تفسير سورة النبأ

روح البيان
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب روح البيان المعروف بـروح البيان .
لمؤلفه إسماعيل حقي . المتوفي سنة 1127 هـ

الجزء الثلاثون من اجزاء الثلاثين
تفسير سورة النبأ
أربعون او احدى وأربعون آية مكية بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ أصله عن ما أدغمت النون فى الميم لاشتراكهما فى الغنة فصار عما ثم حذفت الالف كما فى لم وبم وفيم والى م وعلى م فانها فى الأصل لما وبما وفيما والى ما وعلى ما اما فرقا بين الاستفهامية وغيرها او قصدا للخفة لكثرة استعمالها وقد جاءت فى العشر غير محذوفة كما ذكره ابو البقاء وما فيها من الإبهام للايذان بفخامة شأن المسئول عنه وهو له وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة كأنه خفى جنسه فيسأل عنه فالاستفهام ليس على حقيقته بل لمجرد التفخيم فان المسئول عنه ليس بمجهول بالنسبة الى الله تعالى إذ لا يخفى عليه خافية والمعنى عن اى شىء عظيم يَتَساءَلُونَ اى اهل مكة وكانوا يتساءلون عن البعث والحشر الجسماني ويتحدثون فيما بينهم ويخوضون فيه إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه فان ماوان وضعت لطلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها كما فى قولك ما الملك وما الروح لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال عالم او طبيب عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ النبأ الخبر الذي له شأن وخطر وهو جواب وبيان لشأن المسئول عنه كأنه قيل عن اى شىء ينساءلون هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم الخارج عن دائرة علوم الخلق يتساءلون على منهاج قوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار والفائدة فى أن يذكر السؤال ثم أن يذكر الجواب معه ان هذا الأسلوب اقرب الى التفهيم والإيضاح فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه أن يقدر بعدها مسارعة الى البيان ومراعاة لترتيب السؤال فان الجار فيه مقدم على متعلقه وقيل عن النبأ العظيم استفهام آخر بمعنى أعن النبأ العظيم أم عن غيره الا انه حذف منه حرف الاستفهام لدلالة المذكور عليه ونظيره قوله تعالى أفإن مت فهم الخالدون اى أفهم الخالدون الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ وصف للنبأ بعد وصفه بالعظيم تأكيدا لخطره اثر تأكيد واشعارا بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بمختلفون قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات اى هم راسخون فى الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول ان هى الا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا الا الدهر وما نحن بمبعوثين ومن مقر بزعم ان آلهته تشفع له كما قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله ومن شاك يقول ما ندرى ما الساعة أن نظن الا ظنا وما نحن بمستيقنين وفيه اشارة الى القيامة الكبرى وهى البقاء بعد الفناء او بعث القلب
بعد موت النفس فالروح وقواه تقربها والنفس وصفاتها تنكرها لانها جاهلة فضلا عن كونها ذائقة ومن لم يذق لم يعرف (قال الكمال الخجندي)
زاهد تعجب كر كند از عشق تو پرهيز كين لذت اين باده چهـ داند كه نخوردست
فطوبى للذائقين ويا حسرة للمحرومين كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع كما يستفاد من كلا ووعيد كما يستفاد من سيعلمون اى ليس امر البعث مما ينكر او يشك فيه بحيث يتساءل عنه سيعلمون ان ما يتساءلون عنه حق لا دافع له واقع لا ريب فيه مقطوع لا شك فيه ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تكرير للردع والوعيد للمبالغة فى التأكيد والتشديد وثم للدلالة على ان الوعيد الثاني ابلغ وأشد يعنى ان ثم موضوعة للتراخى الزمانى وقد تستعمل مجازا فى التراخي الرتبى اى لتباعد ما بين المعطوفين فى الشدة والفظاعة وذلك لتشبيه التباعد الرتبى بالتراخي الزمانى فى الاشتمال على مطلق التباعد بين الامرين والمعنى المجازى هو المراد هنا لان المقام مقام التشديد والتهديد وذلك انما يكون آكد بالحمل عليه وبعضهم حملها على معناها الحقيقي فقال سيعلمون حقيته عند النزع ثم فى يوم القيامة ولا شك ان القيامة متراخية بحسب الزمان عن وقت النزع او سيعلمون حقية البعث حين ان يبعثوا من قبورهم ثم حقية الجزاء بحسب العمل هذا وقد حمل اختلافهم فيه على مخالفتهم للنبى عليه السلام بأن يعتبر فى الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد لا على مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين لان الكل وان استحق الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية فى شىء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته له عليه السلام فكلا ردع لهم عن التساؤل والاختلاف بالمعنيين المذكورين وسيعلمون وعيد لهم بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد وليس مفعوله ما ينبئ عنه المقام من وقوع ما يتساه لون عنه ووقوع ما يختلفون فيه بل هو عبارة عما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائها بالعلم لوقوعه فى معرض التساؤل والاختلاف والمعنى ليرتدهوا عما هم عليه فانهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إلخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ والمتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته اثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع والوعيد ومن هنا اتضح ان المتساءل عنه هو البعث لا القرآن او نبوة النبي عليه السلام كما قيل والهمزة للتقرير والمهاد البساط والفراش وفى بعض الآيات جعل لكم الأرض فراشا قال ابن الشيخ المهاد مصدر ماهدت بمعنى مهدت كسافرت بمعنى سفرت اطلق على الأرض الممهودة اى ألم نجعل الأرض بساطا ممهودا تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه وبالفارسية آيا نساخته ايم زمين را فراشى كسترده تا قراركاه شما بود وجاى تقلب.
ومهادا مفعول ثان لجعل ان كان الجعل بمعنى التصيير وحال مقدرة ان كان بمعنى الخلق وجوز ان يكون جمع مهد ككعاب وكعب وجمعه لاختلاف أماكن الأرض من القرى والبلاد وغيرها او للتصرف فيها بأن جعل بعضها مزارع وبعضها مساكن الى غير ذلك وقرئ مهدا على تشبيهها بمهد الصبى وهو ما يمهدله فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدر وَالْجِبالَ أَوْتاداً
الرطوبة سُباتاً موتا اى كالموت والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لانه مقطوع عن الحركة ومنه سمى يوم السبت لان الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد فخلقها فى ستة ايام فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك وايضا هو يوم ينقطع فيه بنو إسرائيل عن العمل والنوم أحد التوفيين كما قال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت فى منامها اى ويتوفى التي لم تمت فى منامها وذلك لما بينهما من المشاركة التامة فى انقطاع احكام الحياة فالتنوين للنوعية اى وجعلنا نومكم نوعا من الموت وهو الموت الذي ينقطع ولا يدوم إذ لا ينقطع ضوء الروح الا عن ظاهر البدن وبهذا الاعتبار قيل له أخو الموت والنوم بمقدار الحاجة نعمة جليلة وقيل سباتا اى قطعا عن الاحساس والحركة لاراحة القوى الحيوانية وازاحة كلالها والاول هو اللائق بالمقام كما ستعرفه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ الذي يقع فيه النوم لِباساً يقال لبس الثوب استتر به وجعل اللباس لكل ما يغطى الإنسان عن قبيح فجعل الزوج لزوجها لباسا من حيث انها تمنعه وتصده عن تعاطى قبيح وكذا البعل وايضا من حيث الاشتمال قال تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن وجعل التقوى لباسا على طريق التمثيل والتشبيه وكذا جعل الخوف والجوع لباسا على التمثيل والتشبيه تصويرا له وذلك بحسب ما يقولون تدرع فلان الفقر ولبس الجوع والمعنى لباسا يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فان شبه الليل به أكمل واعتباره فى تحقيق المقصد أدخل صاحب فتوحات آورده شب لباس اصحاب ليل است كه ايشانرا از نظر اغيار بپوشاند تا در خلوت خود لذت مكالمه يا محاضره يا مشاهده هر يك فراخور استعداد خود برخوردارى يابند حضرت شيخ الإسلام قدس شره فرموده كه شب پرده روندكان را هست روز بازار بيداران سحركاه
الليل للعاشقين ستر... يا ليت أوقاته تدوم
چون در دل شب خيال او يار منست... من بنده شب كه روز بازار منست
فهو تعالى جعل الليل محلا للنوم الذي جعل موتا كما جعل النهار محلا لليقظة المعبر عنها بالحياة فى قوله تعالى وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً اى وقت عيش اى حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت كما فى قوله تعالى وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ولم يقل وجعل يقظتكم حياة لتتم المطابقة بينه وبين قوله وجعلنا نومكم سباتا بل عبر عن اليقظة بالنهار لكونه مستلزما لها غالبا ولمراعاة مطابقة وجعلنا الليل ومنه يعلم ان قوله وجعلنا الليل ليس مستطردا فى البين لذكر النوم فى القرينة الاولى فمعاش مصدر من عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشة وعيشة وعلى هذا لا بد من تقدير المضاف ولذا قدروا لفظ الوقت ويحتمل ان يكون اسم زمان على صيغة مفعل فلا حاجة حينئذ الى تقدير المضاف وتفسيره بوقت معاش إبراز لمعنى صيغة اسم الزمان وتفصيل لمفهومها وفى التأويلات النجمية ألم نجعل ارض البشرية مهد استراحتكم وانتشاركم فى انواع المنافع البشرية وجبال نفوسكم القاسية قوائم ارض البشرية وخلقناكم أزواجا زوج الروح وزوج النفس او ذكر القلب وأنثى النفس
ومن السماء مجاز باعتبار السببية والله مسبب الأسباب لِنُخْرِجَ بِهِ اى بذلك الماء اى بسبب وصوله الى الأرض واختلاطه بها وبما فيها وهذه اللام لام المصلحة لا لام الغرض كما تقول المعتزلة حَبًّا كثيرا يقتات به اى يكون قوتا للانسان وهو ما يقوم به بدنه كالحنظه والشعير ونحوهما وفى عين المعاني الحب اسم جنس يعنى به الجمع قال الراغب الحب والحبة يعنى بالفتح يقال فى الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات والحب والحبة يعنى بالكسر يقال فى بزور الرياحين وحبة القلب تشبيها بالحبة فى الهيئة وَنَباتاً كثيرا يعتلف به اى يكون علفا للحيوان كالتبن والحشيش كما قال تعالى كلوا وارعوا انعامكم وتقديم الحب مع تأخره عن النبات فى الإخراج لاصالته وشرفه لان غالبه غذآء الناس ويقال لنخرج به لؤلؤا وعشبا قال عكرمة ما انزل الله قطرة الا أنبت بها عشبة فى الأرض او لؤلؤة فى البحر انتهى وهو مخالف للمشهور من ان اللؤلؤ لا يتكون من كل مطر بل من المطر النازل فى نيسان الا ان يعمم اللؤلؤ الى الدر وغيره وَجَنَّاتٍ ليتفكه بها الإنسان والجنة فى الأصل هى السترة من مصدر جنه إذا ستره تطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه وعلى الأرض ذات الشجر قال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم والمراد هنا هو الأشجار لا الأرض أَلْفافاً اى ملتفة تداخل بعضها فى بعض وهذا من محسنات الجنان كما ترى فى بساتين الدنيا وبالفارسية درهم پيچيده يعنى بسيار وبيكديكر نزديك. قالوا لا واحد له كالاوزاع والاخياف الأوزاع بمعنى الجماعات المتفرقة كالاخياف فانه ايضا بمعنى الجماعات المتفرقة المختلطة ومنه الاخياف للاخوة من آباء شتى وأمهم واحدة او الواحد لف ككن وأكنان او لفيف كشريف واشراف وهو جمع لف جمع لفاء كخضر وخضرآء فيكون ألفافا جمع الجمع او جمع ملتفة بحذف الزوائد قال ابن الشيخ قدم ذا الحب لانه هو الأصل فى الغذاء وثنى بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات اليه وأخرت الجنات لانعدام الحاجة الضرورية الى الفواكه. واعلم ان فيما ذكر من أفعاله تعالى دلالة على صحة البعث وحقيته من وجوه ثلاثة الاول باعتبار قدرته تعالى فان من قدر على إنشاء هذه الافعال البديعة من غير مثال يحتذيه وقانون ينتحيه كان على الاعادة اقدر وأقوى والثاني باعتبار علمه وحكمته فان من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائق مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة الى الخلق يستحيل ان يفنيها بالكلية ولا يجعل لها عاقبة باقية والثالث باعتبار نفس الفعل فان اليقظة بعد لنوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهدونها كل يوم وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة يعاينونه كل حين كأنه قيل ألم تفعل هذه الافعال الآفاقية والانفسية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للايمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا ونتساءلون عنه استهزاء وفى التأويلات النجمية وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا اى من سموات الأرواح بتحريك نفحات الألطاف مياه العلوم الذاتية والحكم الربانية صبا صبا لتخرج به حبا ونباتا اى أنزلنا من سبحائب سموات أرواحكم على ارض قلوبكم ماء العلوم والحكم لتخرج به حب المحبة الذاتية ونبات الشوق والاشتياق والود والانزعاج والعشق وأمثالها وجنات
لا يسد هاشئ وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ المسير هو الله تعالى كما قال ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة اى وسيرت الجبال فى الجو بتسيير الله وتسخيره على هيئاتها بعد قلعها عن مقرها وبالفارسية ورانده شود كوهها در هوا. وذلك عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها ثم يفرقها فى الهولء وذلك قوله تعالى فَكانَتْ سَراباً السراب ما تراه نصف النهار كأنه ماء قال الراغب هو اللامع فى المفازة كالماء وذلك لانسرا به فى مرأى العين اى ذهابه وجريانه وكأن السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حقيقة اى فصارت بتسييرها مثل السراب اى شيأ كلا شىء لتفرق اجزائها وانبثات جواهرها كقوله تعالى وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا اى غبارا منتشرا وهى وان اندكت وانصدعت عند النفخة الاولى لكن تسييرها كالسحاب وتسوية الأرض انما يكونان بعد النفخة الثانية قيل أول احوال الجبال الاندكاك والانكسار كما قال تعالى وحملت الأرض والجبال فد كتادكة واحدة وحالتها الثانية أن تصير كالعهن المنفوش وحالتها الثالثة أن تصير كالهباء وذلك بأن تنقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن كما قال فكانت هباء منبثا وحالتها الرابعة أن تنسف وتقلع من أصولها لانها مع الأحوال المتقدمة غارة فى مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله فقل ينسفها ربى نسفا وحالتها الخامسة ان الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها فى الهولء كأنها غبار وهو المراد بقوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب اى تراها فى رأى العين ساكنة فى أماكنها والحال انها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا وذلك ان الاجرام إذا تحركت نحوا من الانحاء لا تكاد تتبين حركتها وان كانت فى غاية السرعة لا سيما من بعيد والحالة السادسة أن تصير سرابا يقول الفقير فيه اشارة الى ازالة انانية النفوس وتعيناتها فانها عند القيامة الكبرى التي هى عبارة عن الفناء فى الله تصير سرابا حتى إذا جئتها لم تجدها شيأ ولكن العوام المحجوبون إذا رأوا اهل الفناء يأكلون مما يأكلون منه ويشربون مما يشربون منه يظنون ان نفوسهم باقية لبقاء نفوسهم لكنهم يظنون بهم الظن السوء إذ بينهم وبينهم بون بعيد قطعا وفاروق عظيم جدا لانهم أزالت رياح العناية والتوفيق جبال نفوسهم عن مقار أرض البشرية وجعلها الله متلاشية وفتحت سماء أرواحهم فكانت أبوابا كباب السر والخفي والأخفى فدخلوا من هذه الأبواب الى مقام او أدنى فكانوا مع الحق حيث كان الحق معهم ثم نزلوا من هذه الأبواب العالية الحقيقية الناظرة الى عالم الولاية فدخلوا فى أبواب العقل والقلب والمتخيلة والمفكرة والحافظة والذاكرة فكانوا فى مقام قاب قوسين مع الخلق حيث كان الخلق معهم فلم يحتجبوا بالخلق عن الحق الذي وهو جانب الولاية ولا بالحق عن الخلق الذي هو جانب النبوة فكانوا فى الظاهر مصداق قوله تعالى يوحى الى فأين المحجوبون عن مقامهم وانى لهم ادراك شأنهم وحقيقة أمرهم إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً اى انها كانت فى حكم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه ويرقب خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها فالمرصاد اسم للمكان الذي ير صدفيه كالنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه اى بسلك قال الراغب المرصاد موضع الرصد
لا يحسونه ولا يرونه ولا يتألمون به سرمدا لكن ليس ذلك الا بعد انقطاع حراق النار بواطنهم وظواهرهم بمرور الاحقاب وكل منهم تحرقه النار ألف سنة من سنى الآخرة لشرك يوم واحد من ايام الدنيا والظاهر عليهم بعد مرور الاحقاب هو الحال الذي يدوم عليهم أبدا وهو الحال الذي كانوا عليه فى الأزل وما بينهما ابتلاءات رحمانية والابتلاء حادث قال تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون عصمنا الله وإياكم من دار البوار انتهى فهذه كلمات القوم فى هذه الآية ولا حرج فى نقلها ونحن لا نشك فى خلود الكفار وعذابهم أبدا فان كان لهم العذاب عذابا بعد مرور الاحقاب فقد بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون كما ان المعتزلي يقطع فى الدنيا بوجوب العذاب لغير التائب ثم قد يبدو له فى الآخرة ما لم يكن يحتسبه من العفو وسئل الشيخ الامام مفتى الامام عز الدين ابن عبد السلام بعد موته فى منام رآه السائل ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يهدى من قراءة القرآن للموتى فقال هيهات وجدت الأمر بخلاف ما كنت أظن قالوا خلود اهل النار من الكفار لا معارض له فبقى على عمومه وخلود أهل الكبائر له معارض فيحمل على المكث الطويل فاهل الظاهر والباطن متفقون على خلود الكفار سوآء كانوا فرعون وهامان ونمرودا وغيرهم وانما اختلفوا فى ارتفاع العذاب عن ظواهرهم بعد مرور الاحقاب وكل تأول بمبلغ علمه والنص أحق ان يتبع قال حجة الإسلام الكفرة ثلاث فرق منهم من بلغه اسم تبينا عليه السلام وصفته ودعوته كالمجاورين فى دار الإسلام فهم الخالدون لا عذر لهم ومنهم من بلغه الاسم دون الصفة وسمع ان كذابا مسلما اسمه محمد ادعى النبوة ومنهم من لم يبلغه اسمه ولا رسمه وكل من هاتين الفرقتين معذور فى الكفر ونقل مثله عن الأشعري كذا فى شرح العقائد لمصلح الدين وقال المولى داود القيصري فى شرح الفصوص الوعيد هو العذاب الذي يتعلق بالاسم المنتقم وتظهر أحكامه فى خمس طوائف لا غير لان اهل النار اما مشرك أو كافر او منافق او عاص من المؤمنين وهو ينقسم الى الموحد العارف الغير العامل والمحجوب وعند تسلط سلطان المنتقم عليهم يتعذبون بنيران الجحيم وانواع العذاب غير مخلدة على اهله لانقطاعه بشفاعة الشافعين وآخر من يشفع وهو أرحم الراحمين جَزاءً وِفاقاً اى جوروا بذلك جزاء وفاقا لاعمالهم واخلاقهم كأنه نفس الوفاق مبالغة او ذا وفاق لها على حذف المضاف او وافقها وفاقا فيكون وفاقا مصدرا مؤكدا لفعله كجزآء والجملة صفة لجزآء وجه الموافقة بينهما انهم أتوا بمعصية عظيمة وهى الكفر فعوقبوا عقابا عظيما وهو التعذيب بالنار فكما انه لا ذنب أعظم من الشرك فكذا الاجزاء أقوى من التعذيب بالنار وجزاء سيئة سيئة مثلها فتوافقا وقيل كان وفاقا حيث لم يزد على قدر الاستحقاق ولم ينقص عنه قال سعدى المفتى اعلم ان الكفار لما كان من نيتهم الاستمرار على الكفر كما سيشير اليه قوله تعالى انهم كانوا لا يرجون حسابا إذ معناه انهم كانوا مستمرين على الكفر مع عدم توقع الحساب فوافقه عدم تناهى العذاب واللبث فيها أحقابا بعد احقاب ولما كانوا مبدلين التصديق الذي
أحصيناه أحصاه وكتبناه كتابا او هو اى كتابا حال بمعنى مكتوبا فى اللوح وفى صحف الحفظة والجملة اعتراض لتوكيد كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات بانهما محفوظان للمجازاة قال القاشاني وكل شىء من صور أعمالهم وهيئات عقائدهم ضبطناه ضبطا بالكتابة عليهم فى صحائف نفوسهم وصحائف النفوس السماوية فَذُوقُوا پس بچشيد عذاب دوزخ فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فوق عذابكم والفاء فى فذوقوا جزائيه دالة على ان الأمر بالذوق مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ومعلل به فيكون وكل شىء إلخ جملة معترضة بين السبب ومسببه تؤكد كل واحد من الطرفين لانه كما يدل على كون معاصيهم مضبوطة مكتوبة يدل على ان ما يتفرع عليها من العذاب كائن لا محالة مقدر على حسب استحقاقهم به وفى الالتفات المنبئ عن التشديد فى التهديد وإيراد لن المفيدة لكون ترك الزيادة من قبيل ما لا يدخل تحت الصحة من الدلالة على تبالغ الغضب ما لا يخفى وقد روى عن النبي عليه السلام ان هذه الآية أشد ما فى القرآن على اهل النار اى لان فيها الإياس من الخروج فكلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه فتكون كل مرتبة منه متناهية فى الشدة وان كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وهذا لا يخالف قوله تعالى ولا يكلمهم الله لان المراد بالمنفي التكلم باللطف والإكرام لا بالقهر والجلال فان قيل هذه الزيادة ان كانت غير مستحقة كانت ظلما وان كانت مستحقة كان تركها فى أول الأمر إحسانا والكريم لا يليق به الرجوع فى إحسانه فالجواب انها مستحقة ودوامها زيادة لثقل العذاب وايضا ترك المستحق فى بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والاسقاط حتى يكون إيقاعه بعده رجوعا فى الإحسان وايضا كانوا يزيدون كفرهم وتكذيبهم واذيتهم للرسول عليه السلام وأصحابه رضى الله عنهم فيزيد الله عذابهم لزيادة الاستحقاق فلا ظلم فان قيل قوله فذوقوا إلخ تكرار لانه ذكر سابقا انهم لا يذوقون إلخ قلنا انه تكرار لزيادة المبالغة فى تقرير الدعوى وهو كون العقاب جزاء وفاقا إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً شروع فى بيان محاسن احوال المؤمنين اثر بيان سوء احوال الكفرة على ما هو العادة القرآنية ووجه تقديم بيان حالهم غنى عن البيان اى ان للذين يتقون الكفر وسائر القبائح من اعمال الكفرة فوزا وظفرا بمباغيهم دل على هذا المعنى تفسيره بما بعده بقوله حدائق إلخ او موضع فوز فالمفاز على الاول مصدر ميمى وعلى الثاني اسم مكان فان قيل الخلاص من الهلاك أهم من الظفر باللذات فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم قلنا لان الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز بالنعيم لكونه حاصلا لاصحاب الأعراف مع انهم غير فائزين بالنعيم بخلاف الفوز بالنعيم فانه يستلزم الخلاص من هلاك فكان ذكره اولى حَدائِقَ وَأَعْناباً اى بساتين فيها انواع الأشجار المثمرة وكروما وهو تخصيص بعد التعميم لفضلها قوله حدائق بدل من مفازا بدل الاشتمال ان كان مصدرا ميميا لان الفوز يدل عليه دلالة التزامية او البعض ان جعل مكانا جمع حديقة وهى الروضة ذات الأشجار ويقال الحديقة كل بستان عليه حائط أي جدار وفيه من النخل والثمار وفى المفردات الحديقة قطعة من الأرض ذات
منه وسيلة اليه حِساباً صفة لعطاء بمعنى كافيا على انه مصدر أقيم مقام الوصف اى محسبا وقيل على حسب أعمالهم بأن يجازى كل عمل بما وعد له من الأضعاف من عشرة وسبعمائة وغير حساب فما وعده الله من المضاعفة داخل فى الحسب اى المقدار لان الحسب بفتح السين وسكونها بمعنى القدر والتقدير على هذا عطاء بحساب فحذف الجار ونصب الاسم قال بعض اهل المعرفة إذا كان الجزاء من الله لا يكون له نهاية لانه لا يكون على حد الأعواض بل يكون فوق الحد لانه ممن لا حد له ولا نهاية فعطاؤه لا حد له ولا نهاية وقال بعضهم العطاء من الله موضع الفضل لا موضع الجزاء فالجزآء على الأعمال والفضل موهبة من الله يختص به الخواص من اهل وداده وفى التأويلات النجمية ان للمتقين الذين يتقون عن نفوسهم المظلمة المدلهمة بالله وصفاته وأسمائه مفازا اى فوز ذات الله وصفاته حدائق روضات القلوب المنزهة الارضية وأعنابا أشجار المعاني والحقائق المثمرة عنب خمر المحبة الذاتية الخامرة عين العقل عن شهود الغير والغيرية وكواعب اترابا أبكارا اللطائف والمعارف وكأسا دهاقا مملوءة من شراب المحبة وخمر المعرفة لا يسمعون فيها لغوا من الهواجس النفسانية ولا كذابا من الوساوس الشيطانية جزاء من ربك عطاء حسابا اى فضلا تاما كافيا من غير عمل وقال القاشاني ان للمتقين المقابلين للطاغين المتعدين فى أفعالهم حد العدالة مما عينه الشرع والعقل وهم المتنزلون عن الرذائل وهيئات السوء من الافعال مفازا فوزا ونجاة من النار التي هى مآب الطاغين حدائق من جنان الأخلاق وأعنابا من ثمرات الافعال وهيئاتها وكواعب من صور آثار الأسماء فى جنة الافعال اترابا متساوية فى الترتيب وكأسا من لذة محبة الآثار مترعة ممزوجة بالزنجبيل والكافور لان اهل جنة الآثار والافعال لا مطمح لهم الى ماوراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطى عطاء حسابا كافيا يكفيهم بحسب هممهم ومطامح أبصارهم لانهم لقصور استعداداتهم لا يشتاقون الى ما ورلء ذلك فلا شىء ألذ لهم بحسب اذواقهم مما هم فيه رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا بدل من ربك والمراد رب كل شىء وخالقه ومالكه الرَّحْمنِ مفيض الخير والجود على كل موجود بحسب حكمته وبقدر استعداد المرحوم وهو بالجر صفة للرب وقيل صفة للاول وأياما كان ففى ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة اشعار بمدار الجزاء المذكور قال القاشاني اى ربهم المعطى إياهم ذلك العطاء هو الرحمن لان عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة فمشربهم من اسم الرحمن دون غيره وفى التأويلات النجمية رب سموات الأرواح وارض النفوس وما بينهما من السر والقلب وأقواهما الروحانية هو الرحمن اى الموصوف بجميع الأسماء والصفات الجمالية والجلالية لوقوعه بين الله الجامع وبين الرحيم فله وجه الى الالوهية المشتملة على القهر وله ايضا وجه الى الرحيم الجمالي المحض لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً استئناف مقرر لما افادته الربوبية العامة من غاية العظمة والكبرياء واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لاحد قدرة عليه وضمير لا يملكون لاهل السموات والأرض ومن فى منه صلة للتأكيد على طريقة قولهم بعت منك
Icon