تفسير سورة الشعراء

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بسم الله الرحمن الرحيم.
- ١ - طسم
- ٢ - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
- ٣ - لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
- ٤ - إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
- ٥ - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ
- ٦ - فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- ٧ - أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
- ٨ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ٩ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أول تفسير سورة البقرة، وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أَيْ هَذِهِ آيَاتُ القرآن المبين، أي البيِّن الواضح الجلي، الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ﴾ أَيْ مُهْلِكٌ ﴿نَفْسَكَ﴾ أَيْ مِمَّا تحرص وَتَحْزَنُ عَلَيْهِمْ ﴿أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات﴾، كقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ﴾ الآية. قال مجاهد وعكرمة ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾: أي قاتل نفسك، ثم قَالَ تَعَالَى: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ أَيْ لَوْ نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً، ولكن لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جميعا﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية، فَنَفَذَ قَدَرُهُ وَمَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَقَامَتْ حُجَّتُهُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عليهم، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ أَيْ كُلَّمَا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ السَّمَاءِ أَعْرَضَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿كُلَّمَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كذبوه﴾ الآية. ولهذا قال تعالى ههنا: ﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أَيْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَسَيَعْلَمُونَ نَبَأَ هَذَا التَّكْذِيبِ بَعْدَ حِينٍ، ثم نبَّه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره، وَهُوَ الْقَاهِرُ الْعَظِيمُ الْقَادِرُ
643
الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَأَنْبَتَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَحَيَوَانٍ، قَالَ الشَّعْبِيِّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أَيْ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ، وَرَفَعَ بِنَاءَ السَّمَاءِ وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله، وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أَيِ الَّذِي عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، ﴿الرَّحِيمُ﴾ أَيْ بِخَلْقِهِ فَلَا يُعَجِّلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ بَلْ يؤجله وينظره ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، قَالَ أَبُو العالية: الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ وَانْتِصَارِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وعبد غيره الرَّحِيمُ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ.
644
- ١٠ - وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- ١١ - قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
- ١٢ - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
- ١٣ - وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ
- ١٤ - وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
- ١٥ - قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ
- ١٦ - فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١٧ - أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
- ١٨ - قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
- ١٩ - وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- ٢٠ - قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ
- ٢١ - فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ
- ٢٢ - وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بني إسرائيل
يخبر تعالى عَمَّا أَمَرَ بِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ (مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ) عَلَيْهِ السلام حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَلَّمَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَرْسَلَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَأَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وملئه، ولهذا قال تعالى: ﴿أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ هَذِهِ أَعْذَارٌ سَأَلَ مِنَ اللَّهِ إِزَاحَتَهَا عَنْهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ ﴿قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أمري - إلى قوله - قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ أَيْ بسبب قتل الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، ﴿قَالَ كَلاَّ﴾ أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لا تخف من شيء من ذلك، كقوله: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لكما سطانا﴾، ﴿فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ﴾، كقوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى﴾ أَيْ إِنَّنِي مَعَكُمَا بِحِفْظِي وَكِلَاءَتِي وَنَصْرِي وَتَأْيِيدِي، ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، كقوله في الآية الأخرى: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ أي كل منا أرسل إِلَيْكَ، ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ أَطْلِقْهُمْ مِنْ إِسَارِكَ وَقَبْضَتِكَ وَقَهْرِكَ وَتَعْذِيبِكَ، فَإِنَّهُمْ عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ أَعْرَضَ فِرْعَوْنُ هنالك بالكلية، ونظر إليه بعين الازدارء والغَمْص فقال: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾ الآية، أَيْ أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِينَا وَفِي بيتنا وعلى فراشنا، وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ السِّنِينِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَابَلْتَ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ بِتِلْكَ الْفَعْلَةِ أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا رَجُلًا وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا عَلَيْكَ، وَلِهَذَا قال: ﴿وَأَنتَ مِنَ الكافرين﴾ أي الجاحدين
644
﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً﴾ أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ ﴿وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ أَيْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَيُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، قَالَ ابن عباس ﴿وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ أي الجاهلين، ﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ الآية، أي انفصل الحال الأول وَجَاءَ أَمْرٌ آخَرُ، فَقَدْ أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ أَطَعْتَهُ سَلِمْتَ، وَإِنْ خَالَفْتَهُ عَطِبْتَ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عبَّدت بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ وَمَا أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَرَبَّيْتَنِي مُقَابِلَ مَا أَسَأْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلْتَهُمْ عَبِيدًا وَخَدَمًا، تُصَرِّفُهُمْ فِي أَعْمَالِكَ وَمَشَاقِّ رَعِيَّتِكَ، أَفَيفي إِحْسَانُكَ إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أَسَأْتَ إِلَى مَجْمُوعِهِمْ؟ أَيْ لَيْسَ مَا ذَكَرْتَهُ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَعَلْتَ بِهِمْ.
645
- ٢٣ - قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
- ٢٤ - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ
- ٢٥ - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ
- ٢٦ - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ
- ٢٧ - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
- ٢٨ - قَالَ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَجُحُودِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَآ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ ﴿فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ وكانوا يجحدون الصانع جلَّ وعلا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَهُمْ سِوَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولُ رَبُّ العالمين، قَالَ له فرعون: وَمَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرِي؟ هَكَذَا فَسَّرَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْخَلَفِ، حَتَّى قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قال فمن ربكما يا موسى﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ: ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيْ خَالِقُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ فيه، وإلهه لا شريك له، هُوَ الذي خَلَقَ الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وَنَبَاتٍ وَثِمَارٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَاءِ والطير، وَمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْجَوُّ، الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ ﴿إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ أَيْ إِن كَانَتْ لَكُمُ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ وَأَبْصَارٌ نَافِذَةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ فِرْعَوْنُ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ ملئه ورؤساء دولته قائلاً عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ لِمُوسَى فِيمَا قاله: ﴿أَلاَ تَسْتَمِعُونَ﴾؟ أي ألا تعجبون من هَذَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرِي؟ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كَانُوا قَبْلَ فِرْعَوْنَ وَزَمَانِهِ، ﴿قَالَ﴾ أَيْ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ أَيْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ فِي دَعْوَاهُ أنَّ ثَمَّ رِبًّا غَيْرِي، ﴿قَالَ﴾ أَيْ مُوسَى لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَزَ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَأَجَابَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: ﴿رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَشْرِقَ مَشْرِقًا تَطَلُعُ مِنْهُ الْكَوَاكِبُ، والمغرب مغرباً تغرب فيه الكواكب، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ صَادِقًا فَلْيَعْكِسِ الْأَمْرَ، وَلِيَجْعَلِ الْمَشْرِقَ مَغْرِبًا والمغرب مشرقاً، كما قال تعالى: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المشرق فائت بِهَا مِنَ المغرب﴾ الآية، وَلِهَذَا لَمَّا غُلِبَ فِرْعَوْنُ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُ وَنَافِذٌ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
- ٢٩ - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
- ٣٠ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ
- ٣١ - قَالَ
645
فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- ٣٢ - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
- ٣٣ - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
- ٣٤ - قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
- ٣٥ - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
- ٣٦ - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
- ٣٧ - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سحار عليم
لما قامت الحجة على فرعون بِالْبَيَانِ وَالْعَقْلِ، عَدَلَ إِلَى أَنْ يَقْهَرَ مُوسَى بيده وسلطانه، فظن أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْمَقَامِ مَقَالٌ فَقَالَ: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾؟ أَيْ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ وَاضِحٍ، ﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ في غاية الجلاء والوضوح، ذَاتُ قَوَائِمَ وَفَمٍ كَبِيرٍ وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾ أَيْ مِنْ جَيْبِهِ ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ أَيْ تَتَلَأْلَأُ كَقِطْعَةٍ مِنَ الْقَمَرِ، فبادر فرعون بشقاوته إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: ﴿إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي بارع في السحر، فروّج عليهم أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ، ثُمَّ هَيَّجَهُمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ﴾ الآية، أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ بِقُلُوبِ النَّاسِ مَعَهُ بِسَبَبِ هَذَا، فَيُكْثِرَ أَعْوَانَهُ وَأَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ وَيَغْلِبَكُمْ على دولكتم، فَيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْكُمْ، فَأَشِيرُوا عليَّ فِيهِ مَاذَا أَصْنَعُ بِهِ؟ ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم﴾ أَيْ أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ حَتَّى تَجَمَعَ لَهُ مِنْ مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ، وَأَقَالِيمِ دَوْلَتِكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يُقَابِلُونَهُ، وَيَأْتُونَ بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ، فَتَغْلِبُهُ أَنْتَ وَتَكُونُ لَكَ النُّصْرَةُ وَالتَّأْيِيدُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وكان هذا من تسخير الله تعالى، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيَاتُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ وَبَرَاهِينُهُ
عَلَى النَّاسِ فِي النهار جهرة.
646
- ٣٨ - فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- ٣٩ - وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ
- ٤٠ - لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ
- ٤١ - فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
- ٤٢ - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين
- ٤٣ - قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
- ٤٤ - فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ
- ٤٥ - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
- ٤٦ - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
- ٤٧ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- ٤٨ - رَبِّ موسى وهارون
لَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ وَقَدْ جَمَعُوهُمْ مِنْ أَقَالِيمِ بِلَادِ مِصْرَ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ أَسْحَرَ النَّاسِ وأصنعهم، وَكَانَ السَّحَرَةُ جَمْعًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ. وَاجْتَهَدَ النَّاسُ فِي الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين﴾، وَلَمْ يَقُولُوا نَتَّبِعُ الْحَقَّ سَوَاءً كَانَ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ مِنْ مُوسَى، بَلِ الرَّعِيَّةُ عَلَى دِينِ مَلِكِهِمْ ﴿فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ﴾ أَيْ إِلَى مجلس فرعون، وقد جمع خدمه وحشمه، وَوُزَرَاءَهُ وَرُؤَسَاءَ دَوْلَتِهِ، وَجُنُودَ مَمْلَكَتِهِ، فَقَامَ السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدِي فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ إن غلبوا فَقَالُوا: ﴿أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين﴾ أَيْ وَأَخَصُّ مِمَّا
646
تَطْلُبُونَ أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي وَجُلَسَائِي، فَعَادُوا إلى مقام المناظرة ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا﴾ وقد اختصر هذا ههنا فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: ﴿أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون﴾ وهذا كما تقول الْجَهَلَةُ مِنَ الْعَوَامِّ إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا هَذَا بثواب فلان، ﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتتبلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تَعَالَى ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فكان هذا أمراً عظيماً، وَبُرْهَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، وَحُجَّةً دَامِغَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوا غُلبوا، وَخَضَعُوا وَآمَنُوا بِمُوسَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَسَجَدُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى وَهَارُونَ بِالْحَقِّ وَبِالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ غَلَبًا لَمْ يُشَاهِدِ الْعَالَمُ مِثْلَهُ، وَكَانَ وَقِحًا جَرِيئًا عليه لعنة الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ، فَعَدَلَ إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَدَعْوَى الْبَاطِلِ، فَشَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ، وَيَقُولُ: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السحر﴾، وَقَالَ: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ﴾ الآية.
647
- ٤٩ - قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
- ٥٠ - قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
- ٥١ - إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين
تهددهم فلم ينفع ذَلِكَ فِيهِمْ، وَتَوَعَّدَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حجاب الكفر، وظهر لَهُمُ الحق مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى لَا يَصْدُرُ عَنْ بَشَرٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَيَّدَهُ بِهِ وَجَعَلَهُ لَهُ حُجَّةً، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾؟ أَيْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَأْذِنُونِي فِيمَا فَعَلْتُمْ وَلَا تُفْتَاتُوا عليَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَعَلْتُمْ وَإِنْ مَنَعْتُكُمُ امْتَنَعْتُمْ، فَإِنِّي أَنَا الْحَاكِمُ الْمُطَاعُ ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾. وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بُطْلَانَهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بِمُوسَى قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي أَفَادَهُمْ صِنَاعَةَ السِّحْرِ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالصَّلْبِ، فَقَالُوا ﴿لاَ ضَيْرَ﴾ أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ وَلَا نُبَالِي بِهِ، ﴿إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ أَيِ الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فَعَلْتَ بِنَا وَسَيَجْزِينَا عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا﴾ أَيْ ما فارقنا مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، ﴿أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّا بَادَرْنَا قَوْمَنَا مِنَ الْقِبْطِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَقَتَلَهُمْ كلهم.
- ٥٢ - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكَمْ مُتَّبَعُونَ
- ٥٣ - فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
- ٥٤ - إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
- ٥٥ - وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ
- ٥٦ - وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
- ٥٧ - فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- ٥٨ - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
- ٥٩ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
لَمَّا طَالَ مُقَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ وَبَرَاهِينَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
647
يُكَابِرُونَ وَيُعَانِدُونَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْعَذَابُ والنكال، فأمر الله تعالى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ، وَأَنْ يَمْضِيَ بِهِمْ حَيْثُ يؤُمَر، فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ. خَرَجَ بِهِمْ بَعْدَمَا اسْتَعَارُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حُلِيًّا كَثِيرًا، وَكَانَ خروجه بهم فيما ذكره غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسِّرين وَقْتَ طُلُوعِ الْقَمَرِ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَلَّتْهُ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ مِنْ بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، وكان يوسف عليه السلام قَدْ أَوْصَى بِذَلِكَ إِذَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أن يحتملوه معهم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَلَيْسَ فِي نَادِيهِمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، غَاظَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى بني إسرئيل لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّمَارِ، فَأَرْسَلَ سَرِيعًا فِي بِلَادِهِ حَاشِرِينَ، أَيْ مَنْ يَحْشُرُ الْجُنْدَ وَيَجْمَعُهُ كَالنُّقَبَاءِ وَالْحُجَّابِ وَنَادَى فِيهِمْ: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ أَيْ لِطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ﴾ أَيْ كُلَّ وقت يصل منهم إلينا مَا يَغِيظُنَا، ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ أَيْ نَحْنُ كُلَّ وَقْتٍ نَحْذَرُ مِنْ غَائِلَتِهِمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ وَأُبِيدَ خَضْرَاءَهُمْ، فَجُوزِيَ فِي نَفْسِهِ وَجُنْدِهِ بِمَا أَرَادَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ أَيْ فَخَرَجُوا مِنْ هَذَا النَّعِيمِ إِلَى الْجَحِيمِ، وَتَرَكُوا تِلْكَ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ وَالْبَسَاتِينَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَرْزَاقَ وَالْمُلْكَ وَالْجَاهَ الْوَافِرَ فِي الدُّنْيَا، ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ الآية.
648
- ٦٠ - فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ
- ٦١ - فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
- ٦٢ - قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
- ٦٣ - فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
- ٦٤ - وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ
- ٦٥ - وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
- ٦٦ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ
- ٦٧ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ٦٨ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من المفسرين: أن فرعون خرج إليهم في محفل عظيم وجمع كبير، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشمس وهو طلوعها، ﴿لما تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ أَيْ رَأَى كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لمدركون﴾، وذلك أنهم انْتَهَى بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، وَهُوَ بحر القلزم فصار أمامهم البحر، وقد أدركهم فرعون بِجُنُودِهِ، فَلِهَذَا قَالُوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ أَيْ لَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَحْذَرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم، وهو سبحانه وتعالى لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّاقَةِ، فعند ذَلِكَ أَمْرُ الله نبيه موسى عليه السلام أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: انْفَلِقْ بإذن الله. وروى ابن أبي حاتم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ قَالَ: يَا مَنْ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شيء، والكائن بعد كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْ لَنَا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إليه: ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَوْحَى اللَّهُ -فِيمَا ذُكِرَ لِي- إِلَى الْبَحْرِ أَنْ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ الْبَحْرُ يضطرب ويضرب بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِظَارًا
648
لما أمره الله، وأوحى الله إلى إِلَى مُوسَى ﴿أَنْ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ فَضَرَبَهُ بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ أَيْ كَالْجَبَلِ الْكَبِيرِ (قَالَهُ ابْنُ عباس وابن مسعود والضحاك وقتادة وغيرهم)، قاله ابن عباس، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ؛ وَزَادَ السُّدِّيُّ: وَصَارَ فِيهِ طَاقَاتٌ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْمَاءُ عَلَى حَيْلِهِ كَالْحِيطَانِ، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ إِلَى قَعْرِ الْبَحْرِ فَلَفْحَتْهُ فَصَارَ يَبَسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً * لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾، وقال في هذه القصة ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين﴾ أي هنالك. قال ابن عباس ﴿وَأَزْلَفْنَا﴾ أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وَأَدْنَيْنَاهُمْ إِلَيْهِ، ﴿وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ أَيْ أَنْجَيْنَا مُوسَى وَبَنِي إسرائيل ومن اتبعهم عَلَى دِينِهِمْ فَلَمْ يَهْلَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا هلك. عن عبد الله بن مسعود قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُ أَصْحَابِ مُوسَى وَتَكَامَلَ أصحاب فرعون انطم عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، فَمَا رُئِيَ سَوَادٌ أَكْثَرُ مِنْ يومئذٍ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ أَيْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ لَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.
649
- ٦٩ - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ
- ٧٠ - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ
- ٧١ - قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ
- ٧٢ - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - ٧٣ - أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
- ٧٤ - قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
- ٧٥ - قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ
- ٧٦ - أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ
- ٧٧ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر الله تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَى أُمَّتِهِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له والتبري مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن صغره، فَإِنَّهُ مِنْ وَقْتِ نَشَأَ وَشَبَّ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ﴿فَقَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾؟ أَيْ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ ﴿قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ أَيْ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَدُعَائِهَا، ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ يَعْنِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا رَأَوْا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يهرعون، فعند ذلك قال لهم إبراهيم: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ شَيْئًا وَلَهَا تَأْثِيرٌ، فَلْتَخْلُصْ إِلَيَّ بِالْمَسَاءَةِ، فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهَا لَا أبالي بها وَلَا أُفَكِّرُ فِيهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ الآية. وقال هود عليه السلام ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تنظرون﴾، وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم، قال تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾.
- ٧٨ - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
- ٧٩ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ
- ٨٠ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
- ٨١ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
- ٨٢ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ
يَعْنِي لَا أَعْبُدُ إِلَّا الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾: أَيْ هُوَ الْخَالِقُ الَّذِي قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ فَكُلٌّ يَجْرِي عَلَى مَا قدر له، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ أَيْ هُوَ خَالِقِي وَرَازِقِي بِمَا سَخَّرَ وَيَسَّرَ مِنَ الْأَسْبَابِ السماوية والأرضية، ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ أَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَكِنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَدَبًا، كَمَا قال الْجِنُّ: ﴿وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾، وكذا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ أَيْ إِذَا وَقَعْتُ فِي مَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شِفَائِي أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمَا يُقَدِّرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ أَيْ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ أي لا يقدر على غفران الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا هُوَ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يشاء.
- ٨٣ - رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
- ٨٤ - وَاجْعَلْ لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
- ٨٥ - وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ
- ٨٦ - وَاغْفِرْ لِأَبِي أَنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ
- ٨٧ - وَلاَ تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ
- ٨٨ - يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
- ٨٩ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُؤْتِيَهُ رَبُّهُ حُكْمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعِلْمُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اللُّبُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النُّبُوَّةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ أَيْ اجْعَلْنِي مَعَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى»، قالها ثلاثاً. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَمِتْنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحَقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مُبْدِّلَيْنِ»، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاجْعَلْ لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ أَيْ وَاجْعَلْ لِي ذِكْرًا جَمِيلًا بَعْدِي أُذْكَرُ بِهِ وَيُقْتَدَى بِي فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾. قال مجاهد وقتادة: يعني الثناء الحسن، قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: كُلُّ مِلَّةٍ تحبه وتتولاه، وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ أَيْ أَنْعِمْ عَلَيَّ فِي الدُّنْيَا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدِي، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم، وقوله: ﴿واغفر لأبي﴾ الآية، كقوله: ﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ وَهَذَا مِمَّا رَجَعَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إياه - إلى قوله - إِن إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ أَيْ أَجِرْنِي من الخزي يوم القيامة، ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي ﷺ قال: «يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة».
وفي رواية أخرى: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ألم أقل
650
لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أن لا تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ على الكافرين؛ ثم يقول: يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى في النار" (أخرجه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً ورواه النسائي في التفسير، قال ابن كثير: والذيخ هو الذكر من الضباع). وَقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ أَيْ لَا يَقِي الْمَرْءَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَالُهُ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا ﴿وَلاَ بَنُونَ﴾ أي ولو افتدى بمن على الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلَا يَنْفَعُ يومئذٍ إِلَّا الْإِيمَانُ بالله، وإخلاص الدين له، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أَيْ سَالِمٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ، قَالَ ابن سِيرِينَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ، وَقَالَ ابن عباس: القلب السليم أن يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مجاهد والحسن: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ يَعْنِي مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الْقَلْبُ الصَّحِيحُ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: ﴿في قلوبهم مرض﴾ قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَةِ.
651
- ٩٠ - وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
- ٩١ - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
- ٩٢ - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ
- ٩٣ - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ
- ٩٤ - فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ
- ٩٥ - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ
- ٩٦ - قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
- ٩٧ - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
- ٩٨ - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- ٩٩ - وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ
- ١٠٠ - فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ
- ١٠١ - وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ
- ١٠٢ - فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- ١٠٣ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ١٠٤ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة﴾ أي قربت وأدنيت من أهلها مُزَخْرَفَةً مُزَيَّنَةً لِنَاظِرِيهَا، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ رَغِبُوا فيها وعملوا لها فِي الدُّنْيَا، ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ أَيْ أُظْهِرَتْ وَكُشِفَ عَنْهَا، وَبَدَتْ مِنْهَا عُنُقٌ فَزَفَرَتْ زَفْرَةً بلغت منها القلوب الْحَنَاجِرِ، وَقِيلَ لِأَهْلِهَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: ﴿أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هل ينصروكم أَوْ يَنتَصِرُونَ﴾؟ أَيْ لَيْسَتِ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ تُغْنِي عَنْكُمُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْ أنفسها، فإنكم وإياها حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، وَقَوْلُهُ: ﴿فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي فَدُهْوِرُوا فيها، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَادَتِهِمُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الشِّرْكِ، ﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ﴾ أَيْ أُلْقُوا فِيهَا عَنْ آخِرِهِمْ، ﴿قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي يقول الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا وَقَدْ عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ: ﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ نَجْعَلُ أَمْرَكُمْ مُطَاعًا كَمَا يُطَاعُ أَمْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبَدْنَاكُمْ مَعَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ﴿وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ﴾ أَيْ مَا دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يقولون ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فيشعفوا لنا﴾؟ وَكَذَا قَالُوا: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ أَيْ قَرِيبٍ، قَالَ قَتَادَةُ:
651
يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحًا نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحًا شَفَعَ ﴿لو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وَذَلِكَ أنهم يتمنون أنهم يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدُّنْيَا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أَيْ إِنَّ فِي محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد ﴿لآيَةً﴾ أي لدلالة واضحة جلية على أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
652
- ١٠٥ - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ
- ١٠٦ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- ١٠٧ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- ١٠٨ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ١٠٩ - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١١٠ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، فبعثه اللَّهُ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ وَمُحَذِّرًا مِنْ وَبِيلِ عقابه، فكذبه قومه فاستمروا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعَالِ الْخَبِيثَةِ في عبادتهم أصنامهم مَّعَ الله تَعَالَى، ونّزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل، فلهذا قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أَيْ أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أَيْ إِنِّي رَسُولٌ مِّن اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي ولا أَزِيدُ فِيهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ الآية، أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ جَزَاءً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ بَلْ أَدَّخِرُ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ وَبَانَ صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمني عليه.
- ١١١ - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ
- ١١٢ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- ١١٣ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ
- ١١٤ - وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ
- ١١٥ - إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
يَقُولُونَ: لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين، الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوكَ وَهُمْ أَرَاذِلُنَا، وَلِهَذَا ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُنِي مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ لِي وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا عَلَيْهِ، لَا يَلْزَمُنِي التَّنْقِيبُ عنهم وَالْبَحْثُ وَالْفَحْصُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، وأَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ﴿أن حسابهم إلى عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنْهُ ويتابعوه فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي كان مني وأنا منه، سواء كان شريفاً أو وضعياً، أَوْ جَلِيلًا أَوْ حَقِيرًا.
- ١١٦ - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ
- ١١٧ - قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
- ١١٨ - فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- ١١٩ - فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
- ١٢٠ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ
- ١٢١ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ١٢٢ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
652
لَمَّا طَالَ مُقَامُ نَبِيِّ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وَكُلَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ الْغَلِيظِ وَالِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَقَالُوا فِي الْآخِرِ: ﴿لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ أي إن لم تنته عن دعوتك إيانا على دينك ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ أَيْ لَنَرْجُمَنَّكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ: ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً﴾ الآية، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر﴾ إلى آخر الآية، وقال ههنا ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين﴾ والمشحون هو الملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فِيهَا مِن كُلِّ زوجين اثنين، أي أنجيا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
653
- ١٢٣ - كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ
- ١٢٤ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- ١٢٥ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- ١٢٦ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ١٢٧ - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١٢٨ - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
- ١٢٩ - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
- ١٣٠ - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ
- ١٣١ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ١٣٢ - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ
- ١٣٣ - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
- ١٣٤ - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- ١٣٥ - إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (هُودٍ) عَلَيْهِ السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ جِبَالُ الرَّمَلِ قَرِيبًا مِنْ حضرموت متاخمة بلاد الْيَمَنِ، وَكَانَ زَمَانُهُمْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بسطة﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غير الله معه، فبعث الله هوداً إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ رَسُولَا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا فَدَعَاهُمْ إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾؟ الريع: المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بيناناً محكماً هائلاً باهراً، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً﴾ أَيْ معلماً بناء مشهوراً، ﴿تَعْبَثُونَ﴾ أي وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾. قَالَ مُجَاهِدٌ: والمصانع الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَأْخَذُ الْمَاءِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ أَيْ لِكَيْ تُقِيمُوا فِيهَا أَبَدًا، وذلك ليس بِحَاصِلٍ لَكُمْ بَلْ زَائِلٌ عَنْكُمْ، كَمَا زَالَ عمن كان قبلكم، روي أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى مَا أَحْدَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغُوطَةِ مِنَ البنيان ونصب الحجر، قَامَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَنَادَى يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ، تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَأْمُلُونَ ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون
653
فَيُوثِقُونَ، وَيَأْمُلُونَ فَيُطِيلُونَ، فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا، وَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُورًا، وَأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا، أَلَا إِنَّ عَادًا مَلَكَتْ مَا بَيْنَ عَدَنَ وَعُمَانَ خَيْلًا، وَرِكَابًا فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي مِيرَاثَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ (أخرجه ابن أبي حاتم)؟ وقوله: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ أي يصفهم بِالْقُوَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْجَبَرُوتِ، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ أَيِ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَأَطِيعُوا رَسُولَكُمْ، ثُمَّ شَرَعَ يُذَكِّرُهُمْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا
تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾
أَيْ إِنْ كَذَّبْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَمَا نَفَعَ فِيهِمْ
654
- ١٣٦ - قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ
- ١٣٧ - إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ
- ١٣٨ - وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
- ١٣٩ - فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ١٤٠ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَوْمِ هُودٍ لَهُ، بَعْدَمَا حَذَّرَهُمْ وأنذرهم وبيَّن لَهُمُ الْحَقَّ وَوَضَّحَهُ ﴿قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ﴾ أَيْ لا نرجع عما نحن عليه، ﴿وَمَا نَحْنُ
بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بمؤمنين﴾
وَهَكَذَا الْأَمْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الآية، وقولهم ﴿إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين﴾، كما قال المشركون، ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾، وقال: ﴿وقيل للذين كفروا مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ ﴿خُلُق الْأَوَّلِينَ﴾ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، يَعْنُونَ دِينَهُمْ وما هم عليه من الأمر دين الأولين مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَنَحْنُ تَابِعُونَ لَهُمْ سَالِكُونَ وَرَاءَهُمْ نَعِيشُ كَمَا عَاشُوا وَنَمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَلَا بَعْثَ وَلَا مَعَادَ، وَلِهَذَا قَالُوا: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ يقول: دين الأولين (وهو قول عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم واختاره ابن جرير)، وقوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ أي استمروا عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّ اللَّهِ هُودٍ وَمُخَالَفَتِهِ وَعِنَادِهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ بيَّن سَبَبَ إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَرًا عَاتِيَةً، أَيْ رِيحًا شَدِيدَةَ الهبوب ذات برد شديد جداً، فكان سبب إِهْلَاكُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْتَى شَيْءٍ وَأَجْبَرَهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَعْتَى منهم وأشد قوة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟﴾ فسلكت الريح فحصبت بِلَادَهُمْ، فَحَصَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كل شيء بأمر ربها﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوية﴾ أَيْ بَقُوا أَبْدَانًا بِلَا رُؤُوسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَقْتَلِعُهُ وَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُ دِمَاغَهُ، وَتَكْسِرُ رَأْسَهُ، وَتُلْقِيهِ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وَقَدْ كَانُوا تَحَصَّنُوا فِي الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِهِمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا، ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ﴾، ولهذا قال تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ الآية.
- ١٤١ - كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ
- ١٤٢ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- ١٤٣ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- ١٤٤ - فَاتَّقُوا اللَّهَ -[٦٥٥]- وَأَطِيعُونِ
- ١٤٥ - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعَثَهُ إلى قومه ثَمُودَ، وَكَانُوا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَةَ الْحِجْرِ الَّتِي بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَبِلَادِ الشَّامِ، وَمَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفَةٌ مشهورة، وكانوا بَعْدَ عَادٍ وَقَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا بَلَّغَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ وخالفوه، وأخبرهم أَنَّهُ لَا
يَبْتَغِي بِدَعْوَتِهِمْ أَجْرًا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَطْلَبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ آلَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:
- ١٤٦ - أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ
- ١٤٧ - فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- ١٤٨ - وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ
- ١٤٩ - وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ
- ١٥٠ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ١٥١ - وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ
- ١٥٢ - الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولا يصلحون
يقول لهم واعظاً لهم ومحذرهم نِقَمَ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ، وَمُذَكِّرًا بِأَنْعُمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ الدَّارَّةِ، وأنبت لهم من الجنات، وفجر لَهُمْ مِنَ الْعُيُونِ الْجَارِيَاتِ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثَّمَرَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ قال ابن عباس: أينع وبلغ فهو هضيم، وعنه يقول: معشبة، وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر، وقال ابن جريج عن مجاهد ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ قَالَ: حِينَ يَطْلُعُ تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتَهْضِمُهُ، فَهُوَ مِنَ الرُّطَبِ الْهَضِيمِ، وَمِنَ الْيَابِسِ الْهَشِيمِ، تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتُهَشِّمُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ: الْهَضِيمُ الرَّطْبُ اللَّيِّنُ، وَقَالَ الضَّحَاكُ: إِذَا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً فهو هضيم، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا نَوَى لَهُ، وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: مَا رَأَيْتُ الطَّلْعَ حين ينشق عَنْهُ الْكُمُّ فَتَرَى الطَّلْعَ قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ الْهَضِيمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِين﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي حَاذِقِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: شَرِهِينَ أَشِرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي الْجِبَالِ أَشَرًا وَبَطَرًا وَعَبَثًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقين لِنَحْتِهَا وَنَقْشِهَا، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ لِمَنْ رَأَى مَنَازِلَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ أي أقبلوا على مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، لتعبدوه وتوحده وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ يَعْنِي رُؤَسَاءَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ الدُّعَاةَ لَهُمْ إِلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ومخالفة الحق.
- ١٥٣ - قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ
- ١٥٤ - مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- ١٥٥ - قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- ١٥٦ - وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- ١٥٧ - فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ
- ١٥٨ - فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ١٥٩ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم
655
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ثَمُودَ فِي جَوَابِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى عبادة ربهم عزَّ وجلَّ أنهم ﴿قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: يعنون من المسحورين، يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مَسْحُورٌ لَا عَقْلَ لَكَ، ثُمَّ قَالُوا ﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ يَعْنِي فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ دوننا، كما قالوا في الآية الأخرى ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ ثُمَّ إِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ آيَةً يَأْتِيهِمْ بِهَا لِيَعْلَمُوا صِدْقَهُ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْآنَ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ ناقة عشراء، وأشاروا إلى صخرة عندهم، مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ لَئِنْ أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَلَّى ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَانْفَطَرَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ الَّتِي أَشَارُوا إِلَيْهَا عَنْ نَاقَةٍ عُشَرَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفُوهَا، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ يَعْنِي تَرِدُ مَاءَكُمْ يَوْمًا وَيَوْمًا تَرِدُونَهُ أَنْتُمْ، ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ فَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ أَصَابُوهَا بِسُوءٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ تَرِدُ الماء، وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها يحلبون مِنْهَا مَا يَكْفِيهِمْ شُرْبًا وَرِيًّا؛ فَلَمَّا طَالَ عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالأوا عَلَى قَتْلِهَا وَعَقْرِهَا ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ﴾ وَهُوَ أَنَّ أَرْضَهُمْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وجاءتهم صحية عظيمة اقتلعت القلوب من مَحَالِّهَا، وَأَتَاهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يحتسبون، وأصبحوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
656
- ١٦٠ - كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ
- ١٦١ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- ١٦٢ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- ١٦٣ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ١٦٤ - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ لوط عليه السلام، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَعَثَهُ إِلَى أُمَّةٍ عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام، وكانوا يسكنون (سدوم) وأعمالها التي أهلكهم اللَّهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِبِلَادِ الْغَوْرِ مُتَاخِمَةٌ لِجِبَالِ الْبَيْتِ المقدس، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُمُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دُونَ الْإِنَاثِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
- ١٦٥ - أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ
- ١٦٦ - وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ
- ١٦٧ - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ
- ١٦٨ - قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ
- ١٦٩ - رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ
- ١٧٠ - فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
- ١٧١ - إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ
- ١٧٢ - ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
- ١٧٣ - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ
- ١٧٤ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ١٧٥ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الْفَوَاحِشَ وَغَشَيَانِهِمُ الذُّكُورَ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِتْيَانِ نِسَائِهِمُ اللاتي خلقهن الله
656
لهم ما كان جوابهم إِلَّا أَنْ قَالُوا ﴿لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا لوط﴾ أي عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ أَيْ نَنْفِيكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَرْتَدِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وقال: ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ﴾ أَيِ الْمُبْغِضِينَ لَا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم، ثم دعا الله عليهم، فقال: ﴿رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ﴾ أَيْ كُلَّهُمْ، ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ﴾ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَكَانَتْ عَجُوزَ سُوءٍ، بَقِيَتْ فَهَلَكَتْ مَعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ قومها، حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِذَا سَمِعُوا الصَّيْحَةَ حِينَ تَنْزِلُ عَلَى قَوْمِهِ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَمَرُّوا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْعَذَابَ الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، ولهذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً - إلى قوله - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
657
- ١٧٦ - كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ
- ١٧٧ - إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- ١٧٨ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- ١٧٩ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- ١٨٠ - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
هؤلاء - يعني أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ - هُمْ «أَهْلُ مَدْيَنَ» عَلَى الصَّحِيحِ، وكان نبي الله من أنفسهم، وإنما لم يقل ههنا أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ، لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَيْكَةِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ، وَقِيلَ: شَجَرٌ مُلْتَفٌّ كَالْغَيْضَةِ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلِهَذَا لَمَّا قَالَ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَقِلْ: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ فقطع نسب الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ لِلْمَعْنَى الَّذِي نُسِبُوا إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُمْ نَسَبًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يفطن لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، فَظَنَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ غَيْرُ أهل مدين، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وُصِفُوا فِي كُلِّ مَقَامٍ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا وَعَظَ هَؤُلَاءِ، وَأَمْرَهُمْ بِوَفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ كَمَا فِي قِصَّةِ مَدْيَنَ سَوَاءً بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
- ١٨١ - أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ
- ١٨٢ - وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
- ١٨٣ - وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- ١٨٤ - وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين
يأمرهم عليه السلام بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِيهِمَا فَقَالَ: ﴿أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾ أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم، ولا تبخسوا الْكَيْلَ فَتُعْطُوهُ نَاقِصًا وَتَأْخُذُوهُ إِذَا كَانَ لَكُمْ تَامًّا وَافِيًا، وَلَكِنْ خُذُوا كَمَا تُعْطُونَ، وَأَعْطُوا كَمَا تَأْخُذُونَ ﴿وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ وَالْقِسْطَاسُ هُوَ الميزان، قال مجاهد: ﴿القسطاس المستقيم﴾ هو الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقِسْطَاسُ الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَلاَ تبخسوا الناس أشياءهم﴾ أي لا تُنْقِصُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ يعني قطع الطريق كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ توعدون﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾ يُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آبَاءَهُمُ الْأَوَائِلَ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبآئكم الأولين﴾ قال ابن عباس ومجاهد: ﴿وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾ يَقُولُ: خَلَقَ الْأَوَّلِينَ، وَقَرَأَ ابْنُ زيد ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جبلا كثيرا﴾.
- ١٨٥ - قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ
- ١٨٦ - وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
- ١٨٧ - فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- ١٨٨ - قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
- ١٨٩ - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- ١٩٠ - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- ١٩١ - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَجَابَتْ بِهِ ثَمُودُ لِرَسُولِهَا تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ حَيْثُ قَالُوا: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ يَعْنُونَ مِنَ الْمَسْحُورِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، ﴿وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أَيْ تَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيمَا تَقُولُهُ لَا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ قال قَتَادَةُ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾. وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ الآية. وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء﴾ الآية، ﴿قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ جَازَاكُمْ به وهو غير ظالم لكم، وهكذا وَقَعَ بِهِمْ كَمَا سَأَلُوا جَزَاءً وِفَاقًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وَهَذَا مِنْ جنس ما سألوه مِنْ إِسْقَاطِ الْكِسَفِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتعالى جعل عقوبتهم أن
أصابهم حر عظيم مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يُكِنُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرًا مِنْ نَارٍ وَلَهَبًا وَوَهَجًا عَظِيمًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. قَالَ قَتَادَةُ: قال عبيد اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَا يُظِلُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بِهَا، فَأَصَابَ تَحْتَهَا بَرْدًا وَرَاحَةً، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ قَوْمَهُ، فَأَتَوْهَا جَمِيعًا، فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا، فَأَجَّجَتْ عَلَيْهِمْ ناراً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الظُّلَّةَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الظُّلَّةَ وَأَحْمَى عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ، فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ فِي الْمَقْلَى، وقال محمد بن جرير عن يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الآية ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة﴾ الآية، قال: بعث الله عليهم رعدة وحراً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تحتها أرسل اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ أَيِ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين.
- ١٩٢ - وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- ١٩٣ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
- ١٩٤ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ
- ١٩٥ - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٌ
658
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّهُ﴾ أَيِ الْقُرْآنُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَآ يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾ الْآيَةَ. ﴿لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ وهو جبريل (تفسسير الروح الأمين بجبريل قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم) عليه السلام، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ﴿عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ أَيْ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ سَالِمًا مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَتُبَشِّرَ به المؤمنين المتبعين له، وقوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أنزلناه إليك باللسان الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ الْكَامِلِ الشَّامِلِ، لِيَكُونَ بَيِّنًا وَاضِحًا ظَاهِرًا، قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ، دَلِيلًا إِلَى المحجة، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ، وَاللِّسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ تَكَلَّمَ العربية.
659
- ١٩٦ - وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
- ١٩٧ - أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
- ١٩٨ - وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ
- ١٩٩ - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُّؤُمِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِن ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهَ بِهِ لَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَنْبِيَائِهِمُ، الَّذِينَ بَشَّرُوا بِهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ حَتَّى قَامَ آخِرُهُمْ خَطِيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ من بعدي يأتي اسمه أحمد﴾ والزبر ههنا هِيَ الْكُتُبُ، وَهِيَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ وهو كتاب داود، قال الله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أَيْ أَوَلَيْسَ يَكْفِيهِمْ مِنَ الشَّاهِدِ الصَّادِقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَجِدُونَ ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا، وَالْمُرَادُ الْعُدُولُ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَأُمَّتِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بذلك مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كـ (عبد الله بن سلام) و (سلمان الفارسي) ومن شاكلهم، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ الآية؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شِدَّةِ كُفْرِ قريش وعنادهم لهذا القرآن: إنه لو نزل عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مِنَ الْعَرَبِيَّةِ كَلِمَةً وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ الآية؛ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الآية.
- ٢٠٠ - كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
- ٢٠١ - لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
- ٢٠٢ - فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
- ٢٠٣ - فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ
- ٢٠٤ - أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
- ٢٠٥ - أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ
659
- ٢٠٦ - ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ
- ٢٠٧ - مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ
- ٢٠٨ - وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ
- ٢٠٩ - ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَا التَّكْذِيبَ وَالْكُفْرَ وَالْجُحُودَ وَالْعِنَادَ، أَيْ أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أَيْ بِالْحَقِّ ﴿حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ أَيْ حَيْثُ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، ﴿فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً﴾ أي عذاب الله فجأة ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ﴾ أَيْ يَتَمَنَّوْنَ حِينَ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ أَنْ لَوْ أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله، فَكُلُّ ظَالِمٍ وَفَاجِرٍ وَكَافِرٍ إِذَا شَاهَدَ عُقُوبَتَهُ نَدِمَ نَدَمًا شَدِيدًا؛ هَذَا فِرْعَوْنُ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِ الْكِلِيمُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا﴾ فَأَثَّرَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي فِرْعَوْنَ فَمَا آمَنَ حَتَّى رَأَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله الذي آمَنَتْ بِهِ بنو إسرائيل﴾ الآية، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ تَكْذِيبًا واستبعاداً: ائتنا بِعَذَابِ الله، كما قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ الآيات، ثُمَّ قَالَ: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ أَيْ لَوْ أَخَّرْنَاهُمْ وَأَنْظَرْنَاهُمْ وأمليناهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وَإِنْ طَالَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، أَيُّ شَيْءٍ يُجْدِي عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعيم ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عيشة أو ضحاها﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾، ولهذا قال تعالى: ﴿مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ﴾. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يُؤْتَى بِالْكَافِرِ فَيُغْمَسُ فِي النَّارِ غَمْسَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب". ثم قال تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي خُلُقِهِ أَنَّهُ مَا أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وقيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا نعذبين حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا - إلى قوله - وَأَهْلُهَا ظالمون﴾.
660
- ٢١٠ - وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ
- ٢١١ - وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ
- ٢١٢ - إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ اللَّهِ ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عليهم ذلك مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نور وَهُدًى وَبُرْهَانٌ عَظِيمٌ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ مُنَافَاةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أَيْ وَلَوِ انْبَغَى لَهُمْ لَمَا استطاعوا ذلك، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى لَهُمْ وَاسْتَطَاعُوا حمله وتأدييه لَمَا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء مائت حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً فِي مُدَّةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ على رسول الله، فَلَمْ يَخْلُصْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى اسْتِمَاعِ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لكتابه
660
ولرسوله، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى مخبراًعن الجن ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شهابا رصدا﴾.
661
- ٢١٣ - فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
- ٢١٤ - وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
- ٢١٥ - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- ٢١٦ - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
- ٢١٧ - وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
- ٢١٨ - الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
- ٢١٩ - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
- ٢٢٠ - إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ ولا مخبرأً أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ عَذَّبَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ أَيِ الْأَدْنَيْنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا إِيمَانُهُ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ عَصَاهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ فليتبرأ منه، ولهذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وَهَذِهِ النِّذَارَةُ الْخَاصَّةُ لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ بَلْ هي فرد من أجزائها، كما قال تَعَالَى: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غافلون﴾، وقال تعالى: ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حولها﴾، وقال تعالى: ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ». وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلْنَذْكُرْهَا، الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: «يَا صَبَاحَاهُ»، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ وَأَنْزَلَ الله: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ (أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق بمثله)، الحديث الثاني: روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سلوني من مالي ما شئتم» (أخرجه أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها). الحديث الثالث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فعمَّ وخصَّ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ من النار، فإني والله لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ لكم رحماً سأبلها ببلاها» (رواه مسلم والترمذي). وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا
661
من الله، فإني لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» (تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هذا الوجه الإمام أحمد) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي قُصَيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنَا النَّذِيرُ، وَالْمَوْتُ المغير، والساعة الموعد» (أخرجه الحافظ أبو يعلى)، الحديث الرابع: قال الإمام أحمد عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضْمَةً مِنْ جَبَلٍ عَلَى أَعْلَاهَا حَجَرٌ فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَذَهَبَ يربأ أهله رجاء أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهُ» (أخرجه مسلم والنسائي والإمام أحمد)؟.
وقوله تعالى: ﴿وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ أَيْ فِي جَمِيعِ أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، وقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ أَيْ هُوَ مُعْتَنٍ بك، كما قال تعالى: ﴿فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأعيننا﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾: يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَى قِيَامَهُ وركوعه وسجوده، وقال الحسن: إذا صليت وحدك، وقال الضحاك: أَيْ مِنْ فِرَاشِكَ أَوْ مَجْلِسِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿الَّذِي يَرَاكَ﴾ قَائِمًا وَجَالِسًا وَعَلَى حَالَاتِكَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾، قَالَ قَتَادَةُ: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ قَالَ: فِي الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَعْنِي تَقَلُّبَهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نبي، حتى أخرجه نبياً، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ الْآيَةَ.
662
- ٢٢١ - هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ
- ٢٢٢ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
- ٢٢٣ - يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
- ٢٢٤ - وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ
- ٢٢٥ - أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
- ٢٢٦ - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ
- ٢٢٧ - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بحق، وَأَنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ أنه أتاه به رِئي الجان، فنزه الله سبحانه وتعالى جَنَابَ رَسُولِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَنَبَّهَ أَنَّ ما جاء به إنما هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ وَوَحْيُهُ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ من قبل الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُونَ عَلَى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ وَيُشَابِهُهُمْ مِنَ الْكُهَّانِ الْكَذَبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ أَيْ أُخْبِرُكُمْ ﴿عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أَيْ كذوب في قوله وهو الأفاك ﴿أَثِيمٍ﴾ وهو الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَزَّلُ عليه الشياطين من الكهان وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْكَذَبَةِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَيْضًا كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ أَيْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ثُمَّ يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بِهَا فَيُصَدِّقُهُمُ النَّاسُ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ بسبب
662
صِدْقِهِمْ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السماء، كما روى البخاري عن عروة بن الزبير قال، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله فإنه يحدثون بالشيء يكون، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة». وروى البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كأنها سسلسلة على صفوان، فإذا فرغ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، ومسترقو السمع هكذا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ - وصفه سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ لكلمة فيلقها إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فكيذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" (تفرد به البخاري ورواه مسلم قريباً منه).
وقوله تعالى: ﴿والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْكُفَّارَ يَتْبَعُهُمْ ضُلَّالُ الْإِنْسِ والجن؛ وكذا قال مجاهد رحمة الله، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الشَّاعِرَانِ يَتَهَاجَيَانِ فَيَنْتَصِرُ لِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، ، فأنزل الله تعالى: ﴿والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾. وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا الشَّيْطَانَ - أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ -، لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خير له من أن يمتلئ شعراً» (أخرجه الإمام أحمد في المسند). وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَوْدِيَتَهُمُ الَّتِي يخضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فُلَانٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّاعِرُ يَمْدَحُ قَوْمًا بِبَاطِلٍ ويذم قوماً بباطل، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْآخَرُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَإِنَّهُمَا تَهَاجَيَا فَكَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَبَجَّحُونَ بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ وَلَا عَنْهُمْ فَيَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا شاعر، لِأَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِحَالِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وهكذا قال ههنا: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزلون﴾، إِلَى أَنْ قَالَ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ *
663
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ؟ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً﴾ الآية.
قال محمد بن إسحاق: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهم يبكون قالوا: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّا شُعَرَاءُ، فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ قَالَ: «أَنْتُمْ» ﴿وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً﴾ قَالَ: «أَنْتُمْ» ﴿وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ قَالَ: «أَنْتُمْ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابن إسحاق). وروي أيضاً عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون﴾، إلى قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ﴾ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَدْ عَلِمَ الله أني منهم، فأنزل الله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ: فِي شِعْرِهِمْ، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق، وقوله تعالى: ﴿وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرُدُّونَ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ به المؤمنين؛ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ - أَوْ قَالَ - هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ». وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ أنزل في الشعراء ما أنزل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ﴾ الآية، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قال قتادة: يعني من الشعراء وغيرهم وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ظَالِمٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ حاتم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَتَبَ أبي في وَصِيَّتَهُ سَطْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا وصى بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا حِينَ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ، وَيَنْتَهِي الْفَاجِرُ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ يَعْدِلْ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ ورجائي فيه، وإن يجر ويبذل فَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴿وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون﴾.
664
- ٢٧ - سورة النمل
665
Icon