ﰡ
﴿ طسۤمۤ * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾؛ أولُ السورة قَسَمٌ؛ وهو من أسماءِ الله تعالى. قال الْقَرَظِيُّ: (أقْسَمَ اللهُ بطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ)، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾ أي هذه آياتُ الكتاب المبينِ أنزَلَها على رسولهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لعلَّكَ مُهْلِكٌ نفسَكَ؛ أي قائلٌ بأنْ لا يكونُوا مؤمنينَ، وكان صلى الله عليه وسلم حَريصاً على إيْمانِهم ونَجاتِهم من عذاب الله، وذلكَ أنهُ لَمَّا كذبت قريشٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شُقَّ عليهِ ذلك، وكان يحرصُ على إيْمانِهم، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ: لعلَّكَ قاتلٌ نفسَكَ لترْكِهم الإيْمانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾؛ إعلامٌ مِن الله تعالى أنهُ لو أرادَ أنْ يُنَزِّلَ آيةُ تضطَرُّهم إلى الطاعةِ لقَدِرَ على ذلكَ، ولكنهُ لَم يفعلْ؛ لأنه أرادَ منهم إيْمَاناً فيستحقُّون عليه المدحَ والثوابَ، فإذا جاءَ الإلْجَاءُ ذهَبَ الْمَدْحُ وَالثَّوَابُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ أي أذِلاَّءَ مُنقادِين لا يَلْوُونَ أعناقَهم إلى معصيةٍ. قال قتادةُ: (الْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ عَليْهِمْ آيَةً يُذلُّونَ بهَا، فَظَلَّتْ جَمَاعَتُهُمْ لَهَا خَاضِعِيْنَ). وَالأعْنَاقُ: الْجَمَاعَاتُ، يقالُ: جاءَنِي عُنُقٌ من الناسِ؛ أي جماعةٌ، ولو كان المرادُ الأعناقُ التي هي الخارجةُ لقال: خَاضِعَاتٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾؛ أي ما يأتِي جبريلُ عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ بعدَ شيءٍ من القُرْآنِ إلاّ كانوا مُعْرِضِيْنَ عن ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَدْ كَذَّبُواْ ﴾؛ أي بالقُرْآنِ.
﴿ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ أي فسيأتِيهم خبرُ ذلكَ في القيامةِ.
قولهُ تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ معناهُ: أولَمْ يرَ أهلُ مكَّةَ إلى الأرضِ كم أخرَجَنا فيها مِن كلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ في الْمَنْظَرِ من النَّباتِ بعد أن كانت مَيْتَةً لا نَبَاتَ فيها. والزَّوْجُ: هو صِنْفٌ وأضْرُب الْحُسْنِ، (والمعنَى: مِن كلِّ زَوْجٍ نَافِعٍ لا يقدرُ على إنباتهِ إلاّ ربُّ العالَمين)، من أسْوَدٍ وأحمرٍ وأصفرٍ وأخضرٍ، وحُلْوٍ وحَامضٍ مما يأكلُ الناسُ والأنْعَامُ. (والكريْمُ في اللُّغة: هو الْمَحْمُودُ فيما يُحْتَاجُ إليهِ)، يقالُ: نخلةٌ كَرِيْمَةٌ إذا طابَ حَمْلُهَا أو كَثُرَ، وناقةٌ كَرِيْمَةٌ إذا كانت غَزِيْرَةَ اللَّبَنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾؛ إنَّ في اختلافِ ألوان النبات للدلالةً على وحدانيَّة اللهِ وكمال قُدرته.
﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ في عِلْمِ اللهِ؛ أي قد سَبَقَ في عِلْمِ الله أنَّ أكثرَهم لا يُؤمنون.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ أي الْمُنْتَقِمُ من أعدائهِ الرَّحِيْمُ بأوليائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي أتْلُ على قومِكَ أو اذكُرْ لقومِكَ: ﴿ وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ ﴾ حين رأى الشجرةَ والنارَ، وقال لَهُ: يا مُوسَى ائْتِ القومَ الظَّالِمين، يعنِي الذين ظَلَمُوا أنفُسِهم بالكفرِ والمعصية، وظَلَمُوا بني إسرائيلَ بأنْ سَامُوهم سوءَ العذاب.
﴿ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ﴾.
ثُم أخبرَ عنهم فقال: ﴿ أَلا يَتَّقُونَ ﴾، عِقابي في مقامِهم على الكُفْرِ وتركِ الإيْمانِ. ﴿ قَالَ ﴾ مُوسَى: ﴿ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾؛ بالرِّسالةِ ويقولون: لَيْسَتْ مِن عند الله.
﴿ وَيَضِيقُ صَدْرِي ﴾؛ بتَكْذِيْبهِمْ إيَّايَ.
﴿ وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي ﴾؛ للعُقْدَةِ التي فيهِ.
﴿ فَأَرْسِلْ ﴾ جبريلَ ﴿ إِلَىٰ هَارُونَ ﴾ ليكون مَعِي معيناً يُؤَازِرُنِي على إظهارِ الدَّعوةِ وتبليغ الرِّسالةِ. ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ ﴾؛ أي دَعْوَى ذنبٍ؛ يعني الْوَكْزَةَ التي وَكَزَهَا الْقِبْطِيَّ فماتَ منها.
﴿ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾؛ بوِشايَتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ كَلاَّ ﴾؛ أي كَلاَّ لا يقتلونَكَ لأنِّي لا أُسَلِّطُهُمْ عليكَ.
﴿ فَٱذْهَبَا ﴾؛ أنتَ وأخُوكَ.
﴿ بِآيَاتِنَآ ﴾؛ يعني بما أعطَاهُما من المعجرةِ.
﴿ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ ﴾؛ وإنَّما قالَ (مَعَكُمْ) لأنه أجْرَاها مجرَى الجماعةِ، والمعنى: أسْمَعُ ما يقولونَهُ وما يُجِيبُونَكَ به. وَقِيْلَ: إنَّ معنى قولهِ (كَلاَّ) أي قالَ اللهُ لِمُوسَى: إرتَدِعْ عَنْ هذا الظَّنِّ وهذا الخوفِ.
﴿ فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ ﴾ أي بدلاَئِلنا ﴿ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ ﴾ أي شَاهِدُونَ بحفْظِكُم ونَصَرِكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي ﴿ رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ إليكَ لَتُؤْمِنَنَّ باللهِ وَتُطْلِقَ بَنِي إسْرَائِيْلَ عن الاستعبادِ، وتُرْسِلَهم معنَا إلى الأرضِ المقدَّسةِ، والرَّسُولُ يُذْكَرُ ويرادُ به الجمعُ، كما تقولُ العرب: ضَيْفٌ وَعَدُوٌّ، ومنهُ قولهُ﴿ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾[الكهف: ٥٠]، وَقِيْلَ: إنَّما قالَ ﴿ رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ ولَم يقُلْ رَسُولاَ؛ لأنَّهُ أرادَ المصدرَ؛ أي رسَالَةَ، وتقديرهُ: ذوُو رسالةِ رَبِ العالمينَ، كقولِ الشَّاعرِ: لَقَدْ كَذبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ بسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ برَسُولِأي برسالةٍ، وَقِيْلَ: معناهُ: وكلُّ واحد مِنَّا رسولُ رب العالَمين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾؛ أي بأَنْ أرْسِلْ معنا بَنِي إسرائيلَ إلى فِلَسْطِيْنَ ولا تَسْتَعْبدْهُمْ. وكان فرعونُ استعبَدَهم أربعمائة سَنة، وكانُوا في ذلك الوقتِ ستُّمائة ألفٍ وثلاثين ألفاً، فانطلقَ موسَى وهارونُ بالرِّسالةِ إلى مِصْرَ، فلمَّا بلَغُوا دارَ فرعون لَم يُؤْذنْ لَهم بالدُّخولِ عليه إلاّ بعدَ مدَّةٍ، فدخلَ البوَّابُ؛ وقالَ لفرعونَ: هذا إنسانٌ يدَّعِي أنه رسولُ رب العالَمين، فقالَ فرعَونُ: إئْذنْ لهُ لعلَّنا نضحَكُ منه. فدخَلاَ عليه وأدَّيَا رسالةَ اللهِ تعالى. فعرَفَ موسى؛ لأنهُ نشأ في بيته، فـ ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾؛ أي صبيّاً صغيراً.
﴿ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾؛ وهي ثلاثونَ سَنة.
﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ ﴾؛ يعني قَتْلَ قِبْطِيٍّ.
﴿ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي مِن الْجَاحِدِيْنَ لنِعمَتي، وحقَّ تربيَتي، فربَّيناكَ فِينَا ولِيداً، فهذا الذي كافَأْتَنا به أن قَتَلْتَ منَّا نَفْساً، وكفَرْتَ بنعمَتِنا. ويروَى أنَّ موسَى لَمَّا انطلقَ إلى مصر لتبليغِ الرِّسالةِ، وكان هارونُ يومئذٍ بمصْرَ، التقَى كلُّ واحدٍ منهُما بصاحبهِ، فانطلَقَا كلاهُما إلى فرعونَ، أدَّيَا جميعاً الرسالةَ، وعَرَفَ فرعونُ موسَى، قال لهُ فرعونُ: ﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً ﴾ أي صَغِيْراً، ومكثتَ عندنا سِنيناً من عُمُرِكَ.
﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ﴾ أي قتلتَ القبطيَّ ﴿ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي الجاحدينَ لنِعمَتي وتربيتي.
﴿ قَالَ ﴾ موسَى: ﴿ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ ﴾؛ أي فعلتُ تلك الفعلةَ وأنا من الْجَاهِلينَ، لَم يأتِنِي من اللهِ شيءٌ، ولا يجوزُ أن يكون المرادُ بهذا الإضلال عنِ الْهُدَى؛ لأن ذلك لا يجوزُ أن يكون على الأنبياءِ. وَقِيْلَ: معناهُ: وأنَا من الْمُخْطِئِيْنَ، نظيرهُ﴿ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ ﴾[يوسف: ٩٥].
وَقِيْلَ: مِن النَّاسِينَ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ ﴾[البقرة: ٢٨٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ﴾؛ أي هَرَباً منكم إلى مِدْيَنَ لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسِي أن تقتلُونِي بالذي قتلتهُ.
﴿ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ﴾؛ أي نُبُوَّةً، وَقِيْلَ: فَهْماً وعِلْماً.
﴿ وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾؛ وإنِّي لأُبَلِّغُكم التوحيدَ والشَّرائعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾؛ قال المفسِّرون: هذا إنكارٌ مِن موسى أن يكونَ ما ذكَرَ فرعونُ نعمةً على موسى، واللفظُ لفظ خبَرٍ وفيه تبكيتٌ للمخاطَب على معنى: إنَّكَ لو كنتَ لَمْ تقتُلْ بنِي إسرائيل كانت أُمِّي مُسْتَغنِيةً عن قذفِي في أليَمِّ، فكأنَّكَ تَمُنُّ عليَّ بما كان بلاؤُكَ سبباً لهُ. وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ فرعونَ لَمَّا قالَ لِمُوسى: ألَمْ نُرَبكَ فِيْنَا وَلِيْداً؟ قالَ لهُ موسى: تلكَ نِعْمَةٌ تعدُّها عليَّ لأنَّكَ عَبَّدْتَ بَنِي إسرائيلَ؛ أي استعبَدْتَهم، ولو لَم تعبدْهم لكفَلَني أهلِي فلم يُلْقُونِي في اليَمِّ. يقالُ: استعبدتُ فلاناً وأعْبَدْتُهُ وَتَعَبَّدْتُهُ وَعَبَّدْتُهُ؛ أي اتَّخَذْتُهُ عَبداً. وَقِيْلَ: معنَى الآيةِ: أتَمُنُّ علَيَّ بذلكَ وأنتَ استعبدتَ بني إسرائيلَ، فأبطلْتَ نعمتَكَ عليَّ بإسَاءتِكَ إليهم باستعبادِكَ إيَّاهم؟ وبأنْ أخَذْتَ أموالَهم وأنفقتَ على موسى منها؟ وكانت أُمِّي هي التي ترَبيني، فأيُّ نعمةٍ لكَ علَيَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَنْ عَبَّدتَّ ﴾ في موضِعها وجهان؛ أحدُهما: النصبُّ بنَزعِ الخافضِ، والثانِي: الرفعُ على البدلِ مِن (نِعْمَتِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي قالَ له فرعونُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِيْنَ؟ أي قالَ له فرعونُ: أيُّ شَيْءٍ رَبُّ العالَمين الذي تدعُونِي إليهِ.
﴿ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ﴾؛ بأنَّ المستحِقَّ للربوبيَّة مَن يكون هذه صفتهُ، وأنَّ هذه الأشياءَ التي ذكرتُ ليست مِن فِعْلِكم. فلما قالَ موسى ذلك تَحَيَّرَ فرعونُ ولَم يَرُدَّ جَواباً ينقضُ به هذا القولَ. ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ﴾؛ مقالةَ موسَى؟! وَ ﴿ قَالَ ﴾ موسَى: ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ بَيَّنَ أنَّ المستحقَّ للربوبية من هو ربُّ أهلِ كلِّ عصرٍ وزمان؛ أي الذي خَلَقَ آباءَكم الأوَّلين، وخلَقَكم من آبائِكم. فلم يَقْدِرْ فرعونُ على جوابهِ، فـ ﴿ قَالَ ﴾ فرعونُ لجلسائهِ: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾؛ أي ما هذا بكلامٍ صحيح إذ يزعمُ أن لَهُ إلَهاً غَيْرِي. فلم يَشْتَغِلْ موسَى بالجواب عن ما نَسَبَهُ إليه من الجنونِ، ولكن اشتغلَ بتأكيدِ الْحُجَّةِ والزِّيادةِ.
﴿ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ توحيدَ اللهِ، فإن كنتم ذوي عقولٍ لَمْ يَخْفَ عليكم ما أقولُ. فلم يُجِبْهُ فرعونُ بشيء ينقضُ حجَّته، بل هدَّدَهُ و ﴿ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ﴾؛ أي لأَحْبسَنَّكَ مع مَن حبستهُ في السِّجنِ. ظَنَّ بجهلهِ أن يخافَهُ ويتركَ عبادةَ الله ويتخِذ فرعونَ إلَهاً. وكان سجنُ فرعونَ أشدُّ من القتلِ؛ لأنه كان إذا حَبَسَ الرجلَ طَرَحَهُ في مكانٍ وحدَهُ لا يسمعُ فيه شيئاً، ولا يُبْصِرُ فيه شيئاً، وكان يُهْوَي به في الأرضِ. و ﴿ قَالَ ﴾ موسَى لفرعونَ حين توعَّدَهُ بالسِّجنِ: ﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ ﴾؛ يعنِي لو جِئْتُكَ بأمرٍ ظاهر تعرفُ فيه صِدْقِي وكَذِبَكَ. و ﴿ قَالَ ﴾؛ فرعونُ على وجهِ التهزِئَةِ ﴿ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾.
﴿ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴾ أي حَيَّةٌ صفراءُ، ذكَرٌ عظيمٌ أعظمُ ما يكون من الحيَّاتِ، قال فرعونُ: فَهَلْ غَيْرُ هَذِهِ! ﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ ﴾؛ مِن جيبهِ.
﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ ﴾؛ بيَاضاً نُورِيّاً لَها شعاعُ الشَّمسِ.
﴿ لِلنَّاظِرِينَ ﴾.
فإنْ قِيْلَ: كيف سَمَّى العصا ثُعباناً في هذه الآيةِ، وسَماها جَاناً في آيةٍ أُخرَى حيثُ قال﴿ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾[القصص: ٣١] والجانُّ الخفيفةُ؟ قُلْنَا: إنَّما سَمَّاها ثُعباناً لعِظَمِ حسِّها، وسَمَّاها جَانَاً لسُرعَةِ مِشْيَتِهِ وحركتهِ، وفي ذلك ما يدلُّ على عِظَمِ الآيةِ. فلم يكن لفرعونَ دفعٌ لِمَا شاهدَ إلاَّ أنْ قَالَ: هَذا " سِحْرٌ " سَحَرْتُمُوهُ، فأوهَمَ أصحابَهُ أنه لا صِحَّةَ لهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَكَانَ الْمَلأُ حَوْلَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أشْرَافِ قَوْمِهِ، عَلَيْهِمْ الأَسْوِرَةُ) فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ هَذا لَسَاحِرٌ حَاذِقٌ بالسِّحْرِ.
﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ ﴾؛ يُلقِي الفرقةَ والعداوة بينَكم فيُخرِجَكم من بلادكم.
﴿ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾؛ أي ماذا تُشِيرُونَ عَلَيَّ في أمرهِ، ولو تَفَكَّرَ هؤلاء الْجُهَّالُ في قولهِ ذلكَ لعَلِمُوا أنه ليس بإلهٍ لافتقارهِ إلى رأيهم، ولكنَّهم لفَرْطِ جهلِهم مَوَّهَ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾؛ أي قال له الملأُ: أخِّرْ أمرَهُ وأمرَ أخيهِ لا يُناظِرُهما إلى أن يبعثَ إلى المدائنِ الشُّرَطَ يحشرونَ السَّحرةَ، ليصنعَ السَّحرةُ مثلَ ما صنعَ موسى، ولا يثبتُ له عليكَ حجَّةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾؛ أي لِميعاد يومِ زِيْنَتِهِمْ وهو يومُ عيدِهم.
﴿ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ ﴾؛ اجتَمِعُوا لتَنْظُرُوا إلى السَّحرةِ.
﴿ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ ﴾؛ أي نتَّبعُ دِينَهم.
﴿ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ ﴾؛ لِمُوسَى، ويقالُ: أرادُوا بالسَّحرةِ موسى وهارون ﴿ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ ﴾ على سِحْرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً ﴾؛ أي جُعْلاً.
﴿ إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ ﴾؛ لِمُوسَى. ﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ ﴾؛ مع ما أعطَيتُكم من الأموالِ.
﴿ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾؛ في المرتبةِ والمنْزِلة وللدخُولِ عَلَيَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ ﴾؛ أي اطْرَحُوا من أيديكم ما تريدونَ طَرْحَهُ من الحبالِ والعصيِّ، وهذا أمرُ تَهديدٍ لا أمرُ تحقيقٍ.
﴿ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ ﴾؛ أي بمَنَعَتِهِ.
﴿ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ ﴾؛ لِمُوسَى، فامتلأَ الوادِي حيَّاتٍ، فهابَهُ ذلكَ، فقيلَ لِمُوسَى: ألقِ عصاكَ.
﴿ فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾؛ فألقَاها فصارَتْ حيَّةً عظيمةَ تَلْقَفُ ما صَنَعُوا من السِّحرِ، ثُم أخذها موسى فعادت عَصَا كما كانت، ولو لَم يوجد لِمَا تلقَفُهُ أثرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾؛ فسجدَتِ السَّحرةُ عندَ ذلك للهِ تعالى لِمَا عَلِمُوا أن ذلك ليس بسِحْرٍ، وإنَّما هو من عندِ الله، و ﴿ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ قال لَهم فرعونُ: إيَّايَ تَعْنُونَ؟ قالُوا: ﴿ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾؛ أي صدَّقتُم به قَبْلَ أنْ آمُرَكم بذلكَ.
﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، وكان فرعونُ أوَّلَ من قَطَعَ وَصَلبَ. قال ابنُ عبَّاس: (إنَّهُمْ مِنْ سُرْعَةِ سُجُودِهِمْ للهِ كَأَنَّهُمْ أُلْقُواْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴾؛ أي قالَتِ السَّحرةُ: لا يضُرُّنا ما تصنعُ بنا في الدُّنيا في جَنْب ثواب الله في الآخرةِ، إنَّا إذا رجَعْنا إلى ربنا مؤمنينَ لنأخذ حقَّنا من الظالِمِ.
﴿ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ ﴾؛ شِرْكَنَا أي يتجاوزُ تأخُّرَنا.
﴿ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي بأن كُنَّا أوَّلَ المؤمنينَ لِمُوسَى مِن أهلِ الجمع اليومَ، فكانوا سحرةً في أوَّل النهار شُهَدَاءَ في آخرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ﴾؛ أي بَبنِي إسرائيلَ لَيْلاً.
﴿ ۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ ﴾؛ وأخبرْهم أنَّ فرعونَ وقومه يتَّبعونَهم ويُنجِيهم اللهُ من ضرَرِهم، فأسْرَى بهم مُوسى ليلاً إلى البحرِ.
﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ﴾؛ يحشرونَ النَّاسَ ويجمعون لَهُ الناس الجيشَ، ثُم قال فرعونُ لقومهِ: ﴿ إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾؛ يعني مُوسَى وأصحابه، والشِّرْذِمَةُ: الْفِئَةُ الْقَلِيْلَةُ، والشِّرْذِمَةُ في كلام العرب: القليلُ مِن كلِّ شيءٍ من الناسِ والأموالِ. رُوي أنَّ هؤلاء الذين اشغَلَهم فرعونُ يومئذٍ ستُّمائةِ ألفٍ وسبعون ألفاً، وكان هَاَمَانُ على مقدِّمةِ فرعونَ ومعه ألْفَا ألفٍ، وفرعونُ في أكثرِ من خَمسة عشرَ ألفِ ألفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ ﴾؛ أي لفاَعِلُونَ ما يُغِيْظُنَا لإظهارِهم خلافَ دِيننا، وأخْذِهم حُبَلَنا وقَتْلِهم أبكارَنا. وذلك أنَّ اللهَ تعالى أوحَى إلى موسى أنِ اجْمَعْ أولادَ بنِي إسرائيلَ كلُّ أهلِ أربعةِ أبياتٍ في بيت، ثُم اذْبَحُوا الأولادَ واضْرِبُوا بدمائِها على أبوابكم، فإنِّي سَآمُرُ الملائكةَ لا يدخلون بَيتاً على بابهِ دَمٌ، وسَآمُرُهم بقتلِ أبكارِ آل فرعونَ، ثُم أسْرِ بِعبَادِي، ففعلَ ذلك، فلمَّا أصبَحُوا، قال فرعونُ: هذا عملُ موسَى وقومهِ، قَتَلُوا أبكارَنا وأخذُوا أموالَنا، فأخذ في طلبهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾؛ قرأ الكوفيُّون وابنُ عامر (حَاذِرُونَ) بالألفِ؛ أي شَاكُّونَ في السِّلاحِ، ذوُو أداةٍ وقوَّةٍ وكِرَاعٍ، وبَنُوا اسرائيلَ لا سلاحَ لَهم. وقرأ الباقون (حَذِرُونَ) أي مُسْقَطُونَ خائفونَ شرَّهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾؛ يعني فرعونَ وقومَهُ مِن بساتينَ وعُيونٍ جارية.
﴿ وَكُنُوزٍ ﴾؛ أي وخزائنَ مدَّخَرة من الذهب والفضَّةٍ.
﴿ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾؛ أي مجالسَ رفيعةٍ من مجالسِ الملوك والرؤساء.
﴿ كَذَلِكَ ﴾؛ فعلنا بهم.
﴿ وَأَوْرَثْنَاهَا ﴾؛ وأورثنا أرضَهم وديارَهم وأموالهم.
﴿ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾؛ وذلك أنَّ الله ردَّ بني إسرائيلَ إلى مِصْرَ بعدما أُغْرِقَ فرعونُ وقومه، وأعطاهم جميعَ ما كان لفرعونَ من الأموالِ والعَقَارِ والمساكنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴾؛ يعني قومَ فرعون أدرَكُوا موسى وقومه حين أشْرَقَتِ الشمسُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾؛ أي فلَمَّا تَوافى الفريقانِ، وتقابَلاَ بحيثُ يرى كلُّ فريقٍ صاحبه، وعايَنَ بعضُهم بعضاً، قال أصحابُ موسَى: سَيدْرِكُنَا قومُ فرعونَ، ولا طاقةَ لنا بهم! ﴿ قَالَ ﴾ لَهم موسى: ﴿ كَلاَّ ﴾؛ أي لن يُدْرِكْنَا، ارتَدِعُوا وانزَجِرُوا عن هذه المقالةِ.
﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي ﴾؛ نَاصِري وحَافِظِي.
﴿ سَيَهْدِينِ ﴾؛ إلى طريقِ النَّجاةِ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ ﴾؛ فصارَ اثنا عَشَرَ طريقاً، لكلِّ سِبْطٍ طريقٌ، ووقفَ الماءُ لا يجري، وكان بين كلِّ طريقين قطعةٌ من الماءِ.
﴿ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ ﴾؛ كالجبلِ العظيم، وهذا البحرُ بحرُ القَلْزَمِ، تسلكُ الناسُ فيه من اليمنِ ومكَّة إلى مصرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ ﴾؛ يعني قومَ فرعون؛ أي قرَّبناهم إلى الهلاكِ، وقذفْنَاهم في البحرِ، وأدْنَيْنَا بعضَهم من بعضٍ، وجمعنَاهُم فيه بما يسرُّنا لبنِي إسرائيل من سُلوكِ البحرِ، فكان ذلك سببُ قُرْبهِمْ من البحرِ حين اقتحموهُ. وسُمِّي (الْمُزْدَلِفَةُ) مزدلفةً لاجتماعِ الناس فيها، فلمَّا تكاملَ جنودُ فرعونَ في البحرِ انطبقَ عليهم فغَرقُوا جميعاً.
﴿ وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ﴾؛ مِن الغرقِ.
﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ ﴾؛ أي فرعونَ وقومه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾؛ أي إنَّ في ذلك الانْفِلاَقِ الذي صارَ نجاةَ بني اسرائيل، وفي الانطباق الذي كان سببَ غَرَقِ آلِ فرعونَ لآيةً على توحيدِ اللهِ وصدق نبوَّة موسى.
﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لَم يكن قومُ فرعونَ مع وُضُوحِ الأدلةِ على وحدانيَّة اللهِ مصدقين.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾؛ أي القاهرُ المنتقم من الكفَّار.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾، بعبادهِ، ولَم يكن آمَنَ مِن أهلِ مصر غيرُ آسْيَةَ بنت مُزاحم، وحِزقيل الْمُؤمِنُ، ومريَمُ بنتُ ناموثية التي دَلَّتْ على عظامِ يُوسُفَ، فلذلكَ قال ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
وَقِيْلَ: معنى قوله ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ أي العزيزُ في انتقامهِ من أعدائه حين أغرَقَهم، الرَّحِيْمُ بالمؤمنينَ حين أنْجَاهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ﴾؛ أي إقرَأ يا مُحَمَّدُ على قومِك.
﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾؛ أي فنُقِيمُ عليها عابدينَ، مُقيِمين على عبادتِها، قال بعضُ العلماءِ: إنَّمَا ﴿ فَنَظَلُّ لَهَا ﴾ لأنِّهم كانوا يعبدونَها بالنَّهارِ دون الليلِ.
﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾؛ أي هَلْ يسمعونَ دُعاءَكم إن دعَوتُموهم أو ينفَعُونكم إن دعَوتُموهم، أو يضرُّونَكم إن لَم تدعوهم. وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أوْ يَرْزُقُونَكُمْ أوْ يَكْشِفُونَ عَنْكُمُ الضُّرَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾؛ فنحنُ نَقْتَدِي بهم.
﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ ﴾؛ أي قال لَهم إبراهيمُ: أفَرَأيْتُمْ هذا الذي تعبدونَهُ أنتم وآباؤُكم الْمُتَقَدِّمُونَ.
﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي فإنَّنِي أُعادِيهم، أتبرَّأُ منهم. وقولهُ تعالى: ﴿ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾.
رُوي أنَّهم كانوا يعبدونَ اللهَ مع الأصنامِ، فَتَبَرَّأ إبراهيمُ مِن جميعِ ما يعبدونَهُ إلاّ من عبادةِ الله. وإنَّما قال ﴿ عَدُوٌّ لِيۤ ﴾ على التوحيدِ في موضع الجمعِ على معنى: أنَّ كلَّ واحدٍ منهم عَدُوٌّ لِي. ويقالُ: إنَّ قولَهُ تعالى ﴿ عَدُوٌّ ﴾ في موضعِ المصدر، كأنَّهُ قالَ ذوُو عداوةٍ، فوقعت الصفةُ موقعَ المصدرِ، كما يقعُ المصدرُ موقعَ الصفةِ في رَجُلٍ عَدْلٍ، ويجوزُ أن يكونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ استثناءٌ منقطعٌ، معناهُ: ولكنَّ ربَّ العالَمين الذي خَلَقَنِي ليس بعدُوٍّ لِي هو يهدينِ؛ أي يُرشِدنِي إلى الحقِّ، وذلك أنَّهم كانوا يزعمُونَ أن أصنامَهم هي التي تَهديهم، فقالَ إبراهيمُ ردّاً عليهم: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾؛ إلى الدِّين والرُّشدِ لا ما تعبدون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾؛ أي هو رَازِقي، فمِن عنده طَعَامِي فهو الذي يُشبعني إذا جِعْتُ، ويَرْوِيني إذا عطشتُ.
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾؛ أي يُعافِيني من المرضِ، وذلك أنَّهم كانوا يقولونَ: المرضُ من الزَّمانِ، والأغذيةُ والشِّفاء من الأطبَّاءِ والأدوِيةِ، فأخبَرَ إبراهيمُ أنَّ الذي أمْرَضَ هو الذي يُشْفِي وهو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ولَم يقُلْ إبراهيمُ فأَمْرَضْتَنِي؛ لأنه يقالُ مَرِضْتُ، وإنْ كان المرضُ بخَلْقِ الله وقضائهِ، ولا يقالُ أمْرَضَنِي اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾؛ أي هو الذي يُمِيتُني في الدُّنيا ثُم يُحييْنِي في الآخرةِ للبعثِ.
﴿ وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي ﴾؛ معناهُ: والذي أعلمُ وأرْجُو أن يغفرَ لِي يومَ الحساب. وذكرَهُ بلفظِ الطَّمعِ؛ لأن ذلكَ أقربُ إلى حُسْنِ الأدب. وقال بعضُ المفسِّرين: يَعْنِي الكذباتِ الثلاث، قولهُ: إنِّي سقيمٌ، وقولهُ: بَلْ فَعَلَهُ كبيرُهم هذا، وقولهُ لسارةَ: هي أُخْتِي. وزاد الحسنُ والكلبيُّ قولَهُ أيضاً للكواكب: هَذا رَبي. قال الزجَّاجُ: (إنَّ الأَنْبيَاءَ بَشَرٌ يَجُوزُ أنْ تَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطِيْئَةُ، إلاَّ أنَّهُمْ لاَ تَكُونُ مِنْهُمُ الْكَبيْرَةُ؛ لأنَّهُمْ مَعْصُومُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ ٱلدِّينِ ﴾؛ أي يومَ الجزاء والحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ﴾؛ يريدُ به النبوَّةَ بعد نُبُوَّةٍ، وإنَّما أرادَ: زِدْنِي عِلْماً إلى علمٍ وفِقْهاً إلى فقهٍ.
﴿ وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ أي بالنبيِّين مِن قَبْلِي في الدرجة والمنْزِلة والثواب. والصلاحُ هو الاستقامةُ على ما أمَرَ اللهُ بهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ ﴾؛ أرادَ به الثناءَ الحسَنَ؛ أي اجعَلْ لِي ثناءً حسناً في الدِّين يكونُ بعدي إلى يومِ القيامة. وقد استجابَ اللهُ دعاءَهُ حين أحبَّهُ أهلُ الأديان كلُّهم. وَقِيْلَ: واجعَلْ لِي في ذرِّيتي مَن يقومُ بالحقِّ ويدعو إليه، وهو مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ومَنِ اتَّبَعَهُ، فإنَّهم هم الذين أظْهَرُوا شرائعه وفضائلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ ﴾؛ أي أدخِلْنِي الجنَّةَ واجعلني مِن الذين يَرِثُونَ الفردوسَ.
﴿ وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾؛ أي مِن المشركين، وإنَّما دَعَا إبراهيمُ لأبيه لِمَوْعِدَةٍ وعَدَها إياهُ، فلما تَبَيَّنَ له أنه عدوُّ لله تَبَرَّأ منهُ، وكان هذا الدعاءُ قَبْلَ أن يَتَبَرَّأ منهُ. والضَّالُّ هو الذاهبُ عن طريقِ الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾؛ أي لا تَفْضَحْنِي ولا تُهْتِكْ سَتْرِي يومَ القيامةِ، يوم تبعثُ الخلقَ. وَقِيْلَ: معناهُ: ولا تعذِّبْني يومَ تبعثُ الخلائقَ، وإنَّما قال ذلكَ مع علمهِ أنه لا يخزيهِ، إمَّا على طريق التَّعَبُّدِ وإنا حَثّاً لغيرهِ على أن يقتدي بهِ في مِثْلِ هذا الدُّعاء. ثُم فَسَّرَ ذلكَ اليوم؛ فقال: ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾؛ أي لا ينفعُ ذا المالِ مالهُ الذي كان في الدُّنيا، ولا ينفعهُ بَنُوهُ ولا يواسُونَهُ بشيءٍ مِن طاعتِهم، ولا يحملونَ شيئاً من معاصيهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾؛ يعني من الشِّرْكِ والنفاقِ، فإنه ينفعهُ سلامةُ قلبهِ. وَقِيْلَ: القلبُ السَّليمُ هو الصحيحُ وهو قلبُ المؤمنِ، وقلبُ الكافرِ المنافقِ مريضٌ. وقال أهلُ الْمَعَانِي في تفسيرِ هذه الآياتِ أقوالاً غيرُ هذه، فقال بعضُهم: معنى﴿ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾[الشعراء: ٧٨] أي الذي خلَقَني في الدُّنيا على فطرتهِ فهو يهدينِ في الآخرة إلى جنَّتِهِ، وقولهُ تعالى﴿ وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾[الشعراء: ٧٩] أي يُطعِمُني أيَّ طعامٍ شاءَ، ويسقينِي أيَّ شرابٍ شاءَ. قال محمَّدُ بن كثير: (صَحِبْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ بمَكَّةَ، فَكَانَ يَأْكُلُ مِنَ السَّبْتِ إلَى السَّبْتِ كَفّاً مِنَ الرَّمْلِ). وعن الحجَّاج بن عبدِالكريم قالَ: (خَرَجْتُ مِنْ بَلَخَ فِي طَلَب إبْرَاهِيْمَ بْنَ أدْهَمٍ فَوَجَدْتُهُ بحِمْصَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَبثْتُ مَعَهُ يَوْمِي ذلِكَ، فَقَالَ: لَعَلَّ نَفْسَكَ تُنَازِعُكَ إلَى شَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَخَذ رَمَاداً وَتُرَاباً وَخَلَطَهُمَا وَأعْطَانِيَهُ فَأَكَلْتُهُ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيَّ وَأنْشَأَ يَقُولُ: اخْلِطِ التُّرَابَ بالرَّمَادِ وَكُلْهُ وَازْجُرِ النَّفْسَ عَنْ مَقَامِ السُّؤَالِوقال أبو بكرٍ الورَّاقُ: (مَعْنَى يُطْعِمُنِي بلاَ طَعَامٍ، وَيَسْقِينِي بلاَ َشَرَابٍ) يُشْبعُنِي رَبي وَيَرْوِيْنِي مِنْ غَيْرِ علاقة، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" إنِّي أبيْتُ يُطْعِمُنِي رَبي وَيَسْقِينِي "وقال عليُّ بن قادمٍ: (كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي نُعَيْمٍ لاَ يَأْكُلُ فِي شَهْرٍ إلاَّ مَرَّةً! فَبَلَغَ ذلِكَ الْحَجَّاجَ، فَدَعَاهُ فَأَدْخَلَهُ بَيْتاً وَأغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، ثُمَّ فَتَحَهُ، وَلَمْ يَشُكَّ أنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَوَجَدَهُ قَائِماً يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا فَاسِقُ أتُصَلِّي بغَيْرِ وُضُوءٍ؟! فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ؛ إنَّمَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَنْ يُخْرِجُ وَيَشْرَبُ، فَأَنَا عَلَى الطَّهَارَةِ الَّتِي أدْخَلْتَنِي عَلَيْهَا هَذا الْبَيْتَ)، وقال ذُو النُّونُ: (مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ﴾[الشعراء: ٧٩] أيْ يُطْعِمُنِي طَعَامَ الْمَعْرِفَةِ، وَيَسْقِيْنِي شَرَابَ الْمَحَبَّةِ. ثُمَّ أنْشَأَ يَقُولُ: شَرَابُ الْمَحَبَّةِ خَيْرُ شَرَاب وَكُلُّ شَرَابٍ سِوَاهُ سَرَابُوقال أبو يزيدٍ البُسطَامِيُّ: (إنَّ للهِ شَرَاباً يُقَالُ لَهُ شَرَابَ الْمَحَبَّةِ، إدَّخَرَهُ لأَفَاضِلِ عِبَادِهِ، فَإذا وَصَلُواْ اتَّصَلُواْ، فَهُمْ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيْكٍ مُقْتَدِرٍ). وقال الْجُنَيْدُ: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً إلاَّ مَنْ لَبسَ لِبَاسَ التَّقَوَى، وَجِيَاعاً إلاَّ مَنْ أكَلَ طَعَامَ الْمَعْرِفَةِ، وَعَطَاشَى إلاَّ مَنْ شَرِبَ شَرَابَ الْمَحَبَّةِ)، وقولهُ تعالى﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾[الشعراء: ٨٠] قال جعفرُ الصَّادِقُ: (إنِّي إذا مَرِضْتُ بالذُنُوب فَهُوَ يَشْفِيْنِي بالتَّوْبَةِ). وقال بسطامُ بن عبدِالله: (إذا أمْرَضَتْنِي مُقَاسَاةُ الْخَلْقِ شَفَانِي بذِكْرِهِ وَالأُنْسِ بهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ﴾[الشعراء: ٨١]، قال أهلُ المعرفةِ: يُمِيتُنِي بالعدلِ ويُحييني بالفضلِ، يُمِيتُني بالمعصيةِ ويُحييني بالطاعةِ، يُمِيتُني بالفراقِ ويُحييني بالتَّلاقِ، يُمِيتُني بالجهلِ ويُحييني بالعقلِ، يُمِيتُني بالخذلانِ ويُحييني بالتوفيقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي قَرُبَتْ وأدنيتُ لَهم حتى نَظَرُوا إليها.
﴿ وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴾؛ أي أُظْهِرَتْ وكُشِفَتْ للضَّالين عن الْهُدَى.
﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ﴾؛ للضَّالِّين في ذلكَ اليومِ على وجه التَّوبيخِ: ﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي أينَ آلِهتُكم التي تعبدونَها مِن دون اللهِ؟ هل يدفعونَ العذابَ عنكم.
﴿ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ ﴾؛ هل ﴿ يَنتَصِرُونَ ﴾؛ لأنفُسِهم؛ أي يدفعونَ عن أنفسِهم. ثُم يُؤْمَرُ بهم فيُلْقَوْنَ في النارِ، فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَٱلْغَاوُونَ ﴾؛ وقال الزجَّاجُ: (طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، وقال ابنُ قتيبةَ: (أُلْقُواْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ)، وقال مقاتلُ: (قُذِفُواْ فِيْهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ)، قال السديُّ: (يَعْنِي الآلِهَةَ وَالْمُشْرِكِيْنَ)، وقال عطاءُ: (هُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَجُنُودُ إبْلِيْسَ أجْمَعُونَ، يَعْنِي ذُرِّيَّةَ إبْلِيْسَ كُلَّهُمْ). وَقِيْلَ: معنى (كُبْكِبُوا): أُجْمِعُواْ وهم كُفَّارُ مكَّة، وكفارُ الجنِّ والإنسِ وآلِهتُهم وذريَّةُ إبليسَ حتى صَارُوا كُبَّةً واحدةً وطُرِحُوا في النارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴾؛ أي في النارِ مع آلِهتهم ورُؤسائِهم: ﴿ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ وقولهُ تعالى ﴿ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي تَاللهِ ما كُنَّا إلاّ فِي ضلالٍ مُبين حيثُ سوَّينَاكُمْ برَبِّ العالَمين، فأَعْظَمْنَاكُمْ وعَبَدْنَاكم وعَدَلْنَاكم به، يُقِرُّونَ على أنفسِهم بالخطأ.
﴿ وَمَآ أَضَلَّنَآ ﴾؛ عنِ الْهُدَى.
﴿ إِلاَّ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾؛ يعني الشَّياطينَ. وَقِيْلَ: أضَلُّونا الذين اقْتَدَيْنَا بهم.
﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴾؛ يشفعُ لنا مِن الملائكةِ والنبيِّين والمؤمنينَ حين يَشْفَعُونَ لأهلِ التوحيدِ.
﴿ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾؛ أي ولا ذِي قرابةٍ يهمُّهُ أمرُنا. والْحَمِيْمُ: القريبُ الذي تَوَدُّهُ وَيَوَدُّكَ. قال ابنُ عبَّاس: (إنَّ الْمُؤْمِنَ يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُؤْمِنِ الْمُذْنِب وَالصَّدِيْقِ الصَّاحِب الَّذِي يَصْدُقُ فِي الْمَوَدَّةِ). وفي الحديثِ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" إنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ: مَا فَعَلَ صَدِيْقِي فُلاَنٌ؟ وَصَدِيْقُهُ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أخْرِجُواْ لَهُ صَدِيْقَهُ إلَى الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ مَن بَقِيَ: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِيْنَ، وَلاَ صَدِيْقٍ حَمِيْمٍ ". ثُم قالوا: ﴿ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾؛ أي رَجْعَةً إلى الدُّنيا.
﴿ فَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ المصدِّقين بالتوحيدِ ليحِلَّ لنا الشفاعةَ كما حَلَّتْ لأهلِ التوحيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾؛ أي فيما أخبرَ من قصَّة إبراهيمَ واختصامِ أهل النَّار، وتَبَرُّؤُ بعضِهم من بعضٍ لَعِبْرَةٌ للعُقلاءِ مِن بعدِهم.
﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾؛ أي الغالبُ على تعجيلِ الانتقامِ بالإمهالِ إلى أن يُؤمِنوا، والْمُنْعِمُ عليهم بعدَ التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾؛ قال الزجَّاجُ: (دَخَلَتِ التَّاءُ هَا هُنَا، وَ(قَوْمُ) مُذكَّرٌ؛ لأنَّ الْمُرَادَ الْجَمَاعَةُ) أي كذبَتْ جماعةٌ قومُ نوحٍ ومَن قبلَهُ من الرُّسل.
﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾؛ عذابَ اللهِ بتوحيده وطاعتهِ، وكان أخوهُم من النَّسب لا من جهةِ الدِّين.
﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾؛ على الرِّسالةِ فيما بَينِي وبين ربكم. وَقِيْلَ: معناهُ: كنتُ أمِيناً فيكم قبلَ اليومِ، فكيفَ تتَّهمُونِي اليومَ.
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ فيما أمَرَكم به.
﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾؛ فيما أدعُوكم إليه وأطيعونِي فيما أمُرُكم به من الإيْمان والتوحيد. ﴿ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾؛ أي على الدُّعاء إلى التَّوحيدِ.
﴿ مِنْ أَجْرٍ ﴾؛ مَا.
﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ وَقِيْلَ: ما أسألُكم على تبليغِ الوحي والرِّسالةِ مَالاً فيصدُّكم عن القَبولِ منِّي، وتعتقدون فِيَّ الطمعَ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾؛ أي اتَّقُوا عقابَ اللهِ، وأطِيعُوا أمْرِي، وتكريرُ ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾: لأنَّ الأول (اتَّقُوا اللهَ وَأطِيْعُونِ) لأنِّي رسولُ رب العالَمين أمينٌ، والثانِي (اتَّقُواْ اللهَ وَأطِيْعُونِ) لأنِّي مَا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ. فـ ﴿ قَالُوۤاْ ﴾ له: ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ ﴾؛ أي أنُقِرُّ بكَ ونصدِّقُكَ وقد اتَّبَعَكَ سَفَلَتُنَا وهم الأرْذلُونَ الأقَلُّونَ، وكان قد آمَنَ بنوحٍ ضُعفاءُ قومهِ وبنُوهُ، وكان أكثرُ مَن اتَّبعَهُ يخصُّون بصناعاتٍ خَسِيسَةٍ مثل الْحُوَكِ والأسَاكِفَةِ، فلذلك قال لهُ أشرافُ قومهِ: ﴿ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ ﴾، ويقرأُ: (وَأتْبَاعُكَ الأَرْذلُونَ) وهي قراءةُ يعقوبَ؛ أي أشْيَاعُكَ وأهلُ دِينك. قال الزجَّاج: (وَالصِّنَاعَاتُ لاَ تَضُرُّ فِي بَاب الدِّيَانَاتِ)، وقال عطاءُ: (يَعْنُونَ بالأَرْذلُونَ: الْمَسَاكِيْنَ الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي قال نوحُ: ما أعلَمُ أعمالَهم وصنائِعَهم، ولَم أكَلَّفْ ذلكَ، وإنَّما كُلِّفْتُ أن أدعُوَهم، ولا أسألُ عمَّا كانوا يعملونَ، ولا أطلبُ عِلْمَ صنائعِهم، وإنَّما العيبُ في المعاصِي لا في خسَاسَةِ الصِّناعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾؛ أي ما حسَابُهم فيما يعملونَ ﴿ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾ لو تعلَمُون ما عاقبتموهم بصنائعِهم. وَقِيْلَ: إنَّهم نَسَبُوا قومَهُ الذين آمَنُوا به إلى النِّفاقِ وإضمارِ الكُفْرِ، فقالَ: ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي ﴾ أي ما جزاؤُهم إلاَّ على رَبي ﴿ لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لا أطْرُدُهُمْ مِن عندي مع إظهارِهم الإيْمانِ بسبب فَقْرِهم، وطعنِكُم عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾؛ أي ما أنَا إلاَّ معكم بموضِعِ المخافة لتحذرُوها، فمَن قَبلَ قَرَّبْتُهُ، ومَن رَدَّ باعدتهُ؛ ولَم أُكَلَّفْ عِلْمَ ما في الضمائرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ ﴾؛ أي لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عما تقولُ.
﴿ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ ﴾؛ الْمَقْتُولِيْنَ بالحجارةِ.
﴿ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي فاقضِ بيننا قضاءً يكون بنَجَاتِنا وهلاكِ عدُوِّنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ ﴾؛ في السَّفينةِ المملوءَةِ من الناسِ والبهائم والسِّباع والطيرِ، فذلك قوله تعالى: ﴿ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ ﴾؛ أي الذي قد مُلِئَ مما ذكرنا من جميعِ الحيوان، وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ ﴾؛ أي بعد نَجَاةِ نُوحٍ ومَن معه أغْرَقْنَا الآخرينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾؛ أي في إغْرَاقِ الكافرينَ ونَجَاةِ المؤمنين في السَّفينة لعلامةً تدلُّ على وحدانيَّة اللهِ وكمالِ قُدرتهِ.
﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم ﴾؛ أكثرُ قومِ نُوحٍ.
﴿ مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ مع قيامِ الْحُجَّةِ.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾؛ أي القادرُ على أخذِ الأعداء، الْمُنْتَقِمُ منهم.
﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾، بالأولياءِ، الْمُنْعِمُ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾؛ التأنيثُ بمعنى القبيلةِ، أريد بعَادٍ القبيلةُ، والمعنى: كذبَتْ عَادٌ هوداً وجَماعة المرسلينَ.
﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ﴾؛ في النَّسب: ﴿ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾؛ عبادةَ غيرِ الله.
﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾؛ أرسلنِي اللهُ إليكم وائتَمَنَنِي على الرِّسالةِ.
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾؛ على تَبليغِ الرِّسالة.
﴿ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾؛ الرَّيْعُ: هو المكانُ المرتفعُ. قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أتَبْنُونَ بكُلِّ شَرْفٍ)، وقال مقاتلُ والكلبي والضحَّاك: (أتَبْنُونَ بكُلِّ طَرِيْقٍ آيَةً؛ أيْ بُنْيَاناً وَعَلَماً مُتَمَيِّزاً عَنْ سَائِرِ الأَبْنِيَةِ، تَعْبَثُونَ بمَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيْقِ). والمعنى: بكلِّ طريقٍ، بالموضعِ المرتفع بُنياناً لتُشْرِفُوا على المارَّةِ فتَسْخَرُوا منهم، وتعبَثُوا بهم. وَقِيْلَ: معنى قولهِ (تَعْبَثُونَ) أي تَبْنُونَ ما تستغْنُون عنهُ ولا تسكنونَهُ عَبَثاً منكم، يسمَّى بناؤُهم عَبَثاً؛ لأنَّهم كانوا يُسْرِفُونَ في البناءِ، فيَبْنُونَ فوقَ الحاجة، ويقصُدون بذلك التفاخرَ والتكاثر، ومن ذلك سُمِّيَ كلُّ لَعِبٍ لا لذةَ فيه عَبَثاً، والذي يكونُ فيه لَذةٌ لَعِباً. وقال الوالبي عن ابنِ عبَّاس: (بكُلِّ رَيْعٍ؛ أيْ بكُلِّ شَرْفٍ)، وقال قتادةُ والضحَّاك: (بكُلِّ طَرِيْقٍ)، وعن مجاهد: (الرَّيْعُ: الثَّنْيَةُ الصَّغِيْرَةُ)، وَقِيْلَ: المنظرةُ، وقال عكرمة: (بكُلِّ وَادٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (هِيَ الأَبْنِيَةُ)، وقال مجاهدُ: (الْمَصَانِعُ قُصُورٌ مُشَيَّدةٌ)، وَقِيْلَ: هي الْحُصُونُ. وقال عبدُالرزاق: (الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بلُغَةِ الْيَمَنِ: الْقُصُورُ؛ وَاحِدَتُهَا مَصْنَعَةٌ). وقال الكلبيُّ: (هِيَ الْقُصُورُ وَالْحُصُونُ). وَقِيْلَ: هي الْمَبَانِي التي يصنَعُها الناس من البساتينِ وغيرها. وَقِيْلَ: هي مَجَامِعُ الماءِ وهي الْحِيَاضُ، وواحدُ المصانعِ مَصْنَعَةٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾؛ أي كأنَّكُم تَخْلُدُونَ؛ أي سَتَبْقُونَ في بناءِ المصانع، كأنَّهم يخلُدون فيها فلا يَموتُون. و(لَعَلَّ) تأتِي في الكلامِ بمعنى (كَأَنَّ) مِن قولهِ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ﴾[الشعراء: ٣] أي كأنَّكَ قاتلٌ نفسَكَ إن لَم يُؤْمِنُوا وَقِيْلَ: معناهُ: تتَّخِذُونَ ذلك رجاءَ أن تَخلُدوا وأنتم لا تَخلُدون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾؛ أي إذا بَطَشْتُمْ بمن دُونَكم بَطَشْتُمْ متكبرين ومتجَبرين، ضَرباً بالسَّوط وبالسَّيفِ، تقتلُونَ على الغَضْب. والمعنى: إذا عَاقَبْتُمْ قَتَلْتُمْ. والبَطْشُ: هو الأخْذُ بالشِّدَّةِ، والْجَبَّارُ: هو العَالِي بالقُدرةِ، يقالُ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إذا كانت مرتفعةً لا تنالُها الأيدي، وهي صِفَةُ مَدْحِ الله تعالى؛ لأن هذا المعنَى حقيقةٌ فيهِ، وهو صِفَةُ ذمٍّ لغيرهِ لأنه كَذِبٌ فيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾؛ أي اتَّقُوا عذابَ الله بإصرَارِكم على ما أنتُم عليه.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ﴾؛ مِن النِّعمة والخيرِ.
﴿ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾؛ فيه بيانُ بعضِ النِّعم، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾؛ أي إنِّي أعلمُ أنه سيَنْزِلُ بكم عذابٌ عظيمٌ إنْ لَم تؤمِنُوا، يريدُ به العذابَ الذي أُهْلِكُوا بهِ.
قولهُ تعالى: ﴿ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ ﴾؛ أي سواءٌ علَينا أوَعَظْتَنَا أم لَم تعِظْنا فلا نتركُ هذه العبادةَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أي ما هذا الذي تقولُ يا هودُ إلاَّ كَذِبُ الأوَّلين، وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ ومجاهد. والْخُلُقُ والاخْتِلاَقُ هو الكَذِبُ. ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ﴾[العنكبوت: ١٧].
قُرئ (خُلُقُ الأوَّلِيْنَ) بضمِّ الخاء واللام؛ أي عَادَةُ الأوَّلِيْنَ، والمعنى: ما هذا الذي نحنُ فيه إلاّ عادةُ الأوَّلين مِن قبلِنا يَعْبَثُونَ ما عاشُوا ثُم يَموتون ولا بَعْثَ ولا حسابَ.
﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾؛ على ما نفعلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾؛ بالعذاب في الدُّنيا.
﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ﴾؛ بالرِّيحِ. وقولهُ تعالى ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ أي كذبُوا هُوداً بعد وُضُوحِ الْحُجَّةِ فأهْلَكْنَاهُمْ برِيْحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾؛ أي إنَّ في إهلاكِنا إياهم مع شِدَّةِ قوَّتِهم لآيةً بأضْعَفِ الأشياءِ وهي الريحُ للدلالةِ على وحدانيَّتنا وصدقِ نبوَّةِ هُودٍ.
﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ باللهِ، فإنه لَم يُؤْمِنْ منهم إلاّ قليلٌ.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ ﴾؛ أي قالَ لَهم صَالِحُ: أتُتْرَكُونَ في الدُّنيا آمِنين من الموتِ والعذاب تأكلُونَ وتشربون وتَمتَّعون ولا تُكَلَّفُونَ. وقولهُ تعالى: ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾؛ أي أتَظُنُّونَ أنَّكم تُترَكُونَ في بساتين ومياهٍ ظَاهرة.
﴿ وَزُرُوعٍ ﴾، وحُرُوثٍ.
﴿ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ﴾؛ أي ثَمرها نَضِيْجٌ مُدرَكٌ نَاعِمٌ، والنَّضِيْجٌ: هو الرَّخوُ اللَّيِّنُ اللطيفُ البالِغُ.
﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ ﴾؛ أي تَنْقُبُونَ في الجبالِ ﴿ بُيُوتاً فَارِهِينَ ﴾؛ أي أشِرِيْنَ بَطِرِيْنَ. وقرأ ابنُ عامر والكوفيُّون: (فَارِهِيْنَ) بالألفِ أي حَاذِقِيْنَ بنَحْتِهَا، مأخوذٌ مِن قولِهم: فَرِهَ الرجلُ فَرَاهَةً فهو فَارِهٌ، ويقالُ: الفَرِهُ وَالْفَارِهُ بمعنى واحد. وَقِيْلَ: إنَّ الهاء من قولهِ (فَرِهِيْنَ) بدلٌ من إلْحَاقِ الفَرَحِ في كلامِ العرب: الأشَرُ والبَطَرُ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ ﴾[القصص: ٧٦].
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُطِيعُوۤاْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾؛ أي أمرَ رُؤسَائِكم وكُبَرَائِكم الذين يُفْرِطُونَ في الشِّرك والمعاصِي.
﴿ ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ قال مقاتلُ: (هُمُ التِّسْعَةُ الَّذِيْنَ عَقَرُواْ النَّاقَةَ، وَهُمُ الَّذِيْنَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ بالْمَعَاصِي) ﴿ وَلاَ يُصْلِحُونَ ﴾؛ أي ولا يُطيعون اللهَ فيما أمَرَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ * مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾؛ أي قالَ له قومهُ: إنَّما أنتَ مِمَّنْ سُحِرَ مرَّةً بعد مرةٍ، فلا نؤمنُ بكَ. ويقال: الْمُسَحَّرُ هو الْمُعَلَّلُ بالطعامِ والشَّراب، والسِّحْرُ مَجرَى الطعامِ، يقال: انتفخَ سِحْرُهُ؛ أي رئَتهُ والمعنى: لستَ بمَلَكٍ، إنَّما أنتَ بشرٌ مثلُنا لا تَفْضُلُنَا في شيءٍ، لستَ بملَكٍ ولا رسولٍ.
﴿ فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾؛ إنكَ رسولُ اللهِ إلينا. قال ابنُ عبَّاس: (سَأَلُوهُ أنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً حَمْرَاءَ عَشْرَاءَ مِنْ صَخْرَةٍ مَلْسَاءَ، فَتَضَعُ وَنَحْنُ نَنْظُرُ، وَتَرِدُ هَذا الْمَاءَ فَتَشْرَبُ. فَخَرَجَ بهِمْ إلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ الَّتِي ذكَرُوهَا، ثُمَّ دَعَا اللهَ تَعَالَى فَتَمَخَّضَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ كَمَا تَتَمَخَّضُ الْمَرْأةُ الْحَامِلُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، فَخَرَجَتْ مِنْهَا نَاقَةٌ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا لاَ نَظِيْرَ لَهَا فِي النُّوقِ، وَكَانَ يَسُدُّ جَنَبَاهَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مِنْ عِظَمِهَا). فـ ﴿ قَالَ ﴾ لَهم صالِحُ: ﴿ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾؛ أي اجْعَلُوا الشِّرْبَ بينها وبينَكم مُنَاوَبَةً، لَها نَوْبَةٌ يوم لا تحضُرون معها، ولكُم نوبةٌ يوم لا تحضرُ معَكُم. قال قتادة: (فَكَانَ يَوْمُ شِرْبهَا تَشْرَبُ مَاءَهُمْ كُلَّهُ أوَّلَ النَّهَارِ وَلاَ يَبْقَى لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ حَتَّى تَمْلأَ جَمِيْعَ آنِيَتِهِمْ، فَإذا كَانَ يَوْمَ شِرْبهم كَانَ الْمَاءُ لَهُمْ وَلِمَوَاشِيهِمْ لاَ تُزَاحِمُهُمُ النَّاقَةُ فِيْهِ). والشِّرْبُ في اللغة: هو النَّصِيْبُ مِن الماءِ، والشُّرْبُ بضمِّ الشين المصدرُ، والشَّرْبُ بفتح الشينِ جماعةُ الشَّرَاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ ﴾؛ أي تعقِرُوها ولا تؤذُوها، وذرُوها تأكلُ في أرضِ الله، فإنَّكم إنْ تَمسُّوها بسوءٍ.
﴿ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ ﴾؛ فعَقَرُوها واقتَسَمُوا لَحْمَهَا، فبلغَ ألْفاً وثَمانَمائةِ منْزِلٍ، ثُم أصبَحُوا نادمينَ على قَتْلِهَا.
﴿ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾؛ في اليومِ الثالث وهو يومُ السَّبت، صاحَ بهم جبريلُ فمَاتُوا أجمعينَ.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ أي في إخراجِ النَّاقة من الصَّخرةِ، وفي إهلاكِهم بعَقْرِهَا علامةً وعِبْرَةً لِمن بعدهم ولَم يكن أكثرُهم مؤمنينَ.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ إلى قوله تعالى ﴿ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ ﴾، ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾؛ معناه: أتَنْكِحُونَ الذُّكورَ حَرَاماً في أدبارِهم، وتتركون ما أحَلَّ اللهُ لكم من فروجِ نسائكم.
﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾؛ أي مُتَجَاوِزُونَ الحدَّ في الظُّلم والحرامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ ﴾؛ أي لَئِنْ لَم تَسْكُتْ يا لوطُ عن الإنكار علينا وتَقَبْيحْ أفعالِنا لنُخْرِجَنَّكَ من أرضِنا.
﴿ قَالَ ﴾؛ لوطُ: ﴿ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ ٱلْقَالِينَ ﴾؛ أي لَمِنَ الْمُبْغِضِيْنَ، والقالِي: هو البَاغِضُ للشَّيءِ التارِكُ له غايةَ الكَرَاهَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي خلِّصنِي وأهلِي من عقوبةِ أعمالِهم الخبيثة حتى لا نراهُم ولا نرَى أعمالَهم الخبيثةَ.
﴿ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴾؛ أي خلَّصنَاهُم من العذاب الذي وقعَ بهم، وقولهُ تعالى ﴿ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ أي نَجَّينَاهُ وبناتَهُ.
قولهُ تعالى: ﴿ إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ ﴾؛ يعني امرأتَهُ فإنَّها كانت مِن الغابرينَ؛ أي مِن الباقينَ في موضعِ العذاب فهلكَتْ معَهم، وكانت تدلُّ المشركينَ على أضيافهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ ﴾؛ أي أهلكنَاهُم بالَخَسْفِ والحصب، وهو أنَّ اللهَ تعالى خَسَفَ بقُرَاهُمْ، كما رُوي" أنَّ جِبْرِيْلَ رَفَعَهُمْ ببلاَدِهِمْ حَتَّى بَلَغَ بهِمْ إلَى السَّمَاءِ، فَقَلَبَهُمْ وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً ﴾؛ أي أمطَرْنا على ساكنهم ومُسافِرِيهم حجارةً.
﴿ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ ﴾؛ أي فبئْسَ مطرُ الذين أُنْذِرُوا فلم يُؤمِنوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ أي فِي إهلاكِنا إيَّاهم لدلالةً وعبرةً لِمن بعدَهم.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾؛ اختلَفُوا في الأَيْكَةِ، قال بعضُهم: هو اسمُ مَدْيَنَ، وقال بعضُهم: الأَيْكَةُ اسمٌ لِمدينة أُخرى غيرُ مَدْيَنَ، وكان شعيبُ مبعوثاً إلى كلِّ واحدةٍ من المدينَتين، غير أنَّهُ كان أخَا مَدْيَنَ، ولَم يكن أخَا الأَيْكَةِ، فلذلك لَم يقُلْ في هذه الآيةِ: إذْ قَالَ لَهُمْ أخُوهُمْ، وإنَّما قالَ: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ وَقِيْلَ: الأَيْكَةُ الغَيْطَةُ ذاتُ الشَّجر الكثيفِ، وجَمعُهُ إيْكٌ. وَقِيْلَ: الأَيْكُ: شجرُ الدَّومِ وهو الْمُقْلُ، وكان أكثرُ شجرِهم الدَّوم. وتقرأُ: لَيْكَةِ، بغير ألف وتفتح.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ * وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ﴾؛ أي أتِمُّوا الكيلَ إذا كِلْتُمْ، ولا تكونُوا مِن الذين يَبْخَسُونَ حقوقَ الناسِ في الكَيْلِ والوَزْنِ.
﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أي اتَّقُوا اللهَ الذي خلقَكم وخَلَقَ (الْجِبلَّةَ الأَوَّلِيْنَ) أي وخَلَقَ الْخَلْقَ الذين مِن قبلِكُم، والْجِبلَّةُ بكسر الجيم والباء وبضمهما: الْخَلْقُ الْكَثِيْرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ ﴾؛ أي من الْمُخَوَّفِيْنَ مِثلَنا مِمَّنْ لَهُ سِحْرٌ.
﴿ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾؛ وما أنتَ إلاّ آدَمِيٌّ مثلُنا.
﴿ وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾؛ فيما تقولُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾؛ أي جَانِباً من السَّماءِ.
﴿ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾؛ أنَّكَ مبعوثٌ إلينا، وأنَّ هذا العذابَ نازلٌ بنا، وهذا اذا قرأتَ (كِسْفاً) بإسكانِ السِّين، وأما إذا فتحتَها فهو جمعُ الْكِسْفَةِ وهي القطعةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ أي هو أعلمُ بعمَلِكم، وبما تستحقُّون مِن العذاب، وبوقتِ الاستحقاق، فيُنْزِلُ بكم العذابَ على ما توجِبُ الحكمةُ.
﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾؛ أي كذبُوا شُعيباً بعد ظهورِ الْحُجَّةِ.
﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ ﴾؛ انشأَ اللهُ سحابةً عليهم حتى أظلَّتْهُم في يومِ حرٍّ شديدٍ، فاجتمَعُوا تحتَها مُستَجِيرِينَ بها بما نالَهم من الحرِّ، فأطبقَتْ عليهم وأمطرَتْ عليهم ناراً فأهلَكَتْهم. قال المفسِّرون: وذلكَ أن اللهَ تعالى كان قد حَبَسَ عليهم الرِّيحَ سبعةَ أيَّامٍ، وسَلَّطَ عليهم الحرَّ حتى أخذ بأنفَاسِهم ولَم ينفعهم ظِلٌّ ولا ماءٌ، وكانوا يدخلون الاسراب ليَبْرَدُوا فيها، فإذا دخَلُوها وجدوها أشَدَّ حَرّاً من الظاهرِ، فدخَلُوا أجوافَ السِّرب، فدخَلَ عليهم الحرُّ وأخذ بأنفاسِهم، فخرَجُوا هاربينَ الى البَرِّيَّةِ، فبعثَ اللهُ عليهم سحابةً أظلَّتْهُم من الشَّمسِ فوجدُوا لَها بَرْداً ونَسِيماً، فنادَى بعضُهم بعضاً حتى اجتمَعُوا كلُّهم تحتَها، فأمطَرَتْ عليهم نَاراً فاحترَقُوا، فكان مِن أعظمِ يوم في الدُّنيا، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ﴾.
والظُّلَّةُ: هي السَّحَابةُ التي أظلَّتْهم. قال قتادةُ: (بَعَثَ اللهُ شُعَيْباً إلَى أُمَّتَيْنِ: أصْحَابُ الأَيْكَةِ وَأهْلُ مِدْيَنَ، فَأَمَّا أصْحَابُ الأَيْكَةِ فَأُهْلِكُواْ بالظُّلَّةِ، وَأمَّا أهْلُ مِدْيَنَ فَأُهْلِكُواْ بالصَّيْحَةِ، صَاحَ بهِمْ جِبْرِيْلُ فَهَلَكُواْ جَمِيْعاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي وإنَّ القُرْآنَ لإنْزَالُ ربِّ العَالَمِيْنَ.
﴿ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ ﴾؛ قرأ ابنُ كثير ونافعُ وأبو عمرٍو وحفص (نَزَلَ) بالتخفيف ورفع الحاء، يَعنُونَ نَزَلَ جبريلُ بالقُرْآنِ، وقرأ الباقون بالتشديدِ والنَّصب؛ أي نَزَّلَ اللهُ جبريلَ بالقُرْآنِ وهو أمِيْنٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلَىٰ قَلْبِكَ ﴾؛ أي نَزَلَ به فأودعَهُ قلبَكَ كي لا تنساهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ ﴾؛ أي مِن الْمُعْلِمِيْنَ بموضعِ الْمَخَافَةِ.
﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾؛ أي لِتُنْذِرَ العربَ بلُغَتِهم فيكونُ ذلك أقربَ إلى فَهْمِهم، وأقطعَ لعُذْرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ يعني أن ذِكْرَ القُرْآنِ مذكورٌ في كُتُب الأوَّلين، ولَم يُرِدْ به غيرَ القُرْآنِ؛ لأنه تعالى خصَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بإنْزَالِ القُرْآنِ عليه، فلو كان مَذكُوراً بعينهِ في الكُتُب لبَطَلَ التخصيصُ، ولكنَّهُ تعالى ذكرَ في الكُتُب المتقدِّمة أنه سيبعثُ نَبيّاً في آخرِ الزمان صِفَتُهُ كذا، وسيُنْزِلُ عليه كِتَاباً صفتهُ كذا كما قَالَ اللهُ تَعَالَى﴿ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ ﴾[الأعراف: ١٥٧]، وهذا معنى قولَهُ﴿ إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ﴾[الأعلى: ١٨-١٩] أي مذكورٌ في الصُّحف الأُولى أن الناسَ في الغالب يُؤثِرُونَ الدُّنيا على الآخرةِ، وأنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأبْقَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾؛ رُوِيَ أن سببَ نُزولِها أنَّ أهلَ مكَّة بَعثوا إلى أهلِ الكتَاب يَسْتَخْبرُونَهُمْ عن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعن ما يدَّعِي من الرِّسالةِ وصدقوهم في بَعْثِهِ وصفتهِ، فأخبَرَهم أهلُ الكتاب أنَّ ذِكْرَهُ عندَنا وأنه مبعوثٌ فَاتَّبعُوهُ. والمعنى: أوَلَمْ يكن لأهلِ مكَّةَ علامةٌ لنبوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أن يَعْلَمَهُ علماءُ بني إسرائيلَ مثلُ عبدِالله بن سلام وأصحابهِ. قال الزجَّاجُ فِي قِرَاءَةٍ قَرَأ (آيَةً) بالنَّصْب، فَقَوْلُهُ ﴿ أَن يَعْلَمَهُ ﴾ اسْمُ كَانَ، و(آيَةً) خَبَرُهُ. ومعناهُ: أوَلَمْ يكُن لَهم عِلْمُ علماءِ بني إسرائيل أنَّ مُحَمَّداً نَبيٌّ حَقٌّ، ودلالةُ نبوَّتهِ. قال عطيةُ: (كَانَ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيْلَ الَّذِيْنَ آمَنُواْ خَمْسَةً: عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ؛ وَابْنُ يَامِيْنَ؛ وَثَعْلَبَةُ؛ وَأسَدُ؛ وَأُسَيْدُ)، وقرأ ابنُ عامر: (أوَلَمْ تَكُنْ) بالتاء (آيَةٌ) رفعاً، قال الفراءُ: (جَعَلَ ﴿ آيَةٌ ﴾ بَعْدَ الاْسْمَ و ﴿ أَنْ يَعْلَمَهُ ﴾ خَبَرُ كَانَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ ﴾؛ أي لو نَزَّلْنَا القُرْآنَ على رُجِلٍ أعجمِيٍّ لا يفصحُ.
﴿ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم ﴾؛ بغيرِ لُغة العرب ما آمَنُوا بهِ، وقالوا: مَا نَفْقَهُ هَذا! فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ وفي هذا بيانُ معاندَتِهم. والأعْجَمُ والأَعْجَمِيُّ بمعنى واحدٍ؛ وهو الَّذي في لسانهِ عُجْمَةٌ، ومنه العَجْمَاءُ؛ وهي الدَّابةُ. فأما العَجَمِيُّ فهو منسوبٌ إلى العَجَمِ أفصَحَ أو لَم يُفْصِحْ. وعن ابنِ مسعود: أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ، فَأَشَارَ إلَى نَاقَتِهِ، فَقَالَ: (هَذِهِ مِنَ الأَعْجَمِيْنَ) كأنه ذهبَ إلى أنَّ معنَى الآيةِ: أنه لو أنْزَلْنَا القُرْآنَ على البهائمِ فأنطَقْنَاها بهِ، فقرأتْ عليهم ما آمَنُوا بهِ. ثُم ذكرَ اللهُ سببَ تركِهم الإيْمانَ فقال: ﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾، قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: سَلَكْنَا الشِّرْكَ وَالتَّكْذِيْبَ فِي قُلُوب الْمُجْرِمِيْنَ إذا قَرَأهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم). قال مقاتلُ: (يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ)، أخبرَ اللهُ تعالى أنه أدخلَ الشِّركَ في قلوبهم، فلم يُؤمِنُوا إلاَّ عندَ نزُولِ العذاب حتى لَم ينفَعْهُم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ ﴾؛ يعني عند الموتِ.
﴿ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ بهِ في الدُّنيا فيَتَمَنَّوا الرجعةَ والنَّظِرَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ﴾؛ فنُؤْمنُ ونصدِّقُ. فلمَّا أوعَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا: فَمَتَى العذابُ؟! تَكذِيباً لهُ، فقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ﴾؛ معناهُ أفرأيتَ يا مُحَمَّدُ إنْ أمهَلْنا كفارَ مكَّة سنينَ، يريدُ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الدُّنيا إلى أن تنقضِي، وَقِيْلَ: مدَّةَ أعمَارِهم.
﴿ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾؛ من العذاب.
﴿ مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ﴾؛ بهِ في تلك السِّنين. والمعنى: وإنْ طَالَ تَمتُّعُهم بنعيمِ الدُّنيا، فإذا أتَاهُم العذابُ لَم يُغْنِ طُولُ التمتُّعِ عنهم شيئاً، يكون كأنَّهم لَم يكونوا في نَعِيْمٍ قَطْ، وهذه موعظةٌ ما أبْلَغَهَا! يُحكى أنَّ عمرَ بن عبدالعزيز كان إذا قَعَدَ للقضاءِ كل يومٍ ابتدأ بهذه الآيةِ، فَوَعَظَ بها نفسَهُ، ثُم ذكرَ هذه الأبيات: تُسَرُّ بمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بالْمُنَى كَمَا اغَتَرَّ باللَّذاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُحَيَاتُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لاَزِمُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ﴾؛ أي ما أهلَكْنَا من قريةٍ بالعذاب في الدُّنيا إلاّ لَها رُسُلاً ينذرونَهم بالعذاب أنهُ نازلٌ بهم. والمعنى: إلاَّ لَهَا مُنذِرونَ قبلَ الْهَلاكِ، ونظيرهُ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾[الاسراء: ١٥].
قولهُ تعالى: ﴿ ذِكْرَىٰ ﴾؛ أي موعظةً وتَذكِيراً.
﴿ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾؛ فنُعذِّبَ من غيرِ ذنبٍ ونُعاقِبَ من غيرِ تذكيرٍ وإنذار. ويجوزُ أن يكون (ذِكْرَى) في موضعِ نصبٍ على معنَى: إلاَّ لَها مذكِّرُونَ ذِكْرَى، ويجوزُ أن يكونَ في موضعِ نصبٍ رُفع على معنَى: ذلكَ ذِكْرَى؛ أي ذلكَ موعظةً لَهم.
قولهُ تعالى: ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾؛ قالَ مقاتلُ: (قَالَتْ قُرَيْشُ: إنَّمَا يَجِيْءُ بالْقُرْآنِ الشَّيَاطِيْنُ، فَتُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ ﴾ أي بالقُرْآنِ ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ ﴾ أن يَنْزِلُوا بهِ ﴿ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ أي لا يقدِرُون على ذلكَ.
﴿ إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾؛ أي أنَّهم عن استماعِ القُرْآنِ لَمَحجُوبونَ؛ لأنَّهم يُرجَمون بالنُّجوم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرهُ، والمعنى: كلُّ مَن دعَا معَ اللهِ إلَهاً آخرَ كان معَ الْمُعذبين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ ﴾؛ أي رَهْطُكَ الأدنَين وهم بنُو هاشمٍ وبنو المطَّلِب خاصَّة. فلما نزلَتْ هذه الآيةُ" نَادَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " يَا آلَ غَالِبٍ؛ يَا آلَ لُؤَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ يَا آلَ مُرَّةَ؛ يَا آلَ كِلاَبٍ؛ يَا آلَ قُصَيٍّ؛ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ " فَأَتَوهُ وَقَالُواْ: مَا تُرِيْدُ؟! قَالَ: " أرَأيْتُمْ لَوْ حَدَّثْتُكُمْ أنَّ جَيْشاً ظَلَّكُمْ؛ أكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: " فَإنِّي نَذِيْرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيْدٍ، وَإنِّي لاَ أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إلاَّ أنْ تَقُولُواْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؛ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ؛ فَإنِّي لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِب؛ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا صَفِيَّةَ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً " ". وعن ابنِ عبَّاس قال: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ ﴾؛" صَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَقَال: " يَا صَبَاحَاهُ! " فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ؛ فَقَالُواْ: مَا لَكَ؟! قَالَ: " أرَأيْتُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ الْعَدُوَّ مُصْبحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ؛ أمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي؟ " قَالُواْ: بَلَى، قَالَ: " فَإنِّي نَذِيْرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيْدٍ ". قَالَ أبُو لَهَبٍ: تَبّاً لَكَ! ألِهَذا دَعَوْتَنَا جَمِيْعاً؟ "فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ ﴾[المسد: ١] إلى آخِرِها). ومعنى الآية: عَرِّفْ قرابتَكَ يا مُحَمَّدُ أنَّكَ لا تُغنِي عنهم من اللهِ شيئاً إنْ عَصَوْهُ. والفائدةُ في تخصيصِ الأقربينَ بالإنذارِ: أنَّهم كانوا أقربَ إليهِ، كما قالَ تعالى﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ ﴾[التوبة: ١٢٣] وكما أنَّ الأوْلَى بالإنسانِ في البرِّ والصِّلةِ أن يبدأ بالأقرب فالأقرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي أكْرِمْ مَنِ اتَّبعَكَ من المؤمنينَ وألِنْ لَهم القولَ، وأظْهِرْ لَهم الْمَحبَّةَ والكرامةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾؛ أي إنْ عصاكَ الأقربونَ مِن عشيرتِكَ؛ فقُلْ: إنِّي بريءٌ مِمَّا تعملونَ من الكُفْرِ وعبادةِ غير اللهِ.
﴿ وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ ﴾؛ أي فوِّضْ أمرَكَ إليه، وَثِقْ به فإنه العَزِيْزُ فِي نعمتهِ، الرَّحِيْمُ بهم حين لَم يُعَجِّلْ لَهم العقوبةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ ﴾؛ أي توكَّلْ على العَزِيزِ؛ أي الغالب القادر على أن يكفيكَ كَيْدَ أعدائِكَ، الرَّحِيْمِ بالمؤمنين خاصَّةً، فكيفَ لا تُفَوِّضُ أمرَكَ إليه وهو الذي يراكَ حين تقومُ إلى الصَّلاةِ، ويرى قِيَامَكَ وركوعَكَ وسجودكَ وتضرُّعَك في المصَلِّين مع الجماعةِ. والمعنى: أنه يراكَ إذا صلَّيتَ وحدكَ، ويراكَ إذا صَلَّيْتَ في الجماعةِ رَاكِعاً وسَاجِداً وقائماً.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ أي السَّمِيْعُ لقولِكَ، الْعَلِيْمُ بمَا في قَلْبكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّةَ: هل أخبرُكم على مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِيْنُ؟ وهو راجعٌ إلى قولهِ تعالى﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ ﴾[الشعراء: ٢١٠].
ثُم أخبَرَ فقالَ: ﴿ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾؛ أي على كلِّ كَذابٍ فَاجِرٍ. قال قتادةُ: (هُمُ الْكَهَنَةُ) مِثْلُ مُسَيْلَمَةَ وَغَيْرِهمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾؛ معناهُ: أنَّ الشياطينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمعَ من كلامِ الملائكةِ، ثُم يُضِيْفُونَ الكَذِبَ إلى ذلكَ، فيُلْقُونَهُ إلى الكَهَنَةِ، وقولهُ تعالى ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ يعنِي لأنَّهم يَخْلُطُونَ كَذِباً كثيراً، وهذا كان قَبْلَ الوَحْيِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبَعْدَ ذلكَ فمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ له شِهَاباً رَصَداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيْدُ شِعْرَ الْمُشْرِكِيْنَ). وذكرَ مقاتلُ أسْماءَهم فَقَالَ: (مِنْهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ الزَّبْعَرِى السَّهْمِيِّ، وَأبُو سُفْيَانَ بن الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، وَهُبَيْرَةُ بْنُ وَهَبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَشَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ الْجَمْحِيُّ، وَأبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِاللهِ، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُمَيَّةُ ابْنُ الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، تَكَلَّمُواْ بالْكَذِب وَالْبَاطِلِ، وَقَالُواْ: نَحْنُ نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ! وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمْ غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِمْ يَسْتَمِعُونَ أشْعَارَهُمْ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمْ حَتَّى يَهْجُونَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ). فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ ﴾ يعني الذينَ يَرْوُونَ هِجَاءَ المسلمينَ وسبَبَّ الصَّحابةِ. وقال قتادةُ ومجاهد: (الْغَاوُونَ هُمُ الشَّيَاطِيْنُ) كما قال تعالى حَاكِياً عنهم﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾[الصافات: ٣٢].
وَقِيْلَ: الغَاوُونَ كُفَّارُ الْجِنِّ وَالإنْسِ. وفِي الحديثِ:" لَئِنْ مُلِئ جَوْفُ أحَدِكُمْ صَدِيْداً حَتَّى يَصِيْر جَارِياً أحَبُّ إلَيَّ أنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً "وأراد به الشِّعرَ المذمومَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾؛ أي في كلِّ فَنٍّ من الكَذِب يتكلَّمُون، وفي كُلِّ لَغْوٍ يخوضُونَ، يَمْدَحُونَ بباطلٍ ويستمِعُون لباطلٍ، فالوَادِي مَثَلٌ لِفُنُونِ الكلامِ، وهَيَمَانُهُمْ فيهِ: قولُهم على الجميلِ بما يقولون مِن لَغْوٍ وباطلٍ وَغُلُوٍّ في مَدْحٍ أو ذمٍّ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ﴾؛ أي يقولُون فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا وَهُمْ كَذبَةٌ، ويَصِفُون أنفسِهم بما ليس فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾؛ استثناءُ الشُّعراء المسلمينَ حَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الذين مَدَحُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ لِحَسَّان: [أُهْجُهُمْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾؛ يعني أنَّهم كانوا يذكُرون اللهَ كثيراً في أشْعَارِهم، ويناضِلون عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بألسِنَتهم وأيدِيهم من بَعْدِ هجائِهم الكفارَ. والانتصارُ بالشِّعر جائزٌ في الشَّريعة بما يجوزُ ذِكْرُهُ فيها، لِمَا قالَ تعالى في آيةٍ أُخرى﴿ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾[النساء: ١٤٨].
ويُروَى:" أنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ، فَقَالَ: " إنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ لَكَأَنَّمَا يَنْضَحُونَهُمْ بالنَّبْلِ " "وقال صلى الله عليه وسلم" إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ ". وقالت عائشةُ: (الشِّعْرُ كَلاَمٌ، فَمِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبيْحٌ، فَخُذُواْ الْحَسَنَ وَدَعُواْ الْقَبيْحَ). وعن الشعبيِّ قال: (كَانَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عَلِيٌّ أشْعَرَ الثَّلاَثَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً ﴾ لَم يَشْغَلْهُمُ الشِّعْرُ عن ذِكْرِ اللهِ، ولَم يجعَلُوا الشِّعْرَ هَمَّهُمْ، وانتَصَرُوا من بعد ما ظلموا أي انتصروا من المشركين لأنهم بدأوا بالهجاء. ثُم أوعدَ شعراءَ المشركين فقال: ﴿ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾؛ أي سَيَعْلَمُ الَّذِيْنَ أشْرَكُواْ وَهَجَوُا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ، قال ابنُ عبَّاس: (إلَى جَهَنَّمَ يَخْلُدُونَ فِيْهَا). والمعنى: سيعلَمُون إلى أينَ مصيرُهم وهو نارُ جهنَّمَ، فعلى هذا يكونُ قولهُ ﴿ أَيَّ مُنقَلَبٍ ﴾ منصُوباً بدلاً من المصدرِ، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً بقولهِ (سَيَعْلَمُ) لأن ﴿ أَيَّ ﴾ لا يعملُ فيه ما قَبْلَهُ؛ لأنه مِن حروفِ الاستفهامِ، وموضعُ حروف الاستفهامِ صدرُ الكلامِ، فكان انتصابُ قولهِ ﴿ أَيَّ مُنقَلَبٍ ﴾ على معنى المصدرِ، أو بقولهِ ﴿ يَنقَلِبُونَ ﴾.
وعن أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بنُوحٍ وَكَذبَ بهِ، وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإبْرَاهِيْمَ وَلُوطٍ وَاسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَمُوسَى وَعِيْسَى، وَبعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ".