تفسير سورة النبأ

مراح لبيد
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة النبأ
وتسمى سورة التساؤل، وسورة عم، مكية، أربعون آية، مائة وثلاث وسبعون كلمة، سبعمائة وسبعون حرفا
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) أي عن أيّ شيء يتساءل أهل مكة فيما بينهم إنكارا واستهزاء عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ سؤال، وقوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جواب. فالسائل والمجيب هو الله تعالى، ونظيره قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦].
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) والخبر العظيم هو يوم القيامة، فمنهم من جزم باستحالته فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما نحن
بمبعوثين. ومنهم من شك في وقوعه فيقول: ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين. وقيل: الخبر العظيم هو القرآن فإن بعضهم جعله سحرا، وبعضهم جعله شعرا، وبعضهم قال: إنه أساطير الأولين.
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم! ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء. وقيل: النبأ العظيم هو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمدا إليهم. وقرأ عكرمة وعيسى بن عمر عما بالألف على الأصل. وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بها السكت. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)، أي ليرتدعوا عمّا هم عليه، فإنهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال، إذا حل بهم العذاب والنكال، وسيعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، واقع لا ريب فيه. وقال القاضي: سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة، وسيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه. وقال الضحاك: أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وروي عن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء المنقطة من فوق، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) أي فراشا. وقرئ «مهدا» أي مناما، وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) للأرض حتى لا تميد بأهلها وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) ذكورا وإناثا، وقبيحا، وحسنا، وطويلا، وقصيرا. وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) أي قطعا للتعب، أو نوما منقطعا، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء، أما
دوامه فمن أضر الأشياء، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) فإن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه، وأيضا بسبب ما يحصل فيه من النوم يندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة،
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) أي وقت معاش تتقلبون فيه في مكاسبكم، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) أي خلقنا فوق رؤوسكم سبع سموات غلاظا قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثر فيها مر الدهور، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) أي شمسا مضيئة لبني آدم، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ، أي السحائب بالرياح ماءً ثَجَّاجاً (١٤) أي صبابا. ويروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعكرمة أنهم قرءوا «وأنزلنا بالمعصرات» أي بالرياح المثيرة للسحاب، لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء حَبًّا يقتات، كالحنطة والشعير والأرز، وَنَباتاً (١٥) لا يكون له كمام كالحشيش، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) أي مجتمعة تداخل بعضها في بعض، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) أي إن يوم فصل الله بين الخلائق كان في تقدير الله تعالى ميعاد الاجتماع كل الخلائق في قطع الخصومات، وميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ نفخة البعث، أي تنفخ الأرواح في الأجساد، فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)، أي فتبعثون من قبوركم، فتأتون إلى الموقف أمما، كل أمة مع إمامها حتى يتكامل اجتماعهم، وَفُتِحَتِ السَّماءُ لنزول الملائكة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي خفيفة التاء. والباقون بتشديدها فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) أي فصارت السماء ذات أبواب، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها، فَكانَتْ سَراباً (٢٠) أي فصارت بعد تسييرها مثل السراب إذ ترى على صورة الجبال، ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها،
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) أي طريقا، فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم يرصدون الكفار لِلطَّاغِينَ، أي للمتكبرين على الله مَآباً (٢٢) أي مرجعا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣)، أي حقبا بعد حقب. وقرأ حمزة «لبثين» بغير ألف لا يَذُوقُونَ فِيها، أي الأحقاب بَرْداً أي هواء باردا، ولا ماء باردا. وقال الأخفش والكسائي، والفراء، وقطرب، والعتبي:
أي نوما، سمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، وَلا شَراباً (٢٤) إِلَّا حَمِيماً أي ماء حارا جدا، وَغَسَّاقاً (٢٥) باردا منتنا لا يطاق، وهو المسمى بالزمهرير.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه بتشديد السين، جَزاءً وِفاقاً (٢٦) أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧)، أي كانوا لا يخافون، أي يحاسبوا بأعمالهم أو إنهم كانوا غير مؤمنين وذلك لأن المؤمن لا بدّ وأن يرجو رحمة الله، لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد كِذَّاباً (٢٨).
وقرئ بتخفيف الذال. وقرئ «كذابا» بضم الكاف وتشديد الذال جمع كاذب، أي كذبوا
بالقرآن والشرائع كاذبين، فكل من يكذب بالحق فهو كاذب، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي ضبطناه كِتاباً (٢٩) أي حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، أو كل شيء من أعمال بني آدم حفظناه مكتوبا في صحف الحفظة. وقرأ أبو السمال «وكل» بالرفع على الابتداء، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (٣٠) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم: ذوقوا جزاءكم فلن نزيدكم إلا عذابا، أي كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، وكلما خبت زدناهم سعيرا،
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) أي فوزا بالمطلوب حَدائِقَ أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، وَأَعْناباً (٣٢) أي كروما وَكَواعِبَ، أي نساء تكعبت ثديهن أَتْراباً (٣٣)، أي مستويات في السن على ثلاث وثلاثين سنة وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤)، أي ممتلئة، لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) أي لا يجري بين المتقين كلام باطل وتكذيب من واحد لغيره بسبب الكأس التي يشربون منها.
وقرأ الكسائي بالتخفيف جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) أي جازى الله المتقين بمفاز جزاء كائنا منه تفضلا منه بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه:
وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمائة ضعف، ووجه على ما لا نهاية، والمعنى:
راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع فيه نقصان. وقرأ ابن قطيب «حسابا» بالتشديد بمعنى محسب. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو برفع «رب» و «الرحمن». وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر بجرهما. وقرأ حمزة والكسائي بجر الأول مع رفع الثاني. لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) أي لا يملك أهل السموات والأرض أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم خطابا ما، في شيء ما، والوقف هنا كاف. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ.
قال الضحاك والشعبي: هو جبريل وعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.
وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ منهم في التكلم، وَقالَ صَواباً (٣٨) أي وقال ذلك المأذون له بعد ورود الأذن له قولا صادقا حقا. وقيل: المعنى: لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته، وذلك الشخص كان ممن قال صوابا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، و «يوم» ظرف لقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ. ذلِكَ أي يوم قيامهم على الوجه المذكور، الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الثابت من غير صارف فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) أي فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه فعل ذلك بالإيمان والطاعة، نَّا أَنْذَرْناكُمْ
أي خوّفناكم يا أهل مكة بالقوارع الواردة في القرآن، ذاباً قَرِيباً
هو عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
و «ما» استفهامية، أي يوم يبصر كل امرئ أيّ شيء قدّمت يداه، مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا وإما موصولة، أي يوم ينظر كل امرئ إلى الذي قدمته يداه، يَقُولُ الْكافِرُ
لما قطع بالعقاب الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
(٤٠) أي ليتني لم أبعث للحساب في هذا اليوم، وبقيت ترابا كما كنت أوليتني
597
كنت ترابا في الدنيا، فلم أخلق ولم أكلف، وقيل: يقول الكافر عند ما يقول الله للبهائم بعد محاسبته بينها كوني ترابا، يا ليتني أصير ترابا مثل تلك البهائم لأتخلص من عذاب الله تعالى.
وقيل: ويقول إبليس لما عاين ما في آدم من الثواب والراحة يوم القيامة: ليتني كنت مكان آدم، وذلك لأن إبليس عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار. وقال مقاتل: نزل قوله تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
في أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وقوله: يَقُولُ الْكافِرُ
في أخيه الأسد بن عبد الأسد.
598
Icon