تفسير سورة الشعراء

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿طسم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ أي قاتلها حزناً وغماً
﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً﴾ أي إن نشأ إيمانهم قسراً: ننزل عليهم من السماء برهاناً وحجة، ومعجزة ظاهرة ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ أي فتظل رؤساؤهم ومقدموهم، أو جماعاتهم لها منقادين. وجاء في اللغة: العنق: بمعنى الرئيس، أو الجماعة
﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ﴾ قرآن ﴿مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾ جديد بالنسبة إليهم؛ قديم بالنسبة لمنزله تعالى:
آيات حق من الرحمن محدثة
قديمة صفة الموصوف بالقدم
﴿فَقَدْ كَذَّبُواْ﴾ بربهم وآياته ورسله ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ﴾ عواقب
﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ﴾ صنف من الثمار والأزهار، والمطعوم والمشموم ﴿كَرِيمٍ﴾ حسن نفيس
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنبات ﴿لآيَةً﴾ دالة على وحدانيته تعالى، وكمال قدرته
﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ من تكذيبهم لي ﴿وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي﴾ في محاجتهم. قيل: كانت به لثغة تمنعه من الانطلاق في الكلام ﴿فَأَرْسِلْ إِلَى﴾ أخي ﴿هَارُونَ﴾ أي اجعله معي رسولاً إلى فرعون وقومه
﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ﴾ هو قتله للقبطي (انظر آية ١٥ من سورة القصص)
﴿قَالَ﴾ تعالى ﴿كَلاَّ﴾ لا تخافا ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ﴾ بحججنا الدالة على صدقكما ووحدانيتنا ﴿قَالَ﴾ فرعون لموسى؛ حين قال له:
{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}
﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً﴾ أراد فرعون أن يذكر موسى بتفضله عليه بالتربية؛ ولم يعلم اللعين أن الله تعالى هو ربه ومربيه
﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ المراد بالفعلة: قتله القبطي ﴿وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ بتربيتي لك، ونعمتي عليك
﴿قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً﴾ أي حينئذٍ
-[٤٤٧]- ﴿وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي لم أكن بعثت، ولم تأتني الرسالة بعد
﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً﴾ أي علماً غزيراً؛ أستطيع بواسطته الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً
﴿وَتِلْكَ﴾ القالة التي تقولها؛ من أنك ربيتني وليداً، وأبقيتني بينكم سنين من عمري ﴿نِعْمَةٌ﴾ حقيقية ﴿تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ ولكن ما قيمتها بعد ﴿أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وأذللتهم؛ وفي ذلك إذلال لي أيضاً؛ لأن كرامة النوع الإنساني لا تتجزأ
﴿قَالَ﴾ موسى لفرعون ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ﴾ بمعجزة ظاهرة بينة
﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿فَأْتِ بِهِ﴾ أي بهذا الشيء المبين ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعواك
﴿فَأُلْقِيَ﴾ موسى ﴿عَصَاهُ﴾ التي كان ممسكاً بها في يده يتوكأ عليها ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ ضخم عظيم
﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾ أخرجها من جيبه ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ تسطع نوراً يغشى الأبصار؛ وليس بياضاً كبياض البرص
﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿لِلْمَلإِ﴾ الذين ﴿حَوْلَهُ﴾ من شيعته، المؤمنين بربوبيته ﴿إِنْ هَذَا﴾ يعني موسى عليه السلام
﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ أن أرجئهما وأخرهما ﴿وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ﴾ جامعين
﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ﴾ لوقت ﴿﴾ هو وقت الضحى من يوم الزينة
﴿إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾
لموسى
﴿قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً﴾ عندك
﴿قَالَ لَهُمْ مُّوسَى﴾ أي قال للسحرة ﴿أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ من السحر
﴿فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ فخيل إلى موسى أنها حيات تسعى ﴿وَقَالُواْ﴾ حينما ألقوا ما ألقوا ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَونَ﴾ مولانا وإلهنا
﴿تَلْقَفُ﴾ تبتلع ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ ما يزورون من تخييل الحبال والعصى أنها حيات. فلما رأى السحرة ما فعله موسى بسحرهم، وعلموا أن ما جاء به ليس بسحر؛ لأن السحر تبقى معداته وأدواته، ولا تمحى؛ وقد لقفت عصاه حبالهم وعصيهم، ولم يبق أثر لها
﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ على وجوههم ﴿سَاجِدِينَ﴾ لرب موسى وهارون؛ بعد أن كانوا يقولون ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ وأصبح من يستعين بهم فرعون: عوناً عليه، لا عوناً له؛ فأسقط في يد اللعين، وحل به الخزي والعار في عقر داره، وبين أهله وأنصاره. وحينئذٍ
﴿قَالَ﴾ مخاطباً سحرته ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ أي هل آمنتم لموسى ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ بالإيمان ﴿إِنَّهُ﴾ أي موسى ﴿لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ أراد أن يوهم قومه أن سحر موسى من جنس سحر السحرة؛ كيف لا: وقد أحال موسى عصاه حية؛ كما أحالوا حبالهم وعصيهم حيات. وفاته أن السحرة - وهم أدرى الناس وأعلمهم بالسحر - قد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر؛ وإنما هو من صنع فاطر الأرض والسموات
﴿قَالُواْ لاَ ضَيْرَ﴾ لا ضرر ﴿إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ راجعون إليه؛ فيجزينا على ما تفعل بنا خير الجزاء لقد آمن السحرة إيماناً صحيحاً يقينياً، ووثقوا بالبعث والحساب،
-[٤٤٨]- والثواب والعقاب؛ يدل على ذلك قولهم:
﴿إِنَّا نَطْمَعُ﴾ بإيماننا وإنابتنا ﴿أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ﴾ التي ارتكبناها حال كفرنا ﴿أَنْ﴾ أي بأن ﴿كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
من شيعتك
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ أي سر بهم ليلاً ﴿إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ﴾ سيتبعكم فرعون وجنوده؛ بقصد إهلاككم والقضاء عليكم
﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ﴾ التابعة له ﴿حَاشِرِينَ﴾ جامعين لقوات جيشه؛ قائلاً لهم
﴿إِنَّ هَؤُلاءِ﴾ يقصد موسى ومن آمن معه ﴿لَشِرْذِمَةٌ﴾ طائفة قليلة
﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ﴾ اعترف عدو الله بالخزي والذلة؛ وأن المؤمنين قليلون؛ غير أنهم له غائظون وسيرى يوم القيامة الذل الأكبر، والخزي الأعظم، والغيظ الأعم؛ حين يقدم قومه يوم القيامة؛ فيوردهم النار، وبئس الورد المورود
﴿حَاذِرُونَ﴾ متيقظون
﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ أنهار جارية؛ ظاهرة للعيان
﴿وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ المقصود بها أرض مصر؛ ولا يخفى ما اكتشف فيها حتى الآن من الكنوز الزاخرة التي خلفتها الفراعنة. والمراد بالمقام الكريم: الدور الرفيعة، والقصور المشيدة؛ التي كانوا يقيمون فيها، ويمرحون في جنباتها
﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي ملكنا بني إسرائيل مصر وما فيها من ﴿جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ بعد إغراق فرعون وقومه
﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ أي وقت شروق الشمس أو توجهوا جهة المشرق
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ أي رأى كل فريق منهما الآخر ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ أي سيدركنا حتماً فرعون وأصحابه، ويقضون علينا
﴿قَالَ﴾ موسى مطمئناً لوعد ربه بإنجائه ﴿كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ بعونه وإرشاده ﴿سَيَهْدِينِ﴾ إلى ما ينجيني. وحين وثق موسى بربه وتأكد من نصرته ومعونته: أمده الله تعالى بالقوى التي لا تقاوم، وبالنصر المؤزر الذي لا يدافع؛ وأوحى ربه إليه
﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ فضربه ﴿فَانفَلَقَ﴾ الماء عن الأرض اليابسة ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ﴾ كالجبل
﴿وَأَزْلَفْنَا﴾ قربنا ﴿ثُمَّ﴾ هناك ﴿الآخَرِينَ﴾ فرعون وقومه
﴿وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ﴾ بمرورهم على الأرض؛ بعد انحسار الماء عنها
﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾ لأنهم تبعوا موسى في الطريق الذي سار فيه؛ فأمر الله تعالى البحر فأطبق عليهم؛ فأغرقهم عن آخرهم
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنجاء والإهلاك ﴿لآيَةً﴾ لعبرة لمن يعتبر
﴿قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ أي على عبادتها مداومين
﴿فَإِنَّهُمْ﴾ أي الأصنام التي تعبدونها ﴿عَدُوٌّ لِي﴾ لا أعبدهم مثلكم، ولا أواليهم ﴿إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ فإني أعبده؛ لأنه خالقي ومالكي ورازقي؛ وهو السميع العليم. النافع الضار
﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ﴾ أرجو ﴿أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء؛
-[٤٤٩]- وهو يوم القيامة. واستغفار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم؛ أو هو لذنوب سلفت منهم قبل اختيارهم، واضطلاعهم بمهام الرسالة؛ وخطاياهم - إن صح أن لهم خطايا - لا تعدو الصغائر المعفو عنها؛ إذ أنهم عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الكبائر حتماً
﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً﴾ علماً يقيني الخطأ والزلل ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ بمن تقدمني من الأنبياء
﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ﴾ أي ثناء وذكراً حسناً ﴿فِي الآخِرِينَ﴾ فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل له ذكراً حسناً إلى يوم الدين: فلا يصلي مصلَ إلا إذا صلى عليه في صلاته، ولا يؤمن مؤمن إلا إذا آمن بنبوته واعترف بفضله، وأثنى عليه الثناء كله: اللهم صل على سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد
﴿وَلاَ تُخْزِنِي﴾ لا تفضحني ﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ فياعجباً: إبراهيم خليل الله تعالى ونبيه - بل قدوة أنبيائه - وصاحب الملة الحنيفية: يدعو ربه ويسأله ألا يفضحه يوم القيامة ونحن وحالنا كما لا يخفى: إيمان قاصر، وعمل فاجر، ورياء ونفاق، وخصومات وشقاق؛ ونظن أن لنا يوم البعث القدر الأعلى، والقدح المعلى فالجأ أيها المسكين إلى ربك بالدعاء واجأر إليه بالرجاء؛ عسى أن يكتبك في عداد الناجين، الفائزين، المقبولين
﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ من الشرك، والنفاق، والحقد «سليم» بالإيمان؛ لأن قلب الكافر والمنافق: مريض؛ لقوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ﴾ قربت، وهيئت، وأعدت
﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾ أظهرت ﴿لِلْغَاوِينَ﴾ الكافرين، الهالكين
﴿فَكُبْكِبُواْ فِيهَا﴾ طرح بعضهم على بعض في الجحيم ﴿هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾ أي كبكب الآلهة - وهي الأصنام - «والغاوون» وهم الكافرون
﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ﴾ وهم أتباعه، ومن أطاعه؛ من الجن والإنس
﴿تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿أَن كُنَّآ﴾ في الدنيا ﴿لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ ظاهر، بيِّن
﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ﴾ أيها الشياطين؛ في الطاعة والعبادة ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الذي ينفع ويضر، ويحيي ويميت
﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ أي لو أن لنا رجعة إلى الدنيا ﴿فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الناجين
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور؛ من مجادلة إبراهيم لأبيه وقومه، وذكر ما أعده الله تعالى للمؤمنين؛ من نعيم مقيم، وللكافرين من عذاب أليم؛ إن في ذكر ذلك جميعه ﴿لآيَةً﴾ عظة وعبرة
﴿قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ﴾ السفلة والرعاع
﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لست أعلم بما كانوا يعملون؛ وغاية علمي أنهم آمنوا وكفرتم، وصدقوا وكذبتم، وأطاعوا وعصيتم، واهتدوا وضللتم؛ وهذه هي ظواهرهم؛ وليس لي أن أطلع على سرائرهم
﴿أَنْ﴾ ما ﴿حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي﴾ فهو عالم السر وأخفى ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ لو تعلمون
﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ المقتولين بالحجارة
﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ﴾ أي احكم بيني وبينهم حكماً. وحكمه جل شأنه: عدل كله، وصواب كله فكأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه طلب إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ السفينة المملوءة
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾ عبر القرآن الكريم بصيغة الجمع «المرسلين» لأن مكذب الرسول الواحد: مكذب لسائر من تقدمه من الرسل
﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على التبليغ
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ كانوا يبنون بكل مكان مرتفع برجاً يجلسون فيه، ويسخرون بمن يمر بهم من المؤمنين
﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ﴾ قصوراً، أو حصوناً
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ﴾ بضرب أو قتل ﴿بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ من غير رأفة ولا رحمة
﴿وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ أنعم عليكم بالنعم الظاهرة؛ التي تحسونها وتعلمونها؛ وفسرها تعالى بقوله:
﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ﴾ تركبون عليها؛ وتأكلون من لحومها، وتشربون من ألبانها، وتكتسون من أوبارها وأشعارها ﴿وَبَنِينَ﴾ أي وأمدكم ببنين يعاونونكم، وتقر بهم أعينكم
﴿وَجَنَّاتٍ﴾ بساتين؛ تمرحون فيها، وتنعمون بفاكهتها ﴿وَعُيُونٍ﴾ أنهار جارية؛ تراها العين
﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن بقيتم على حالكم من الكفر، والظلم، والبطش ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ في الدنيا بالاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب الأليم المقيم
﴿قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ﴾ فإنا لا نتبعك، ولا نستمع لوعظك
﴿إِنْ هَذَا﴾ ما هذا الذي نحن فيه ﴿إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ﴾ عادة الأولين وطبعهم ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ﴾
﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ أو المعنى: ما هذا الذي تقوله، وتأمرنا به؛ إلا أكاذيب الأولين واختلاقهم؛ يؤيده قراءة من قرأ «خلق الأولين»
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي فأصروا على تكذيبه ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾ بالريح؛ قال تعالى ﴿وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإهلاك ﴿لآيَةً﴾ عظة وعبرة ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ فكانوا من الهالكين؛ ولم يؤمن بهود إلا قليل؛ أنجاهم الله معه
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ لأن تكذيبهم لرسولهم صالح: تكذيب لمن سبقه من المرسلين
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ﴾ الله، وتخشون بأسه؛ فتؤمنون به
﴿وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على التبليغ
﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ﴾ أي في الدنيا، وفيما أنتم فيه ﴿آمِنِينَ﴾ من السوء والعذاب؟ وقد كانوا معمرين؛ يدل عليه قوله تعالى ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾
﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ بساتين ﴿وَعُيُونٍ﴾ أنهار
﴿وَزُرُوعٍ﴾ وهو كل ما يزرع ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا﴾ ثمرها ﴿هَضِيمٌ﴾ لين؛ كالرطب، أو هش نضيج
﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ﴾ نشطين حاذقين؛ ومن قرأ «فرهين» أراد بطرين متكبرين
﴿وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾ الكافرين
﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ بالمعاصي
﴿قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ الذين غلب على عقلهم السحر؛ والمراد به: نسبته عليه السلام إلى الجنون
﴿فَأْتِ بِآيَةٍ﴾ معجزة تدل على صدقك
﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ﴾ نصيب من الماء للشرب
﴿فَعَقَرُوهَا﴾ ذبحوها. عقرها واحد منهم؛ ونسب العقر لجميعهم: لأنهم رضوا عن فعله؛ فكان جزاؤهم كجزائه
﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ﴾ بالرجفة، أو الصيحة؛ التي طغت عليهم؛ فأهلكوا جميعاً. قال تعالى ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ﴾
﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ﴾ اللواط
﴿وَتَذَرُونَ﴾ تتركون ﴿عَادُونَ﴾ معتدون؛ بانتهاككم حرمات الله تعالى، وإتيانكم ما لا يحل
هذا وحكم اللواط: كحكم الزنا؛ ألا ترى أن الله تعالى وصف اللائطين هنا بالعدوان «بل أنتم قوم عادون» ووصف الزانين بقوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ فوجب أن يقام الحد على اللائط؛ كما يقام على الزاني. وذهب قوم إلى وجوب إلقائه من حالق (انظر آية ٧ من سورة المؤمنون)
﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ المطرودين
﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ﴾ لفسقكم ﴿مِّنَ الْقَالِينَ﴾ المبغضين
﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ﴾ الباقين في العذاب؛ وهي امرأته: أهلكها الله تعالى فيمن أهلك
﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا﴾ أهلكنا
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً﴾ أمطرهم الله تعالى حجارة. قيل: إن جبريل عليه الصلاة والسلام خسف الأرض بقرية قوم لوط، وجعل عاليها سافلها، وأمطر من كان منهم خارج القرية بالحجارة
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب الذي لا يغلب؛ المنتقم من أعدائه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بعباده وأوليائه؛ فلا يحملهم ما لا طاقة لهم به؛ ولا يؤاخذهم بذنوب غيرهم
﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾ هم قوم شعيب عليه السلام؛ و «الأيكة»: الغيضة؛ وهي مجتمع الشجر
﴿وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾ الذين ينقصون الناس حقوقهم، أو الذين خسروا أنفسهم وآخرتهم
﴿وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ﴾ الميزان
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ﴾ لا تنقصوا ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾ العثى: أشد الفساد الخليقة
﴿قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ الذين اختلط عقلهم، وغلب عليهم السحر
﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً﴾ قطعاً ﴿مِّنَ السَّمَآءِ﴾ وهذا كقولهم ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ هي سحابة أظلتهم؛ بعد أن عذبوا بالحر الشديد سبعة أيام؛ فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها، طامعين في بردها ومائها؛ فأمطرتهم ناراً: فاحترقوا عن آخرهم. قيل: كان لمدين ستة ملوك؛ يسمون: أبجد، هوز، حطى، كلمن، سعفص، قرشت؛ وقد وضعت العرب الكتابة العربية على عدد حروفهم؛ بعد زيادة ستة أحرف؛ جمعوها في ثخذ، ضظغ. وكان رئيسهم: كلمن. هلكوا جميعاً - فيمن هلك - يوم الظلة؛ وقد رثت ابنة كلمن أباها بقولها:
كلمن هدم ركني
هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه الـ
ـحتف ناراً وسط ظله
جعلت ناراً عليهم
دارهم كالمضمحلة
﴿وَإِنَّهُ﴾ أي القرآن الذي يكذبون به ﴿لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ العالمين: جمع العالم، والعالم: الخلق كله؛ من إنس وجن، وطير ووحش
﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ﴾ جبريل عليه السلام: أمين وحي الله
﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ كتبهم. أي إن القرآن ثابت مذكور في الكتب السماوية المتقدمة
﴿أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ﴾ علامة على صدقك
-[٤٥٥]- ﴿أَن يَعْلَمَهُ﴾ يعلم هذا القرآن، ويعلم أنه منزل من لدن ربك ﴿عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الذين آمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام: كعبد اللهبن سلام، وكعب الأحبار، وأضرابهما؛ وقد صاروا من علماء المسلمين. وقد قال قائل: ما من أمة إلا وعلماؤها شرارها؛ إلا هذه الأمة المحمدية: فإن علماءها خيارها
فلينظر علماء الأمة الإسلامية اليوم إلى هذا القول، وليدبروه، وليجتهدوا أن يكونوا مصداقاً له. قال الصادق المصدوق؛ عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: «يؤتى بالرجل يوم القيامة؛ فيلقى في النار؛ فتندلق أقتاب بطنه؛ فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى. فيجتمع إليه أهل النار؛ فيقولون: يا فلان، مالك ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى؛ قد كنت آمر بالمعروف، ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» وفي رواية: «أول أهل النار دخولاً: عالم يلقى في النار... الحديث»
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ﴾ جمع أعجم؛ وهو الحيوان؛ لأنه لا ينطق. وقيل: هو جمع أعجمي. وهو الذي لا يفصح وإن كان عربياً. وقرأ الحسن «الأعجميين» جمع أعجمي؛ وهو الذي لا ينطق العربية
﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ﴾ أي القرآن: أدخلناه ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين: سلكناه في قلوبهم؛ بحيث يعقلونه - إذا أرادوا - أليس يعقل كل ما فيه؟ ويتفهمونه - إذا رغبوا - أليس معلوماً، وواضحاً مفهوماً؟ وذلك لأن تكذيبهم به - بعد دخوله في قلوبهم - أعظم كفراً، وأشد وزراً؛ من تكذيبهم لشيء لم يعلموه، ولم يفهموه، ولم يطرق لهم قلباً، أو يقرع لهم لباً؛ فإن المكذب بالحق بعد معرفته له: شر من المكذب لما لا يفقه، ولا يعرف. وقد سلكه الله تعالى في قلوبهم: إلزاماً لهم، وحجة عليهم لكنهم استكبروا استكباراً، وأصروا على كفرهم إصراراً: فلم يؤمنوا بما سلكه الله تعالى في قلوبهم، ويسره على أفهامهم. ونظيره قوله تعالى:
﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ وقوله جل شأنه؛ خطاباً للكفار «سيريكم آياته فتعرفونها» وقوله عز سلطانه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ وقول الحكيم المتعال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾
﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ﴾ بأعينهم ﴿الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ الذي وعدوا به في الدنيا، أو يوم القيامة؛ فحينئذٍ يعلمون أنه الحق من ربهم؛ حيث لا يجدي إيمانهم، ولا تنفع توبتهم
وقد ذهب جل المفسرين - إن لم يكن كلهم - إلى أن المقصود بذلك: أن الله تعالى يسلك التكذيب
-[٤٥٦]- في قلوب الكافرين؛ ليمنعهم من الإيمان. وهو قول بادي البطلان، ظاهر الخسران؛ يتنافى مع العدل المطلوب من بني الإنسان؛ فما ظنك بالرحيم الرحمن أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين
هذا ويؤيد ما ذهبنا إليه - وخالفنا المفسرين فيه - قوله جل شأنه في ختام هذا القول: ﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ إذ كيف يرسل تعالى المنذرين؛ وقد سلك تكذيبهم في قلوب الكافرين؟ وكيف ينفي الظلم عن نفسه؛ وما زعمه المفسرون هو الظلم المبين
وكيف يتفق قول المفسرين؛ وقول العزيز الحميد، في كتابه المجيد «ولا يرضى لعباده الكفر» وكيف لا يرضاه؛ وقد سلكه في قلوبهم، وأجراه في دمائهم؟ وكيف يحول المولى سبحانه وتعالى بينهم وبين الإيمان؛ وهو جل شأنه القائل: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى﴾؟ وكيف يؤمنون، أو يهتدون؛ وقد حال بينهم وبين الإيمان والاهتداء؟ ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾.
ونحن إذا ما وافقنا المفسرين فيما ذهبوا إليه: احتجنا إلى تعليل قولهم تعليلاً مقبولاً؛ بأن نقول: إن سلوك التكذيب في قلوبهم: كان نتيجة لإصرارهم على الكفر، وتعاميهم عن الحق؛ رغم وضوح آيات الله تعالى، وتواتر معجزاته، وصدق رسالاته وقد وصف الله تكذيبهم بأشنع ما يوصف به المكذبون - من جهل وعناد واستكبار - فقد بلغ تكذيبهم: أن لو قرأ القرآن عليهم من لا يدريه ولا يفهمه؛ بل ومن ليس في عداد الآدميين؛ من الأعجميين ﴿مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ فكان سلوك التكذيب في قلوبهم: عقوبة لهم على عنادهم؛ كقوله تعالى ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فكانت الإزاغة عقوبة على الزيغ. وقوله جل شأنه: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ فكان الظلم والفسق سابقان للإضلال وبغير الذي قلنا لا يستقيم المعنى الذي أرادهالله، ولا تتوافر القدسية الواجبة في حقه تعالى فليتأمل هذا، وليعتبر به من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر الآيات ٣٣ من سورة الرعد و٨ من سورة فاطر وصلى الله عليه وسلّم٨ من سورة الحج)
﴿فَيَأْتِيَهُم﴾ العذاب ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة
﴿مُنظَرُونَ﴾ مؤجلون
﴿مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ به من العذاب
﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ﴾ أي بالقرآن
﴿وَأَنذِرْ﴾ خوف يا محمد ﴿عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ قومك وآلك؛ لينذروا من حولهم؛ فيكثر المسلمون، وتعم الدعوة الإسلامية. قال تعالى: ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ أي ومن بلغه القرآن: ينذر به أيضاً
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ ألن جانبك وتواضع
﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ أي ويرى تعالى تقلبك في الصلاة مع المصلين
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ أي تتنزل بالوسوسة والإغواء والإفساد
﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ كذاب، مرتكب للإثم. والمقصود: رؤساء الكفار والذين يزعمون معرفة الغيب
﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ أي أن الشياطين تتسمع إلى الملإ الأعلى ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ يقولون لأوليائهم ما لا يسمعون. وأولياؤهم: هم ﴿كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ يزيدون على إفك الشياطين إفكاً، ويزدادون على إثمهم إثماً
﴿وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ ليس المراد بالشعراء هنا: كل الشعراء. بل أريد الغاوون منهم، والضالون: الذين يلوكون بألسنتهم أعراض الناس، ويتشدقون بالإثم والفجور، ويروجون للفسق والخمور أما من ارتقى منهم بشعره عن درك الفساد والإفساد؛ فقد يكون من أئمة الأتقياء، وخلاصة الفضلاء الأصفياء وناهيك بأن منهم الإمام البوصيري، وحسانبن ثابت: شاعر النبي والإمام ابن الفارض، والبرعي؛ وغيرهم ممن وقفوا قرائحهم وأشعارهم على ذكر الرحمن الرحيم، ومدح رسوله العظيم، ووصف كتابه الكريم وهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله:
﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ أي وانتصروا لأنفسهم، أو لإخوانهم، أو لدينهم؛ من بعد ما ظلمهم الغير. ونظيره قوله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾.
457
سورة النمل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

457
Icon