مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة-الذي٢ كانوا مجمعين على نفيه، وصاروا بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف فيه مع المؤمنين- ثابت ثباتا لا يحتمل٣ شكا ولا خلافا بوجه، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير، بنى لهم مسكنا وأتقنه، و٤ جعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه، فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيده٥- وهو تام القدرة كامل السلطان- يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب، فكيف إذا كان حاكما فكيف إذا كان أحكم الحاكمين، هذا ما لا يجوز في عقل٦ ولا يخطر ببال أصلا، فالعلم ٧واقع به٨ قطعا، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره [ و-٩ ] غايته ﴿ بسم الله ﴾ الحكيم العليم١٠الذي١١ له جميع صفات الكمال ( الرحمن ) الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد و١٢ الجاه والمال١٣، وبيان الطريق الأقوم بالعقل الهادي والإنزال والإرسال ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم١٤ فوفقهم لمحاسن١٥ الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء، افتتح هذه بأن١٦ ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول١٧ في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي لا يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان، فقال معجبا منهم غاية العجب زاجرا لهم ومنكرا عليهم ومتوعدا لهم ومفخما للأمر بصيغة الاستفهام منبها على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم، ولا يعرف محل نزاعهم، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاما بأن ما يختلفون فيه١٨ لوضوحه لا يصدق أن عاقلا يخالف أمره١٩ فيه وأنه لا ينبغي التساؤل [ إلا- ]٢٠ عما هو خفي فقال :
٢ من ظ و م، وفي الأصل: الذين..
٣ من ظ و م، وفي الأصل: لا يتمل..
٤ من ظ و م، وفي الأصل: ثم..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: عبده..
٦ زيد في الأصل: عاقل، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها..
٧ من ظ و م، وفي الأصل: به واقع..
٨ من ظ و م، وفي الأصل: به واقع..
٩ زيد من ظ و م..
١٠ في م: العظيم..
١١ تكرر في الأصل فقط..
١٢ من ظ و م، وفي الأصل: المال والجاه..
١٣ من ظ و م، وفي الأصل: المال والجاه..
١٤ من ظ و م، وفي الأصل: النعيم..
١٥ من ظ و م، وفي الأصل: بالمحاسن..
١٦ سقط من ظ و م..
١٧ من ظ و م، وفي الأصل: الرسل..
١٨ من ظ و م، وفي الأصل: به..
١٩ سقط من م..
٢٠ زيد من ظ و م..
ﰡ
ولما فخم ما يتساءلون عنه معجباً منهم فيه، بينه بقوله إعلاماً بأن ذلك الإيهام ما كان إلا للإعظام: ﴿عن النبأ﴾ أي من رسالة الرسول وإتيانه بالكتاب المبين، وإخباره عن يوم الفصل، والشاهد بكل شيء من ذلك الله بإعجاز هذا الحديث، وبوعده الجازم الحثيث. ولما كان في مقام التفخيم له، وصفه تأكيداً بقوله: ﴿العظيم *﴾ مع أن النبأ لا يقال إلا لخبر عظيم شأنه، ففي ذلك كله تنبيه على أنه من حقه أن يذعن له كل سامع ويهتم بأمره، لا أن يشك فيه ويجعله موضعاً للنزاع؛ وعظم توبيخهم بقوله: ﴿الذي هم﴾ أي بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوم الضمائر ﴿فيه مختلفون *﴾ أي شديد اختلافهم وثباتهم فبعضهم صدق وبعضهم كذب، والمكذبون بعضهم شك وبعضهم جزم وقال بعضهم: شاعر، وبعضهم: ساحر - إلى غير ذلك من الأباطيل، وذلك الأمر هو أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أهمه البعث بعد الموت اشتد التباسه عليهم وكثرت مراجعتهم فيه ومساءلتهم عنه مع عظمه وعظم ظهوره، والعظيم لا ينبغي الاختلاف
قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: سورة النبأ أما مطلقها فمرتب على تساؤل واستفهام وقع منهم وكأنه وارد هنا في معرض العدول والالتفات، وأما قوله: ﴿كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون﴾ [النبأ: ٤ - ٥] فمناسب للوعيد المتكرر في قوله: ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ [المرسلات: ١٩] وكأن قد قيل: سيعلمون عاقبة تكذيبهم، ثم أورد تعالى من جميل صنعه وما إذا اعتبره المعتبر علم أنه لم يخلق شيء منه عبثاً بل يعتبر به ويستوضح وجه الحكمة فيه، فعلم أنه لا بد من وقت ينكشف فيه الغطاء ويجازي الخلائق على نسبة من أحوالهم في الاعتبار والتدبر والخضوع لمن نصب مجموع
﴿كذلك نخرج الموتى﴾ [الأعراف: ٥٧] وقال تعالى منبهاً على ما ذكرناه ﴿ألم نجعل الأرض مهاداً﴾ [النبأ: ٦] إلى قوله: ﴿وجنات ألفافاً﴾ [النبأ: ١٦] فهذه المصنوعات المقصود بها الاعتبار كما قدم، ثم قال تعالى: ﴿إن يوم الفصل كان ميقاتاً﴾ [النبأ: ١٧] أي موعداً لجزائكم لو اعتبرتم بما ذكر لكم لعلمتم منه وقوعه وكونه ليقع جزاؤكم على ما سلف منكم «فويل يومئذ للمكذبين» ويشهد لهذا القصد مما بعد من الآيات قوله تعالى لما ذكر ما أعد للطاغين: ﴿إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً وكل شيء أحصيناه كتاباً﴾ [النبأ: ٢٧ - ٢٩] ثم قال بعد: ﴿إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً﴾ [النبأ: ٣١ - ٣٢] وقوله بعد: ﴿ذلك اليوم الحق﴾ وأما الحياة الدنيا فلعب ولهو وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وقوله بعد: ﴿يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً﴾ [النبأ: ٤٠] انتهى. ولما كان الأمر من العظمة في هذا الحد قال مؤكداً لأن ما اختلفوا فيه وسألوا عنه ليس موضعاً للاختلاف والتساؤل بأداة الردع، فقال تهديداً لهم وتوكيداً لوعيدهم: ﴿كلا﴾ أي ليس ما سألوا عنه واختلفوا فيه بموضع اختلاف أصلاً، ولا يصح أن يطرقه ريب بوجه من الوجوه فلينزجروا عن ذلك وليرتدعوا قبل
ولما كان كأنه قيل: فهل ينطقع ما هم فيه؟ أجاب بقوله مهدداً حاذفاً متعلق العلم للتهويل لأجل ذهاب النفس كل مذهب: ﴿سيعلمون *﴾ أي يصلون إلى حد يكون حالهم فيه في ترك العناد حال العالم بكل ما ينفعهم ويضرهم، وهذا عن قريب بوعد لا خلف فيه، ويكون لهم حينئذ عين اليقين الذي لا يستطاع دفاعه بعد علم اليقين الذي دافعوه، وعظم رتبة هذا الردع والتهديد والزجر والوعيد بقوله: ﴿ثم كلا﴾ أي أن أمره في ظهوره رادع عن الاختلاف في أمره ﴿سيعلمون *﴾ أي بعد الموت بعد علمهم قبله ما يكون من أمره بوعد صادق لا شك فيه، ويصير حالهم إذا ذاك حال العالم في كفهم عن العناد، وهم بين ذلول وذليل وحقير وجليل، فأما من اخترناه منه للإيمان فيكون ذلولاً، ومن أردنا شقاءه بالكفران فتراه ناكساً ذليلاً، ويشترك الكل بالذوق في حق اليقين، وقد كان هذا كما قال الجليل بعد زمن قليل، عندما أوقعتهم أيام الله وأرغمت منهم الأنوف وأذلت الجباه، وقراءة ابن عامر على ما قيل عنه بتاء الخطاب في الوعيد وأدل على الاستعطاف للمتاب.
والبيت لا يبتنى إلا له عمد | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال: ﴿وخلقناكم﴾ أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ﴿أزواجاً *﴾ طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم.
ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال: ﴿وجعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿نومكم﴾ الذي ركبنا البدن على قبوله ﴿سباتاً *﴾ أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث، قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه.
ولما ذكر المهاد وما فيه، أتبعه السقف الذي بدورانه يكون الوقت الزمان وما يحويه من القناديل الزاهرة والمنافع الظاهرة لإحياء المهاد ومن فيه من العباد فقال: ﴿وبنينا﴾ أي بناء عظيماً ﴿فوقكم﴾ أي عاماً لجميع جهة الفوق، وهي عبارة تدل على الإحاطة ﴿سبعاً﴾ أي من السماوات ﴿شداداً *﴾ أي هي في غاية القوة والإحكام، لا صدع فيها ولا فتق، لا يؤثر فيها كر العصور ولا مر الدهور، حتى يأتي أمر الله بإظهار عظائم المقدور.
ولما ذكر السقف: ذكر بعض ما فيه من أمهات المنافع فقال دالا بمظهر العظمة على عظمها: ﴿وجعلنا﴾ أي مما لا يقدر عليه غيرنا
ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفىء الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال: ﴿وأنزلنا﴾ أي مما يعجز غيرنا ﴿من المعصرات﴾ أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع - إذا حان له أن يحصد، قال الفراء: المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض، وقال الرازي: السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض ﴿ماء ثجاجاً *﴾ أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً، يقال: ثجه وثج بنفسه.
ولما ذكر بدايته، أتبعها نهايته فقال: ﴿لنخرج﴾ أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ﴿به﴾ أي الماء تسبيباً ﴿حباً﴾
ولما ذكره، ذكر ما فيه تعظيماً له وحثاً على الطاعة فقال مبدلاً منه أو مبيناً له: ﴿يوم﴾ ولما كان الهائل المفزع النفخ، لا كونه من معين، بنى للمفعول قوله ﴿ينفخ﴾ أي من نافخ أذن الله له ﴿في الصور﴾ وهو قرن من نور على ما قيل سعته أعظم ما بين السماء والأرض وهي نفخة البعث وهي الثانية من النفخات الأرض كما مر في آخر الزمر، ولذلك قال: ﴿فتأتون﴾ أي بعد القيام من القبور إلى الموقف أحياء كما كنتم أول مرة لا تفقدون من أعضائكم وجلودكم وأشعاركم وأظفاركم وألوانكم الأصلية شيئاً يجمعكم من الأرض بعد أن تمزقتم
ولما ذكر الآية في أنفسهم ذكر بعض آيات الآفاق، وبدأ بالعلوي لأنه أشرف فقال بانياً للمفعول لأن المفزع مطلق التفتيح، ولأن ذلك أدل على قدرة الفاعل وهوان الأمور عليه: ﴿وفتحت السماء﴾ أي شقق هذا الجنس تشقيقاً كبيراً، وقرأ الكوفيون بالتخفيف لأن التكثير يدل عليه ما سبب عن الفتح من قوله: ﴿فكانت﴾ أي كلها كينونة كأنها جبلة لها ﴿أبواباً﴾ أي كثيرة جداً لكثرة الشقوق الكبيرة بحيث صارت كأنها لا حقيقة لها إلا الأبواب.
ولما ذكر السقف، ذكر أقرب الأرض إليه وأشدها، فقال على طريقة كلام القادرين أيضاً: ﴿وسيرت﴾ أي حملت بأيسر أمر على السير ﴿الجبال﴾ على ما تعلمون من صلابتها وصعوبتها في الهواء كأنها الهباء المنثور، وعلى ذلك دل قوله: ﴿فكانت﴾ أي كينونة راسخة ﴿سراباً *﴾ أي لا نرى فيها إلا خيالاً يتراءى وهي سائرة تمر مر السحاب ثم تخفى لتناثر أجزائها كالهباء - يا لها من عظمة تجب لها القلوب وتتعاظم الكروب.
ولما كان درء المفاسد أولى من جلب المصالح، قدم ذكر المخوف فقال: ﴿للطاغين﴾ أي المجاوزين لحدود الله ﴿مآباً *﴾ أي مرجعاً ومأوى بعد أن كان الله ذرأهم لها فكأنهم كانوا فيها ثم هيأهم للخروج منها والبعد عنها بفطرهم الأولى، ثم بما أنزل الله من الكتب وأرسل من الرسل فكأنه بذلك أخرجهم منها، ثم رجعوا إليها بما أحدثوا من التكذيب.
ولما كان المسكن لا يصلح إلا بالاعتدال والماء الذي هو حياة كل شيء، قال ذاكراً حال هذا اللبث: ﴿لا يذوقون﴾ أي ساعة ما فكيف بما فوق الذوق ﴿فيها﴾ أي النار خاصة، وكأنه أشار بتقديمه إلى أنهم يذوقون في دار أخرى الزمهرير ﴿برداً﴾ أي روحاً وراحة لنفعهم من الحر أو مطلق البرد ﴿ولا شراباً *﴾ من ماء أو غيره يغنيهم من العطش
ولما حكم عليهم بهذا العذاب الذي لا يطاق، ذكر حكمته فقال إنه جزاهم بذلك ﴿جزاء وفاقاً *﴾ أي ذا وفاق لأعمالهم لأنهم كانوا يأخذون أموال الناس فيحرقون صدورهم عليها ويبردون بها الشراب ويصفونه ويبخرونه، فهم يحرقون الآن بعصارة غيرهم المنتنة، وكأنهم بعد الأحقاب - إن جعلت منقضية - يبدلون عذاباً غير الحميم والغساق، ثم علل عذابهم بقوله، مؤكداً تنبيهاً على أن الحساب من الوضوح بحالة يصدق به كل أحد، فلا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به فلا يجوزه فقال: ﴿إنهم كانوا﴾ أي بما هو لهم كالجبلة التي لا تقبل غير ذلك فهم يفسدون القوى العلمية بأنهم ﴿لا يرجون﴾ أي في حال من الأحوال ولو رأوا كل آية ﴿حساباً *﴾ فهم لا يعملون بغير الشهوات،
ولما دل انتفاء رجائهم على تكذيبهم المفسد للقوة العلمية، صرح به على وجه أعم فقال: ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة الدالة أنها من عندنا ﴿كذاباً *﴾ أي تكذيباً هو في غاية المبالغة بحيث لو سمعوا أكذب الكذب ما كذبوا به كما كذبوا بها، فكان تجريعهم لما لا يصح أن يشربه أحد - وإن جرع منه شيئاً مات في الحال من غير موت - لهم جزاء على تكذيبهم بالحوارق التي يجرعون بها الصادقين أنواع الحرق، وقرىء بالتخفيف للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم.
ولما ذكر عذابه ووجه موافقته لجزائهم، سبب عن تكذيبهم ما يقال لهم بلسان الحال أو المقال إهانة وزيادة في الجزاء على طريق الالتفات المؤذن بشدة الخزي والغضب عليهم وكمال القدرة له سبحانه وتعالى فقال: ويجوز أن يكون سبباً عن مقدر بعد «كتاباً» نحو: ليجازيهم على كل شيء منه، قائلاً لهم على لسان الملائكة أو لسان الحال: ﴿فذوقوا﴾ أي من هذا العذاب في هذا الحال بسبب تكذيبكم بالحساب، وأكد ذوقهم في الاستقبال فقال: ﴿فلن نزيدكم﴾ أي شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات ﴿إلا عذاباً *﴾ فإن داركم ليس بها إلا الجحيم كما أن الجنة ليس بها إلا النعيم، فأفهم هذا أن حصول شيء لهم غير العذاب محال.
ولما ذكر المساكن النزهة المؤنقة المعجبة، ذكر ما يتمتع به وهو جامع لألذاذ الحواس: البصر واللمس والذوق فقال: ﴿وكواعب﴾ أي نساء كعبت ثديهن ﴿أتراباً *﴾ أي على سن واحد من مس جلد واحد التراب قبل الأخرى، بل لو كن مولودات لكانت ولادتهن في آن واحد.
ولما كانت العادة جارية بأن الشراب الجيد يكون قليلاً، دل على كثرته دليلاً على جودته بقوله: ﴿دهاقاً *﴾ أي ممتلئة.
ولما كانت مجالس الخمر في الدنيا ممتلئة بما ينغصها من اللغو والكذب إلا عند من لا مروءة له فلا ينغصه القبيح، قال نافياً عنها ما يكدر لذة السمع: ﴿لا يسمعون فيها﴾ أي الجنة في وقت ما ﴿لغواً﴾ أي لغطاً يستحق أن يلغى لأنه ليس له معنىً أعم من أن يكون مهملاً ليس له معنى أصلاً، أو مستعملاً ليس له معنىً موجود في الخارج وإن قل، أو له معنى ولكنه لا يترتب به كبير فائدة. ولما انتفى الكذب بهذه الطريقة، وكان التكذيب أذى للمكذب، نفاه بقوله: ﴿ولا كذباً *﴾ فإن هذه الصيغة تقال على التكذيب ومطلق الكذب، فصار المعنى: ولا أذىً بمعارضة في القول، مع موافقة قراءة الكسائي بالتخفيف فإن معناها كذباً أو مكاذبة، وشدد في قراءة الجماعة لرشاقة اللفظ وموازنة «أعناباً وأتراباً» مع الإصابة لحلق المعنى من غير أدنى جور عن القصد ولا تكلف بوجه ما.
ولما ذكر سبحانه سعة فضله، وصف نفسه الأقدس بما يدل على عظمته زيادة في شرف المخاطب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن عظمة العبد على حسب عظمة السيد، فقال مبدلاً على قراءة الجماعة وقاطعاً بالرفع على المدح عند الحجازيين وأبي عمرو: ﴿رب السماوات والأرض﴾ أي مبدعهما ومدبرهما ومالكهما ﴿وما بينهما﴾ ملكاً وملكاً. ولما شمل
﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ [القدر: ٤] ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾ [الشورى: ٥٢] قاله ابن زيد ﴿والملائكة﴾ أي كلهم، ونبه بالاصطفاف على شدة الأمر فقال: ﴿صفاً *﴾ للقاء ما في ذلك اليوم من شدائد الأهوال ولحفظ الثقلين وهم في وسط دائرة صفهم من الموج والاضطراب لعظيم ما هم فيه، ثم زاد الأمر عظماً بذكر العامل في لا يوم فقال: ﴿لا يتكلمون﴾ أي من تقدم كلهم بأجمعهم فيه بكلمة واحدة مطلق كلام خطاباً كان أي في أمر عظيم أو لا، لا له سبحانه ولا لغيره أصلاً ولا أحد منهم، ويجوز أن يكون هذا حالاً لهؤلاء الخواص فيكون الضمير لهم فغيرهم بطريق الأولى ﴿إلا من أذن له﴾ أي في الكلام إذناً خاصاً ﴿الرحمن﴾ أي الملك الذي لا تكون نعمه على أحد من خلقه إلا منه ﴿وقال صواباً *﴾ فإن
ولما عظم ذلك اليوم بالسكوت خوفاً من ذي الجبروت ﴿وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً﴾ [طه: ١٠٨] أشار إليه بما يستحقه زيادة في عظمته فقال: ﴿ذلك﴾ أي المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلو منزلته ﴿اليوم الحق﴾ أي في اليومية لكونه ثابتاً في نفسه فلا بد من كونه ولا زوال له ثوبتاً لا مرية فيه لعاقل وثابتاً كل ما أثبته وباطلاً كل ما نفاه. ولما قرر من عظمته ما يعجز غيره عن أن يقرر مثله، وكان قد خلق القوى والقدر والفعل بالاختيار. فكان من حق كل عاقل تدرع ما ينجى منه، سبب عن ذلك تنبيهاً على الخلاص منه وحثاً عليه قوله: ﴿فمن شاء﴾ أي الاتخاذ من المكلفين الذين أذن لهم ﴿اتخذ﴾ أي بغاية جهده ﴿إلى ربه﴾ أي خالقه نفسه المحسن إليه أو رب ذلك اليوم باستعمال قواه التي أعطاه الله إياها في الأعمال الصالحة ﴿مآباً *﴾ أي مرجعاً هو المرجع مما يحصل له فيه الثواب بالإيمان والطاعة، فإن الله جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء
ولما قدم في هذه السورة من شرح هذا النبأ العظيم ما قدم من الحكم والمواعظ واللطائف والوعد والوعيد، لخصه في قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب: ﴿إنا﴾ على ما لنا من العظمة ﴿أنذرناكم﴾ أي أيها الأمة وخصوصاً العرب بما مضى من هذه السورة وغيرها ﴿عذاباً﴾ ولما كان لا بد من إتيانه وكونه سواء كان بالموت أو بالبعث، وكان كل ما تحقق إتيانه أقرب شيء قال: ﴿قريباً﴾.
ولما حذر منه، عين وقته مشدداً لتهويله فقال: ﴿يوم ينظر المرء﴾ أي جنسه الصالح منه والطالح نظراً لامرية فيه ﴿ما﴾ أي الذي ﴿قدمت يداه﴾ أي كسبه في الدنيا من خير وشر، وعبر بهما لأنهما محل القدرة فكنى بهما عنها مع أن أكثر ما يعمل كائن بهما مستقلتين به أو مشاركتين فيه خيراً كان أو شراً. ولما كان التقدير: فيقول المؤمن: يا ليتني قمت قبل هذا، عطف عليه قوله: ﴿ويقول الكافر﴾ أي العريق في الكفر عندما يرى من تلك الأهوال متمنياً محالاً: ﴿يا ليتني كنت﴾ أي كوناً لا بد منه ولا يزول ﴿تراباً *﴾ أي في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أعذب، والمراد به الجنس أو إبليس الذي تكبر
ونسمة الساهرة والطامة.
مقصودها بيان أواخر أمر الإنسان بالإقسام على بعث الأنام، ووقوع القيام يوم الزحام وزلل الأقدام، بعد البيان التام فيما مضى من هذه السور العظام، تنبيها على أنه وصل الأمر في الظهور إلى مقام ليس بعده مقام، وصور ذلك بنزع الأرواح بأيدي الملائكة الكرام، ثم أمر فرعون اللعين وموسى عليه السلام، واسمها النازعات واضح في ذلك المرام، إذا تؤمل القسم وجوابه المعلوم للأئمة الأعلام، وكذا الساهرة والطامة إذا تؤمل السياق، وحصل التدبير في تقرير الوفاق) بسم الله (الظاهر الباطن الملك العلام) الرحمن (الذيي عم بالإنعام) الرحيم (الذي خص أهل ولايته بالتمام، فاختصوا بالإكرام في دار السلام.