيبهم إياي.
10
قوله: ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ﴾ الجمهور على الرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف، أخبر بذلك.
والثاني: أنه معطوف على خبر «إِنَّ» وقرأ زيدُ بن عليّ، وطلحة، وعيسى، والأعمش بالنصب فيهما. والأعرج بنصب الأول ورفع الثاني. فالنصب عطف على صلة «أَنْ» فتكون الأفعال الثلاثة: «يُكَذَّبُونِ» وَ «يَضِيقُ»، وَ «لاَ يَنْطَلِقُ» في حيَّز الخوف.
قال الزمخشري: «والفرق بينهما، أي: الرفع والنصب، أَنَّ الرفع يفيد أن فيه ثلاث عللٍ: خوفُ التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصبُ على أنَّ خوفه متلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جُمْلَتِهَا نَفْيُ انطلاق اللسان، وحقيقه الخوف إِنَّما يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعاً، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد عَلَّقَ الخوف بتكذيبهم، وبما يحصل له من ضيق الصدر، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به، على أن تلك الحُبْسَة له من ضيق الصدر، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به، على أن تلك الحُبْسَة التي كانت به زالت بدعوته. وقيل: بقيتْ منها بقيَّة يسيرة. فإن قلت: اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إِنِّي خائفٌ ضيِّقُ الصدرِ غيرُ مُنْطَلِق اللسان؟ قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي».
قوله: «فَأَرْسِلْ» أي: فأرسل جبريلَ أو الملكَ، فحذف المعفول به، أي: ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة. قيل: إن الله تعالى أرسل موسى.
قال السُّدِّيّ: إن موسى - عليه السلام - سار بأهله إلى مصر، والتقى بهارون وهو لا يعرفه، فقال: أنا موسى، فتعارفا، وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة. وقيل: أرسل جبريل إليه كما يرسل إلى الأنبياء - عليه السلام - فلما
11
كان متعيناً لهذا الأمر حذف ذكر المرسل لكونه معلوماً.
قوله: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾. أي: دعوى ذنب، وهو قتله للقبطي، أي: لهم عليَّ ذنب في زعمهم ﴿فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ أي: يقتلونني، فقال الله تعالى: «كَلاَّ» أي: لن يقتلوك.
قوله: «فَاذْهَبَا» عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل، كأنه قيل: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك ﴿بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ سامعون ما تقولون قال: «مَعكُمْ» بلفظ الجمع، وهما اثنان، أجراهما مجرى الجماعة.
وقيل: أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون، ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ إنما أفرد «رَسُول» إمَّا لأنه مصدر بمعنى: رسالة والمصدر يُوَحَّدُ، ومن مجيء «رَسُول» بمعنى رسالة قوله:
٣٨٩٧ - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي برسالة. وإما لأنهما ذَوَا شريعة واحدة فنُزِّلا منزلة رسول.
وإما لأن المعنى: كل واحد منا رسول. وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما، فصارا كالشيئين المتلازمين، كالعينين واليدين. وحيث لم يقصد هذه المعاني طابق في قوله: ﴿أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ [طه: ٤٧]. وقال أبو عبيد: يجوز أن يكون «الرسول» بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، [وهذان رسولي ووكيلي]، وهؤلاء رسولي ووكيلي، كما قال: ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [الكهف: ٥٠]. قوله: «أَنْ أَرْسِلْ». يجوز أن تكون مفسِّرة ل «رَسولُ» إذا قيل: بأنه بمعنى
12
الرسالة، شرحا الرسالة بهذا وبيَّناها به. ويجوز أن تكون المصدرية، أي: رسول بكذا، والمراد من هذا الإرسال: التخلية والإرسال: كقولك: أرسل البازي.
13
قوله :﴿ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ ﴾١ الجمهور على الرفع، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف٢، أخبر بذلك.
والثاني : أنه معطوف على خبر «إِنَّ »٣ وقرأ زيدُ بن عليّ، وطلحة، وعيسى، والأعمش بالنصب فيهما٤. والأعرج بنصب الأول ورفع الثاني٥. فالنصب عطف على صلة «أَنْ »٦ فتكون الأفعال الثلاثة :«يُكَذِّبُونِ »٧ وَ «يَضِيقُ »، وَ «لاَ يَنْطَلِقُ » في حيِّز الخوف.
قال الزمخشري :«والفرق بينهما٨، أي : الرفع والنصب، أَنَّ الرفع٩ يفيد أن فيه ثلاث عللٍ : خوفُ التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصبُ على أنَّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت : في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جُمْلَتِهَا نَفْيُ انطلاق اللسان، وحقيقه الخوف إِنَّما يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعاً، فكيف جاز تعليق الخوف به ؟ قلت : قد عَلَّقَ الخوف بتكذيبهم، وبما يحصل له من ضيق الصدر، والحُبْسَة في اللسان زائدة على ما كان به، على أن تلك الحُبْسَة التي كانت به زالت بدعوته. وقيل : بقيتْ منها بقيَّة يسيرة. فإن قلت : اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى : إِنِّي خائفٌ ضيِّقُ الصدرِ غيرُ مُنْطَلِق اللسان ؟ قلت : يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي »١٠.
قوله :«فَأَرْسِلْ » أي : فأرسل جبريلَ أو الملكَ، فحذف المفعول به، أي : ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة١١. قيل : إن الله تعالى أرسل موسى١٢.
قال السُّدِّيّ : إن موسى - عليه السلام١٣ - سار بأهله إلى مصر، والتقى بهارون وهو لا يعرفه، فقال : أنا موسى، فتعارفا، وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة١٤. وقيل : أرسل جبريل إليه كما يرسل إلى الأنبياء - عليهم السلام -١٥ فلما كان متعيناً لهذا الأمر حذف ذكر المرسل لكونه معلوماً١٦.
١ في ب:.... ولا ينطق لساني..
٢ انظر التبيان ٢/٩٩٤..
٣ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٧٨..
٤ تفسير ابن عطية ١١/٩٤، البحر المحيط ٧/٧..
٥ قال أبو حيان: ( وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب "ويضيق" ورفع "ولا ينطلق") البحر المحيط ٧/٧..
٦ انظر التبيان ٢/٩٩٤..
٧ في ب: يكون. وهو تحريف..
٨ في الكشاف: والفرق بينهما في المعنى..
٩ في النسختين: أن الرفع فيه..
١٠ الكشاف ٣/١٠٨-١٠٩..
١١ انظر الكشاف ٣/١٠٩..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٣، البحر المحيط ٧/٨..
١٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٤ انظر: الفخر الرازي ٢٤/١٢٣، البحر المحيط ٧/٨..
١٥ في ب: عليهما الصلاة والسلام..
١٦ انظر: الفخر الرازي ٢٤/١٢٣..
قوله :﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ ﴾. أي : دعوى ذنب، وهو قتله للقبطي، أي : لهم عليَّ ذنب في زعمهم ﴿ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ أي : يقتلونني، فقال الله تعالى :«كَلاَّ »
«كَلاَّ » أي : لن يقتلوك١.
قوله :«فَاذْهَبَا » عطف على ما دل عليه حرف الردع من الفعل، كأنه قيل : ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك٢ ﴿ بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ﴾ سامعون ما تقولون قال :«مَعكُمْ » بلفظ الجمع، وهما اثنان، أجراهما مجرى الجماعة.
وقيل : أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون٣،
١ انظر البغوي ٦/٢٠٨..
٢ انظر: الكشاف ٣/١٠٩..
٣ انظر: تفسير ابن عطية ١١/٩٥، القرطبي ١٣/٩٣..
﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾ إنما أفرد «رَسُول » إمَّا لأنه مصدر١ بمعنى : رسالة والمصدر يُوَحَّدُ، ومن مجيء «رَسُول » بمعنى رسالة قوله٢ :
٣٨٩٧ - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ٣
أي برسالة. وإما لأنهما ذَوَا شريعة واحدة فنُزِّلا منزلة رسول٤.
وإما لأن المعنى : كل واحد منا رسول٥. وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما٦، فصارا كالشيئين المتلازمين، كالعينين واليدين. وحيث لم يقصد هذه المعاني طابق في قوله :﴿ إِنًّا رَسُولُ رَبِّكَ ﴾ [ طه : ٤٧ ]. وقال أبو عبيد٧ : يجوز أن يكون «الرسول » بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي، [ وهذان رسولي ووكيلي ]٨، وهؤلاء رسولي ووكيلي٩، كما قال :﴿ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ [ الكهف : ٥٠ ].
١ وهو قول أبي عبيدة ٢/٨٤، وانظر البيان ٢/٢١٢، التبيان ٢/٩٩٤، البحر المحيط ٧/٨..
٢ في ب: فقوله. وهو تحريف..
٣ البيت من بحر الطويل، قاله كثير، وهو في ديوانه (١١٠)، ومجاز القرآن ٢/٨٤، تفسير غريب القرآن (٣١٦)، والمذكر والمؤنث ٢/٢٩٣، الكشاف ٣/١١٠، البيان ٢/٢٠٦، ٢١٢، القرطبي ١٣/٩٣، اللسان (رسل). الواشون: جمع واش، وهو الساعي بين الناس يوقع بينهم، وروي: (ما بحت) بدل (ما فهت)، وفي ب: برسولي. والشاهد فيه: قوله: (برسول)، فإنه مصدر بمعنى: رسالة..
٤ انظر الكشاف ٣/١١٠، البحر المحيط ٧/٨..
٥ انظر القرطبي ١٣/٩٤، البحر المحيط ٧/٨..
٦ أي: رسول الله موسى وأخوه هارون..
٧ في النسختين: أبو عبيدة. والتصويب من القرطبي..
٨ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٩ انظر القرطبي ١٣/٩٤..
قوله :«أَنْ أَرْسِلْ ». يجوز أن تكون مفسِّرة ل «رَسولُ »١ إذا قيل : بأنه بمعنى الرسالة، شرحا الرسالة بهذا وبيَّناها به. ويجوز أن تكون المصدرية٢، أي : رسول بكذا، والمراد من هذا الإرسال : التخلية والإرسال : كقولك : أرسل البازي٣.
١ انظر الكشاف ٣/١١٠..
٢ انظر: البحر المحيط ٧/٨..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٤. والبازي: واحد البزاة التي تصيد، ضرب من الصقور. اللسان (بزا)..
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾. العم أن في الكلام حذفاً، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون ما قال. روي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى، فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه. أما النعم فهي قوله: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾ والوليد: الصبي، لقرب عهده من الولادة. وقيل: الغلام، تسيمة له بما كان عليه. و «وَلِيداً» حال من مفعول [نُرَبِّك]، وهو فعيل بمعنى مفعول. قوله ﴿وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ قرا أبو عمرو في رواية بسكون الميم «عُمْرِكَ تخفيفاً ل» فُعُل «، و» مِنْ عُمْرِكَ «حال من» سِنِينَ «.
قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة، وقيل: وكَز القبطي، وهو ابن اثنتي عشرة سنة قوله»
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ «. قرا الشعبي:» فِعْلَتَكَ «بالكسر على الهيئة، لأنها نوع من القتل، وهي الوَكْزَةُ ﴿وَأَنتَ مِنَ الكافرين﴾. يجوز أن يكون
13
حالاً. قال عباس: أي: وأنت من الكافرين لنعمتي أي: وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره؛ لأنه كان يعاشرهم بالتَّقيَّة، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة. ويجوز أن يكون مستأنفاً، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه. وقيل:» مِنَ الكَافِرينَ «بفرعون وإلاهيَّته، أو من الذين يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها بدليل قوله: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: ١٢٧] قوله: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ إذاً «هنا حرف جواب فقط. قال الزمخشري: إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً قال: فإِنْ قُلْتَ: (إذاً) حرف جواب وجزاءً معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون:» وفَعَلْتَ فَعْلتكَ «فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى: نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تُجَازَى بنحو ذلك الجزاء.
قال أبو حيان: وهذا مذهب سيبويه، يعني: أنها للجزاء والجواب معاً، قال: ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء، والجواب معنى لازم لها.

فصل


واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده، وعظم ذلك بقوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ﴾.
ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى - عليه السلام - وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم، صار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب، فقال: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ أي: من الجاهلين، أي: لم يأتني من عند الله شيء، أو من
14
الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله، لأأنه وكزه تأديباً، ومثل ذلك ربما حَسُن.
وقيل: من المخطئين، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة به، فيعد كافراً لنعمه.
قوله: ﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾. العامة على تشديد ميم «لَمَّا» وهي «لَمَّا» التي هي حرف وجوب عند سيبويه. أو بمعنى «حِينَ» عند الفارسي. روي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم، أي: لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ، و «ما» مصدرية. وهذه القراءة تشبه قراءته في «آل عمران» :﴿لَمَآ آتَيْتُكُم﴾ [آل عمران: ٨١]. وقد تقدمت مستوفاة.
(قال الزمخشري: إنما جمع الضمير في «مِنْكُمْ» و «خِفْتُكُمْ» مع إفراده في «تَمُنُّهَا» و «عَبَّدْتَ»، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله: ﴿إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ [القصص: ٢٠]، وأما الامتنان والتعبد فمنه وحده).

فصل


والمعنى: إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً، وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم: ﴿إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ [القصص: ٢٠] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفلة، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب.

فصل


وقد ورد لفظ «الفرار» على أربعة:
الأول: بمعنى الهرب، كهذه الآية، ومثله ﴿لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت﴾ [الأحزاب: ١٦].
15
الثاني: بمعنى الكراهية، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ [الجمعة: ٨] أي: تكرهونه.
الثالث: بمعنى اشتغال المرء بنفسه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٥] أي: لا يلتفت إليهم، لاشتغاله بنفسه.
الرابع: بمعنى التباعد، قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً﴾ [نوح: ٦] أي: تباعداً. ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار، فكأنه قال: أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً. قرأ عيسى: «حُكُماً» بضم الكاف إتباعاً. والمراد بالحكم: العلم والفهم، قاله مقاتل: وقيل: النبوة. والأول أقرب، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله: ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين﴾.
قوله: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ» فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر على سبيل التهكم، أي: إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك. وقيل: «ثَمَّ» حرف استفهام محذوف لفهم المعنى، أي: «أَوَ تِلْكَ»، وهذا مذهب الخفش، وجعل من ذلك:
٣٨٩٨ - أَفْرَحُ انْ أُرْزَأَ الكِرَامَ... وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله: ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] وفي غيره.
16
قوله: «أَنْ عَبَّدْتَ» فيه أوجه:
أحدها: أنه في محل رفع عطف بيان ل «تِلْكَ» كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ﴾ [الحجر: ٦٦].
الثاني: أنها في محل نصب مفعولاً من أجله.
الثالث: أنها بدل من «نِعْمَة».
الرابع: أنها بدل من هاء «تَمُنُّهَا».
الخامس: أنها مجرورة بباء مقدرة، أي: بأَنْ عَبَّدْتَ.
السادس: أنها خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أن عَبَّدْتَ.
السابع: أنها منصوبة بإضمار «أعني» والجملة من «تَمُنُّهَا» صفة ل «نِعْمَة» و «تَمُنُّ» يتعدى بالباء، فقيل: هي محذوفة، أي: تَمُنُّ بها.
وقيل: ضُمِّنَ «تَمُنُّ» معنى «تَذْكُرُ». ويقال: عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته: [إذا اتخذته عبداً].

فصل


اختلفوا في تأويل «أَنْ عَبَّدْتَ» : فحملها بعضهم على الإقرار، وبعضهم على الإنكار. وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا﴾ [الشعراء: ١٨].
فمن قال: هو إقرار، قال: عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل، أي: بلى و ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وتركتني فلم تستعبدني. ومن قال: هو إنكار قال: قوله: «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ» هو على طريق الاستفهام، كما تقدم في إعرابها، يعني: أَوَ تِلْكَ نعمة، فحذفت ألف الاستفهام، كقوله: ﴿فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤] وقال الشاعر:
٣٨٩٩ - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ
أي: أتروح من الحي، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
17
٣٩٠٠ - لَمْ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ
أي: أتتركني. يقول: تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة. أو يريد: كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية، وقد استعبدت قومي؟ ومن أُهين قومه ذلّ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ.
وقال الحسن: إنك استعبدت بني إسرائيل، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل: إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم، وهذا ما يعدّ إنعاماً. وقيل: معناه: تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني، فإنه كان لي من أهلي من يربِّيني ويكفلني، ولم يلقوني في اليمِّ، فأيّ نعمة لك عليَّ. وقيل: معناه أنك تدَّعي أن بين إسرائيل عبيدك، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته.
18
قوله :
«وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ». قرأ الشعبي :«فِعْلَتَك » بالكسر على الهيئة١، لأنها نوع من القتل٢، وهي الوَكْزَةُ ﴿ وَأَنتَ مِنَ الكافرين ﴾. يجوز أن يكون حالاً٣. قال ابن عباس : أي : وأنت من الكافرين لنعمتي أي٤ : وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة، وقد افترى عليه أو جهل أمره ؛ لأنه كان يعاشرهم بالتَّقيَّة٥، فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة٦. ويجوز أن يكون مستأنفاً٧، ومعناه وأنت ممن عادته كفران النعم، ومن كانت هذه حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمه٨. وقيل :«مِنَ الكَافِرين » بفرعون وإلاهيَّته، أو من الذين يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة يعبدونها٩ بدليل قوله :﴿ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٧ ]
١ معاني القرآن للفراء ٢/٢٧٩، المختصر (١٠٦)، المحتسب ٢/١٢٧، تفسير ابن عطية ١١/٩٧، البحر المحيط ٧/١٠..
٢ في ب: لا سيما من قتل. وهو تحريف..
٣ انظر الكشاف ٣/١٠٠، البحر المحيط ٧/١٠..
٤ في ب: أو..
٥ أي: يظهر لهم خلاف ما يبطن..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٥..
٧ انظر البحر المحيط ٧/١٠..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٥..
٩ المرجع السابق..
قوله :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضالين ﴾. «إذاً » هنا حرف جواب فقط. قال الزمخشري : إنها جوابٌ وجزاءٌ معاً قال : فإِنْ قُلْتَ :( إذاً ) حرف جواب وجزاءً معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء ؟ قلت : قول فرعون :«وفَعَلْتَ فَعْلتكَ » فيه معنى أنك جازيت نعمتي بما فعلت، فقال له موسى : نعم فعلتها مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تُجَازَى بنحو ذلك الجزاء١.
قال أبو حيان : وهذا مذهب سيبويه، يعني : أنها للجزاء والجواب معاً٢، قال : ولكن شراح الكتاب فهموا أنها قد تتخلف عن الجزاء، والجواب معنى لازم لها٣.

فصل :


واعلم أن فرعون عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال، ووبخه بما جرى على يده من قتل أجناده، وعظم ذلك بقوله :﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ ﴾.
ولما ذكر فرعون التربية ذكر القتل، وكانت تربيته معلومة ما أنكرها موسى - عليه السلام٤ - وقد تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجزة وحجة لم يتغير٥ حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم ينعم، صار قول فرعون غير مؤثر فالإعراض عنه أولى، ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب، فقال :﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضالين ﴾ أي : من الجاهلين، أي : لم يأتني من عند الله شيء، أو من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله، لأنه وكزه تأديباً، ومثل ذلك ربما حَسُن٦.
وقيل : من المخطئين، فبين أنه فعله على وجه لا تجوز المؤاخذة٧ به، فيعد كافراً لنعمه٨.
١ الكشاف ٣/١١١..
٢ قال سيبويه: ( وأما "إذن" فجواب وجزاء) الكتاب ٤/٢٣٤..
٣ انظر البحر المحيط ٧/١١. أي: أي سيبويه قال معناها الجواب والجزاء فقال الشلويين: دائما في كل موضع، وقال أبو علي الفارسي غالباً في أكثر المواضع كقولك لمن قال: أزورك: إذن أكرمك، فقد أجبته وجعلت إكرامه جزاء زيارته، أي: إن تزرني أكرمتك، قال: وقد تتمحض للجواب كقولك لمن قال: أحبك: إذن أصدقك. إذ لا مجازاة هنا، والشلويين يتكلف في جعل مثل هذا جزاء، أي: إن كنت قلت ذلك حقيقة صدقتك. انظر الهمع ٢/٦، الأشموني ٣/٢٩٠-٢٩١..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥ في ب: يتعين. وهو تحريف..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٥-١٢٦..
٧ في ب: لمن أخذه..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
قوله :﴿ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ﴾. العامة على تشديد ميم١ «لَمَّا » وهي «لَمَّا » التي هي حرف وجوب عند سيبويه٢. أو بمعنى «حِينَ » عند الفارسي٣. وروي عن حمزة بكسر اللام وتخفيف الميم٤، أي : لِتَخَوُّفِي مِنْكُمْ، و «ما » مصدرية. وهذه القراءة تشبه قراءته في «آل عمران » :﴿ لِمَا آتَيْتُكُم ﴾٥ [ آل عمران : ٨١ ]. وقد تقدمت مستوفاة.
( قال الزمخشري : إنما جمع الضمير في «مِنْكُمْ » و «خِفْتُكُمْ » مع إفراده في «تَمُنُّهَا »٦ و «عَبَّدْتَ »٧، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله لقوله :﴿ إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ [ القصص : ٢٠ ]، وأما الامتنان والتعبد فمنه٨ وحده )٩.

فصل :


والمعنى : إني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً، وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار، ومع ذلك فررت منكم لما خفتكم عن قولكم :﴿ إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ [ القصص : ٢٠ ] فبين بذلك ألاّ نعمة له عليه في الفعلة، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب١٠.

فصل :


وقد ورد لفظ «الفرار » على أربعة :
الأول : بمعنى الهرب، كهذه الآية، ومثله ﴿ لَنْ١١ يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِنَ الموت ﴾١٢.
الثاني : بمعنى الكراهية، قال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ١٣ مِنْهُ ﴾ [ الجمعة : ٨ ] أي : تكرهونه.
الثالث : بمعنى اشتغال المرء بنفسه، قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤ - ٣٥ ] أي : لا يلتفت إليهم، لاشتغاله بنفسه.
الرابع : بمعنى التباعد، قال تعالى :﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعائي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ [ نوح : ٦ ] أي : تباعداً. ثم بين نعم الله عليه بعد الفرار١٤، فكأنه قال : أسأتم وأحسن الله إليَّ بأن وهب لي حكماً١٥. قرأ عيسى :«حُكُماً » بضم الكاف١٦ إتباعاً. والمراد بالحكم : العلم والفهم، قاله مقاتل : وقيل : النبوة. والأول أقرب، لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله :﴿ وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين ﴾١٧.
١ في ب: تشديدهم..
٢ قال سيبويه: (وأما "لما" فهي للأمر الذي وقع لوقوع غيره، وإنما تجيء بمنزلة لو، لما ذكرنا، فإنما هما لابتداء وجواب) الكتاب ٤/٢٣٤..
٣ قال أبو علي الفارسي: (وأما "لما" فمثل (لم) في الجزم، قال تعالى ﴿ولما يعلم الله الذين جاهدوا﴾ [آل عمران: ١٤٢]، [التوبة: ١٦] فجزمت كما جزمت لم، وإنما هي (لم) دخلت عليها (ما) فتغيرت بدخول (ما) عن حال (لم) فوقع بعدها مثال الماضي في قولك: لما جئت جئت، فصار بمنزلة ظرف من الزمان كأنك قلت: حين جئت جئت، فمن ثم جاز أن تقول: جئتك ولما، فلا تتبعها شيئاً ولا يجوز ذلك في (لم)، ولولا دخول (ما) عليها لم يجز ذلك فيها) انظر المقتصد شرح الإيضاح ٢/١٠٩١-١٠٩٢..
٤ المختصر (١٠٦)، البحر المحيط ٧/١١، الإتحاف (٣٣١)..
٥ [أل عمران: ٨١]..
٦ من الآية التي بعدها..
٧ من الآية التي بعدها..
٨ الكشاف ٣/١١١..
٩ ما بين القوسين سقط من الأصل..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
١١ في الأصل: ولن، وفي ب: فلن..
١٢ في ب: ".... من الموت أو القتل"..
١٣ في الأصل: تفكرون. وهو تحريف..
١٤ في ب: إتباعاً بعد الفرار..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
١٦ المختصر (١٠٦)، تفسير ابن عطية ١١/٩٩، البحر المحيط ٧/١١..
١٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
قوله :«وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر١ على سبيل التهكم، أي : إنْ كَانَ ثمَّ نعمة فليست إلاَّ أنك جعلت قومي عبيداً لك٢. وقيل :«ثَمَّ »٣ حرف استفهام محذوف لفهم المعنى، أي :«أَوَ تِلْكَ »، وهذا مذهب الأخفش٤، وجعل من ذلك :
٣٨٩٨ - أَفْرَحُ إن أُرْزَأَ الكِرَامَ٥ ***. . .
وقد تقدم هذا مشبعاً في النساء عند قوله :﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ ﴾٦ [ النساء : ٧٩ ] وفي غيره.
قوله :«أَنْ عَبَّدْتَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه في محل رفع عطف بيان ل «تِلْكَ »٧ كقوله :﴿ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ].
الثاني : أنها في محل نصب مفعولاً من أجله٨.
الثالث : أنها بدل من «نِعْمَة »٩.
الرابع : أنها بدل من هاء «تَمُنُّهَا ».
الخامس : أنها مجرورة بباء مقدرة، أي : بأَنْ عَبَّدْتَ.
السادس : أنها خبر مبتدأ مضمر، أي : هي أن عَبَّدْتَ.
السابع : أنها منصوبة بإضمار «أعني » والجملة من «تَمُنُّهَا » صفة ل «نِعْمَة » و «تَمُنُّ » يتعدى بالباء، فقيل : هي محذوفة، أي : تَمُنُّ بها.
وقيل : ضُمِّنَ «تَمُنُّ » معنى «تَذْكُرُ »١٠. ويقال : عبّدت الرجل وأعبدته وتعبدته واستعبدته :[ إذا اتخذته عبداً ]١١ ١٢.

فصل :


اختلفوا في تأويل «أَنْ عَبَّدْتَ » : فحملها بعضهم على الإقرار، وبعضهم على الإنكار. وعلى كلا القولين فهو جواب لقوله :﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا ﴾ [ الشعراء : ١٨ ].
فمن قال : هو إقرار، قال : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل، أي : بلى و ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ وتركتني فلم تستعبدني. ومن قال : هو إنكار قال : قوله :«وَتِلْكَ نِعْمَةٌ » هو على طريق الاستفهام، كما تقدم في إعرابها، يعني : أَوَ تِلْكَ نعمة، فحذفت ألف الاستفهام، كقوله :﴿ فَهُمُ الخالدون ﴾ [ الأنبياء : ٣٤ ] وقال الشاعر :
٣٨٩٩ - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ *** وَمَاذَا يَضِيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ١٣
أي : أتروح من الحي، وقال عمر١٤ بن عبد الله بن أبي ربيعة :
٣٩٠٠ - لَمْ١٥ أَنْسَ يَوْمَ الرَّحِيلِ وَقْفَتِهَا*** وَطَرْفُهَا فِي دُمُوعِهَا غَرِقُ
وَقَوْلَهَا والرِّكابُ واقِفَةٌ *** تَتْرُكُنِي هكَذَا وَتَنْطَلِقُ١٦
أي : أتتركني. يقول : تمنّ عليَّ أن ربيتني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملة القبيحة١٧. أو يريد : كيف تَمُنُّ عليَّ بالتربية، وقد استعبدت قومي ؟ ومن أُهين قومه ذلّ، فتعبّدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ١٨.
وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل، فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليَّ فلا نعمة لك بالتربية١٩. وقيل : إن الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا نعمة لك عليَّ، لأن التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم، وهذا ما يعدّ إنعاماً٢٠. وقيل : معناه : تَمُنَّ عليَّ بالتربية وأنت لولا استعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم لما دُفِعْتُ إليك حتى ربيتني وكفلتني، فإنه كان لي٢١ من أهلي من يربِّيني ويكفلني، ولم يلقوني في اليمِّ، فأيّ نعمة لك عليَّ٢٢. وقيل : معناه أنك تدَّعي أن بني إسرائيل عبيدك، ولا مِنَّة للمولى على العبد في تربيته٢٣.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٧٩..
٢ انظر القرطبي ١٣/٩٦..
٣ ثم: تكملة ليست في المخطوط..
٤ قال الأخفش: ( وقال: ﴿وتلك نعمة تمنها عليَّ﴾ فيقال هذا استفهام كأنه قال: أوَ تلك نعمة تمنها) معاني القرآن ٢/٦٤٥-٦٤٦..
٥ جزء بيت من بحر المنسرح، قال حضرمي بن عامر، وتمامه:
......... وأن *** أورث زوداً شصائص نبلا
وقد تقدم تخريجه. والشاهد فيه حذف همزة الاستفهام الإنكاري، والمعنى أأفرح..

٦ [النساء: ٧٩]. وذكر هناك: وقيل في قوله "فمن نفسك" أن همزة الاستفهام محذوفة، تقديره: أفمن نفسك، وهو كثير كقوله تعالى: "وتلك نعمة تمنها علي" وقول الشاعر:
أفرح أن أرزأ الكرام ***...
البيت، وهذا لم يجره من النحاة إلا الأخفش، وأما غيره فلم يجره إلا قبل (أم) كقوله:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً *** بسبع رمين الجمر أم بثمان
انظر اللباب ٣/١٢٢..

٧ انظر: الكشاف ٣/١١١..
٨ حكاه أبو حيان عن الحوفي. البحر المحيط ٧/١٢..
٩ انظر البيان ٢/٢١٣، التبيان ٢/٩٩٥..
١٠ انظر: التبيان ٢/٩٩٥. من الوجه الثاني..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب..
١٣ البيت من بحر المتقارب، قاله امرؤ القيس، وهو في ديوانه (١٥٤)، تفسير ابن عطية ١/١٠٠، القرطبي ١٣/٩٦. الرواح: السير في العشي. الابتكار: الخروج مبكراً. الشاهد فيه حذف همزة الاستفهام في (تروح)؛ إذ أصلها: أتروح؟ والدليل وجود (أم) في الكلام..
١٤ في الأصل: عمرو. وهو تحريف..
١٥ في ب: ألم..
١٦ البيتان من بحر المتوسط، قالهما عمر بن أبي ربيعة، وليسا في ديوانه وهما في القرطبي ١٣/٩٦. والشاهد فيهما حذف همزة الاستفهام في (تتركني)، إذ الأصل: أتتركني. وليس في الكلام (أم)..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٠٩-٢١٠..
١٨ المرجع السابق ٦/٢١٠..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
٢٠ المرجع السابق..
٢١ لي: سقط من ب..
٢٢ انظر البغوي ٦/٢١٠..
٢٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٦..
قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّ العالمين﴾ إنما أتبى ب «مَا» دون «مَنْ» لأنها يسأل بها عن طلب الماهية، كقولك: ما العنقاء؟ ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن
18
عدل موسى - عليه السلام - إلى جواب ممكن، فأجاب بصفاته تعالى، وخصَّ تلك الصفات لأنه لا يشاركه فيها أحد، وفيه إبطال لدعواه أنه إله.
وقيل: جهل السؤال فأتى ب «ما» دون «مَنْ». وليس بشيء.
وليس بشيء، لأن أهل البيان نَصُّوا على أنها يطلب بها الماهيات، وقد جاء ب «من» في قوله: ﴿فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى﴾ [طه: ٤٩].

فصل


اعلم أن فرعون لم يقل: ﴿وَمَا رَبُّ العالمين﴾ إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولاا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: ١٦] فلا بد من أنهما قالا ذلك قين دخلا عليه، فعند ذلك قال فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ العالمين﴾ يقول: أيّ شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إليّ يستوصفه إلاهه الذي أرسل إليه؟ وهو سؤال عن جنس الشيء، والله منزَّه عن الجنسية. فأجابه موسى - عليه السلام - بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، فقال: ﴿رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ أنه خلقهما.
قال أهل المعاني: كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها، فأيثنوا أن إله الخلق هو الله عزَّ وجل.
قوله: «وَمَا بَيْنَهُمَا» عاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين، كما فعل ذلك في قوله:
٣٩٠١ - بَيْنَ رماحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلٍ...
19
ولمّا ذكر موسى - عليه السلام - هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى، فقال لمن حوله من أشراف قومه - قال ابن عباس: كانوا خمسمائة -: «ألا تَسْتَمِعُونَ» على سيبل التعجب من جواب موسى، يعني: أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية. وقيل: استبعد جواب موصى وقال «أَلاَ تَسْتَمِعُونَ» لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم، فزادهم موسى بياناً فقال: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا، وذلك لأنه يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخلق، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [كونهم واجبين لذواتهم، لأن المشاهدة دلَّت على أنهم وجدوا] بعد العدم، وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته، واستحال وجوده إلا بالمؤثر، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى - عليه السلام - إليه فقال فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ يعني: أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى - عليه السلام -: ﴿رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد ب «المَشْرِق» كلوع الشمس وظهور النهار، وأراد ب «المَغْرِب» : غروب الشمس وزوالها، والامر ظاهر؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم - عليه السلام - مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره إبراهيم - عليه السلام - بقوله: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ فأجابه نمروذ:
﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فقال: ﴿﴾ وهو الذي ذكره موسى - عليه السلام - بقوله: ﴿رَبُّ المشرق والمغرب﴾.
وأما قوله ﴿إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ﴾ فكأنه - عليه السلام - قال: إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته، ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته، ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرّفت حقيقته، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن
20
سؤالك إلا ما ذكرته. واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر، فيستحيل من موسى - عليه السلام - أن يذكر ما تعرف (به تلك) الحقيقة، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق، وعدل إلى التخويف، وقال: ﴿لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ : المحبوسين. قال الكلبي: كان سجنه أشد من القتل، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في الأرض.
وقال: ﴿لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين﴾ ولم يقل: «لأَسْجُنَنَّكَ» وهو أخص منه؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك، أو معناه: لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده، فقال ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾ أي: هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجوه الله، وعلى أنِّي رسوله. فعند ذلك قال: ﴿فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون: «فَأْتِ بِهِ» فإنا لن نسجنك حينئذ ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ فإن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول، وهو قوله: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾ أي: بآيةٍ بيِّنة، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم؟
فالجواب: بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله، وعلى توحيده، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم. والواو في قوله: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ﴾ واو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام، والمعنى: أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين؟ أي: جائياً بالمعجزة وقال الحوفي: «هي واو العطف». وقتدم تحرير هذا عند قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ﴾ [١٧٠] في البقرة، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها.
21
فأجابه موسى - عليه السلام١١ - بذكر أفعاله التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، فقال :﴿ رَبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ أنه خلقها.
قال أهل المعاني : كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها، فأيقنوا أن إله الخلق هو الله عزَّ وجل١.
قوله :«وَمَا بَيْنَهُمَا » عاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين، كما فعل ذلك في قوله :
٣٩٠١ - بَيْنَ رماحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلٍ٢ ***. . .
١ انظر البغوي ٦/٢١٠-٢١١. الإيضاح (١٣٨)..
٢ من الرجز، قاله أبو النجم العجلي، وقبله: تبقلت من أول التبقُّل. وهو في ابن يعيش ٤/١٥٣، ١٥٥، اللسان (بقل)، البحر المحيط ٧/١٢، شرح شواهد الشافية ٤/٣١٢. مالك: قبيلة من هوازن. نهشل: قبيلة من ربيعة. الشاهد فيه أنه جعل رماح مالك جنساً، ورماح نهشل جنساً آخر فقال: رماحي بالتثنية..
ولمّا ذكر موسى - عليه السلام١ - هذا الجواب الحق تحير فرعون في جواب موسى، فقال لمن حوله من أشراف قومه - قال ابن عباس : كانوا خمسمائة٢ - :«ألا تَسْتَمِعُونَ » على سيبل التعجب من جواب موسى، يعني : أنا أطلب منه الماهية وهو يجيبني بالفاعلية٣. وقيل : استبعد جواب موسى وقال «أَلاَ تَسْتَمِعُونَ » لأنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر البغوي ٦/٢١١..
٣ في ب: بالفاعل..
فزادهم موسى بياناً فقال :﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين ﴾. ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين ﴾ فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا، وذلك لأنه١ يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين٢ واجبة لذواتها، فهي غنية عن الخالق، ولا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده [ كونهم واجبين لذواتهم، لأن المشاهدة دلَّت على أنهم وجدوا ]٣ بعد العدم، وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته، واستحال وجوده إلا بالمؤثر، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى - عليه السلام٤ - إليه فقال فرعون :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾
١ في ب: أنه..
٢ في ب: والأرض..
٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ يعني : أن المقصود من سؤالنا طلب الماهية والحقيقة، والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه،
فقال موسى - عليه السلام١ - :﴿ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بينهما إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد ب «المَشْرِق » طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد ب «المَغْرِب » : غروب الشمس وزوالها، والأمر ظاهر ؛ لأن التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم - عليه السلام - مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره إبراهيم - عليه السلام - بقوله :﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين ﴾ فأجابه نمروذ :﴿ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] فقال :﴿ إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ﴾ وهو١ الذي ذكره موسى - عليه السلام٢ - بقوله :﴿ رَبُّ المشرق والمغرب ﴾.
وأما قوله ﴿ إِنْ كَنْتُم تَعْقِلُونَ ﴾ فكأنه - عليه السلام - قال : إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته، ولا يمكن٣ تعريف حقيقته بنفس حقيقته، ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أُعرِّف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرّفت حقيقته بآثارحقيقته، فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته. واعلم أن حقيقته غير معقولة للبشر، فيستحيل٤ من موسى - عليه السلام٥ - أن يذكر ما تعرف ( به تلك )٦ الحقيقة، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة.
١ في ب: وهذا..
٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣ في ب: ولا يكون..
٤ في ب: ليستحيل..
٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٦ به تلك: تكملة من الفخر الرازي..
فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق، وعدل إلى التخويف، ﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾١ : المحبوسين. قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل، لأنه٢ كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً يهوي به في٣ الأرض٤.
وقال :﴿ لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ ولم يقل :«لأَسْجُنَنَّكَ » وهو أخص منه ؛ لأن فيه مبالغة ليست في ذاك، أو٥ معناه : لأجعلنك ممن عرفت حاله في سجوني٦
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٢٩-١٣٠..
٢ في ب: لأن..
٣ في ب: إلى..
٤ انظر البغوي ٦/٢١٢..
٥ في ب: و..
٦ انظر الكشاف ٣/١١٢..
فعند ذلك ذكر موسى كلاماً مجملاً ليعلق قبله به فيعدل عن وعيده، فقال﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ ﴾ أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بدليلين يدلان على وجود الله، وعلى أنِّي رسوله.
فعند ذلك قال :﴿ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ وإنما قال موسى ذلك لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان فقال فرعون :«فَأْتِ بِهِ » فإنا لن نسجنك حينئذ ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾١ فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول، وهو قوله :﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ ﴾٢ أي : بآيةٍ٣ بيِّنة، والمعجز لا يدل على الله لدلالة سائر ما تقدم ؟.
فالجواب : بل يدل على ما أراد أن يظهره من انقلاب العَصَا حَيَّةً على الله، وعلى توحيده، وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم٤. والواو في قوله :﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ ﴾ واو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام، والمعنى : أتفعل بي ذلك ولو جئتُكَ بشيء مبين ؟ أي : جائياً بالمعجزة٥ وقال الحوفي :«هي واو العطف »٦. وتقدم تحرير هذا عند قوله :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ ﴾٧ في البقرة، وغالب الجمل هنا تقدم إعرابها.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٠..
٢ مبين: مكرر في ب..
٣ في ب: بأنه. وهو تحريف..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٠..
٥ انظر: الكشاف ٣/١١٢..
٦ انظر البحر المحيط ٧/١٤..
٧ من قوله تعالى: ﴿أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾ [البقرة: ١٧٠]..
قوله تعالى: ﴿فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾. وعلم أن قوله: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾ الشعراء: ٣٠] دل على أن الله تعالى عرفه قبل إلقاء العصا بأنها تصير ثعباناً، فلذلك قال ما قال، فلما ألقى موسى عصاه وصارت ثعباناً، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول: يا موسى، مرني بما شئت، ويقول فرعون: (يا موسى) أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا. فإن قيل: كيف قال: «ثُعْبَانٌ مُبِينٌ» وفي آية أخرى: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾ [طه: ٢٠] وفي آية ثالثة: ﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ [القصص: ٣١] والجانّ مائل إلى الصغر، والثعبان إلى الكبر؟
فالجواب: أن الحية اسم الجنس، ثم لكبرها صارت ثعباناً، وشببها بالجانّ لخفتها، وسرعتها، فصح الكلامان. ويحتمل أنه شببها بالشيطان لقوله: ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ [الحجر: ٢٧]. ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجانّ ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى - عليه السلام - لما أراه آية العصا قال فرعون: «هل غيرها» ؟ قال: نعم، فأراه يده، ثم أدخلها جيبه، ثم أخرجها ﴿فَإِذَاْ هِيَ بَيْضَاءُ﴾ تضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس. فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً:
أحدها: قال لهم: ﴿إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ وكان زمانهم زمان السحرة، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة.
وثانيها: قال: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ وهذا موجب للتنفير عنه لئا يقبلوا قوله، والمعنى: يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم، ومفارقة الوطن أصعب الأمور، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق.
وثالثها: قوله: «فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» أي: ما رأيكم فيه، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم، ومثل هذا يوجب جذب القلوب، وانصرافها عن العدو قوله: «حَوْلَهُ» حال من «
22
المَلأ»، ومفعول القول قوله: ﴿إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ وقيلك صلة «لِلْملأ»، فإنه بمعنى «الَّذِي». وقيل: الموصول محذوف. وهما قولان للكوفيين. قال الزمخشري: «فإِننْ قٌلْتَ: قوله تعالى: (للْمَلأ حَوْلَهُ) فما العامل في (حَوْلَه) ؟. قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف، ش والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال».
قوله: «أَرْجِهْ وَأَخَاهُ». لما قال لهم فرعون تلك الكلمات اتفقوا على جواب واحد، وهو قولهم: «أَرْجِهْ» قرىء: «أَرْجِهْ وَأَرْجِئْهُ وأَرْجِهِ» (بالهمز والتخفيف، وهما لغتان، يقال: أرجأته وأرجيته) إذا أخرته. والمعنى: أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل: «احبسه» ﴿وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنّاً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله.
وعارضوا قوله: ﴿إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ بقولهم: ﴿بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ فجاءوا بكلمة الإحاطة، وبصيغة المبالغة ليطيِّبوا قبله.
23
ثم إن موسى - عليه السلام١ - لما أراه آية العصا قال فرعون :«هل غيرها » ؟ قال : نعم، فأراه يده، ثم أدخلها جيبه، ثم أخرجها ﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ﴾ تضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس. فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً :
أحدها : قال لهم :
﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وكان زمانهم زمان السحرة، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة.

وثانيها : قال :

﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ﴾ وهذا موجب للتنفير عنه لئلا يقبلوا قوله، والمعنى : يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم٢، ومفارقة الوطن أصعب الأمور، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق.
وثالثها : قوله :«فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» أي : ما رأيكم فيه، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم، ومثل هذا يوجب جذب القلوب، وانصرافها عن العدو٣ قوله :«حَوْلَهُ» حال من «المَلأ»٤، ومفعول القول قوله :﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وقيل : صلة «لِلْملأ»، فإنه بمعنى «الَّذِي». وقيل : الموصول محذوف. وهما قولان للكوفيين. قال الزمخشري :«فإِنْ قُلْتَ : قوله تعالى :( للْمَلأ حَوْلَهُ ) فما العامل في ( حَوْلَه ) ؟. قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف، والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال»٥.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
أحدها : قال لهم :
﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وكان زمانهم زمان السحرة، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة.

وثانيها : قال :

﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ﴾ وهذا موجب للتنفير عنه لئلا يقبلوا قوله، والمعنى : يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم٢، ومفارقة الوطن أصعب الأمور، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق.
وثالثها : قوله :«فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» أي : ما رأيكم فيه، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم، ومثل هذا يوجب جذب القلوب، وانصرافها عن العدو٣ قوله :«حَوْلَهُ» حال من «المَلأ»٤، ومفعول القول قوله :﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وقيل : صلة «لِلْملأ»، فإنه بمعنى «الَّذِي». وقيل : الموصول محذوف. وهما قولان للكوفيين. قال الزمخشري :«فإِنْ قُلْتَ : قوله تعالى :( للْمَلأ حَوْلَهُ ) فما العامل في ( حَوْلَه ) ؟. قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف، والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال»٥.
أحدها : قال لهم :
﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وكان زمانهم زمان السحرة، فأوهمهم أن هذا كبير من السحرة.

وثانيها : قال :

﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ﴾ وهذا موجب للتنفير عنه لئلا يقبلوا قوله، والمعنى : يفرق جمعكم بما يلقيه من العداوة بينكم٢، ومفارقة الوطن أصعب الأمور، وهذا نهاية ما يفعله المضل المنفر عن المحق.
وثالثها : قوله :«فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» أي : ما رأيكم فيه، فأظهر لهم من نفسه أني متبع لرأيكم، ومثل هذا يوجب جذب القلوب، وانصرافها عن العدو٣ قوله :«حَوْلَهُ» حال من «المَلأ»٤، ومفعول القول قوله :﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ وقيل : صلة «لِلْملأ»، فإنه بمعنى «الَّذِي». وقيل : الموصول محذوف. وهما قولان للكوفيين. قال الزمخشري :«فإِنْ قُلْتَ : قوله تعالى :( للْمَلأ حَوْلَهُ ) فما العامل في ( حَوْلَه ) ؟. قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما تقدم في الظرف، والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال»٥.
قوله :«أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ». لما قال لهم فرعون تلك الكلمات اتفقوا على جواب واحد، وهو قولهم :«أَرْجِهْ » قرىء :«أَرْجِهْ وَأَرْجِئْهُ وأَرْجِهِ »١ ( بالهمز والتخفيف٢، وهما لغتان، يقال : أرجأته وأرجيته )٣ إذا أخرته. والمعنى : أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة. وقيل :«احبسه »٤ ﴿ وابعث فِي المدائن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾ أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنّاً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله.
وعارضوا٥ قوله :﴿ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ بقولهم :
١ في النسختين: أرجيه وأرجئه وأرجه..
٢ قوله: "أرجه وأخاه" قرأه ابن كثير وهشام بهمزة ساكنة، ويصلان الهاء بواو في الوصل، وكذلك قرأ أبو عمرو، غير أنه يضمّ الهاء، ولا يصلها بواو، وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة وبكسر الهاء، من غير أن يصلها بياء، وكذلك قرأ قالون، غير أنه لم يهمز. وقرأ ورش والكسائي بغير همز، ويصلان الهاء بياء في الوصل، وقرأ حمزة وعاصم بإسكان الهاء من غير همز. والهمز في هذا الفعل وتركه لغتان، يقال: أرجيته وأرجأته بمعنى: أخرته. السبعة (٢٨٧-٢٨٩)، الكشف ١/٤٧٠-٤٧١، البيان ٢/٢١٣..
٣ ما بين القوسين مكرر في ب..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٢..
٥ في ب: وعارضوه..
﴿ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾ فجاءوا بكلمة الإحاطة، وبصيغة المبالغة ليطيِّبوا قلبه١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٢..
قوله تعالى: ﴿فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾. اليوم المعلوم: يوم الزينة.
قال ابن عباس: وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة، وهو يوم النيروز وميقاته: وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقَّت لهم موسى - عليه السلام - من يوم الزينة في قوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ [طه: ٥٩].
23
قوله: ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ﴾. والمعنى: أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين ولمن تكون الغلبة، وكان موسى - عليه السلام - يطلب ذلك ليظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم.
قوله: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة﴾. أي نرجو أن تكون الغلبة لهم ﴿إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين﴾ لموسى. وقيل: إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء. وأرادوا ب «السَّحَرَة» : موسى وهارون وقومهما. ﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين﴾. [فابتدءُوا بطلب الجزاء، وهو إما المال وإما الجاه، فبذلك لهم ذلك وأكّده بقوله: ﴿وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين﴾ ] لأنَّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة.
24
قوله :﴿ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُجْتَمِعُونَ ﴾. والمعنى : أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين ولمن تكون الغلبة، وكان موسى - عليه السلام١ - يطلب ذلك ليظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم٢.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٣..
قوله :﴿ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة ﴾. أي نرجو أن تكون الغلبة لهم ﴿ إِن كَانُوا هُمُ الغالبين ﴾ لموسى. وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء. وأرادوا ب «السَّحَرَة » : موسى وهارون وقومهما١.
١ المرجع السابق..
﴿ فَلَمَّا جاء السحرة قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ المقربين ﴾. [ فابتدءُوا بطلب الجزاء، وهو إما المال وإما الجاه، فبذل لهم ذلك وأكّده بقوله :
﴿ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ المقربين ﴾ ]١ لأنَّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة٢.
﴿ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ المقربين ﴾ ]١ لأنَّ نهاية مطلوبهم البذل ورفع المنزلة٢.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾. اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من ابتداء موسى أو ابتدائهم، ثم إنهم تواضعوا فقدّموه على أنفسهم، وقالوا له: ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين﴾ [الأعراف: ١١٥] فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه، وقال: ﴿أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مَّلْقُونَ﴾. فإن قيل: كيف جاز لموسى - عليه السلام - أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصيّ، وذلك سحر وتلبيس وكفر، والأمر بمثله لا يجوز؟ فالجواب: ليس ذلك بأمر، لأن مراد موسى - عليه السلام - منهم أن يؤمنوا به، ولا يقدموا على ما يجري مجرى المقاتلة، وإذا ثبت ذلك وجب تأويل صيغة الأمر، وفيه وجوه:
أحدها: أن ذلك الأمر كان مشورطاً، والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين، كقوله: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] أي: إن كنتم قادرين.
وثانيها: لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً.
وثالثها: أَنَّ هذا ليس بأمر، بل هو تهديد، أي: إن فعلتم ذلك أتينا بما يبطله، كقول القائل: «لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن» ثم يفوق له السهم فيقول له: «ارم» فيكون ذلك منه تهديداً.
24
ورابعها: أنهم لما تواضعوا (له) وقدموه على أنفسهم فقدمهم على نفسه رجاء أن يصير تواضعه سبباً لقبول الحق، ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب.
قوله: ﴿فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾. روي عن ابن عباس قال: كانت مطلية بالزئبق، والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق، فلما حيمت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض.
قوله: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ». يجوز أن يكون قَسَماً، وجوابه: ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون﴾ ويجوز أن يتعلق ب «الغَالِبُونَ» لأن ما في حيز «إِنَّ» لا يتقدم عليها.
قوله: ﴿فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ تقدم خلاف القراء في «تَلْقَفُ» وقال ابن عطية هنا: وقرأ البَزِّيُّ وابنُ فُلَيح بشدِّ التَّاء وفتح اللام وشدِّ القاف ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يَجْلِبَ همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. قال أبو حيان كأنه يُخَيَّلُ إليه أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، [وهذا ليس بلازم (و) كثيراً ما يكون الوصل] مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تَمَرُّن في القراءات عرف ذلك. قال شهاب الدين: يريد قوله: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ﴾ فإن البَزِّيّ يشدد التاء، إذ الأصل: «تَتَلَقَّفُ» بتاءين، فأدغم، فإذا وقف على «هِيَ» وابتدأ «تَتَلَقَّفُ» فحقه أن يَفُكَّ ولا يدغم لئلا يُبْتَدأ بساكن وهو غر ممكن، وقول ابن عطية: «ويلزم على هذه القراءة...
إلى خره «تضعيف للقراءة لما ذكره هو من أن همزة الوصل لا تدخل على الفعل المضارع، ولا يمكن الابتداء بساكن، فمن ثَمَّ ضُعِّفَتْ.
25
وجواب الشيخ بمنع الملازمة حسن إلا أنه كان ينبغي أن يبدل لفظة الوقف بالابتداء لأنه هو الذي وقع الكلام فيه، أعني: الابتداء بكلمة [» تَلَقَّفُ «].
قوله:»
فَأُلْقِيَ «قال الزمخشري:» فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرِّح به؟ قلت هو الله - عَزَّ وَجَلَّ -، ثم قال: ولك ألاَّ تقدِّر فاعلاً، لأن «أَلْقَوْا» بمعنى: خَرُّوا وسقطوا «. قال أبو حيان: وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا يبنى الفعل للمفعول إلاّ وله فاعل ينوب المفعول به عنه، أما أنه لا يقدر له فاعل فقول ذاهبٌ عن الصواب.

فصل


تقدم الكلام على نظير هذه الآية، واعلم أن السحرة لما شاهدوا أمراً خارجاً عن حدّ السحر لما يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين و ﴿قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين﴾.
قوله: ﴿رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾. عطف بيان ل»
رَبِّ العَالَمِينَ «لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام: أنه الذي دعا موسى وهارون - عليهما السلام - إليه.
26
قوله :﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ﴾. روي عن ابن عباس قال : كانت مطلية بالزئبق، والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض١.
قوله :«بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ ». يجوز أن يكون قَسَماً٢، وجوابه :﴿ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون ﴾ ويجوز أن يتعلق ب «الغَالِبُونَ » لأن ما في حيز «إِنَّ » لا يتقدم عليها.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٤..
٢ انظر الكشاف ٣/١١٤، تفسير ابن عطية ١١/١٠٧، التبيان ٢/٩٩٥..
قوله :﴿ فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ تقدم خلاف القراء في «تَلْقَفُ »١ وقال ابن عطية هنا : وقرأ البَزِّيُّ وابنُ فُلَيح٢ بشدِّ التَّاء وفتح اللام وشدِّ٣ القاف٤ ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يَجْلِبَ٥ همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين٦. قال أبو حيان كأنه يُخَيَّلُ إليه أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، [ وهذا ليس بلازم ( و )٧ كثيراً ما٨ يكون الوصل ]٩ مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تَمَرُّن في القراءات عرف ذلك١٠. قال شهاب الدين : يريد قوله :﴿ فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ ﴾ فإن البَزِّيّ يشدد التاء١١، إذ الأصل :«تَتَلَقَّفُ » بتاءين، فأدغم، فإذا وقف على «هِيَ » وابتدأ «تَتَلَقَّفُ » فحقه أن يَفُكَّ ولا يدغم لئلا١٢ يُبْتَدأ بساكن وهو غير ممكن، وقول ابن عطية :«ويلزم على هذه القراءة. . . . إلى آخره » تضعيف للقراءة لما ذكره هو من أن همزة الوصل لا تدخل على الفعل المضارع، ولا يمكن الابتداء بساكن، فمن ثَمَّ ضُعِّفَتْ.
وجواب الشيخ بمنع الملازمة حسن إلا أنه كان ينبغي أن يبدل لفظة الوقف بالابتداء لأنه١٣ هو الذي وقع الكلام فيه، أعني : الابتداء بكلمة [ «تَلَقَّفُ » ]١٤ ١٥.
١ عند قوله تعالى: ﴿وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون﴾ [الأعراف: ١١٧]..
٢ هو عبد الوهاب بن فليح بن رباح، أبو إسحاق المكي، إمام أهل مكة في القراءة في زمانه، أخذ القراءة عن داود بن شبل، والحسن، وغيرهما وروى عنه الحسين بن محمد الحداد، وغيره، مات سنة ٢٥٠ هـ تقريباً. طبقات القراء ١/٤٨٠-٤٨١..
٣ في ب: وتشديد..
٤ رويت في القراءات السبعة المتواترة عن ابن كثير. السبعة (٤٧١) الإتحاف (٣٣١)..
٥ في النسختين: يحذف. والتصويب من تفسير ابن عطية. وفي البحر المحيط كما في النسختين، فيبدو أن ابن عادل تابع أبا حيان في النقل عن ابن عطية..
٦ تفسير ابن عطية ١١/١٠٨..
٧ و: تكملة ليست في المخطوط..
٨ في الأصل: بل ما..
٩ ما بين القوسين سقط من ب..
١٠ البحر المحيط ٧/١٦..
١١ التاء: سقط من ب..
١٢ في ب: ولا..
١٣ في ب: إلا أنه. وهو تحريف..
١٤ الدر المصون ٥/١٥٤..
١٥ ما بين القوسين في الأصل: ما تلقف..
قوله :«فَأُلْقِيَ » قال الزمخشري :«فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرِّح به ؟ قلت : هو الله - عز وجل١ -، ثم قال : ولك ألاَّ تقدِّر فاعلاً، لأن «أَلْقَوْا »٢ بمعنى : خَرُّوا وسقطوا٣ ». قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لا يبنى الفعل للمفعول إلاّ وله فاعل ينوب المفعول به عنه، أما أنه لا يقدر له فاعل فقول ذاهبٌ عن الصواب٤.

فصل :


تقدم الكلام على نظير هذه الآية٥،
١ في ب: هو الله تعالى..
٢ في النسختين: ألقى..
٣ الكشاف ٣/١١٤..
٤ البحر المحيط ٧/١٦..
٥ عند قوله تعالى: ﴿وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون﴾ [الأعراف: ١١٧]..
واعلم أن السحرة لما شاهدوا أمراً خارجاً عن حدّ السحر لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين و ﴿ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين ﴾٦.
قوله :﴿ رَبِّ موسى وَهَارُونَ ﴾. عطف بيان ل «رَبِّ العَالَمِينَ » لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا١ عزله. ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام : أنه الذي دعا موسى وهارون - عليهما السلام٢ - إليه٣.
١ في النسختين: فأراد. والتصويب من الفخر الرازي..
٢ في ب: عليهما الصلاة والسلام..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٥..
قوله: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ الآيات. لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه: إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى - عليه السلام - فيسلكون طريقهم، فلبَّس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه:
أحدها: قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾. والمعنى: إن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة
26
على ميلكم إليه فتطرَّق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله.
وثانيها: قوله: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر﴾ هذا تصريح بما رمز به أولاً، وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى، وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى، وإلا ففي قوة السحر أن يفعلوا مثل ما فعل، وهذا شبهة قوية في تنفير من قَبِلَ.
وثالثها: قوله: «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» وهو وعيد وتهديد شديد.
ورابعها: قوله: ﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين﴾ وهذا الوعيد المفصل، وليس في الإهلاك أقوى منه، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين:
الأول: قوله: ﴿لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ والضير والمضرّة واحد، وليس المراد أن ذلك وقع، وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عفروه من دار الجزاء.
والجواب الثاني: قوله: ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ﴾ وهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم - عليه السلام -: «وَالَّذِي أَطْمَعُ». ويحتمل الظن، لأن المرء لا يعلم ما سيختاره من بعد. قوله: «أَنْ كُنَّا». قرأ العامة بفتح «أَنْ» أي: لأن كُنَّا بينوا القول بالإيمان وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ بكسر الهمزة، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها شرطية، والجواب محذوف لفهم المعنى، أو متقدم عند من يجيزه.
نظيره قول القائل: «إنْ كُنْتُ عملتُ فوفِّنِي حَقِّي» مقولة لمن يؤخر جعله.
والثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واستغني عن اللام الفارقة لإرشاد المعنى إلى الثبوت دون النص كقوله:
27
٣٩٠٢ - وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامٌ المَعَادِنِ... وفي الحديث: «إن كان رسول (الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) - يحبُّ العسل» أي: ليحبُّه.
والمعنى على الأول: لأن كنا أول المؤمنين، من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف، أو يكون المراد: من السحرة خاصة، أو من رعية فرعون، أو من أهل زمانهم.
28
ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين :
الأول قوله :﴿ لاَ ضَيْرَ إنَّا إلى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ﴾١ والضير والمضرّة واحد، وليس المراد أن ذلك وقع، وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء.
١ في الأصل: لمنقلبون. وهو تحريف..
والجواب الثاني : قوله :﴿ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا ﴾ وهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم - عليه السلام١ - :«وَالَّذِي أَطْمَعُ »٢. ويحتمل الظن، لأن المرء لا يعلم ما سيختاره من بعد٣. قوله :«أَنْ كُنَّا ». قرأ العامة بفتح «أَنْ » أي : لأن كُنَّا بينوا القول بالإيمان وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ٤ بكسر الهمزة٥، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها شرطية، والجواب محذوف لفهم المعنى٦، أو متقدم عند من يجيزه٧.
نظيره قول القائل٨ :«إنْ كُنْتُ عملتُ فوفِّنِي حَقِّي » مقولة لمن يؤخر جعله٩.
والثاني : أنها المخففة من الثقيلة، واستغني عن اللام الفارقة١٠ لإرشاد المعنى إلى الثبوت دون النص١١ كقوله :
٣٩٠٢ - وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامُ المَعَادِنِ١٢ ***. . .
وفي الحديث :«إن كان رسول ( الله - صلى الله عليه وسلم )١٣ - يحبُّ العسل » أي : ليحبُّه١٤.
والمعنى على الأول١٥ : لأن كنا أول المؤمنين، من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف، أو يكون المراد : من السحرة خاصة، أو من رعية فرعون، أو من أهل زمانهم١٦.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ من قوله تعالى: ﴿والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين﴾ الآية ٨٢ من السورة نفسها..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٥-١٣٦..
٤ هو الفضل بن خالد أبو معاذ النحوي المروزي، روى القراءة عن خارجة بن مصعب، وروى عنه الليث بن مقاتل، وغيره مات سنة ٢١١ هـ. طبقات القراء ٢/٩..
٥ المختصر (١٠٦)، دون عزو إلى قارىء، المحتسب ٢/١٢٧، منسوبة إلى أبان بن تغلب، البحر المحيط ٧/١٦..
٦ هذا التخريج على مذهب البصريين. انظر المحتسب ٢/١٢٨-١٢٩، البحر المحيط ٧/١٦، الهمع ٢/٦١..
٧ هذا التخريج على مذهب الكوفيين والأخفش وأبي زيد والمبرد الذين يجيزون تقديم جواب الشرط عليه. انظر البحر المحيط ٧/١٦، الهمع ٢/٦١..
٨ في ب: العامل..
٩ الكشاف: ٣/١١٥..
١٠ في ب: العارفة. وهو تحريف..
١١ وهو قول أبي حيان. البحر المحيط ٧/١٦..
١٢ عجز بيت من بحر الطويل قاله الطّرماح بن حكيم، وصدره:
أنا ابن أباة الضّيم من آل مالك ***...
وهو في ديوانه (٥١٢)، البحر المحيط ٧/١٦، شرح التصريح ١/٢٣١، الهمع ١/١٤١، الأشموني ١/٢٨٩، الدرر ١/١٨١. أباة: جمع آب كقضاة جمع قاض من أبى إذا امتنع، الضيم: الظلم، مالك: اسم أبي القبيلة، ومالك الثاني هو القبيلة، ولذلك قال: كانت. بتأنيث الفعل، وصرفها مراعاة للحيّ. والشاهد فيه حذف اللام الفارقة من خبر (إن) المخففة من الثقيلة لدلالة المقام عليها إذ إن المقام للمدح وتوهم النفي هنا ممتنع..

١٣ ما بين القوسين سقط من ب..
١٤ يعني بالحديث الخبر لا حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد روي عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب الحلواء والعسل". أخرجه البخاري (طلاق) ٣/٢٧١، (أطعمة) ٣/٢٩٨، (أشربة) ٣/٣٢٥. الترمذي (أطعمة) ٣/١٧٨، أبو داود (أشربة) ٤/١٠٧، ابن ماجة (أطعمة) ٢/١١٠٢، أحمد ٦/٥٠٩..
١٥ أي على قراءة العامة..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٦..
قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي﴾. قرىء «أَسْرِ» بقطع الهمزة ووصلها.
لما ظهر من أمر موسى - عليه السلام - ما شاهدوه أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، لما كان في المعلوم من تدبير الله وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم، ولم يأمن. وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع في فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل، وهم الذين آمنوا، وكانوا
28
من قوم موسى - عليه السلام -. واعلم أن في الكلام حذفاً، وهو أنه أسرى بهم كما امره الله تعالى، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: «إن لنا في هذه الليلة عيدا»، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين يحشرون الناس، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة. وقيل: ليجمعوا له الجيش روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية. و «حَاشِرِينَ» مفعول «أَرْسَلَ» ثم إنه قوى نفسه ونفس قومه بأن وصف قوم موسى بالذم، ووصف قوم نفسه بالمدح، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام - بالذم، فقال: ﴿إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ﴾ [معمول لقوم مضمر] أي: قال: إنَّ هؤلاء، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً، أي: أرسلهم قائلاً ذلك، ويجوز أن يكون مفسراً ل «أَرْسَلَ». والشِّرْذِمَةُ: الطائفة من الناس وقيل: كل بقية من شيء خسيس يقال لها: شرذمة. ويقال: ثوب شراذم، أي: أخلاق، قال:
٣٩٠٣ - جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلاقْ شَرَاذِمُ تَضْحَكُ مِنْهُ الخُلاقْ
وأنشد أبو عبيدة:
٣٩٠٤ - في شراذم النعال... وجمع الشرذمة: شراذم، فذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة.
29
ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة، لا قلة العدو، أي: إنهم لقلتهم لا يبالى بهم.
قال ابن عباس: كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه. وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حسان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة ألف.
قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ﴾. يقال: غَاظَهُ وَأَغَظَهُ وَغَيَّظَهُ: غذا أغضبه. والغيظ، الغضب. والمعنى: أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا. واختلفوا في تلك الأفعال. فقل: أخذهم الحليّ وغيره. وقيل: خروجهم عن عبوديته. وقيل: خروجهم بغير إذنه، وقيل: مخالفتهم له في الدين.
وقيل: لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً.
وأما وصفه قومه فهو قوله: ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾. قرأ الكوفيون وابن ذكوان: «حاذرون» بألف. والباقون: «حذرون» بدونها. فقال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد، يقال: رجل حذر وحاذر بمعنى.
وقيل: بل بينهما فرق، فالحذر: المتيقظ. والحاذر: الخائف. وقيل: الحذر: المخلوق مجبولاً على الحذر. والحاذر: ما عرض له ذلك.
وقيل: الحذر: المتسلح الذي له شوكة سلاح، وأنشد سيبويه في إعمال «حَذِر» على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله:
30
وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله: هل يحفظ شيئاً في إعمال «فَعِل» ؟ صنع له هذا البيت، فعيب على سيبويه: كيف يأخذ الشواهد الموضوعة؟
وهذا غلط، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب، فلا يقدح قوله في سيبويه. والذي ادعى انه صنع البيت هو الأخفش. و «حَذِر» يتعدى بنفسه، قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الآخرة﴾ [الزمر: ٩]، وقال العباس بن مرداس:
٣٩٠٦ -... - وَإِنِّي حَاذِرٌ أَنْمِي سِلاَحِي
إلَى أَوْصَالش ذَيَّالٍ مَنِيع... وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار: «حَادِرُونَ» بالدال المهملة من قولهم عين حدرة، أي: عظيمة، كقولهم:
٣٩٠٧ - وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ... والمعنى: عظيماً. وقيل: الحادر: القوي الممتلىء، وحكي: رجل حادر، أي: ممتلىء غيظاً، ورجل حادر، أي: أحمق، كأنه ممتلىء من الحمق قال:
٣٩٠٨ - أُحِبُّ الغُلاَمَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّه... وَأَبْغَضُهُ مِنْ بَغْضِهَا وَهْوَ حَادِرُ
ويقال أيضاً رجل [حَدُرٌ بزنة يقط مبالغة في (حادر) من هذا المعنى، فصار يقال] حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف.
31
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحديث. وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [أفادت الثبوت. فمن قرأ «حَذِرُونَ» ] ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ: «حَاذِرُون» ذهب إلى معنى: إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. ومن قرأ: «حَادِرُون» بالدال المهملة، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً، لأن الحادر هو السمين، فأراد: إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد: إنا شاكون في السلاح. والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى، أو خائف منهم.
قوله: «فَأَخْرَجْنَاهُمْ». أي: خلقنا في قلوبهم داعية الخروج، فاستلزمت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة.
وقوله: ﴿مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ﴾ أي: أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزاً، لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً.
قوله: «وَمَقَامٍ».
قرأ العامة بفتح الميم، وهو مكان القيام. وقتادة والأعرج بضمها وهو مكان الإقامة. والمراد ب «الكَرِيم» : الحسن.
قال المفسرون: هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع.
وقيل: المواضع التي كانوا [يتنعمون فيها].
قوله: «كَذَلِكَ». فيه ثلاثة أوجه: قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف ل «مَقَام» أي: ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. قال أبو حيان: فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، فلا
32
يشبه الشيء بنفسه. قال شهاب الدين: وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المراد في اأول: أخرجناهم إخراجاً مثل الإخراج المعروف المشهور، وكذلك الثاني.
قوله: «وَأَوْرَثْنَاها» عطف على «فَأَخْرَجْنَاهُمْ» أي: وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصل بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن.
قوله: «فَأَتْبَعُوهُمْ». قرأ لعامة بقطع الهمزة من «أَتْبعه» أي: ألحقه نفسه، فحذف الثاني. وقيل: يقال: أَتْبعه بمعنى «اتبعه» بوصل الهمزة، أي: لحقه.
وقرأ الحسن والحارث الذَّمَّارِيّ بوصلها وتشديد التاء، وهي بمعنى اللحاق.
وقوله: «مُشْرِقِينَ» أي: داخلين في وقت الشروق من: شَرَقت الشمس شروقاً: إذا طلعت ك «أصبح، وأمسى» : إذا دخل في هذين الوقتين. وقيل: داخلين نحو المشرق ك «أَنْجَد، وأَتْهَم». و «مُشْرِقِين» منصوب على الحال، والظاهر أنه من الفاعل. وقيل: «مُشْرِقِين» بمعنى: مضيئين. وفي التفسير: أنّ بني إسرائيل كانوا في نور، والقبط في ظلمة، فعلى هذا يكون «مُشْرِقِين» حالاً من المفعول. قال شهاب الدين: وعندي أنه يجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول إذا جعلنا «مُشْرِقِين» : داخلين في وقت الشروق، أو في مكان المشرق، لأن كلاً من القبيلين كان داخلاً في ذلك الزمان، أو في ذلك المكان.
قوله: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان﴾ أي: تقابلا ورأى بعضهما بعضاً. قرأ العامة: «تَرَاءَى» بتحقيق الهمزة. وابن وثاب والأعمش من غير همزة، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين، لا بالإبدال المحض، لئلا يجتمع ثلاث ألفات، الأولى الزائدة بعد الراء، والثانية المبدلة من الهمزة، والثالثة لام الكلمة، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكين، ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول: هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا، فإن وقف
33
عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة؛ لأنها طرف منقبلة عن ياء.
ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة. ومن شرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها، وهذا هو الإمالة لإمالة. وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك. وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة، وفتحة الهمزة قبلها، وكذا نقله ابن الباذش عنه وعن حمزة.
وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة، وتبقى إمالة الألف الزائدة، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة، وعند ذلك يقال: حذف السبب وبقي المسبب؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [كما تقدم تقريره، وقد ذهبت الأخيرة] فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب المقتضي لذلك، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقالك وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال. وقد تقدم في الأنعام عند «رَأَى القَمَرَ» و «رَأَى الشَّمْسَ» ما يشبه هذا العمل.
قوله: «لَمَدْرَكُونَ». العامة على سكون الدال، اسم مفعول من «أَدْركَ» أي: لملحقون. وقرأ الأعرج وبيد بن عمرو بفتح الدال مشددة وكسر الراء.
34
قال الزمخشري: المعنى: متتابعون في الهلاك على أيديهم، ومنه بيت الحماسة:
٣٩٠٥ - حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ
٣٩٠٩ - أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا أُرَجِّي الحَيَاةَ أَمْ مِنَ المَوْتِ أَجْزَعُ
يعني: أن «ادَّرَك» على «افتعل» لازم بمعنى فني واضمحلّ، يقال: ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك، أي: فني متتابعا، ولذلك كسرت الراء. وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي، قال: «وقد يكون» ادَّرَك «على» افتعل «بمعنى» أفعل «متعدياً، ولو كانت القراءة من هذا لوجب فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني: عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر».

فصل


المعنى ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان﴾، أي: رأى كل فريق صاحبه.
وقرىء ﴿فَلَمَّا تَرَاءْتِ الفِئَتَانِ﴾ قال أصحاب موسى: «إنَّا [لَمُدْرَكُونَ» أي] لَمُلْحَقُون، وقالوا: يا موسى ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا﴾ [الأعراف: ١٢٩] كانوا يذبحون أبناءنا، ﴿وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ [الأعراف: ١٢٩] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا، ولا طاقة لنا بهم، فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه «كَلاَ» وذلك كالمنع مما توهموه، أي: لن يدركونا ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ يدلني على طريق النجاة.
35
فلما سمع فرعون ذلك أرسل في المدائن حاشرين١ يحشرون الناس، يعني الشُّرط ليجمعوا السحرة٢. وقيل : ليجمعوا له الجيش٣ روي أنه كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية٤. و «حَاشِرِينَ » مفعول «أَرْسَلَ »
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٦-١٣٧..
٢ انظر البغوي: ٦/٢١٥..
٣ انظر البغوي: ٦/٢١٥..
٤ انظر البغوي: ٦/٢١٥..
ثم إنه قوى نفسه ونفس٥ قومه بأن وصف قوم موسى بالذم، ووصف قوم نفسه بالمدح٦، أما وصفه قوم موسى - عليه السلام ١- بالذم، فقال :
﴿ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ ﴾ [ معمول لقوم مضمر٢ ]٣ أي : قال : إنَّ هؤلاء، وهذا القول يجوز أن يكون حالاً، أي : أرسلهم قائلاً ذلك، ويجوز أن يكون مفسراً ل «أَرْسَلَ ». والشِّرْذِمَةُ : الطائفة من الناس٤ وقيل : كل بقية من شيء خسيس يقال لها : شرذمة٥. ويقال : ثوب شراذم، أي : أخلاق، قال :
٣٩٠٣ - جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلاقْ *** شَرَاذِمُ تَضْحَكُ مِنْهُ الخُلاقْ٦
وأنشد أبو عبيدة :
٣٩٠٤ - في شراذم النعال٧ ***. . .
وجمع الشرذمة : شراذم، فذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً، واختار جمع السلامة الذي هو جمع القلة.
ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة، لا قلة العدو، أي : إنهم لقلتهم لا يبالى بهم٨.
قال ابن عباس : كان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين٩ سنة، ولا شيخ١٠ يوفي على الستين سوى الحشم١١، وفرعون يقللهم لكثرة من معه١٢. وهذا الوصف قد استعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثمانمائة١٣ ألف١٤.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر الكشاف ٣/١١٥..
٣ ما بين القوسين في ب: معمولاً لقول مضمراً..
٤ الصحاح (شرذم) ٥/١٩٦٠..
٥ انظر مجاز القرآن ٢/٨٦..
٦ رجز مجهول القائل، وهو في معاني القرآن للفراء ١/٤٢٧، ٢/٨٧، تفسير ابن عطية ١١/١١١، القرطبي ١٣/١٠١، اللسان (توق، خلق، شرذم)، البحر المحيط ٧/٣. الخزانة ١/٢٣٤. وروي (النواق)، وهو الذي يروض الأمور ويصلحها. وروي (التواق) وهو ابن الشاعر. ويقال: نفس تواقة، أي: مشتاقة. أخلاق: جمع خلق، وهو البالي. ووصف المفرد بالجمع باعتبار أجزائه، الشراذم: جمع شرذمة، وهي الجماعة القليلة من الناس، وثياب شراذم: أخلاق متقطعة، وثوب شراذم: قطع، وجمع في البيت ثم وصف باعتبار أجزاء الثوب التي يتألف منها. وهذا موطن الشاهد..
٧ قال أبو عبيده: ("إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون" أي: طائفة، وكل قليلة فهي شرذمة قال:
يحذين في شراذم النعال ***...
أي مقطع النعال وبقاياها) مجاز القرآن ٢/٨٦. وهذا الجزء من البيت مجهول القائل، وهو في تفسير ابن عطية ١١/١١١، البحر المحيط ٧/٣..

٨ انظر: الكشاف ٣/١١٥، الفخر الرازي ٢٤/١٣٧..
٩ في ب: عشرون..
١٠ في ب: ولا ينسخ. وهو تحريف..
١١ الحشم: خدم الرجل، سموا بذلك لأنهم يغضبون له. (اللسان: حشم)..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٧..
١٣ في الفخر الرازي: ثلثمائة..
١٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٧..
قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ﴾. يقال : غَاظَهُ وَأَغَاظَهُ وَغَيَّظَهُ : إذا أغضبه. والغيظ، الغضب١. والمعنى : أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا. واختلفوا في تلك الأفعال. فقيل : أخذهم الحليّ وغيره. وقيل : خروجهم عن عبوديته. وقيل : خروجهم بغير إذنه، وقيل : مخالفتهم٢ له في الدين.
وقيل : لأنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً٣.
١ انظر: اللسان (غيظ)..
٢ في ب: مخالفهم. وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٧..
وأما وصفه قومه فهو قوله :
﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ ﴾. قرأ الكوفيون١ وابن ذكوان :«حاذرون » بألف. والباقون :«حذرون » بدونها٢. فقال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد، يقال : رجل حذر٣ وحاذر بمعنى٤.
وقيل : بل بينهما فرق، فالحذر : المتيقظ. والحاذر : الخائف٥. وقيل : الحذر : المخلوق مجبولاً على الحذر. والحاذر : ما عرض له ذلك٦.
وقيل : الحذر : المتسلح الذي له شوكة سلاح٧، وأنشد سيبويه في إعمال «حَذِر » على أنه مثال مبالغة محول من حاذر قوله :
٣٩٠٥ - حَذِرٌ أُمُوراً لاَ تَضِيرُ وَآمِنٌ *** مَا لَيْسَ مُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ٨
وزعم بعضهم أن سيبويه لمَّا سأله : هل يحفظ شيئاً في إعمال «فَعِل » ؟ صنع له هذا البيت، فعيب على سيبويه : كيف يأخذ الشواهد الموضوعة ؟.
وهذا غلط، فإن هذا الشخص قد أقر على نفسه بالكذب، فلا يقدح قوله في سيبويه. والذي ادعى أنه صنع البيت هو الأخفش٩. و «حَذِر » يتعدى بنفسه، قال تعالى :﴿ يَحْذَرُ الآخرة ﴾ [ الزمر : ٩ ]، وقال العباس بن مرداس١٠ :
٣٩٠٦ - وَإِنِّي حَاذِرٌ أَنْمِي سِلاَحِي*** إلَى أَوْصَال ذَيَّالٍ مَنِيعِ١١
وقرأ ابن السميفع وابن أبي عمار١٢ :«حَادِرُونَ »١٣ بالدال المهملة١٤ من قولهم : عين حدرة، أي : عظيمة١٥، كقولهم :
٣٩٠٧ - وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ١٦ ***. . .
والمعنى : عظيماً. وقيل : الحادر : القوي الممتلىء، وحكي : رجل حادر، أي : ممتلىء غيظاً، ورجل حادر، أي : أحمق، كأنه ممتلىء من الحمق قال :
٣٩٠٨ - أُحِبُّ الغُلاَمَ السُّوءَ مِنْ أَجْلِ أُمِّه *** وَأَبْغَضُهُ مِنْ بُغْضِهَا وَهْوَ حَادِرُ١٧
ويقال أيضاً رجل [ حَدُرٌ بزنة يقظ مبالغة في ( حادر ) من هذا المعنى١٨، فصار يقال ]١٩ حَذِر وحَذُر وحَاذِرِ بالذال المعجمة والمهملة والمعنى مختلف.
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهو اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث. وإذا لم تكن كذلك وهي المشبهة [ أفادت الثبوت. فمن قرأ «حَذِرُونَ »٢٠ ]٢١ ذهب إلى معنى أنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ :«حَاذِرُون » ذهب إلى معنى : إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. ومن قرأ :«حَادِرُون »٢٢ بالدال المهملة٢٣، فكأنه ذهب إلى نفي أصلاً، لأن الحادر٢٤ هو السمين، فأراد : إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد : إنا شاكون في السلاح. والغرض من هذه التقادير ألا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى، أو خائف منهم٢٥.
١ وهم عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي..
٢ السبعة (٤٧١)، الكشف ٢/١٥١، النشر ٢/٣٣٥، الإتحاف (٣٣٢)..
٣ حذر: مكرر في الأصل..
٤ قال أبو عبيدة: ( حذر وحذر، وقوم حذرون وحاذرون) مجاز القرآن ٢/٨٦، فكأنه يرى المعنى فيها واحداً. وقال الزجاج: ( فالحاذر المستعد، والحذر المتيقظ) معاني القرآن وإعرابه ٤/٩٢..
٥ انظر الكشاف ٣/١١٥..
٦ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٠..
٧ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٠، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٩٢ التبيان ٢/٩٩٦..
٨ البيت من بحر الكامل، قيل: قاله أبان بن عبد الحميد اللاحقي، وضعه حينما سأله سيبويه عن شاهد لتعدي (فعل). وقيل: قاله عبد الله بن المقفع، وقد تقدم..
٩ والذي ذكره البغدادي في الخزانة نقلاً عن المازني أن الذي فعل ذلك هو أبان اللاحقي. انظر الخزانة ٨/١٧١-١٧٢..
١٠ هو العباس بن مرداس الصحابي-رضي الله عنه- ابن أبي عامر بن حارثة أسلم قبل فتح مكة بيسير، وأمه الخنساء الصحابية الشاعرة، وكان من المؤلفة قلوبهم. الخزانة ١/١٥٢-١٥٤..
١١ البيت من بحر الوافر، وهو في مجاز القرآن ٢/٨٦، تفسير ابن عطية ١١/١١٣، واللسان (ذيل)، البحر المحيط ٧/١٨. وفي ب: (والى) بدل (وإنّي)، (أعني) بدل (أنمي)، (صنيع) بدل (منيع). أنمي: أزيد وأمدّ. الأوصال: جمع وصل، وهو المفصل. الذيّال: طويل الذيل المتبختر في مشيته. المنيع: القوي السريع. والشاهد فيه قوله (حاذر) فإنه اسم فاعل من (حذر) وهو متعد على مفعول محذوف لدلالة المقام كأنه قال: حاذر عدوي..
١٢ لم أهتد إلى ترجمة له فيما رجعت إليه من مراجع..
١٣ في ب: حاذون. وهو تصحيف..
١٤ المختصر (١٠٦)، المحتسب ٢/١٢٨، البحر المحيط ٧/١٨..
١٥ انظر البحر المحيط ٧/١٨..
١٦ صدر بيت من بحر المتقارب قاله امرؤ القيس، وعجزه: شقّت مآقيهما من آخر.
وهو في ديوانه (١٦٦)، القرطبي ١٣/١٠٢، اللسان (حدر)، المفضليات ٨٥٦..

١٧ البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشاف ٣/١١٥، اللسان (حدر)، البحر المحيط ٧/١٨. والشاهد فيه قوله: (حادر). فإنه بمعنى ممتلىء قوي..
١٨ حكاه أبو حيان عن صاحب اللوامح. البحر المحيط ٧/١٨..
١٩ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٢٠ وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو..
٢١ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٢٢ وهي قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي..
٢٣ وهي قراءة ابن السميفع وابن أبي عمار..
٢٤ في ب: الحاذر. وهو تصحيف..
٢٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٧..
قوله :«فَأَخْرَجْنَاهُمْ ». أي : خلقنا في قلوبهم داعية الخروج، فاستلزمت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة١.
وقوله :﴿ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ ﴾ أي : أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة٢.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٧..
وقوله :﴿ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ ﴾ أي : أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة٢.
قال مجاهد : سماها كنوزاً، لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط الله منه فهو كنز وإن كان ظاهراً١.
قوله :«وَمَقَامٍ ».
قرأ العامة بفتح الميم، وهو مكان القيام. وقتادة والأعرج بضمها٢ وهو مكان الإقامة. والمراد ب «الكَرِيم » : الحسن٣.
قال المفسرون : هي مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع٤.
وقيل : المواضع التي كانوا [ يتنعمون فيها٥ ]٦.
١ انظر البغوي ٦/٢١٦، الفخر الرازي ٢٤/١٣٧-١٣٨..
٢ المختصر (١٠٧)، البحر المحيط ٧/١٩..
٣ انظر البغوي ٦/٢١٧..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٨..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٨..
٦ ما بين القوسين في ب: ينتقمون. وهو تحريف..
قوله :«كَذَلِكَ ». فيه ثلاثة أوجه : قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف ل «مَقَام »١ أي : ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي : الأمر كذلك٢. قال أبو حيان : فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني ؛ لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، فلا يشبه الشيء بنفسه٣. قال شهاب الدين : وليس في ذلك تشبيه الشيء بنفسه ؛ لأن المراد في الأول : أخرجناهم إخراجاً مثل الإخراج المعروف المشهور، وكذلك الثاني٤.
قوله :«وَأَوْرَثْنَاها » عطف على «فَأَخْرَجْنَاهُمْ » أي : وأورثناها بهلاكهم بني إسرائيل وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن٥.
١ في ب: لقيام. وهو تحريف..
٢ الكشاف ٣/١١٦..
٣ البحر المحيط ٧/١٩..
٤ الدر المصون ٥/١٥٥..
٥ انظر البغوي ٦/٢١٧، القرطبي ١٣/١٠٥..
قوله :«فَأَتْبَعُوهُمْ ». قرأ العامة بقطع الهمزة من «أَتْبعه » أي : ألحقه نفسه، فحذف الثاني١. وقيل : يقال : أَتْبعه بمعنى «اتبعه » بوصل الهمزة، أي : لحقه٢.
وقرأ الحسن والحارث الذَّمَّارِيّ بوصلها وتشديد التاء٣، وهي بمعنى اللحاق.
وقوله :«مُشْرِقِينَ » أي : داخلين في وقت الشروق من : شَرَقت الشمس شروقاً : إذا طلعت٤ ك «أصبح، وأمسى » : إذا دخل في هذين الوقتين. وقيل : داخلين نحو المشرق ك «أَنْجَد، وأَتْهَم ». و٥ «مُشْرِقِين » منصوب على الحال، والظاهر أنه من الفاعل٦. وقيل :«مُشْرِقِين » بمعنى : مضيئين. وفي التفسير : أنّ بني إسرائيل كانوا في نور، والقبط في ظلمة، فعلى هذا يكون «مُشْرِقِين » حالاً من المفعول٧. قال شهاب الدين : وعندي أنه يجوز أن يكون حالاً من الفاعل والمفعول إذا جعلنا «مُشْرِقِين » : داخلين في وقت الشروق، أو في مكان المشرق، لأن كلاً من القبيلين كان داخلاً في ذلك الزمان، أو في ذلك المكان٨.
١ فتكون الهمزة للتعدية إلى المفعول الثاني، كقولهم: وأتبعه الشيء جعله له تابعاً. انظر اللسان (تبع)..
٢ انظر اللسان (تبع)..
٣ المختصر (١٠٧)، البحر المحيط ٧/١٩، الإتحاف ٣٣٢..
٤ انظر الكشاف ٣/١١٦..
٥ و: سقط من ب..
٦ انظر البحر المحيط ٧/١٩..
٧ المرجع السابق..
٨ الدر المصون ٥/١٥٥-١٧٦..
قوله :﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان ﴾ أي : تقابلا ورأى بعضهما بعضاً. قرأ العامة :«تَرَاءَى » بتحقيق١ الهمزة. وابن وثاب والأعمش من غير همز٢، بأن تكون الهمزة مخففة بين بين، لا بالإبدال المحض، لئلا يجتمع ثلاث ألفات، الأولى الزائدة بعد الراء، والثانية المبدلة من الهمزة، والثالثة لام الكلمة، لكن الثالثة لا تثبت وصلاً لحذفها لالتقاء الساكنين٣. ثم اختلف القراء في إمالة هذا الحرف فنقول : هذا الحرف إما أن يوقف عليه أو لا، فإن وقف عليه فحمزة يميل ألفه الأخيرة ؛ لأنها٤ طرف منقبلة عن ياء.
ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الهمزة المسهلة، لأنه إذا وقف على مثل هذه سهلها على مقتضى مذهب، وأمال الألف الأولى إتباعاً لإمالة فتحة الهمزة. ومن ضرورة إمالتها إمالة فتحة الراء قبلها، وهذا هو الإمالة لإمالة٥. وغيره من القراء لا يميل شيئاً من ذلك. وقياس مذهب الكسائي أن يميل الألف الأخيرة، وفتحة الهمزة قبلها٦، وكذا نقله ابن الباذش٧ عنه وعن حمزة٨.
وإن وصل فإن الألف الأخيرة تذهب لالتقاء الساكنين، ولذهابها تذهب إمالة فتحة الهمزة، وتبقى إمالة الألف الزائدة٩، وإمالة فتحة الراء قبلها عنده اعتداداً بالألف المحذوفة، وعند ذلك يقال : حذف السبب وبقي المسبب ؛ لأن إمالة الألف الأولى إنما كان لإمالة الألف الأخيرة [ كما تقدم تقريره، وقد ذهبت الأخيرة ]١٠ فكان ينبغي ألا تمال الأولى لذهاب١١ المقتضي لذلك، ولكنه راعى المحذوف وجعله في قوة المنطوق١٢ ؛ ولذا تجرأ عليه أبو حاتم فقال : وقراءة هذا الحرف بالإمالة محال١٣. وقد تقدم في الأنعام عند «رَأَى القَمَرَ »١٤ و «رَأَى الشَّمْسَ »١٥ ما يشبه هذا العمل١٦.
قوله :«لَمُدْرَكُونَ ». العامة على سكون الدال، اسم مفعول من «أَدْركَ » أي : لملحقون. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمرو١٧ بفتح الدال مشددة وكسر الراء١٨.
قال الزمخشري : المعنى : متتابعون في الهلاك على أيديهم١٩، ومنه بيت الحماسة :
٣٩٠٩ - أَبَعْدَ بَنِي أُمِّي الَّذِينَ تَتَابَعُوا أُرَجِّي الحَيَاةَ أَمْ مِنَ المَوْتِ أَجْزَعُ٢٠
يعني : أن «ادَّرَك » على «افتعل » لازم بمعنى فني واضمحلّ، يقال : ادَّرَكَ الشيء يدَّرك فهو مدَّرَك، أي : فني متتابعاً٢١، ولذلك كسرت الراء. وممن نص على كسرها أبو الفضل الرازي، قال :«وقد يكون «ادَّرَك » على «افتعل » بمعنى «أفعل » متعدياً، ولو كانت القراءة من هذا لوجب٢٢ فتح الراء ولم يبلغني عنهما - يعني : عن الأعرج وعبيد - إلا الكسر »٢٣.

فصل :


المعنى ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان ﴾، أي : رأى كل فريق صاحبه.
وقرىء ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ ﴾٢٤ قال أصحاب موسى :«إنَّا [ لَمُدْرَكُونَ » أي ]٢٥ لَمُلْحَقُون، وقالوا : يا موسى ﴿ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا ﴾٢٦ كانوا يذبحون أبناءنا، ﴿ وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ] يدركوننا في هذه الساعة فيقتلوننا، ولا طاقة لنا بهم، فعند ذلك قال
١ في ب: بتخفيف..
٢ أي: (تراي). قال ابن خالويه: ("فلما ترات الفئتان" بلا همز الأعمش عن عاصم) المختصر (١٠٧)، البحر المحيط ٧/١٩، وفيه: ( وقال أبو حاتم: وما روي عن ابن وثّاب والأعمش خطأ)..
٣ حكاه أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر البحر المحيط ٧/١٩..
٤ في الأصل: لأن. وهو تحريف..
٥ انظر الحجة لابن خالويه (٢٦٧-٢٦٨)، الكشف ١/١٩١-١٩٢..
٦ انظر الحجة لابن خالويه (٢٦٨)، الكشف ١/١٩١..
٧ هو أحمد بن علي بن أحمد خلف، أبو جعفر بن الباذش، الأنصاري الغرناطي، أستاذ كبير، وإمام محقق، ألف كتاب الإقناع في السبع، وكتاب الطرق المتداولة في القراءات قرأ على أبيه، وعبد الله بن أحمد الهمداني الجياني، وشريح بن محمد، وغيرهم، قرأ عليه أحمد بن علي بن حكيم الغرناطي، وأبو محمد بن عبيد الله الحجري، مات سنة ٥٤٠ هـ، وقيل: سنة ٥٤٢ هـ. طبقات القراء ١/٨٣..
٨ قال أبو حيان (وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري هو ابن الباذش في كتاب الإقناع من تأليفه: ( تراءى الجمعان) في الشعراء، إذا وقف حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل (تفاعل) وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة، ففي قراءته إمالة الإمالة، وفي هذا الفعل وفي (راءى) إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة حذف السبب وإبقاء المسبب، كما قالوا: صعقيّ في النسب إلى الصَّعق) البحر المحيط ٧/١٩-٢٠..
٩ في ب: والزائدة. وهو تحريف..
١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
١١ الأولى: سقط من الأصل..
١٢ انظر: الكشف ١/١٩١-١٩٢..
١٣ انظر تفسير ابن عطية ١١/١١٦، البحر المحيط ٧/١٩..
١٤ من قوله تعالى: ﴿فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربِّي﴾ [الأنعام: ٧٧]..
١٥ من قوله تعالى: ﴿فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربِّي هذا أكبر﴾ [الأنعام: ٧٨]..
١٦ انظر: اللباب ٣/٤٥٢-٤٥٣..
١٧ في ب: عمر. وفي المختصر، والمحتسب، وتفسير ابن عطية، والبحر المحيط: عبيد بن عمير..
١٨ المختصر (١٠٧)، المحتسب ٢/١٢٩، تفسير ابن عطية ١١/١١٥، البحر المحيط ٧/٢٠، وضبطها ابن خالويه، وأبو حيان بكسر الراء، وابن جني، وابن عطية بفتح الراء..
١٩ الكشاف ٣/١١٦..
٢٠ البيت من بحر الطويل، قاله أبو الحناك البراء بن ربعي الفقعسي، وهو في الكشاف ٣/١١٦، البحر المحيط ٧/٢٠، شرح شواهد الكشاف (٧٣). والشاهد فيه قوله: (تتابعوا). فهو بمعنى: انقرضوا واحداً بعد واحد..
٢١ انظر: المحتسب ٢/١٢٩، اللسان (درك)..
٢٢ في ب: يوجب..
٢٣ انظر البحر المحيط ٧/٢٠..
٢٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٨..
٢٥ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٢٦ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
فعند ذلك قال موسى ثقة بوعد الله إياه «كَلاّ » وذلك كالمنع مما توهموه، أي : لن يدركونا ﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾١ يدلني على طريق النجاة٢.
١ في ب: سيهديني..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٣٨..
قوله: [ ﴿فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾. لما قال موسى: ﴿﴾ بين تعالى كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه، فقال] :﴿فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق﴾ ولا بد قبله من جملة محذوفة، أي: فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور ان المحذوف إنما هو: «ضرب» وفاء: «انفلق». وأن الفاء الموجودة
35
هي فاء «فَضَرَبَ» فأبقى من كل فعل ما يدلّ على المحذوف، أبقى الفاء من «فَضَرَبَ» ليدلّ على «ضَرَبَ» وأبقى «انْفَلَقَ» ليدل على الفاء المتصلة به.
قوله: ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ﴾ اختلف القراء في ترقيق راء «فرق» فروي عن ورش الترقيق لأجل القاف. وقرىء: «فِلْق» بلام بدل الراء، لموافقة «فانفلق» والطود: الجبل العظيم المتطاول في السماء.

فصل


قال ابن جريرج: لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال قال يوشع: يا مكلم الله، أين أمرت؟ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى: هاهنا. فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه: يا مكلم الله، أين أمرت؟ قال: هاهنا. فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لا يبتلّ سرجه ولا لبده، وهذا معجز عظيم من وجوه:
أحدها: أن تفرق ذلك الماء معجز.
وثانيها: ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم، فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عدد بني إسرائيل، وهذا معجز ثالث.
ورابعها: أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض، وهذا معجز رابع.
36
وخامسها: أن بقّى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخلّصوا من البحر كما تخلّص موسى - عليه السلام - فهو معجز خامس.
قوله: «وَأَزْلَفْنَا» أي: قربنا من النجاة، و «ثَمَّ» ظرف مكان بعيد، و «الآخرِينَ» هم موسى وأصحابه. وقرأ الحسن وأبو حيوة: «وَزَلَفْنَا» ثلاثياً.
وقال أبو عبيدة: أَزْلَفْنَا: جمعنا، ومنه: ليلة المزدلفة، أي: ليلة الجمع.
وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون، وكان يسوق بني إسرائيل ويقول: ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط، ويقول: رويدكم لكي يلحق آخركم. وقرأ أبيّ وابن عباس وعبد الله بن الحراث بالقاف، أي: أزللنا، والمراد ب «الآخرين» جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه.
قوله: ﴿وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ﴾. والمعنى: أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى، حتى خرجوا عنه، وأغرق فرعون ومن معه، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا.
قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أي: إن في الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرة الله تعالى؛ لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته، وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا، وعلى صدق موسى لكونه معجزة له، وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله ورسوله، وفيه تسلية للنبي - عليه السلام - لأنه قد يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه، فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره.
ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي: من أهل مصر. قيل: لم يكن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزقيل المؤمن، ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام
37
قوله :«وَأَزْلَفْنَا » أي : قربنا من النجاة، و «ثَمَّ » ظرف مكان بعيد، و «الآخرِينَ » هم موسى وأصحابه١. وقرأ الحسن وأبو حيوة :«وَزَلَفْنَا » ثلاثياً٢.
وقال أبو عبيدة : أَزْلَفْنَا : جمعنا، ومنه : ليلة المزدلفة، أي : ليلة الجمع٣.
وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون، وكان يسوق بني إسرائيل ويقول : ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط، ويقول : رويدكم لكي يلحق آخركم. وقرأ أبيّ وابن عباس وعبد الله بن الحارث بالقاف٤، أي : أزللنا، والمراد ب «الآخرين » في هذه القراءة : فرعون وقومه٥. والمعنى : جعلنا طريقهم في البحر زلقاً على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً فيزلقهم فيه.
١ هذا على خلاف ما جاء في كتب التفسير، قال الزمخشري: ("الآخرين" قوم فرعون، أي قربناهم من بني إسرائيل، أو أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، أو قدمناهم إلى البحر) الكشاف ٣/١١٦، وانظر القرطبي ١٣/١٠٧، البحر المحيط ٧/٢٠..
٢ تفسير ابن عطية ١١/١١٨، البحر المحيط ٧/٢٠..
٣ مجاز القرآن ٢/٨٧..
٤ المختصر (١٠٧)، المحتسب ٢/١٢٩، البحر المحيط ٧/٢٠..
٥ قال ابن جني: ( من قرأ "وأزلفنا" بالفاء فالآخرين موسى-عليه السلام- وأصحابه، ومن قرأها بالقاف فالآخرون فرعون وأصحابه أي: أهلكنا ثم الآخرين، أي فرعون وأصحابه) المحتسب ٢/١٢٩..
قوله :﴿ وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَعَهُ أَجْمَعِينَ ﴾. والمعنى : أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى١، حتى خرجوا عنه، وأغرق فرعون ومن معه، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا٢.
١ في الأصل: في حق موسى في حق..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:قوله :﴿ وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَعَهُ أَجْمَعِينَ ﴾. والمعنى : أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى١، حتى خرجوا عنه، وأغرق فرعون ومن معه، لأنه لما تكامل دخولهم في البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا٢.
١ في الأصل: في حق موسى في حق..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٠..

قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ أي : إن في الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرة الله تعالى ؛ لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته، وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا، وعلى صدق موسى لكونه معجزة له، وعلى التحذير عن مخالفة أمر الله ورسوله، وفيه تسلية للنبي - عليه السلام١ - لأنه قد يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه، فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره٢.
ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُؤْمِنِينَ ﴾ أي : من أهل مصر. قيل : لم يكن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزقيل المؤمن، ومريم بنت ناموشا التي دلت على عظام يوسف - ( عليه السلام٣ )٤
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤١..
٣ انظر البغوي ٦/٢٢٠..
٤ ما بين القوسين في ب: عليه الصلاة والسلام..
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز ﴾ في الانتقام من أعدائه «الرَّحيمُ » بعباده، لأنه تعالى أفاض عليهم أصناف نعمه، وكان قادراً على أن [ يهلكهم، فدل على كمال رحمته وسعة جوده وفضله١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤١..
يوسف - (عليه السلام) - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز﴾ في الانتقام من أعدائه «الرَّحيمُ» بعباده، لأنه تعالى أفاض عليهم أصناف نعمه، وكان قادراً على أن [يهلكهم، فدل على كمال رحمته وسعة جوده وفضله.
قوله
تعالى
: ﴿واتل
عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ... الآيات﴾
.
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد - عليه السلام - ثم ذكر قصة موسى ليعرِّف محمداً أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى، ثم ذكر عقيبها قصة إبراهيم ليعرف محمد أن حزن إبراهيم بهذا السبب كان أشد من حزنه.
قوله: «إذْ قَالَ» العالم في «إِذْ» «نَبأَ» أو «اْتلُ» قاله الحوفي وهذا لا يتأتى إلا على كون «إذْ» مفعولاً به. وقيل: «إذ» بدل من «نبأ» بدا اشتمال، وهو يؤول إلى أن العامل فيه «اتْلُ» بالتأويل المذكور.
قوله: «وَقَوْمِهِ» الهاء تعود على إبراهيم، لأنه المحدث عنه.
وقيل: تعود على «أَبِيهِ» لأن أقرب مذكور، أي: قال لأبيه وقوم أبيه، ويؤيده ﴿إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ﴾ [الأنعام: ٧٤] حيث أضاف القوم إليه.
قوله «مَا تَعْبُدُونَ» أي: أيّ شيء تعبدون؟ وهو يعلم أنهم عبدة الأصنام، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، كما تقول (لتاجر الرقيق) : ما مالك؟ وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول: الرقيق جمال وليس بمال.
قوله: «نَعْبُدُ أَصْنَاماً» أتوا في الجواب بالتصريح بالفعل ليعطفوا عليه قولهم: «
38
فَنَظَلُّ» افتخاراً بذلك، وإلاَّ فكان قولهم: «نَعْبُدُ أَصْنَاماً» كافياً كقوله تعالى: «قُلِ العَفْوَ»، «قَالُوا خَيْراً».
قوله: ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾. العكوف: الإقامة على الشيء. قال بعض العلماء: إنما قالوا: (فَنَظَلُّ) لأنهم يعبدونها بالنهار دون الليل، يقال: ظل يفعل كذا: إذا فعل بالنهار. فقال إبراهيم - عليه السلام - منبهاً على فساد مذهبهم: «هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ» لا بد من محذوف، أي: يسمعون دعاءكم، أو يسمعونكم تدعون، فعلى الأول هي متعدية لواحد اتفاقاً. وعلى الثاني هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني، وهو قول الفارسي.
وعند غيره: الجملة المقدرة حال. وتقدم تحقيق القولين.
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم، والمفعول الثاني: محذوف، أي: يسمعونكم الجواب.
قوله: «إذْ تَدْعُونَ» منصوب بما قبله، فما قبله وما بعده ماضيان معنى وإن كانا مستقبلين لفظاً لعمل الأول في «إذْ» ولعمل «إذْ» في الثاني.
وقال بعضهم: «إذ» هنا بمعنى: «إذا» وقال الزمخشري: إنه على حكاية الحال الماضية، معناه: استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها، هل سمعوكم إذا سمعوا؟ وهو أبلغ في التبكيت، وقد تقدم أنه قرىء بإدغام ذال «إذْ» وأظهارها في التاء. وقال
39
ابن عطية: ويجوز فيه قياس «مذكر» ونحوه، ولم يقرأ به أحد، والقياس أن يكون اللفظ به «إدَّدْعون» والذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل فكثرت المتماثلات، يعني: فيكون اللفظ بدال مشددة مهملة، ثم بدال ساكنة مهملة أيضاً.
قال أبو حيان: وهذا لا يجوز، لأن هذا الإبدال إنما هو في تاء الافتعال بعد الدال والذال والزاي نحو: ادَّهَن، واذّكر، وازْدَجَر، وبعد جيم شذوذاً نحو: «اجْدَمعوا» في «اجتمعوا»، وفي تاء الضمير بعد الدال والزاي نحو: «فُزْدَ في فُزْتَ» و «جَلَدُّ في جَلَدْتُ» أو تاء «تَوْلَج» قالوا فيها: «دَوْلَج» وتاء المضارعة، ليس شيئاً مما ذكر وقوله: «والذي منع... إلى آخره» يقتضي جوازه لو لم يوجد ما ذكر، فعلى مقتضى قوله يجوز أن تقول في «إذْ تَخْرُج» :«إذَّ خْرُج» ولا يقول ذلك أحد، بل يقولون: اتّخرج فيدغمون الذال في التاء.

فصل


تقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام - أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة، فقال لهم: إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر، فكيف تعبدون ما هذا صفته؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد، فقالوا: ﴿وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله، وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله.
قوله: «كَذَلِكَ» منصوب ب «يَفْعَلُونَ» أي: يفعلون مثل فعلنا، و «يَفْعَلُون» في محل نصب مفعولاً ثانياً ل «وَجَدْنَا».
قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون﴾. أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً، ولا بأن يكون في فاعليه كثيرة أو قلة.
قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ اللغة الغالبة إفراد «عَدُوّ» وتذكيره، قال تعالى: ﴿هُمُ العدو﴾ [
40
المنافقون: ٤] وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو: «الوَلُوعُ، والقَبُول» وقد يقال: أعداءٌ، وعَدُوَّةٌ، وقوله: «عَدُوٌّ لي» على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الواحدة والكثرة، قال الشاعر:
٣٩١٠ - وَقَوْمٌ عَلَى ذَوِي مِئْرَةٍ أَرَاهُمْ عَدُوّاً وَكَانُوا صَدِيقَا
وتقدم الكلام في نظيره عند قوله: «إنَّا رَسُولُ».
وقيل: المعنى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ لو عبدتهم يوم القيامة، كقوله:
﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً﴾ [مريم: ٨٢]. (وقيل: الأصنام لا تُعادى لأنها جماد، والتقدير: فإن عبادهم عدو لي). وقيل: بل في الكلام قلب تقديره: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لهم وهذان مرجوحان لاستقامة الكلام بدونهما، فإن قيل: لم قال: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ ولم يقل فإنها عدو لكم؟ فالجواب: أنه - عليه السلام - صور المسألة في نفسه، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا وقالوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول.
قوله: ﴿إِلاَّ رَبَّ العالمين﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه منقطع، أي: لكن رب العالمين ليس بعدوٍّ لي. وقال الجرجاني: فيه تقديم وتأخير، أي: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا ربّ
41
العالمين فإنهم عدو لي، و «إلاَّ» بمعنى «دُونَ، وسِوَى».
والثاني: أنه متصل، وهو قول الزجاج، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، فقال إبراهيم: كل من تبعدون أعداء لي إلا رب العالمين.
وقال الحسن بن الفضل: معناه: إلا من عبد رب العالمين. وقيل: معناه: فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين. ثم وصف معبوده، وهو قوله: «الذَّي خَلَقَنِي» يجوز فيه أوجه: النصب على النعت ل «رَبّ العَالَمِينَ»، أو البدل، أو عطف البيان، أو على إضمار «أعني». والرفع على خبر مبتدأ مضمر، أي: هو الذي خلقني، أو على الابتداء. و «فَهُوَ يَهْدِين» جملة اسمية في محل رفع خبراً له.
قال الحوفي: ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط. وهذا مردود. لأن الموصول معيَّنٌ ليس عاماً، وأن الصلة لا يمكن فيها التجدد، فلم يشبه الشرط وتابع أبو البقاء الحوفيَّ، ولكنه لم يتعرض للفاء، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه، وإن لم يفعله فيكون تابعاً للأخفش في تجويزه زياة الفاء في الخبر مطلقا نحو: «زيدٌ فاضربه» وقد تقدم تجويزه.
42
قوله :«إذْ قَالَ » العامل في «إِذْ » «نَبأَ »١ أو «اْتلُ » قاله الحوفي٢ وهذا لا يتأتى إلا على كون «إذْ » مفعولاً به٣. وقيل :«إذ » بدل من «نبأ » بدا اشتمال، وهو يؤول إلى أن العامل فيه «اتْلُ » بالتأويل المذكور٤.
قوله :«وَقَوْمِهِ » الهاء تعود على إبراهيم٥، لأنه المحدث عنه.
وقيل : تعود على «أَبِيهِ » لأن أقرب مذكور، أي : قال لأبيه وقوم أبيه، ويؤيده ﴿ إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ ﴾ [ الأنعام : ٧٤ ] حيث أضاف القوم إليه٦.
قوله «مَا تَعْبُدُونَ » أي : أيّ شيء تعبدون ؟ وهو يعلم أنهم عبدة الأصنام، ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، كما تقول ( لتاجر الرقيق )٧ : ما٨ مالك ؟ وأنت تعلم أن٩ ماله الرقيق، ثم تقول : الرقيق جمال وليس بمال١٠.
١ انظر التبيان ٢/٩٩٦..
٢ انظر البحر المحيط ٧/٢٢..
٣ فهذا إخراج له عن الظرفية ليصح هذا القول..
٤ انظر: البحر المحيط ٧/٢٢..
٥ واستظهره أبو حيان. البحر المحيط ٧/٢٢..
٦ انظر البحر المحيط ٧/٢٢..
٧ ما بين القوسين في النسختين: للتاجر. والتصويب من الفخر الرازي..
٨ ما: سقط من ب..
٩ أن: سقط من الأصل..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٢..
قوله :«نَعْبُدُ أَصْنَاماً » أتوا في الجواب بالتصريح بالفعل ليعطفوا عليه قولهم :«فَنَظَلُّ » افتخاراً بذلك، وإلاَّ فكان قولهم :«نَعْبُدُ أَصْنَاماً » كافياً١ كقوله تعالى :«قُلِ العَفْوَ »٢، «قَالُوا خَيْراً »٣.
قوله :﴿ فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾. العكوف : الإقامة على الشيء. قال بعض العلماء : إنما قالوا :( فَنَظَلُّ ) لأنهم يعبدونها بالنهار دون الليل، يقال : ظل يفعل كذا : إذا فعل بالنهار٤.
١ انظر الكشاف ٣/١٧٧، البحر المحيط ٧/٢٢-٢٣..
٢ من قوله تعالى: ﴿ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو﴾ [البقرة: ٢١٩]..
٣ من قوله تعالى: ﴿ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربُّكم قالوا خيراً﴾[النحل: ٣٠]..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٢..
فقال إبراهيم - عليه السلام ٥- منبهاً على فساد مذهبهم :«هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ » لا بد من محذوف، أي : يسمعون دعاءكم١، أو يسمعونكم تدعون٢، فعلى الأول هي متعدية لواحد اتفاقاً. وعلى الثاني هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني، وهو قول الفارسي٣.
وعند غيره : الجملة المقدرة حال٤. وتقدم تحقيق القولين.
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم٥، والمفعول الثاني محذوف، أي : يسمعونكم الجواب٦.
قوله :«إذْ تَدْعُونَ » منصوب بما قبله، فما قبله وما بعده ماضيان معنى وإن كانا مستقبلين لفظاً لعمل الأول٧ في «إذْ » ولعمل «إذْ » في الثاني٨.
وقال بعضهم :«إذ » هنا بمعنى :«إذا »٩ وقال الزمخشري : إنه على حكاية الحال الماضية، ومعناه : استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها، هل سمعوكم إذا سمعوا١٠ ؟ وهو أبلغ في التبكيت١١، وقد تقدم أنه قرىء بإدغام ذال «إذْ » وإظهارها في التاء١٢. وقال ابن عطية : ويجوز فيه قياس «مذكر » ونحوه، ولم يقرأ به أحد، والقياس أن يكون اللفظ به «إدَّدْعون »١٣ والذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل فكثرت المتماثلات١٤، يعني : فيكون اللفظ بدال مشددة مهملة، ثم بدال ساكنة مهملة أيضاً.
قال أبو حيان : وهذا لا يجوز، لأن هذا الإبدال إنما هو في تاء الافتعال بعد الدال والذال والزاي نحو : ادَّهَن، واذّكر، وازْدَجَر، وبعد جيم شذوذاً نحو :«اجْدَمعوا » في «اجتمعوا »، وفي تاء الضمير بعد الدال والزاي نحو :«فُزْدَ في فُزْتَ » و «جَلَدُّ في جَلَدْتُ »١٥ أو تاء «تَوْلَج » قالوا فيها :«دَوْلَج »١٦ وتاء المضارعة، ليس شيئاً مما ذكر وقوله :«والذي منع. . . إلى آخره » يقتضي جوازه لو لم يوجد ما ذكر، فعلى مقتضى قوله يجوز أن تقول في «إذْ تَخْرُج » :«إذَّ خْرُج » ولا يقول ذلك أحد، بل يقولون : اتّخرج فيدغمون الذال في التاء١٧.
فصل :
تقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام١٨ - أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة، فقال لهم : إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر، فكيف تعبدون ما هذا صفته ؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد،
فقالوا :﴿ وجدنا آباءنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾.
وهذا١٩ من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا٢٠ الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله، وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله٢١.
قوله :«كَذَلِكَ» منصوب بـ «يَفْعَلُونَ»٢٢ أي : يفعلون مثل فعلنا، و «يَفْعَلُون» في محل نصب مفعولاً ثانياً لـ «وَجَدْنَا».
١ انظر معاني القرآن للأخفش ٢/٦٤٦، الكشاف ٣/١١٧، البيان ٢/٢١٤، التبيان ٢/٩٩٦..
٢ انظر البيان ٢/٢١٤، البحر المحيط ٧/٢٣..
٣ قال أبو علي: (وأفعال الحواس الخمس كلها متعدية نحو رأيته وشممته وذقته ولمسته وسمعته، إلا أن سمعت يتعدى إلى مفعولين، ولا بد من أن يكون الثاني مما يسمع كقولك: سمعت زيداً يقول ذاك، ولو قلت: سمعت زيداً يضرب أخاك، لم يجز، فإن اقتصرت على مفعول واحد وجب أن يكون مما يسمع) انظر المقتصد شرح الإيضاح ١/٥٩٧..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٢٣..
٥ المختصر (١٠٧)، المحتسب ٢/١٢٩..
٦ انظر المحتسب ٢/١٢٩، الكشاف ٣/١١٧، التبيان ٢/٩٩٧، البحر المحيط ٧/٢٣..
٧ وهو (يسمع) من "يسمعونكم"..
٨ المقصود به جملة "تدعون" فهي في محل جر بإضافة (إذ) إليها..
٩ انظر البحر المحيط ٧/٢٣..
١٠ في الكشاف: هل سمعوا أو أسمعوا قط..
١١ الكشاف ٣/١١٧..
١٢ عند قوله تعالى: ﴿وإذ تأذن ربًّك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب﴾ [الأعراف: ١٦٧]. انظر اللباب ٤/١١٥-١١٦..
١٣ في تفسير ابن عطية: "إذ تدعون"..
١٤ تفسير ابن عطية ١١/١٢١..
١٥ في ب: وجلدت في جلدة. وهو تحريف..
١٦ انظر الممتع: ١/٣٥٦-٣٥٩..
١٧ البحر المحيط ٧/٢٣. بتصرف يسير..
فصل :
تقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام١٨ - أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة، فقال لهم : إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر، فكيف تعبدون ما هذا صفته ؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد،
فقالوا :﴿ وجدنا آباءنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾.
وهذا١٩ من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا٢٠ الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله، وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله٢١.
قوله :«كَذَلِكَ» منصوب بـ «يَفْعَلُونَ»٢٢ أي : يفعلون مثل فعلنا، و «يَفْعَلُون» في محل نصب مفعولاً ثانياً لـ «وَجَدْنَا».
فصل :
تقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام١٨ - أن من عبد غيره لا بد أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده أو يسمع دعاءه، ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة، فقال لهم : إذا كان الذي تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر، فكيف تعبدون ما هذا صفته ؟ فعند هذه الحجة الباهرة لم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد،
فقالوا :﴿ وجدنا آباءنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾.
وهذا١٩ من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا٢٠ الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله، وذماً لطريقة إبراهيم التي مدحها الله٢١.
قوله :«كَذَلِكَ» منصوب بـ «يَفْعَلُونَ»٢٢ أي : يفعلون مثل فعلنا، و «يَفْعَلُون» في محل نصب مفعولاً ثانياً لـ «وَجَدْنَا».
قوله :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وآباؤكم الأقدمون ﴾. أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً، ولا بأن يكون في فاعليه كثرة أو قلة١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:قوله :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وآباؤكم الأقدمون ﴾. أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً، ولا بأن يكون في فاعليه كثرة أو قلة١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٢..

قوله :﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي ﴾ اللغة الغالبة إفراد «عَدُوّ » وتذكيره، قال تعالى :﴿ هُمُ العَدُوُّ ﴾ [ المنافقون : ٤ ] وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو :«الوَلُوعُ، والقَبُول »١ وقد يقال : أعداءٌ، وعَدُوَّةٌ٢، وقوله :«عَدُوٌّ لي » على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والكثرة٣، قال الشاعر :
٣٩١٠ - وَقَوْمٌ عَلَى ذَوِي مِئْرَةٍ أَرَاهُمْ عَدُوّاً وَكَانُوا صَدِيقَا٤
وتقدم الكلام في نظيره عند قوله٥ :«إنَّا رَسُولُ »٦.
وقيل : المعنى :﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي ﴾ لو عبدتهم يوم القيامة، كقوله :
﴿ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ]. ( وقيل : الأصنام لا تُعادى لأنها جماد، والتقدير : فإن عبادهم عدو لي٧ )٨. وقيل : بل٩ في الكلام قلب تقديره : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لهم١٠ وهذان مرجوحان لاستقامة الكلام بدونهما، فإن قيل : لم قال :﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي ﴾ ولم يقل فإنها عدو لكم ؟ فالجواب : أنه - عليه السلام١١ - صور المسألة في نفسه، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا وقالوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول١٢.
قوله :﴿ إِلاَّ رَبَّ العالمين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه منقطع، أي : لكن رب العالمين ليس بعدوٍّ لي١٣. وقال الجرجاني : فيه تقديم وتأخير، أي : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا ربّ العالمين١٤ فإنهم عدو لي، و «إلاَّ » بمعنى «دُونَ، وسِوَى »١٥.
والثاني : أنه متصل، وهو قول الزجاج١٦، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، فقال إبراهيم : كل من تبعدون أعداء لي إلا رب العالمين.
وقال الحسن بن الفضل١٧ : معناه : إلا من عبد رب العالمين. وقيل : معناه : فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين. ثم وصف معبوده، وهو قوله :«الذَّي خَلَقَنِي » يجوز فيه أوجه : النصب على النعت ل «رَبّ العَالَمِينَ »، أو البدل، أو عطف البيان، أو على إضمار «أعني »١٨. والرفع على خبر مبتدأ مضمر، أي : هو الذي خلقني، أو على الابتداء. و «فَهُوَ يَهْدِين »١٩ جملة اسمية في محل رفع خبراً له٢٠.
قال الحوفي : ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط٢١. وهذا مردود، لأن الموصول معيَّنٌ ليس عاماً، ولأن الصلة لا يمكن فيها التجدد، فلم يشبه الشرط٢٢ وتابع أبو البقاء٢٣ الحوفيَّ، ولكنه لم يتعرض للفاء، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه، وإن لم يفعله فيكون تابعاً للأخفش في تجويزه٢٤ زيادة الفاء في الخبر مطلقاً نحو :«زيدٌ فاضربه »٢٥ وقد تقدم تجويزه.
١ انظر الكشاف ٣/١١٧..
٢ عدوا من الصفات التي يستوي فيها المذكر والمؤنث فعول بمعنى فاعل، فلا تلحقها التاء للفصل بين المذكر والمؤنث غالباً لعدم الحاجة إليه، كرجل صبور، بمعنى: صابر، وامرأة صبور، بمعنى: صابرة وشذّ امرأة عدوة، لخروجه عن القاعدة، ومع ذلك فإنه محمول على صديقة، كما في عكسه، وهو حمل صديق على عدوه في قوله لم أبخل وأنت صديق. والقياس صديقة، وهم يحملون الضد على ضده، كما يحملون النظير على نظيره. انظر شرح التصريح ٢/٢٨٦-٢٨٧، الهمع ٢/١٧٠..
٣ كالمصدر. انظر الكشاف ٣/١١٧..
٤ البيت من بحر المتقارب، لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشاف ٣/١١٧، والفخر الرازي ٢٤/١٣٤، شرح شواهد الكشاف (٨٥) المئرة: العداوة. وروي (مرة) وهي القوة وشدة الجدال..
٥ في ب: قوله تعالى..
٦ من قوله تعالى: ﴿إنا رسول رب العالمين﴾ [الشعراء: ١٦]..
٧ حكاه أبو حيان. البحر المحيط ٧/٢٤..
٨ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٩ ما بين القوسين في ب: وإن قيل: فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي فيكون. وهو تحريف..
١٠ وهو قول الفراء. انظر معاني القرآن ٣/٣٨١..
١١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٣..
١٣ قال الفراء: (أي كل آلهة لكم فلا أعبدها إلا رب العالمين فإني أعبده) معاني القرآن ٢/٢٨١، وصرح به الزمخشري، فإنه قال: ("إلا رب العالمين" استثناء منقطع كأنه قال ولكن رب العالمين) الكشاف ٣/١١٧، وانظر التبيان ٢/٩٩٦..
١٤ في ب: إلا رب العالمين وقال الحسن بن الفضل فإنهم عدو لي..
١٥ انظر القرطبي ١٣/١١٠، البحر المحيط ٧/٢٤، وقال أبو حيان معقباً على قول الجرجاني: (فجعله مستثنى مما بعد "كنتم تعبدون" ولا حاجة إلى هذا التقدير، لصحة أن يكون مستثنى من قوله: "فإنهم عدو لي")..
١٦ معاني القرآن وإعرابه ٤/٩٣..
١٧ لعله الحسن بن أبي الفضل. وقد تقدم..
١٨ انظر البحر المحيط ٧/٢٤..
١٩ في النسختين: يهديني..
٢٠ انظر البيان ٢/٢١٥، التبيان ٢/٩٩٧، البحر المحيط ٧/٢٤..
٢١ انظر: البحر المحيط ٧/٢٤..
٢٢ هذا اعتراض أبي حيان على الحوفي. انظر البحر المحيط ٧/٢٤..
٢٣ قال أبو البقاء: (..."الذي" مبتدأ، "فهو" مبتدأ ثان، و"يهدين" خبره، والجملة خبر "الذي") التبيان ٢/٩٩٧..
٢٤ في ب: تجويز..
٢٥ انظر البحر المحيط ٧/٢٤..
واعلم أن إبراهيم - عليه السلام - لما استثنى رب العالمين وصفه بما يستحق العبادة لأله بأوصاف:
أحدهما: قوله ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾، وذلك لأن الله تعالى أثنى عليه
42
نفسه بهذين الأمرين في قوله: ﴿الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى﴾ [الأعلى: ٢ - ٣].
وقال: «خَلَقَنِي» بلفظ الماضي، لأن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم.
وقال: «فَهُوَ يَهْدِيْن» بلفظ المستقبل، لأن الهداية مما تتكرر كل حين وأوان، سواء كانت تلك الهداية من المنافع الدنياوية بتمييز الناف عن الضار، أو من المنافق الدينية بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر.
قوله: ﴿والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾. يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف وكذلك ما بعده، ويجوز أن تكون أوصافاً ل «الَّذِي خَلَقَنِي» ودخول الواو جائز، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة كقوله:
٣٩١١ - إلَى المَلِك القَرْمِ وَابنِ الهَمَامِ وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وأثبت ابن إسحاق - وتروى عن عاصم أيضاً - ياء المتكلم في: «يَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ».

فصل


المعنى: يرزقني ويغدوني بالطعام والشراب، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.
قوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ أضاف المرض إلى نفسه، وإن كان المَرض والشفاء كله من الله استعمالاً لحُسن الأدب كما قال الخضر: ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ [
43
الكهف: ٧٩]، وقال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢].
وأجاب ابن الخطيب بأجوبة أخر، منها: أن أكثر أسباب المرض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخَم. ومنها: أن الشفاء محبوب، وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم - عليه السلام - تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله، فإن نقضته بالأمانة فجوابه: أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يحصل الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته، وذلك هو عين المرض، ولأن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر، وخلاصتها عنها عين السعادة (بخلاف المرض).
قوله: ﴿والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾. والمراد منه: الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها، والمراد من الإحياء: المجازاة، ولذلك أدخل «ثُمَّ» للتراخي، أي يميتني وحيين في الآخرة.
قوله: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ قرأ العامة: «خَطِيئَتِي» بالإفراد. والحسن: «خَطَايَايَ» جمع تكسير. فإن قيل: لم يقال: «والَّذِي أَطْمَعُ» والطمع عبارة ن الظن والرجاء، وهو عليه السلام كان قاطعاً بذلك؟ فالجواب: هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة، حيث قالوا: لا يجب على الله لأحد شيء، وأن يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
وأجاب الجبائي عنه من وجهين:
الأول: أن قوله: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي﴾ أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطعون ولا يقطعون به.
والثاني: المراد من الطمع: اليقين، وهو المروي عن الحسن.
وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً لأمته كيفية الدعاء.
قال ابن الخطيب: وهذه وجوه ضعيفة، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أو
44
والمدح ثانياً، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم - عليه السلام - فجعل الشيء الواحد وهو كقوله: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي يَوْمَ الدين﴾ كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده.
وأما قوله: إن الطمع هو اليقين (فهذا) على خلاف اللغة.
وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضاً، لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة، وإنه باطل أيضاً. فإن قيل: لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا؟ فالجواب من وجوه:
أحدها: قال مجاهد: هي قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٣] وقوله لسارة: «هذه أختي» وزاد الحسن قوله للكوكب: ﴿هذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٦].
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز.
وثانيها: أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف، لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، وهو منزه عن المعصية.
وقال: وثالثها، وهو الجواب الصحيح: أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى ذلك خطأ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار، فباعها بدينار، وقيل: إنه أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
فإن قيل: ما فائدة قوله: «يَغْفِرَ لِي» ؟
فالجواب من وجوه: الأول: أن الأأب إذا عفا عن ولده، والسيد عن عبده، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلباً للثواب، أو لحسن الثناء والمحمدة، أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه، إما لتحصيل ما ينبغي، أو لدفع ما لا ينبغي، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن
45
تحدث له صفات كمال لم تكن، أو يزول عنه نقصان كان، وإذا كان كذلك لم يكن فعوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه.
فقوله: «يَغْفِر لِي» معناه: أن غفرانه لي ولأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة.
وثانيها: كأنه قال: خلقتني لا لي، فإنك حين خلقتني لم أكن موجوداً، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي، فلما خلقتني أولاً مع أني ما كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى.
وثالثها: أن إبراهيم - عليه السلام - كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط، ولذلك لما قال له جبريل: «ألك حاجة؟» قال: «أما إليك فلا» فهاهنا قال: ﴿أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ أي: بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع، فإن قيل: لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا؟
فالجواب: لأن أثرها يظهر يوم الدين، وهو الآن خفي لا يعلم.
46
قوله :﴿ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾١. يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوف٢ وكذلك ما بعده، ويجوز أن تكون٣ أوصافاً ل «الَّذِي خَلَقَنِي » ودخول الواو جائز٤، وقد تقدم تحقيقه في أول البقرة٥ كقوله :
٣٩١١ - إلَى المَلِك القَرْمِ وَابنِ الهُمَامِ وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ٦
وأثبت ابن أبي إسحاق - وتروى عن عاصم أيضاً - ياء المتكلم في :«يَسْقِينِ، ويَشْفِينِ، ويُحْيِينِ »٧.

فصل :٨


المعنى : يرزقني ويغذوني بالطعام والشراب، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.
١ في ب: ويسعين..
٢ وقدره ابن الأنباري من جنس الأول، أي: فهو يهدين. البيان ٢/٢١٥، وانظر التبيان ٢/٩٩٧..
٣ في الأصل: أن تكونوا..
٤ انظر التبيان ٢/٧٧٩..
٥ عند قوله تعالى: ﴿والَّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ [البقرة: ٤]. انظر اللباب ١/٤٥..
٦ البيت من بحر المتقارب مجهول القائل، وهو في معاني القرآن ١/١٠٥، ٢/٥٨، ٢٤٦، الكشاف ١/٢٣، الإنصاف ٢/٤٦٩، الخزانة ١/٤٥١، ٥/١٠٧، ٦/٩١. القرم بفتح القاف: السيد. الهمام: الملك العظيم الهمة، السيد الشجاع السخي. الكتيبة: الجيش. المزدحم: محل الازدحام، وأراد به المعركة. والشاهد فيه عطف بعض الصفات على بعض، فقد عطف قوله (وابن الهمام) على (القرم)، ثم عطف عليه (وليث الكتيبة) وذلك جائز، لأن الموصوف بها واحد..
٧ القرطبي ١٣/١١١، الإتحاف (٣٣٢-٣٣٣)..
٨ فصل: سقط من الأصل..
قوله :﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ أضاف١ المرض إلى نفسه، وإن كان المَرض والشفاء كله من الله استعمالاً لحُسن الأدب كما قال الخضر٢ :﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ [ الكهف : ٧٩ ]، وقال :﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يبلغا أَشُدَّهُمَا ﴾ [ الكهف : ٨٢ ].
وأجاب ابن الخطيب بأجوبة أخر، منها : أن أكثر أسباب المرض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم ؟ لقالوا : التخَم. ومنها : أن الشفاء محبوب، وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم - عليه السلام٣ - تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله، فإن نقضته بالأمانة فجوابه : أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يحصل الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته، وذلك هو عين المرض، ولأن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر، وخلاصتها عنها عين السعادة ( بخلاف المرض٤ )٥.
١ في ب: وأضاف..
٢ في ب: الخضر عليه الصلاة والسلام..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٥..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله :﴿ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾. والمراد منه : الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها، والمراد من الإحياء : المجازاة١، ولذلك أدخل «ثُمَّ » للتراخي، أي يميتني٢ ويحيين في الآخرة.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٥..
٢ في ب: يميتني في الدنيا..
قوله :﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين ﴾ قرأ العامة :«خَطِيئَتِي » بالإفراد. والحسن :«خَطَايَايَ »١ جمع تكسير. فإن قيل : لم قال :«والَّذِي أَطْمَعُ » والطمع عبارة عن الظن والرجاء، وهو عليه السلام٢ كان قاطعاً بذلك ؟ فالجواب : هذا الكلام يستقيم على مذهب أهل السنة، حيث قالوا : لا يجب على الله لأحد شيء، وأن يحسن منه كل شيء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
وأجاب الجبائي عنه من وجهين :
الأول : أن قوله :﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي ﴾ أراد به سائر المؤمنين، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به.
والثاني : المراد٣ من الطمع : اليقين، وهو المروي عن الحسن٤.
وأجاب الزمخشري بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً لأمته كيفية الدعاء٥.
قال ابن الخطيب : وهذه وجوه ضعيفة، أما الأول فإن الله تعالى حكى الثناء أولاً والمدح ثانياً، ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم - عليه السلام٦ - فجعل الشيء الواحد وهو كقوله :﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خطيئتي يَوْمَ الدين ﴾ كلام غيره ممّا يبطل نظم الكلام ويفسده.
وأما قوله : إن الطمع هو اليقين ( فهذا )٧ على خلاف اللغة.
وأما الثالث وهو أن المراد تعليم الأمة فباطل أيضاً٨، لأن٩ حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة، وإنه باطل أيضاً١٠. فإن قيل : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا ؟ فالجواب١١ من وجوه :
أحدها : قال مجاهد : هي قوله :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [ الصافات : ٨٩ ] وقوله :﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٦٣ ] وقوله لسارة :«هذه أختي »١٢ وزاد الحسن قوله للكوكب :﴿ هذا رَبِّي ﴾١٣ [ الأنعام : ٧٦ ].
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف، لأن نسبة الكذب إليه غير جائز١٤.
وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف، لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به، وهو منزه عن المعصية١٥.
وقال : وثالثها، وهو الجواب الصحيح : أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى ذلك خطأ، فإن من ملك جوهرة أمكنه أن١٦ يبيعها بألف ألف دينار، فباعها بدينار، وقيل : إنه أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز١٧.
فإن قيل : ما فائدة قوله :«يَغْفِرَ لِي » ؟.
فالجواب من وجوه : الأول : أن الأب إذا عفا عن ولده، والسيد عن عبده، والزوج عن زوجته فإنما يكون ذلك طلباً للثواب، أو لحسن الثناء والمحمدة، أو١٨ دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية جانب نفسه، إما لتحصيل ما ينبغي، أو لدفع ما لا ينبغي، وأما الإله سبحانه فإنه كامل بذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن، أو يزول عنه نقصان كان، وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه.
فقوله :«يَغْفِر لِي » معناه : أن غفرانه لي ولأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة١٩.
وثانيها : كأنه قال : خلقتني لا لي، فإنك حين خلقتني لم أكن موجوداً، فإذا عفوت كان ذلك العفو لأجلي٢٠، فلما خلقتني أولاً مع أني ما كنت٢١ محتاجاً إلى ذلك الخلق، فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد٢٢ الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى.
وثالثها : أن إبراهيم - عليه السلام٢٣ - كان مع شدة استغراقه في المعرفة شديد الفرار عن الوسائط، ولذلك٢٤ لما قال له جبريل :«ألك حاجة ؟ » قال :«أما إليك فلا » فهاهنا قال :﴿ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي ﴾ أي : بمجرد عبوديتي واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي، لا أن تغفرها بواسطة شفاعة شافع٢٥، فإن قيل٢٦ : لم علق غفران الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا ؟.
فالجواب : لأن أثرها يظهر يوم الدين، وهو الآن خفي لا يعلم٢٧.
١ المختصر (١٠٧)، تفسير ابن عطية ١١/١٢٥، البحر المحيط ٧/٢٥، الإتحاف (٣٣٣)..
٢ في : عليه الصلاة والسلام..
٣ في ب: أن المراد..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٥..
٥ انظر الكشاف ٣/١١٨، الفخر الرازي ٢٤/١٤٥..
٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٧ فهذا: تكملة من الفخر الرازي..
٨ أيضاً: سقط من ب..
٩ في ب: لأنه. وهو تحريف..
١٠ الفخر الرازي ٢٤/١٤٥-١٤٦..
١١ في ب: والجواب..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٦، القرطبي ١٣/١١٢..
١٣ [الأنعام: ٧٦]، (٧٧، ٧٨). وانظر القرطبي ١٣/١١٢..
١٤ الفخر الرازي ٢٤/١٤٦..
١٥ المرجع السابق..
١٦ في الأصل: بأن..
١٧ الفخر الرازي ٢٤/١٤٦..
١٨ في ب: و..
١٩ في ب: البتة إليه..
٢٠ في ب: لأجل..
٢١ في الفخر الرازي : مع أني كنت..
٢٢ في ب: شدة..
٢٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٤ في ب: وكذلك. وهو تحريف..
٢٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٦..
٢٦ في الأصل: علق. وهو تحريف..
٢٧ انظر الكشاف ٣/١١٨، والفخر الرازي ٢٤/١٤٦..
قوله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾. لما حكى عن إبراهيم عليه السلام - ثناءه على الله - ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته، وذلك تبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقتصر إبراهيم على الثناء ولا سيما يروى عنه أنه قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي؟
فالجواب: أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين﴾ [الشعراء: ٧٧] ثم ذكر الثناء، ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع، فأما حين (ما) خلا بنفسه ولم يكن غرضه
46
تعلم الشرع اقتصر على قوله: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» واعلم أن قوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ أجابه الله تعالى بقوله ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين﴾ [البقرة: ١٣٠].
والمراد ب «الحكم» : إدراك الحق والعلم، لأن النبوة كانت حاصلة له، وتحصيل الحاصل محال، وهذا قول مقاتل. وقال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه.
وقال الكلبي: النبوّة «وَأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ» من قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة.
قوله: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾. أي: ثناء حسناً، وذكراً جميلاً، وقبولاً عاماً في الأمم التي تجيء بعدي. قال ابن عباس: أعطاه الله بقوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ [الصافات: ١٠٨] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.
قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به.
وقيل: المراد منه: أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد - عليه السلام - فالمراد من قوله: ﴿واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين﴾ بعثه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قوله: ﴿واجعلني (مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم﴾ «مِنْ وَرَثَةِ» إما أن يكون مفعولاً ثانياً، أي: مستقراً أو كائناً من ورثة. وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني، أي: وارثاً من ورثة. واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
قوله: ﴿واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين﴾. لما فرغ من طلب السعادت الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به، وهو أبوه، وفيه وجهان:
الأول: أن المغفرة مشروط بالإسلام، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله «واغْفِر لأَبِي» كأنه دعاء له بالإسلام.
47
الثاني: أن أباه وعده بالإسلام لقوله: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ [التوبة: ١٤] فدعا له قبل أن يتبين له (أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّه)، كما سبق في سورة التوبة.
وقيل: إن أباه قال له: إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقيَّة وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ولذلك قال في دعائه: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين﴾ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
قوله: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ (قال الزمخشري) : الإخزاء من الخزي، وهو الهوان، ومن الخزاية، وهي الحياء. وهذه الآية تدل على أنه لا يجب على الله شيء كما تقدم في قوله: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾. فإن قيل: لما قال أولاً: ﴿واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم﴾ كان كافياً عن قوله: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾. وأيضاً فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين﴾ [النحل: ٢٧] فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم؟
فالجواب: أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقربين، وخزي كل واحد بما يليق به.
قال الزمخشري: في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم، أو ضمير الضالين.
قوله: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ... الآية﴾. ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ﴾ بدل من «يوم» قبله وجعل ابن عطية هذا من كلام الله تعالى إلى آخر الآيات مع إعرابه ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ﴾ بدلا من «يَوْمَ يُبَعَثُون». وردّه أبو حيان بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه آو آخر مثله مقدر. وعلى كلا هذين القولين لا يصح لاختلاف المتكلمين. واعلم أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الوصف حيث قال: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٣ - ٨٤].
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى الله﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه منقطع، أي ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ فإنه ينفعه ذلك.
وقال الزمخشري: ولا بد مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها سلامة
48
القلب، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن البنين والمال لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل لاستثناء معنى.
قال أبو حاين: ولا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف كما ذكر.
قال شهاب الدين: إنما قدر المضاف ليتوهم دخول المستثنى في المستثنى منه لأنه متى لم يتوهم ذلك لم يقع الاستثناء، ولهذا منعوا: صَهَلَتِ الخَيْلأُ إلاَّ الإِبِلَ. إلاَّ بتأويل.
الثاني: أنه مفعول به قوله: «لاَ يَنْفَعُ» أي: لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإن هينفعه ماله المصروف في وجوه البِرِّ وبنوه الصلحاء، لأنه علَّمهم وأحسن إليهم.
الثالث: أنه بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه، (إذ التقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته، والمستثنى منه) يحذف كقوله
٣٩١٢ - وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنُ سَيْفٍ وَمِئْزَرا...
أي: ولم ينج بشيء.
الرابع: أنه بدل من فاعل «يَنْفَعُ» فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء: وغلب من يعقل فيكون التقدير: إلاّ مالُ من، أو بنون من فإنه ينفع نفسه وغيره بالشفاعة.
قال شهاب الدين: وأبو البقاء خلط وجهاً بوجه، وذلك أنه إذا أردنا أن نجعله بدلاً من فاعل «يَنْفَعُ» قلنا: فيه طريقتان:
إحداهما: طريقة التغليب، أي: غلَّبنا البنين على المال، فاستثنى من البنين
49
فكأنه قيل: لا ينفع البنون إلا من أتى من البنين بقلب سليم فإنه ينفع نفسه بصلاحه وغيره بالشفاعة.
والطريقة الثانية: أن نقدر مضافاً محذوفاً قيل «من» أي: إلاّ مال من، أو بنو من، فصارت الأوجه خمسة. ووجه الزمخشري اتصال الاستثناء بوجهين:
أحدهما: إلا حالة ﴿مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ وهو من قوله:
٣٩١٣ - تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ... وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيدٍ مالٌ وبنون؟ فيقال: مالُه وبنُوه سلامة قلبِهِ، يريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثبات سلامة قلبه بدلاً عن ذلك.
والثاني: قال: وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا من أتى الله، لأن غنى الرجل في دينه بسلامه قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.

فصل


وفي «السليم» ثلاثةأوجه:
قال ابن الخطيب: أصحها: أن المراد منه سلامه النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة. وقيل: السليم: الخالص من الشرك والشك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠] [المائدة: ٥٢] [الأنفال: ٤٩]. وقيل: السليم: هو اللديغ من خشية الله. وقيل: السليم: هو الذي سَلَّم وأَسْلَم وسَالَم واسْتَسْلَم.
50
قوله :﴿ واجعل لِِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين ﴾. أي : ثناء حسناً، وذكراً جميلاً، وقبولاً عاماً في الأمم التي تجيء بعدي. قال ابن عباس : أعطاه الله بقوله :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾١ [ الصافات : ١٠٨ ] فأهل الأديان يتولونه ويثنون عليه.
قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به٢.
وقيل : المراد منه : أن يجعل في ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد - عليه السلام٣ - فالمراد من قوله :﴿ واجعل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين ﴾ بعثة محمد٤ - صلى الله عليه وسلم٥ -.
١ [الصافات: ١٠٨]، وتكررت في نفس السورة الآية (٧٨، ١٢٩) وانظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٩..
٢ انظر القرطبي ١٣/١١٣..
٣ في ب: صلى الله عليه وسلم..
٤ في ب: محمداً، وهو تحريف..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٩..
قوله :﴿ واجعلني ( مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم ﴾ )١ «مِنْ وَرَثَةِ » إما أن يكون مفعولاً ثانياً، أي : مستقراً أو كائناً من ورثة. وإما أن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني، أي : وارثاً من ورثة٢. واعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه٣ الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا٤.
١ ما بين القوسين مكرر في ب..
٢ ذكر هذا الوجه أبو البقاء. انظر التبيان ٢/٩٩٧..
٣ في ب: لأنه هو..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٤٩-١٥٠..
قوله :﴿ واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين ﴾. لما فرغ من طلب السعادات١ الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به، وهو أبوه، وفيه وجهان :
الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام، وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله «واغْفِر لأَبِي » كأنه دعاء له بالإسلام.
الثاني : أن أباه وعده بالإسلام لقوله :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوْعِدَةٍ وعدها إِيَّاهُ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ] فدعا له قبل أن يتبين له ( أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّه )٢، كما سبق في سورة التوبة.
وقيل : إن أباه قال له : إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقيَّة وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ولذلك قال في دعائه :﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين ﴾ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك٣.
١ في النسختين: السؤالات. والتصويب من الفخر الرازي..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٠..
قوله :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾. ( قال الزمخشري )١ : الإخزاء من الخزي، وهو الهوان، ومن الخزاية، وهي الحياء٢. وهذه الآية تدل على أنه لا يجب على الله شيء كما تقدم في قوله :﴿ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين ﴾. فإن قيل : لما قال أولاً :﴿ واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم ﴾ كان كافياً عن قوله :﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾. وأيضاً فقد قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الخزي اليوم والسوء عَلَى الكافرين ﴾ [ النحل : ٢٧ ] فما كان نصيب الكفار فقط كيف يخافه المعصوم ؟.
فالجواب : أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكذا درجات الأبرار خزي المقربين، وخزي كل واحد بما يليق به٣.
قال الزمخشري : في ( يبعثون ) ضمير العباد لأنه معلوم، أو ضمير الضالين٤.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ الكشاف ٣/١١٨..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٠..
٤ الكشاف ٣/١١٨..
قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ. . . الآية ﴾. ﴿ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ ﴾ بدل من «يوم » قبله١ وجعل ابن عطية هذا من كلام الله تعالى إلى آخر الآيات مع إعرابه ﴿ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ ﴾ بدلاً من «يَوْمَ يُبْعَثُون »٢. وردّه أبو حيان بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه أو آخر مثله مقدر. وعلى كلا هذين القولين لا يصح لاختلاف المتكلمين٣. واعلم أن الله تعالى قد أكرمه بهذا الوصف حيث قال :﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الصافات : ٨٣ - ٨٤ ].
١ من الآية التي قبلها. انظر التبيان ٢/٩٩٧..
٢ قال ابن عطية: ("يوم" بدل من الأول في قوله تعالى: ﴿يوم يبعثون﴾ والمعنى: يوم لا تنفع أعلاق الدنيا ومحاسنها) تفسير ابن عطية ١١/١٢٦..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٢٨..
قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه منقطع، أي ﴿ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ فإنه ينفعه ذلك.
وقال الزمخشري : ولا بد مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها سلامة القلب١، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن البنين والمال لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى٢.
قال أبو حيان : ولا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف كما ذكر٣.
قال شهاب الدين٤ : إنما قدر المضاف ليتوهم دخول المستثنى في المستثنى منه لأنه متى لم يتوهم ذلك لم يقع الاستثناء، ولهذا منعوا : صَهَلَتِ الخَيْلُ إلاَّ الإِبِلَ. إلاَّ بتأويل٥.
الثاني : أنه مفعول به قوله :«لاَ يَنْفَعُ » أي : لا ينفع المال والبنون إلا هذا الشخص فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البِرِّ وبنوه الصلحاء، لأنه علَّمهم وأحسن إليهم٦.
الثالث : أنه بدل من المفعول المحذوف، أو مستثنى منه، ( إذ التقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحداً من الناس إلا من كانت هذه صفته٧، والمستثنى منه )٨ يحذف كقوله :
٣٩١٢ - وَلَمْ٩ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنُ سَيْفٍ وَمِئْزَرا١٠ ***. . .
أي : ولم ينج بشيء.
الرابع : أنه بدل من فاعل «يَنْفَعُ » فيكون مرفوعاً. قال أبو البقاء : وغلب من يعقل فيكون التقدير : إلاّ مالُ من، أو بنون من فإنه ينفع نفسه وغيره بالشفاعة١١.
قال شهاب الدين : وأبو البقاء خلط وجهاً بوجه، وذلك أنه إذا أردنا أن نجعله بدلاً من فاعل «يَنْفَعُ » قلنا : فيه طريقتان١٢ :
إحداهما١٣ : طريقة التغليب، أي : غلَّبنا البنين على المال، فاستثنى من البنين فكأنه قيل : لا ينفع البنون إلا من أتى من البنين بقلب سليم فإنه ينفع نفسه بصلاحه وغيره بالشفاعة.
والطريقة الثانية : أن نقدر مضافاً محذوفاً قيل «من » أي : إلاّ مال من، أو بنو من، فصارت الأوجه خمسة١٤. ووجه الزمخشري اتصال الاستثناء بوجهين :
أحدهما : إلا حالة١٥ ﴿ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ وهو من قوله :
٣٩١٣ - تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ١٦ ***. . .
وما ثوابه إلا السيف، ومثاله أن يقال : هل لزيدٍ مالٌ وبنون ؟ فيقال : مالُه وبنُوه سلامة١٧ قلبِهِ، يريد نَفْيَ المالِ والبنين عنه، وإثبات سلامة قلبه بدلاً عن ذلك١٨.
والثاني : قال : وإن١٩ شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا من أتى الله، لأن غنى الرجل في دينه بسلامه قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه٢٠.

فصل :


وفي «السليم » ثلاثة أوجه :
قال ابن الخطيب : أصحها : أن المراد منه سلامه النفس٢١ عن الجهل والأخلاق الرذيلة٢٢. وقيل : السليم : الخالص من الشرك والشك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، وهذا قول أكثر المفسرين٢٣. وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى :﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾٢٤ ٢٥. وقيل : السليم : هو٢٦ اللديغ من خشية الله٢٧. وقيل : السليم : هو الذي سَلَّم وأَسْلَم وسَالَم واسْتَسْلَم٢٨.
١ في النسختين: السلامة. وما أثبته من الفخر الرازي..
٢ الكشاف ٣/١١٨..
٣ البحر المحيط ٧/٢٦..
٤ الدر المصون ٥/١٥٩..
٥ شرط الاستثناء المنقطع أن يناسب المستثنى منه، فلا يجوز قام القوم إلا ثعباناً، وأن لا يسبق ما هو نص في خروجه، فلا يجوز صهلت الخيل إلا الإبل، خلاف صوتت الخيل إلا الإبل، فالمثال الذي ذكره شهاب الدين على ظاهره لا يجوز، لأنه قد سبق ما هو نص في خروج ما بعد (إلا)، فيصبح (إلا) لغواً لا فائدة منها، لأن الصهيل خاص بالخيل، وكأن شهاب الدين يقصد بالتأويل هنا أن يضمن (صهلت) معنى (صوتت). انظر حاشية الصبان على الأشموني ٢/١٤٣..
٦ انظر الكشاف ٣/١١٨..
٧ انظر التبيان ٢/٩٩٨..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ في الأصل: ولا..
١٠ عجز بيت من بحر الطويل، وصدره:
نجا سالم والنفس منه بشدقه ***...
وقد تقدم تخريجه..

١١ التبيان ٢/٩٩٨..
١٢ في النسختين: طريقان. والصواب ما أثبته..
١٣ في الأصل: أحدهما..
١٤ الدرر المصون ٥/١٥٩..
١٥ في الكشاف: حال..
١٦ عجز بيت من بحر الوافر، قاله عمرو بن معد يكرب، وصدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل ***...
وقد تقدم..

١٧ في ب: وسلامة..
١٨ الكشاف ٣/١١٨..
١٩ في ب: إن..
٢٠ الكشاف ٣/١١٨..
٢١ في الفخر الرازي: القلب..
٢٢ الفخر الرازي ٢٤/١٥١..
٢٣ انظر القرطبي ١٣/١١٤..
٢٤ ورد في القرآن إحدى عشرة مرة، أولها [البقرة: ١٠]. انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (٦٦٤)..
٢٥ انظر القرطبي ١٣/١١٤..
٢٦ هو: سقط من ب..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥١..
٢٨ المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي: أن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها. ﴿وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ﴾ أي: أُظْهِرَت.
وقرأ مالك بن دينار: «وبَرَزت» بفتح الباء والراء خفيفة مبنياً للفعل مسنداً ل «الجحيم»، فلذلك رفع، والمراد ب «الغاوين» الكافرون.
﴿وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ﴾ : يمنعونكم من العذاب بنصرتهم، أو ينفعون أنفسهم بانتصارهم.
قوله: «فَكُبْكِبُوا» أي: أُلْقوا وَقُلِبَ بعضهم على بعض. قال الزمخشري: الكَبْكَبَة. تَكرِير الكبِّ، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى.
وقال ابن عطية نحواً منه، قال: وهو الصحيح، لأن تكرير الفعل بَيِّنٌ نحو: صَرَّ وَصَرْصَرَ، وهذا هو مذهب الزجاج.
وفي مثل هذا البناء ثلاثة مذاهب:
أحدها: هذا.
والثاني: وهو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول.
والثالث: وهو قول الكوفيين: أن الثالث مبدل من مثل الثاني: فأصل «كَبْكَبَ» : كَبَّبَ، بثلاث باءات، ومثله «لَمْلَمَ، وَكَفْكَفَ»، هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث،
51
فأما إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولاً من غير خلاف نحو: «سِمْسِم، وخِمْخِم». وواو «كُبْكِبُوا» قيل: للأَصنام، إجراء لها مجرى العقلاء. وقيل: (لعابديها).

فصل


قال ابن عباس: جمعوا. وقال مجاهد: دُهْوِرُوا. وقال مقاتل: قذفوا وقال الزجاج: طُرِحَ بعضُهم على (بعض). وقال القتيبي: أُلْقُوا على رؤوسهم «هُمْ والغَاوُوْن» يعني: الشياطين، قاله قتادة ومقاتل. وقال الكلبي: كَفَرَةُ الجن. ﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ﴾ أتباعه من الجن والغنس. وقيل: ذريته.
قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ﴾ جملة حالية معترضة بين القول ومعموله ومعمول الجملة القسمية.
قوله: ﴿إِن كُنَّا لَفِي﴾. مذهب البصريين: أن «إن» مخففة، واللام فارقة. ومذهب الكوفيين: أن «إن» نافية، واللاام بمعنى «إلا».

فصل


المعنى: قال الغاوون للشياطين والمعبودين ﴿وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ﴾ مع المعبودين، ويجادل بعضهم بعضا: ﴿تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ يذكرون ذلك حين يروا صورها على وجه الاعتراف (بالخطأ العظيم وعلى) وجه الندامة لا على وجه المخاطبة، لأنها جماد لا تخاطب، وأيضاً فلا ذَنْبَ لها بأن عَبَدها غيرها. ومما يدل على أن ذلك ليس
52
بخطاب لها في الحقيقة قولهم: " وما أضلنا إلا المجرمون " قوله: " إذ نسويكم ". " إذ " منصوب إما ب " مبين "، وإما بمحذوف، أي: ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة. ويجوز على ضعف أن يكون معمولا ل " ضلال "، والمعنى عليه إلا أن ضعفه صناعي وهو أن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه.
(فصل)
" نسويكم " نعدلكم " برب العالمين " فنعبدكم، " وما أضلنا ": دعانا إلى الضلال " إلا المجرمون " ". قال مقاتل: يعني: الشياطين.
وقال الكلبي: إلا أولونا الذين اقتدينا (بهم).
قوله: " فما لنا من شافعين " أي: من يشفع لنا؟ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين والمؤمنين، " ولا صديق " وهو الصادق في المودة بشرط الدين. قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول من بقي: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ".
قال الحسن: " استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة " والحميم: القريب، من قولهم: حامة فلان، أي: خاصته.
وقال الزمخشري: الحميم: من الاحتمام، وهو الاهتمام أو من الحامة وهي الخاصة، وهو الصديق الخالص والنفي هنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط، فهو من باب: ٣٩١٤ - على لاحب لا يهتدي بمناره
و" الصديق " يحتمل أن يكون مفردا وأن يكون مستعملا للجمع، كما يستعمل
53
العدو له، فيقال: هم صديق، وهم عدو، وقد تقدم. وإنما جمع " الشافعين " ووحد " الصديق " لكثرة الشفعاء في العادة وقله الصديق.
قوله: " فلو أن لنا كرة ". لو يجوز أن تكون المشربة معنى التمني، فلا جواب لها على المشهور، ويكون نصب " فنكون " جوابا للتمني الذي أفهمته " لو " ويجوز أن تكون على بابها، وجوابه محذوف، أي لوجدنا شفعاء وأصدقاء، أو لعملنا صالحا وعلى هذا فنصب الفعل ب " أن " مضمرة عطفا على " كرة " أي: لو أن لنا كرة (فكونا) كقولها: ٣٩١٥ - للبس عباءة وتقر عيني
(فصل)
قال الجبائي: قولهم: " فنكون من المؤمنين " ليس بخبر عن إيمانهم، لكنه خير عن عزمهم، لأنه لو كان خبرا عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقا، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله: ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ [الأنعام: ٢٨] وقد تقدم في سور الأنعام بيان فساد هذا الكلام.
قوله: " إن في ذلك لآية " أي: فيما ذكره من قصة إبراهيم - عليه السلام - لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال: " وما كان أكثرهم مؤمنين " حمله أكثر المفسرين على
54
﴿ وَبُرِّزَتِ الجحيمُ لِلْغَاوِينَ ﴾ أي : أُظْهِرَت١.
وقرأ مالك بن دينار٢ :«وبَرَزت » بفتح الباء والراء٣ خفيفة مبنياً للفاعل مسنداً ل «الجحيم »، فلذلك رفع٤، والمراد ب «الغاوين » الكافرون٥.
١ انظر البغوي ٦/٢٢٤..
٢ تقدم..
٣ في الأصل: الراء والباء..
٤ تفسير ابن عطية ١١/١٢٧، البحر المحيط ٧/٢٧..
٥ انظر القرطبي ١٣/١١٥-١١٦..
﴿ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ ﴾ : يمنعونكم من العذاب بنصرتهم، أو ينفعون أنفسهم بانتصارهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:﴿ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ ﴾ : يمنعونكم من العذاب بنصرتهم، أو ينفعون أنفسهم بانتصارهم.
قوله :«فَكُبْكِبُوا » أي : أُلْقوا وَقُلِبَ بعضهم على بعض. قال الزمخشري : الكَبْكَبَة. تَكرِير الكبِّ، جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى١.
وقال ابن عطية نحواً منه٢، قال : وهو الصحيح، لأن تكرير الفعل٣ بَيِّنٌ نحو : صَرَّ وَصَرْصَرَ٤، وهذا هو مذهب الزجاج٥.
وفي مثل هذا البناء ثلاثة مذاهب :
أحدها : هذا.
والثاني : وهو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول.
والثالث : وهو قول الكوفيين : أن الثالث مبدل من مثل الثاني : فأصل «كَبْكَبَ » : كَبَّبَ، بثلاث باءات، ومثله «لَمْلَمَ، وَكَفْكَفَ »، هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث، فأما٦ إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولاً من غير خلاف٧ نحو :«سِمْسِم، وخِمْخِم »٨. وواو «كُبْكِبُوا » قيل٩ : للأَصنام، إجراء لها مجرى العقلاء. وقيل :( لعابديها )١٠ ١١.

فصل :


قال ابن عباس : جمعوا١٢. وقال مجاهد : دُهْوِرُوا١٣. وقال مقاتل : قذفوا١٤ وقال الزجاج : طُرِحَ بعضُهم على ( بعض )١٥ ١٦. وقال القتيبي : أُلْقُوا على رؤوسهم «هُمْ والغَاوُوْن » يعني : الشياطين، قاله قتادة ومقاتل. وقال الكلبي : كَفَرَةُ الجن.
١ الكشاف ٣/١١٩..
٢ قال ابن عطية: ( و"كبكب" مضاعف من "كب" هذا قول الجمهور) تفسير ابن عطية ١١/١٢٨..
٣ في تفسير ابن عطية: لأن معناهما واحد والتضعيف..
٤ تفسير ابن عطية ١١/١٢٨..
٥ قال الزجاج:(ومعنى كبكبوا طرح بعضهم على بعض، وقال أهل اللغة معناه: هوِّروا. وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب كأنه إذا ألقي ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر فيها يستجير بالله منها) معاني القرآن وإعرابه ٤/٩٤..
٦ انظر شرح الشافية ١/٦١-٦٢، البحر المحيط ٧/٣-٤..
٧ أما: سقط من ب..
٨ الخمخم: بالكسر، نبات تعلف حبه الإبل. اللسان (خمم)..
٩ في الأصل: وهي..
١٠ انظر البحر المحيط ٧/٢٧..
١١ ما بين القوسين في ب: العائد بها. وهو تحريف.
١٢ انظر البغوي ٦/٢٢٤..
١٣ انظر البغوي ٦/٢٢٥. دهور الشيء فتدهور: قذفه ودفعه فسقط في مهواة، يقال: دهور الكلام، أي: قحم بعضه في أثر بعض، ويقال: دهور اللقم أدارها والتهمها. اللسان (دهر)..
١٤ المرجع السابق..
١٥ معاني القرآن وإعرابه ٤/٩٤..
١٦ ما بين القوسين في ب: بعضهم. وهو تحريف..
﴿ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ أتباعه من الجن والإنس. وقيل : ذريته١.
١ انظر البغوي ٦/٢٢٥..
قوله :﴿ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴾ جملة حالية١ معترضة بين القول ومعموله ومعمول الجملة القسمية٢.
١ حالية: سقط من الأصل..
٢ انظر البحر المحيط ٧/٢٧..
قوله :﴿ إِن كُنَّا لَفِي ﴾. مذهب البصريين : أن «إن » مخففة، واللام فارقة. ومذهب الكوفيين : أن «إن »١ نافية، واللام بمعنى «إلا »٢.

فصل :


المعنى : قال الغاوون للشياطين والمعبودين ﴿ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴾ مع المعبودين، ويجادل بعضهم بعضا :﴿ تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ يذكرون ذلك حين يروا صورها على وجه الاعتراف ( بالخطأ العظيم وعلى )٣ وجه الندامة لا على وجه المخاطبة، لأنها جماد لا تخاطب، وأيضاً فلا ذَنْبَ لها بأن عَبَدها غيرها. ومما يدل على أن ذلك ليس بخطاب لها في الحقيقة قولهم :" وما أضلَّنا إلا المجرمون " ٤ قوله :" إذ نسويكم ". " إذ " منصوب إما ب " مبين " ٥، وإما بمحذوف، أي : ضللنا في وقت تسويتنا لكم بالله في العبادة٦. ويجوز على ضعف أن يكون معمولا ل " ضلال "، والمعنى عليه إلا أن ضعفه صناعيّ وهو أن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه٧.
١ في ب: نا. وهو تحريف..
٢ انظر الإنصاف المسألة (٩٠) ٢/٦٤٠-٦٤٣، البحر المحيط ٧/٢٧، ائتلاف النصرة (١٥٥-١٥٦)..
٣ ما بين القوسين في النسختين: والخطأ العظيم على. والتصويب من الفخر الرازي..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٢..
٥ في الآية التي تسبقها من السورة نفسها..
٦ انظر التبيان ٢/٩٩٨..
٧ المرجع السابق..

فصل :


" نُسَوِّيكُمْ " نَعْدِلُكُم " بِربِّ العَالَمِينَ " فنعبدكم،
" وَمَا أَضَلَّنَا " : دعانا١ إلى الضلال " إِلاَّ المُجْرِمُونَ ". قال مقاتل : يعني : الشياطين٢.
وقال الكلبي : إلا أولونا الذين اقتدينا ( بهم )٣ ٤.
١ في ب: ادعانا..
٢ انظر البغوي ٦/٢٢٥..
٣ المرجع السابق..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴾ أي : من يشفع لنا ؟ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين والمؤمنين،
" وَلاَ صَدِيقٍ " وهو الصادق في المودة بشرط الدين. قال جابر بن عبد الله : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :" إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقُولُ فِي الجَنَّةِ : ما فَعَلَ صَدِيقي فُلان ؟ وصَديقُه في الجحيم، فَيَقُولُ الله تعالى : أخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إلى١ الجَنَّة. فيقول مَنْ بَقِيَ : فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ " ٢.
قال الحسن :" استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإن لهم شفاعة يوم القيامة " ٣ والحميم : القريب، من قولهم : حامة فلان، أي : خاصته٤.
وقال الزمخشري : الحميم : من الاحتمام، وهو الاهتمام أو من الحامة٥ وهي الخاصة، وهو الصديق الخالص٦ والنفي هنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط٧، فهو من باب :
٣٩١٤- عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ٨ ***. . .
و " الصديق " يحتمل أن يكون مفرداً وأن يكون مستعملاً للجمع، كما يستعمل العَدو لَهُ، فيقال٩ : هم صديق، وهم عدو، وقد تقدم١٠. وإنما جمع " الشافعين " ووحَّد " الصديق " لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق١١.
١ في الأصل: في..
٢ ذكره البغوي بسنده ٦/٢٢٥-٢٢٦..
٣ انظر البغوي ٦/٢٢٦..
٤ انظر اللسان (حمم)..
٥ في ب: الحمامة. وهو تحريف..
٦ الكشاف: ٣/١١٩..
٧ لأنه إذا انتفت صفة الصديق فلا فائدة فيه، فيصير كأنه معدوم. البحر المحيط ٧/٢٨..
٨ صدر بيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس: وعجزه:
إذا سافه العود النباطيّ جرجرا ***...
وقد تقدم..

٩ في ب: يقال..
١٠ انظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/٢٨٨-٢٩٠، الكشاف ٣/١٢٠..
١١ انظر الكشاف ٣/١١٨..
قوله :﴿ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾ لَوْ١ يجوز أن تكون المُشرَبَة معنى٢ التمني، فلا جواب لها على المشهور، ويكون نصب " فَنَكُونَ " جواباً للتمني الذي أَفْهَمتهُ " لَوْ " ٣ ويجوز أن تكون على بابها، وجوابها محذوف، أي : لوَجَدْنا شفعاء وأصدقاء، أو لعملنا صالحاً٤ وعلى هذا فنصب الفعل ب " أن " مضمرة عطفاً على " كرة " أي : لو أنَّ لَنَا كَرَّةً ( فكوناً )٥ كقولها :
٣٩١٠ _ لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي٦ ***. . .

فصل :


قال الجبائي : قولهم :﴿ فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ليس بخبر عن إيمانهم، لكنه خبر عن عزمهم، لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله :﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾٧ [ الأنعام : ٢٨ ] وقد تقدم في سور الأنعام بيان فساد هذا الكلام٨.
١ لو: سقط من ب..
٢ في ب: معنى..
٣ انظر الكشاف ٣/١٢٠، البيان ٢/٢١٥، أمالي ابن الشجري ١/٢٨٠، البحر المحيط ٧/٢٠..
٤ انظر الكشاف ٣/١٢٠، التبيان ٢/٩٩٨، البحر المحيط ٧/٢٠..
٥ فكوناً: تكملة ليست في المخطوط..
٦ صدر بيت من الوافر قالته ميسون بنت بحدل زوج معاوية بن أبي سفيان وعجزه:
أحبُّ إليَّ من لبس الشُّفوف ***...
وهو في الكتاب ٣/٤٥، المقتضب ٢/٢٦، أمالي ابن الشجري ١/٢٨٠، ابن يعيش ٧/٢٥، المغني ١/٢٦٧، ٢٨٣، ٢/٣٦١، ٤٧٩، ٥٥١، التصريح ٢/٢٤٤، الهمع ٢/١٧، شرح شواهد المغني ٢/٦٥٣، ٧٧٨، الأشموني ٣/٣١٣، الخزانة ٨/٥٩٣، الدرر ٢/١٠. العباءة: جبة الصوف. قرَّت عينه: بردت، كناية عن السرور والرضا. الشفوف: جمع شف- بكسر السين وفتحها- وهو الثوب الرقيق يصف البدن. والشاهد فيه نصب (تقر) بإضمار (أن) بعد الواو، ليعطف على اللبس، لأنه اسم و (تقر) فعل، فلا يمكن عطفه عليه، فحمل على إضمار (أن)، لأن (أن) وما بعدها اسم، فعطف اسماً على اسم وجعل الخبر عنهما واحداً، وهو (أحب)..

٧ [الأنعام: ٢٨]. وانظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٣..
٨ انظر اللباب ٣/٣٩٨-٣٩٩..
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ أي : فيما ذكره من قصة إبراهيم - عليه السلام١ - لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُؤْمِنِينَ ﴾ حمله أكثر المفسرين على ( قوم إبراهيم، ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به، فيكون هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يجده )٢ من تكذيب٣ قومه٤.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ ما بين القوسين بياض في الأصل، وسقط من ب، وهو من الفخر الرازي..
٣ في ب: من كذب..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٣..
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ أي : أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا١.
١ المرجع السابق..
(قوم إبراهيم، ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به، فيكون هذا تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يجده) من تكذيب قومه. و" إن ربك لهو العزيز الرحيم " أي: أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا. قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين﴾ الآيات. لما قصَّ على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبر موسى وإبراهيم - عليهما السلام - تسلية له مما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره، لأنه دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذبه قومه.
قوله: «كَذَّبَتْ» إنما أَنتَ فعل القوم لأنه مؤنث بدليل تصغير «القوم» على (قُوَيْمَة) وقيل: لأن القوم بمعنى أُمَّةٍ، ولما كانت آحاده عقلاء ذكوراً وإناثاً عاد الضمير عليه باعتبار تغليب الذكور، فقيل: لهم أخوهم. وحكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين:
أحدهما: أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف من حيث المعنى؛ لأن كل واحد من المرسلين جاء بما جاء به الآخر، فلذلك حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين.
وثانيهما: أن قوم نوح كذبوا جميع رسل الله، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة.
55
قوله: «أَخُوهُمْ» لأنه كان منهم، من قول العرب: يا أخا بني تميم. يريدون يا واحداً منهم، فهو أخوهم في النسب لا في الدين «أَلاَ تَتَّقُونَ» أي: عقاب الله، فحذف مفعول (تَتَّقُونَ).
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي: على الوحي، وكان مشهوراً فيهم بالأمانة كمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قريش، فكأنه قال: كنتُ أميناً من قبل، فكيف تتهمونني اليوم؟ ثم قال: «فاتَّقُوا الله» بطاعته وعبادته «وأَطِيْعُون» فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد، ﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي: على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة. لئلا يظن به أنه دعاهم رغبة في الدنيا، ثم قال: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾. فإن قيل: فلماذا كرر الأمر بالتقوى؟
فالجواب: لأنه في الأول أراد: ألا تتقون مخالفتي، وأنا رسول الله، وفي الثاني: ألا تتقون مخالفتي ولست آخذاً منكم أجراً، فهو في المعنى مختلف، ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً، ألا تتقي الله وقد علمتك كبيراً. وإنما قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته، فقدم العلة على المعلول.
قوله ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون﴾ «وَاتَّبَعَ» جملة حالية من كاف «لك».
قال الزمخشري: والواو للحال، وحقها أن يضمر بعدها (قد) وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة: «وَأَتْبَاعُكَ» مرفوعاً جمع تابع «كَصَاحِبٍ وَأَصْحَاب» أو تَبيع ك «شَرِيْف وأَشْرَاف»، أو «تبع» ك (برم وأَبْرام) وفي رفعه وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، و «الأَرْذَلُونَ» خبره، والجملة حالية أيضاً.
والثاني: أنه عطف على الضمير المرفوع في «نُؤْمِنُ»، وحسَّنَ ذلك الفصل بالجار، و «الأَرْذَلُونَ» صفته.
56
وقرأ اليمانيُّ: «وأَتْبَاعِكَ» بالجر عطفاً على الكاف في «ذَلِكَ» وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين، وعلى هذا فيرتفع «الأَرْذَلُونَ» على خبر ابتداء مضمر، أي: هم الأرذلون وقد تقدم مادّةُ «الأَرْذَلِ» في هود.

فصل


الرذالة: الخِسَّة والذِّلة، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا.
وقيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحِجَامَة.
وهذه الشبهة في غاية الركاكة، لأن نوحاً - عليه السلام - بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق، وهو قوله: ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم.
قوله: «وَمَا عِلْمِي» يجوز في «مَا» وجهان:
أظهرهما: أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «عِلْمِي» خبرها، والباء متعلقة به.
والثاني: أنها نافية، والباء متعلقة ب «علمي» أيضاً، قاله الحوفي. ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به (جملة).
57
قوله: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي﴾ «إِنْ» نافية، أي: ما حسابهم إلا على ربي، ومعناه: لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى.
قوله: «لَوْ تَشْعُرُوْن» جوابها محذوف، ومفعول «تشعرون» أيضاً، والمعنى «لَوْ تَشْعُرُونَ» تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم.
قال الزجاج: الصناعات لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ. وقيل: معناه: إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم.
وقرأ الأعرج وأبو زُرعة: «لَوْ يَشْعُرُونَ» بياء الغيبة، هو التفات، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين﴾ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم، وقد آمنوا به، وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً: فقال: ﴿إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي: إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا: ﴿لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المجرمين﴾.
قال مقاتل والكلبي: من المقتولين بالحجارة.
وقال الضحاك: من الشمئومين. فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم، وقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾. وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة، ولكنه أراد: لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك: ﴿فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ أي: فاحكم بيني وبينهم.
و «فَتْحاً» يجوز أن يكون مفعولاً به بمعنى المفتوح، وان يكون مصدراً مؤكداً. والفَتَاحَةُ: الحكومة. والفَتَّاح: الحكم، لأنه يفتح المستغلق. والمراد إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه: «وَنَجِّنِي»، ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى.
58
قوله: «وَنَجِّنِي» المُنجَّى «منه محذوف لفهم المعنى، أي: مما يَحِلُّ بقومي، و» مِنَ المُؤْمِنِينَ «بيان لقوله:» مَنْ مَعِيَ «.
قوله: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون﴾.
قال الزمخشري: الفُلك: السفينة، واحدها: فُلْك، قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ﴾ [النحل: ١٤] فالواحد بوزن (قُفْل) والجمع بوزن (أًسْد) وَالمَشْحُون:»
المَمْلُوء المُوقَر «، يقال: شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورجَالاً أي ملأها والشَّحْنَاء: العداغوة لأنهما تملأ الصدور إحناً. والفُلْك هنا مفرد بدليل وصفه بالمرفد، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة.

فصل


دلَّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن الفك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات، ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾.
59
قوله :«أَخُوهُمْ » لأنه كان منهم، من قول العرب : يا أخا بني تميم. يريدون يا١ واحداً منهم٢، فهو أخوهم في النسب لا في الدين «أَلاَ تَتَّقُونَ » أي : عقاب الله، فحذف مفعول ( تَتَّقُونَ )٣.
١ يا: سقط من ب..
٢ انظر الكشاف ٣/١٢٠..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٣٠..
﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ أي : على الوحي، وكان مشهوراً فيهم بالأمانة كمحمد - صلى الله عليه وسلم - في قريش، فكأنه قال : كنتُ أميناً من قبل، فكيف تتهمونني اليوم١ ؟
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٤..
ثم قال :
«فاتَّقُوا١ الله » بطاعته وعبادته «وأَطِيْعُون » فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد،
١ في ب: واتقوا..
﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ أي١ : على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة. لئلا يظن به أنه دعاهم رغبة في الدنيا،
١ أي: سقط من ب..
ثم قال :
﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ ﴾. فإن قيل : فلماذا كرر الأمر بالتقوى ؟.
فالجواب : لأنه في الأول أراد : ألا تتقون١ مخالفتي، وأنا رسول الله، وفي الثاني : ألا تتقون٢ مخالفتي ولست٣ آخذاً منكم أجراً، فهو في المعنى مختلف، ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً، ألا تتقي الله وقد علمتك كبيراً. وإنما قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله٤ علة لطاعته، فقدم العلة على المعلول٥.
١ في الأصل: ألا تتقوا..
٢ في الأصل: ألا تتقوا..
٣ في ب: وليست. وهو تحريف..
٤ لفظ الجلالة: سقط من ب..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٤-١٥٥..
قوله :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ «وَاتَّبَعَك » جملة حالية من كاف «لك ».
قال الزمخشري : والواو للحال، وحقها أن يضمر بعدها ( قد )١ وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة :«وَأَتْبَاعُكَ » مرفوعاً٢ جمع تابع «كَصَاحِبٍ وَأَصْحَاب » أو تَبيع ك «شَرِيْف وأَشْرَاف »، أو «تبع » ك ( برم٣ وأَبْرام )٤ وفي رفعه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأ، و «الأَرْذَلُونَ » خبره٥، والجملة حالية أيضاً٦.
والثاني : أنه عطف على الضمير المرفوع في «نُؤْمِنُ »، وحسَّنَ ذلك الفصل بالجار، و «الأَرْذَلُونَ » صفته٧.
وقرأ اليمانيُّ :«وأَتْبَاعِكَ » بالجر٨ عطفاً على الكاف في «ذَلِكَ » وهو ضعيف أو ممنوع عند البصريين٩، وعلى هذا فيرتفع «الأَرْذَلُونَ » على خبر ابتداء مضمر، أي : هم الأرذلون١٠ وقد تقدم مادّةُ «الأَرْذَلِ »١١ في هود١٢.

فصل :


الرذالة : الخِسَّة والذِّلة، وإنما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم وقلة نصيبهم في الدنيا.
وقيل : كانوا من١٣ أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة١٤ والحِجَامَة١٥.
وهذه الشبهة في غاية الركاكة، لأن نوحاً - عليه السلام١٦ - بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب وخستها، فأجابهم نوح عنه بالجواب الحق، وهو قوله :﴿ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
١ انظر الكشاف ٣/١٢٠..
٢ قال الفراء: (وذكر أن بعض القراء قرأ: "وأتباعك الأرذلون" ولكني لم أجده عن القراء المعروفين، وهو وجه حسن) معاني القرآن ٢/٢٨١. وانظر المحتسب ٢/١٣١، تفسير ابن عطية ١١/١٣٢-١٣٣، البحر المحيط ٧/٣١، الإتحاف (٣٣٣)..
٣ البرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، والجمع أبرام، وهو اللئيم. اللسان (برم)..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٣١..
٥ انظر المحتسب ٢/١٣٢، التبيان ٢/٩٩٨..
٦ انظر التبيان ٢/٩٩٨..
٧ انظر المحتسب ٢/١٣١، التبيان ٢/٩٩٨..
٨ البحر المحيط ٧/٣١..
٩ ووجه ضعفه عند البصريين أو امتناعه أنه لا بد من إعادة حرف الجر مع المعطوف وحجتهم في ذلك أن الجار مع المجرور بمنزلة شيء واحد، فإذا عطفت على الضمير المجرور- والضمير إذا كان مجروراً اتصل بالجار، ولم ينفصل منه، ولهذا لا يكون إلا متصلاً، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب- فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجار، وعطف الاسم على الحرف لا يجوز. وأجاز ذلك الكوفيون محتجين بقراءة حمزة في أول سورة النساء: ﴿واتَّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ بجر الأرحام" عطفاً على الهاء في "به". انظر الإنصاف المسألة (٦٥) ٢/٤٦٣-٤٧٤..
١٠ انظر البحر المحيط ٧/٣١..
١١ في ب: الأرذلون..
١٢ عند قوله تعالى: ﴿وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرَّأي﴾ [٢٧]..
١٣ من: سقط من ب..
١٤ حاك الثوب يحوكه حوكاً وحياكاً وحياكة: نسجه. اللسان (حوك)..
١٥ الحجامة: حرفة الحجام، والحجَّام: محترف الحجامة. المعجم الوسيط (حجم) وانظر الكشاف ٣/١٢٠، الفخر الرازي ٢٤/١٥٥..
١٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
﴿ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾١ أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، وليس عليّ من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء، إنما كُلِّفت أن أدعوهم إلى الله ولي منهم ظاهر أمرهم٢.
قوله :«وَمَا عِلْمِي » يجوز في «مَا »٣ وجهان :
أظهرهما : أنها استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «عِلْمِي » خبرها٤، والباء متعلقة به.
والثاني : أنها نافية، والباء متعلقة ب «علمي » أيضاً، قاله الحوفي٥. ويحتاج إلى إضمار خبر ليصير الكلام به ( جملة )٦ ٧.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٥..
٢ انظر البغوي ٦/٢٢٧..
٣ في ب: فيه..
٤ قال الزمخشري: ("وما علمي" أيُّ شيء علمي) الكشاف ٣/١٢٠..
٥ انظر البحر المحيط ٧/٣١..
٦ المرجع السابق، وهو اعتراض أبي حيان..
٧ ما بين القوسين في ب: جملة اسمية..
قوله :﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي ﴾ «إِنْ » نافية، أي : ما حسابهم إلا على ربي، ومعناه : لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى١.
قوله :«لَوْ تَشْعُرُون » جوابها محذوف٢، ومفعول «تشعرون »٣ أيضاً٤، والمعنى «لَوْ تَشْعُرُونَ » تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم٥.
قال الزجاج : الصناعات٦ لا تَضُرُّ في الدِّيَانَاتِ٧. وقيل : معناه : إني لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم، ويوفقهم ويخذلكم٨.
وقرأ الأعرج وأبو زُرعة :«لَوْ يَشْعُرُونَ » بياء الغيبة٩، هو التفات، ولا يحسُنُ عَوْدُه على المؤمنين١٠.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٥..
٢ انظر القرطبي ١٣/١٢١..
٣ في الأصل: تحشرون. وهو تحريف..
٤ وقدره أبو حيان: بأن المعاد حق والحساب حق. البحر المحيط ٧/٣١..
٥ انظر البغوي ٦/٢٢٧..
٦ في ب: الصانع. وهو تحريف..
٧ معاني القرآن وإعرابه ٤/٩٥..
٨ انظر البغوي ٦/٢٢٧..
٩ المختصر (١٠٧)، البحر المحيط ٧/٣١..
١٠ انظر القرطبي ١٣/١٢١..
قوله :﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ المؤمنين ﴾ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم فبيّن أن الدين يمنعه عن طردهم، وقد آمنوا به،
وبيَّن أن الغرض من تحمل الرسالة كونه نذيراً : فقال :﴿ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ أي : إني أُخَوِّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد،
فلما أجابهم بهذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا :
﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين ﴾١.
قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة٢.
وقال الضحاك : من المشئومين٣.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٥..
٢ انظر البغوي ٦/٢٢٧..
٣ انظر البغوي ٦/٢٢٧-٢٢٨..
فعند ذلك حصل اليأس لنوح من فلاحهم، وقال :
﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ﴾. وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه بأنه عالم الغيب والشهادة، ولكنه أراد : لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوك في وحيك ورسالتك :
﴿ فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ﴾ أي : فاحكم بيني وبينهم١.
و «فَتْحاً » يجوز أن يكون مفعولاً به بمعنى المفتوح، وأن يكون مصدراً مؤكداً٢. والفَتَاحَةُ : الحكومة. والفَتَّاح : الحاكم، لأنه يفتح المستغلق٣. والمراد : إنزال العقوبة عليهم لقوله عقيبه :«وَنَجِّنِي »، ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى٤.
قوله :«وَنَجِّنِي » المُنجَّى منه محذوف لفهم المعنى، أي : مما يَحِلُّ بقومي٥، و «مِنَ المُؤْمِنِينَ » بيان لقوله :«مَنْ٦ مَعِيَ ».
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٥..
٢ انظر التبيان ٢/٩٩٩..
٣ انظر الكشاف ٣/١٢١..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٥..
٥ انظر البحر المحيط ٧/٣٢..
٦ في ب: ومن..
قوله :﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الفلك المشحون ﴾.
قال الزمخشري : الفُلك : السفينة، واحدها : فُلْك، قال الله تعالى :﴿ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾ [ النحل : ١٤ ] فالواحد بوزن ( قُفْل )١ والجمع بوزن ( أُسْد )٢ وَالمَشْحُون :«المَمْلُوء المُوقَر »، يقال : شَحَنَها عليهم خَيْلاً ورجَالاً أي ملأها٣ والشَّحْنَاء : العداوة لأنهما تملأ الصدور إحناً٤. والفُلْك هنا مفرد بدليل وصفه بالمفرد، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة٥.

فصل :


دلَّت الآية على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم من الحيوانات،
١ في النسختين: فعل. والتصويب من الكشاف..
٢ الكشاف ٣/١٢١..
٣ ما بين القوسين وزيادة يظهر بها المعنى..
٤ انظر اللسان (شحن)..
٥ عند قوله تعالى: ﴿... والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس﴾ [البقرة: ١٦٤]..
ثم إنه تعالى بعد أن نجاهم أغرق الباقين فقال :﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم ﴾١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٥-١٥٦..
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين﴾ الآية. الكلام في فاتحة هذه القصة كالكلام في فاتحة قصة نوح. وقوله: «تَعْبَثُون» جملة حالية من فاعل «تبنون». والرِّيعْ - بكسر الراء وفتحها -: جمع «رِيْعَة» وهو في اللغة: المكان المرتفع، قال ذو الرمّة.
59
٣٩١٦ - طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرِقٌ فَوْقَ رِيْعَةٍ نَدَى لَيْلِهِ فِي ريْشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وقال أبو عبيدة: وهو الطريق، وأنشد للمسيَّب بن علس يصف ظعناً:
٣٩١٧ - فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرفَعُهَا رِيْعٌ يَلُوْحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ
والرَّيع - بالفتح -: ما يحصل في الخراج.

فصل


قال الوالبي عن ابن عباس: الرَّيْع: كل شرف. وقال الضحاك ومقاتل: بكل طريق وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وعن مجاهد قال: هو الفج بين جبلين وعنه أيضاً أنه المنظر. و «الآية» : العَلَم.
قال ابن عباس: كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبثون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود - عليه السلام -. وقيل: كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم، فنهُوا عنه، ونسبوا إلى العبث. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: هي بروج الحمام، لأنهم كانوا يلعبون بالحمام.
قوله: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ قال مجاهد: قصوراً مُشَيَّدة.
واحدتها مَصْنَعة. «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون». العامة على تخفيفه مبنياً للفاعل. وقتادة: بالتشديد مبنياً للمفعول، ومنه قور امرىء القيس:
60
و «لَعَل» هنا على بابها. وقيل: للتعليل. ويؤيده قراءة عبد الله: «كَيْ تَخْلِدُون».
وقيل: للاستفهام، قاله زيد بن عليّ، وبه قال الكوفيون. وقيل: معناه التشبيه، أي: كأنكم تخلدون. ويؤيده ما في حرف أبيّ: «كَأَنَّكم تُخلدون» بضم التاء مخففاً ومشدداً. وقرىء: «كأَنَّكُم خَالِدُونَ» ولم يعلم من نصب عليها أنها تكون للتشبيه. والمعنى: كأنكم تبقون فيها خالدين. قوله: «وَإِذَا بَطَشْتُم» أي: وإذا أردتم، وإنما احتجنا إلى تقدير الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء، و «جَبَّارِين» حال. واعلم أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، وهذه صفات الإِلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد ولما ذكر هود هذه الأشياء قال: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾ زيادة في دعائهم إلى الآخرة، وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والتجبر، ثم وصل هذا الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم فقال: ﴿واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: أعطاكم من الخير ما تعلمون، ثم فصل ذلك الإعطاء فقال] :﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ أي: بساتين وأنها، ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾.
قال ابن عباس: «إِن عَصَيْتُمُوني» عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم.
قوله: «أَمَدَّكُم بأَنْعَام» فيه وجهان:
أحدهما: أن الجملة الثانية بيان للأولى وتفسير لها.
والثاني: أن «بأنعام» بدل من قوله: «بِمَا تَعْلَمُون» بإعادة العامل، كقوله: ﴿اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ (أَجْراً) ﴾ [يس: ٢٠ - ٢١].
قال أبو حيان: والأكثرون لا يجعلون هذا بدلاً وإنما يجعلونه تكريراً، وإنما يجعلون بدلاً بإعادة العامل إذا كان حرف جر من غير إعادة متعلقه نحو: «مَرَرْتُ بزيد بأخيك» ولا يقولون: «مررت بزيد مررت بأخيط» على البدل.
قوله: ﴿أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين﴾ معادلة لقوله: «أَوَعَظْتَ». وإنما أتى بالمعادل كذا
61
دون قوله: «أم لم تعظ» لتواخي الفواصل. وأبدى له الزمخشري معنى فقال: وبينهما فرق، لأن المعنى: سواء علينا أفلعت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك: «أم لم تعظ».
وقرأ العامة: «أَوَعَظْتَ» بإظهار الظاء قبل التاء. وروي عن أبي عمرو والكسائي وعاصم، وبها قرأ الأعمش وابن محيصن بالإدغام. وهي ضعيفة، لأن الظاء أقوى، ولا يدغم الأقوى في الأضعف، على أنه قد جاء من هذا في القرآن العزيز أشياء متواترة يجب قبولها نحو: «زُحْزِحَ عَنْ» و «لَئِنْ بَسَطْتَ».

فصل


لما وعظهم ورغبهم وخوفهم أجابهوه بقولهم: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا» أي: مستو عدنا أوعظت أم لم تكن من الواعظين أظهروا قلة أكتراثهم بكلامه، ثم قالوا: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين﴾. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وسكون اللام، أي: اختلاق الأولين وكذبهم، كقوله: «وَتَخْلُقُونَ إفْكاً» والباقون بضمتين. فقيل: معناهما: الاختلاق، وهو الكذب. وكذا قرأ ابن مسعود. وقيل: عادة الأولين من قبلنا حياة وموت هو خلق الأولين وعادتهم. وروى الأصمعي عن نافع، وبها قرأ أبو قلابة ضم الخاء وسكون اللام، وهي تخفيف المضمومة. ثم قالوا: {وَمَا نَحْنُ
62
بِمُعَذَّبِينَ} أظهروا بذلك تقوية نفسوهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم، وقد سبق بيان كيفية الهلاك.
63
وقوله :«تَعْبَثُون » جملة حالية من فاعل «تبنون »١. والرِّيعْ - بكسر الراء وفتحها - : جمع «رِيْعَة » وهو في اللغة : المكان المرتفع٢، قال ذو الرمّة :
٣٩١٨ - وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ قَلِيْلُ الهُمُوْم مَا يَبيْتُ بِأَوْجَال
٣٩١٦ - طِرَاقُ الخَوَافِي مُشْرِقٌ فَوْقَ رِيْعَةٍ نَدَى لَيْلِهِ فِي ريْشِهِ يَتَرَقْرَقُ٣
وقال أبو عبيدة : وهو٤ الطريق٥، وأنشد للمسيَّب بن علس٦ يصف ظعناً :
٣٩١٧ - فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرفَعُهَا رِيْعٌ يَلُوْحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ٧
والرَّيع - بالفتح - : ما يحصل في الخراج.

فصل :


قال الوالبي عن ابن عباس : الرَّيْع : كل شرف٨. وقال الضحاك ومقاتل : بكل طريق٩ وهو رواية العوفي عن ابن عباس١٠. وعن مجاهد قال : هو الفج بين جبلين١١ وعنه أيضاً أنه المنظر١٢. و «الآية » : العَلَم.
قال ابن عباس : كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبثون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود١٣ - عليه السلام١٤ -. وقيل : كانوا يبنون في١٥ الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم، فنهُوا عنه، ونسبوا إلى العبث١٦. وقال سعيد بن جبير ومجاهد : هي بروج الحمام، لأنهم كانوا يلعبون بالحمام١٧.
١ انظر التبيان ٢/٩٩٩..
٢ انظر اللسان (ريع)..
٣ البيت من بحر الطويل، قاله ذو الرمة. وقد تقدم..
٤ في ب: هو..
٥ مجاز القرآن ٢/٨٨..
٦ هو زهير بن علس بن مالك، والمسيَّب لقبٌ لقِّب به ببيت، وهو من شعراء بكر بن وائل المعدودين وخال الأعشى. الخزانة ٣/٢٤٠..
٧ البيت من بحر الكامل قاله المسيب بن علس، وهو في تفسير ابن عطية ١١/١٣٥، القرطبي ١٣/١٢٢، اللسان (ريع)، البحر المحيط ٧/٢٩-٣٠، شرح شواهد الكشاف (١٠٠) الآل: السراب. الرّيع: الطريق. وهو موطن الشاهد. يلوح: يتراءى. السحل: الثوب الأبيض..
٨ انظر البغوي ٦/٢٢٩..
٩ انظر البغوي ٦/٢٢٩..
١٠ في ب: رضي الله عنهما..
١١ انظر البغوي ٦/٢٢٩..
١٢ انظر البغوي ٦/٢٢٩..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٧..
١٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٥ في: تكملة من الفخر الرازي..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٧..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٢٩..
قوله١ :﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ قال مجاهد : قصوراً مُشَيَّدة٢.
وقال الكلبي : هي الحصون٣. وقال قتادة : مآخذ الماء يعني : الحياض، واحدتها مَصْنَعة٤. «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون ». العامة على تخفيفه مبنياً للفاعل. وقتادة : بالتشديد مبنياً للمفعول٥، ومنه قول امرىء القيس :
٣٩١٨ - وَهَلْ يَنْعَمَنْ إِلاَّ سَعِيْدٌ مُخَلَّدٌ قَلِيْلُ الهُمُوْم مَا يَبيْتُ بِأَوْجَال٦
و «لَعَل » هنا على بابها. وقيل : للتعليل. ويؤيده قراءة عبد الله :«كَيْ تَخْلِدُون »٧.
وقيل : للاستفهام، قاله زيد بن عليّ، وبه قال الكوفيون. وقيل : معناه التشبيه، أي : كأنكم تخلدون. ويؤيده ما في حرف أبيّ :«كَأَنَّكم تُخلدون » بضم التاء مخففاً ومشدداً٨. وقرىء :«كأَنَّكُم خَالِدُونَ »٩ ولم يعلم من نص عليها أنها تكون للتشبيه. والمعنى : كأنكم تبقون فيها خالدين.
١ قوله: سقط من الأصل..
٢ انظر البغوي ٦/٢٢٩..
٣ المرجع السابق..
٤ المرجع السابق..
٥ قال ابن خالويه: ("لعلَّكم تخلدون" قتادة، "تخلَّدون" بالتشديد أبو العالية) المختصر (١٠٧). وكذا في البحر المحيط ٧/٣٢، وقال ابن جني (ومن ذك قراءة قتادة: "لعلَّكم تخلدون") المحتسب ٢/١٣٠..
٦ البيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس، وهو في ديوانه (٢٧)، المحتسب ٢/١٣٠، الحماسة البصرية ١/١٢٦، البحر المحيط ٧/٣٣. وأتى به استئناساً لقراءة التشديد، ويعني بالمخلد المنعم المرفه الذي يلبس الخلد، وهو السِّوار أو القرط. الأوجال: جمع وجل، وهو الفزع..
٧ انظر البحر المحيط ٧/٣٢..
٨ انظر البحر المحيط ٧/٣٢..
٩ انظر القرطبي ١٣/١٢٤، البحر المحيط ٧/٣٢..
قوله :«وَإِذَا بَطَشْتُم » أي : وإذا١ أردتم، وإنما احتجنا إلى تقدير الإرادة لئلا يتحد الشرط والجزاء٢، و «جَبَّارِين » حال. واعلم أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب الدنيا، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، وهذه صفات الإِلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد٣
١ في ب: أي إذا..
٢ انظر البحر المحيط ٧/٣٣..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٧..
ولما ذكر هود١ هذه الأشياء قال :
﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ ﴾ زيادة في دعائهم إلى الآخرة، وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والتجبر، ثم وصل هذا الوعظ بما يؤكد القبول بأن نبههم على نعم الله تعالى عليهم فقال :
١ في ب: ولما جرد ذكر..
﴿ واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ [ بِمَا تَعْلَمُونَ ﴾ أي : أعطاكم من الخير ما تعلمون
قوله :«أَمَدَّكُم بأَنْعَامٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أن الجملة الثانية بيان للأولى وتفسير لها٢.
والثاني : أن٣ «بأنعام » بدل من قوله :«بِمَا تَعْلَمُون » بإعادة العامل٤، كقوله :﴿ اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَ يَسْأَلُكُمْ ( أَجْراً )٥ ٦ [ يس : ٢٠ - ٢١ ].
قال أبو حيان : والأكثرون لا يجعلون هذا بدلاً وإنما يجعلونه تكريراً٧، وإنما يجعلون بدلاً بإعادة العامل إذا كان حرف جر من غير إعادة متعلقه نحو :«مَرَرْتُ بزيد بأخيك » ولا يقولون :«مررت بزيد مررت بأخيك » على البدل٨.
ثم فصل ذلك الإعطاء فقال ]١ :
﴿ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾٢ أي : بساتين وأنهار،
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٧..
﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾.
قال ابن عباس :«إِن عَصَيْتُمُوني »١ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم.
١ انظر البغوي ٦/٢٣٠..
قوله :﴿ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعظين ﴾ معادل لقوله :«أَوَعَظْتَ ». وإنما أتى بالمعادل كذا دون قوله :«أم لم تعظ » لتواخي الفواصل١. وأبدى له الزمخشري معنى فقال : وبينهما فرق، لأن المعنى : سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك :«أم لم تعظ »٢.
وقرأ العامة :«أَوَعَظْتَ »٣ بإظهار الظاء قبل التاء. وروي عن أبي عمرو والكسائي وعاصم، وبها قرأ الأعمش وابن محيصن بالإدغام٤. وهي ضعيفة٥، لأن الظاء أقوى، ولا يدغم الأقوى في الأضعف، على أنه قد جاء من هذا في القرآن العزيز أشياء متواترة يجب قبولها نحو :«زُحْزِحَ عَنْ »٦ و «لَئِنْ بَسَطْتَ »٧.

فصل :


لما وعظهم ورغبهم وخوفهم أجابوه بقولهم :«سَوَاءٌ عَلَيْنَا » أي : مستو عندنا أوعظت أم لم تكن من الواعظين أظهروا قلة أكتراثهم بكلامه٨،
١ في النسختين: القوافي. والأدق ما أثبته..
٢ الكشاف ٣/١٢٢..
٣ في ب: وعظت..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٣٣..
٥ حكم أبو حيان على هذه القراءة بأنها خلاف الأفصح، فإنه قال في معرض حديثه عنها: ( وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس) البحر المحيط ٧/٣٣، وسيبويه ذكر أن مثل هذا الإدغام جائز فإنه قال: ( وكذلك الظاء لأنهما إذا كانا منفصلين، يعني الظاء وبعدها التاء، جاز البيان، ويترك الإطباق على حاله إن أدغمت، فلما صارا في حرف واحد ازداد ثقلاً، إذ كانا يستثقلان منفصلين، فألزموها ما ألزموا الصاد والتاء، فأبدلوا مكانها أشبه الحروف بالظاء وهي الطاء ليكون العمل من وجه واحد) الكتاب ٤/٤٦٨، وظاهر هذا أنها تنطق: أَوَعَطَّ. والفراء ذكر أنهم قد يحولون الظاء تاء في قوله: "أوعتَّ أم لم تكن من الواعظين". معاني القرآن ٢/٢٨٩. وظاهر كلام الفراء أن مثل هذا لغة من لغات العرب..
٦ من قوله تعالى: ﴿فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنَّة فقد فاز﴾ [آل عمران: ١٨٥]..
٧ من قوله تعالى: ﴿لئن سطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا باسطٍ دي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربَّ العالمين﴾ [المائدة: ٢٨]..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٧..
ثم قالوا :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين ﴾. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وسكون اللام، أي : اختلاق الأولين وكذبهم، كقوله :«وَتَخْلُقُونَ إفْكاً »١ والباقون بضمتين٢. فقيل : معناهما : الاختلاق، وهو الكذب. وكذا قرأ ابن مسعود٣. وقيل : عادة الأولين من قبلنا حياة وموت هو٤ خلق الأولين وعادتهم٥. وروى الأصمعي عن نافع، وبها قرأ أبو قلابة ضم الخاء وسكون اللام٦، وهي تخفيف المضمومة.
١ من قوله تعالى: ﴿إنَّما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً﴾[العنكبوت: ١٧]..
٢ السبعة (٤٧٢)، الكشف ٢/١٥١، النشر ٢/٣٣٥-٣٣٦، الإتحاف (٣٣٣)..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٣٣-٣٤..
٤ في ب: وهو..
٥ انظر البحر المحيط ٧/٣٤..
٦ المختصر (١٠٧)، تفسير ابن عطية ١١/١٣٧، البحر المحيط ٧/٣٤..
ثم قالوا :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد، فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم، وقد سبق بيان كيفية الهلاك١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٨..
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين﴾ تقدم نظيره.
وقُوله: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا [هَاهُنَآ آمِنِينَ﴾ أي: أتظنون أنكم تتركون] في دياركم «آمِنِينَ» وتطعمون في أنه لا دار [للمجازاة].
وقوله: ﴿فِي مَا هَاهُنَآ﴾ : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسَّره [بقوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ ].
قوله: «فِي جَنَّاتٍ» بدل في «فِي ما ههُنَا» بإعادة العامل، فصّل بعدما أجمل كما في القصة قبلها، و «ما» موصولة وظرف المكان صلتها.
قوله: «وَنَخْل» يجوز أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام، لأن الجنات تشمل النخل، ويجوز أن يكون تكريراً للشيء الواحد بلفظ آخر، فإنهم يطلقون الجنة ولا يريدون إلا النخيل، قال زهير:
63
٣٩١٩ - كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ مِنَ النَّوَاضِعِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا
و «سُحُقاً» : جمع سَحُوق، ولا يوصف به إلا النخيل. وقيل: المراد ب «الجَنَّات» غيرها من الشجر، لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل. والطلع الكفرى وهو: عنقود التمر قبل خروجه من الكم. وقال الزمخشري: الطلع: هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو والقنو: هو اسم للخارج من الجذع كما هو بِعُرْجُونه، و «الهضيم» : قال ابن عباس: هو اللطيف، ومنه قولهم: كشح هضيم. وروى عطية عنه: يانع. وقال عكرمة: اللين. وقيل: المتراكب. قال الضحاك ومقاتل: قد ركب بعضه بعضاً حتى هضم بعضه بعضاً، أي: كسره.
وقال أهل المعاني: هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر.
وقال الأزهري: الهضيم: هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعامة. وقيل: هضيم، أي: هاضم يهضهم الطعام، وكل هذا للطافته.
قوله: «وَتَنْحَتُونَ». العامة على الخطاب وكسر الحاء. والحسن وعيسى وأبو حيوة يفتحها. وعن الحسن أيضاً: «تَنْحَاتُونَ» بألف للإشباع. وعنه وعن أبي حيوة «يَنْحِتُونَ»
64
بالياء من تحت، وتقدم ذلك كله في الأعراف.
قوله: «فَارِهِينَ». قرأ الكوفيون وابن ذكوان: «فارهين» بالألف، كما قرءوا: «حَاذِرُونَ» بها. والباقون: «فَرِهِينَ» بدون ألف، كما قرءوا: «حَذِرُونَ» بدونها.
والفراهة: النشاط والقوة. وقيل: الحذق، يقال دابة فاره، ولا يقال: فارهة، وقد فره يفره فراهة و «فارهين» حال من الناحتين.

فصل


من قرأ: «فرهين» قال ابن عباس: أشِرين بطرين. وقال عكرمة: (ناعمين). وقال مجاهد: شرهين. وقال قتادة: معجبين بصنيعكم. وقال السدي: متجبرين. وقال الأخفش: فرحين، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل: مدحته ومدهته. وقال الضحاك: كيسين. ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين﴾.
قال ابن عباس: المشركين. وقال مقاتل: هم التسعة الذين عقروا الناقة (وهم الَّذِينَ) يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض بالمعاصي «ولا يُصْلِحُونَ» مع قوله: ﴿الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ ؟ فالجواب: أن فسادهم خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح. ثم إن القوم أجابوه بقولهم: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين﴾. قال مجاهد.
65
وقتادة: من المسحورين: من المخدوعين، أي: ممن سحر مرة بعد مرة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أي: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب. قال المؤرج:
المسحَّر: المخلوق بلغة بجيل، يريد: أنك تأكل الطعام والشراب، أي: لست بملك، بل أن تبشر مثلنا.
والمعنى: «من المسحرين» أي: ممن له سحر، وكل دابة تأكل فهي سحرة، والسحر: أعلى البطن. وعن الفراء: المسحَّر: من له جوف، أراد: وإنك تأكل الطعام والشراب ﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ فكيف تكون نبياً؟ «فَأْتِ بِآيَةٍ» على صحة ما تقول ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أنك رسول الله إلينا. فقال صالح: ﴿هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ﴾ يجوز أن يكون الوصف وحده الجا روالمجرور، وهو قوله: ( «لَهَا شِرْبٌ» ) و «شِرْبٌ» فاعل به لاعتماده. ويجوز أن يكون «لَهَا شِرْبٌ» صفة ل «ناقة».
وقرأ ابن أبي عبلة: «شُرْبٌ» بالضم فيهما. والشِّرْب - بالكسر - النصيب من الماء كالسِّقي، وبالضم: المصدر.

فصل


روي أنهم قالوا: نريد ناقة عشراء تخرج من الصخرة فتلد سقباً. فتفكر صالح، فقال له جبريل - عليه السلام - صلِّ ركعتين، وسل ربك الناقة. ففعل، فخرجت الناقة، وبركت بين أيديهم، وحصل سقب مثلها في العظم، ثم قال لهم صالح: ﴿هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ﴾ حظ ونصيب من الماء ﴿وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمِ مَعْلُومٍ﴾. قال قتادة: كانت يوم شربها تشرب ماءهم كلهم وشربهم في اليوم الذي لاَ تشرب هي. {وَلاَ
66
تَمَسُّوهَا بسوء} بعقر أو ضرب أو غيرهما ﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ روي أن مسطعاً ألجأها إلى مضيف فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار. ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ﴾ على عقرها. فإن قيل: لم أخذهم العذاب وقد ندموا؟ فالجواب: أن ندمهم كان عند معاينة العذاب حين لا ينفع الندم. وقيل: لم يكن ندمهم ندم [التائبين، لكن ندم] [الخائفين] من العقاب العاجل. ﴿فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾.
67
وقوله :﴿ أَتُتْرَكُونَ [ فِي مَا هَهُنَا ﴾ أي : أتظنون أنكم تتركون ]١ في دياركم «آمِنِينَ » وتطعمون في أنه لا دار [ للمجازاة ]٢ ٣.
وقوله :﴿ فِي مَا هَهُنَا ﴾ : في٤ الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسَّره [ بقوله :﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ ]٥ ٦.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٥٩..
٣ ما بين القوسين في الأصل: للمحاجاة..
٤ في: سقط من ب..
٥ انظر الكشاف ٣/١٢٢، الفخر الرازي ٢٤/١٥٩..
٦ ما بين القوسين تكملة من الكشاف والفخر الرازي..
قوله :«فِي جَنَّاتٍ » بدل من «فِي ما ههُنَا »١ بإعادة العامل٢، فصّل بعدما أجمل كما في القصة قبلها٣، و «ما » موصولة وظرف المكان٤ صلتها٥.
١ في ب: فيما تفريعاً..
٢ انظر التبيان ٢/٩٩٩، البحر المحيط ٧/٣٤..
٣ أي: كما أجمل هود- عليه السلام- في قوله: "أمدكم ما تعلمون" ثم فصّل في قوله: "أمدَّكم بأنعام وبنين". انظر الكشاف ٣/١٢٢، البحر المحيط ٧/٣٤..
٤ في الأصل: العامل..
٥ انظر البحر المحيط ٧/٣٤..
قوله :«وَنَخْل » يجوز أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام، لأن الجنات تشمل النخل. ويجوز١ أن يكون تكريراً للشيء الواحد بلفظ آخر، فإنهم يطلقون الجنة ولا يريدون إلا النخل٢، قال زهير :
٣٩١٩ - كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ مِنَ النَّوَاضِحِِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا٣
و «سُحُقاً » : جمع سَحُوق، ولا يوصف به إلا النخل. وقيل : المراد ب «الجَنَّات » غيرها من الشجر، لأن اللفظ يصلح لذلك، ثم يعطف عليها النخل٤. والطلع الكفرى٥ وهو : عنقود التمر قبل خروجه من الكم٦. وقال الزمخشري : الطلع : هو الذي يطلع٧ من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو٨ والقنو : هو اسم للخارج من الجذع كما هو بِعُرْجُونه٩، و «الهضيم » : قال ابن عباس : هو اللطيف١٠، ومنه قولهم : كشح١١ هضيم. وروى عطية١٢ عنه : يانع١٣. وقال عكرمة : اللين١٤. وقيل : المتراكب. قال الضحاك ومقاتل : قد ركب بعضه بعضاً حتى هضم بعضه بعضاً، أي : كسره١٥.
وقال١٦ أهل المعاني : هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر١٧.
وقال١٨ الأزهري : الهضيم١٩ : هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعامة٢٠. وقيل : هضيم، أي : هاضم يهضم الطعام، وكل هذا للطافته٢١.
١ ويجوز: سقط من ب..
٢ انظر الكشاف ٣/١٢٢، البحر المحيط ٧/٣٤..
٣ البيت من بحر البسيط، قاله زهير، وهو في ديوانه (٣٧)، الكشاف ٣/١٢٢، القرطبي ١٣/١٢٧، اللسان (سحق، قتل)، البحر المحيط ٧/٣٤، شرح شواهد الكشاف (٨٢). الغرب: الرواية التي يحمل عليها الماء، أو دلو عظيم من مسك ثور. المقتلة: الناقة المذللة. النواضح: جمع ناضحة، وهي الناقة التي يستقى عليها الماء. سحقاً: جمع سحوق، وهي النخلة الطويلة. وهو موطن الشاهد..
٤ انظر الكشاف ٣/١٢٢، الفخر الرازي ٢٤/١٥٩..
٥ في اللسان (كفر): ( الكَفَر، والكُفُرَّى، والكِفِرَّى، والكَفَرَّى، والكُفَرَّى: وعاء طلع النخل، وهو أيضاً الكافور، ويقال له: الكُفُرَّى والجُفُرَّى)..
٦ الكُمّ كُمّ الطَّلع: ولكل شجرة مثمرة كمّ، وهو برعومته. اللسان (كمم)..
٧ في الكشاف: الطلعة هي التي تطلع..
٨ القنو: العذق بما فيه من الرطب، وجمعه أقناء وقنوان وقنيان. اللسان (قنا)..
٩ الكشاف ٣/١٢٢، العرجون: العذق عامة، وقيل: هو العذق إذا يبس واعوج وقيل: هو أصل العذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ. اللسان (عرجن)..
١٠ انظر البغوي ٦/٢٣٢..
١١ الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهو من لدن السرة إلى المتن. اللسان(كشح)..
١٢ في النسختين: ابن عطية..
١٣ انظر البغوي ٦/٢٣٢..
١٤ انظر البغوي ٦/٢٣٢..
١٥ المرجع السابق..
١٦ في ب: وقال هو..
١٧ انظر البغوي ٦/٢٣٢، اللسان (هضم)..
١٨ في ب: قال..
١٩ في ب: الهضم..
٢٠ التهذيب (هضم) ٦/١٠٥..
٢١ انظر البغوي ٦/٢٣٢-٢٣٣..
قوله :«وَتَنْحِتُونَ ». العامة على الخطاب وكسر الحاء. والحسن وعيسى وأبو حيوة بفتحها. وعن الحسن أيضاً :«تَنْحَاتُونَ » بألف للإشباع. وعنه وعن أبي حيوة «يَنْحِتُونَ » بالياء من تحت١، وتقدم ذلك كله في الأعراف٢.
قوله :«فَارِهِينَ ». قرأ الكوفيون٣ وابن ذكوان :«فارهين » بالألف، كما قرءوا :«حَاذِرُونَ »٤ بها. والباقون :«فَرِهِينَ » بدون ألف٥، كما قرءوا :«حَذِرُونَ » بدونها٦.
والفراهة : النشاط والقوة. وقيل : الحذق٧، يقال دابة فاره، ولا يقال : فارهة٨، وقد فره يفره فراهة٩ و «فارهين » حال من الناحتين١٠.

فصل :١١


من قرأ :«فرهين » قال ابن عباس : أشِرين بطرين. وقال عكرمة :( ناعمين )١٢. وقال مجاهد : شرهين. وقال قتادة : معجبين بصنيعكم. وقال السدي : متجبرين. وقال الأخفش : فرحين، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل : مدحته ومدهته. وقال الضحاك : كيسين.
١ المختصر (١٠٧)، البحر المحيط ٧/٣٥..
٢ عند قوله تعالى: ﴿وتنحتون الجبال بيوتاً﴾ [٧٤]. وذكر هناك: وقرا الحسن "ينحتون" بفتح الياء، وزاد الزمخشري أنه قرأ "ينحاتون" بإشباع الفتحة، وقرأ يحيى بن مصرف، وأبو مالك بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسن. انظر اللباب ٤/٦٤-٦٥..
٣ وهم: عاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي..
٤ في ب: حاذرين. [الشعراء: ٥٦]..
٥ السبعة (٤٧٢)، الكشف ٢/١٥١، النشر ٢/٣٣٦، الإتحاف (٣٣٣)..
٦ تقدم الكلام عليها..
٧ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٢..
٨ قال ابن منظور: (وفي حديث جريج: دابة فارهة، أي: نشيطة حادة قوية) اللسان (فره)، فنرى أنه جاء فيه التأنيث..
٩ انظر اللسان (فره)..
١٠ انظر معاني القرآن وإعرابه ٤/٩٦، البيان ٢/٢١٥، التبيان ٢/١٠٠٠..
١١ ينظر هذا الفصل في معالم التنزيل للبغوي ٦/٢٣٣..
١٢ ما بين القوسين في ب: ناعهن. وهو تحريف..
﴿ وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين ﴾.
قال ابن عباس : المشركين١. وقال مقاتل : هم٢ التسعة الذين عقروا الناقة٣ ( وهم الَّذِينَ )٤ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض٥ بالمعاصي «ولا يُصْلِحُونَ » أي : ولا يطيعون الله فيما أمرهم به.
١ انظر البغوي ٦/٢٣٣..
٢ هم: سقط من الأصل..
٣ انظر البغوي ٦/٢٣٣..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥ في ب: في الأمر. وهو تحريف..
وهم الَّذِينَ( ٤ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض٥ بالمعاصي «ولا يُصْلِحُونَ » أي : ولا يطيعون الله فيما أمرهم به. فإن قيل : ما فائدة قوله :«ولا يُصْلِحُونَ » مع قوله :﴿ الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض ﴾ ؟ فالجواب : أن فسادهم خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح١.
١ انظر الكشاف ٣/١٢٣، الفخر الرازي ٦/٢٣٤..
ثم إن القوم أجابوه بقولهم :﴿ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين ﴾. قال مجاهد وقتادة : من المسحورين : من المخدوعين، أي : ممن سحر مرة بعد مرة١. وروى أبو صالح عن ابن عباس : أي : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب٢. قال المؤرج :
المسحَّر : المخلوق بلغة بجيلة٣، يريد : أنك تأكل الطعام والشراب، أي : لست٤ بملك، بل أنت بشر مثلنا.
والمعنى :«من المسحرين » أي : ممن له سحر، وكل دابة تأكل فهي سحرة، والسحر : أعلى البطن٥. وعن الفراء : المسحَّر : من له جوف، أراد : وإنك تأكل الطعام والشراب٦
١ انظر البغوي ٦/٢٣٣..
٢ انظر البغوي ٦/٢٣٤..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٠..
٤ في ب: ليست. وهو تحريف..
٥ السَّحر والسِّحر والسحر: ما التزق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن. اللسان (سحر)..
٦ معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٢..
﴿ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ فكيف تكون نبياً ؟ «فَأْتِ بِآيَةٍ » على صحة ما تقول ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ أنك رسول الله إلينا.
فقال صالح :
﴿ هذه نَاقَةٌ لَهَا١ شِرْبٌ ﴾ يجوز أن يكون الوصف وحده الجار والمجرور، وهو قوله :( «لَهَا شِرْبٌ » )٢ و «شِرْبٌ » فاعل به لاعتماده٣. ويجوز أن يكون «لَهَا شِرْبٌ » صفة ل «ناقة ».
وقرأ ابن أبي عبلة :«شُرْبٌ » بالضم فيهما٤. والشِّرْب - بالكسر - النصيب من الماء كالسِّقي، وبالضم٥ : المصدر٦.

فصل :


روي أنهم قالوا : نريد ناقة عشراء تخرج من الصخرة فتلد سقباً٧. فتفكر صالح، فقال له جبريل - عليه السلام ٨- صلِّ ركعتين، وسل ربك الناقة. ففعل، فخرجت الناقة، وبركت بين أيديهم، وحصل سقب مثلها في٩ العظم١٠، ثم قال لهم صالح :﴿ هذه نَاقَةٌ١١ لَهَا شِرْبٌ ﴾ حظ ونصيب من الماء ﴿ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمِ مَعْلُومٍ ﴾. قال قتادة : كانت يوم شربها تشرب ماءهم كلهم وشربهم في١٢ اليوم١٣ الذي لاَ١٤ تشرب١٥ هي١٦.
١ في ب: هذه ناقة الله..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ انظر البيان ٢/٢١٦..
٤ انظر تفسير ابن عطية ١١/١٤١، البحر المحيط ٧/٣٥..
٥ في ب: والضم..
٦ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٢..
٧ السقب: ولد الناقة، وقيل: الذكر من ولد الناقة، بالسين لا غير، وقيل: هو سقب ساعة تضعه أمه. اللسان (سقب)..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ في ب: ثم في..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٠..
١١ في ب: هذه ناقة الله..
١٢ في : تكملة من الفخر الرازي..
١٣ في ب: يومهم..
١٤ لا: سقط من الأصل..
١٥ في ب: تشرب فيه..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٠..
﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بسوء ﴾ بعقر أو ضرب أو غيرهما ﴿ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ روي أن مسطعاً١ ألجأها إلى مضيق فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار٢.
١ في الفخر الرازي: مصدعاً..
٢ انظر الكشاف ٣/١٢٣، الفخر الرازي ٢٤/١٦٠..
﴿ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ﴾ على عقرها. فإن قيل : لم أخذهم العذاب وقد ندموا ؟ فالجواب : أن ندمهم كان عند معاينة العذاب حين لا ينفع الندم. وقيل : لم يكن ندمهم ندم [ التائبين، لكن ندم ]١ [ الخائفين ]٢ من العقاب العاجل٣.
١ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٢ في النسختين: الخائف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٠..
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين﴾ الآيات.
قوله: «مِنَ العالِمينَ». يحتمل عوده إلى الآتي، أي: أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة، وهي إتيان الذكران. [ويحتمل عوده إلى المأتى، أي: أنتم اخترتم الذكران] من العالمين لا الإناث منهم.
قوله: «مِنْ أَزْوَاجِكُمْ». يصلح أن يكون تبييناً، وأن يكون للتبعيض، ويُراد بِمَا خلق العضو المباح منهن، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾. معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام، والعادي: المعتدي في ظلمه.
والمعنى: أتركبون هذه المعصية على عظمها ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ في جميع المعاصي ﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين﴾ أي: من جملة من أخرجناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ الأحوال.
67
قوله: «لِعَمَلِكُمْ» كقوله: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] وقد تقدم. وقيل: «مِنَ القَالِينَ» صفة لخبر محذوف، هذا الجار متعلق به، أي: إني قال: ﴿لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين﴾ المبغضين. والقِلَى: البغض الشديد، كأنه بُغْضٌ يقلي الفؤاد والكبد. وقوله «مِنَ القَالِينَ» أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قالٍ، كما تقول: فلان من العلماء، أبلغ من قولك: فلان عالم.
ويجوز أن يراد: من الكاملين في قِلاكم. [والقَالِي: المُبْغِضُ، يقال: قَلاَهُ يَقْلِيهِ قِلًى، وَيَقْلاَهُ، وهي شاذة، قال:
٣٩٢٠ - وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ وَتقْلِينَنِي لكِنَّ إيَّاكِ لاَ أقْلِي
وقال آخر:
٣٩٢١ - والله مَا فَارَقْتكُمْ عَنْ قِلَى لكم وَلكنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
واسم المفعول فيه: «مَقْلِيّ» والأصل: «مَقْلُويٌّ» فأدغم ك «مَرْمِيٍّ» قال:
٣٩٢٢ - وَلَسْتُ بِمَقْليِّ الخِلاَلِ ولاَ قَالِي...
68
وغلط بعضهم فجعل ذلك من قولهم: قَلَى اللَّحْمَ، أي شَوَاهُ، فكأنه قلى كبده بالبغض ووجه الغلط أن هذا من ذوات الياءن وذلك من ذوات الواو.
يقال: قَلَى اللحمِ يَقْلُوه قَلْواً، فهو قال كَغَازٍ، و «مَقْلُوّ» كما تقدم]، ثم دعا فقال: ﴿رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ من العمل الخبيث.
قال الله تعالى: «فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ» من عقوبة عملهم ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين﴾ وهي امرأة لوط، بقيت في الهلاك والعذاب، فإنْ قيل: «فِي الغَابِرينَ» صفة لها، كأنه قيل: إلاَّ عَجُوزاً [غابرة، وإن لم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم؟ فالجواب: معناه: إلاَّ عجوزاً] مقدراً غبورها. قيل: إنما هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر من الحجارة. ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين﴾ أي: أهلكناهم ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين﴾ والمخصوص بالذم محذوف، أي: (مَطَرُهُمْ) قال وهب بن منبه: الكبريت والنار. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم﴾.

فصل


قال القاضي عبد الجبار في تفسير قوله: ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ دليل على بطلان الجبر من وجوه:
الأول: أنه لا يقال: «تَذَرُونَ» إلاَّ مع القدرة على خلافه، ولذلك لا يقال للمرء: لم تذر الصعود إلى السماء، كما يقال: لم تذر (الدخول و) الخروج.
الثاني: أنه قال: ﴿مَا خَلَقَ لَكُمْ﴾ ولو كان الفعل لله تعالى لكان الذي خلقه لهم ما خلقه فيهم ووجبه لا ما لم يفعلوه.
الثالث: قوله تعالى: ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾ لإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون، فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا؟ وهل يقال للأسود: إنك متعد في لونك؟ وأجيب بأن حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً لأفعال نفسه لما
69
توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه، (وليس لهذه) الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة إبراهيم وموسى ونوح وسائر القصص، فكيف خَصَّ هذه القصة بهذه الوجوه دون سائِر القصص. وإذا ثبت أن هذه الوجوه هي ذلك الوجه المشهور فالجواب عنها هما الجوابان المشهوران:
الأول: أنَّ اللَّهَ تعالى لمّا علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال، لأَنّ عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وإن كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال.
الثاني: أنَّ القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يرجح أحد المقدورين على الآخر لا لمرجح، والمرجح: هو الداعي والإرادة، وذلك المرجح مرجح محدث، فله مؤثر، وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان هو الله تعالى فذاك الجبر على قولك، فثبت بهذين البرهانيين القاطعين سقوط ما قاله.
70
قوله :«مِنَ العَالَمِينَ ». يحتمل عوده إلى الآتي، أي : أنتم من جملة العالمين مخصوصون بهذه الصفة، وهي إتيان الذكران. [ ويحتمل عوده إلى المأتى، أي : أنتم اخترتم الذكران ]١ من العالمين لا الإناث٢ منهم٣.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ في ب: إلا الإناث. وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦١..
قوله :«مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ». يصلح أن يكون تبييناً، وأن يكون للتبعيض، ويُراد بِمَا خلق العضو المباح منهن، وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم١. ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾. معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام، والعادي : المعتدي في ظلمه.
والمعنى : أتركبون هذه المعصية على عظمها ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ في جميع المعاصي٢

فصل :


قال القاضي عبد الجبار في تفسير قوله :﴿ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ دليل على بطلان الجبر من وجوه :
الأول : أنه لا يقال :«تَذَرُونَ » إلاَّ مع القدرة على خلافه، ولذلك لا يقال للمرء : لم تذر الصعود إلى السماء، كما يقال : لم تذر ( الدخول و )٣ الخروج.
الثاني : أنه قال :﴿ مَا خَلَقَ لَكُمْ ﴾ ولو كان الفعل لله تعالى لكان الذي خلقه لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه.
الثالث : قوله تعالى :﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ لإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون، فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا ؟ وهل يقال للأسود : إنك متعد في لونك ؟ وأجيب بأن حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً لأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه، ( وليس لهذه )٤ الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة إبراهيم وموسى ونوح وسائر القصص، فكيف خَصَّ هذه القصة بهذه الوجوه دون سائِر القصص. وإذا٥ ثبت أن هذه الوجوه هي ذلك الوجه المشهور فالجواب عنها هما٦ الجوابان المشهوران :
الأول : أنَّ اللَّهَ تعالى لمّا علم وقوع هذه الأشياء، فعدمها محال، لأَنّ عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وإن كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال.
الثاني : أنَّ القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يرجح أحد المقدورين على الآخر لا لمرجح، والمرجح : هو الداعي والإرادة، وذلك المرجح مرجح محدث، فله مؤثر، وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان هو الله تعالى فذاك الجبر على قولك، فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله٧.
١ انظر الكشاف ٣/١٢٣-١٢٤، الفخر الرازي ٢٤/١٦١..
٢ المرجعان السابقان..
٣ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٤ ما بين القوسين في الفخر الرازي: ولهذه..
٥ في ب: إذا..
٦ في ب: هو. وهو تحريف..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦١-١٦٢..
﴿ قَالُوا لَئِن لَمْ تَنْتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين ﴾ أي : من جملة من أخرجناه من بلدنا، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ الأحوال١.
١ انظر الكشاف ٣/١٢٤، الفخر الرازي ٢٤/١٦١..
قوله :«لِعَمَلِكُمْ » كقوله :﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾١ [ الأعراف : ٢١ ] وقد تقدم. وقيل :«مِنَ القَالِينَ » صفة٢ لخبر محذوف، هذا الجار متعلق به، أي : إني قال :﴿ لِعَمَلِكُمْ مِنَ القالين ﴾٣. المبغضين. والقِلَى : البغض الشديد٤، كأنه بُغْضٌ يقلي الفؤاد والكبد٥. وقوله :«مِنَ٦ القَالِينَ » أبلغ من أن يقول : إني لعملكم قالٍ، كما تقول : فلان من العلماء، أبلغ من قولك : فلان عالم٧.
ويجوز أن يراد : من الكاملين في قِلاكم٨. [ والقَالِي : المُبْغِضُ، يقال : قَلاَهُ يَقْلِيهِ قِلًى، وَيَقْلاَهُ، وهي شاذة٩، قال :
٣٩٢٠ - وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ *** وَتقْلِينَنِي لكِنَّ إيَّاكِ لاَ أقْلِي١٠
وقال آخر :
٣٩٢١ - والله مَا فَارَقْتكُمْ عَنْ قِلًى لكم *** وَلكنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ١١
واسم المفعول فيه :«مَقْلِيّ » والأصل :«مَقْلُويٌّ » فأدغم ك «مَرْمِيٍّ » قال :
٣٩٢٢ - وَلَسْتُ بِمَقْليِّ الخِلاَلِ ولاَ قَالِي١٢ ***. . .
وغلط بعضهم فجعل ذلك من قولهم : قَلَى اللَّحْمَ، أي شَوَاهُ، فكأنه قلى كبده بالبغض ووجه الغلط أن هذا من ذوات الياء، وذلك من ذوات الواو.
يقال : قَلَى اللحم يَقْلُوه قَلْواً، فهو قال كَغَازٍ، و «مَقْلُوّ »١٣ كما تقدم ]١٤،
١ [الأعراف: ٢١]. وذكر هناك: يجوز في "لكما" أن يتعلق بما بعده على أن (ال) معرفة لا موصولة، وهي مذهب أبي عثمان المازني، أو على أنها الموصولة، ولكن تسومح في الظرف وعديله ما لا يتسامح في غيرها اتساعاً فيهما لدورانهما في الكلام، وهو رأي بعض البصريين، أو أن ذاك جائز مطلقاً، وهو رأي الكوفيين، أو أنه متعلق بمحذوف على البيان، أي أعني لكما أو تعلق بمحذوف مدلول عليه بصلة (ال)، أي: إني ناصح لكما، ومثل هذه الآية الكريمة "إني لعملكم من القالين"، وجعل ابن مالك ذلك مطرداً في مسألة (ال) الموصولة إذا كانت مجرورة بـ (من). انظر اللباب ٤/٢٠..
٢ صفة: سقط من ب..
٣ انظر التبيان ٢/١٠٠٠..
٤ الشديد: سقط من ب..
٥ انظر الكشاف ٣/١٢٤، الفخر الرازي ٢٤/١٦١..
٦ في ب: مثل. وهو تحريف..
٧ قال الزمخشري: ( لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعرفة مساهمته لهم في العلم) الكشاف ٣/١٢٤..
٨ انظر الكشاف ٣/١٢٤، الفخر الرازي ٢٤/١٦١..
٩ انظر اللسان (قلا) وفيه: (ويقلاه لغة طيىء)..
١٠ البيت من بحر الطويل، مجهول القائل، وهو في ابن يعيش ٨/١٤٠، المغني ١/٧٦، ٢/٤٠٠، ٤١٣، الهمع ٢/٧١، شرح شواهد المغني ١/٢٣٤، ٢/٨٢٨، الخزانة ١١/٢٢٥، الدرر ٢/٨٧. ترمينني: تشيرين إليَّ. الطرف: البصر. تقلينني، يقال: قلاه يقليه قلى. ويقلاه لغة طيىء..
١١ البيت من بحر الطويل. قاله الأفوه الأودي، وليس في ديوانه، وهو في المقاصد النحوية ٢/٣١٥، التصريح ١/٢٢٥، الهمع ١/١١٠، الأشموني ١/٢٢٥، ٢٨٤، الدرر ١/٨٠. والشاهد فيه قوله: "عن قلًى" أي: عن بغض..
١٢ عجز بيت من بحر الطويل، قال امرؤ القيس، وصدره:
صرفت الهوى عنهنَّ من خشية الرَّدى
وهو في ديوانه (٣٥)، القرطبي ١٣/١٣٣، البحر المحيط ٧/٣٦. والشاهد فيه قوله: (مقليّ) فإنه اسم مفعول من (قلى) والأصل: مقلوي. قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وكسر ما قبل الياء للمناسبة، لأنه إذا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون تقلب الواو ياء، وتدغم الياء في الياء..

١٣ قال أبو حيان: ( ولا يكون (قلى) بمعنى أبغض وقلا من الطبخ والشيِّ من مادة واحدة لاختلاف التركيب، فمادة (قلا) من الشيِّ من ذوات الواو، تقول: قلوت اللحم فهو مقلو، ومادة (قلى) من البغض من ذوات الياء، قليت الرجل فهو مقليّ قال الشاعر: وليست بمقليِّ الخلال ولا قال) البحر المحيط ٧/٣٦..
١٤ ما بين القوسين سقط من ب..
ثم دعا فقال :﴿ رَبِّ١ نَجِِّنِِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ من العمل الخبيث.
١ رب: سقط من ب..
قال الله تعالى :«فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ » من عقوبة عملهم
﴿ إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين ﴾ وهي امرأة لوط، بقيت في الهلاك والعذاب. فإنْ قيل :«فِي الغَابِرينَ » صفة لها، كأنه قيل : إلاَّ عَجُوزاً [ غابرة، وإن لم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم ؟ فالجواب : معناه : إلاَّ عجوزاً ]١ مقدراً غبورها. قيل : إنما هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر من الحجارة٢.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦١..
﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين ﴾ أي : أهلكناهم
﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ المنذرين ﴾ والمخصوص بالذم محذوف، أي :( مَطَرُهُمْ )١ ٢ قال وهب بن منبه : الكبريت والنار٣.
١ انظر البحر المحيط ٧/٣٧..
٢ ما بين القوسين في ب: أمطرنا عليهم..
٣ انظر البغوي ٦/٢٣٥..
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين﴾.
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: «لَيْكَةَ» بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير مُعَرَّفٍ ب «أل» مضافاً إليه «أَصْحَاب» هنا وفي «ص» خاصة.
والباقون: «الأَيْكَةِ» معرفاً ب «أل» مُوافقةً لما أُجْمَعَ عليه في الحِجْر وفي «ق».
70
وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى، وتجرأ بعضهم على قرائها.
ووَجْهُهَا على ما قال أبو عُبَيد: أن (ليكة) اسم للقرية التي كانوا فيها و (الأَيْكَة).
اسم للبلد كُلِّه. قال أبو عُبَيد: لا أحب مفارقة الخط في شيءٍ من القرآن إلاَّ ما يخرُجُ من كلام العرب وهذا ليس بخارج من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف، وذلك أَنَّا وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين «لَيْكَة»، و «الأيكة»، فقيل: «لَيْكَةُ» هو اسمٌ للقرية التي كانوا فيها. والأَيْكَة: البلاد كلها، فصار الفرق بينهما شبيهاً بما بين (مَكَّةَ، وبكَّةَ) ورأيتهن مع هذا في الذي يقال: إنه الإمام - مصحف عثمان - مفترقان، فوجدت التي في «الحِجْر» والتي في «ق» :«الأَيْكَة»، ووجدت التي في «الشعراء» والتي في «ص» «لَيْكَة» ثم اجتمعت عليها مصاحف الأَمْصَار بعدُ، فلا نعلمها إذاً اختلفت فيها، وقرأ أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قَصَصْنا، يعني: بغير ألف ولام، ولا إجراء.
انتهى ما قاله أبو عبيدة. قال أبو شامة بعد نقله كلام أبي عبيدة: هذه عبارته، وليست سديدة، فإن اللام موجودة في «لَيْكَة» وصوابه: بغير ألف وهمزة. قال شهاب الدين: بل هي سديدة، فإنه يعني بغير ألفٍ ولامٍ مُعَرفَةٍ لا مطلق لامٍ في الجملة.
وقد تُعقِّبَ قول أبي عُبيد وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر: اجمع القراء على خفض التي في «الحِجر» و «ق» فيجب أن يُرَدَّ ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه إذ كان البلد كله، فشيء لا يثبت ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ولو عُرِف لكان فيه نظر، لأَنَّ أهل العلم جميعاً من المفسرين والعالمين بكلام العرب على خلافه، ولا نعلم خلافاً بين أهل اللغة أن «الأَيْكَة» الشجر المُلْتَفُّ.
فأما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح، لأنه في السواد «لَيْكَةَ» فلا حجة فيه، والقول فيه: إن أصله: «الأَيْكَة» ثم خففت الهمزة،
71
فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل، لأَنَّ اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إِلاَّ الخفض، كما تقول: «مَرَرْتُ بِالأَحْمَر» على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول: «بِلحْمَر»، فإن شئت كتبته في الخط على كتبته أولاً، وإِنْ شئت كتبته بالحذف، ولم يَجُرْ إلاَّ الخف، فلذلك لا يجوز في «الأَيْكَة» إلاَّ الخَفْض، قال سيبويه: واعلم أَنَّ كل ما لم ينصرف إذا دَخَلَتْهُ الألف واللام أو أضفته (انصرف).
ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا وقال المبرّد في كتاب الخط: كتبوا في بعض المواضع: «كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ} بغير ألف، لأن الألف تذهب في الوصل، ولذلك غلط القارىء بالفتح فتوهم أن» لَيْكَة «اسم شيء، وأن اللام أصل فقرأ:» أَصْحَابُ لَيْكَة «. ؟
وقال الفراء: نرى - والله أعلم - أنها كتبت في هذين الموضعين بترك الهمز، فسقطت الألفُ لتحريك اللام. قال مكيّ: تعقَّبَ ابن قتيبة على أبي عبيدة فاختار»
الأَيْكَة «بالألف والهمزة والخفض، وقال: إِنَّمَا كُتِبَتْ بغير ألف على تخفيف الهمزة، قال: وقد أجمع الناس على ذلك، يعني: في» الحِجْر «و» ق «فوجب أن يُلحَق ما في» الشعراء «و» ص «بما أجمعُوا عليه، فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه. وقال أبو إسحاق: القراءة بِجَرِّ لَيْكَةِ وأنت تريد» الأَيْكَةِ «أجود من أن تجعلها» لَيْكَه «وتفتحها؛ لأَنَّها لا تتصرف لأن» لَيْكَة «لا تُعرَّفُ، وإنما هي» أَيْكَة «للواحد،
72
و» أَيكٌ «للجمع، مثل: أَجمة وأَجَم. والأَيْكُ: الشجر الملتف، فأجود القراءة فيها الكسر وإسقاط الهمزة لموافقة المصحف؛ ولا أعلمه إلا قد قرىء به.
وقال الفارسي: قول من قال:»
لَيْكَة «بفتح التاء مُشكِلٌ، لأنه فتح مع لحاق اللام الكلمة، وهذا في الامتناع كقول من قال: مَرَرْت بِلَحْمَر. فيفتح الآخر مع لحاق لام المعرفة، وإنما كتبت» لَيْكَة «على تخفيف الهمز، والفتح لا يصح في العربية لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجرّ مع لام المعرفة، فهو على قياس قول من قال: مَرَرْتُ بِلَحْمَر، ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال عنه ورش. يعني أنَّ وَرْشاً نقل عن نافع نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث وُجِدَ بشروط مذكورة، ومن جملة ذلك ما في سورة» الحِجْر «و» ق «لفظ» الأَيْكَة «، فقرأ على قاعدته في السورتين بنقل الحركة وطرح الهمزة وخفض التاء، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذين الموضعين أيضاً.
وقال الزمخشري: قرىء»
أَصْحَابُ الأَيْكَةِ «بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة، وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أنَّ» لَيْكَة «بوزن:» لَيْلَة «- اسم البلد - فتوهُّمٌ قاد إليه خط المصحف..
وإنما كتبت على حكم لفظ اللافظ، كما يكتب أصحاب (النحو) لان ولاولى على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة، على «أنَّ لَيْكَةَ»
اسم لا يعرف، وروي أَنَّ «أَصْحَابَ الايْكَةِ» كانوا أصحاب شجر مُلْتَفٍّ، وكان شجرهم الدَّوم، وهو شَجَرُ المُقل. يعني أن مادة (ل ي ك) مفقودة في لسان العرب. كذا قال الثقات ممن تتبَّع ذلك.
قال: وهذا كما نصُّوا على أنَّ الخاء والذال المعجمتين لم يجامعا الجيم في لغة
73
العرب، ولذلك لم يذكرها صاحب «الصحصاح» مع ذكره التفرقة المتقدمة عن أبي عبيد، ولو كانت موجودة في اللغة لذكرها مع ذكره التفرقة المتقدمة لشدة الاحتياج إليها. وقال الزجاج أيضاً: أهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أنَّ اسم المدينة التي كان فيها شعيب ( «لَيْكَة» ).
قال أبو علي: لو صح هذا فلم أجمع القراء على الهمز في قوله: ﴿وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة﴾ [الحجر: ٧٨]، و «الأَيْكَةُ» التي ذكرت هاهنا هي «الأيْكَة» التي ذكرت هناك، وقد قال ابن عباس: الأَيْكَةُ: الغَيْضَة ولم يفسرها بالمدينة ولا البلد. قال شهاب الدين: وهؤلاء كلُّهم كأنهم زعموا أنَّ هؤلاء الأئمة الأثبات إنما أخذوا هذه القراءة من خط المصاحف دون أفواه الرجال، وكيف يظنُّ بمثل أسنِّ القرّاء وأعلاهم إسناداً، والآخذ القرن عن جملة من (جلّة) الصحابة أبي الدَّرداء وعثمان بن عفان وغيرهما، وبمثل إمام مكّة - شرّفها الله تعالى - وبمثل إمام المدينة، وكيف ينكر على أبي عبيد قوله أو يتَّهم في نقله؟ ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ؛ والتواتر قطعيٌّ فلا يعارض بالظني، وأما اختلاف القراءة مع اتحاد القصة فلا يضر ذلك، عبِّر عنها تارةٌ بالقرية خاصة وتارة بالمصر الجامع للقرى كلها، الشامل هو لها، وأما تفسير ابن عباس فلا ينافي ذلك، لأنَّه عبر عنها بما كثر فيها.
قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ ولم يقل: أخوهم؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال: «أَخَاهُمْ» لأنه كان منهم، وكأن الله تعالى بعثه إلى قومه - أهل مدين - وإلى أصحاب الأيكة.
وفي الحديث: «إِنَّ شُعَيْباً أَخَا مَدْيَن أرسا إليهم وإلى أصحاب الأيكة».
74
[قال ابن كثير: ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أنَّ أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين فقول ضعيف، وإنما عمدتهم شيئان.
أحدهما: أنه قال: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ ولم يقل: «أَخُوهُمْ» كما قال: ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً﴾ [الأعراف: ٨٥].
والثاني: أنه ذكر عذابهم ب «يَوْم الظُّلَّةِ» وذكر في أولئك «الرجفة والصيحة» والجواب عن الأول: أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله: «أَصْحَابُ الأَيْكَةِ» لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا، ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم.
وأما احتجاجهم ب «يَوْمِ الظُّلَّةِ» فإن كان دليلاً على أنهم أمة أخرى فليكن تعداد «الرجفة، والصيحة» دليلاً على أنهما أمتان، ولا يقول أحد.
وأيضاً فقد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدلّ على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب، وذكر في كل موضع ما يناسب ذلك الخطاب، فاجتمعوا تحت الظلّة، ورجفت بهم الأرض من تحتهم، وجاءتهم صيحة من السماء].
قوله: ﴿أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾ الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن. واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب: وافٍ، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله: «أَوْفُوا الكَيْلَ» ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين﴾، ولم يذكر الزائد، لأنه إن فعله فقد أحسن، وإن لمك يفعله فلا إثم عليه. ثم لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل، فقال: ﴿وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم﴾. قرىء: «بالقُسْطَاسِ» مضموماً ومكسوراً، وهو: الميزان وقيل: القَرَسْطُون ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾. يقال بخسه حقه: إذا نقصه إياه، وهذا عام في كل
75
حق. ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ وقد تقدم.
قوله: «وَالجِبِلَّةَ» العامة على كسر الجيم والباء وشد اللام. وأبو حصين والأعمش والحسن بضمّهما وشد اللام. والسُّلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء وهذه لغات في هذه الحرف، ومعناه: الخلق المتَّحد الغليظ، مأخوذٌ من الجبل قال الشاعر:
٣٩٢٣ - وَالمَوْتَ أَعْظَمُ حَادِثٍ مِمَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ
وقال الهروي: الجِبِلُّ والجُبُلُّ والجَبْلُ لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. وقيل: «الجِبِلَّةُ» من قولهم: جُبِلَ على كذا، أي: خُلِقَ وطُبِعَ عليه. ، وسيأتي في «يس» إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك عند قوله: «جِبِلاًّ كَثِيراً». والمراد ب «الجِبِلَّةِ الأَوَّلِينَ» : الأمم المتقدمين، أي: أنه المنفرد بخلقهم وخلق من تقدمهم.
قوله: ﴿قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾. جاء في قصة هود «مَا أَنْتَ» بغير واو، وهاهنا بالواو. فقال الزمخشري: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مخالف للرسالة عندهم: التَّسحير والبشرية، وأنَّ الرسول لا يجوز أن يكون مُسَحَّراً ولا بَشَراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحَّراً،
76
ثم (قرر) بكونه بَشَراً. ثم قالوا: ﴿وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين﴾ ومعناه ظاهر. ثم إنَّ شعيباً - عليه السلام - كان يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فقالوا: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ وقد تقدم كلام في «كِسَفاً» والشتقاقه في الإسراء.
وإنما طلبوا ذلك لاسبتعادهم وقوعه فقال شعيب: ﴿ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: من نقصان الكيل والوزن، وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إليَّ، وما عليّ إلا الدعوة. فلم يدع عليهم، بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى.
قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة﴾. وذلك أنَّه أخذهم حرّ شديد، فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرّاً، فخرجوا، فأظلتهم سحابة، وهي الظُّلَّة، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليها ناراً فاحترقوا. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنَّ العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان بسبب كفرهم، بل بسبب تأثيرات الكواكب واتصالاتها على ما أتفق عليه المنجمون؟ وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص، لأنَّ الاعتبار إنما يحصل إذا علمنا أنَّ نزول العذاب كان بسبب كفرهم، وأيضاً فيحتمل أن ينزل العذاب محنة للمكلّفين كما قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين﴾ [محمد: ٣١] وقد ابتلي المؤمنون بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة، وإذا كان كذلك لم يدلّ نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين؟ فالجواب: هذا سؤال باطل، لأنه يقال: ما الاتصالات التي أوجبت نجاة بني إسرائيل من البحر وأغرقت فرعون وقومه في ساعة واحدة، وما الاتصالات التي أوجبت الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على القبط دون بني إسرائيل وهم معهم في بلد واحد، وما الاتصالات التي نجّت لوطاً ومن معه وأهلكت قومه وهم قريب منهم، وما الاتصالات التي أوجبت حمل الطير الأبابيل حجارة من سجيل ورمت بها أصحاب الفيل دون غيرهم، وما الاتصالات التي فرقت البحر اثني عشر فرقاً بعدد أسباق بني إسرائيل، وقلبت العصا حية تسعى، وتلقفت ما صنعته السحرة، ونتقت الجبل فوق بني إسرائيل كأنه ظلّة، وأخرجت الناقة من الحجر، وأطفأت نار إبراهيم، وكل ذلك ثابت بالتواتر لا يمكن إنكاره.
77
وأيضاً فإنَّ الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد - عليه السلام - تسلية له وإزالة للحزن عن قلبه. فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم جزاءً على كفرهم علم أنَّ الأمر كذلك، وحينئذ حصل له التسلي.
78
قوله :﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ﴾ ولم يقل : أخوهم ؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال :«أَخَاهُمْ »١ لأنه كان منهم، وكأن٢ الله تعالى بعثه إلى قومه - أهل مدين - وإلى أصحاب الأيكة٣.
وفي الحديث :«إِنَّ شُعَيْباً أَخَا مَدْيَن أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة »٤.
[ قال ابن كثير : ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أنَّ أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين فقول ضعيف٥، وإنما عمدتهم شيئان :
أحدهما : أنه قال :﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين. إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ﴾ ولم يقل :«أَخُوهُمْ » كما قال :﴿ وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ].
والثاني : أنه ذكر عذابهم ب «يَوْم الظُّلَّةِ » وذكر في أولئك «الرجفة٦ والصيحة »٧ والجواب عن الأول : أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله :«أَصْحَابُ الأَيْكَةِ » لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا، ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم.
وأما احتجاجهم ب «يَوْمِ الظُّلَّةِ » فإن كان دليلاً على أنهم أمة أخرى فليكن تعداد «الرجفة، والصيحة » دليلاً على أنهما أمتان، ولا يقوله أحد.
وأيضاً فقد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدلّ على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب، وذكر في كل موضع ما يناسب ذلك الخطاب، فاجتمعوا تحت الظلّة، ورجفت بهم الأرض من تحتهم، وجاءتهم صيحة من السماء ]٨.
١ من قوله تعالى: ﴿وإلى مدين أخاهم شعيباً﴾ [الأعراف: ٨٥]..
٢ في الأصل: فكان..
٣ انظر البغوي ٦/٢٣٦..
٤ انظر الكشاف ٣/١٢٥، الفخر الرازي ٢٤/١٦٣..
٥ انظر تفسير ابن كثير ٣/٣٤٥..
٦ قال الله تعالى: ﴿فأخذتهم الرَّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ [الأعراف: ٩١]..
٧ قال الله تعالى: ﴿ولمَّا جاء أمرنا نجَّينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منَّا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ [هود: ٩٤]..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله :﴿ أَوْفُوا الكيل وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المخسرين ﴾ الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن. واعلم أنَّ الكيل على ثلاثة أضرب : وافٍ، وطفيف، وزائد. فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله :«أَوْفُوا الكَيْلَ » ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله :﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المخسرين ﴾، ولم يذكر الزائد، لأنه إن١ فعله فقد أحسن، وإن لم يفعله٢ فلا إثم عليه.
١ في ب: لأن إنه..
٢ في ب: يفعل..
ثم١ لما أمر بالإيفاء بين كيف يفعل، فقال :﴿ وَزِنُوا بالقسطاس المستقيم ﴾٢. قرىء :«بالقُسْطَاسِ » مضموماً ومكسوراً٣، وهو : الميزان وقيل : القَرَسْطُون٤
١ ثم: سقط من ب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٣..
٣ فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر "بالقسطاس" بضم القاف وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم "بالقسطاس" بكسر القاف. السبعة (٣٨٠) الكشف ٢/٤٦..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٣. في لسان العرب: (قسطس): القسطاس والقسطاس أعدل الموازين وأقومها... الزجاج: قيل: القسطاس: القرسطون، وقيل: هو القبان..
﴿ وَلاَ تَبْخَسُوا الناس أَشْيَاءَهُمْ ﴾. يقال بخسه حقه : إذا نقصه إياه١، وهذا عام في كل حق٢. ﴿ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ ﴾ وقد تقدم٣.
١ البخس: النقص، بخسه حقَّه بيخسه بخساً إذا نقصه. اللسان (بخس)..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٣..
٣ في سورة هود عند قوله تعالى: ﴿ولا تبخسوا النَّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ [٨٥]. انظر اللباب ٤/٣٦٤..
قوله :«وَالجِبِلَّةَ » العامة على كسر الجيم والباء وشد اللام. وأبو حصين١ والأعمش والحسن بضمّهما٢ وشد اللام٣. والسُّلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء٤ وهذه لغات في هذا الحرف، ومعناه : الخلق المتَّحد الغليظ، مأخوذٌ من الجبل٥ قال الشاعر :
٣٩٢٣ - وَالمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ مِمَّا يَمُرُّ على الجِبِلَّهْ٦
وقال الهروي٧ : الجِبِلُّ والجُبُلُّ٨ والجَبْلُ لغات، وهو الجمع الكثير العدد من الناس٩. وقيل :«الجِبِلَّةُ » من قولهم : جُبِلَ على كذا، أي : خُلِقَ وطُبِعَ عليه١٠، وسيأتي في «يس » إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك عند قوله :«جِبِلاًّ كَثِيراً »١١. والمراد ب «الجِبِلَّةِ الأَوَّلِينَ » : الأمم المتقدمين، أي : أنه المنفرد بخلقهم وخلق من تقدمهم.
١ ذكر ابن الجزري في طبقات القراء أن أبا حصين ممن أخذ عنه الأعمش ولم يترجم له. انظر طبقات القراء ١/٣١٥..
٢ في ب: بضمها. وهو تحريف..
٣ المختصر (١٠٧)، المحتسب ٢/١٣، البحر المحيط ٧/٣٨..
٤ نقلها بالفتح عنه ابن خالويه: المختصر (١٠٧) وقال أبو حيان: (وقرأ السلمي "والجبلة" بكسر الجيم وسكون الباء، وفي نسخة عنه فتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا، أي خلقوا) البحر المحيط ٧/٣٨..
٥ انظر اللسان (جبل)..
٦ البيت من الكامل، لم أهتد إلى قائله، وهو في تفسير غريب القرآن (٣٢٠)، تفسير ابن عطية ١١/١٤٦، القرطبي ١٣/١٣٦، البحر المحيط ٧/٣٠..
٧ تقدم..
٨ في ب: الجبل..
٩ انظر البحر المحيط ٧/٣٠..
١٠ انظر اللسان (جبل)..
١١ من قوله تعالى: ﴿ولقد أظلَّ منكم جبلاًّ كثيراً أفلم تكونوا تعقلون﴾ [يس: ٦٢]..
قوله :﴿ قالوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾. جاء في قصة هود١ «مَا أَنْتَ »٢ بغير واو، وهاهنا بالواو. فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مخالف للرسالة عندهم : التَّسحير والبشرية، وأنَّ الرسول لا يجوز أن يكون مُسَحَّراً ولا بَشَراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحَّراً،
١ كذا في النسختين. والصواب أن هذا في قصة ثمود. انظر الكشاف ٣/١٢٥..
٢ من قوله تعالى: ﴿ما أنت إلاَّ بشرٌ مثلنا فأت بآية إن كنت من الصَّادقين﴾ [الشعراء: ١٥٤]..
قوله :﴿ قالوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾. جاء في قصة هود١ «مَا أَنْتَ »٢ بغير واو، وهاهنا بالواو. فقال الزمخشري : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مخالف للرسالة عندهم : التَّسحير والبشرية، وأنَّ الرسول لا يجوز أن يكون مُسَحَّراً ولا بَشَراً، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحَّراً،
ثم ( قرر )١ بكونه بَشَراً٢. ثم قالوا :﴿ وَإِن نَظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين ﴾ ومعناه ظاهر.
١ كذا في الكشاف، وفي النسختين: قدره..
٢ الكشاف: ٣/١٢٥..
ثم إنَّ شعيباً - عليه السلام١ - كان يتوعدهم بالعذاب٢ إن لم يؤمنوا فقالوا :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السماء ﴾٣ وقد تقدم الكلام في «كِسَفاً » واشتقاقه في الإسراء٤.
وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ بالعذاب: سقط من ب..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٤..
٤ عند قوله تعالى: ﴿أو تسقط السَّماء كما زعمت علينا كسفاً﴾ من الآية ٩٢..
فقال شعيب :﴿ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي : من نقصان الكيل والوزن، وهو مجازيكم بأعمالكم، وليس العذاب إليَّ، وما عليّ إلا الدعوة. فلم يدع عليهم، بل فوض الأمر فيهم إلى الله تعالى.
قوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة ﴾. وذلك أنَّه أخذهم حرّ شديد، فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرّاً، فخرجوا، فأظلتهم١ سحابة، وهي الظُّلَّة، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا٢. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنَّ العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان بسبب كفرهم، بل بسبب تأثيرات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه المنجمون ؟ وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل٣ الاعتبار بهذه٤ القصص، لأنَّ الاعتبار إنما يحصل إذا علمنا أنَّ نزول العذاب كان بسبب كفرهم، وأيضاً فيحتمل أن ينزل العذاب محنة للمكلّفين٥ كما قال :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين ﴾ [ محمد : ٣١ ] وقد ابتلي المؤمنون بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة، وإذا كان كذلك لم يدلّ نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين ؟ فالجواب٦ : هذا سؤال باطل، لأنه يقال : ما الاتصالات التي أوجبت نجاة بني إسرائيل من البحر وأغرقت فرعون وقومه في ساعة واحدة، وما٧ الاتصالات التي أوجبت الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم على القبط دون بني إسرائيل وهم معهم في بلد واحد، وما٨ الاتصالات التي نجّت لوطاً ومن معه وأهلكت قومه وهم قريب منهم، وما الاتصالات التي أوجبت حمل الطير الأبابيل حجارة من سجيل ورمت بها أصحاب الفيل دون غيرهم، وما الاتصالات التي فرقت البحر اثني عشر فرقاً بعدد٩ أسباط بني إسرائيل، وقلبت العصا حية تسعى، وتلقفت١٠ ما صنعته السحرة، ونتقت الجبل فوق بني إسرائيل كأنه ظلّة، وأخرجت الناقة من الحجر، وأطفأت نار إبراهيم، وكل ذلك ثابت بالتواتر لا يمكن إنكاره.
وأيضاً فإنَّ الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد - عليه السلام١١ - تسلية له وإزالة للحزن عن قلبه. فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم جزاءً على كفرهم علم أنَّ الأمر كذلك، وحينئذ حصل له التسلي١٢.
١ في ب: فأظلهم..
٢ انظر: البغوي ٦/٣٣٨-٣٣٩..
٣ لم يحصل: سقط من ب..
٤ في ب: بهذا..
٥ في ب: للكافرين. وهو تحريف..
٦ في ب: والجواب..
٧ في ب: وهما. وهو تحريف..
٨ في ب: وأما..
٩ في ب: بعد. وهو تحريف..
١٠ في ب: وتلقف..
١١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٤..
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾. الهاء تعود على القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به. و «تَنْزِيلٌ» بمعنى مُنَزَّلٌ، أو على حذف مضاف أي: ذُو تَنزيل، وقوله: «نَزَلَ» قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص: «نَزَلَ» مخففاً، و «الرُّوحُ الأمينُ» مرفوعان على إسناد الفعل ل «الروج» و «الأمِين» نعته، والمراد به جبريل.
وباقي السبعة: بالتشديد مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، و «الرُّوح الأَمِين» منصوبان على المفعول به، و «الأَمِين» صفته أيضاً، وقرىء: «نُزِّلَ» مشدداً مبنياً للمفعول، و «الرُّوحُ الأَمِينُ» مرفوعان على ما لم يسم فاعله. و «بِهِ» إمَّا متعلق ب «نَزَل» أو بمحوذف على أنه حال.
قوله: ﴿على قَلْبِكَ لِتَكُونَ﴾. قال أبو حيان: الظاهر تعلُّق «عَلَى قَلْبِكَ» و «لِتَكُونَ» ب «نَزَل». ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر. وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب «تنزيل» أي: وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون، ولكن فيه ضعفٌ من حبث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ».
وقد يجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أنَّ هذه الجملة اعتراضية، وفيها تأكيد وتشديد، فليست بأجنبية.
والثاني: الاغتفار في الظرف وعديله. وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب الإعمال، فإن كلاًّ من «تَنْزِيل» و «نَزَل» يطلب هذين الجارين.
78

فصل


لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام - أتبعه بما يدل على نبوته فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين﴾ لأنه لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين. وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى. وأيضاً فقوله ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين﴾ مؤكد لما ذكرنا، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله، ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ عَلَى قَلْبِكَ يا محمد، أي: فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] ﴿لِتَكُونَ مِنَ المنذرين﴾ : المخوِّفين. وسمي جبريل روحاً، لأنه خلق من الروح. وقيل: لأنه نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح التي تستتبع الحياة. وقيل: لأنه روح كله، لا كالناس في أبدانهم روح. وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - (عليهم السلام) -.

فصل


روي أنَّ جبريل - عليه السلام - نزل على آدم - عليه السلام - اثنا عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة.
فإن قيل: لم قال: «عَلَى قَلْبِكَ» وهو إنما أنزل عليه؟
فالجواب: ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سار الأعضاء فمسخّرة له، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: ﴿نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧]، ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: ٣٧] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب، قال تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥] ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧] والتقوى في القلب لقوله تعالى: ﴿أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾ [الحجرات: ٣] وقوله: {وَحُصِّلَ مَا فِي
79
الصدور} [العاديات: ١٠]. وحكى عن أهل النار قولهم: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير﴾ [الملك: ١٠] والعقل في القلب، والسمع منفذٌ إليه، وقال: ﴿إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: ٣٦] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، وقال: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ [غافر: ١٩] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الحديث فقوله - عليه السلام -: «أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»
وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك. وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادر عن سار الأعضاء.
قوله: «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ». يجوز أن يتعلق ب «المُنْذِرينَ» أي: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي، وهم: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلّم - (و) يجوز أن يتعلق ب «نَزَلَ» أي: نزل باللسان العربي لتنذر به، لأنه لو نزل بالأعجمي لقالوا: لم نزل علينا ما لا نفهمه؟ وجوز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «بِهِ» بإعادة العامل، قال: أي نزل بلسان عربي، أي: برسالة أو لغة. قال ابن عباس: بلسان قريش ليفهموا ما فيه.
قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين﴾. أي: وإن القرآن. وقيل: وإن محمداً ونعته ﴿لَفِي زُبُرِ الأولين﴾ أي: كتب الأولين. وقيل: المراد وجوه التخويف، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم، وفيه التفات، إذ لو جرى على ما تقدم لقيل: «وإنك لفي زبر». وقرأ الأعمش: «زُبْرِ» بسكون الباء، وهي مخففة من المشهور.
80
وقوله :«نَزَلَ » قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص :«نَزَلَ » مخففاً، و «الرُّوحُ الأمينُ » مرفوعان على إسناد الفعل ل «الروح » و «الأمِين » نعته، والمراد به جبريل.
وباقي السبعة : بالتشديد مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، و١ «الرُّوح الأَمِين » منصوبان٢ على المفعول به، و «الأَمِين » صفته أيضاً، وقرىء :«نُزِّلَ » مشدداً مبنياً للمفعول٣، و «الرُّوحُ الأَمِينُ » مرفوعان على ما لم يسم فاعله. و «بِهِ » إمَّا متعلق ب «نَزَل » أو بمحذوف على أنه حال٤.
١ و: تكملة ليست في المخطوط..
٢ السبعة (٤٧٣)، الكشف ٢/١٥١-١٥٢، النشر ٢/٣٣٦، الإتحاف (٣٣٤)..
٣ قال أبو البقاء: (وعلى ترك التسمية والتشديد) التبيان ٢/١٠٠٠ ولم أعثر عليها عند غيره، ولم يعزها إلى من قرأ بها..
٤ انظر الكشاف ٣/١٢٦، تفسير ابن عطية ١١/١٤٨..
قوله :﴿ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ ﴾. قال أبو حيان : الظاهر تعلُّق «عَلَى قَلْبِكَ » و «لِتَكُونَ » ب «نَزَل »١. ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر. وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب «تنزيل » أي : وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون، ولكن فيه ضعفٌ من حيث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة :«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ».
وقد يجاب عنه بوجهين :
أحدهما : أنَّ هذه الجملة اعتراضية، وفيها تأكيد وتشديد، فليست بأجنبية.
والثاني : الاغتفار في الظرف وعديله. وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب٢ الإعمال٣، فإن كلاًّ من «تَنْزِيل » و «نَزَل » يطلب هذين الجارين.

فصل :


لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام٤ - أتبعه بما يدل على نبوته فقال :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين ﴾ لأنه٥ لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين. وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى. وأيضاً فقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين ﴾ مؤكد لما ذكرنا، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله٦، ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾٧ عَلَى قَلْبِكَ يا محمد، أي٨ : فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] ﴿ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ : المخوِّفين. وسمي جبريل روحاً، لأنه خلق من الروح. وقيل : لأنه نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح التي تستتبع الحياة. وقيل : لأنه روح كله، لا كالناس في أبدانهم روح٩. وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - ( عليهم السلام١٠ )١١ -.

فصل :


روي أنَّ جبريل - عليه السلام- نزل على آدم - عليه السلام١٢ - اثنتا عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة.
فإن قيل : لم قال :«عَلَى قَلْبِكَ » وهو إنما أنزل عليه ؟.
فالجواب : ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول١٣ متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سائر الأعضاء فمسخّرة له، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى :﴿ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ]، ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ ﴾، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ ق : ٣٧ ] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب، قال تعالى١٤ :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] ﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ] والتقوى في القلب لقوله تعالى :﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ [ الحجرات : ٣ ] وقوله :﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور ﴾ [ العاديات : ١٠ ]. وحكى عن أهل النار قولهم :﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ] والعقل في القلب، والسمع منفذٌ إليه، وقال :﴿ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، وقال :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الحديث فقوله - عليه السلام١٥ - :«أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »١٦.
وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور، وإذا أفاق١٧ القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك. وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادرة عن سائر الأعضاء١٨.
١ البحر المحيط ٧/٤٠..
٢ في الأصل: من باب..
٣ وهو التنازع..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥ في ب: لأن..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٥..
٧ الأمين: سقط من ب..
٨ أي: سقط من ب..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٦..
١٠ المرجع السابق..
١١ ما بين القوسين في ب: عليهم الصلاة والسلام..
١٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٣ كذا في الفخر الرازي، وفي الأصل: والمرسل، وفي ب: والرسول..
١٤ في ب: قال الله تعالى..
١٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٦ أخرجه البخاري (إيمان) ١/١٩-٢٠، ومسلم (مساقاة) ٣/١٢١٩، وابن ماجه (فتن) ٢/١٣١٨-١٣١٩، الدارمي (بيوع) ٢/٢٤٥، أحمد ٤/٢٧٠..
١٧ في ب: فاق..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٦-١٦٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٤:قوله :﴿ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ ﴾. قال أبو حيان : الظاهر تعلُّق «عَلَى قَلْبِكَ » و «لِتَكُونَ » ب «نَزَل »١. ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر. وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب «تنزيل » أي : وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون، ولكن فيه ضعفٌ من حيث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة :«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ».

وقد يجاب عنه بوجهين :

أحدهما : أنَّ هذه الجملة اعتراضية، وفيها تأكيد وتشديد، فليست بأجنبية.
والثاني : الاغتفار في الظرف وعديله. وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب٢ الإعمال٣، فإن كلاًّ من «تَنْزِيل » و «نَزَل » يطلب هذين الجارين.

فصل :


لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام٤ - أتبعه بما يدل على نبوته فقال :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين ﴾ لأنه٥ لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين. وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى. وأيضاً فقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين ﴾ مؤكد لما ذكرنا، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله٦، ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾٧ عَلَى قَلْبِكَ يا محمد، أي٨ : فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] ﴿ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ : المخوِّفين. وسمي جبريل روحاً، لأنه خلق من الروح. وقيل : لأنه نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح التي تستتبع الحياة. وقيل : لأنه روح كله، لا كالناس في أبدانهم روح٩. وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - ( عليهم السلام١٠ )١١ -.

فصل :


روي أنَّ جبريل - عليه السلام- نزل على آدم - عليه السلام١٢ - اثنتا عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة.
فإن قيل : لم قال :«عَلَى قَلْبِكَ » وهو إنما أنزل عليه ؟.
فالجواب : ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول١٣ متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سائر الأعضاء فمسخّرة له، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى :﴿ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ]، ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ ﴾، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ ق : ٣٧ ] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب، قال تعالى١٤ :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] ﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ] والتقوى في القلب لقوله تعالى :﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ [ الحجرات : ٣ ] وقوله :﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور ﴾ [ العاديات : ١٠ ]. وحكى عن أهل النار قولهم :﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ] والعقل في القلب، والسمع منفذٌ إليه، وقال :﴿ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، وقال :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الحديث فقوله - عليه السلام١٥ - :«أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »١٦.
وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور، وإذا أفاق١٧ القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك. وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادرة عن سائر الأعضاء١٨.
١ البحر المحيط ٧/٤٠..
٢ في الأصل: من باب..
٣ وهو التنازع..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥ في ب: لأن..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٥..
٧ الأمين: سقط من ب..
٨ أي: سقط من ب..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٦..
١٠ المرجع السابق..
١١ ما بين القوسين في ب: عليهم الصلاة والسلام..
١٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٣ كذا في الفخر الرازي، وفي الأصل: والمرسل، وفي ب: والرسول..
١٤ في ب: قال الله تعالى..
١٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٦ أخرجه البخاري (إيمان) ١/١٩-٢٠، ومسلم (مساقاة) ٣/١٢١٩، وابن ماجه (فتن) ٢/١٣١٨-١٣١٩، الدارمي (بيوع) ٢/٢٤٥، أحمد ٤/٢٧٠..
١٧ في ب: فاق..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٦-١٦٧..


قوله :﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ ﴾١. يجوز أن يتعلق ب «المُنْذِرينَ » أي : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي، وهم : هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد - صلى الله عليه وسلّم٢ - ( و )٣ يجوز أن يتعلق ب «نَزَلَ » أي : نزل باللسان العربي لتنذر به، لأنه لو نزل بالأعجمي لقالوا : لم نزل علينا ما لا نفهمه٤ ؟ وجوز أبو البقاء أن يكون بدلاً من «بِهِ » بإعادة العامل، قال : أي نزل بلسان عربي، أي : برسالة أو لغة٥. قال ابن عباس : بلسان قريش ليفهموا ما فيه٦.
١ عربي: سقط من ب..
٢ في ب: صلى الله عليه وسلم..
٣ و: سقط من الأصل..
٤ انظر الكشاف ٣/١٢٦-١٢٧..
٥ التبيان ٢/١٠٠١..
٦ انظر البغوي ٦/٢٤٠..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٤:قوله :﴿ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ ﴾. قال أبو حيان : الظاهر تعلُّق «عَلَى قَلْبِكَ » و «لِتَكُونَ » ب «نَزَل »١. ولم يذكر ما يقابل هذا الظاهر. وأكثر ما يتخيَّل أنه يجوز أن يتعلقا ب «تنزيل » أي : وإنه لتنزيل ربِّ العالمين على قلبك لتكون، ولكن فيه ضعفٌ من حيث الفصل بين المصدر ومعموله بجملة :«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ».

وقد يجاب عنه بوجهين :

أحدهما : أنَّ هذه الجملة اعتراضية، وفيها تأكيد وتشديد، فليست بأجنبية.
والثاني : الاغتفار في الظرف وعديله. وعلى هذا فلا يبعد أن يجيء في المسألة باب٢ الإعمال٣، فإن كلاًّ من «تَنْزِيل » و «نَزَل » يطلب هذين الجارين.

فصل :


لما ذكر قصص الأنبياء لمحمد - عليه السلام٤ - أتبعه بما يدل على نبوته فقال :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين ﴾ لأنه٥ لفصاحته معجز فيكون من رب العالمين. وأيضاً فلأنه إخبار عن الأمم الماضية من غير تعلم ألبتة، وذلك إلاَّ بوحي من الله تعالى. وأيضاً فقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين ﴾ مؤكد لما ذكرنا، لأن ذكر هذه القصص على ما هي في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستفادة دليل على أنه ليس إلا من عند الله٦، ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين ﴾٧ عَلَى قَلْبِكَ يا محمد، أي٨ : فهمك إياه وأثبته في قلبك كي لا تنساه كقوله :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] ﴿ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ : المخوِّفين. وسمي جبريل روحاً، لأنه خلق من الروح. وقيل : لأنه نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح التي تستتبع الحياة. وقيل : لأنه روح كله، لا كالناس في أبدانهم روح٩. وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه للأنبياء - ( عليهم السلام١٠ )١١ -.

فصل :


روي أنَّ جبريل - عليه السلام- نزل على آدم - عليه السلام١٢ - اثنتا عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات وعلى محمد - عليه السلام - أربع عشرة ألف مرة.
فإن قيل : لم قال :«عَلَى قَلْبِكَ » وهو إنما أنزل عليه ؟.
فالجواب : ليؤكد أنّ ذلك المنزل محفوظ للرسول١٣ متمكن من قبله لا يجوز عليه التغيير، ولأنَّ القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سائر الأعضاء فمسخّرة له، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى :﴿ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ]، ﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ ﴾، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ ق : ٣٧ ] واستحقاق الجزاء ليس إلاَّ على ما في القلب، قال تعالى١٤ :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] ﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ] والتقوى في القلب لقوله تعالى :﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ [ الحجرات : ٣ ] وقوله :﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور ﴾ [ العاديات : ١٠ ]. وحكى عن أهل النار قولهم :﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١٠ ] والعقل في القلب، والسمع منفذٌ إليه، وقال :﴿ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] والسمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، وقال :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ] ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الحديث فقوله - عليه السلام١٥ - :«أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فسد الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »١٦.
وأما المعقول فإنَّ القلب إذا غشي عليه، فإذا قطع سائر الأعضاء لم يحصل به الشعور، وإذا أفاق١٧ القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وأيضاً فإذا فرح القلب أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك. وأيضاً فإن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادرة عن سائر الأعضاء١٨.
١ البحر المحيط ٧/٤٠..
٢ في الأصل: من باب..
٣ وهو التنازع..
٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٥ في ب: لأن..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٥..
٧ الأمين: سقط من ب..
٨ أي: سقط من ب..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٦..
١٠ المرجع السابق..
١١ ما بين القوسين في ب: عليهم الصلاة والسلام..
١٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٣ كذا في الفخر الرازي، وفي الأصل: والمرسل، وفي ب: والرسول..
١٤ في ب: قال الله تعالى..
١٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٦ أخرجه البخاري (إيمان) ١/١٩-٢٠، ومسلم (مساقاة) ٣/١٢١٩، وابن ماجه (فتن) ٢/١٣١٨-١٣١٩، الدارمي (بيوع) ٢/٢٤٥، أحمد ٤/٢٧٠..
١٧ في ب: فاق..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٦٦-١٦٧..


قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين ﴾. أي : وإن القرآن. وقيل : وإن١ محمداً ونعته ﴿ لَفِي زُبُرِ الأولين ﴾ أي : كتب الأولين. وقيل : المراد وجوه٢ التخويف، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم٣، وفيه التفات٤، إذ لو جرى على ما تقدم لقيل :«وإنك لفي زبر ». وقرأ الأعمش :«زُبْرِ » بسكون الباء، وهي مخففة من المشهور٥.
١ في ب: إن..
٢ في الأصل: وجود..
٣ انظر الكشاف ٣/١٢٦، الفخر الرازي ٢٤/١٦٩..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٤١..
٥ أي أنها مخففة من (زُبُر) جمع (زبور). انظر تفسير ابن عطية ١١/١٤٩، البحر المحيط ٧/٤١..
قوله: ﴿أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً﴾. قرأ ابن عامر «تَكُنْ» بالتاء من فوقه «آيَةٌ» بالرفع. والباقون «يَكُنْ» بالياء من تحت «آيَةً» بالنصب. وابن عباس: «تَكُنْ» بالتاء من فوق «آيَةٌ» بالنصب. فأما قراءة ابن عامر فتكون يحتمل أن تكون تامة، وأن تكون ناقصة. فإن كانت تامة جاز أن يكون «لَهُمْ» متعلقاً بها، و «آيَةٌ» فاعلاً بها، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» إما بدل من «آيَةٌ» وإما خبر مبتدأ مضمر، أي: أو لم تحدث لهم علامةُ علم علماء بني إسرائيل. وإن كانت ناقصة جاز فيها أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون اسمها مضمراً فيها بمعنى القصة، و ﴿آيَةً أَن يَعْلَمَهُ﴾ جملة قدم فيها الخبر واقعةٌ موقع خبر «تَكُنْ».
الثاني: أن يكون امسها ضمير القصة أيضاً و «لَهُمْ» خبر مقدم، و «آيَةٌ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «تَكُنْ»، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» إما بدل من «آيَةٌ» وإما خبر مبتدأ مضمر، أي: أن يعلمه.
الثالث: أن يكون «لَهُمْ» خبر «تَكُنْ» مقدماً على اسمها، و «آيَةٌ» امسها، و «أنْ يَعْلَمَهُ» على الوجهين المتقدمين: البدلية، وخبر ابتداء مضمر.
الرابع: أن تكون «آيَةٌ» اسمها، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» خبرها. وقد اعترض هذا بأنه يلزم جعل الاسم نكرة والخبر معرفة وقد نص بعضهم على أنه ضرورة كقوله:
81
٣٩٢٤ - وَلاَ يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا... وقوله:
٣٩٢٥ - يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ... وقد اعتذر عن ذلك بأنَّ «آيَةٌ» قد تخصصت بقوله: «لَهُمْ» فإنه حال منها، والحال صفة، وبأن تعريف الخبر ضعيف لعمومه. وهو اعتذار باطل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا التخريج، بل التخريج ما تقدم. وأما قراءة الباقين فواضحة جداً، ف «آيَةٌ» خبر مقدم، و «أَنْ يَعْلَمَهُ» اسمها مؤخر، و «لَهُمْ» متعلق ب «آيَةٌ» حالاً من «آية». وأما قراءة ابن عباس كقراءة: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الأنعام: ٢٣]، وكقول لبيد:
٣٩٢٦ - فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ أَقْدَامُهَا
إما لتأنيث الاسم لتأنيث (الخبر)، وإما لأنه بمعنى المؤنث، ألا ترى أنَّ «أَنْ يَعْلَمَهُ» في قوة المعرفة، و ﴿إِلاَّ أَنْ قَالُواْ﴾ في قوة مقالتهم، وإِقْدَامُهَا بإقْدَامَتِهَا.
وقرأ الجحدريّ: «أَنْ تَعْلَمَهُ» بالتاء من فوق، شبَّه البنين بجمع التكسير في تغيّر واحده صورةً، فعامل فعله المسند إليه معاملة فعله في لحاق علامة التأنيث، وهذا كقوله:
82
وكتبوا في الرسم الكريم: «عُلَمواء» بواو بين الميم والألف. قيل: هو على لغة من يميل الألف نحو الواو، وهذا كما فعل في «الصَّلاة والزَّكْاة».

فصل


المعنى: أو لم يكن لهؤلاء المنكرين علم بني إسرائيل علامة ودلالة على نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنّ العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل كاناو يخبرون بوجود ذكره في كتبهم، كعبد الله بن سلام، وابن يامين، وثعلبة، وأسد، وأسيد. قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: إنَّ هذا لزمانه، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته، فكان ذلك آية على صدقه.
قوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين﴾. قال صاحب التحرير: الأعجمين: جمع أعجمي بالتخفيف، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة.
قال شهاب لادين: وكأنَّ سبب منع جمعه أنه من باب: أفعل فعلاء، ك «أَحْمَرَ حَمْرَاءَ». والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلاّ ضرورة، كقوله:
٣٩٢٨ - حَلاَئِلَ أَسْوَدِينَ وَأَحْمَرِينَا... فلذلك قدره مسنوباً مخفف الياء. وقد جعله ابن عطية «أَعْجَم» فقال: الأعجمون: جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له: أعجم، وذلك يقال للحيوانات، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «العَجْمَاء جُبَار» وأسند الطَّبريّ عن
83
عبد الله بن مطيع أنه كان واقفاً بعرفة وتحته جمل، فقال: جَمَلِي هذا أَعْجَمٌ، ولو أنَّه أنزل عليه ما كانوا يؤمنون.
والعجميُّ: هو الذي نسبته في العجم وإن كان أفصح الناس.
وقال الزمخشري: الأعجم: الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة واستعجام، والأعجمي مثله لا أنَّ فيه زيادة ياء النسب توكيداً. وقتدم نحو من هذا في سورة النحل وقد صرَّح أبو البقاء يمنع أن يكون «الأعْجَمِينَ» جمع أعجم، وإنما هو جمع أعجمي مخففاً من «أَعْجَمِيّ» «كَالأَشْعَرُون» في الأَشْعَرِيّ. قال: «الأعجمين» الأعجميِّين، فحذف ياء النسب، كما قالوا: (الأَشْعَرُونَ أي) : الأَشْعَرِيُّون، وواحده (أَعْجَمِي) ولا يجوز أن يكون جمع (أَعْجَم) لأنَّ مؤنثه (عَجْمَاء)، ومثل هذا لا يجمع جمع التصحيح. قال شهاب الدين: وفيما قاله ابن عطية نظر، وأام الزمخشري فليس في كلامه أنه جمع (أَعْجَم) مخففاً أو غير مخفف، وإن كان ظاهره أنه جمع (أعجم) من غير تخفيف، ولكن الذي قاله ابن عطية تبع فيه الفراء فإنَّه قال: الأعجمين: جمع (أَعْجَم) أو (أَعْجَمِي) على حذف ياء النسب، كما قالوا: الأشعرين وواحدهم. (أشعري) وأنشد للكميت:
٣٩٢٧ - قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ
٣٩٢٩ - وَلَوْ جَهَّزتَ قَافِيةً شَرُوداً لَقَدْ دَخَلَتْ بيُوتَ الأَشْعَرِينَا
لكن الفراء لا يضره ذلك، فإنه من الكوفيين، وقد تقدم عنهم أنهم يجيزون جمع (
84
أَفْعَل فَعْلاَء).
وقرأ الحسن وابن مقسم: «الأَعْجَمِيِّينَ» بياء النسب - وهي مؤيدة لتخفيفه منه في قراءة العامة.

فصل


قوله «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ» يعني: القرآن على رجل ليس بعربي اللسان «فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ» بغير لغة العرب ﴿مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ وقالوا ما نفقه قولك، وجعلوه عذراً لجحودهم، ونظيره: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ [فصلت: ٤٤].
وقيل: معنا: ولو أنزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه.
قوله: «كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ» أي: قيل ذلك، أو الأمر كذلك. والضمير في «سَلَكْنَاهُ» عائد على القرآن، وهو الظاهر، أي: سلكناه في قلوب المجرمين (كما سلكناه في قلوب المؤمنين)، ومع ذلك لم ينجع فيهم. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد: أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.
وهذه الآية تدل على أنّ الكل بقضاء الله وخلقه. قال الزمخشري: إراد به أنه صار ذلك التكذيب متمكناً في قلوبهم أشدّ التمكن، فصار ذلك كالشيء الجبلِّي.
والجواب: أنه إما أن يكون قد فعل الله تعالى فيهم ما يقتضي الترجيح أم لا، فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أنَّ الترجيح لا يتحقق ما لم يثب إلى حد الوجوب، وحينئذ يحصل المقصود، وإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح البتة امتنع قوله: «كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ».
85
قوله: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ في الجملة وجهان:
أحدهما: الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله.
والثاني: أنها حال من الضمير في «سَلَكْنَاهُ» أي: غير مُؤْمِنٍ بِهِ.
ويجوز أن يكون حالاً من «المُجْرِمِينَ» لأنَّ المضاف جزء من المضاف إليه ﴿حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ يعني: الموت.
قوله: «فَيَأْتِيَهُمْ» و «فَيَقُولُوا» عطف على «يَرَوا».
وقرأ العامة بالياء من تحت. والحسن وعيسى بالتاء من فوق.
أنّث ضمير العذاب. لأنه في معنى العقوبة. وقال الزمخشري: أنّثَ على أن الفاعل ضمير الساعة. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله: «فَيَأْتِيَهُمْ» ؟ قُلْت: ليس المعنى التعقيب في الوجود، بل المعنى ترتُّبها في الدشة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب أشدَّ منها، ومثال ذلك أن تقول: إنْ أَسَأتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ فمَقَتَكَ اللَّه فإنك لا تقصد أنّ مَقْتَ اللَّهِ بعد مَقْتِ الصَّالِحينَ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة المر على المسيء.
وقرأ الحسن: «بَغَتَةً» بفتح الغين.

فصل


المعنى: يَأْتِيَهُمْ العذاب «بَغْتَةً» أي: فجأة ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ به في الدنيا، ﴿فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ أي: لنؤمن ونصدق، يتمنون الرجعة والنظرة، وإنما يقولون ذلك استرواحاً عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة ألاَّ ملجأ لهم. قال مقاتل: لما وعدهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالعذاب قالوا: إلى متى توعدنا بالعذاب؟ ومتى هذا
86
العذاب؟ قال الله تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾.
87
قوله :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين ﴾. قال صاحب التحرير : الأعجمين : جمع أعجمي بالتخفيف، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة١.
قال شهاب الدين : وكأنَّ سبب منع جمعه أنه من باب : أفعل فعلاء، ك «أَحْمَرَ حَمْرَاءَ ». والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلاّ ضرورة، كقوله :
٣٩٢٨ - حَلاَئِلَ أَسْوَدِينَ وَأَحْمَرِينَا٢ ***. . .
فلذلك٣ قدره منسوباً مخفف الياء٤. وقد جعله ابن عطية «أَعْجَم » فقال : الأعجمون : جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب يقال له : أعجم، وذلك يقال للحيوانات، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :«العَجْمَاء جُبَار »٥. وأسند الطَّبريّ عن عبد الله بن مطيع٦ أنه كان واقفاً بعرفة وتحته جمل، فقال : جَمَلِي هذا أَعْجَمٌ، ولو أنَّه أنزل عليه ما كانوا يؤمنون٧.
والعجميُّ : هو الذي نسبته في العجم وإن كان أفصح الناس٨.
وقال الزمخشري : الأعجم : الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة واستعجام، والأعجمي مثله إلا أنَّ فيه زيادة ياء٩ النسب توكيداً١٠. وتقدم نحو من هذا في سورة النحل١١ وقد صرَّح أبو البقاء بمنع أن يكون «الأعْجَمِينَ » جمع أعجم، وإنما هو جمع أعجمي١٢ مخففاً من «أَعْجَمِيّ » «كَالأَشْعَرُون » في الأَشْعَرِيّ. قال :«الأعجمين » الأعجميِّين، فحذف ياء النسب، كما قالوا :( الأَشْعَرُونَ أي )١٣ : الأَشْعَرِيُّون، وواحده ( أَعْجَمِي ) ولا يجوز أن يكون جمع ( أَعْجَم ) لأنَّ مؤنثه ( عَجْمَاء )، ومثل هذا لا يجمع جمع التصحيح١٤. قال شهاب الدين : وفيما قاله ابن عطية نظر١٥، وأما الزمخشري فليس في كلامه أنه جمع ( أَعْجَم ) مخففاً أو غير مخفف، وإن كان ظاهره أنه جمع ( أعجم ) من غير تخفيف، ولكن الذي قاله ابن عطية تبع فيه الفراء فإنَّه قال : الأعجمين : جمع ( أَعْجَم ) أو ( أَعْجَمِي ) على حذف ياء النسب، كما قالوا : الأشعرين وواحدهم. ( أشعري )١٦ وأنشد للكميت :
٣٩٢٩ - وَلَوْ جَهَّزتَ قَافِيةً شَرُوداً١٧ *** لَقَدْ دَخَلَتْ بيُوتَ الأَشْعَرِينَا١٨
لكن الفراء لا يضره ذلك، فإنه من الكوفيين، وقد تقدم عنهم أنهم يجيزون جمع ( أَفْعَل فَعْلاَء )١٩.
وقرأ الحسن وابن مقسم :«الأَعْجَمِيِّينَ »٢٠ بياء٢١ النسب٢٢ - وهي مؤيدة لتخفيفه منه في قراءة العامة.

فصل :


قوله٢٣ «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ » يعني : القرآن على رجل ليس بعربي٢٤ اللسان
١ انظر البحر المحيط ٧/٤١..
٢ عجز بيت من بحر الوافر، قاله حكيم الأعور بن عياش الكلابي. وصدره:
فما وجدت بنات بني نزارٍ ***...
وهو في المقرب (٤٠٣) منسوباً إلى الكميت، وديوان الكميت ٢/١١٦، ابن يعيش ٥/٦٠، الهمع ١/٤٥، الأشموني ١/٨١، الخزانة ١/١٧٨، ٨/١٨، شرح شواهد الشافية ٤/١٤٣، الدرر ١/١٩. الحلائل: جمع حليل- بالحاء المهملة-: الزوج، والحليلة: الزوجة. والشاهد فيه قوله: (أسودين وأحمرين) حيث جمع (أسود، وأحمر) جمع المذكر السالم، وذلك شاذ لضرورة الشعر، فإن كل صفة لا تلحقها التاء فكأنها من قبيل الأسماء، ولهذا لم يجمع على هذا الجمع (أفعل فعلاء)، ولا (فعلان فعلى)، وأجاز ابن كيسان: أحمرون وسكرانون، واستدل بهذا البيت، وهو عند غيره شاذ..

٣ في ب: فكذلك. وهو تحريف..
٤ الدر المصون ٥/١٦٩..
٥ في ب: ( جرح العجماء جبار). أخرجه البخاري (الديات) ٤/١٩٣-١٩٤، مسلم (الحدود) ٣/١٣٣٤-١٣٣٥، أبو داود (الديات) ٤/٧١٥-٧١٦، الترمذي (الزكاة) ٢/٧٧، النسائي (الزكاة) ٥/٤٥، ابن ماجه (الديات) ٢/٨٩١ الموطأ (العقول) ٢/٨٦٩، أحمد ٢/٢٢٨، ٢٣٩، ٥/٣٢٦. العجماء: البهيمة من الأنعام وغيرها، الجبار: هو الهدر الذي لا يغرم. وانظر غريب الحديث لابن الأثير ٣/١٨٧..
٦ هو عبد الله بن مطيع بن الأسود، من بني عويج بن عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وكان أبوه مطيع بن الأسود يسمى العاص، فسماه النبي- صلى الله عليه وسلم: مطيعاً. المعارف ٣٩٥..
٧ جامع البيان ١٩/٧٠..
٨ تفسير ابن عطية ١١/١٥٠-١٥١..
٩ ياء: سقط من ب..
١٠ الكشاف ٣/١٢٧. وفيه: إلا أن فيه لزيادة ياء النسب زيادة تأكيد..
١١ عند قوله تعالى: ﴿... إنَّما يعلِّمه بشرٌ لسان الَّذي يلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسان عربيٌّ مبينٌ﴾ من الآية (١٠٣)..
١٢ في الأصل: أعجم..
١٣ ما بين القوسين سقط من ب..
١٤ التبيان ٢/١٠٠١-١٠٠٢..
١٥ في ب: نظر واضح..
١٦ تبع شهاب الدين أبا حيان في النقل عن الفراء، فإنهما قد نقلا معنى كلامه وعبارة الفراء: ( الأعجم في لسانه، والأعجمي المنسوب إلى أصله إلى العجم وإن كان فصيحاً. ومن قال: أعجم، قال للمرأة عجماء إذا لم تحسن العربية، ويجوز أن تقول: عجمي تريد أعجمي تنسبه إلى أصله) معاني القرآن للفراء ٢/٢٨٣..
١٧ في ب: سدوداً..
١٨ البيت من بحر الوافر قاله الكميت، وهو في ديوانه ٢/١١٩، البحر المحيط ٧/٤٢. قوله: (قافية شروداً) أي: قافية سائرة في البلاد تشرد كما تشرد البعير والشاهد فيه قوله: "الأشعرينا" فإنه جمع (أاشعري) مخفف (أشعريّ) والأصل: الأشعريينا. فخفف بحذف الياء الأولى..
١٩ الدر المصون ٥/١٦٩..
٢٠ في ب: الأعجمين..
٢١ في ب: بياي..
٢٢ المختصر (١٠٧)، المحتسب ٢/١٣٢، البحر المحيط ٧/٤٢، الإتحاف (٣٣٤)..
٢٣ قوله: سقط من الأصل..
٢٤ في ب: يعرف..
«فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ » بغير لغة العرب ﴿ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ وقالوا ما نفقه قولك، وجعلوه عذراً لجحودهم، ونظيره :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ﴾ [ فصلت : ٤٤ ].
وقيل : معناه : ولو أنزلناه١ على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه٢.
١ في الأصل: أنزلنا..
٢ انظر البغوي ٦/٢٤١..
قوله :«كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ » أي : قيل ذلك١، أو الأمر كذلك٢. والضمير في «سَلَكْنَاهُ » عائد على القرآن، وهو الظاهر٣، أي : سلكناه في قلوب المجرمين ( كما سلكناه في قلوب المؤمنين )٤، ومع ذلك لم ينجع٥ فيهم. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : أدخلنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين٦.
وهذه الآية تدل على أنّ الكل بقضاء الله وخلقه. قال الزمخشري : أراد به أنه صار ذلك التكذيب متمكناً في قلوبهم أشدّ التمكن، فصار ذلك كالشيء الجبلِّي٧.
والجواب : أنه إما أن يكون قد فعل الله تعالى فيهم ما يقتضي الترجيح أم لا، فإن كان الأول فقد دللنا٨ في سورة الأنعام على أنَّ الترجيح لا يتحقق ما لم يثب٩ إلى حد الوجوب، وحينئذ يحصل المقصود، وإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح البتة امتنع قوله :«كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ »١٠.
١ فتكون الكاف صفة لمصدر محذوف، أي: سلوكاً مثل. التبيان ٢/٧٧٧..
٢ فتكون الكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف. المرجع السابق..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٤٢..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥ في اللسان (نجع): نجع فيه القول والخطاب والوعظ: عمل فيه ودخل وأثر..
٦ انظر البغوي ٦/٢٤١-٢٤٢..
٧ نص عبارة الزمخشري: (فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته. قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذباً في قلوبهم أشد التمكن وأثبته فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه وفطروا) الكشاف ٣/١٢٨، وابن عادل تبع ابن الخطيب في النقل عن الزمخشري، فقد نقلا معنى كلامه..
٨ في ب: قدمنا..
٩ يثب: سقط من ب..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٠..
قوله :﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ في الجملة وجهان :
أحدهما : الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبله.
والثاني : أنها حال من الضمير في «سَلَكْنَاهُ » أي١ : غير مُؤْمِنٍ بِهِ٢.
ويجوز أن يكون حالاً من «المُجْرِمِينَ » لأنَّ المضاف جزء من المضاف إليه ﴿ حتى يَرَوُا العذاب الأليم ﴾ يعني : الموت٣.
١ أي: سقط من الأصل..
٢ انظر الكشاف ٣/١٢٨..
٣ في ب: عند الموت..
قوله :«فَيَأْتِيَهُمْ » و١ «فَيَقُولُوا » عطف على «يَرَوا »٢.
وقرأ العامة بالياء من تحت. والحسن وعيسى بالتاء من فوق٣.
أنّث ضمير العذاب. لأنه في معنى العقوبة٤. وقال الزمخشري : أنّثَ على أن الفاعل ضمير٥ الساعة٦. قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله :«فَيَأْتِيَهُمْ » ؟ قُلْت : ليس المعنى التعقيب في الوجود، بل المعنى ترتُّبها في الشدة، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب أشدَّ منها، ومثال ذلك أن تقول : إنْ أَسَأْتَ مَقَتَكَ الصَّالِحُونَ فمَقَتَكَ اللَّه٧ فإنك لا تقصد أنّ مَقْتَ اللَّهِ بعد مَقْتِ الصَّالِحينَ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء٨.
وقرأ الحسن :«بَغَتَةً » بفتح الغين٩.

فصل :


المعنى : يَأْتِيَهُمْ العذاب «بَغْتَةً » أي : فجأة ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ به في الدنيا،
١ و: سقط من ب..
٢ انظر التبيان ٢/١٠٠٢..
٣ المختصر (١٠٨)، المحتسب ٢/١٣٣، قال ابن جني: (الفاعل المضمر الساعة، أي: فتأتيهم الساعة "بغتة" فأضمرها لدلالة العذاب الواقع فيها عليها، ولكثرة ما تردد في القرآن من ذكر إتيانها) وانظر أيضاً البحر المحيط ٧/٤٢..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٤٢..
٥ ضمير: سقط من ب..
٦ وعبارة الزمخشري: (وقرأ الحسن: "فتأتيهم" بالتاء يعني: الساعة) الكشاف ٣/١٢٨..
٧ فمقتك الله: تكملة من الكشاف..
٨ الكشاف ٣/١٢٨. بتصرف يسير..
٩ المختصر (١٠٨)، الكشاف ٣/١٢٨، البحر المحيط ٧/٤٣..
﴿ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ﴾ أي : لنؤمن ونصدق، يتمنون الرجعة١ والنظرة، وإنما يقولون ذلك استرواحاً عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة ألاَّ٢ ملجأ لهم٣. قال مقاتل : لما وعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب٤ قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب ؟ ومتى هذا العذاب ؟ قال الله تعالى :﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾١.
١ في ب: الرجفة..
٢ في ب: لا..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٠..
٤ بالعذاب: سقط من ب..
قال مقاتل : لما وعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب ؟ ومتى هذا العذاب ؟ قال الله تعالى :﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾١.
١ انظر البغوي ٦/٢٤٢..
قوله: «أَفَرَأيْتَ» تقدم تحقيقه وقد تنازع «أَفَرَأَيْتَ» وجَاءَهُمْ «في قوله: ﴿مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ فإن أعملت الثاني وهو» جَاءَهُمْ «رفعت به» مَا كَانُوا «فاعلاً به، ومفعول» أَرَأَيْتَ «الأول ضميره، ولكنه حذف، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله: ﴿مَآ أغنى عَنْهُمْ﴾، ولا بدَّ من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الأول المحذوف، وهو مقدر تقديره: أفرأيت ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم تمتُّعهم حين حلَّ، أي: الموعود به، ودلَّ على ذلك قوة الكلام.
وإن أعملت الأول نصبت به ﴿مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ وأضمرت في»
جَاءَهُمْ «ضميره فاعلاً به، والجملة الاستفهامية مفعول ثانٍ أيضاً، والعائد مقدر على ما تقرر في الوجه قبله، والشرط معترض، وجوابه محذوف، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام وإنما ذكرناه هنا لأنه تقديرٌ (عَسِرٌ يحتاج) إلى تأمل. وهذا كله إنما يتأتيى على قولنا:» مَا «استفهامية، ولا يضير تفسيرهم لها بالنفي، فإن الاستفهام قد يرد بمعنى النفي. وأما إذا جعلتها نافية حرفاً، كما قاله أبو البقاء فلا يتأتي ذلك، لأنَّ مفعول» أَرَأَيْتَ «الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما تقرر. قوله: {أَفَرَأَيْتَ
87
إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} كثيرة في الدنيا، يعني كفار مكة، ولم نهلكهم ﴿ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ يعني: العذاب ﴿مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ﴾ في تلك السنين، أي: إنهم وإن طال تمتعهم بنعم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئاً، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط.
قوله: ﴿مَآ أغنى عَنْهُمْ﴾ يجوز أن تكون» مَا «استفهامية في محل نصب مفعولاً مقدماً، و» مَا كَانُوا «هو الفاعل، و» مَا «مصدرية بمعنى: أيُّ شَيْءٍ أغنى عنهم كونهم متمتعين. وأن تكون نافية، والمفعول محذوف، أي: لَمْ يُغْنِ عنهم تمتعهم شيئاً. وقرىء» يُمْتَعُونَ «بإسكان الميم وتخفيف التاء من: أمْتَعَ اللَّهُ زَيداً بكذا.
قوله: ﴿إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ﴾ يجوز أن تكون الجملة صفة ل»
قَرْيَةٍ «وأن تكون حالاً منها. وسوغ ذلك سبق النفي. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد» إلاَّ «ولم تعزل عنها في قوله: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الحجر: ٤] ؟ قلت: الأصل عزل الواو، لأنَّ الجملة صفة ل» قَرْيَةٍ «وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: ﴿سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢]. قال أبو حيان: ولو قدرنا» لَهَا مُنْذِرُونَ «جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد (إلاَّ)، ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد» إلاَّ «معتمدة على أداة الاستثناء، نحو: مَا جَاءَنِي أحدٌ إلاَّ رَاكِبٌ، وإذا سمع مثل هذا خرّجوه على البدل، أي: إلاَّ رجل راكب، ويدل على صحة هذا المذهب أنَّ العرب تقول: ما مررت بأحدٍ إلاَّ قائماً ولا يحفظ عنهم» إِلاَّ قَائِم «يعني: بالجر، فلو كانت الجملة صفة بعد» إلاَّ « (لَسُمِعَ الجَرُّ) في هذا.
وأيضاً فلو كانت الجملة صفة للنكرة لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد «إِلاَّ»
. يعني نحو: مَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ إِلاَّ العَاقِلِ.
88
ثم قال: فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد «إلاَّ» نحو: ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو، والتقدير: ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ.
وأمَّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في عبارة النحويين، لو قلت: جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض وتغاير مدلولها، نحو: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الشجع والشاعر».
وأما ﴿وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] فتقدم الكلام عليه.
قال شهاب الدين: أما كون الصفة لا تقع بعد (إلاَّ) معتمدةً فالزمخشري يختار غير هذا، فإنَّها مسألة خلافية، وأما كونه لم يقل (إلاَّ قائماً) بالنصب دون «قَائِم» بالجر فذلك على أحد الجائزين، وليس فيه دليل على المنع من قسيمه. وأما قوله: فغير معهود في كلام النحويين. فممنوع، هذا ابن جنِّي نصَّ عليه في بعض كتبه، وأما إلزامه أنها لوكانت الجملة صفة بعد (إلاَّ) للنكرة، لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد (إلاَّ) فغير لازم، لأنَّ ذلك مختص بكون الصفة جملة، وإذا كانت جملة تعذر كونها صفة للمعرفة، وإنَّما اختص ذلك بكون الصفة جملة، لأنها لتأكيد وصل الصفة والتأكيد لائق بالجمل.
وأمَّا قوله: لو قلت: جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، فمسلَّم، ولكن إنما امتنع ذلك في الصفة المفردة لئلا يلبس أإن الجائي اثنان: رجدلٌ وآخر عاقلٌ، بخلاف كونها جملة فإنَّ اللبس منتفٍ، وقد تقدم (الكلام في) ﴿سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ﴾ الكهف: ٢٢].
قوله: «ذِكْرضى» يجوز فيها أوجه:
أحدها: أنها مفعول من أجله، وإذا كانت مفعولاً من أجله ففي العامل فيها وجهان: أحدهما: «مُنْذِرُونَ» على أنَّ المعنى: منذرون لأجل الموعظة والتذكرة.
الثاني: «أَهْلَكْنَا».
قال الزمخشري: والمعنى: وَمَا أَهْلَكْنَا من أهل قريةٍ ظالمين إلاَّ بعد ما ألزمناهم الحجَّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون تذكرة وعبرةً لغيرهم، فلا يعصون مثل
89
عصيانهم: ثم قال: وهذا الوجه عليه المُعَوَّل. قال أبو حيان: وهذا لا معوَّل عليه، فإنَّ مذهب الجمهور أنَّ ما قبل إلاَّ لا يعمل فيما بعدها إلاَّ أن يكون مستثنى أو مستثنى منه، أو تابعاً له غير معتمدٍ على الأداة نحو: ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو.
والمفعول له ليس واحداً من هذه.
ويتخرَّج مذهبه على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصَّا على المفعول له بخصوصيته. قال شهاب الدين: والجواب ما تقدم قبل ذلك من أنه يختار مذهب الأخفش.
الثاني من الأوجه الأول: أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هذه ذكرى، وتكون الجملة اعتراضية.
الثالث: أنها صفة ل «مُنْذِرُونَ» إمَّا على المبالغة، وإمَّا على الحذف، أي: مُنْذِرُونَ ذوو ذكرى، أو على وقوع المصدر وقوع اسم الفاعل. أي: منذرون مذكِّرن. وتقدم تقريره.
الرابع: أنها ي محل نصب على الحال، اي: مذكِّرين، أو ذوي ذكرى، أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة.
الخامس: أنها مصنوبة على المصدر المؤكد، وفي العامل فيها حينئذ وجهان:
أحدهما: لفظ «مُنْذِرُونَ» لأنه من معناها، فهما ك (قَعَدْتُ جُلُوساً).
والثاني: أنه محذوف من لفظها، أي: يُذَكِّرُونَ ذكرى، وذلك المحذوف صفة ب «مُنْذِرُوَن».
قوله: ﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ في تعذيبهم، حيث قدمنا الحجة عليهم، وأعذرنا إليه، أو: ما كنا ظالمين فنهلك قوماً غير ظالمين.
90
وقد تنازع «أَفَرَأَيْتَ »و «جَاءَهُمْ » في قوله :﴿ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ فإن أعملت الثاني وهو «جَاءَهُمْ » رفعت به «مَا كَانُوا » فاعلاً به، ومفعول «أَرَأَيْتَ »١ الأول ضميره، ولكنه حذف، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله٢ :﴿ مَا أغنى عَنْهُمْ ﴾، ولا بدَّ من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الأول المحذوف، وهو مقدر تقديره : أفرأيت ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم تمتُّعهم حين حلَّ، أي : الموعود به، ودلَّ على ذلك قوة الكلام.
وإن أعملت الأول نصبت به ﴿ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ وأضمرت في «جَاءَهُمْ » ضميره فاعلاً به، والجملة الاستفهامية مفعول ثانٍ أيضاً، والعائد مقدر على ما تقرر٣ في الوجه قبله٤، والشرط معترض، وجوابه محذوف، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام٥ وإنما ذكرناه هنا لأنه تقديرٌ ( عَسِرٌ يحتاج )٦ إلى تأمل. وهذا كله إنما يتأتى على قولنا :«مَا »٧ استفهامية، ولا يضير تفسيرهم لها بالنفي٨، فإن الاستفهام قد يرد بمعنى النفي. وأما إذا جعلتها نافية حرفاً، كما قاله أبو البقاء٩ فلا يتأتي ذلك، لأنَّ مفعول «أَرَأَيْتَ » الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كما تقرر١٠. قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴾ كثيرة في الدنيا، يعني كفار مكة، ولم نهلكهم ﴿ ثُمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ يعني : العذاب
١ في ب: أفرأيت..
٢ في ب: قولك. وهو تحريف..
٣ في الأصل: ما تقدر..
٤ انظر البحر المحيط ٧/٤٣..
٥ عند قوله: ﴿قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم السَّاعة﴾ من الآية (٤٠). انظر اللباب ٣/٤١٣. وذكر هناك في توجيه الإعراب مثلما ذكر هنا..
٦ ما بين القوسين في ب: غير محتاج. وهو تحريف..
٧ في ب" إن ما..
٨ في ب: بأن النافية..
٩ فإنه قال: (قوله تعالى: ﴿ما أغنى عنهم﴾ يجوز أن يكون استفهاماً فتكون (ما) في موضع نصب، وأن يكون نفياً، أي: ما أغنى عنهم شيئاً) التبيان ٢/١٠٠٢..
١٠ قال سيبويه: (وتقول: أرأيتك زيداً أبو من هو، وأرأيتك عمراً عندك هو أم عند فلان، لا يحسن فيه إلا النصب في زيد، ألا ترى أنك لو قلت: أريت أبو من أنت، أو أرأيت أزيد ثم أم فلان، لم يحسن، لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وهو الفعل الذي لا يستغنى السكوت على مفعوله الأول، فدخول هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة (أخبرني) في الاستغناء، فعلى هذا أجري وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني) الكتاب ١/٢٣٩-٢٤٠. وقال أبو حيان: ( وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني تعدت إلى مفعولين أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية في الغالب، تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أُوّل) البحر المحيط ٧/٤٣، وانظر الهمع ١/١٥٥..
﴿ مَا١ أغنى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ في تلك السنين، أي : إنهم وإن طال تمتعهم بنعم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئاً، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط.
قوله :﴿ مَا أغنى عَنْهُمْ ﴾٢ يجوز أن تكون «مَا » استفهامية في محل نصب مفعولاً مقدماً، و«مَا كَانُوا » هو الفاعل٣، و «مَا » مصدرية بمعنى : أيُّ شَيْءٍ أغنى عنهم كونهم متمتعين. وأن تكون نافية٤، والمفعول محذوف، أي : لَمْ يُغْنِ عنهم تمتعهم شيئاً. وقرىء «يُمْتَعُونَ » بإسكان الميم وتخفيف التاء٥ من : أمْتَعَ اللَّهُ زَيداً بكذا.
١ في ب: فما..
٢ عنهم: سقط من ب..
٣ انظر البيان ٢/٢١٧..
٤ انظر البيان ٢/٢١٧، التبيان ٢/١٠٠٢..
٥ المختصر (١٠٨)، الكشاف ٣/١٢٨، البحر المحيط ٧/٤٤، ولم يعزها أحد إلى قارىء..
قوله :﴿ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ ﴾ يجوز أن تكون الجملة صفة ل «قَرْيَةٍ »١ وأن تكون حالاً منها. وسوغ٢ ذلك سبق النفي٣. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد «إلاَّ » ولم تعزل عنها في قوله :﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [ الحجر : ٤ ] ؟ قلت : الأصل عزل الواو، لأنَّ الجملة صفة ل «قَرْيَةٍ » وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة٤ بالموصوف، كما في قوله٥ :﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾٦ [ الكهف : ٢٢ ]. قال أبو حيان : ولو قدرنا «لَهَا مُنْذِرُونَ » جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد ( إلاَّ )، ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد «إلاَّ » معتمدة على أداة الاستثناء٧، نحو : مَا جَاءَنِي أحدٌ إلاَّ رَاكِبٌ، وإذا سمع مثل هذا خرّجوه على البدل، أي : إلاَّ رجل راكب، ويدل على صحة هذا المذهب أنَّ العرب تقول : ما مررت بأحدٍ إلاَّ قائماً ولا يحفظ عنهم «إِلاَّ قَائِم » يعني : بالجر، فلو كانت الجملة صفة بعد «إلاَّ » ( لَسُمِعَ الجَرُّ )٨ في هذا٩.
وأيضاً١٠ فلو كانت الجملة صفة للنكرة لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد «إِلاَّ ». يعني نحو : مَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ إِلاَّ العَاقِلِ.
ثم قال : فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة١١ جاءت الصفة بعد «إلاَّ » نحو : ما جاءني أحدٌ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو، والتقدير : ما جاءني أحدٌ خيرٌ من عمرٍو إلاَّ زيدٌ.
وأمَّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في عبارة النحويين، لو قلت : جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف١٢ بعضها على بعض وتغاير مدلولها، نحو :«مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الشجاع والشاعر »١٣.
وأما ﴿ وثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] فتقدم الكلام عليه١٤.
قال شهاب الدين : أما كون الصفة لا تقع بعد ( إلاَّ ) معتمدةً فالزمخشري يختار غير هذا، فإنَّها مسألة خلافية١٥، وأما كونه لم يقل ( إلاَّ قائماً ) بالنصب دون «قَائِم » بالجر فذلك١٦ على أحد الجائزين، وليس فيه دليل على المنع من قسيمه. وأما قوله : فغير معهود في كلام النحويين. فممنوع، هذا ابن جنِّي نصَّ عليه في بعض كتبه١٧، وأما١٨ إلزامه أنها لوكانت الجملة صفة بعد ( إلاَّ ) للنكرة، لجاز أن تقع صفة المعرفة بعد ( إلاَّ ) فغير لازم، لأنَّ ذلك مختص بكون الصفة جملة، وإذا كانت جملة تعذر كونها صفة للمعرفة، وإنَّما اختص ذلك بكون الصفة جملة، لأنها لتأكيد وصل الصفة والتأكيد لائق بالجمل.
وأمَّا قوله : لو قلت : جاءني رجلٌ وعاقلٌ. لم يجز، فمسلَّم، ولكن إنما امتنع ذلك في الصفة المفردة لئلا يلبس أن الجائي اثنان : رجلٌ وآخر عاقلٌ، بخلاف كونها جملة فإنَّ اللبس منتفٍ، وقد تقدم ( الكلام في )١٩ ﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ ﴾٢٠ [ الكهف : ٢٢ ].
١ انظر نص الزمخشري الآتي..
٢ في ب: ومسوغ..
٣ انظر البحر المحيط ٧/٤٤..
٤ في الأصل: الصلة..
٥ قوله: سقط من ب..
٦ [الكهف: ٢٢] الكشاف ٣/١٢٨-١٢٩..
٧ أي: مقصوداً بها وصف ما قبل (إلا)..
٨ ما بين القوسين في ب: سمع الجر أيضاً..
٩ يعني في المفرد، وهو قولهم: ما مررت بأحد إلا قائماً، فكان يقال: قائم أيضاً..
١٠ وأيضاً: سقط من ب..
١١ في ب: الإعادة. وهو تحريف..
١٢ في ب: عطفت..
١٣ في ب: وبالشاعر. وهو تحريف..
١٤ البحر المحيط ٧/٤٤ بتصرف يسير وانظر أيضاً ٦/١١٤-١١٥..
١٥ انظر شرح المفصل ٢/٩٣..
١٦ في ب: فذاك..
١٧ لم أهتد إليه في الخصائص أو في سر صناعة الإعراب..
١٨ في ب: فأما..
١٩ الكلام في : تكملة من الدر المصون..
٢٠ [الكهف: ٢٢]. الدر المصون ٥/١٧١..
قوله :«ذِكْرى » يجوز فيها أوجه :
أحدها : أنها مفعول من أجله، وإذا كانت مفعولاً من أجله ففي العامل فيها وجهان : أحدهما :«مُنْذِرُونَ » على أنَّ المعنى : منذرون لأجل الموعظة والتذكرة١.
الثاني :«أَهْلَكْنَا ».
قال الزمخشري : والمعنى : وَمَا أَهْلَكْنَا من أهل قريةٍ ظالمين إلاَّ بعد ما ألزمناهم الحجَّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون تذكرة وعبرةً لغيرهم، فلا يعصون٢ مثل عصيانهم : ثم قال : وهذا الوجه عليه المُعَوَّل٣. قال أبو حيان : وهذا لا معوَّل عليه، فإنَّ مذهب الجمهور أنَّ ما قبل إلاَّ لا يعمل فيما بعدها إلاَّ أن يكون٤ مستثنى أو مستثنى منه، أو تابعاً له غير معتمدٍ على الأداة نحو : ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٌ خيرٌ من عمرٍو.
والمفعول له٥ ليس واحداً من هذه.
ويتخرَّج مذهبه على مذهب الكسائي والأخفش٦، وإن كانا لم ينصَّا على المفعول له بخصوصيته٧. قال شهاب الدين : والجواب ما تقدم قبل ذلك من أنه يختار مذهب الأخفش٨.
الثاني من الأوجه الأول٩ : أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف، أي : هذه ذكرى، وتكون الجملة اعتراضية١٠.
الثالث : أنها صفة ل «مُنْذِرُونَ » إمَّا على المبالغة، وإمَّا على الحذف، أي : مُنْذِرُونَ ذوو١١ ذكرى١٢، أو على وقوع المصدر وقوع اسم الفاعل. أي : منذرون مذكِّرون. وتقدم تقريره.
الرابع : أنها في محل نصب على الحال، اي : مذكِّرين، أو ذوي ذكرى، أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة١٣.
الخامس : أنها منصوبة على المصدر المؤكد، وفي العامل فيها حينئذ وجهان :
أحدهما : لفظ «مُنْذِرُونَ » لأنه١٤ من معناها، فهما ك ( قَعَدْتُ جُلُوساً )١٥.
والثاني : أنه محذوف من لفظها، أي : يُذَكِّرُونَ ذكرى١٦، وذلك المحذوف صفة ل «مُنْذِرُوَن ».
قوله :﴿ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ في تعذيبهم، حيث قدمنا الحجة عليهم، وأعذرنا إليه، أو : ما كنا ظالمين فنهلك قوماً غير ظالمين١٧.
١ انظر الكشاف ٣/١٢٨..
٢ في الأصل: فلا يعصوا..
٣ الكشاف ٣/١٢٨..
٤ يكون: سقط من ب..
٥ له: سقط من ب..
٦ وذلك أن الكسائي جوز تأخير معمول ما قبل (إلا) عنها مرفوعاً كان، أو منصوباً، أو مجروراً، نحو ما ضرب إلا زيد عمراً وما مر إلا زيد بعمرو. ووافقه الأخفش في الظرف المجرور، والحال، نحو ما جلس إلا زيد عندك وما مر إلا عمرو بك، وما جاء إلا زيد راكباً. قال أبو حيان: وهو المختار، لأنه يتسامح في المذكورات ما لا يتسامح في غيرها. الهمع ١/٢٣٠-٢٣١..
٧ البحر المحيط ٧/٤٥..
٨ الدر المصون ٥/١٧٢..
٩ يعني الأوجه في (ذكرى)..
١٠ انظر الكشاف ٣/١٢٨..
١١ في ب: و. وهو تحريف..
١٢ انظر الكشاف ٣/١٢٨..
١٣ انظر الكشاف ٣/١٢٨، البيان ٢/٢١٧، ونسبه ابن الأنباري للكسائي. البحر المحيط ٧/٤٤..
١٤ في ب: لأن..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٢٨، البحر المحيط ٧/٤٤..
١٦ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٠٢، البيان ٢/٢١٧..
١٧ انظر الكشاف ٣/١٢٨، الفخر الرازي ٢٤/١٧١..
قوله: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين﴾. العامة على الياء ورفع النون، وهو جمع تكسير.
وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة، إجراء له مجرى جمع السلامة وهذه القراءة (قَدْ ردَّها) جمع كثير من النحويين.
قال الفراء: غلط الشَّيخ، ظنَّ أنَّها النون التي على هجائين. فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتجَّ بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتجَّ بقول الحسن وصاحبه - يعني: محمد بن السميفع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلاَّ وقد سمعا فيه. وقال النحاس: هو غلظ عند جميع النحويين.
وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية. وقال أبو حاتم: هي غلطٌ منه أو عليه. وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط، فإنَّ القارىء بها من العلم بمكان مكينٍ. وأجابوا عنها بأجوبة صالحة.
فقال النضر بن شميل: قال يونس بن حبيب: سمعت أعرابياً يقول: دخلت بساتين من ورائها بَسَاتُون. فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
وخرَّجها بعضهم على أنها جمع (شَيَّاطٍ) بالتشديد، مثال مبالغة. مثل: (ضَرَّاب وقَتَّال) على أن يكون مشتقاً من: شَاطَ يَشِيطُ، أي: أُحرق، ثم جُمِع جمع سلامة مع تخفيف الياء، فوزنه: (فَعَالُونَ) مخففا من (فَعَّالِينَ) بتشديد العين.
ويدل على ذلك أنَّهما وغيرهما قرءوا بذلك، أعني: بتشديد الياء، وهذا منقول عن مؤرج السَّدوسيّ. ووجَّهها آخرون بأنَّ (آخره لما) كان يشبه يبرين، وفلسطين، أجري إعرابه تارة على النون، وتارة بالحرف، كما قالوا: هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون، وتقدم القول في ذلك في البقرة. والهاء في «بِه» تعود على
91
القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب، نَفَى أوَّلاً تنزيل الشياطين به، لأنَّ النفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان الإمكان هنا منتفياً ثم نفى ثانياً ابتغاء ذلك، أي: ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له. ثم نفى ثالثاً الاستطاعة والقدرة، ثم ذكر علة ذلك وهي انعازلهم عن السماع من الملأ الأعلى، لأنهم يرجمون بالشهب لو (تَسَمَّعُوا).

فصل


لما احتج على صدق محمد - عليه السلام - بكون القرآن تنزيل رب العالمين، لوقوعه في الفصاحة القصوى، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه - عليه السلام - لم يتعلم من أحد، وكان الكفار يقولون: هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة، فأجاب الله تعالى بأنَّ ذلك لا يستهل للشياطين، لأنهم معزولون عن استماع كلام اهل السماء برجمهم بالشهب. فإن قيل: العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد - عليه السلام - صادقاً بفصاحة القرآن، وإخباره عن الغيب، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك.
(فلزم الدور.
فالجواب: لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك) لا يستفاد إلا من قول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يلعن الشياطين، ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فيجب أن يكون اقتار الكفار على مثله أولى. ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب. ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب خاطب الرسول - عليه السلام - فقال: ﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين﴾. قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق عليَّ ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك. وقوله: «فَتَكُونَ» منصوب في جواب النهي.
92
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١٠:قوله :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين ﴾. العامة على الياء ورفع النون، وهو جمع تكسير.
وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة١، إجراء له مجرى جمع السلامة وهذه القراءة ( قَدْ ردَّها )٢ جمع كثير من النحويين.
قال الفراء : غلط الشَّيخ، ظنَّ أنَّها النون التي على هجائين٣. فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتجَّ بقول العجاج ورؤبة فهلا٤ جاز أن يحتجَّ بقول الحسن وصاحبه - يعني : محمد بن السميفع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلاَّ وقد سمعا فيه٥. وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين٦.
وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية٧. وقال أبو حاتم : هي غلطٌ منه أو عليه٨. وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط، فإنَّ القارىء بها من العلم بمكان مكينٍ. وأجابوا عنها بأجوبة صالحة.
فقال النضر بن شميل : قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من ورائها بَسَاتُون. فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن٩.
وخرَّجها بعضهم على أنها جمع ( شَيَّاطٍ ) بالتشديد، مثال مبالغة. مثل :( ضَرَّاب وقَتَّال ) على أن يكن مشتقاً من : شَاطَ يَشِيطُ، أي : أُحرق، ثم جُمِع جمع سلامة مع تخفيف الياء، فوزنه١٠ :( فَعَالُونَ ) مخففاً من ( فَعَّالِينَ ) بتشديد العين.
ويدل على ذلك أنَّهما وغيرهما قرءوا بذلك، أعني : بتشديد الياء١١، وهذا منقول عن مؤرج السَّدوسيّ١٢. ووجَّهها آخرون بأنَّ ( آخره لما )١٣ كان يشبه يبرين١٤، وفلسطين، أجري إعرابه تارة على النون، وتارة بالحرف، كما قالوا : هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون١٥، وتقدم القول في ذلك في البقرة١٦. والهاء في «بِه » تعود على القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب، نَفَى أوَّلاً تنزيل الشياطين به، لأنَّ النفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان الإمكان هنا منتفياً ثم نفى ثانياً ابتغاء ذلك، أي : ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له١٧. ثم نفى ثالثاً١٨ الاستطاعة والقدرة، ثم ذكر علة ذلك وهي انعزالهم عن السماع من الملأ الأعلى، لأنهم يرجمون بالشهب لو ( تَسَمَّعُوا )١٩ ٢٠.

فصل :


لما احتج على صدق محمد - عليه السلام٢١ - بكون القرآن تنزيل رب العالمين، لوقوعه في الفصاحة القصوى، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه - عليه السلام - لم يتعلم من أحد، وكان الكفار يقولون : هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة، فأجاب الله تعالى بأنَّ ذلك لا يتسهل للشياطين، لأنهم معزولون عن استماع كلام أهل السماء برجمهم بالشهب. فإن قيل : العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد - عليه السلام٢٢ - صادقاً بفصاحة القرآن، وإخباره عن الغيب، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك. ( فلزم الدور. فالجواب : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك )٢٣ لا يستفاد إلا من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يلعن الشياطين، ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فيجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى. ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب٢٤.
١ المختصر (١٠٨)، المحتسب ٢/١٣٣، البحر المحيط ٧/٤٦..
٢ ما بين القوسين في الأصل: قدرها..
٣ معاني القرآن ٢/٢٨٥..
٤ في ب: فهل..
٥ انظر الكشاف ٣/١٢٩، القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
٦ إعراب القرآن ٣/١٩٤..
٧ انظر القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
٨ انظر البحر المحيط ٧/٤٦..
٩ انظر تفسير ابن عطية ١١/١٢٥٥، القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
١٠ في ب: بوزنه. وهو تحريف..
١١ انظر القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
١٢ تقدم..
١٣ ما بين القوسين في ب: آخرها..
١٤ في ب: ميرين..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٢٩، البحر المحيط ٧/٤٦..
١٦ عند قوله تعالى: ﴿واتَّبعوا ما تتلو الشَّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا يعلِّمون الناس السِّحر﴾ من الآية (١٠٢)..
١٧ له: سقط من ب..
١٨ في الأصل: ثالثاً نفى..
١٩ انظر البحر المحيط ٧/٤٦..
٢٠ ما بين القوسين في الأصل: قسموا..
٢١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٢ عليه السلام: سقط من ب..
٢٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧١-١٧٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١٠:قوله :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين ﴾. العامة على الياء ورفع النون، وهو جمع تكسير.
وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة١، إجراء له مجرى جمع السلامة وهذه القراءة ( قَدْ ردَّها )٢ جمع كثير من النحويين.
قال الفراء : غلط الشَّيخ، ظنَّ أنَّها النون التي على هجائين٣. فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتجَّ بقول العجاج ورؤبة فهلا٤ جاز أن يحتجَّ بقول الحسن وصاحبه - يعني : محمد بن السميفع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلاَّ وقد سمعا فيه٥. وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين٦.
وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية٧. وقال أبو حاتم : هي غلطٌ منه أو عليه٨. وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط، فإنَّ القارىء بها من العلم بمكان مكينٍ. وأجابوا عنها بأجوبة صالحة.
فقال النضر بن شميل : قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من ورائها بَسَاتُون. فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن٩.
وخرَّجها بعضهم على أنها جمع ( شَيَّاطٍ ) بالتشديد، مثال مبالغة. مثل :( ضَرَّاب وقَتَّال ) على أن يكن مشتقاً من : شَاطَ يَشِيطُ، أي : أُحرق، ثم جُمِع جمع سلامة مع تخفيف الياء، فوزنه١٠ :( فَعَالُونَ ) مخففاً من ( فَعَّالِينَ ) بتشديد العين.
ويدل على ذلك أنَّهما وغيرهما قرءوا بذلك، أعني : بتشديد الياء١١، وهذا منقول عن مؤرج السَّدوسيّ١٢. ووجَّهها آخرون بأنَّ ( آخره لما )١٣ كان يشبه يبرين١٤، وفلسطين، أجري إعرابه تارة على النون، وتارة بالحرف، كما قالوا : هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون١٥، وتقدم القول في ذلك في البقرة١٦. والهاء في «بِه » تعود على القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب، نَفَى أوَّلاً تنزيل الشياطين به، لأنَّ النفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان الإمكان هنا منتفياً ثم نفى ثانياً ابتغاء ذلك، أي : ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له١٧. ثم نفى ثالثاً١٨ الاستطاعة والقدرة، ثم ذكر علة ذلك وهي انعزالهم عن السماع من الملأ الأعلى، لأنهم يرجمون بالشهب لو ( تَسَمَّعُوا )١٩ ٢٠.

فصل :


لما احتج على صدق محمد - عليه السلام٢١ - بكون القرآن تنزيل رب العالمين، لوقوعه في الفصاحة القصوى، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه - عليه السلام - لم يتعلم من أحد، وكان الكفار يقولون : هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة، فأجاب الله تعالى بأنَّ ذلك لا يتسهل للشياطين، لأنهم معزولون عن استماع كلام أهل السماء برجمهم بالشهب. فإن قيل : العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد - عليه السلام٢٢ - صادقاً بفصاحة القرآن، وإخباره عن الغيب، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك. ( فلزم الدور. فالجواب : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك )٢٣ لا يستفاد إلا من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يلعن الشياطين، ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فيجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى. ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب٢٤.
١ المختصر (١٠٨)، المحتسب ٢/١٣٣، البحر المحيط ٧/٤٦..
٢ ما بين القوسين في الأصل: قدرها..
٣ معاني القرآن ٢/٢٨٥..
٤ في ب: فهل..
٥ انظر الكشاف ٣/١٢٩، القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
٦ إعراب القرآن ٣/١٩٤..
٧ انظر القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
٨ انظر البحر المحيط ٧/٤٦..
٩ انظر تفسير ابن عطية ١١/١٢٥٥، القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
١٠ في ب: بوزنه. وهو تحريف..
١١ انظر القرطبي ١٣/١٤٢، البحر المحيط ٧/٤٦..
١٢ تقدم..
١٣ ما بين القوسين في ب: آخرها..
١٤ في ب: ميرين..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٢٩، البحر المحيط ٧/٤٦..
١٦ عند قوله تعالى: ﴿واتَّبعوا ما تتلو الشَّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا يعلِّمون الناس السِّحر﴾ من الآية (١٠٢)..
١٧ له: سقط من ب..
١٨ في الأصل: ثالثاً نفى..
١٩ انظر البحر المحيط ٧/٤٦..
٢٠ ما بين القوسين في الأصل: قسموا..
٢١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٢ عليه السلام: سقط من ب..
٢٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧١-١٧٢..

ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب خاطب الرسول - عليه السلام١ - فقال :﴿ فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين ﴾. قال ابن عباس : يحذر به غيره، يقول : أنت أكرم الخلق عليَّ ولو اتخذت إلهاً غيري لعذبتك٢. وقوله :«فَتَكُونَ » منصوب في جواب النهي.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ انظر البغوي ٦/٢٤٤..
قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾. روى عبد الله بن عباس عن علي بن أبي
92
طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: «يا عليّ، إنَّ اللَّه أمرني أَنْ أنذر عشيرتي الأقربين، وضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال: يا محمد: إلاَّ تفعل ما تؤمر يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسَّا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب عت أبلغهم ما أمرت به». ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم يؤمئذٍ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً او ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَذْبَةً من اللحم، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الحصفة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم، ثم قال: اسْقِ القومَ. فجئت بذلك العُسْ فشربوا حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يكلمهم بَدَرهُ أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم: فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: الغد يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعدّ لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم ففعلت، ثم دعاني بالطعام فقدمته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا نبي عبد المطلب: إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فإيكم يؤازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عيله، قال: فأخذ برقبتي ثم قال: إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب. قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع «
93
وعن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ » خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى صعد الصفا، فهتف: يا صَبَاحَاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتم إنْ أَخبرتكم أن خَيْلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِيَّ» ؟ قالوا: ما جَرَّبْنَا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّاً لك ما جمعتنا إلا لهذا «
، ثم قام، فنزلت ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١].
قوله: ﴿واخفض جَنَاحَكَ﴾ : ألن جانبّك ﴿لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾. واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب.
قوله: «فِإِنْ عَصَوْكَ»
: في هذه الواو وجهان:
أحدهما: أنها ضمير الكفار، أي: فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد.
والثاني: أنها ضمير المؤمنين، أي: فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا في غاية البعد ﴿إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (من الكفر وعبادة غير الله).

فصل


قال الجُبَّائيّ: هذا يدل على أنه - عليه السلام - كان بريئاً من معاصيهم، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول، وإلا كان مخالفة لله، كما لو رضي عن شخص فإن الله راضٍ عنه، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فلا يكون فاعلاً له. والجواب: أنه تعالى بريء من المعاصي، بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم، بدليل انه علم وقوعها، وكل ما كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، وإلاَّ لانقلب علمه جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وعلم ما هو واجب الوقوع لا يراد عدم وقوعه، فثبت قولنا.
قوله: «وَتَوَكَّلْ». قرأ نافع وابن عامر بالفاء. والباقون بالواو.
94
فأما قراءة الفاء فإنه جُعِل فيها ما بعد الفاء كالجزاء لما قبلها مترتباً عليه. وقراءة الواو لمجرد عطف جملة على أخرى. والتوكل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يكل أمره ويقدر على نفعه وضره. ثم قال: ﴿عَلَى العزيز الرحيم﴾ ليكفيك كيد الأعداء بعزته وينصرك عليهم برحمته.
قوله: «الَّذِي يَرَاَكَ» يجوز أن يكون مرفوع المحل خبراً لمبتدأ محذوف، أو منصوبه على المدح، أو مجرورة على النعت أو البدل أو البيان.
قال أكثر المفسرين: معناه: يراك حين تقوم إلى صلاتك. وقال مجاهد: يراك أينما كنت. وقيل: حين تقوم لدعائهم.
قوله: «وَتَقَلُّبَكَ». عطف على مفعول «يَرَاكَ» أي: ويرى تَقَلُّبَكَ، وهذه قراءة العامة. وقرأ جماح بن حبيش بالياء من تحت مضمومة، وكسر اللام، ورفع الباء، جعله فعلاً، مضارع (قَلَّبَ) بالتشديد، وعطفه على المضارع قبله، وهو «يَرَاكَ» أي: الذي يُقَلِّبُكَ.

فصل


معنى تقلبه أي: تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك، قال عكرمة وعطية عن ابن عباس: «فِي السَّاجِدِينَ» أي: في المصلين.
وقال مقاتل والكلبي: أي: مع المصلين في الجماعة، أي: يراك حين تقوم وحدك للصلاة، ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة.
وقال مجاهد: يرى تقلب بصرك في المصلين، فإِنَّهُ كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه. قال عليه السلام: «واللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ، وإِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» وقال الحسن: «تقلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» أي: تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. وقال سعيد بن جبير: يعني: وتصرّفك في
95
أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك. والسَّاجدون: هم الأنبياء.
وقال عطاء عن ابن عباس: أراد: وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة. ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾ السميع لما تقوله، العليم بما تنويه.
96
قوله :﴿ واخفض جَنَاحَكَ ﴾ : ألن جانبَك ﴿ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين ﴾. واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب١.
١ انظر الكشاف ٣/١٢٩، الفخر الرازي ٢٤/١٧٣..
قوله :«فَإِنْ عَصَوْكَ » : في هذه الواو وجهان :
أحدهما : أنها ضمير الكفار، أي : فإن عصاك الكفار في أمرك لهم بالتوحيد.
والثاني : أنها ضمير المؤمنين، أي : فإن عصاك المؤمنون في فروع الإسلام وبعض الأحكام بعد تصديقك والإيمان برسالتك، وهذا في غاية البعد ﴿ فقل إِنِّي بريءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ( من الكفر وعبادة غير الله )١ ٢.

فصل :


قال الجُبَّائيّ : هذا يدل على أنه - عليه السلام٣ - كان بريئاً من معاصيهم، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول، وإلا كان مخالفة لله، كما لو رضي عن شخص فإن الله راضٍ عنه، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فلا يكون فاعلاً له. والجواب٤ : أنه تعالى بريء من المعاصي، بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم، بدليل أنه علم وقوعها، وكل ما كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، وإلاَّ لانقلب علمه جهلاً، وهو محال، والمفضي إلى المحال محال، وعلم ما هو واجب الوقوع لا يراد عدم وقوعه، فثبت قولنا٥.
١ انظر البحر المحيط ٧/٤٧..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ في ب: فالجواب..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٣..
قوله :«وَتَوَكَّلْ ». قرأ نافع وابن عامر بالفاء. والباقون بالواو١.
فأما قراءة الفاء فإنه جُعِل فيها ما بعد الفاء كالجزاء لما قبلها مترتباً عليه. وقراءة الواو لمجرد عطف جملة على أخرى. والتوكل : عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يكل أمره ويقدر على نفعه وضره٢. ثم قال :﴿ عَلَى العزيز الرحيم ﴾ ليكفيك كيد٣ الأعداء بعزته وينصرك عليهم برحمته.
١ السبعة (٤٧٣)، الكشف ٢/١٥٣، النشر ٢/٣٣٦، الإتحاف (٣٣٤)..
٢ انظر الكشاف ٣/١٢٩، الفخر الرازي ٢٤/١٧٣..
٣ في ب: ليد. وهو تحريف..
قوله :«الَّذِي يَرَاَكَ » يجوز أن يكون مرفوع المحل خبراً لمبتدأ محذوف١، أو منصوبه على المدح٢، أو مجروره على النعت أو البدل أو البيان٣.
قال أكثر المفسرين : معناه : يراك حين تقوم إلى صلاتك٤. وقال مجاهد : يراك أينما كنت٥. وقيل : حين تقوم لدعائهم.
١ أي: هو الذي..
٢ فيكون مقطوعاً عما قبله..
٣ من قوله تعالى: ﴿العزيز الرحيم﴾..
٤ انظر القرطبي ١٣/١٤٤..
٥ المرجع السابق..
قوله :«وَتَقَلُّبَكَ ». عطف على مفعول «يَرَاكَ » أي : ويرى تَقَلُّبَكَ، وهذه قراءة١ العامة. وقرأ٢ جناح بن حبيش بالياء من تحت مضمومة، وكسر اللام، ورفع الباء٣، جعله فعلاً، مضارع ( قَلَّبَ ) بالتشديد، وعطفه على المضارع قبله، وهو «يَرَاكَ » أي : الذي يُقَلِّبُكَ.

فصل :


معنى٤ تقلبه أي : تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك، قال عكرمة وعطية عن ابن عباس :«فِي السَّاجِدِينَ » أي : في المصلين٥.
وقال مقاتل والكلبي : أي : مع المصلين في الجماعة، أي : يراك حين تقوم وحدك للصلاة، ويراك إذا صليت مع المصلين جماعة٦.
وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين، فإِنَّهُ كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه٧. قال عليه السلام٨ :«واللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ ولا رُكُوعُكُمْ٩، وإِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي »١٠. وقال الحسن :«تقلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ » أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين١١. وقال سعيد بن جبير : يعني : وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك. والسَّاجدون : هم الأنبياء١٢.
وقال عطاء عن ابن عباس : أراد : وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة١٣.
١ انظر البحر المحيط ٧/٤٧..
٢ في ب: فصل وقرأ..
٣ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٤٧..
٤ في ب: منى. وهو تحريف..
٥ انظر البغوي ٦/٢٤٩..
٦ انظر البغوي ٦/٢٥٠..
٧ المرجع السابق..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ في ب: ركوعكم ولا خشوعكم..
١٠ أخرجه البخاري (صلاة) ١/٨٤، (أذان) ١/١٣٦، مسلم (صلاة) ١/٣١٩، الموطأ (سفر) ١/١٦٧، أحمد ٢/٣٠٣، ٣٦٥، ٣٧٥..
١١ انظر البغوي ٦/٢٥٠..
١٢ انظر البغوي ٦/٢٥٠-٢٥١..
١٣ انظر البغوي ٦/٢٥١..
﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم ﴾ السميع لما تقوله، العليم بما تنويه.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ الآية. أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين:
الأول: قوله: ﴿تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ كما تقدم من أنَّ الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة منه.
والثاني: قوله: ﴿يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ ومعناه: أنهم كانوا يقيسمون حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على حال الكهنة (فكأنه قيل: إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب، فجيب أن تكون حال الرسول كذلك، فلما لم يظهر في إخبار الرسول عن المغيبات إلا الصدق علمنا أنَّ حاله بخلاف حال الكهنة).
قوله: «عَلَى مَنْ» متعلق ب «تَنَزَّلُ» بعده. وإنما قُدِّم، لأَنَّ له صدر الكلام، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة، لأنها بمعنى العلم.
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني، لأنَّ الأول ضمير المخاطبين. وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين.
وقرأ البَزِّيُّ: ﴿عَلَى مَنْ تَّنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَّنَزَّلُ﴾ بتشديد التاء من «تنزل» في الموضعين والأصل: «تَتَنَزَّل» بتاءين فأدغم، والإدغام في الثاني سهل، لتحرك ما قبل المدغم، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ «مَنْ». وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: ٢٦٧].
قوله: «يُلْقُونَ». يجوز أن يعود الضمير على «الشَّيَاطِين» فيجوز أن تكون الجملة «يُلْقُونَ» حالاً، وأن تكون مستأنفة. ومعنى إلقائهم السمعَ: إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢١:قوله تعالى :﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ﴾ الآية. أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين : الأول : قوله :
﴿ تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ كما تقدم من أنَّ الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة منه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :«عَلَى مَنْ» متعلق بـ «تَنَزَّلُ» بعده. وإنما قُدِّم، لأَنَّ له صدر الكلام، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة، لأنها بمعنى العلم.
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني، لأنَّ الأول٣ ضمير المخاطبين. وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين٤.
وقرأ البَزِّيُّ :﴿ عَلَى مَنْ تَنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ ﴾ بتشديد التاء من «تنزل» في الموضعين٥ والأصل٦ :«تَتَنَزَّل» بتاءين فأدغم، والإدغام في الثاني سهل، لتحرك ما قبل المدغم، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ «مَنْ». وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخبيث ﴾.
قوله :«يُلْقُونَ». يجوز أن يعود الضمير على «الشَّيَاطِين» فيجوز أن تكون الجملة من «يُلْقُونَ» حالاً، وأن تكون مستأنفة٧. ومعنى إلقائهم السمعَ : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة٨.
ويجوز أن يعود على ﴿ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ من حيث إنه جمعٌ في المعنى، فتكون الجملة إما مستأنفة، وأما صفة لـ «كُلِّ أَفَّاكٍ»٩. ومعنى الإلقاء ما تقدم.
وقال أبو حيان : حال عود الضمير على «الشَّيَاطين»، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال : فعلى معنى الإنصات يكون «يُلْقُونَ» استئناف إخبارٍ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف، واحتمل الحال من «الشَّيَاطِينَ» أي : تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا١٠. انتهى.
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل، فإن قيل : كيف قال :«وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ» بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك ؟.
فالجواب : أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم يفتري عليه١١.



جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :«عَلَى مَنْ» متعلق بـ «تَنَزَّلُ» بعده. وإنما قُدِّم، لأَنَّ له صدر الكلام، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة، لأنها بمعنى العلم.
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني، لأنَّ الأول٣ ضمير المخاطبين. وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين٤.
وقرأ البَزِّيُّ :﴿ عَلَى مَنْ تَنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ ﴾ بتشديد التاء من «تنزل» في الموضعين٥ والأصل٦ :«تَتَنَزَّل» بتاءين فأدغم، والإدغام في الثاني سهل، لتحرك ما قبل المدغم، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ «مَنْ». وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخبيث ﴾.
قوله :«يُلْقُونَ». يجوز أن يعود الضمير على «الشَّيَاطِين» فيجوز أن تكون الجملة من «يُلْقُونَ» حالاً، وأن تكون مستأنفة٧. ومعنى إلقائهم السمعَ : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة٨.
ويجوز أن يعود على ﴿ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ من حيث إنه جمعٌ في المعنى، فتكون الجملة إما مستأنفة، وأما صفة لـ «كُلِّ أَفَّاكٍ»٩. ومعنى الإلقاء ما تقدم.
وقال أبو حيان : حال عود الضمير على «الشَّيَاطين»، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال : فعلى معنى الإنصات يكون «يُلْقُونَ» استئناف إخبارٍ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف، واحتمل الحال من «الشَّيَاطِينَ» أي : تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا١٠. انتهى.
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل، فإن قيل : كيف قال :«وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ» بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك ؟.
فالجواب : أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم يفتري عليه١١.

والثاني : قوله :﴿ يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ ومعناه : أنهم كانوا يقيسون حال النبي - صلى الله عليه وسلم - على حال الكهنة ( فكأنه قيل : إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب، فيجب أن تكون حال الرسول كذلك، فلما لم يظهر في إخبار الرسول عن المغيبات إلا الصدق علمنا أنَّ حاله بخلاف حال الكهنة )١ ٢.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :«عَلَى مَنْ» متعلق بـ «تَنَزَّلُ» بعده. وإنما قُدِّم، لأَنَّ له صدر الكلام، وهو مُعلقٌ لما قبله من فِعْل التَّنْبِئَة، لأنها بمعنى العلم.
ويجوز أن تكون هنا متعدية لاثنين، فتسد الجملة المشتملةُ على الاستفهام مسدّ الثاني، لأنَّ الأول٣ ضمير المخاطبين. وأن تكون متعديةً لثلاثة فتسد مسدّ اثنين٤.
وقرأ البَزِّيُّ :﴿ عَلَى مَنْ تَنزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ ﴾ بتشديد التاء من «تنزل» في الموضعين٥ والأصل٦ :«تَتَنَزَّل» بتاءين فأدغم، والإدغام في الثاني سهل، لتحرك ما قبل المدغم، وفي الأول صُعُوبةٌ لسكون ما قبله وهو نُونُ «مَنْ». وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخبيث ﴾.
قوله :«يُلْقُونَ». يجوز أن يعود الضمير على «الشَّيَاطِين» فيجوز أن تكون الجملة من «يُلْقُونَ» حالاً، وأن تكون مستأنفة٧. ومعنى إلقائهم السمعَ : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى لِيَسْتَرِقُوا شيئاً، أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة٨.
ويجوز أن يعود على ﴿ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ من حيث إنه جمعٌ في المعنى، فتكون الجملة إما مستأنفة، وأما صفة لـ «كُلِّ أَفَّاكٍ»٩. ومعنى الإلقاء ما تقدم.
وقال أبو حيان : حال عود الضمير على «الشَّيَاطين»، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال : فعلى معنى الإنصات يكون «يُلْقُونَ» استئناف إخبارٍ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف، واحتمل الحال من «الشَّيَاطِينَ» أي : تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا١٠. انتهى.
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل، فإن قيل : كيف قال :«وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ» بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك ؟.
فالجواب : أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم يفتري عليه١١.

١ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٤..
٢ ما بين القوسين سقط من ب..
ويجوز أن يعود على ﴿كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ من حيث إنه جمعٌ في المعنىن فتكون الجملة إما مستأنفة، وأما صفة ل «كُلِّ أَفَّاكٍ». ومعنى الإلقاء ما تقدم.
وقال أبو حيان: حال عود الضمير على «الشَّيَاطين»، وبعد ما ذكر المعنيين المتقدمين في إلقاء السمع قال: فعلى معنى الإنصات يكون «يُلْقُونَ» استئناف إخبارٍ، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة يحتمل الاستئناف، واحتمل الحال من «الشَّيَاطِينَ» أي: تَنزَّلُ على كُلِّ أفَّاكٍ أثِيمٍ مُلْقِينَ ما سَمِعُوا. انتهى.
وفي تخصيصه الاستئناف بالمعنى الأول وتجويزه الوجهين في المعنى الثاني نظرٌ، لأنَّ جواز الوجهين جارٍ في المعنيين فيحتاج في ذلك إلى دليل، فإن قيل: كيف قال: «وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ» بعد ما حكم عليهم أنَّ كل واحد منهم أفّاك؟
فالجواب: أنَّ الأَفاكين هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني، وأكثرهم يفتري عليه.
قوله
تعالى
: ﴿والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾. قد تقدم أن نافعاً بتخفيف التاء ساكنة وفتح الباء في سورة الأعراف عند قوله: «لا يَتَّبِعُوكُمْ» والفرق بين المخفف والمثقل. وسكن الحسنُ العينَ، ورويت عن أبي عمرو، وليست ببعيدة عنه ك «يَنْصُرْكُمْ» وبابه وروى هارون عن بعضهم نصب العين، وهي غلط،
97
والقول بأن الفتحة للإتباع خطأ، والعامة على رفع «الشُّعَرَاءُ» بالابتداء، والجملة بعده الخبر. وقرأ عيسى بالنصب على الاشتغال.

فصل


لمّا قال الكفار: لم لا يجوز أن يقالك الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة، وعلى الشعراء بالشعر؟ ثم إنه تعالى فرق بين محمد - عليه السلام - وبين الكهنة، ذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه وبين الشعراء: بأن الشعراء يتبعهم الغاوون، وهم: الضالون: ثم بيَّن أنَّ ذلك لا يمكن القول به لأمرين:
الأول: ﴿أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ والمراد منه: الطرق المختلفة، كقولك: أنا في يعظمونه بعدما يستحقرونه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق، بخلاف أمر محمد - عليه السلام - فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحدة، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
والثاني: ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾.
وذلك أيضاً من علامات الغواية، فإنهم يرغِّبُون في الجود، ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصيرون إليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم وعن واحد من أسلافهم. ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة، وأما محمد - عليه السلام - فإنه بدأ بنفسه ﴿فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين﴾ [الشعراء: ٢١٣] ثم بالأقرب فالأقرب فقال: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ [الشعراء: ٢١٤] وكل ذلك خلاف طريقة الشعراء، فظهر بهذا البيان أنَّ حال محمد - عليه السلام - لم يشبه حال الشعراء.
قوله: «يَهِيمُونَ». يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «أَنَّ» وهذا هو الظاهر، لأنه محط الفائدة، و «فِي كُلِّ وَادٍ» متعلق به. ويجوز أن يكون ﴿فِي كُلِّ وَادٍ﴾ هو الخبر، أو نفس الجار كما تقدم في نظيره. ويجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر عند من يَرَى تَعَدُّد
98
الخبر مطلقاً. وهذا من باب الاستعارة البليغة، والتمثيل الرائع، شبَّه جَوَلاَنَهم في أفانين القول، وطرائق المدح والذم، والتشبيب، وأنواع الشعر بِهَيْمِ الهائم في كل وجهٍ وطريق. وقيل: أراد ب «كُلِّ وَادٍ» أي: على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون (القوافي).
والهائم: الذي: يَخبِطُ في سَيْرِهِ ولا يقصد موضعاً معيناً، يقال هام على وجهه، أي: ذهب والهائم: العاشق من ذلك، والهَيْمَان: العطشان والهُيَامُ داءٌ يأخذ الإبلَ من العطش، وجَمَلٌ أَهْيَمُ وناقةٌ هَيْمَاءُ والجمع فيهما هِيمٌ قال تعالى: «شُرْبَ الهِيم» من الرمل: اليابس، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش.

فصل


قال المفسرون: أراد شعراء الكفار، وكانوا يهجون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذكر مقاتل أسمائهم فقال: منهم عبد الله بن الزِّبعرَى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول كما قال محمد، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يشمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله: «يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ» وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين. وقال قتادة: هم الشياطين.
ثم إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف استثنى شعراء المسلمين الذي كانوا يجيبون شعراء الجاهلية، ويهجون الكفار ويكافحون عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه منهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، فقال: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾.
روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللَّهَ قد أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إِنَّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نصح النبل «وفي رواية قال له:» اهْجُهُمْ فالواذي نفسي بيده هو أشد عليهم من النبل «
وكان يقول لحسان:»
قُلْ فإنَّ روح القدس معك «.
99
واعلم أن الله تعالى وصفهم بأمور:
الأول: الإيمان، وهو قوله: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾.
وثانيها: العمل الصالح، وهو قوله:» وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ «.
وثالثها: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة، ودعوة الحق، وهو قوله: [ ﴿وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ ].
ورابعها: أنْ لا يذكروا هجواً إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو] ﴿وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ قال الله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨]. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:»
إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً «وقالت عائشة: الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، [وكان عمر يقول الشعر]، وكان عليٌّ أشعر الثلاثة. وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده.
وقوله: ﴿وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً﴾ أي: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ﴿وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ أي: انتصروا من المشركين، لأنهم بدأوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال: ﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا﴾ أشركوا وهجوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ﴿أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ أيّ مرجع يرجعون بعد الموت.
قال ابن عباس: إلى جهنم والسعير.
قوله: «أَيَّ مُنْقَلَبٍ»
منصوب على المصدر، والناصب له «يَنْقَلِبُونَ» وقُدِّم، لتضمنه معنى الاستفهام، وهو معلق ل «سَيَعْلَمُ» سادّاً مسدّ مفعوليها.
وقال أبو البقاء: «أيَّ مُنْقَلَبٍ» صفة لمصدر محذوف، أي: ينقلبون انقلاباً أي منقلب، ولا يعمل في «سَيَعْلَمُ» لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
وهذا مردود بأن أيّاً الواقعة صفة لا تكون استفهامية، وكذلك استفهامية لا تكون صفة لشيء بل كل منهما قسم برأسه.
100
و «أي» تنقسم إلى أقسام كثيرة، وهي: الشرطية، والاستفهامية، والموصولة، والصفة، والموصوفة عند الأخفش خاصة، والمناداة نحو: يا أيهذا والمُوصّلة لنداء ما فيه (أل) نحو: يا أيُّهَا الرجلُ. عند غير الأخفش، والأخفش يجعلها في النداء موصولة.
وقرأ ابن عباس والحسن ﴿أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ﴾ بالفاء والتاء من فوق من الانفلات.
روى الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» أُعْطيتُ السورة التي
101
يذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة «
وعن أنس»
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «إنَّ اللَّه تعالى أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي»
وعن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به، وهو: وشعيب، وصالح، وإبراهيم، وبعدد من كذب بعيسى، وصدق بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «
102
سورة النمل
103
ثم بيَّن أنَّ ذلك لا يمكن القول به لأمرين :
الأول :﴿ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ والمراد منه : الطرق المختلفة، كقولك : أنا في واد وأنت في واد، وذلك بأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، وبالعكس، وقد يعظمونه١ بعدما يستحقرونه٢ وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق، بخلاف أمر محمد - عليه السلام٣ - فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :«يَهِيمُونَ». يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «أَنَّ» وهذا هو الظاهر، لأنه محط الفائدة، و «فِي كُلِّ وَادٍ» متعلق به. ويجوز أن يكون ﴿ فِي كُلِّ وَادٍ ﴾ هو الخبر، و " يَهِيمُونَ " حال من الضمير في الخبر، والعامل ما تعلق به هذا الخبر، أو نفس الجار٥ كما تقدم في نظيره. ويجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر عند من يَرَى تَعَدُّد الخبر مطلقاً. وهذا من باب الاستعارة البليغة، والتمثيل الرائع، شبَّه جَوَلاَنَهم في أفانين٦ القول، وطرائق المدح والذم، والتشبيب، وأنواع الشعر بِهَيْمِ الهائم في كل وجهٍ وطريق٧. وقيل : أراد بـ «كُلِّ وَادٍ» أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون ( القوافي )٨ ٩.
والهائم : الذي : يَخبِطُ في سَيْرِهِ ولا يقصد موضعاً معيناً، يقال١٠ هام على وجهه، أي : ذهب والهائم : العاشق من ذلك، والهَيْمَان : العطشان والهُيَامُ داءٌ يأخذ الإبلَ من العطش، وجَمَلٌ أَهْيَمُ وناقةٌ هَيْمَاءُ والجمع فيهما هِيمٌ قال تعالى :«شُرْبَ الهِيم»١١ والهيام من الرمل : اليابس، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش١٢.

فصل :


قال المفسرون : أراد شعراء الكفار، وكانوا يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر مقاتل أسماءهم فقال : منهم عبد الله بن الزِّبعرَى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف١٣، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا : نحن نقول كما قال محمد، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله :«يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ» وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين. وقال قتادة : هم الشياطين١٤.


١ في ب: يعظموه..
٢ في ب: يستحقروه..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
والثاني :﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ﴾.
وذلك أيضاً من علامات الغواية، فإنهم يرغِّبُون في الجود، ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصيرون إليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عنهم وعن واحد من أسلافهم. ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة، وأما محمد - عليه السلام١ - فإنه بدأ بنفسه ﴿ فَلاَ٢ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين ﴾ [ الشعراء : ٢١٣ ] ثم بالأقرب فالأقرب فقال :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ] وكل ذلك خلاف طريقة الشعراء، فظهر بهذا البيان أنَّ حال محمد - عليه السلام٣ - لم يشبه حال الشعراء٤.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قوله :«يَهِيمُونَ». يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «أَنَّ» وهذا هو الظاهر، لأنه محط الفائدة، و «فِي كُلِّ وَادٍ» متعلق به. ويجوز أن يكون ﴿ فِي كُلِّ وَادٍ ﴾ هو الخبر، و " يَهِيمُونَ " حال من الضمير في الخبر، والعامل ما تعلق به هذا الخبر، أو نفس الجار٥ كما تقدم في نظيره. ويجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر عند من يَرَى تَعَدُّد الخبر مطلقاً. وهذا من باب الاستعارة البليغة، والتمثيل الرائع، شبَّه جَوَلاَنَهم في أفانين٦ القول، وطرائق المدح والذم، والتشبيب، وأنواع الشعر بِهَيْمِ الهائم في كل وجهٍ وطريق٧. وقيل : أراد بـ «كُلِّ وَادٍ» أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون ( القوافي )٨ ٩.
والهائم : الذي : يَخبِطُ في سَيْرِهِ ولا يقصد موضعاً معيناً، يقال١٠ هام على وجهه، أي : ذهب والهائم : العاشق من ذلك، والهَيْمَان : العطشان والهُيَامُ داءٌ يأخذ الإبلَ من العطش، وجَمَلٌ أَهْيَمُ وناقةٌ هَيْمَاءُ والجمع فيهما هِيمٌ قال تعالى :«شُرْبَ الهِيم»١١ والهيام من الرمل : اليابس، فإنهم يخيلون فيه معنى العطش١٢.

فصل :


قال المفسرون : أراد شعراء الكفار، وكانوا يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر مقاتل أسماءهم فقال : منهم عبد الله بن الزِّبعرَى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف١٣، وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا : نحن نقول كما قال محمد، وقالوا الشعر، واجتمع إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويروون عنهم ذلك فذلك قوله :«يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ» وهم الرواة الذين يريدون هجاء المسلمين. وقال قتادة : هم الشياطين١٤.


١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ في النسختين: ولا..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٥-١٧٦..
ثم إنه تعالى لما وصف شعراء الكفار بهذه الأوصاف استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية، ويهجون الكفار ويكافحون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منهم حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، فقال :
﴿ إِلاَّ الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات ﴾١.
روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ قد أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل » وفي رواية قال له :«اهْجُهُمْ فوالذي نفسي بيده هو أشد عليهم من النبل »٢.
وكان يقول لحسان :«قُلْ فإنَّ روح القدس معك »٣.
واعلم أن الله تعالى وصفهم بأمور :
الأول : الإيمان، وهو قوله :﴿ إِلاَّ الذين آمَنُوا ﴾.
وثانيها : العمل الصالح، وهو قوله :«وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ».
وثالثها : أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة، ودعوة الحق، وهو قوله :[ ﴿ وذكروا الله كثيراً ﴾ ].
ورابعها : أنْ لا يذكروا هجواً إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو ]٤ ﴿ وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾٥ قال الله تعالى :﴿ لاَ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ [ النساء : ١٤٨ ]. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً »٦ وقالت عائشة٧ : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح. وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر، [ وكان عمر يقول الشعر ]٨، وكان عليٌّ أشعر الثلاثة. وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده٩.
وقوله :﴿ وَذَكَرُوا الله كَثِيراً ﴾ أي١٠ : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ﴿ وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ أي : انتصروا من المشركين، لأنهم بدأوا بالهجاء، ثم أوعد شعراء المشركين فقال :﴿ وَسَيَعْلَمُ الذين ظلموا ﴾ أشركوا وهجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ﴿ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ أيّ مرجع يرجعون بعد الموت.
قال ابن عباس : إلى جهنم والسعير١١.
قوله :«أَيَّ مُنْقَلَبٍ » منصوب على المصدر، والناصب له «يَنْقَلِبُونَ » وقُدِّم، لتضمنه معنى الاستفهام، وهو معلق ل «سَيَعْلَمُ » سادّاً مسدّ مفعوليها١٢.
وقال أبو البقاء :«أيَّ مُنْقَلَبٍ » صفة لمصدر محذوف، أي : ينقلبون انقلاباً أي منقلب، ولا يعمل فيه «سَيَعْلَمُ » لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله١٣.
وهذا مردود بأن أيّاً الواقعة صفة لا تكون استفهامية، وكذلك الاستفهامية لا تكون صفة لشيء بل كل منهما قسم برأسه.
و «أي » تنقسم إلى أقسام كثيرة، وهي : الشرطية١٤، والاستفهامية١٥. والموصولة١٦، والصفة١٧، والموصوفة عند الأخفش خاصة١٨، والمناداة نحو : يا أيهذا١٩ والمُوصّلة لنداء ما فيه ( أل ) نحو : يا أيُّهَا الرجلُ. عند غير الأخفش٢٠، والأخفش يجعلها في النداء موصولة٢١.
وقرأ ابن عباس والحسن ﴿ أَيَّ مُنْفَلَتٍ يَنْفَلِتُونَ ﴾ بالفاء والتاء من فوق من الانفلات٢٢.
١ انظر البغوي ٦/٢٥٢..
٢ أخرجه أحمد ٣/٤٥٦، ٤٦، ٦/٣٨٧..
٣ أخرجه أحمد ٤/٢٩٨، ٣٠١..
٤ ما بين القوسين سقط من الأصل، والانتصار في ب: الاقتصار. وما ذكرته أصوب..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/١٧٦..
٦ أخرجه البخاري (أدب) ٤/٧٣، أبو داود (أدب) ٥/٢٧٧، الترمذي (أدب) ٤/٢١٦، ابن ماجه (أدب) ٢/١٢٣٥، والدارمي (استئذان) ٢/٢٩٧، أحمد ٣/٤٥٦، ٥/١٢٥..
٧ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٢٥٦-٢٥٧..
٨ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٩ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/٢٥٦-٢٥٧..
١٠ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٦/٢٥٧-٢٥٨..
١١ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٦/٢٤٧-٢٥٨..
١٢ انظر البيان ٢/٢١٧، البحر المحيط ٧/٤٩-٥٠..
١٣ التبيان ٢/١٠٠٢..
١٤ قال سيبويه: ( فما يجازى به من الأسماء غير الظروف: من، وما، وأيهم) الكتاب ٣/٥٦. وانظر المغني ١/٧٧..
١٥ قال سيبويه: ( وسألته - يعني أبا الخطاب الأخفش- عن أيِّهم، لم لم يقولوا: أَيَّهم مررتَ به؟ وإنما تُرِكت الألف استغناء فصارت بمنزلة الابتداء، ألا ترى أن حد الكلام أن تؤخِّر الفعل فتقول: أيَّهم رأيت، كما تفعل ذلك بالألف، فهي نفسها منزلة الابتداء) الكتاب ١/١٢٦. وانظر المغني ١/٧٧..
١٦ قال سيبويه: ( وتقول: أيُّهَا تشاء لك، فـ (تشاءُ) صلةٌ لـ (أيُّهَا) حتى كمل اسماً، ثم بنيت (لك) على (أيها)، كأنك قلت: الذي تشاء لك) الكتاب ٢/٣٩٨..
١٧ قال سيبويه: (ومن النعت أيضاً: مررت برجل أيِّما رجل، فأيِّما نعت للرجل في كماله وَبذِّه غيره، كأنه قال: مررت برجل كامل) الكتاب ١/٤٢٢ وقال ابن هشام: (أن تكون دالة على معنى الكمال، فتقع صفة للنكرة نحو: زيد رجل أيّ رجل. أي: كامل في صفات الرجال، وحالاً للمعرفة كمررت بعبد الله أيَّ رجل) المغني ١/٧٨، ولا يوصف بـ (أي) إلا أن تكون مضافة، قال سيبويه: (... وكذلك أي، لا تقول: هذا رجل أي) الكتاب ٣/٢٥..
١٨ قال أبو حيان: (... فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو: مررت بأي معجب لك) البحر المحيط ٧/٥٠. وقال ابن هشام بعد أن ذكر أن الأخفش زعم أن أيًّا في (يا أيّها الرجل) لا تكون وصلَة إلى نداء ما فيه (ال) وإنما هي موصول: (.... وزاد قسماً، وهو: أن تكون نكرة موصوفة نحو: مررت بأي معجب لك، كما يقال: بمن معجب لك، وهذا غير مسموع) المغني ١/٧٩..
١٩ في ب: يا هذا..
٢٠ ظاهر عبارة ابن عادل أن (أي) في النداء قسمان: مناداة وتوصف اسم الإشارة، ووصلة لنداء ما فيه (ال) وهما عند النحاة قسم واحد، قال سيبويه: (وأما قولك: يا أيها ذا الرجل، فإن (ذا) وصف لـ (أي) كما الألف واللام وصف، لأنه مبهم مثله، فصار صفةً له كما صار الألف واللام وما أضيف إليها صفة للألف واللام) الكتاب ٢/١٩٣..
٢١ وعبارة الأخفش صريحة في أنَّ (أيّ) في النداء موصوفة لا موصولة، قال في معرض حديثه عن قوله تعالى: ﴿إنّ الله نِعمّاً يَعظُكُمْ به﴾ [النساء: ٥٨]: (فإن قيل: كيف تكون (ما) اسماً وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها؟ قلت: هي بمنزلة (يا أيها الرجل)، لأن (أيا) ههنا اسم ولا يتكلم به وحده حتى يوصف فصار (ما) مثل الموصوف ههنا، لأنك إذا قلت: غَسلتُهُ غَسْلاً نعما. فإنك تريد المبالغة والجودة) معاني القرآن ١/١٩٢..
٢٢ المختصر (١٠٨)، البحر المحيط ٧/٤٩..
Icon