تفسير سورة سورة النبأ من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة النبأ مكية
وهي أربعون آية وفيها ركوعان
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ عم ﴾، حرف جر دخل على ما الاستفهامية، وحذف الألف في كثرة الاستعمال
﴿ يتساءلون ﴾، كان أهل مكة يتساءلون فيما بينهم عن القيامة استهزاء، ومعنى هذا الاستفهام التفخيم والتعظيم،
﴿ عن النبإ العظيم ﴾، بيان للشأن المفخم، أو صلة يتساءلون، و " عم " متعلق بفعل يفسره ما بعد، وقراءة " عمه " دالة عليه، والنبأ : القيامة، وعن بعض : القرآن،
﴿ الذي هم فيه يختلفون ﴾ : بالإنكار والشك، أو ضمير يتساءلون لجنس الناس، ويكون الاختلاف بالإقرار، والإنكار،
﴿ كلا ﴾، ردع عن هذا التساؤل، والاختلاف، ﴿ سيعلمون ﴾
﴿ ثم كلا سيعلمون ﴾، تكرير للمبالغة، و " ثم " للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد،
﴿ ألم نجعل الأرض مهادا ﴾ : فراشا،
﴿ والجبال أوتادا ﴾ : للأرض حتى لا يتحرك يعني : ومن قدر على مثل هذا كيف لا يقدر على البعث ؟ !
﴿ خلقناكم أزواجا ﴾ : أصنافا ذكرا وأنثى،
﴿ وجعلنا نومكم سباتا ﴾ : قطعا عن الحس، والحركة استراحة للبدن أو موتا، فإن النوم أخو الموت،
﴿ وجعلنا الليل لباسا ﴾ : غطاء يستركم عن العيون،
﴿ وجعلنا النهار معاشا ﴾ : وقت معاش تحصلون فيه ما تعيشون به،
﴿ وبنينا فوقكم سبعا ﴾ : سبع سماوات، ﴿ شدادا ﴾ : محكمات،
﴿ وجعلنا سراجا ﴾ أي : الشمس، ﴿ وهاجا ﴾ : متلألئا حارا،
﴿ وأنزلنا من المعصرات ﴾، هي السحائب، التي شارفت أن تعصرها الرياح، كأعصرت الجارية، إذا دنت أن تحيض، أو الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، فهمزة أعصرت للحينونة، والرياح كالمبدأ الفاعلي للمبدأ ؛ لأنها تنشئ السحاب فجاز أنه منه، أو هي السماوات، فإن الماء ينزل من السماء إلى السحاب كما صح عن ابن عباس، وغيره، فالسماوات يحملن السحاب على العصر، فالهمزة للتعدية، ﴿ ماء ثجاحا ﴾ : منصبا لكثرته،
﴿ لنخرج به حبا ﴾ : من الحنطة، والشعير، ﴿ ونباتا ﴾ : خضرا مما يأكل الناس، والأنعام،
﴿ وجنات ألفافا ﴾ : ملتفة بعضها ببعض، جمع لف بكسر اللام، أو بضمها جمع لفاء، فيكون جمع الجمع، أو جمع ملتفة بحذف الزوائد،
﴿ إن يوم الفصل كان ﴾ : في علم الله، ﴿ ميقاتا ﴾ : وقتا محدودا انتهى الدنيا عنده، أو تنتهي الخلائق إليه،
﴿ يوم ينفخ في الصور ﴾، بدل أو عطف بيان، ﴿ فتأتون أفواجا ﴾ : زمرا وجماعات،
﴿ وفتحت السماء ﴾ : شقت، ﴿ فكانت ﴾ : فصارت، ﴿ أبوابا ﴾ ذات أبواب، أو من كثرة الشقوق كان الكل أبواب،
﴿ وسيرت الجبال ﴾ : في الهواء كالهباء، ﴿ فكانت سرابا ﴾ : كسراب، فإنها كانت شيئا فالآن لا شيء،
﴿ إن جهنم كانت مرصادا ﴾، هو الحد الذي فيه الحراس، أي : موضع يرصد الكفار فيه، أو طريقا وممرا إلى الجنة،
﴿ للطاغين مآبا ﴾ : مرجعا،
﴿ لابثين فيها أحقابا ﴾ : حقبا بعد حقب إلى ما لا يتناهى، وعن علي : كل حقب ثمانون سنة، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون،
﴿ لا يذوقون فيها بردا ﴾ : روحا ينفس عنهم حر النار، أو نوما، ﴿ ولا شرابا ﴾ : يسكن من عطشهم،
﴿ إلا حميما ﴾ أي : لكن يذوقون فيها ماء في غاية الحرارة، ﴿ وغساقا ﴾ : ماء يسيل من جلود أهل النار، وعيونهم، أو الزمهرير، ويحتمل أو قوله :" لا يذوقون " حال من ضمير " : لابثين "، أو صفة " أحقابا " على أن ضمير فيها للأحقاب، وحاصله : لابثين فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما، وغساقا، وبعد ذلك يبذلون جنسا آخر من العذاب،
﴿ جزاء وفاقا ﴾ أي : جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقا لها،
﴿ إنهم كانوا لا يرجون ﴾ : لا يخافون، ﴿ حسابا ﴾ : ولا يؤمنون بيوم الدين،
﴿ وكذبوا بآياتنا كذابا ﴾ : تكذيبا، وفعال بمعنى تفعيل شائع مطرد،
﴿ وكل شيء أحصيناه كتابا ﴾ : في الإحصاء، والكتابة معنى الضبط، والتحصيل، فيكون كتابا مفعولا مطلقا من أحصينا، لأن أحصى بمعنى كتب، أو بالعكس، وجاز أن يكون حال بمعنى المكتوب في اللوح،
﴿ فذوقوا ﴾ أي : فيقال لهم : ذوقوا، وهو مسبب عن عدم الخوف عن الحساب، وتكذيب الآيات، ﴿ فلن نزيدكم إلا عذابا ﴾، عن بعض السلف : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه.
﴿ إن للمتقين مفازا ﴾ : محل فوز، أو فوزا وظفرا بالبغية،
﴿ حدائق وأعنابا ﴾ : بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، سيما العنب، بدل اشتمال، أو بعض من مفازا،
﴿ وكواعب ﴾ : نساء استدارت ثديهن، ﴿ أترابا ﴾ : مستويات في السن،
﴿ لا يسمعون فيها لغوا ﴾ : كلاما خاليا عن الفائدة، ﴿ ولا كذابا ﴾ : تكذيبا أي : لا يكذب بعضهم بعضا،
﴿ جزاء من ربك ﴾، بمقتضى وعده، نصب بمصدر مؤكد لقوله :" إن للمتقين مفازا "، ﴿ عطاء حسابا ﴾ أي : تفضلا كافيا، بدل من جزاء،
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾، بالجر بدل من " ربك "، وبالرفع مبتدأ، ﴿ الرحمان ﴾، بالجر صفة، وبالرفع مع رفع " رب "، فيكون خبرا له، ومع جره فتقديره : هو الرحمن أو مبتدأ خبره قوله :﴿ لا يملكون ﴾ أي : أهل السماوات، والأرض، ﴿ منه ﴾ : من الله، { خطابا{، فمنه صلة يملكون، أي : لا يملكهم الله خطابا واحدا، إشارة إلى أن مبدأ الملك منه، نعم إن أذن لهم فيقدرون على تكلمه وخطابه،
﴿ يوم يقوم الروح ﴾، هو بنو آدم، أو خلق أعظم من الملائكة على صورة البشر، أو جبريل، أو أشرف الملائكة يعني صاحب الوحي، أو القرآن أو ملك بقدر جميع المخلوقات، وهو صف، وسائر الخلائق صف، ﴿ والملائكة صفا ﴾ أي : صافين، ﴿ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ﴾، ويوم ظرف لا يملكون، أو لا يتكلمون، وفيه تقرير، وتوكيد لقوله :" لا يملكون منه خطابا "، فإن الملائكة مع أنهم من أفضل الخلائق مقربون غير عاصين إذا لم يقدروا أن يتكلموا إلا بإذنه فكيف غيرهم ؟ ﴿ وقال صوابا ﴾ أي : للتكلم شرطان : الإذن، والتكلم بالصواب، فلا يشفع مثلا لغير المستحق، أو له شرطان : الإذن والتكلم بالصواب في الدنيا، فالكافر لا يتكلم يعني كلاما ينفعهم، أو ينفع غيرهم،
﴿ ذلك اليوم الحق ﴾ : الكائن لا محالة، ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ﴾ : مرجعا بالطاعة، وأنواع القربات،
﴿ إنا أنذرناكم عذابا قريبا ﴾ : عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب، مع أن مبدأه الموت، ﴿ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ﴾ : من خير وشر، والمرء عام، وقيل : الكافر، والمراد مما قدمت يداه الشر، وما إما موصولة مفعول " ينظر "، وإما استفهامية مفعول " قدمت " قدمت لصدارتها، " ويوم " بدل من " عذابا " بحذف مضاف، أي : عذاب يوم، أو بدل اشتمال فلا يحتاج إلى تقدير، أو صفة أخرى لعذابا، ﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ﴾ : في هذا اليوم، وفي الحديث " يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات، حتى ليقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم قال لها كوني، ترابا، فتصير الحيوانات ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر، ويتمنى أن يكون في الدنيا ترابا، فلم أخلق، ولم أكلف " .
والحمد لله على الإسلام.