تفسير سورة سورة النبأ من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة النبأ
مكية وهي أربعون آية
ﰡ
﴿ عم ﴾ أصله عن ما بحذف الألف من ما الاستفهامية إذا وقعت بعد حرف الجر نحو لم وفيم وعم ومم تخفيفا لكثرة الاستعمال وفرقا بينهما وبين الموصولة وضم الميم بعن في الخط لبقائه على حرف واحد بعد الحذف والاستفهام في كلامه تعالى مستعار عن التفخيم والتهويل في شأن ما وقع فيه الاستفهام فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ﴿ يتساءلون ﴾ والضمير لأهل مكة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم عن البعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون ماذا جاء بهم محمد صلى الله عليه وسلم كذا ذكر البغوي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن نحوه عن المعنى يتساءلون الرسول صلى الله عليه وسلم عنه استهزاء كقوله يتداعون لهم أي يدعون لهم.
﴿ عن النبأ العظيم ٢ ﴾ متعلق بيتساءلون المذكور وعلى هذا النبأ متعلق بفعل مضمر يفسره ما بعده ومتعلق بيتساءلون مضمر وهذه الجملة جواب للسؤال لفظا بيان لشأن المفخم معنى، ويحتمل أن يكون عن النبأ العظيم ويحتمل أن يكون هذه الجملة استفهامية بتقدير حرف الاستفهام فتكون تأكيد للجملة السابقة وتفخيم بعد تفخيم تقديره عم يتساءلون عن النبأ العظيم ويحتمل أن يكون الاستفهام الثاني للإنكار يعني لا ينبغي السؤال عن النبأ العظيم بل الواجب الإيمان به فإنه واضح عظيم شأنه وشديد وضوحه عن أن يسأل والمراد بالنبأ العظيم على قول مجاهد والأكثرين القرآن بدليل قوله تعالى :﴿ قل هو نبأ عظيم ﴾، وقال قتادة هو البعث ويحتمل أن يكون خبر بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ الذي ﴾ الموصول مع صلة صفة للنباء ﴿ هم ﴾ الضمير راجع إلى ما رجع إليه المرفوع في يتساءلون وهم كفار مكة على تقدير كون السؤال استهزاء أو إنكار أو على هذا فمعنى قوله ﴿ فيه مختلفون ﴾ أن منهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك ويحتمل أن يكون ضمير يتساءلون راجعا إلى أهل مكة مؤمنهم وكارفهم أجمعين وعلى هذا فالمعنى أن منهم من يصدق ويسأل عنه لكشف الحال وازدياد اليقين ومنهم من ينكر ويسأل عنه استهزاء وإنكارا.
﴿ كلا ﴾ ردع عن الاختلاف في المبني على إنكار بعضهم أو كلهم ﴿ سيعلمون ﴾ أي الكافرون المنكرون كونه حقا عند الشرع وفي القبر.
﴿ ثم كلا سيعلمون ٥ ﴾ يوم القيامة والتكرير للمبالغة والدلالة على لحوق الوعيد مرتين، أحدهما في القبر وثانيهما بعد البعث وكلمة ثم يشعر بأن الوعيد الثاني أبلغ من الأول ثم ذكر الله سبحانه صنائعه ما يستدل به على التوحيد والقدرة على البعث بعد الموت ووجوب شكر النعم باتباع من يدعو إلى التوحيد والعبادة فقال ﴿ ألم نجعل الأرض مهادا ٦ ﴾.
﴿ ألم نجعل الأرض مهادا ٦ ﴾ فراشا لكم استفهام تقرير أي حمل المخاطب على الإقرار والعبادة أخرى استفهام إنكار وإنكار النفي إثبات فمضمون جعلنا الأرض مهادا.
﴿ والجبال أوتادا ٧ ﴾ للأرض كيلا تميد بكم.
﴿ وخلقناكم أزواجا ٨ ﴾ أصنافا ذكورا وإناثا.
﴿ وجعلنا نومكم سباتا ٩ ﴾ قطعا لأعمالكم حتى تستريح أبدانكم والسبت القطع.
﴿ وجعلنا ﴾ عطف على خلقنا ﴿ الليل لباسا ﴾ لبسه كل شيء بظلمة فبمنع الأبصار ويسكن الأصوات فيستريح النائم فيه.
﴿ وجعلنا النهار معاشا ١١ ﴾ أي سببا للمعاش من فضل الله ما قسم لكم من رزقه حيث ينقلبون فيه في حوائجكم وفيما لا بد منه في الحياة.
﴿ وبنينا فوقكم سبعا ﴾ أي سبع سموات ﴿ شدادا ﴾ محكمات لا يؤثر فيه مر الدهور.
﴿ وجعلنا ﴾ أي خلقنا، ويحتمل أن يكون المفعول الأول محذوفا أي جعلنا الشمس ﴿ سراجا وهاجا ﴾ متلألئا وقادا قال مقاتل جعل فيه نورا وحرارة والوهج يجمع النور والحرارة.
﴿ وأنزلنا من المعصرات ﴾ قال مجاهد ومقاتل والكلبي هي الرياح التي تعصر السحاب وهي رواية العوفي عن ابن عباس فعلى هذا من للنسبة، وقال أبو العالية والضحاك المعصرات هي السحائب وهي رواية الوالبي عن ابن عباس قال الفراء : المعصرات السحاب ينجلب بالمطر ولم يمطر كالمرأة المعصرة هي التي دنا حيضها ولم تحض بعد وقال ابن كيسان هي المغيثات من قوله :﴿ فيه يغاث ﴾ وقال الحسن وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حبان من المعصرات من السموات فمن على هذه التأويلات للابتداء ﴿ ماء ثجاجا ﴾ قال مجاهد صبابا مدرارا قال قتادة متتابعا وقال ابن زيد كثير ومرجع الكل واحد.
﴿ لنخرج به ﴾ أي بذلك ﴿ حبا ﴾ يأكله الناس كالبر والشعير ﴿ ونباتا ﴾ تأكله الدواب.
﴿ وجنات ﴾ بساتين ﴿ ألفافا ﴾ ملتفة بالأشجار بعضها ببعض واحدها لف كجذع وجذاع أو لفيف كشريف وأشراف أو لا واحد له كأوضاع، وهي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفافة وهي شجرة مجتمعة يقال جنة لفاف ولما ثبت أن من هو قادر على اختراع تلك الأمور قادر على إعادتها وإن تلك الأمور العظام لا يتصور وجودها إلا من فاعل الحكيم ولا يتصور أن يكون عبثا أو منافيا للحكمة فكان السامع اشتاق إلى معرفة صفات وقت الفصل فاستأنف، وقال :
{ إن يوم الفصل كان ميقاتا ١٧ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ١٨ وفتحت السماء فكانت أبوابا ١٩ وسيرت الجبال فكانت سرابا ٢٠.
﴿ إن يوم الفصل ﴾ بين الحق والباطل ﴿ كان ﴾ في علم الله أو حكمه ﴿ ميقاتا ﴾ ميعادا للثواب والعقاب وقتا معينا لهما أو المعنى حدا يؤقت في الدنيا وينتهي عنده أو حدا للخلائق ينتهون إليه.
﴿ يوم ينفخ ﴾ بدل من يوم الفصل أو عطف بيان له أو بدل من ميقاتا أو خبر ثان لكان ﴿ في الصور ﴾ أخرج مسدد بسند صحيح عن ابن مسعود قال : الصور كهيئة القرآن ينفخ فيه وعن ابن عمر نحوه وقد مر في الحاقة، وعن وهب أنها من لؤلؤ بيضاء في صفاء الزجاجة وبه ثقب بعدد كل زوج وقد مر في المدثر ﴿ فتأتون ﴾ عطف على ينفخ ﴿ أفواجا ﴾ حال من فاعل تأتون يعني جماعات مختلفة من القبور إلى مكان الحساب، عن أبي ذر قال :( حدثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاث أفواج فوج طاعمين كاسبين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج يسحبون على وجوههم ) رواه النسائي والحاكم والبيهقي وعن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية :﴿ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ١٨ ﴾ قال يحضر أمتي عشرة أفواج صف على صورة القردة وهم القدرية وصف على صورة الخنازير وهم المرجئة وصف على صورة القردة والكلاب وهم الحرورية وصف على صورة الحمر وهم الروافضة وصف على صورة الذر وهم المتكبرون وصف على صورة البهائم وهم أكلة الربى وصف على صورة السباع وهم الزنادقة وصف يحشرون على وجوههم وهم المصورون والهمازون واللمازون وصف دكيان وهم المقربون وصف مشبعاة وهم أهل اليمين ) رواه ابن عساكر وقال : هذا حديث منكر في إسناده مجاهيل ورواه الخطيب بلفظ يحشر عشر أصناف من أمتي أسباتا فمنهم على صورة القردة وهم النامون وبعضهم على صورة الخنازير وهم أهل السحت والحرام وبعضهم منكبين أرجلهم فوق أعينهم ووجوههم أسفل يسحبون عليهم وهم أكلة الربا وبعضهم عمى يترددون وهم من يجور في الحكم، وبعضهم صم بكم لا يعقلون وهم الذين يعجبون بأعمالهم وبعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم لسيل ألقيح من أفواههم يقذرون أهل الجمع وهم العلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وهم الذين يؤذون الجيران، وبعضهم مصلبين على جذوع من النار وهم السعاة بالناس إلى السلطان وبعضهم أشد نتنا من الجيف وهم الذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله في أموالهم وبعضهم يلبسون جلابيبت سابغة من القطران وهم أهل الكبر والفخر والخيلاء وكذا روى الثعلبي من حديث البراء بن عازب عن معاذ.
﴿ وفتحت السماء ﴾ أي شقت قرأ أهل الكوفة بالتخفيف والباقون بالتشديد للمبالغة والتكثير عطف على تأتون ومعناه الاستقبال أو حال بتقدير قد وكذا سيرت ﴿ فكانت ﴾ السماء ﴿ أبوابا ﴾ أي ذات أبواب أو حمل على المبالغة يعني صارت من كثرة الشقوق كأنها كلها أبواب.
﴿ وسيرت الجبال ﴾ عن وجه الأرض في الهواء كالبهاء ﴿ فكانت ﴾ الجبار ﴿ سرابا ﴾ السرب في الأصل الذهاب كذا في الصحاح، ويقال اللامع في المفازة كالماء سرابا ما لا سرابه في رأي العين والمراد ها هنا صارت الجبال شيئا لا حقيقة لها لتفتت أجزائها ولما ذكر الله سبحانه مجيء الناس أجمعين للحساب بقوله فتأتون أفواجا فكان السامع اشتقاق إلى تفصيل أحوالهم فذكر أهل الطاغين أولا لأن الترهيب أهم من يرصد عند أذهان الناس فقال ﴿ إن جهنم كانت مرصادا ٢١ ﴾.
﴿ إن جهنم كانت مرصادا ٢١ ﴾ الرصد الاستعداد للترقيب وموضع يرصد فيه والمعنى ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يرصدون الناس جسر جهنم فأما ملائكة العذاب فيرصدون الكفار ليأخذونهم ويلقونهم في النار ويعذبونهم وأما ملائكة الرحمة فيرصدون المؤمنين ليحرسونهم في مجاوزتهم عليها من فيح جهنم وكلاليب الصراط فهذه الآية بهذا التأويل تدل على كون جهنم طريقا وممرا للناس أجمعين كقوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾ فمن فسر المرصاد بالطريق أو المعنى الالتزامي، وقيل : مرصاد أي معدة للكفار يقال أرصدت الشيء إذا أعددته ويحتمل أن يكون المرصاد صيغة مبالغة أي مجدة مجتهد في ترصد الكفار كيلا يشذ منها واحد، أخرج البيهقي عن أنس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( الصراط أحد كحد السيف وإن الملائكة يحفظون للمؤمنين والمؤمنات وإن جبرائيل لآخذ بحجزتي وإني لأقول يا رب سلم سلم والزالون والزلات كثير ) وأخرج ابن المبارك والبيهقي وابن أبي الدنيا عن عبيد بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الصراط على جهنم مثل حد السيف بجهة الكلاليب والجسك في ركبه الناس فيخطفون والذي نفسي بيده وإنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر والملائكة على جهة يقولون رب سلم سلم ) وأخرج البيهقي عنه قال :( إن الصراط مثل حد السيف دحض مزلة تنكفأ الملائكة والأنبياء قياما ما يقولون رب سلم سلم والملائكة يخطفون بكلاليب ) قال البيهقي روى مقسم عن ابن عباس أن على جسر بجهنم سبع محابس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة فإن جاء بها تامة جاز به إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز بها إلى الرابع فيسأل عن الصوم فإن جاء بها تامة جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلا يقال أنظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنة.
( ﴿ للطاغين ﴾ يجوز بخمسة أوجه أن يكون خبر ثانيا لكانت أو صفة لمرصاد أو لمآب قدم عليه ما انتصب حالا أو ظرف مرصاد أو لمآب، والطاغي الذي جاوز الحد في العصيان ولا يكون ذلك حتى يقطع في الكفر والتكذيب إما صريحا فحينئذ يسمى كافرا وإما التزاما واقتضاء فيسمى رافضيا أو قدريا أو مرجئا أو نحو ذلك من أهل الهواء ﴿ مآبا ﴾ خبر آخر لكانت.
﴿ لابثين ﴾ قرأ حمزة ويعقوب لبثين بغير الألف والباقون بألف حال مقدرة من الضمير في الطاغين ﴿ فيها ﴾ في جهنم ﴿ أحقابا ﴾ جمع حقب والحقب الواحد ثمانون سنة كل سنة اثني شهرا كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة، قال البغوي روي ذلك عن علي بن أبي طالب وكذا أخرج هناد عن أبي هريرة، وقال مجاهد الأحقاب ثلاثة وأربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا كل خريف سبعمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم ألف سنة، وقال مقاتل بن حبان الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة لما كانت هذا المدة متناهية وقد دلت الآيات المحكمات على خلود الكفار في النار والعذاب حيث قال الله تعالى :﴿ وفي العذاب هم خالدون ﴾ وعليه العقد الإجماع، وروى السدي عن مرة بن عبد الله قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا ذهب المفسرون إلى تأويل هذه الآيات فقيل إنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ فلن نزيدكم إلا عذابا ﴾ قالوا : فالعدد قد ارتفع والخلود قد حصل، قلت : هنا خبر والخبر لا يحتمل النسخ، وقال الحسن في تأويلها إن الله لم يجعل لأهل النار مدة بل قال : لابثين فيها أحقابا فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر ثم أخرى إلى الأبد فليس للأحقاب مدة إلا الخلود ومن ها هنا قال البيضاوي والمراد وهو متابعة وليس فيه دلالة على خروجهم منها وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على الخلود الكفار، قلنا : نعم المنطوق لا يزاحمه المفهوم ومن ثم قلنا بخلود الكفار في النار وعليه انعقد الإجماع ووجب تأويل هذه الآية وتأويله بالأحقاب الغير المتناهية والدهور المتتابعة ضعيف إذ لا يظهر حينئذ فائدة لتقييد بالأحقاب الموهم خلاف المراد كيف والأحقاب بالنسبة إلى غير المتناهي من الزمان كالأيام بالنسبة إليها ولا شك أنه لو قيل لابثين فيها أياما لا يتبادر الذهن منه إلى الخلود بل إلى الخروج فكذا هنا، وقيل أحقابا جمع حقب من حقب الرجل إذا أخطأ الرزق وحقب العالم إذا قل مطره وخيره فيكون حالا بمعنى لابثين فيها حقبين أي ممنوعين عنهم الرزق كله.
وقوله :﴿ لا يذوقون ﴾ تفسير له، قلت وهذا التأويل يأبى عنه الآثار المروية عن علي وغيره المذكورة مع أنها في حكم المرفوع لعدم مساغ الرأي فيه وقول أن قوله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ٢٤ إلا حميما وغساقا ٢٥ ﴾ حالا من المستكن في لابثين أو صفة لأحقابا أو أحقابا ظرف بلا يذوقون فالمعنى أنهم يلبثون أحقابا على هذه الصفة غير ذائقين إلا حميما وغساقا لأحقاف زمان بعدم الذوق لا المطلق اللبث فلعلهم يبدلون بعد ذلك جنسا آخر من العذاب أشد من ذلك والظاهر أنه حال مرادف بقوله تعالى :﴿ لابثين ﴾، والتأويل عندي أن لفظ الطاغين ليس على عموم اتفاقا فأنتم تحملونه على الكفار دون أهل الهواء، فيلزمكم التكلفات في هذه الآية ليندفع المعارضة بينها وبين المحكمات ونحن نحمل الطاغين ها هنا على أهل الهواء دون الكفار فلا يلزمنا ما يلزمكم ويؤيد ما قلت ما أخرج البزار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( والله لا يخرج أحد من النار حتى يمكث فيه أحقابا والحقب بضع وثمانون سنة وكل سنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون ) فإن هذا الحديث يدل على الخروج بعد تلك المدة والله تعالى أعلم
قرأ الحمزة والكسائي وحفص غساقا بالتشديد كالخباز والباقون بالتخفيف كالعذاب الحميم فماء في غاية الحرارة في الحديث :( يرفع إليهم الحميم بكلابيب الحديد فإذا دنت وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم ) الحديث رواه الترمذي والبيهقي عن أبي الدرداء وأما الغساق فأخرج هناد عن مجاهد قال الغساق الذي لا يستطيعون أن يذوقه لشدة برده، قال البغوي قال ابن عباس يحرقهم ببرده كما يحرق النار بحرها، قال مقاتل هو الذي انتهى برده، وأخرج هناد عن أبي العالية في هذه الآية أنه استثنى من الشراب الحميم ومن البرد الغساق، قال البيضاوي أخر الغساق ليوافق رؤوس الآي، وأخرج هناد عن عطية قال : الغساق الذي يسيل من صديدهم وأخرجه مثله عن إبراهيم وأبي رزين فهو مشتق من قولهم غسقت وانصبت والغساق الأنصاب وأخرج ابن حاتم وابن أبي الدنيا وأيضا عن كعب قال : الغساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع يؤتى بالآدمي فينغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده عن العظام وتعلق جلده ولحمه في كعبيه فتجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه فعلى هذه الأقوال إن كان الغساق باردا كان المستثنى من البرد إلا فهو والحميم كلاهما مستثنى من الشراب والمراد بالبرد حينئذ برد جهنم ويستثنى عن حر النار والمراد بالبرد النوم، وقيل : الاستثناء منقطع والمراد بالشراب ما يسكن عطشهم.
﴿ جزاء ﴾ منصوب على المصدرية من فعل المحذوف أي يجزون جزاء ﴿ وفاقا ﴾ أي وافقا أو موافقا أو يوافق وفاقا لأعمالهم وأباطيلهم، قال مقاتل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك هذا على تفسير القوم بأن المراد بالطاغين الكفار فعلى هذا جزاء مصدر وقع بعد جملة لا محتمل لها غيره من قبيل له على ألف درهم اعترافا إذ لا محتمل من جملة إن جهنم الخ إلا الجزاء فهو تأكيد لنفسه وأما على ما ذكرت من أن المراد بالطاغين أهل الهواء فمعناه يجزون لجنس ما ذكر من العذاب موافقا لبعدهم عن الحق في عقائدهم فيكون لبث بعضهم في جهنم أكثر من بعض وعذابهم أشد منهم غير أنه يبلغ هذا اللبث وما هم فيه إلى الأحقاب وأذاه حقب وعلى هذا التأويل فالمصدر تأكيد لغيره إذا الجملة السابقة عليه يحتمل غير ذلك والحمل على كونه تأكيدا لغيره أولى من الحمل على كونه تأكيدا لنفسه فإن التأسيس أولى من التأكيد.
﴿ إنهم كانوا لا يرجون ﴾ أي لا يخافون ولا يعتقدون ﴿ حسابا ﴾ تعليل لما سبق من الجزاء فالكافرون لا يعتقدون البعث والحساب والجزاء مطلقا وأما أهل الهواء فإن هذه الصفة موجودة في بعضهم فإن المرجئة لا يعتقدون الحساب والجزاء وكذا الروافض يقولون شيعة علي ومحبه لا يعذب بشيء من الذنوب كبيرة كانت وصغيرة.
﴿ وكذبوا بآياتنا كذابا ٢٨ ﴾ عطف على كانوا وهذه الصفة عامة في جميع أهل الهواء كما ذكرنا في المرسلات ألا ترى إلى الروافض أنهم ينكرون مناقب جميع الصحابة ويدعون ارتدادهم أو نفاقهم أجمعين إلا ثلاثة منهم أو نحو ذلك، ويزعمون إن عمر بن الخطاب وغيره من الخلفاء حين مكنهم الله تعالى في الأرض أفسدوا في الأرض ويزعمون أن الصحابة شر الأمم وأسوأ القرون وقد قال الله تعالى :﴿ كنتم خير أمة ﴾ وقال الله تعالى :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ إلى قوله :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ﴾ الآية وقال الله تعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ﴾ وقال :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴾ الآية إلى غير ذلك من آيات لا تكاد تحصى، وكذابا المصدر بمعنى التكذيب مطرد شائع أو بمعنى المكاذبة فإنهم كاذبون عند المسلمين والمسلمون كاذبون عندهم أو المعنى أنهم مبالغون في الكذب مبالغة المبالغين فيه وعلى المعنيين يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا مفرطا كذبه.
مسألة :
هذه الآية على ما ذكرت من التأويل تدل على عذاب أهل الهواء وأما عذاب أهل الكبائر من المؤمنين فأطول مدة مكثهم بقدر الدنيا سبعة آلاف سنة ولا يجرعون الحميم ونحو ذلك، أخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على الكبائر غير تائبين من دخل منهم جهنم لا يرزق أعينهم ولا تسود وجوههم ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل لا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران حرم الله أجسادهم على الخلود وصورهم على النار من أجل السجود فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه ومنهم من تأخذه النار إلى حنجرته ومنهم من تأخذه إلى عنقه على قدر ذنوبهم وأعمالهم ومنهم من يمكث فيها سنة، ثم يخرج وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ) الحديث وأخرج الحاكم في نوادر الأصول عن أبي هريرة نحوه فهم في الباب الأول من جهنم ولا يضربون بالمقامع ولا يطرحون في الدرك فمنهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج منها ومنهم من يمكث وفيها يوما ثم يخرج ومنهم من يمكث فيها سنة وأطولهم فيها مكثا منذ خلقت الدنيا إلى يوم فنيت وذلك سبعة آلاف، قلت والمراد بالسنة ها هنا السنة الدنيوية حتى يتحقق مساواتهم فيها بمدة الدنيا وورد في بعض الروايات عن ابن سعيد مرفوعا ( أن ناسا أصابتهم النار بذنوبهم يميتهم الله في النار فإذا كانوا إذن بالشفاعة يحيون بخلاف الكفار فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ).
﴿ وكل شيء ﴾ منصوب بفعل مضمر على شريطة التفسير أي أحسينا كل شيء من أعمال الطاغين وأباطيلهم ﴿ أحصيناه كتابا ﴾ منصوب على التميز أو على الحال بمعنى مكتوبا أو على المصدرية من قبيل ضربتهم سوطا أي أحصيناه إحصاء كتاب أو بفعل محذوف أي أحصيناه كتبناه كتابا في اللوح المحفوظ أو في صحف الحفظة، قيل : هذه الجملة معترضة والظاهر عندي أنها تعلل لقوله تعالى :﴿ وفاقا ﴾ كما أن قوله أنهم كانوا لا يرجون الخ تعليل لقوله جزاء يعني جزيناهم كذلك لأجل إنكارهم للحساب وتكذيبهم بالآيات ويوافق الجزاء أعمالهم وفاقا حيث كتبنا أعمالهم وأباطيلهم لا يغادر فيها شيء فيجزيهم وفاق ذلك.
﴿ فذوقوا ﴾ الفاء للسببية بمعنى ذوقوا العذاب بسبب إحساء أعمالهم خطاب مع الطاغين على طريقة التفات للمبالغة ﴿ فلن نزيدكم ﴾ أيها الطاغون ما دمتم في النار ﴿ إلا عذابا ﴾ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن أبي هريرة الأسلمي مرفوعا إن هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار ورواه الطبراني والبيهقي في البعث موقوفا والله أعلم.
ولما ذكر الطاغين ذكر الله سبحانه حال المتقين فقال :
﴿ إن للمتقين مفازا ٣١ ﴾ فوزا ونجاة من النار أو موضع فوز.
﴿ حدائق ﴾ بدل بعد من مفاز إن كان بمعنى الموضع وإلا فبدل اشتمال ﴿ وأعنابا ﴾ هذا وما بعده بدل اشتمال من مفازا ويجوز عطف على بدل البعض تقول أعجبني زيد وجهه وعلمه.
﴿ وكواعب ﴾ جواري نواهد قد تكعبت ثديهن واحدتها كاعب ﴿ أترابا ﴾ مستويات السن.
﴿ وكأسا دهاقا ٣٤ ﴾ قال ابن عباس والحسن وقتادة مملوءة وقال سعيد بن جبير متابعة وقال عكرمة صافية.
﴿ لا يسمعون ﴾ حال من الضمير في للمتقين راجع إلى مفاز أو هو الحدائق والجنات أو صفة لكأسا وعلى هذا فالضمير ﴿ فيها ﴾ راجع إلى كأس لا يسمعون في شربها كما كانوا يسمعون في شرب كاسات الدنيا ﴿ لغوا ﴾ باطلا من الكلام ﴿ ولا كذّابا ﴾ قرأه الكسائي بالتخفيف على أنه مصدر الكاذبة، وقيل هو الكذب وقيل : هو كالمشدد في المعنى والباقون بالتشديد بمعنى التكذيب يعني لا يكذب بعضهم بعضا ولا يوجد في الجنة الكذب.
﴿ جزاء من ربك ﴾ مصدر فعل محذوف مؤكد بجملة وقعت قبله كما ذكرنا في قوله تعالى :﴿ جزاء وفاقا ٢٦ ﴾ ﴿ عطاء ﴾ مصدر كذلك أي يجزون جزاء أو يعطون عطاء ﴿ حسابا ﴾ صفة لعطاء بمعنى كافيا وافيا من أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي قال ابن عتبة عطاء حسابا أي كثيرا فعلى هذا يكون تأكيدا لنفسه من قبيل الله أكبر دعوة الحق وله علي ألف اعترافا، وقيل حسابا معناه على حسب الأعمال وقدرها في القاموس هذا بحسبه أي بعدده على هذا يستقيم المقابلة بما سبق جزاء وفاقا يعني الطاغون يجزون جزاء موافقا لأعمالهم وأباطيلهم والمتقون يجزون جزاء على حسب أعمالهم وقدرها قلت بل على حسب مشيئة الله تعالى وفضله لقوله تعالى :﴿ كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ﴾ وعلى حسب إخلاص العالمين ومراتب قربهم، فإن المقربين يعطون الآجر على القليل من العمل لا يعطي الأبرار على الكثير لما روى الشيخان في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وهذا التفاوت فيما بين المقربين على تفاوت درجات قربهم قال المجدد رضي الله عنه : الصحابة كانوا كلهم مستغرقين في التجليات الذاتية الدائمة بكمالات النبوة وكثيرا من التابعين وقليل من أتباعهم كانوا كذلك وهم المقربون وبعد القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير انطفت أنوار تلك الدولة العظمى ودرست آثارها ثم بعد مضي ألف سنة من الهجرة خلق الله سبحانه بعض الكرام وأعطاهم كمالات مثل كمالات الأولين كما نطق به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :( مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) رواه الترمذي عن أنس شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر هذه الأمة بأوله بحيث لا يدري أيها خير من الآخر وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبشروا بشروا إن مثل أمتي مثل الغيث لا يدرى آخره خير أم أوله أو كحديقة أطعم منها فوج عاما وفوج عاما لعل آخرها أفواجا يكون أعرضهم عرضا وعمقهم عمقا وأحسنهم حسنات ) الحديث رواه البيهقي ورواه رزين وعن صحابي بهم سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول :( سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم أجر مثل أجر أولهم )، رواه البيهقي في دلائل النبوة وعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى :﴿ جزاء من ربك عطاء حسابا ٣٦ ﴾ تأكيدا الغيرة كما ذكرت في جزاء وفاقا والله تعالى أعلم.
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾ قرأ الكوفيون بالجر والباقون بالرفع ﴿ الرحمان ﴾ قرأ عاصم وابن عامر بالجر والباقون بالرفع فعلى قراءة عاصم بالجر فيهما كلا الاسمين صفتان لربك في قوله تعالى :﴿ جزاء من ربك ﴾ أو بدل منه وعلى قراءة أهل الحجاز والبصرة بالرفع فيهما رب السماوات مبتدأ والرحمان صفة له وما بعده خبره ويحتمل أن يكون رب السماوات خبر مبتدأ المحذوف أي هو رب السماوات الرحمان صفة له أو خبر ثان وما بعده خبر ثالث، ويحتمل أن يكون الرحمان مبتدأ وما بعده خبره وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجر في الأول والجر في الثاني رب السماوات خبر مبتدأ محذوف فهو جملة معترضة والرحمان بدل من ربك وما بعده استئناف ﴿ لا يملكون ﴾ أي أهل السماوات والأرض ﴿ منه ﴾ أي من الرحمان ﴿ خطابا ﴾ أي لا يقدر أحد أن يخاطبه منه وقال الكلبي معناه لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه ويحتمل أن يكون معناه لا يمكن لأحد الاعتراض عليه سبحانه في إعطاء الأجر بعضهم أكثر من بعضهم لأنهم مملوكون على الإطلاق ولا يستحق أحد عليه شيئا والأجر تفضل منه فعلى هذا لا اعتراض، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنما أجلكم من أجل ما خلا من الأمم من العصر إلى المغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عملا فقال من يعمل إلى النصف النهار على قيراط فعملت اليهود إلى النصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى فقالوا : نحن أكثر عملا وأقل إعطاء قال الله تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا قال الله تعالى فإنه فضلي أعطيته من شئت ) رواه البخاري، قلت : معناه قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما أجلكم من أجل ما خلاف من الأمم ما بين العصر إلى مغرب الشمس ) أن أعمار هذه الأمة قصيرة وأعمالهم قليلة والمراد بالقيراطين الكثرة مطلقا كما في قوله تعالى :﴿ فارجع البصر كرتين ﴾ لا تعيين الكثرة بقدر الضعيف والله أعلم وبتأويلنا هذا يرتبط هذه الآية بما سبق أي جزاء من ربك عطاء حسابا والله تعالى أعلم.
﴿ يوم يقوم ﴾ ظرف للا يملكون أو للا يتكلمون والأول أظهر ﴿ الروح والملائكة ﴾ في ذلك اليوم واختلفوا في الروح، فأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : الروح في السماء الرابعة وهو أعظم من السماوات والجبال ومن الملائكة وزاد البغوي أنه يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيح يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا واحدا، وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في هذه الآية قال الروح صاحب الله يقوم بين يدي الله وهو أعظم ملائكة لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة ما يخلق ينظرون إليه فمن مخافته لا يرفعون طرفهم إلى من فوقهم، وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال الروح ملك له سبعون ألف وجهة لكل وجهة سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون لغة يسبح الله بتلك اللغات كلها وأخرج من طريق عطاء عن ابن عباس قال الروح ملك واحد له عشرة وآلاف جناح ومن طريق أبي طلحة عنه أنه من أعظم الملائكة خلقا وزاد البغوي في قول عطاء عنه أنه قال إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا واحدا فيكون أعظم خلقه مثلهم، وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل بن حبان قال : الروح أشرف الملائكة وأقربهم إلى الله وهو صاحب الوحي وأخرج من وجه آخر عن الضحاك في هذه الآية فالروح جبرائيل عليه السلام وأخرج عن ابن عباس أن جبرائيل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار تبارك وتعالى ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله يقول سبحانك لا إله إلا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن ما بين المشرق والمغرب وذلك قوله تعالى :﴿ يوم يقوم الروح والملائكة صفا ﴾ وأخرج أبو نعيم عن مجاهد وابن المبارك عن أبي صالح مولى أم هاني قال : الروح خلق على صورة بن آدم وليسوا بالإنسان زاد البغوي يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند وكذا ذكر البغوي عن قتادة، وأخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد عن ابن عباس مرفوعا قال :( الروح جند من جنود الله ليسوا بالملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ثم قرأ ﴿ يوم يقوم الروح والملائكة صفا ﴾ قال هؤلاء جنده وهؤلاء جنده ) وذكر البغوي عن مجاهد عنه قال : خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم أخرج ابن مبارك وأبو الشيخ في العظمة عن البيهقي قوله تعالى :﴿ يوم يقوم الروح والملائكة صفا ﴾ قال يقوم سماطين لرب العالمين يوم القيامة سماط من الملائكة وسماط من الروح وذكر البغوي أنه قال الحسن هم بنوا آدم ورواه قتادة عن ابن عباس وقال : هذا مما كان يكتمه ابن عباس ﴿ صفا ﴾ حال مفرد من فاعل يقومون أو مصدر بفعل محذوف أي يصفون صفا والجملة حالان يتكلمون يعني الروح والملائكة وهذه الجملة حال من فاعل يقوم وجملة يوم الروح والملائكة صفا ﴿ لا يتكلمون ﴾ تقرير وتوكيد لقوله :﴿ لا يملكون منه خطابا ﴾ فإن هؤلاء الذين أفضل الخلائق وأقربهم إلى الله إذا لم يقدروا على التكلم فكيف من عداهم ﴿ إلا من أذن له الرحمان ﴾ في الكلام والشفاعة استثناء من فاعل لا يتكلمون أو من فاعل لا يملكون والأول أظهر لفظا لاتصاله والثاني معنى فإن الإذن في الشفاعة والكلام غير مختص بالروح والملائكة ﴿ وقال صوابا ﴾ أي حقا وصدقا واعتقد به فالقول ها هنا كان كناية عن الاعتقاد والاعتقاد لا يظهر إلا بالقول عطف على أذن له الرحمان يعني من قال صوابا في الدنيا يعني لم يقل باطلا من الكلام كاذبا وأكذب الكذب الكفر بالله العظيم لعدم إمكان صدقه ثم قول أهل الهواء لأن القرآن يكذبهم، وقيل معنى قال صوابا قال لا إله إلا الله فالكفار لا يؤذن لهم أن يتكلموا أو يعتذروا وأهل الهواء وأنى لهم درجة الشفاعة.
﴿ ذلك اليوم ﴾ إشارة إلى ما سبق من اليوم المذكور بالصفات المذكورة مبتدأ ﴿ الحق ﴾ خبره عرف للقصر على كونه حقا ثابتا لا شبهة فيه ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ﴾ مرجعا وسبيلا مقربا إليه بطاعاته واتباع رسله والهادين إلى سبيله بالجذب والتسليك فليتخذ الفاء السببية فإن كون ذلك اليوم حقا موجب الاتخاذ السبيل إلى الله وإلى ربه متعلق بمآبا أو ظرف مستقر حال منه.
﴿ إنا أنذرناكم ﴾ وأيها الكفار ﴿ عذابا قريبا ﴾ يعني عذاب الآخرة فإن كل ما هو آت قريب أو عذاب القبر والموت أقرب من شراك النعل ﴿ يوم ينظر المرء ﴾ الظرف متعلق بعذابا فإنه بمعنى التعذيب ﴿ ما قدمت يداه ﴾ ما استفهامية منصوبة بقدمت أو موصولة منصوبة بينظر والعائد من الصلة محذوف المعنى لتعذيب أنه يرى كل امرئ يوم القيامة ما قدم من العمل شيئا في صحيفة أو يرى جزائه في الآخرة أو في القبر إنما أسند تقديم الأعمال إلى اليد لأن عامة الأعمال الجوارح منها أو لأن اليد كناية عن القدرة والقوة، عن عثمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن القبر أول منزلة من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ) والأحاديث في العذاب القبر كثيرة وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال :( إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ) وفي رواية لمسلم ( لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) الحديث، ويدل على رؤية العمل في القبر حديث البراء بن عازب بطوله وفيه في ذكر المؤمن ( فيفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك كنت توعد فيقول له من أنت ؟ فوجهك الوجه تجيء بالخير فيقول : أنا عملك الصالح ) الحديث وفيه في ذكر الكافر ( ويضيق عليه قبره حتى يختلف أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه وقبيح الثياب متن الريح فيقول : أبشر بالذي يسؤوك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه تجيء بالشر فيقول ؟ أنا عملك الخبيث ) الحديث رواه أحمد ﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ﴾ أخرج الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدا لاد بم وحشر الله تعالى الخلائق الإنس والجن والدواب والوحش فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقضي للشاة العجماء من القرناء فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها كوني ترابا فيراها الكافر فيقول يا ليتني كنت ترابا، وأخرج الديندري عن يحيى بن جعدة نحوه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي هريرة نحوه، وذكر البغوي قول مقاتل نحوه وفيه يقول الكافر يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير وكنت اليوم ترابا وذكر البغوي عن الزياد وعبد الله بن ذكوان قال : إذا قضى بين الناس وأمر أهل الجنة على الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن عودوا ترابا فيعودون ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا وبه قال ابن أبي سليم مؤمنوا الجن يعودون ترابا، وقيل المراد بالكافر ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم أنه خلق من التراب وافتخر بأنه خلق من النار فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والرحمة وما هو فيه من الشدة والعقاب قال يا ليتني كنت ترابا قال أبو هريرة فيقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي.