تفسير سورة النبأ

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ﴿ سورة النبإ ﴾ لوقوع كلمة ﴿ النبأ ﴾ في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي صحيح البخاري وفي تفسير ابن عطية والكشاف ﴿ سورة عم يتساءلون ﴾. وفي تفسير القرطبي سماها ﴿ سورة عم ﴾، أي بدون زيادة ﴿ يتساءلون ﴾ تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى ﴿ سورة التساؤل ﴾ لوقوع ﴿ يتساءلون ﴾ في أولها. وتسمى ﴿ سورة المعصرات ﴾ لقوله تعالى فيها ﴿ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ﴾. فهذه خمسة أسماء. واقتصر الإتقان على أربعة أسماء : عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات.
وفي ما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت ﴿ عم يتساءلون ﴾.
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله ﴿ عم يتساءلون عن النبأ العظيم ﴾ يعني الخبر العظيم.
وعد آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين. وعدها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومع ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وتهديدهم على استهزائهم.
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.

أغراضها اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى وَصْفِ خَوْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَسُؤَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنِ الرَّأْيِ فِي وُقُوعِهِ مُسْتَهْزِئِينَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِهِ.
وَتَهْدِيدُهُمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ.
وَفِيهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ لِلْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ.
وَوَصْفُ الْأَهْوَالِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ مِنْ عَذَابِ الطَّاغِينَ مَعَ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَصِفَةُ يَوْمِ الْحَشْرِ إِنْذَارًا لِلَّذِينَ جَحَدُوا بِهِ وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ أَعمال النَّاس.
[١- ٣]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَسَاؤُلِ جَمَاعَةٍ عَنْ نَبَأٍ عَظِيمٍ، افْتِتَاحُ تَشْوِيقٍ ثُمَّ تَهْوِيلٍ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنَ الْفَوَاتِحِ الْبَدِيعَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ أُسْلُوبٍ عَزِيزٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ وَمِنْ تَشْوِيقٍ بِطَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ الْمُحَصِّلَةِ لِتَمَكُّنِ الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أكمل تمكن.
وَإِذ كَانَ هَذَا الِافْتِتَاحُ مُؤْذِنًا بِعَظِيمِ أَمْرٍ كَانَ مُؤْذِنًا بِالتَّصَدِّي لِقَوْلٍ فَصْلٍ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِأَهَمِّ مَا فِيهِ خَوْضُهُمْ يَوْمَئِذٍ يُجْعَلُ افْتِتَاحَ الْكَلَامِ بِهِ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ.
6
وَلَفْظُ عَمَّ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا حَرْفُ (عَنْ) الْجَارُّ وَ (مَا) الَّتِي هِيَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى: أَيُّ وَيَتَعَلَّقُ عَمَّ بِفِعْلِ يَتَساءَلُونَ فَهَذَا مُرَكَّبٌ. وَأَصْلُ تَرْتِيبِهِ: يَتَسَاءَلُونَ عَنْ مَا، فَقُدِّمَ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْمُسْتَفْهَمِ بِهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ
اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ مُقْتَرِنًا بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ الْفِعْلُ إِلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَكَانَ الْحَرْفُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ مَجْرُورِهِ قُدِّمَا مَعًا فَصَارَ عَمَّا يَتَسَاءَلُونَ.
وَقَدْ جَرَى الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ عَلَى أَنَّ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ يُحْذَفُ الْأَلِفُ الْمَخْتُومَةُ هِيَ بِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ (مَا) الْمَوْصُولَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى اسْتِعْمَالُ نُطْقِهِمْ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ جَرَوْا عَلَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ فِي النُّطْقِ فَكَتَبُوا (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةَ بِدُونِ أَلِفٍ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النازعات: ٤٣] فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحجر: ٥٤] لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣] عَمَّ يَتَساءَلُونَ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٥] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْهَا أَحَدٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ إِلَّا فِي الشَّاذِّ.
وَلَمَّا بَقِيَتْ كَلِمَةُ (مَا) بَعْدَ حَذْفِ أَلِفِهَا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ جَرَوْا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّ مِيمَهَا الْبَاقِيَةَ تُكْتَبُ مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ (عَنْ) لِأَنَّ (مَا) لَمَّا حُذِفَ أَلِفُهَا بَقِيَتْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ حُرُوفَ التَّهَجِّي، فَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ الَّذِي قَبْلَ (مَا) مَخْتُومًا بِنُونٍ وَالْتَقَتِ النُّونُ مَعَ مِيمِ (مَا)، وَالْعَرَبُ يَنْطِقُونَ بِالنُّونِ السَّاكِنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِيمٌ مِيمًا وَيُدْغِمُونَهَا فِيهَا، فَلَمَّا حُذِفَتِ النُّونُ فِي النُّطْقِ جَرَى رَسْمُهُمْ عَلَى كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفَةَ النُّونِ تَبَعًا لِلنُّطْقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّ خُلِقَ وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَسَنٌ.
وَالتَّسَاؤُلُ: تَفَاعُلٌ وَحَقِيقَةُ صِيغَةِ التَّفَاعُلِ تُفِيدُ صُدُورَ مَعْنَى الْمَادَّةِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا مِنَ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَصُدُورَ مِثْلِهِ مِنَ الْمَفْعُولِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَتَرِدُ كَثِيرًا لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ وُقُوعِ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: سَاءَلَ، بِمَعْنَى: سَأَلَ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أُسَائِلُ عَنْ سُعْدَى وَقَدْ مَرَّ بَعْدَنَا عَلَى عَرَصَاتِ الدَّارِ سَبْعٌ كَوَامِلُ
وَقَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ:
7
وَتَجِيءُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنَ الْفَاعِلِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَذَلِكَ إِمَّا كِنَايَةٌ أَوْ مَجَازٌ وَمَحْمَلُهُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ وَذَلِكَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مَعَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، أَوْ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَكِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ صَحِيحٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا بِأَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُؤَالَ مُتَطَلِّعٍ لِلْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَمْ يَزَالُوا فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ مَا أُنْبِئُوا بِهِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى الْإِنْكَارِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمَجَازِ الصُّورِيِّ يَتَظَاهَرُونَ بِالسُّؤَالِ وَهُمْ مُوقِنُونَ بِانْتِفَاءِ وُقُوعِ مَا يَتَسَاءَلُونَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ (يَحْذَرُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ [التَّوْبَة: ٦٤] فَيَكُونُونَ قَصَدُوا بِالسُّؤَالِ الِاسْتِهْزَاءَ.
وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فَرِيقَيْنِ فِي كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ يُرَجِّحُ كُلُّ فَرِيقٍ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى كِلْتَيْهِمَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي التَّكْذِيبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ كَانَتْ قُرَيْشٌ يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَمِنْهُمْ مُصَدِّقٌ وَمِنْهُمْ مُكَذِّبٌ».
وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: هُوَ سُؤَالُ اسْتِهْزَاءٍ أَوْ تَعَجُّبٍ وَإِنَّمَا هُمْ مُوقِنُونَ بِالتَّكْذِيبِ.
فَأَمَّا التَّسَاؤُلُ الْحَقِيقِيُّ فَأَنْ يَسْأَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ هَذَا النبأ فَيسْأَل الْمَسْئُول سَائِلَهُ سُؤَالًا عَنْ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ النَّبَأِ، إِذْ يَخْطُرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي ذَلِكَ خَاطِرٌ غَيْرُ الَّذِي خَطَرَ لِلْآخَرِ فَيَسْأَلُ سُؤَالَ مُسْتَثْبِتٍ، أَوْ سُؤَالَ كَشْفٍ عَنْ مُعْتَقَدِهِ، أَوْ مَا يُوصَفُ بِهِ الْمُخْبَرُ بِهَذَا النَّبَأِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨] وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّمْل: ٦٧، ٦٨].
وَأَمَّا التَّسَاؤُلُ الصُّورِيُّ فَأَنْ يَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ هَذَا الْخَبَرِ سُؤَالَ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: هَلْ بَلَغَكَ خَبَرُ الْبَعْثِ؟ وَيَقُولُ لَهُ الْآخَرُ: هَلْ سَمِعْتَ مَا
8
قَالَ؟ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّسَاؤُلِ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمِثْلِ تِلْكَ الْمُسَاءَلَةِ وَقَصْدُهُمْ مِنْهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بَلْ تَهَكُّمِيٌّ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَا فِي قَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ لَيْسَ اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّي الْخَبَرِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ [الشُّعَرَاء:
٢٢١].
وَالْمُوَجَّهُ إِلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَضَمِيرُ يَتَساءَلُونَ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ الْغَائِبِينَ مُرَادًا بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ مُتَكَرِّرٌ فِي الْقُرْآنِ فَصَارُوا مَعْرُوفِينَ بِالْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ ضَمَائِرِهِ، وَإِشَارَاتِهِ الْمُبْهَمَةِ، كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] (يَعْنِي الشَّمْسَ) كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [الْقِيَامَة: ٢٦] (يَعْنِي الرُّوحَ)، فَإِنْ جَعَلْتَ الْكَلَامَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ طَلَبِ الْفَهْمِ حَسُنَ تَعْقِيبُهُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ فَجَوَابه مستعملة بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ فَبُيِّنَ جَانِبُ التَّفْخِيمِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٢٢١، ٢٢٢]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُِِ
لِمَنِ الدَّارُ أَقْفَرَتْ بِمَعَانِ بَيْنَ أَعْلَى الْيَرْمُوكِ وَالصَّمَّانِ
ذَاكَ مَغْنَى لِآلِ جَفْنَة فِي الده ر وَحَقٌّ تَقَلُّبُ الْأَزْمَانِ
وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، قِيلَ: مُطْلَقًا فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ إِطْلَاق «الْقَامُوس» و «الصِّحَاح» و «اللِّسَان».
وَقَالَ الرَّاغِبُ: «النَّبَأُ الْخَبَرُ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ وَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَيَكُونَ صَادِقًا» اهـ. وَهَذَا فَرْقٌ حَسَنٌ وَلَا أَحْسَبُ الْبُلَغَاءَ جَرَوْا إِلَّا عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ الرَّاغِبُ فَلَا يُقَالُ لِلْخَبَرِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ: نَبَأٌ وَذَلِكَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَارِدُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النَّبَأِ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الَّذِينَ أَطْلَقُوا مُرَادَفَةَ النَّبَأِ لِلْخَبَرِ رَاعَوْا مَا يَقَعُ فِي بَعْضِ كَلَامِ النَّاسِ مِنْ
9
تَسَامُحٍ بِإِطْلَاقِ النَّبَأِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْخَبَرِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ كَثْرَةً عَسُرَ مَعَهَا تَحْدِيدُ مَوَاقِعِ الْكَلِمَتَيْنِ وَلَكِنَّ أَبْلَغَ الْكَلَامِ لَا يَلِيقُ تَخْرِيجُهُ إِلَّا عَلَى أَدَقِّ مَوَاقِعِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٤] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: ٦٧، ٦٨].
وَالْعَظِيمُ حَقِيقَتُهُ: كَبِيرُ الْجِسْمِ وَيُسْتَعَارُ لِلْأَمْرِ الْمُهِمِّ لِأَنَّ أَهَمِّيَّةَ الْمَعْنَى تُتَخَيَّلُ بِكِبَرِ الْجِسْمِ فِي أَنَّهَا تقع عِنْد مدركها كَمَرْأَى الْجِسْمِ الْكَبِيرِ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ.
وَوصف النَّبَإِ ب الْعَظِيمِ هُنَا زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ وَارِدًا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ زَادَهُ عِظَمَ أَوْصَافٍ وَأَهْوَالٍ، فَوُصِفَ النَّبَأُ بِالْعَظِيمِ بِاعْتِبَارِ مَا وُصِفَ فِيهِ مِنْ أَحْوَال الْبَعْث فِي مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ ص [٦٧، ٦٨].
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّبَإِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَشْمَلُ كُلَّ نَبَأٍ عَظِيمٍ أَنْبَأَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ،
وَأَوَّلُ ذَلِكَ إِنْبَاؤُهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ بَعْثِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ تَعْيِينِ نَبَأٍ خَاصٍّ يُحْمَلُ عَلَى التَّمْثِيلِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: هُوَ الْبَعْثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَسَوْقُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إِلَى قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: ١٦] يَدُلُّ دِلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الْإِنْبَاءُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَضَمِيرُ هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ.
وَاخْتِلَافُهُمْ فِي النَّبَأِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا يَصِفُونَهُ بِهِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا كَذِبٌ، وَبَعْضِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ، وَهُمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ فِي مَرَاتِبِ إِنْكَارِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ مِثْلَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:
10
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧- ٨]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُكُّونَ فِيهِ كَالَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِتُفِيدَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَمْرِ هَذَا النَّبَأِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَدَائِمٌ فِيهِمْ لِدِلَالَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ.
وَتَقْدِيمُ عَنْهُ على مُعْرِضُونَ [ص: ٦٨] لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ، مَعَ مَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٤]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤)
كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ لِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ غَالِبًا فِي الْكَلَامِ يَقْتَضِي رَدْعَ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَإِبْطَالَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا رَدْعٌ لِلَّذِينَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ التَّسَاؤُلُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جملَة يَتَساءَلُونَ [النبأ:
١] مِنْ تَسَاؤُلٍ مَعْلُومٍ لِلسَّامِعِينَ.
فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
وَالْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهِ فَالرَّدْعُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَالْمَعْنَى: إِبْطَالُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ النَّبَأِ وَإِنْكَارُ التَّسَاؤُلِ عَنْهُ ذَلِكَ التَّسَاؤُلُ الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ وَإِنْكَارَ الْوُقُوعِ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ وُقُوعَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبَأُ وَأَنَّهُ حَقٌّ لِأَنَّ إِبْطَالَ إِنْكَارِ وُقُوعِهِ يُفْضِي إِلَى إِثْبَاتِ وُقُوعِهِ.
وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ كَلَّا أَنْ تُعَقَّبَ بِكَلَامٍ يُبَيِّنُ مَا أَجْمَلَتْهُ مِنَ الرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هُنَا بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ سَيُوقِنُونَ بِوُقُوعِهِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَهُمَا عِلْمَانِ يَحْصُلَانِ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: عِلْمٌ بِحَقِّ وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَعِلْمٌ فِي الْعِقَابِ عَلَيْهِ.
وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ سَيَعْلَمُونَ لِيَعُمَّ الْمَعْلُومَيْنِ فَإِنَّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَرَوْنَ مَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ فَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ الْكَافِرَ يَرَى مَقْعَدَهُ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»
وَذَلِكَ مِنْ مَشَاهِدِ رُوحِ الْمَقْبُورِ وَهِيَ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر: ٦، ٧].
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَهُ إِعْلَامًا بِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ وَاقِعٌ، وَتَضَمَّنَ وَعِيدًا وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي شَأْنُهُ إِفَادَةُ تَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي الْوَعِيدِ أَنَّ فِيهِ إِيهَامًا بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ جَوَابَ سُؤَالِهِمُ الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الْإِحَالَةَ وَالتَّهَكُّمَ، وَصَوَّرُوهُ فِي صُورَةِ طَلَبِ الْجَوَابِ فَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: الْجَوَابُ مَا تَرَى لَا مَا تسمع.
[٥]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٥]
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥)
ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فَإِنَّ ثُمَّ لَمَّا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرَّتَبِيِّ، وَهُوَ أَنَّ مَدْلُولَ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَرْقَى رُتْبَةً فِي الْغَرَضِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ ثُمَّ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ أَرْقَى دَرَجَةً مِنْ مَضْمُونِ نَظِيرِهَا. وَمَعْنَى ارْتِقَاءِ الرُّتْبَةِ أَنَّ مَضْمُونَ مَا بَعْدَ ثُمَّ أَقْوَى مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ ثُمَّ، وَهَذَا الْمَضْمُونُ هُوَ الْوَعِيدُ، فَلَمَّا اسْتُفِيدَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ بِمَا أَفَادَهُ التَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ إِذِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ أَكَّدَتِ الْجُمْلَةَ
الَّتِي قَبْلَهَا تَعَيَّنَ انْصِرَافُ مَعْنَى ارْتِقَاءِ رُتْبَةِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ أَنَّ الْمُتَوَعَّدَ بِهِ الثَّانِيَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْسَبُونَ.
وَضَمِيرُ سَيَعْلَمُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجْرِي عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي ضمير يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] وَضمير فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ٣].
[٦]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٦]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦)
لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ نَبَأٍ جَاءَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ وَإِثْبَاتَ إِعَادَةِ خلق أجسامهم، وهما الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ أَثَارَا تَكْذِيبَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَأَلُّبَهُمْ عَلَى
12
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْوِيجَهُمْ تَكْذِيبَهُ، جَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ بَيَانًا لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ٢، ٣].
وَسَيَجِيءُ بَعْدَهُ تَكْمِلَتُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧].
وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِالِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، وَعَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْبِلَى بِأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ الدَّلِيلِ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى مَا قَبْلَهَا.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الِاسْتِفْهَامُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ فِي قُوَّةِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ بِدَلِيلِ عَطْفِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: ٨] عَلَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ نَجْعَلِ تَقْرِيرِيٌّ وَهُوَ تَقْرِيرٌ عَلَى النَّفْيِ كَمَا هُوَ غَالِبُ صِيَغِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ نَفْيٌ وَالْأَكْثَرُ كَوْنُهُ بِحَرْفِ (لَمْ)، وَذَلِكَ النَّفْيُ كَالْإِعْذَارِ لِلْمُقَرَّرِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُنْكِرَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ بِوُقُوعِ جَعْلِ الْأَرْضِ مِهَادًا لَا بنفيه فحرف النَّفْيِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ.
فَالْمَعْنَى: أَجَعَلْنَا الْأَرْضَ مِهَادًا وَلِذَلِكَ سَيُعْطَفُ عَلَيْهِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٣].
وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥]، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ لِمَخْلُوقَاتٍ عَظِيمَةٍ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي لِمَخْلُوقَاتٍ هِيَ دُونَ الْمَخْلُوقَاتِ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ (أَيِ الثَّانِي) وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: ٥٧].
وَجَعْلُ الْأَرْضِ: خَلْقُهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ كَوْنَهَا مِهَادًا أَمْرٌ حَاصِلٌ فِيهَا مِنَ ابْتِدَاءِ خَلْقِهَا وَمِنْ أَزْمَانِ حُصُولِ ذَلِكَ لَهَا مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَهَا فِي حَالِ أَنَّهَا كَالْمِهَادِ فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
13
وَالتَّعْبِيرُ بِ نَجْعَلِ دُونَ: نَخْلُقُ، لِأَنَّ كَوْنَهَا مِهَادًا حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا عِنْدَ خَلْقِهَا أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ فِعْلِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّاتِ غَالِبًا أَوْ إِلَى الْوَصْفِ الْمُقَوِّمِ لِلذَّاتِ نَحْوَ:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْملك: ٢].
وَالْمِهَادُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ الْفِرَاشُ الْمُمَهَّدُ الْمُوَطَّأُ وَزِنَةُ الْفِعَالِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَفِي «الْقَامُوسِ» : أَن المهاد يرادف الْمَهْدِ الَّذِي يُجْعَلُ لِلصَّبِيِّ.
وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلْأَرْضِ بِهِ إِذْ جَعَلَ سَطْحَهَا مُيَسَّرًا لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَالِاضْطِجَاعِ وَبِالْأَحْرَى الْمَشْيِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِبْدَاعِ الْخَلْقِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ يَتَضَمَّنُ امْتِنَانًا وَفِي ذَلِكَ الِامْتِنَانِ إِشْعَارٌ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ الْأَرْضَ مُلَائِمَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا فَإِنَّ الَّذِي صَنَعَ هَذَا الصُّنْعَ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَخْلُقَ الْأَجْسَامَ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ بِلَاهَا.
وَالْغَرَضُ مِنَ الِامْتِنَانِ هُنَا تَذْكِيرُهُمْ بِفَضْلِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْعَوُوا عَنِ الْمُكَابَرَةِ وَيُقْبِلُوا عَلَى النَّظَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أَنَّ الْبَعْثَ هُوَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْحَشْرِ مِنَ الْأَرْضِ فَكَانَتِ الْأَرْضُ أَسْبَقَ شَيْءٍ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ عِنْدَ الْخَوْضِ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ، أَيْ بَعْثِ أَهْلِ الْقُبُورِ.
وَجَعْلُ الْأَرْضِ مِهَادًا يَتَضَمَّنُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَصْلِ خَلْقِ الْأَرْضِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُتَعَرَّضْ إِلَيْهِ بَعْدُ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لخلق السَّمَاوَات.
[٧]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٧]
وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧)
عَطْفٌ عَلَى الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ الْجِبالَ عَلَى الْأَرْضَ، وَعَاطِفَةُ أَوْتاداً عَلَى مِهاداً، وَهَذَا مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِ النَّحْوِيِّينَ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَامِلِ.
وَالْأَوْتَادُ: جَمْعُ وَتَدٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَالْوَتَدُ: عُودٌ غَلِيظٌ شَيْئًا، أَسْفَلُهُ أَدَقُّ مِنْ أَعْلَاهُ يُدَقُّ فِي الْأَرْضِ لِتُشَدَّ بِهِ أَطْنَابُ الْخَيْمَةِ وَلِلْخَيْمَةِ، أَوْتَادٌ كَثِيرَةٌ
عَلَى قَدْرِ اتِّسَاعِ دَائِرَتِهَا. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْجِبَالِ بِأَنَّهَا أَوْتَادٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَالْأَوْتَادِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْجِبَالِ دَعَا إِلَيْهَا ذِكْرُ الْأَرْضِ وَتَشْبِيهُهَا بِالْمِهَادِ الَّذِي يَكُونُ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَلَمَّا كَانَ الْبَيْتُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ السَّامِعِ مِنْ ذِكْرِ الْمِهَادِ كَانَتِ الْأَرْضُ مُشَبَّهَةً بِالْبَيْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ فَشُبِّهَتْ جِبَالُ الْأَرْضِ بِأَوْتَادِ الْبَيْتِ تَخْيِيلًا لِلْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا بِالْبَيْتِ وَمِهَادِهِ وَأَوْتَادِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثْرَةَ الْجِبَالِ النَّاتِئَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْ يَخْطُرُ فِي الْأَذْهَانِ أَنَّهَا لَا تُنَاسِبُ جَعْلَ الْأَرْضِ مِهَادًا فَكَانَ تَشْبِيهُ الْجِبَالِ بِالْأَوْتَادِ مُسْتَمْلَحًا بِمَنْزِلَةِ حُسْنِ الِاعْتِذَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ مُشَبَّهَةً بِالْأَوْتَادِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ مَعَ هَذَا التَّخْيِيلِ كَقَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ أُسُودًا غَابُهَا الرِّمَاحُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ مُشَبَّهَةً بِأَوْتَادِ الْخَيْمَةِ فِي أَنَّهَا تَشُدُّ الْخَيْمَةَ مِنْ أَنْ تَقْلَعَهَا الرِّيَاحُ أَوْ تُزَلْزِلَهَا بِأَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِ الْجِبَالِ لِلْأَرْضِ حِكْمَةٌ لِتَعْدِيلِ سَبْحِ الْأَرْضِ فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ إِذْ نُتُوُّ الْجِبَالِ عَلَى الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ يَجْعَلُهَا تَكْسِرُ تَيَّارَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَرْضِ فَيَعْتَدِلُ تَيَّارُهُ حَتَّى تَكُونَ حَرَكَةُ الْأَرْضِ فِي كُرَةِ الْهَوَاءِ غَيْرَ سَرِيعَةٍ.
عَلَى أَنَّ غَالِبَ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَخَاصَّةً الْعَرَبُ لَهُمْ مَنَافِعُ جَمَّةٌ فِي الْجِبَالِ فَمِنْهَا مَسَايِلُ الْأَوْدِيَةِ، وَقَرَارَاتُ الْمِيَاهِ فِي سُفُوحِهَا، وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَمُسْتَعْصَمُهُمْ فِي الْخَوْفِ، وَمَرَاقِبُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دِيَارِهِمْ إِذَا طَرَقَهَا الْعَدُوُّ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُ الْجِبَالِ مَعَ ذِكْرِ الْأَرْضِ.
فَكَانَتْ جُمْلَةُ وَالْجِبالَ أَوْتاداً إذماجا مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] وَجُمْلَةِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: ٨].
[٨]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٨]
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨)
مَعْطُوفٌ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦]. وَالتَّقْدِير:
وأخلقناكم أَزْوَاجًا، فَكَانَ التَّقْرِيرُ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ إِذِ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُوَ وُقُوعُ الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ أَزْوَاجًا.
15
وَعَبَّرَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ دُونَ الْجَعْلِ لِأَنَّهُ تَكْوِينُ ذَوَاتِهِمْ فَهُوَ أَدَقُّ مِنَ الْجَعْلِ.
وَضَمِيرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّقْرِيرُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦]، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ.
وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مُضَارِعًا فَدُخُولُ (لَمْ) عَلَيْهِ صَيَّرَهُ فِي مَعْنَى الْمَاضِي لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ (لَمْ) تَقْلِبُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ إِلَى الْمُضِيِّ فَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُ خَلَقْناكُمْ عَلَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] وَالْكُلُّ تَقْرِيرٌ عَلَى شَيْءٍ مَضَى.
وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِعْلًا مُضَارِعًا مِثْلَ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تُسْتَعْمَلُ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ لِلْفِعْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨]، فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] يُفِيدُ اسْتِدْعَاءَ إِعْمَالِ النَّظَرِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِذْ هِيَ مَرْئِيَّاتٌ لَهُمْ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَغْفُلَ النَّاظِرُونَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَقَائِقِهَا لِتَعَوُّدِهِمْ بِمُشَاهَدَتِهَا مِنْ قَبْلِ سِنِّ التَّفَكُّرِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ لَا يَكَادُونَ يَنْظُرُونَ فِيهَا بَلْهَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي صُنْعِهَا، وَالْجِبَالَ يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي صُنْعِهَا شُغْلُهُمْ بِتَجَشُّمِ صُعُودِهَا وَالسَّيْرِ فِي وَعْرِهَا وَحِرَاسَةِ سَوَائِمِهِمْ مِنْ أَنْ تَضِلَّ شِعَابَهَا وَصَرْفِ النَّظَرِ إِلَى مَسَالِكِ الْعَدُوِّ عِنْدَ الِاعْتِلَاءِ إِلَى مَرَاقِبِهَا، فَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ ذِكْرِ الْمَصْنُوعَاتِ الْحَرِيَّةِ بِدِقَّةِ التَّأَمُّلِ وَاسْتِخْلَاصِ الِاسْتِدْلَالِ لِيَكُونَ إِقْرَارُهُمْ مِمَّا قَرَّرُوا بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَجِدُوا إِلَى الْإِنْكَارِ سَبِيلًا.
وَجِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مَفَاعِيلَ فِعْلِ (خَلَقْنَا) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ مُشَاهَدَةً لَهُمْ.
وَذُكِرَ لَهُمْ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ مَا هُوَ شَدِيدُ الِاتِّصَالِ بِالنَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَوَارَدُ أَحْوَالُهَا عَلَى مُدْرِكَاتِهِمْ دَوَامًا، فَإِقْرَارُهُمْ بِهَا أَيْسَرُ لِأَنَّ دِلَالَتَهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الْبَدِيهِيِّ.
وَقَدْ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَجِبَالِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ إِثْبَاتِ التَّفَرُّدِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ الدِّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَتِهِمْ، وَالدَّلِيلُ فِي خَلْقِ النَّاسِ عَلَى الْإِبْدَاعِ الْعَظِيمِ الَّذِي الْخَلْقُ الثَّانِي مِنْ نَوْعِهِ أَمْكَنُ فِي نُفُوسِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١]. وَلِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي تَوْجِيهِ
16
الِابْتِدَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَهِيَ أَنَّ مِنَ الْأَرْضِ يَخْرُجُ النَّاسُ لِلْبَعْثِ فَكَذَلِك ثني باستدلال بِخَلْقِ النَّاسِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَيُعَادُ خَلْقُهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَم: ٦٦، ٦٧].
وَانْتَصَبَ أَزْواجاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي خَلَقْناكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ النَّاسِ وَبِكَوْنِ النَّاسِ أَزْوَاجًا، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَاسِبُ لِفِعْلِ خَلَقْنَا أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ جِيءَ بِمَفْعُولِهِ ضَمِيرَ ذَوَاتِ النَّاسِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِمْ أَزْوَاجًا أَنْ يُسَاقَ مَسَاقَ إِيجَادِ الْأَحْوَالِ جِيءَ بِهِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي خَلَقْناكُمْ، وَلَوْ صُرِّحَ لَهُ بِفِعْلٍ لَقِيلَ: وَخَلَقْنَاكُمْ وَجَعَلْنَاكُمْ أَزْوَاجًا، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] وَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [النبأ: ٩].
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي يُكَرِّرُ الْوَاحِدَ تَكْرِيرَةً وَاحِدَةً وَقَدْ وُصِفَ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِأَسْمَاءِ الْعَدَدِ فِي نَحْوِ قَوْلِ لَبِيدٍ:
حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً ثُمَّ غَلَبَ الزَّوَاجُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَأُنْثَاهُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، فَقَوْلُهُ: أَزْواجاً أَفَادَ أَنْ يَكُونَ الذَّكَرُ زَوْجًا لِلْأُنْثَى وَالْعَكْسُ، فَالذَّكَرُ زَوْجٌ لِأُنْثَاهُ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ لِذَكَرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥].
وَفِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ مِنْ حِكْمَةِ إِيجَادِ قُوَّةِ التَّنَاسُلِ مِنَ اقْتِرَانِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَهُوَ مَنَاطُ الْإِيمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِيجَادِ هَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ ابْتِدَاءً بِقُوَّةِ التَّنَاسُلِ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ مِثْلِهِ بِمِثْلِ تِلْكَ الدِّقَّةِ أَوْ أَدَقَّ.
وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَامْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ بِحَالَةٍ تَجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجًا
17
لِيَحْصُلَ التَّعَاوُنُ وَالتَّشَارُكُ فِي الْأُنْسِ وَالتَّنَعُّمِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الْأَعْرَاف: ١٨٩] وَلِذَلِكَ صِيغَ هَذَا التَّقْرِيرُ بِتَعْلِيقِ فِعْلِ (خَلَقْنَا) بِضَمِيرِ النَّاسِ وَجُعِلَ أَزْواجاً حَالًا مِنْهُ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارُ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَخَلَقْنَا لَكُمْ أَزْوَاجًا.
وَفِي ذَلِكَ حَمْلٌ لَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى النَّظَرِ فِيمَا بُلِّغَ إِلَيْهِمْ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَسْعَفَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمُكَابَرَتَهُمْ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُفْرَانٌ لِنِعْمَةِ واهب النعم.
[٩]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٩]
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩)
انْتَقَلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِمْ وَخَصَّ مِنْهَا الْحَالَةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى أَحْوَالِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ شَبَهًا بِالْمَوْتِ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْبَعْثُ وَهِيَ حَالَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ لَا يَخْلُونَ مِنَ الشُّعُورِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ نِظَامِ النَّوْمِ وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَقَظَةِ أَشْبَهُ حَالٍ بِحَالِ الْمَوْتِ وَمَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْبَعْثِ.
وَأُوثِرَ فِعْلُ جَعَلْنا لِأَنَّ النَّوْمَ كَيْفِيَّةٌ يُنَاسِبُهَا فِعْلُ الْجَعْلِ لَا فِعْلُ الْخَلْقِ الْمُنَاسِبِ لِلذَّوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: ١٠، ١١].
فَإِضَافَةُ نَوْمٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسَتْ لِلتَّقْيِيدِ لِإِخْرَاجِ نَوْمِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ نَوْمَ الْحَيَوَانِ كُلَّهُ سُبَاتٌ، وَلَكِنَّ الْإِضَافَةَ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ لِلِاسْتِدْلَالِ، أَيْ أَنَّ دَلِيلَ الْبَعْثِ قَائِمٌ بَيِّنٌ فِي النَّوْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِكُمْ، وَأَيْضًا لِأَنَّ فِي وَصْفِهِ بِسُبَاتٍ امْتِنَانًا، وَالِامْتِنَانُ خَاصٌّ بِهِمْ قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يُونُس: ٦٧].
وَالسُّبَاتُ: بِضَمِّ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى السَّبْتِ، أَيِ الْقَطْعِ، أَيْ جَعَلْنَاهُ لَكُمْ قَطْعًا لِعَمَلِ الْجَسَدِ بِحَيْثُ لَا بُدَّ لِلْبَدَنِ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِذْ جَعَلَا الْمَعْنى: وَجَعَلنَا نومكن رَاحَةً، فَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى.
وَإِنَّمَا أُوثِرَ لَفْظُ (سُبَاتٍ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِالْقَطْعِ عَنِ الْعَمَلِ لِيُقَابِلَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: ١١] كَمَا سَيَأْتِي.
وَيُطْلَقُ السُّبَاتُ عَلَى النَّوْمِ الْخَفِيفِ، وَلَيْسَ مُرَادًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا، وَلَا نَوْمًا خَفِيفًا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» : طَعَنَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: السُّبَاتُ هُوَ النَّوْمُ فَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ نَوْمًا. وَأَخَذَ فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا ثَلَاثَةً مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَسْتَقِيمُ مِنْهَا إِلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ السُّبَاتَ الْقَطْعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ [الْقَصَص: ٧٢] وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِتَصَارِيفِ مَادَّةِ سَبَتَ.
وَأَنْكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ سِيدَهْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ سَبَتَ بِمَعْنَى اسْتَرَاحَ، أَيْ لَيْسَ مَعْنَى اللَّفْظِ، فَمَنْ فَسَّرَ السُّبَاتَ بِالرَّاحَةِ أَرَادَ تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى.
وَفِي هَذَا امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِخَلْقِ نِظَامِ النَّوْمِ فِيهِمْ لِتَحْصُلَ لَهُمْ رَاحَةٌ مِنْ أَتْعَابِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكْدَحُونَ لَهُ فِي نَهَارِهِمْ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّوْمَ حَاصِلًا لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ اخْتِيَاره، فالنوم يلجىء الْإِنْسَانَ إِلَى قَطْعِ الْعَمَلِ لِتَحْصُلَ رَاحَةٌ لِمَجْمُوعِهِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي رُكْنُهُ فِي الدِّمَاغِ، فَبِتِلْكَ الرَّاحَةِ يَسْتَجِدُّ الْعَصَبُ قُوَاهُ الَّتِي أَوْهَنَهَا عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَحَرَكَاتُ الْأَعْضَاءِ وَأَعْمَالُهَا، بِحَيْثُ لَوْ تَعَلَّقَتْ رَغْبَةُ أَحَدٍ بِالسَّهَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ وَذَلِكَ لُطْفٌ بِالْإِنْسَانِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ مَا بِهِ مَنْفَعَةُ مَدَارِكِهِ قَسْرًا عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَهَاوَنَ بِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ نَوْمًا أَقْصَرُهُمْ عُمْرًا وَكَذَلِكَ الْحَيَوَان.
[١٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٠]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠)
مِنْ إِتْمَامِ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمِنَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّيْلِ لِبَاسًا حَالَةٌ مُهَيِّئَةٌ لِتَكَيُّفِ النَّوْمِ وَمُعِينَةٌ عَلَى هَنَائِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ اللَّيْلَ ظُلْمَةٌ عَارِضَةٌ فِي الْجَوِّ مِنْ مُزَايَلَةِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَنْ جُزْءٍ مِنْ كُرَةِ الْأَرْضِ وَبِتِلْكَ الظُّلْمَةِ تَحْتَجِبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنِ الْإِبْصَارِ فَيَعْسُرُ الْمَشْيُ وَالْعَمَلُ وَالشُّغْلُ وَيَنْحَطُّ النَّشَاطُ فَتَتَهَيَّأُ الْأَعْصَابُ لِلْخُمُولِ ثُمَّ يَغْشَاهَا النَّوْمُ فَيَحْصُلُ السُّبَاتُ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْعَجِيبَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ
19
نِظَامُ اللَّيْلِ آيَةً عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبَدِيعِ تَقْدِيرِهِ.
وَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْفَنَاءِ غَيْرُ مُتَعَذِّرَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى فَلَوْ تَأَمَّلَ الْمُنْكِرُونَ فِيهَا لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ فَلَمَّا كَذَّبُوا خَبَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النِّظَامِ الَّذِي فِيهِ اللُّطْفُ بِهِمْ وَرَاحَةُ حَيَاتِهِمْ لَوْ قَدَّرُوهُ حق قدره لشكروا وَمَا أَشْرَكُوا، فَكَانَ تَذَكُّرُ حَالَةِ اللَّيْلِ سَرِيعَ الْخُطُورِ بِالْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ حَالَةِ النَّوْمِ فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ مُنَاسَبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ اللَّيْلِ عَلَى حَسَبِ أَفْهَامِ السَّامِعِينَ.
وَالْمَعْنَى مِنْ جَعْلِ اللَّيْلِ لِبَاسًا يَحُومُ حَوْلَ وَصْفِ حَالَةٍ خَاصَّةٍ بِاللَّيْلِ عُبِّرَ عَنْهَا بِاللِّبَاسِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي إِطْلَاقِهِ، أَيْ مَا يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الثِّيَابِ فَيَكُونُ وَصْفُ اللَّيْلِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِلْإِنْسَانِ كَاللِّبَاسِ لَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّغْشِيَةَ.
وَتَحْتَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّيْلَ سَاتِرٌ لِلْإِنْسَانِ كَمَا يَسْتُرُهُ اللِّبَاسُ، فَالْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ يَخْتَلِي بِشُؤُونِهِ
الَّتِي لَا يَرْتَكِبُهَا فِي النَّهَارِ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا الْأَبْصَارُ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدَّهْرِيِّينَ أَنَّ اللَّيْلَ رَبُّ الظَّلَمَةِ وَهُوَ مُعْتَقَدُ الْمَجُوسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مَصْنُوعَةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ، أَيْ إِلَهَيْنِ: إِلَهُ النُّورِ وَهُوَ صَانِعُ الْخَيْرِ، وَإِلَهُ الظُّلْمَةِ وَهُوَ صَانِعُ الشَّرِّ. وَيُقَالُ لَهُمُ: الثَّنَوِيَّةُ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهُمْ فِرَقٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَذَاهِبِ فِي تَقْرِيرِ كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ عَنْ ذَيْنِكَ الْأَصْلَيْنِ، وَأَشْهَرُ هَذِهِ الْفِرَقِ فِرْقَةٌ تُسَمَّى الْمَانَوِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: (مَانِي) فَارِسِيٍّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَفِرْقَةٌ تُسَمَّى مَزْدَكِيَّةٌ نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: (مَزْدَكُ) فَارِسِيٍّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ مَعْنَى هَذَا التَّعْرِيض فِي قَوْله:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
الْمَعْنَى الثَّانِي: مِنْ مَعْنَيَيْ وَجْهِ الشَّبَهِ بِاللِّبَاسِ: أَنَّهُ الْمُشَابَهَةُ فِي الرِّفْقِ بِاللَّابِسِ وَالْمُلَاءَمَةُ لِرَاحَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ رَاحَةً لِلْإِنْسَانِ وَكَانَ مُحِيطًا بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ وَأَعْصَابِهِِِ
20
شُبِّهَ بِاللِّبَاسِ فِي ذَلِكَ. وَنُسِبَ مُجْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والسّدي وَقَتَادَةَ إِذْ فسروا سُباتاً [النبأ: ٩] سَكَنًا.
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَن وَجه شبه بِاللِّبَاسِ هُوَ الْوِقَايَةُ، فَاللَّيْلُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْعَرَبُ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي اللَّيْلِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْغَارَةُ صَبَاحًا وَلِذَلِكَ إِذَا غِيرَ عَلَيْهِمْ يَصْرُخُ الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: يَا صَبَاحَاهُ. وَيُقَالُ: صَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ.
وَكَانُوا إِذَا أَقَامُوا حَرَسًا عَلَى الرُّبَى نَاظُورَةَ عَلَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرُقَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُقِيمُونَهُ نَهَارًا فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ نَزَلَ الْحَرَسُ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ فَرَسَهُ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعٍ مُنِيفَةٍ جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دونهَا جرّامها
[١١]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١١]
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١)
لَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ نِظَامِ اللَّيْل قوبل بِذكر خلق نِظَامِ النَّهَارِ، فَالنَّهَارُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَفِيهِ عِبْرَةٌ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَإِحْكَامِهِ إِذْ جُعِلَ نِظَامَانِ مُخْتَلِفَانِ مَنْشَؤُهُمَا سُطُوعُ نُورِ الشَّمْسِ وَاحْتِجَابُهُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَهُمَا نعمتان للبشر مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْآثَارِ فَنِعْمَةُ اللَّيْلِ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّاحَةِ وَالْهُدُوءِ، وَنِعْمَةُ النَّهَارِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ قَدِ اسْتَجَدَّ رَاحَتَهُ وَاسْتَعَادَ نَشَاطَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ بِسَبَبِ إِبْصَارِ الشُّخُوصِ وَالطُّرُقِ.
وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الْمَعَاشِ أُخْبِرَ عَنِ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مَعَاشٌ وَقَدْ أَشْعَرَ ذِكْرُ النَّهَارِ بَعْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنَ النَّوْمِ وَاللَّيْلِ بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ النَّهَارَ ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ النَّوْمِ فَصَارَتْ مُقَابَلَتُهُمَا بِالنَّهَارِ فِي تَقْدِيرِ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ وَالْيَقَظَةَ فِيهِ مَعَاشًا، فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ، وَبِذَلِكَ حَصَلَ بَيْنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُطَابَقَتَانِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ لَفْظًا وَضِمْنًا.
وَالْمَعَاشُ: يُطْلَقُ مَصْدَرَ عَاشَ إِذَا حَيِيَ، فَالْمَعَاشُ: الْحَيَاةُ وَيُطْلَقُ اسْمًا لِمَا بِهِ عَيْشُ الْإِنْسَانِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَالْمَعْنَيَانِ صَالِحَانِ لِلْآيَةِ إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ حَيَاةً لَكُمْ، شُبِّهَتِ الْيَقَظَةُ فِيهِ الْحَيَاةَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعِيشَةً لَكُمْ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعِيشَةٌ مَجَازٌ أَيْضًا بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ النَّهَارَ سَبَبٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَعِيشَةِ وَذَلِكَ يُقَابِلُ جَعْلَ اللَّيْلِ سُبَاتًا بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَص: ٧٣].
فَفِي مُقَابَلَةِ السُّبَاتِ بِالْمَعَاشِ عَلَى هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ مُطَابَقَتَانِ من المحسّنات.
[١٢]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٢]
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢)
نَاسَبَ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْأُفُقِ الْمُسَمَّى سَمَاءً أَنْ يُتْبَعَ ذَلِكَ وَمَا سَبَقَهُ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِذِكْرِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ.
وَالْبِنَاءُ: جَعْلُ الْجَاعِلِ أَوْ صُنْعُ الصَّانِعِ بَيْتًا أَوْ قَصْرًا مِنْ حِجَارَةٍ وَطِينٍ أَوْ مِنْ أَثْوَابٍ، أَوْ مِنْ أَدَمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَصْدَرُ بَنَى، فَبَيْتُ الْمَدَرِ مَبْنِيٌّ، وَالْخَيْمَةُ مَبْنِيَّةٌ، وَالطِّرَافُ وَالْقُبَّةُ مِنَ الْأَدَمِ مَبْنِيَّانِ. وَالْبِنَاءُ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْلَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فَلَيْسَ الْحَفْرُ بِنَاءً وَلَا نَقْرُ الصُّخُورِ فِي الْجِبَالِ بِنَاءً. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
فَذَكَرَ الدَّعَائِمَ وَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَيْمَةِ.
وَاسْتُعِيرَ فِعْلُ بَنَيْنا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَعْنَى: خَلَقْنَا مَا هُوَ عَالٍ فَوْقَ النَّاسِ، لِأَنَّ تَكْوِينَهُ عَالِيًا يُشْبِهُ الْبِنَاءَ.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: فَوْقَكُمْ إِيمَاءً إِلَى وَجْهِ الشَّبَهِ فِي إِطْلَاقِ فِعْلِ بَنَيْنا وَلَيْسَ
ذَلِكَ تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْفَوْقِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَبْنِيَّاتِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَنْبِيهِ النُّفُوسِ لِلِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي تِلْكَ السَّبْعِ الشِّدَادِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الشِّدَادِ: السَّمَاوَاتُ، فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ وَحَذْفِ الْمَوْصُوفِ
لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١]، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْوَصْفُ بِاسْمِ الْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ إِذِ التَّقْدِيرُ: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ.
فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ: زُحَلُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالْمِرِّيخُ، وَالشَّمْسُ، وَالزُّهْرَةُ، وَعُطَارِدُ، وَالْقَمَرُ. وَهَذَا تَرْتِيبُهَا بِحَسَبِ ارْتِفَاعِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ خُسُوفُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حِينِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الَّتِي تَكْتَسِبُ بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ النُّورَ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ.
وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْعبْرَة بهَا أظهر لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَرَوْنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَيَرَوْنَ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ وَيَعْهَدُونَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ السَّيَّارَاتِ الَّتِي اكْتَشَفَهَا عُلَمَاءُ الْفَلَكِ مِنْ بَعْدُ. وَهِي (ستّورن) و (نبتون) و (أورانوس) وَهِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: ١٤] وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَصِدْقًا وَيُقَرِّبُ لِلنَّاسِ الْمَعَانِيَ بِقَدْرِ أَفْهَامِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ.
فَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَدْ عُدَّتْ أَخِيرًا فِي الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَحُذِفَ الْقَمَرُ مِنَ الْكَوَاكِبِ لِتَبَيُّنِ أَنَّ حَرَكَتَهُ تَابِعَةٌ لِحَرَكَةِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَقَعَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مُسَلَّمٌ يَوْمَئِذٍ وَالْكُلُّ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ طَبَقَاتٌ عُلْوِيَّةٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدِ اقْتَنَعَ النَّاسُ مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهَا سَبْعُ سَمَاوَاتٍ.
وَشِدَادٌ: جَمْعُ شَدِيدَةٍ، وَهِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالشِّدَّةِ، وَالشِّدَّةُ: الْقُوَّةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مَتِينَةُ الْخَلْقِ قَوِيَّةُ الْأَجْرَامِ لَا يَخْتَلُّ أَمْرُهَا وَلَا تَنْقُصُ عَلَى مرّ الْأَزْمَان.
[١٣]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٣]
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣)
ذِكْرُ السَّمَاوَاتِ يُنَاسِبُهُ ذِكْرُ أَعْظَمِ مَا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ فِي فَضَائِهَا وَذَلِكَ الشَّمْسُ، فَفِي ذَلِكَ مَعَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِهَا عِبْرَةٌ فِي كَوْنِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَمِنَّةٌ عَلَى النَّاسِ بِاسْتِفَادَتِهِمْ مِنْ
نُورِهَا فَوَائِدَ جَمَّةً.
23
وَالسِّرَاجُ: حَقِيقَتُهُ الْمِصْبَاحُ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ وَهُوَ إِنَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ زَيْتٌ وَفِي الزَّيْتِ خِرْقَةٌ مَفْتُولَةٌ تُسَمَّى الذُّبَالَةَ تُشْعَلُ بِنَارٍ فَتُضِيءُ مَا دَامَ فِيهَا بَلَلُ الزَّيْتِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ تَقْرِيبُ صِفَةِ الْمُشَبَّهِ إِلَى الْأَذْهَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ نُوحٍ.
وَزِيدَ ذَلِكَ التَّقْرِيبُ بِوَصْفِ السِّرَاجِ بِالْوَهَّاجِ، أَيِ الشَّدِيدِ السَّنَا.
وَالْوَهَّاجُ: أَصْلُهُ الشَّدِيدُ الْوَهَجِ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَيُقَالُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ) وَهُوَ الِاتِّقَادُ يُقَالُ: وَهَجَتِ النَّارُ إِذَا اضْطَرَمَتِ اضْطِرَامًا شَدِيدًا.
وَيُطْلَقُ الْوَهَّاجُ عَلَى الْمُتَلَأْلِئِ الْمُضِيءِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ وَصْفَ وَهَّاجٍ أُجْرِيَ عَلَى سِرَاجٍ، أَيْ سِرَاجًا شَدِيدَ الْإِضَاءَةِ، وَلَا يُقَالُ: سِرَاجٌ مُلْتَهِبٌ.
قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَهَجُ حُصُولُ الضَّوْءِ وَالْحَرِّ مِنَ النَّارِ. وَفِي «الْأَسَاسِ» عَدَّ قَوْلَهُمْ:
سِرَاجٌ وَهَّاجٌ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ. وَعَلَيْهِ جَرَى قَوْلُهُ فِي «الْكَشَّافِ» :«مُتَلَأْلِئًا وَقَّادًا. وَتَوَهَّجَتِ النَّارُ، إِذْ تَلَمَّظَتْ فَتَوَهَّجَتْ بِضَوْئِهَا وَحَرِّهَا» فَإِذَنْ يَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّمْسِ بِالسِّرَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مَوْقِعَ التَّشْبِيهِ.
وَلِذَلِكَ أُوثِرَ فِعْلُ: جَعَلْنا دُونَ: خَلَقْنَا، لِأَنَّ كَوْنَهَا سِرَاجًا وَهَّاجًا حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِهَا وَإِنَّمَا يُعَلَّقُ فِعْلُ الْخَلْقِ بِالذَّوَاتِ.
فَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ سِرَاجًا وَهَّاجًا أَوْ وَجَعَلْنَا فِي السَّبْعِ الشِّدَادِ سِرَاجًا وَهَّاجًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: ١٥، ١٦] وَقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الْفرْقَان: ٦١] سَوَاءٌ قَدَّرَتْ ضَمِيرَ فِيها عَائِدًا إِلَى السَّماءِ أَوْ إِلَى (الْبُرُوجِ) لِأَنَّ الْبُرُوجَ هِيَ بُرُوجُ السَّمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: سِراجاً اسْمُ جِنْسٍ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الشَّمْسُ أَو الْقَمَر.
24

[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٦]

وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦)
اسْتِدْلَالٌ بِحَالَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلَهَا مَنْشَأً شَبِيهًا بِحَيَاةٍ بَعْدَ شَبِيهٍ بِمَوْتٍ أَوِ اقْتِرَابٍ مِنْهُ وَمَنْشَأَ تَخَلُّقِ مَوْجُودَاتٍ مِنْ ذَرَّاتٍ دَقِيقَةٍ. وَتِلْكَ حَالَةُ إِنْزَالِ مَاءِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَسْحِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَتُنْبِتُ الْأَرْضُ بِهِ سَنَابِلَ حَبٍّ وَشَجَرًا، وَكَلَأً، وَتِلْكَ كُلُّهَا فِيهَا حَيَاةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَهِيَ حَيَاةُ النَّمَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا لِلنَّاسِ عَلَى تَصَوُّرِ حَالَةِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِدَلِيلٍ مِنَ التَّقْرِيبِ الدَّالِّ عَلَى إِمْكَانِهِ حَتَّى تَضْمَحِلَّ مِنْ نُفُوسِ الْمُكَابِرِينَ شُبَهُ إِحَالَةِ الْبَعْثِ.
وَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا قَدْ صُرِّحَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ٩- ١١] فَفِي الْآيَةِ استدلالان: اسْتِدْلَال بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّحَابِ، وَاسْتِدْلَالٌ بِالْإِنْبَاتِ، وَفِي هَذَا أَيْضًا مِنَّةٌ على المعرضين عَن النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ صُنْعِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ دَوَاعٍ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعَ لِلنَّاسِ مِنْ رِزْقِهِمْ وَرِزْقِ أَنْعَامِهِمْ، وَمِنْ تَنَعُّمِهِمْ وَجَمَالِ مَرَائِيهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ شَكَرُوا الْمُنْعِمَ بهَا لكانوا عِنْد مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مُسْتَعِدِّينَ لِلنَّظَرِ، بِتَوَقُّعِ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ الْبَالِغَةُ إِلَيْهِمْ صَادِقَةَ الْعَزْوِ إِلَى اللَّهِ فَمَا خَفِيَتْ عَنْهُمُ الدِّلَالَةُ.
وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ إِلَى ذِكْرِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ قَوِيَّةٌ.
وَالْمُعْصِرَاتُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الصَّادِ السَّحَابَاتُ الَّتِي تَحْمِلُ مَاءَ الْمَطَرِ وَاحِدَتُهَا مُعْصِرَةٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَعْصَرَتِ السَّحَابَةُ، إِذَا آنَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ، أَيْ تُنْزِلَ إِنْزَالًا شَبِيهًا بِالْعَصْرِ. فَهَمْزَةُ (أَعْصَرَ) تُفِيدُ مَعْنَى الْحَيْنُونَةِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ وَتُسَمَّى هَمْزَةَ التَّهْيِئَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: أَجَزَّ الزَّرْعُ، إِذَا حَانَ لَهُ أَنْ يُجَزَّ (بِزَايٍ فِي آخِرِهِ) وَأَحْصَدَ إِذَا حَانَ وَقْتُ حَصَادِهِ. وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» أَنَّ هَمْزَةَ الْحَيْنُونَةِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّهَيُّؤِ لِقَبُولِ الْفِعْلِ وَتُفِيدُ مَعْنَى التَّهَيُّؤِ لِإِصْدَارِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ
25
ذَكَرَ: أَعْصَرَتِ الْجَارِيَةُ، أَيْ حَانَ وَقْتُ أَنْ تَصِيرَ تَحِيضُ، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي «أَدَبِ الْكَاتِبِ» : أَرْكَبَ الْمُهْرُ، إِذَا حَانَ أَنْ يُرْكَبَ، وَأَقْطَفَ الْكَرْمُ، إِذَا حَانَ أَنْ يُقْطَفَ. ثُمَّ ذَكَرَ: أَقْطَفَ الْقَوْمُ: حَانَ أَنْ يَقْطِفُوا كُرُومَهُمْ، وَأَنْتَجَتِ الْخَيْلُ: حَانَ وَقْتُ نِتَاجِهَا.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النُّورِ [٤٣]، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا جَعَلَ السَّحَابَ رُكَامًا جَاءَ بِالرِّيحِ عَصَرَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيَخْرُجُ الْوَدْقُ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ حَسَّانٍ:
كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطَنِي بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمِفْصَلِ
أَرَادَ حَسَّانُ الْخَمْرَ وَالْمَاءَ الَّذِي مُزِجَتْ بِهِ، أَيْ هَذِهِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَهَذِهِ مِنْ عَصِيرِ السَّحَابِ، فَسَّرَ هَذَا التَّفْسِيرَ قَاضِي الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (١) لِلْقَوْمِ الَّذِينَ حَلَفَ صَاحِبُهُمْ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِيَ عَنْ تَفْسِيرِ بَيْتِ حَسَّانٍ اهـ.
وَالثَّجَّاجُ: الْمُنْصَبُّ بِقُوَّةٍ وَهُوَ فَعَّالٌ مِنْ ثَجَّ الْقَاصِرُ إِذَا انْصَبَّ، يُقَالُ: ثَجَّ الْمَاءُ، إِذَا انْصَبَّ بِقُوَّةٍ، فَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ. وَقَدْ يُسْنَدُ الثَّجُّ إِلَى السَّحَابِ، يُقَالُ: ثَجَّ السَّحَابُ يَثُجُّ بِضَمِّ الثَّاءِ، إِذَا صَبَّ الْمَاءَ، فَهُوَ حِينَئِذٍ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ.
وَوَصْفُ الْمَاءِ هُنَا بِالثَّجَّاجِ لِلِامْتِنَانِ.
وَقَدْ بُيِّنَتْ حِكْمَةُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنَ السَّحَابِ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ لِإِنْبَاتِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ جَمْعًا بَيْنَ الِامْتِنَانِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى دَلِيلِ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ لِيَحْصُلَ إِقْرَارُهُمْ بِالْبَعْثِ وَشُكْرُ الصَّانِعِ.
وَجِيءَ بِفِعْلِ لِنُخْرِجَ دُونَ نَحْوِ: لِنُنْبِتَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِيمَاءُ إِلَى تَصْوِيرِ كَيْفِيَّةِ بَعْثِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ إِذْ ذَلِكَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ (ق) هُوَ الِامْتِنَانَ جِيءَ بِفِعْلِ «أَنْبَتْنَا» فِي قَوْلِهِ:
_________
(١) ولي قَضَاء الْبَصْرَة سنة ١٥٨ وعزل سنة ١٦٥ وَتُوفِّي سنة ١٦٨. وَهُوَ الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ القَوْل بِأَن الْمُجْتَهد لَا يَأْثَم وَلَو فِي أصُول الدَّين إِذا لم يخرج بِاجْتِهَادِهِ عَن الْإِسْلَام.
26
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: ٩] الْآيَةَ. ثُمَّ أُتْبِعَ ثَانِيًا بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ [ق: ١١]. وَالْبَعْثُ خُرُوجٌ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى فِي سُورَةِ طه [٥٥].
وَالْحَبُّ: اسْمُ جَمْعِ حَبَّةٍ وَهِيَ الْبَرْزَةُ. وَالْمُرَادُ بِالْحَبِّ هُنَا: الْحَبُّ الْمُقْتَاتُ لِلنَّاسِ مِثْلَ: الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالسُّلْتِ، وَالذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، وَالْقُطْنِيَّةِ، وَهِيَ الْحُبُوبُ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ السَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا.
وَالنَّبَاتُ أَصْلُهُ اسْمُ مَصْدَرِ نَبَتَ الزَّرْعُ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وَأُطْلِقَ النَّبَات على النَّبَاتُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفَاعِلِ وَأَصْلُهُ الْمُبَالَغَةُ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَنُسِيَتِ الْمُبَالَغَةُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ حُبُّهُ بَلِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِذَاتِهِ وَهُوَ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ مِثْلَ التِّبْنِ وَالْقُرْطِ وَالْفِصْفِصَةِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَجُعِلَتِ الْجَنَّاتُ مَفْعُولا ل (تخرج) عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ نَخْلَ جَنَّاتٍ أَوْ شَجَرَ جَنَّاتٍ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ جَمْعُ جنَّة وَهِي الْقطعَة مِنَ الْأَرْضِ الْمَغْرُوسَةِ نَخْلًا، أَوْ نَخْلًا وَكَرْمًا، أَوْ بِجَمِيعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ مِثْلَ التِّينِ وَالرُّمَّانِ كَمَا جَاءَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ اسْتِعْمَالَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَنَابِتِ.
وَوَجْهُ إِيثَارِ لَفْظِ جَنَّاتٍ أَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى إِتْمَامِ الْمِنَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنَعُّمِ بِالظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَالْمِيَاهِ وَجَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ بِوَصْفِ أَلْفافاً لِأَنَّهُ يَزِيدُهَا حُسْنًا، وَإِنْ كَانَ الْفَلَّاحُونَ عِنْدَنَا يُفَضِّلُونَ التَّبَاعُدَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَرُ لِكَمِّيَّةِ الثِّمَارِ لِأَنَّ تَبَاعُدَهَا أَسْعَدُ لَهَا بِتَخَلُّلِ الْهَوَاءِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ، لَكِنَّ مَسَاقَ الْآيَةِ هُنَا الِامْتِنَانُ بِمَا فِيهِ نَعِيمُ النَّاسِ.
وَأَلْفَافٌ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَهُوَ مِثْلُ أَوْزَاعٍ وَأَخْيَافٍ، أَيْ كُلُّ جَنَّةٍ مُلْتَفَّةٌ، أَيْ مُلْتَفَّةُ الشَّجَرِ بَعْضِهِ بِبَعْض.
فوصف الجنات بِأَلْفَافٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الِالْتِفَافَ فِي أَشْجَارِهَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْأَشْجَارُ لَا يَلْتَفُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْغَالِبِ إِلَّا إِذَا جَمَعَتْهَا جَنَّةٌ
27
أُسْنِدَ أَلْفَافٌ إِلَى جَنَّاتٍ بِطَرِيقِ الْوَصْفِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ إِذَ لَمْ أَرَ شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: أَلْفَافٌ جَمْعُ لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ بِوَزْنِ جِذْعٍ، أَيْ كُلُّ جَنَّةٍ مِنْهَا لِفٌّ بِكَسْرِ اللَّامِ وَلَمْ يَأْتُوا بِشَاهِدٍ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ صَاحِبَ «الْإِقْلِيدِ» (١) ذَكَرَ بَيْتًا أَنْشَدَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ (٢) وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ. وَفِي «الْكَشَّافِ» زَعَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (٣) أَنَّهُ لَفَّاءُ وَلُفٌّ ثُمَّ أَلْفَافٌ (أَيْ أَنَّ أَلْفَافًا جَمْعُ الْجَمْعِ) قَالَ: «وَمَا أَظُنُّهُ وَاجِدًا لَهُ نَظِيرًا» أَيْ لَا يُجْمَعُ
فُعْلٌ جَمْعًا عَلَى أَفْعَالٍ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ إِذْ لَا يُقَالُ خُضْرٌ وَأَخْضَارٌ وَحُمْرٌ وَأَحْمَارٌ. يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْكَلَامُ الْفَصِيحُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ لَمْ يَثْبُتْ وُرُودُ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ وُجُودِ تَأْوِيلٍ لَهُ عَلَى وَجْهٍ وَارِدٍ.
فَكَانَ أَظْهَرُ الْوُجُوهِ أَنَّ أَلْفافاً اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ.
وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ خُتِمَتُ الْأَدِلَّةُ الَّتِي أُقِيمَتْ لَهُمْ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتِ الْإِيمَاءَ إِلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَمَا أُدْمِجَ فِيهَا مِنَ الْمِنَنِ عَلَيْهِمْ عَسَاهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا النِّعْمَةَ فَيَشْعُرُوا بِوَاجِبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَلَا يَسْتَفْظِعُوا إِبْطَالَ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَيَنْظُرُوا فِيمَا بَلَغَهُمْ عَنْهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَيَصْرِفُوا عُقُولَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ تَصْدِيقِ ذَلِكَ.
وَقَدِ ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ بِدَلَائِلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَحَالَتِهَا وَجَالَتْ بِهِمُ الذِّكْرَى عَلَى أَهَمِّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، ثُمَّ مَا فِي الْأُفُقِ مِنْ أَعْرَاضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. ثُمَّ تَصَاعَدَ بِهِمُ التَّجْوَالُ بِالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَبِخَاصَّةٍ الشَّمْسُ ثُمَّ نَزَلَ بِهِمْ إِلَى دَلَائِلِ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ فَنَزَلُوا مَعَهُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ وَمُنْتَهَى الْمَنَافِعِ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ مِنْ حَيْثُ صَدَرُوا وَذَلِكَ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ على الصَّدْر.
[١٧- ١٨]
_________
(١) الإقليد اسْم تَفْسِير كَذَا قَالَ الْقزْوِينِي فِي «الْكَشْف» على «الْكَشَّاف» وَرَأَيْت فِي طرة نُسْخَة فِيهِ أَن الإقليد لأبي الْفَتْح الهمذاني وَلم أعثر على تَرْجَمَة مُؤَلفه.
(٢) الْحسن بن عَليّ الطوسي لَعَلَّه الْوَزير الملقب نظام الْملك وَالْبَيْت هُوَ:
جنَّة لفّ وعيش مغدق وندامى كلهم بيض زهر
(٣) لَعَلَّه ذكر ذَلِك فِي غير كتاب أدب الْكتاب فإنّي لم أَجِدهُ فِيهِ. [.....]
28

[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)
هَذَا بَيَانٌ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ٢- ٣] وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا السُّورَةُ وَهَيَّأَتْ لِلِانْتِقَالِ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْإِخْرَاجِ مِنْ قَوْلِهِ: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً [النبأ: ١٥] إِلَخْ، لِأَنَّ ذَلِكَ شُبِّهَ بِإِخْرَاجِ أَجْسَادِ النَّاسِ لِلْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ إِلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فِي سُورَةِ ق [٩- ١١].
وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَعْقَبَ بِهِ قَوْلَهُ: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً [النبأ: ١٥] الْآيَةَ فِيمَا قُصِدَ بِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى دَلِيلِ الْبَعْثِ.
وَأُكِّدَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالًا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الْفَصْلِ.
وَيَوْمُ الْفَصْلِ: يَوْمُ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ.
وَالْفَصْلُ: التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي
الْمُتَشَابِهَةِ وَالْمُلْتَبِسَةِ فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى الْحُكْمِ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: فَصْلُ الْقَضَاءِ، أَيْ نَوْعٌ مِنَ الْفَصْلِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُمَيِّزُ الْحَقَّ مِنَ الظُّلْمِ.
فَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ فَصْلٌ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِيَوْمِ الْفَصْلِ لِإِثْبَاتِ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيْنَ ثُبُوتِ مَا جَحَدُوهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ فَصْلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَكَذِبِهِمْ.
وَثَانِيهِمَا: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اعْتَدَى بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانَ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَوْقِيتَهُ مُتَأَصِّلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِمَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعَالَى الَّتِي هُوَ أَعْلَمُ بِهَا وَأَنَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِهِ لَا يُقَدِّمُهُ عَلَى مِيقَاتِهِ.
29
وَتَقَدَّمَ يَوْمَ الْفَصْلِ غَيْرَ مَرَّةٍ أُخْرَاهَا فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ [١٤].
وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْفَصْلِ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ [١٣].
وَالْمِيقَاتُ: مِفْعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ: الزَّمَانُ الْمُحَدَّدُ فِي عَمَلٍ مَا، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ وَقْتٍ إِلَّا مُقَيَّدًا بِإِضَافَةٍ أَوْ نَحْوِهَا نَحْوَ وَقْتِ الصَّلَاةِ.
فَالْمِيقَاتُ جَاءَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْآلَةِ وَأُرِيدَ بِهِ نَفْسُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ بِهِ شَيْءٌ مِثْلَ مِيعَادٍ وَمِيلَادٍ، فِي الْخُرُوجِ عَنْ كَوْنِهِ اسْمَ آلَةٍ إِلَى جَعْلِهِ اسْمًا لِنَفْسِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ. وَالسِّيَاقُ دَلَّ عَلَى مُتَعَلَّقِ مِيقَاتٍ، أَيْ كَانَ مِيقَاتًا لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
فَكَوْنُهُ مِيقاتاً كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ عَنْ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ إِذِ التَّوْقِيتُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِزَمَنٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ وَلَوْ تَأَخَّرَ وَأَبْطَأَ.
وَهَذَا رَدٌّ لِسُؤَالِهِمْ تَعْجِيلَهُ وَعَنْ سَبَبِ تَأْخِيرِهِ، سُؤَالًا يُرِيدُونَ مِنْهُ الِاسْتِهْزَاءَ بِخَبَرِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنْ لَيْسَ تَأَخُّرُ وُقُوعِهِ دَالًّا عَلَى انْتِفَاءِ حُصُولِهِ.
وَالْمَعْنَى: لَيْسَ تَكْذِيبُكُمْ بِهِ مِمَّا يَحْمِلُنَا عَلَى تَغْيِيرِ إِبَانِهِ الْمُحَدَّدِ لَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ مُسْتَدْرِجُكُمْ مُدَّةً.
وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُدْرَى لَعَلَّهُ يَحْصُلُ قَرِيبًا قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: ١٨٧] وَقَالَ: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: ٥١].
ويَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ وَأُضِيفَ يَوْمَ إِلَى جُمْلَةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَانْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ إِعْرَابٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ أَوَّلُهَا مُعْرَبٌ وَهُوَ الْمُضَارِعُ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ حُصُولُ التَّفْصِيلِ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْفَصْلِ وَبَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْفَصْلِ.
وَالصُّورُ: الْبُوقُ، وَهُوَ قَرْنُ ثَوْرٍ فَارِغُ الْوَسَطِ مُضَيَّقٌ بَعْضُ فَرَاغِهِ وَيُتَّخَذُ مِنَ
30
الْخَشَبِ أَوْ مِنَ النُّحَاسِ، يَنْفُخُ فِيهِ النَّافِخُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ قَوِيًّا لِنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَكْثَرُ مَا يُنَادَى بِهِ الْجَيْشُ وَالْجُمُوعُ الْمُنْتَشِرَةُ لِتَجْتَمِعَ إِلَى عَمَلٍ يُرِيدُهُ الْآمِرُ بِالنَّفْخِ.
وَبُنِيَ يُنْفَخُ إِلَى النَّائِبِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِمَعْرِفَةِ النَّافِخِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَعْرِفَةُ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَصُورَةِ حُصُولِهِ.
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ دُعَاءِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ إِلَى الْحَشْرِ بِهَيْئَةِ جَمْعِ الْجَيْشِ الْمُتَفَرِّقِ لِرَاحَةٍ أَوْ تَتَبُّعِ عَدُوٍّ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَتَجَمَّعُوا عِنْدَ مَقَرِّ أَمِيرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْخٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْيَاءُ لَا تُعْلَمُ صِفَتُهُ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ النَّفْخُ هَذَا مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ وَهُوَ تَكْوِينُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ بِلَاهَا وَبَثُّ أَرْوَاحِهَا فِي بَقَايَاهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهَذَا النَّفْخِ هُوَ إِسْرَافِيلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَعَطْفُ (تَأْتُونَ) بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ تَعْقِيبِ النَّفْخِ بِمَجِيئِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ.
وَالْإِتْيَانُ: الْحُضُورُ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَمْشِي إِلَيْهِ الْمَاشِي فَالْإِتْيَانُ هُوَ الْحُصُولُ.
وَحَذْفُ مَا يَحْصُلُ بَيْنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ لِزِيَادَةِ الإيذان بِسُرْعَة حصور الْإِتْيَانِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّور وَإِن كَانَ الْمَعْنى: ينْفخ فِي الصُّورِ فَتَحْيَوْنَ فَتَسِيرُونَ فَتَأْتُونَ.
وأَفْواجاً حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ، وَالْأَفْوَاجُ: جَمْعُ فَوْجٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ الْمُتَصَاحِبَةُ مِنْ أُنَاسٍ مُقَسَّمِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، فَتَكُونُ الْأُمَمُ أَفْوَاجًا، وَيَكُونُ الصَّالِحُونَ وَغَيْرُهُمْ أَفْوَاجًا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها [الْملك: ٨] الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: فَتَأْتُونَ مُقَسَّمِينَ طَوَائِفَ وَجَمَاعَاتٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ
كَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَكُلُّ أُولَئِكَ أَقسَام ومراتب.
31

[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٩]

وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩)
جُمْلَةٌ هِيَ حَالٌ من ضمير فَتَأْتُونَ [النبأ: ١٨].
وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ فُتِحَتِ السَّمَاءُ، أَيْ قَدْ حَصَلَ النَّفْخُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النبأ: ١٨] فَيعْتَبر يَوْمَ [النبأ:
١٨] مُضَافًا إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الْفرْقَان: ٢٥].
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا التَّفْتِيحِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ مَضَى وُقُوعُهُ.
وَفَتْحُ السَّمَاءِ: انْشِقَاقُهَا بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَعْضِ السَّمَاوَاتِ الَّتِي هِيَ مَقَرُّهُمْ نُزُولًا يَحْضُرُونَ بِهِ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفرْقَان: ٢٥، ٢٦].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَفُتِّحَتْ بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي فِعْلِ الْفَتْحِ بِكَثْرَةِ الْفَتْحِ أَوْ شِدَّتِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ شَقَّ السَّمَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ وَمُجَرَّدُ تَعَلُّقِ الْفَتْحِ بِالسَّمَاءِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ فَتْحٌ شَدِيدٌ.
وَفِي الْفَتْحِ عِبْرَةٌ لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُلْتَئِمَةً فَإِذَا فَسَدَ الْتِئَامُهَا وَتَخَلَّلَتْهَا مَفَاتِحُ كَانَ مَعَهُ انْخِرَامُ نِظَامِ الْعَالَمِ الْفَانِي قَالَ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِلَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: ١- ٦].
فَالتَّفَتُّحُ وَالْفَتْحُ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَهْوِيلُ يَوْمَ الْفَصْلِ [النبأ: ١٧].
وَفُرِّعَ عَلَى انْفِتَاحِ السَّمَاءِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَكانَتْ أَبْواباً أَيْ ذَاتَ أَبْوَابٍ.
فَقَوْلُهُ أَبْواباً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ كَالْأَبْوَابِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى حَاجِزٌ بَيْنَ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: ٤].
وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّمَاءِ بِأَنَّهَا أَبْوَابٌ جَرَى عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِذَاتِ أَبْوَابٍ لِلدِّلَالَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَفَاتِحِ فِيهَا حَتَّى كَأَنَّهَا هِيَ أَبْوَابٌ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [الْقَمَر: ١٢] حَيْثُ أُسْنِدَ التَّفْجِيرُ إِلَى لَفْظِ الْأَرْضِ، وَجِيءَ بِاسْمِ الْعُيُونِ تَمْيِيزًا، وَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ وَيُؤَكِّدُهُ، وَيُقَيِّدُ مَعْنَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَيُبَيِّنُهُ.
وَ (كَانَتْ) بِمَعْنَى: صَارَتْ. وَمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ مِنْ مَعَانِي (كَانَ) وَأَخَوَاتِهَا الْأَرْبَعِ وَهِيَ: ظَلَّ، وَبَاتَ، وَأَمْسَى وَأَصْبَحَ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى فُتِحَتِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: ٣٧].
وَالْأَبْوَابُ: جَمْعُ بَابٍ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ الَّتِي يُدْخَلُ مِنْهَا فِي حَائِلٍ مِنْ سُورٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ حِجَابٍ أَوْ خَيْمَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٢٣].
وَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فِي سُورَة الْعُقُود [٢٣].
[٢٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٢٠]
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠)
التَّسْيِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَائِرًا، أَيْ مَاشِيًا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى النَّقْلِ مِنَ الْمَكَانِ أَيْ نُقِلَتِ الْجِبَالُ وَقُلِعَتْ مِنْ مَقَارِّهَا بِسُرْعَةٍ بِزَلَازِلَ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: ١٤]، حَتَّى كَأَنَّهَا تَسِيرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَهُوَ نَقْلٌ يَصْحَبُهُ تَفْتِيتٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: فَكانَتْ سَراباً لِأَنَّ ظَاهِرَ التَّعْقِيبِ أَنْ لَا تَكُونَ مَعَهُ مُهْلَةٌ، أَيْ فَكَانَتْ كَالسَّرَابِ فِي أَنَّهَا لَا شَيْءَ.
وَالْقَوْلُ فِي بِنَاءِ سُيِّرَتِ لِلْمَجْهُولِ كَالْقَوْلِ فِي وَفُتِحَتِ السَّماءُ [النبأ: ١٩].
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَكانَتْ سَراباً هُوَ كَقَوْلِهِ: فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: ١٩].
وَالسَّرَابُ: مَا يَلُوحُ فِي الصَّحَارِي مِمَّا يُشْبِهُ الْمَاءَ وَلَيْسَ بِمَاءٍ وَلَكِنَّهُ حَالَةٌ فِي الْجَوِّ الْقَرِيبِ تَنْشَأُ مِنْ تَرَاكُمِ أَبْخِرَةٍ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فِي سُورَة النُّور [٣٩].
[٢١- ٢٣]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٣]
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ لِ إِنَّ مِنْ
قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧] وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا فِيهِ لِلطَّاغِينَ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِرْصاداً أَيْ مِرْصَادًا فِيهِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ مَعْنَى الْمِرْصَادِ مُقْتَرِبٌ مِنْ مَعْنَى الْمِيقَاتِ إِذْ كِلَاهُمَا مُحَدِّدٌ لِجَزَاءِ الطَّاغِينَ.
وَدُخُولُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي خَبَرِ (إِنَّ) يُفِيدُ تَأْكِيدًا عَلَى التَّأْكِيدِ الَّذِي أَفَادَهُ حَرْفُ التَّأْكِيدِ الدَّاخِلُ عَلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الْفَصْلِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجَى الْخَوَاتِيمُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [١٧]، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: ١٨].
وَالتَّعْبِيرُ بِ «الطَّاغِينَ» إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الطُّغْيَانِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُول: «لكم مئابا».
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ:
١٧] وَمَا لَحِقَ بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَطَلُّبَ مَاذَا سَيَكُونُ بَعْدَ تِلْكَ الْأَهْوَالِ فَأُجِيبُ بِمَضْمُونِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً الْآيَةَ. وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ:
لِلطَّاغِينَ تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.
وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَهْدِيدٍ إِذِ ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَعْثِ وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَرْتِيبِ نَظْمِ هَذِهِ الْجُمَلِ.
34
وَجَهَنَّمُ: اسْمٌ لِدَارِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ فَلَعَلَّهُ مُعَرَّبٌ عَنِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ عَنْ لُغَةٍ أُخْرَى سَامِيَّةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٦].
وَالْمِرْصَادُ: مَكَانُ الرَّصْدِ، أَيِ الرَّقَابَةِ، وَهُوَ بِوَزْنِ مِفْعَالٍ الَّذِي غَلَبَ فِي اسْمِ آلَةِ الْفِعْلِ مِثْلَ مِضْمَارٍ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تُضَمَّرُ فِيهِ الْخَيْلُ، وَمِنْهَاجٍ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْهَجُ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ جَهَنَّمَ مَوْضِعٌ يَرْصُدُ مِنْهُ الْمُوَكَّلُونَ بِهَا، وَيَتَرَقَّبُونَ مَنْ يُزْجَى إِلَيْهَا مَنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ كَمَا يَتَرَقَّبُ أَهْلُ الْمِرْصَادِ مَنْ يَأْتِيهِ مِنْ عَدُوٍّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِرْصَادٌ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ الْمِفْعَالِ، أَيْ رَصْدًا. وَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ جَهَنَّمَ لِلْمُبَالَغَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا أَصْلُ الرَّصْدِ، أَيْ لَا تُفْلِتُ أَحَدًا مِمَّنْ حَقَّ عَلَيْهِمْ دُخُولُهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِرْصَادٌ زِنَةَ مُبَالَغَةٍ لِلرَّاصِدِ الشَّدِيدِ الرَّصْدِ مِثْلَ صِفَةِ مِغْيَارٍ وَمِعْطَارٍ، وُصِفَتْ بِهِ جَهَنَّمُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ (هَا) التَّأْنِيثِ لِأَنَّ جَهَنَّمَ شُبِّهَتْ بِالْوَاحِدِ مِنَ الرَّصَدِ بِتَحْرِيكِ الصَّادِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنَ الْحَرَسِ الَّذِي يَقِفُ بِالْمَرْصَدِ إِذْ لَا يَكُونُ الْحَارِسُ إِلَّا رَجُلًا.
وَمُتَعَلَّقُ: مِرْصاداً مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِلطَّاغِينَ مَآباً وَالتَّقْدِيرُ: مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّ قَرَائِنَ السُّورَةِ قِصَارٌ فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عِنْدَ مِرْصاداً لِتَكُونَ قَرِينَةً.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ لِلطَّاغِينَ مُتَعَلِّقًا بِ مِرْصاداً وَتَجْعَلَ مُتَعَلَّقَ مَآباً مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَيْهِ لِلطَّاغِينَ فَيَكُونُ كَالتَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ إِذْ كَانَتْ بَقِيَّةً لِمَا فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى فِي الْقَرِينَةِ الْمُوَالِيَةِ فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ طَوِيلَةً.
وَلَوْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَ لِلطَّاغِينَ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ مِرْصاداً أَوْ مَآباً فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى.
وَأُقْحِمَ كانَتْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَهَنَّمَ مِرْصَادٌ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَعْلَهَا
35
مِرْصَادًا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧]. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ أَعَدَّ فِي أَزَلِهِ عِقَابًا لِلطَّاغِينَ.
ومَآباً: مَكَانُ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَقَرِّ وَالْمَسْكَنِ إِطْلَاقًا أَصْلُهُ كِنَايَةٌ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَصَارَ اسْمًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمَرْءُ.
وَنُصِبَ مَآباً عَلَى الْحَالِ مِنْ جَهَنَّمَ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ لِفِعْلِ كانَتْ أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مِرْصاداً لِأَنَّ الرَّصْدَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ مَقْصُودَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونُوا صَائِرِينَ إِلَى جَهَنَّمَ.
ولِلطَّاغِينَ مُتَعَلِّقُ بِ مَآباً قُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بِشِرْكِهِمْ طَغَوْا عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِ مِرْصاداً أَوْ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ مِرْصاداً ومَآباً كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِحَقِّ الْغَيْرِ وَالْكِبْرُ، وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: ١٨] فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ الْإِيمَاءِ إِلَى سَبَبِ جَعْلِ جَهَنَّمَ لَهُمْ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَقْصَى الطُّغْيَانِ إِذِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَتِهِ وَمُتَكَبِّرُونَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَنِفُوا مِنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ مُعْظَمِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: ٢٧، ٢٨]. هَذَا وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، أَوِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاحْتِقَارًا لَا لِمُجَرَّدِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ بِمِقْدَارِ اقْتِرَابِهِمْ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ.
وَاللَّابِثُ: الْمُقِيمُ بِالْمَكَانِ. وَانْتُصِبَ لابِثِينَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الطَّاغِينَ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ لابِثِينَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ لَابِثٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَرَوْحٌ عَن يَعْقُوب لبثين عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ (لَبِثٍ) مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ مِثْلَ حَذِرٍ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، أَوْ مِنَ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَتَقْتَضِي أَنَّ اللَّبِثَ شَأْنُهُ كَالَّذِي يَجْثُمُ فِي مَكَانٍ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ.
وَأَحْقَابٌ: جَمْعُ حُقُبٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ زَمَنٌ طَوِيلٌ نَحْوَ الثَّمَانِينَ سَنَةً، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ
36
وَجَمْعُهُ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الطُّولُ الْعَظِيمُ لِأَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِ الْحُقُبِ وَالْأَحْقَابِ أَنْ يَكُونَ فِي حَيْثُ يُرَادُ تَوَالِي الْأَزْمَانِ وَيُبَيِّنُ هَذَا الْآيَاتُ الْأُخْرَى الدَّالَّةُ عَلَى خُلُودِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْمَعْرُوفِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ كِنَايَةً بِهِ عَنِ الدَّوَامِ دُونَ انْتِهَاءٍ.
وَلَيْسَ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِهَذَا اللُّبْثِ نِهَايَةً حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى دَعْوَى نَسْخِ ذَلِكَ بِآيَاتِ الْخُلُودِ وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، أَوْ يُحْتَاجَ إِلَى جَعْلِ الْآيَةِ لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ الْأَوَّلِ إِذْ قَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَيَّامَئِذٍ صَالِحِينَ مُخْلِصِينَ مُجِدِّينَ فِي أَعْمَالهم.
[٢٤- ٢٦]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٦]
لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا ثَانِيَةً من (الطاغين) [النبأ: ٢٢] أَوْ حَالًا أُولَى مِنَ الضَّمِيرِ فِي لابِثِينَ [النبأ: ٢٣] وَأَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَالِثًا: لِ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: ٢١].
وَضَمِيرُ فِيها عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ [النبأ: ٢١].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً ل أَحْقاباً [النبأ: ٢٣]، أَيْ لَا يَذُوقُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْقَابِ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا. فَضَمِيرُ فِيها عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الْأَحْقَابِ.
وَحَقِيقَةُ الذَّوْقِ: إِدْرَاكُ طَعْمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِغَيْر الطعوم إطلاقا مَجَازِيًّا. وَشَاعَ فِي كَلَامِهِمْ، يُقَالُ: ذَاقَ الْأَلَمَ، وَعَلَى وِجْدَانِ النَّفْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ [الْمَائِدَة: ٩٥]. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَيَيْهِ حَيْثُ نَصَبَ بَرْداً وشَراباً وَالْبَرْدُ: ضِدُّ الْحَرِّ، وَهُوَ تَنْفِيسٌ لِلَّذِينَ عَذَابُهُمُ الْحَرُّ، أَيْ لَا يُغَاثُونَ بِنَسِيمٍ بَارِدٍ، وَالْبَرْدُ أَلَذُّ مَا يَطْلُبُهُ الْمَحْرُورُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَنَفَرٍ قَلِيلٍ تَفْسِيرُ الْبَرْدِ بِالنَّوْمِ وَأَنْشَدُوا شَاهِدَيْنِ غَيْرَ وَاضِحَيْنِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَعَطْفُ وَلا شَراباً يُنَاكِدُهُ. وَالشَّرَابُ: مَا يُشْرَبُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ الَّذِي يُزِيلُ الْعَطَشَ.
وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ.
37
وَالْغَسَّاقُ: قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِتَخْفِيفِ السِّينِ: وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. وَمَعْنَاهُ الصَّدِيدُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ جُرُوحِ الْحَرْقِ وَهُوَ الْمُهْلُ، وَتَقَدَّمَا فِي سُورَةِ (ص).
وَاسْتِثْنَاءُ حَمِيماً وَغَسَّاقاً مِنْ بَرْداً أَوْ شَراباً عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْحَمِيمَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْبَرْدِ فِي شَيْءٍ إِذْ هُوَ شَدِيدُ الْحَرِّ، وَلِأَنَّ الْغَسَّاقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشَّرَابِ، إِذْ لَيْسَ الْمُهْلُ مِنْ جِنْسِ الشَّرَابِ.
وَالْمَعْنَى: يَذُوقُونَ الْحَمِيمَ إِذْ يُرَاقُ عَلَى أَجْسَادِهِمْ، وَالْغَسَّاقَ إِذْ يَسِيلُ عَلَى مَوَاضِعِ الْحَرْقِ فَيَزِيدُ أَلَمَهُمْ.
وَصُورَةُ الِاسْتِثْنَاءِ هُنَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فِي الصُّورَةِ.
وجَزاءً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَذُوقُونَ، أَيْ حَالَةَ كَوْنِ ذَلِكَ جَزَاءً، أَيْ مُجَازًى بِهِ، فَالْحَالُ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْوَصْفِ.
وَالْوِفَاقُ: مَصْدَرُ وَافَقَ وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِالْوَصْفِ، أَيْ مُوَافِقًا لِلْعَمَلِ الَّذِي جُوزُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا لَا
يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً
[النبأ: ٢٧، ٢٨].
فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْلُ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُمَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا عَدَمِيٌّ وَهُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَالْآخَرُ وُجُودِيٌّ وَهُوَ نِسْبَتُهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنَ لِلْكَذِبِ، فَعُوقِبُوا عَلَى الْأَصْلِ الْعَدَمِيِّ بِعِقَابٍ عَدَمِيٍّ وَهُوَ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْبَرْدِ وَالشَّرَابِ، وَعَلَى الْأَصْلِ الْوُجُودِيِّ بِجَزَاءٍ وُجُودِيٍّ وَهُوَ الْحَمِيمُ يُرَاقُ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَالْغَسَّاقُ يَمُرُّ على جراحهم.
38

[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]

إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً إِلَى قَوْلِهِ جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢١- ٢٦]، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَضَمِيرُ إِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى (الطاغين) [النبأ: ٢٢].
وَحَرْفُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَيْسَتْ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ إِذْ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ أَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ وَشَأْنُ (إِنَّ) إِذَا قُصِدَ بِهَا مُجَرَّدُ الِاهْتِمَامِ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة:
٣٢] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٠] فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَبَيْنَ جملَة فَذُوقُوا [النبأ: ٣٠].
وَقَدْ علمت مُنَاسبَة جزائهم لِجُرْمِهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦] مِمَّا يَزِيدُ وَجْهَ التَّعْلِيلِ وُضُوحًا.
وَقَوْلُهُ: لَا يَرْجُونَ حِساباً نَفْيٌ لِرَجَائِهِمْ وُقُوعَ الْجَزَاءِ.
وَالرَّجَاءُ اشْتُهِرَ فِي تَرَقُّبِ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَالْحِسَابُ لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ حَتَّى يُجْعَلَ نَفْيُ تَرَقُّبِهِ مِنْ قَبِيلِ نَفْيِ الرَّجَاءِ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ تَرَقُّبِهِ بِمَادَّةِ التَّوَقُّعِ الَّذِي هُوَ تَرَقُّبُ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ التَّعْبِيرِ بِمَادَّةِ التَّوَقُّعِ إِلَى التَّعْبِيرِ بِمَادَّةِ الرَّجَاءِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ جَزَاءِ الطَّاغِينَ وَعَذَابِهِمْ تَلَقَّى الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ بِالْمَسَرَّةِ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِمَّا سَيَلْقَاهُ الطَّاغُونَ فَكَانُوا مُتَرَقِّبِينَ يَوْمَ الْحِسَابِ تَرَقُّبَ رَجَاءٍ، فَنَفْيُ رَجَاءِ يَوْمِ الْحِسَابِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ جَامِعٌ بِصَرِيحِهِ مَعْنَى عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِوُقُوعِهِ، وَبِكِنَايَتِهِ رَجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وُقُوعَهُ بِطَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ تَعْرِيضًا بِالْمُسْلِمِينَ وَهِيَ أَيْضًا تَلْوِيحِيَّةٌ لِمَا فِي لَازِمِ مَدْلُولِ الْكَلَامِ مِنَ الْخَفَاءِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ يَرْجُونَ بِمَعْنَى: يَخَافُونَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِحَاصِلِ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِلَّفْظِ.
وَفَعْلُ كانُوا دَالٌّ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ رَجَائِهِمُ الْحِسَابَ وَصْفٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْ
39
نُفُوسِهِمْ وَهُمْ كَائِنُونَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِفِعْلِ كانُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فَانْقَضَى لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مِمَّا يُقَالُ لَهُمْ أَوْ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَجِيءَ بِفِعْلِ يَرْجُونَ مُضَارِعًا لِلدِّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ انْتِفَاءِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالرَّجَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا أُعِيدَ لَهُمْ ذِكْرُ يَوْمِ الْحِسَابِ جَدَّدُوا إِنْكَارَهُ وَكَرَّرُوا شُبُهَاتِهِمْ عَلَى نَفْيِ إِمْكَانِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢].
وَالْحِسَابُ: الْعَدُّ، أَيْ عَدُّ الْأَعْمَالِ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى جَزَائِهَا، أَيْ لَا يَرْجُونَ وُقُوعَ حِسَابٍ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْحَشْرِ.
وكَذَّبُوا عَطْفٌ عَلَى لَا يَرْجُونَ، أَيْ وَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، أَيْ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَالْمَعْنَى: كَذَّبُوا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِكَوْنِ تَكْذِيبِهِمْ بِذَلِكَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ وَلَمْ يَتَرَدَّدُوا فِيهِ جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥].
وَكِذَّابٌ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ مَصْدَرُ كَذَّبَ. وَالْفِعَّالُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ عَيْنِهِ مَصْدَرُ فَعَّلَ مِثْلَ التَّفْعِيلِ، وَنَظَائِرُهُ: الْقِصَّارُ مَصْدَرُ قَصَّرَ، وَالْقِضَّاءُ مَصْدَرُ قَضَّى، وَالْخِرَّاقُ مَصْدَرُ خَرَّقَ الْمُضَاعَفِ، وَالْفِسَّارُ مَصْدَرُ فَسَّرَ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ أَصْلَ هَذَا الْمَصْدَرِ مِنَ اللُّغَةِ الْيَمَنِيَّةِ، يُرِيدُ: وَتَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبُ، فَقَدْ أَنْشَدُوا لِبَعْضِ بَنِي كِلَابٍ:
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطْتَنِي عَنْ صَحَابَتِي وَعَنْ حِوَجَ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا
وَأُوثِرَ هَذَا الْمَصْدَرُ هُنَا دون تَكْذِيب لِمُرَاعَاةِ التَّمَاثُلِ فِي فَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى نَحْوِ أَلِفِ التَّأْسِيسِ فِي الْقَوَافِي، وَالْفَوَاصِلُ كَالْأَسْجَاعِ وَيَحْسُنُ فِي الْأَسْجَاعِ مَا يَحْسُنُ فِي الْقَوَافِي.
40
وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَفِعَّالُ فَعَّلَ كُلُّهُ فَاشٍ فِي كَلَامِ فُصَحَاءَ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَقُولُونَ غَيْرَهُ.
وَانْتُصِبَ كِذَّاباً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ تكذيبهم بِالْآيَاتِ.
[٢٩]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٢٩]
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي سِيقَتْ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ وَبَيْنَ جملَة فَذُوقُوا [النبأ: ٣٠] وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاض الْمُبَادرَة بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا يَدَعُ شَيْئًا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ إِلَّا يُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ هُنَا وَمَا لَمْ يَذْكُرْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَفَعَلُوا مِمَّا عَدَا ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْصِيٌّ عِنْدَنَا.
وَنُصِبَ كُلَّ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِ أَحْصَيْناهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ بِضَمِيرِهِ.
وَالْإِحْصَاءُ: حِسَابُ الْأَشْيَاءِ لِضَبْطِ عَدَدِهَا، فَالْإِحْصَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّبْطِ وَالتَّحْصِيلِ.
وَانْتُصِبَ كِتاباً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ أَحْصَيْناهُ وَالتَّقْدِيرُ: إِحْصَاءَ كِتَابَةٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الضَّبْطِ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَكْتُوبَةَ مَصُونَةٌ عَنِ النِّسْيَانِ وَالْإِغْفَالِ، فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِنَايَةً عَنِ الضَّبْطِ جَاءَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا ل (أحصينا).
[٣٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٣٠]
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: ٢١] وَمَا اتَّصَلَ بِهَا، وَلَمَّا غُيِّرَ أُسْلُوبُ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارِيًا بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا فَيُظَنُّ أَنَّهُ خِطَابُ تَهْدِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُفَرَّعُ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ (ذُوقُوا) الَّذِي لَا يُقَالُ إِلَّا يَوْمَ الْجَزَاءِ،
41
فَالتَّقْدِيرُ: فَيُقَالُ لَهُمْ ذُوقُوا إِلَى آخِرِهِ، وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي ضَمِيرِ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ فَالْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ هُوَ فِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ.
وَالْأَمْرُ فِي «ذُوقُوا» مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ.
وَفُرِّعَ عَلَى فَذُوقُوا مَا يَزِيدُ تَنْكِيدَهُمْ وَتَحْسِيرَهُمْ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَزِيدُهُمْ عَذَابًا فَوْقَ مَا هُمْ فِيهِ.
وَالزِّيَادَةُ: ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ غَرَضٍ وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥] وَقَالَ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح: ٢٨]، أَيْ لَا تَزِدْهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَسَاوِي إِلَّا الْإِهْلَاكَ.
فَالزِّيَادَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ
عَذَابٍ يَكُونُ حَاصِلًا لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: ٨٨].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مِنْ نَوْعِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِتَكْرِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْمَعْنَى: فَسَنَزِيدُكُمْ عَذَابًا زِيَادَةً مُسْتَمِرَّةً فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا التَّرْكِيبِ الدَّقِيقِ، إِذِ ابْتُدِئَ بِنَفْيِ الزِّيَادَةِ بِحَرْفِ تَأْبِيدِ النَّفْيِ وَأُرْدِفَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى فَصَارَتْ دِلَالَةُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَعْنَى:
سَنَزِيدُكُمْ عَذَابًا مُؤَبَّدًا. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَهُوَ أُسْلُوبٌ طَرِيفٌ مِنَ التَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِعَادَةُ لَفْظٍ فَإِنَّ زِيَادَةَ الْعَذَابِ تَأْكِيدٌ لِلْعَذَابِ الْحَاصِلِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَعِيدَ بِزِيَادَةِ الْعَذَابِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ جِيءَ فِي أُسْلُوبِ نَفْيِهِ بِحَرْفِ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ (لَنْ) الْمُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ الْمَنْفِيَّةِ وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ قَيْدَ تَأْبِيدِ نَفْيِ الزِّيَادَةِ الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ (لَنْ) فِي جَانِبِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَسْرِي إِلَى إِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْعَذَابِ فِي جَانِبِ الْمُسْتَثْنَى، فَيَكُونُ مَعْنَى جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ: سَنَزِيدُكُمْ عَذَابًا أَبَدًا، وَهُوَ مَعْنَى الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ ابْتِدَاءٌ مُطْمِعٌ بِانْتِهَاءٍ مُؤْيِسٍ وَذَلِكَ أَشَدُّ حُزْنًا وَغَمًّا بِمَا يُوهِمُهُمْ أَنَّ مَا أُلْقُوا فِيهِ هُوَ مُنْتَهَى التَّعْذِيبِ حَتَّى إِذَا وَلَجَ ذَلِكَ أَسْمَاعَهُمْ فَحَزِنُوا لَهُ، أُتْبِعَ بِأَنَّهُمْ
42
يَنْتَظِرُهُمْ عَذَابٌ آخَرُ أَشَدُّ، فَكَانَ ذَلِكَ حُزْنًا فَوْقَ حَزْنٍ، فَهَذَا مِنْوَالُ هَذَا النَّظْمِ وَهُوَ مُؤَذِّنٌ بِشِدَّةِ الْغَضَبِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَشَدُّ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ. قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشَدِّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً
وَفِي سَنَدِهِ جِسْرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَفِي «ابْنِ عَطِيَّةَ»
: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سَنَدَهُ، وَتَعَدُّدُ طُرُقِهِ يكسبه قُوَّة.
[٣١- ٣٦]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٦]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦)
جَرَى هَذَا الِانْتِقَالُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْإِنْذَارِ لِلْمُنْذَرِينَ بِتَبْشِيرِ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِلتَّبْشِيرِ.
فَانْتُقِلَ مِنْ تَرْهِيبِ الْكَافِرِينَ بِمَا سَيُلَاقُونَهُ إِلَى تَرْغِيبِ الْمُتَّقِينَ فِيمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ كَرَامَةٍ وَمِنْ سَلَامَةٍ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ.
فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ: ٢١- ٢٢] وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ مُقْتَضِي الِانْتِقَالِ.
وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ إِنَّ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِئَلَّا يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ مُقَابَلَتِهِمْ بِالطَّاغِينَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْمَفَازُ: مَكَانُ الْفَوْزِ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْخَيْرِ وَنِيلُ الْمَطْلُوبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْفَوْزِ، وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ.
43
وَتَقْدِيمُ خَبَرِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ تَنْوِيهًا بِالْمُتَّقِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَفَازِ: الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا. وَأُوثِرَتْ كَلِمَةُ مَفازاً عَلَى كَلِمَةِ: الْجَنَّةِ، لِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِهِ إِثَارَةَ النَّدَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: ١٨] وَبِقُولِهِ:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: ٣٠].
وَأُبْدِلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَوْزِ.
وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ ذَوَاتِ السَّاقِ الْمَحُوطَةِ بِحَائِطٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ حَضَائِرَ.
وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ وَهُوَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَيُطْلَقُ عَلَى ثَمَرِهَا.
وَالْكَوَاعِبُ: جَمْعُ كَاعِبٍ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي بَلَغَتْ سِنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا.
وَوُصِفَتْ بِكَاعِبٍ لِأَنَّهَا تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا، أَيْ صَارَ كَالْكَعْبِ، أَيِ اسْتَدَارَ وَنَتَأَ، يُقَالُ: كَعَبَتْ مِنْ بَابِ قَعَدَ، وَيُقَالُ: كَعَّبَتْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ كَاعِبٌ وَصْفًا خَاصًّا بِالْمَرْأَةِ لَمْ تَلْحَقْهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ وَجُمِعَ عَلَى فَوَاعِلَ.
وَالْأَتْرَابُ: جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ: هُوَ الْمُسَاوِي غَيْرَهُ فِي السِّنِّ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاثِ. قِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التُّرَابِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ حِينَ يُولَدُ يَقَعُ عَلَى التُّرَابِ مِثْلَ الْآخَرِ، أَوْ لِأَنَّ التِّرْبَ يَنْشَأُ مَعَ لِدَتِهِ فِي سِنِّ الصِّبَا يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ.
وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرَائِبِ تَشْبِيهًا فِي التَّسَاوِي بِالتَّرَائِبِ وَهِيَ ضُلُوعُ الصَّدْرِ فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ.
وَتَقَدَّمَ الْأَتْرَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُرُباً أَتْراباً فِي الْوَاقِعَةِ [٣٧]، فَيَجُوزُ أَن يكون وصفهن بِالْأَتْرَابِ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُنَّ فِي تَسَاوِي السِّنِّ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ، أَيْ لَا تَفُوتُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ غَيْرَهَا، أَيْ فَلَا تَكُونُ النَّفْسُ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَمْيَلَ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى فَتَكُونُ بَعْضُهُنَّ أَقَلَّ مَسَرَّةً فِي نَفْسِ الرَّجُلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى
44
الرِّجَالِ فِي مُعْتَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِطَرْحِ التَّكَلُّفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَذَلِكَ أَحْلَى الْمُعَاشَرَةِ.
وَالْكَأْسُ: إِنَاءٌ مُعَدٌّ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَهُوَ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ تَكُونُ مِنْ زُجَاجٍ وَمِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ذَهَبٍ، وَرُبَّمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَأْسَ الزُّجَاجَةُ فِيهَا الشَّرَابُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ لَهَا شَكْلًا مُعَيَّنًا يُمَيِّزُهَا عَنِ الْقَدَحِ وَعَنِ الْكُوبِ وَعَنِ الْكُوزِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي قَوَامِيسِ اللُّغَةِ التَّعْرِيفَ بِالْكَأْسِ بِأَنَّهَا: إِنَاءُ الْخَمْرِ وَأَنَّهَا الْإِنَاءُ مَا دَامَ فِيهِ الشَّرَابُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِصِنْفٍ مِنَ الْآنِيَةِ.
وَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى الْخَمْرِ اسْمَ الْكَأْسِ وَأُرِيدَ بالكأس الْجِنْس إِذا الْمَعْنَى: وَأَكْؤُسًا.
وَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ كَأْسًا بِالْإِفْرَادِ أَخَفُّ مِنْ أَكْؤُسٍ وَكُؤُوسٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمُرَكَّبَ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَدِهَاقٌ: اسْمُ مَصْدَرِ دَهَقَ مِنْ بَابِ جَعَلَ أَوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَدْهَقَ، وَلِكَوْنِهِ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ.
وَالدَّهْقُ وَالْإِدْهَاقُ مَلْءُ الْإِنَاءِ مِنْ كَثْرَةِ مَا صُبَّ فِيهِ.
وَوَصْفُ الْكَأْسِ بِالدَّهْقِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْكَأْسَ مُدْهَقَةٌ لَا دَاهِقَةٌ.
وَمُرَكَّبُ (كَأْسٌ دِهَاقٌ) يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ «كَأْسًا»، وَمَعْنَاهُ مَمْلُوءَةٌ خَمْرًا، أَيْ دُونَ تَقْتِيرٍ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ عَزِيزَةً فَلَا يَكِيلُ الْحَانَوِيُّ لِلشَّارِبِ إِلَّا بِمِقْدَارٍ فَإِذَا كَانَتِ الْكَأْسُ مَلْأَى كَانَ ذَلِكَ أَسَرَّ لِلشَّارِبِ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا إِلَى الْكَأْسِ، فَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِتَشْبِيهِ تَنَاوُلِ النَّدَامَى لِلشَّرَابِ مِنَ الْكَأْسِ بِحُلُولِهِمْ فِي الْكَأْسِ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ (فِي) تَخْيِيلٌ أَوْ تَكُونُ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ»
الْحَدِيثَ، أَيْ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا مِنْهَا أَوْ عِنْدَهَا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ صِفَةً ثَانِيَةً لِ «كَأْسًا». وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ سَلِيمَةٌ مِمَّا تُسَبِّبُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا مِنْ آثَارِ
45
الْعَرْبَدَةِ مِنْ هَذَيَانٍ، وَكَذِبٍ وَسِبَابٍ، وَاللَّغْوُ وَالْكَذِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَعْرِضُ لِمَنْ تَدِبُّ الْخَمْرُ فِي رُؤُوسِهِمْ، أَيْ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ بِلَذَّةِ السُّكْرِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَا تَأْتِي الْخَمْرُ عَلَى كَمَالَاتِهِمُ النَّفْسِيَّةِ كَمَا تَأْتِي عَلَيْهَا خَمْرُ الدُّنْيَا.
وَكَانَ الْعَرَبُ يَمْدَحُونَ مَنْ يُمْسِكُ نَفْسَهُ عَنِ اللَّغْوِ وَنَحْوِهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ:
وَلَسْنَا بِشَرْبٍ أُمَّ عَمْرٍو إِذَا انْتَشَوْا ثِيَابُ النَّدَامَى بَيْنَهُمْ كَالْغَنَائِمِ
وَلَكِنَّنَا يَا أُمَّ عَمْرٍو نَدِيمُنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّيَّانِ لَيْسَ بِعَائِمِ
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ:
فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيهَا وَتَجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فِيها إِلَى مَفازاً بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ بِالْجَنَّةِ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ جَهَنَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: ٢١] أَوْ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً وَهَذَا الْمَعْنَى نَشَأَ عَنْ أُسْلُوبِ نَظْمِ الْكَلَامِ حَيْثُ قُدِّمَ حَدائِقَ وَأَعْناباً إِلَخْ، وَأُخِّرَ وَكَأْساً دِهاقاً حَتَّى إِذَا جَاءَ ضَمِيرُ (فِيهَا) بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ إِرْجَاعُهُ إِلَى الْكَأْسِ وَإِلَى الْمَفَازِ كَمَا عَلِمْتَ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي مِمَّا عَدَّدْنَاهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مِنْ جَانِبِ الْأُسْلُوبِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ الْكَلَامَ السَّافِلَ وَلَا الْكَذِبَ، فَلَمَّا أَحَاطَ بِأَهْلِ جَهَنَّمَ أَشَدُّ الْأَذَى بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِمْ مِنْ جَرَّاءَ حَرْقِ النَّارِ وَسَقْيِهِمُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ لِيَنَالَ الْعَذَابُ بَوَاطِنَهُمْ كَمَا نَالَ ظَاهِرَ أَجْسَادِهِمْ، كَذَلِكَ نَفَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلَّ الْأَذَى وَهُوَ أَذَى سَمَاعِ مَا يَكْرَهُهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْأَذَى.
وَكُنِّيَ عَنِ انْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالْكِذَّابِ عَنْ شَارِبِي خَمْرِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ اللَّغْوَ وَالْكِذَّابَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا لَغْوٌ وَكَذِبٌ لَسَمِعُوهُ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا منار بِهِ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ أَحْسَنُ مِمَّا وَقَعَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُنَزَّهَةٌ أَسْمَاعُهُمِِْ
46
عَنْ سَقْطِ الْقَوْلِ وَسُفْلِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٢٥] لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ وَالْهَذَيَانُ وَسَقْطُ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُورَدُ عَنْ رَوِيَّةٍ وَلَا تَفْكِيرٍ.
وَالْكِذَّابُ: تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ آنِفًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً هُنَا مُشَدَّدًا، وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ هُنَا بِتَخْفِيفِ الذَّالِ، وَانْتُصِبَ جَزاءً عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفازاً وَأَصْلُ الْجَزَاءِ مَصْدَرُ جَزَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُجَازَى بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، فَالْجَزَاءُ هُنَا الْمُجَازَى بِهِ وَهُوَ الْحَدَائِقُ وَالْجَنَّاتُ وَالْكَوَاعِبُ وَالْكَأْسُ.
وَالْجَزَاءُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْجَزَاءُ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيِّ وَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ. وَالتَّقْدِيرُ: جَزَيْنَا الْمُتَّقِينَ.
وَإِضَافَةُ رَبِّ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ الْمُتَّقِينَ بِذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِكْرَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ إِسْدَاءَ هَذِهِ النِّعَمِ إِلَى الْمُتَّقِينَ كَانَ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ صَادِرًا مِنْ لَدُنِ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِكَرَمِ هَذَا الْجَزَاءِ وَعِظَمِ شَأْنِهِ.
وَوصف الْجَزَاء بعطاء وَهُوَ اسْم لم يُعْطَى، أَيْ يُتَفَضَّلُ بِهِ بِدُونِ عِوَضٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَا جُوزُوا بِهِ أَوْفَرُ مِمَّا عَمِلُوهُ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْمَفَازِ وَمَا فِيهِ جَزَاءً شُكْرًا لَهُمْ وَعَطَاءً كَرَمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ إِذْ جُعِلَ ثَوَابُهَا أَضْعَافًا.
وحِساباً: اسْمُ مَصْدَرِ حَسَبَ بِفَتْحِ السِّينِ يَحْسُبُ بِضَمِّهَا، إِذَا عَدَّ أَشْيَاءَ وَجَمِيعُ مَا تَصَرَّفَ مِنْ مَادَّةِ حَسَبَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَعْنَى الْعَدِّ وَتَقْدِيرِ الْمِقْدَارِ، فَوَقَعَ حِساباً صِفَةَ جَزاءً، أَيْ هُوَ جَزَاءٌ كَثِيرٌ مُقَدَّرٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّكْثِيرِ، وَالْوَصْفُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ،
47
أَيْ مَحْسُوبًا مُقَدَّرًا بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا مُقَابِلُ مَا وَقَعَ فِي جَزَاءِ الطَّاغِينَ مِنْ قَوْلِهِ جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦].
وَهَذَا الْحِسَابُ مُجْمَلٌ هُنَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الْأَنْعَام: ١٦٠] وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ الْبَقَرَة [٢٦١].
وَلَيْسَ هَذَا الْحِسَابُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَجَاوُزِ الْحَد المعيّن، فَذَلِك اسْتِعْمَالٌ آخَرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠] وَلِكُلِّ آيَةٍ مَقَامُهَا الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ كَلِمَاتِهَا فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِساباً اسْمَ مَصْدَرِ أَحْسَبَهُ، إِذَا أَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ، فَهُوَ بِمَعْنَى إِحْسَابًا، فَإِنَّ الْكِفَايَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا حَسْبٌ بِسُكُونِ السِّينِ فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا كَفَاهُ قَالَ: حسبي.
[٣٧]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٣٧]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ رَبُّ وَرَفْعِ الرَّحْمَنُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِخَفْضِهِمَا، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِخَفْضِ رَبِّ وَرَفْعِ الرَّحْمَنُ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ رَفْعِ الِاسْمَيْنِ فَ رَبُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكَ [النبأ: ٣٦] عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَذْفًا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ حَذْفًا لِاتِّبَاعِ الِاسْتِعْمَالِ الْوَارِدِ عَلَى تَرْكِهِ، أَيْ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَجْرِي اسْتِعْمَالُ الْبُلَغَاءِ فِيهِ عَلَى حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ إِذَا جَرَى فِي الْكَلَامِ وَصْفٌ وَنَحْوُهُ لِمَوْصُوفٍ ثُمَّ وَرَدَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لَهُ فَيَخْتَارُ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَجْعَلَهُ خَبَرًا لَا نَعْتًا، فَيُقَدِّرُ ضَمِيرَ الْمَنْعُوتِ وَيَأْتِي بِخَبَرٍ عَنْهُ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالنَّعْتِ الْمَقْطُوعِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ رَبُّهُمْ لِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ جَهْلًا وَكُفْرًا لِنِعْمَتِهِ. والرحمن خَبَرٌ ثَانٍ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ جَرِّ الِاسْمَيْنِ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى أَنَّ رَبِّ السَّماواتِ نَعْتٌ
48
لِ رَبِّكَ مِنْ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ [النبأ: ٣٦] والرَّحْمنِ نَعْتٌ ثَانٍ.
وَالرَّبُّ: الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ بِالتَّدْبِيرِ وَرَعْيِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسَمَّاهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ قَدْ يُرَادُ بِهِ سَاكِنُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٤٥]، فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ صِفَاتِ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ لَا صِفَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْخَوَاءُ عَلَى عُرُوشِهَا مِنْ أَحْوَالِ ذَاتِ الْقَرْيَةِ لَا مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانِهَا، فَكَانَ إِطْلَاقُ الْقَرْيَةِ مُرَادًا بِهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ كَائِنَاتٍ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا اللَّهُ وَمَا فِي الْجَوِّ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ حَيَّةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْحِبَةٍ وَأَمْطَارٍ وَمَوْجُودَاتٍ سَابِحَةٍ فِي الْهَوَاءِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصْنُوعَاتِ.
وَأُتْبِعَ وَصْفُ رَبِّ السَّماواتِ بِذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ اسْمُ الرَّحْمنِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّ فِي مَعْنَاهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُفِيضُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلَى الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ هُوَ عَطَاءُ رَحْمَانَ بِهِمْ.
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَلِيلَةِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠].
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ مَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَاقِلَةِ، أَوِ الْمَزْعُومِ لَهَا الْعَقْلُ مِثْلَ الْأَصْنَامِ، فَيُتَوَهَّمُ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَسْتَطِيعُ خِطَابَ اللَّهِ وَمُرَاجَعَتَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِلِاحْتِرَاسِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا تُشْعِرُ بِهِ صِلَةُ رَبٍّ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَرْبُوبِينَ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِمْ يُسِيغُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى خِطَابِ الرَّبِّ.
49
وَالْمِلْكُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً مَعْنَاهُ الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَمْلِكُهُ حَسَبَ رَغْبَتِهِ لَا رَغْبَةِ غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ غَيْرِهِ.
فَنَفْيُ الْمِلْكِ نَفْيٌ لِلِاسْتِطَاعَةِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْهُ حَالٌ مِنْ خِطاباً وَأَصْلُهُ صِفَةٌ لِخِطَابٍ فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى مَوْصُوفِهِ صَارَ حَالًا.
وَحَرْفُ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ وَهِيَ ضَرْبٌ من الابتدائية فَهِيَ ابتدائية مَجَازِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: ٤] فَ (مِنْ) الْأُولَى اتِّصَالِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ لِتَوْكِيدِ النَّصِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمرَان: ٢٨]، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ خِطَابًا يُبَلِّغُونَهُ إِلَى اللَّهِ.
وَضَمِيرُ لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا صَادِقَةٌ عَلَى جَمِيعِهِمْ.
وَالْخِطَابُ: الْكَلَامُ الْمُوَجَّهُ لِحَاضِرٍ لَدَى الْمُتَكَلِّمِ أَوْ كَالْحَاضِرِ الْمُتَضَمِّنِ إِخْبَارًا أَوْ طَلَبًا أَوْ إِنْشَاءَ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ.
وَفِعْلُ يَمْلِكُونَ يَعُمُّ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَمَا تَعُمُّ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ. وخِطاباً عَامٌّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِمُخَصَّصٍ مُنْفَصِلٍ كَقَوْلِهِ عَقِبَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: ٣٨] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: ١٠٥] وَقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] وَقَوْلِهِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: ٢٨].
وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا إِبْطَالُ اعْتِذَارَ الْمُشْرِكِينَ حِينَ اسْتَشْعَرُوا شَنَاعَةَ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي شَهَّرَ الْقُرْآنُ بِهَا فَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨]، وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣].
50

[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٣٨]

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)
يَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً [النبأ: ٣٧]، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ اللَّهُ.
وَجُمْلَةُ لَا يَتَكَلَّمُونَ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً أُعِيدَتْ بِمَعْنَاهَا لِتَقْرِيرِ
الْمَعْنَى إِذْ كَانَ الْمَقَامُ حَقِيقًا، فَالتَّقْرِيرُ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى الدِّلَالَةِ عَلَى إِبْطَالِ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ شَفَاعَةَ أَصْنَامِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهِيَ دِلَالَةٌ بِطَرِيقِ الْفَحْوَى فَإِنَّهُ إِذَا نُفِيَ تُكَلُّمُهُمْ بِدُونِ إِذْنٍ نُفِيَتْ شَفَاعَتُهُمْ إِذِ الشَّفَاعَةُ كَلَامُ مَنْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَقَبُولٌ عِنْدَ سَامِعِهِ.
وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بمتعلقات يَمْلِكُونَ [النبأ: ٣٧] مِنْ مَجْرُورٍ وَمَفْعُولٍ بِهِ، وَظَرْفٍ، وَجُمْلَةٍ أُضِيفَ لَهَا.
وَضَمِيرُ يَتَكَلَّمُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَمْلِكُونَ وَالْقَوْلُ فِي تَخْصِيصِ لَا يَتَكَلَّمُونَ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً [النبأ: ٣٧] وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [طه: ١٠٩] اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَإِذْ قَدْ كَانَ مُؤَكِّدًا لِضَمِيرِ لَا يَمْلِكُونَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ يُفْهِمُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْمُؤَكَّدِ بِهِ.
وَالْقِيَامُ: الْوُقُوفُ وَهُوَ حَالَةُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَمَلِ الْجِدِّ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْعُبُودِيَّةِ الْحَقِّ الَّتِي لَا تسْتَحقّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
، أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ الْمُخْتَصَّةِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَالرُّوحُ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْهُ اخْتِلَافًا أَثَارَهُ عَطْفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ فَقِيلَ هُوَ جِبْرِيلُ.
وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِتَشْرِيفِ قَدْرِهِ بِإِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ.
وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ: فَالْمُفْرَدُ مَعَهَا وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تُحْضَرُ الْأَرْوَاحُ
51
لِتُودَعَ فِي أَجْسَادِهَا، وَعَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُ يَقُومُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
والْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الرُّوحُ، أَيْ وَيَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفًّا.
وَالصَّفُّ اسْمٌ لِلْأَشْيَاءِ الْكَائِنَةِ فِي مَكَانٍ يُجَانِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْخَطِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فِي سُورَةِ طه [٦٤]، وَفِي قَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٣٦]، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَأَصْلُهُ لِلْمُبَالَغَةِ ثُمَّ صَارَ اسْمًا، وَإِنَّمَا يَصْطَفُّ النَّاسُ فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ فَصَفُّ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ لَهُ.
وَالْإِذْنُ: اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُفِيدُ إِبَاحَةَ فِعْلٍ لِلْمَأْذُونِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: أَذِنَ لَهُ، إِذَا اسْتَمَعَ إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الإنشقاق: ٢]، أَي استمعت وأطاعت لِإِرَادَةِ
اللَّهِ. وَأَذِنَ: فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْأُذُنِ وَهِيَ جَارِحَةُ السَّمْعِ، فَأَصْلُ مَعْنَى أَذِنَ لَهُ: أَمَالَ أُذُنَهُ، أَيْ سَمْعَهُ إِلَيْهِ يُقَالُ: أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا كَفَرِحَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي لَازِمِ السَّمْعِ وَهُوَ الرِّضَى بِالْمَسْمُوعِ فَصَارَ أَذِنَ بِمَعْنَى رَضِيَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ أَوْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ، وَأَبَاحَ فِعْلَهُ، وَمَصْدَرُهُ إِذْنٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ فَكَأَنَّ اخْتِلَافَ صِيغَةِ الْمَصْدَرَيْنِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَمُتَعَلَّقُ أَذِنَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَا يَتَكَلَّمُونَ، أَيْ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْكَلَامِ.
وَمعنى أذن الرحمان: أَنَّ مَنْ يُرِيدُ التَّكَلُّمَ لَا يَسْتَطِيعُهُ أَوْ تَعْتَرِيهِ رَهْبَةٌ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْكَلَامِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ اللَّهَ فَأَذِنَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنُهُ إِذَا أَلْهَمَهُ اللَّهُ لِلِاسْتِئْذَانِ فَإِنَّ الْإِلْهَامَ إِذْنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي الْعَامِلِ الْأُخْرَوِيِّ فَإِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي النَّفْسِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ اسْتَأْذَنَ اللَّهَ فَأَذِنَ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ إِحْجَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الِاسْتِشْفَاعِ لِلنَّاسِ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
فِي الْحَدِيثِ: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدَ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ».
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: ٢٨]، أَيْ لِمَنْ عَلِمُوا
52
أَنَّ اللَّهَ ارْتَضَى قَبُولَ الشَّفَاعَةِ فِيهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِإِلْهَامٍ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْوَحْيِ لِأَنَّ الْإِلْهَامَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ لَا يَعْتَرِيهِ الْخَطَأُ.
وَجُمْلَةُ وَقالَ صَواباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ، أَيْ وَقَدْ قَالَ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْكَلَامِ صَواباً، أَيْ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي الْكَلَامِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَتَكَلَّمُ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، أَيْ وَإِلَّا مَنْ قَالَ صَوَابًا فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَا يَقُولُ الصَّوَابَ لَا يُؤْذَنُ لَهُ.
وَفِعْلُ وَقالَ صَواباً مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ، أَيْ وَيَقُولُ صَوَابًا، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ، أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
وَإِطْلَاقُ صِفَةِ الرَّحْمنُ عَلَى مَقَامِ الْجَلَالَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِذْنَ اللَّهِ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْكَلَامِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ مِنْ شَفَاعَةٍ أَو اسْتِغْفَار.
[٣٩]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٣٩]
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَعِيدٍ وَوَعْدٍ، إنذار وَتَبْشِيرٍ، سِيقَ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِ يَوْمَ الْفَصْلِ [النبأ: ١٧]. الَّذِي ابْتُدِئَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧]. وَالْمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِعَظِيمِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُوَ نَتِيجَةُ أَعْمَالِ النَّاسِ مِنْ يَوْمِ وُجُودِ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ.
فَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْحَقِّ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّابِتُ الْوَاقِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: ٦] قَوْله آنِفًا: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً، فَيَكُونُ الْحَقُّ بِمَعْنى الثَّابِت مثل مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الْأَنْبِيَاء: ٩٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَقِّ مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ، أَيِ الْعَدْلُ وَفَصْلُ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ وَصْفُ الْيَوْمِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذِ الْحَقُّ يَقَعُ فِيهِ وَالْيَوْم ظَرْفٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: ٣].
53
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِمَعْنَى الْحَقِيقِ بِمُسَمَّى الْيَوْمِ لِأَنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ نَصْرُ قَبِيلَةٍ عَلَى أُخْرَى مِثْلَ: يَوْمِ حَلِيمَةَ، وَيَوْمِ بُعَاثَ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُقَالَ: يَوْمٌ، وَلَيْسَ كَأَيَّامِ انْتِصَارِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: ٩]، فَهُوَ يَوْمُ انْتِقَامِ اللَّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ عَبِيدَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَيَكُونُ وَصْفُ الْحَقِّ بِمِثْلِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْبَقَرَة: ١٢١]، أَي التِّلَاوَة الْحَقِيقَة بِاسْمِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ التِّلَاوَةُ بِفَهْمِ مَعَانِي الْمَتْلُوِّ وَأَغْرَاضِهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْيَوْمُ الْمُتَقَدَّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧]. وَمَفَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَقِيقٌ بِمَا سَيُوصَفُ بِهِ بِسَبَبِ مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ شُؤُونِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَة: ٢- ٤]، فَلِأَجَلِ جَمِيعِ مَا وُصِفَ بِهِ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ الْحَقُّ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وَتَعْرِيفُ الْيَوْمُ بِاللَّامِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، أَيْ هُوَ الْأَعْظَمُ مِنْ بَيْنِ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مِنْ أَيَّامِ النَّصْرِ لِلْمُنْتَصِرِينَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا
هُوَ أَهْلُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَكَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَشْهُورَةِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ غَيْرُ ثَابِتِ الْوُقُوعِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً بِفَاءِ الْفَصِيحَةِ لِإِفْصَاحِهَا عَنْ شَرط مُقَدّر ناشىء عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَمَنْ شَاءَ اتِّخَاذَ مَآبٍ عِنْدَ رَبِّهِ فَلْيَتَّخِذْهُ، أَيْ فَقَدْ بَانَ لَكُمْ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَلْيَخْتَرْ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ مَا يَلِيقُ بِهِ لِلْمَصِيرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَآبًا فِيهِ، أَيْ فِي الْيَوْمِ.
وَهَذَا التَّفْرِيعُ مِنْ أَبْدَعِ الْمَوْعِظَةِ بالترغيب والترهيب عِنْد مَا تَسْنَحُ الْفُرْصَةُ لِلْوَاعِظِ مِنْ تَهَيُّؤِ النُّفُوسِ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ.
54
وَالِاتِّخَاذُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْأَخْذِ، أَيْ أَخَذَ أَخْذًا يُشْبِهُ الْمُطَاوَعَةَ فِي التَّمَكُّنِ، فَالتَّاءُ فِيهِ لَيست للمطاوعة الْحَقِيقَة بَلْ هِيَ مَجَازٌ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَالِاتِّخَاذُ: الِاكْتِسَابُ وَالْجَعْلُ، أَيْ لِيَقْتَنِ مَكَانًا بِأَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا لِيَنَالَ مَكَانًا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَآبَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا خَيْرًا.
فَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَآبُ خَيْرٍ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى إِلَّا بِالْخَيْرِ.
وَالْمَآبُ يَكُونُ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ آبَ، إِذَا رَجَعَ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَسْكَنِ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَؤُوبُ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا وَهُوَ الْأَوْبُ، أَيِ الرُّجُوعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرَّعْد: ٣٦]، أَيْ رُجُوعِي، أَيْ فَلْيَجْعَلْ أَوْبًا مُنَاسِبًا لِلِقَاءِ رَبِّهِ، أَيْ أَوْبًا حَسَنًا.
[٤٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٤٠]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا
اعْتِرَاضٌ بَين مَآباً [النبأ: ٣٩] وَبَين وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
كَيْفَمَا كَانَ مَوْقِعُ ذَلِكَ الظَّرْفِ حَسْبَمَا يَأْتِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْإِعْذَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوَارِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ وَضِدِّهَا شُبْهَةٌ وَلَا خَفَاء.
فَالْخَبَر وهونَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
مُسْتَعْمَلٌ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي
إِفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ كَوْنَ مَا سَبَقَ إِنْذَارًا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْذَارِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ.
وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ، مَعَ تَمْثِيلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مثل المتبرئ مِنْ تَبِعَةِ مَا عَسَى أَنْ يَلْحَقَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ إِنْ لَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ كَمَا يَقُولُ النَّذِيرُ عِنْدَ الْعَرَبِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِالْعَدُوِّ «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ».
وَالْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ مَا يَسُوءُ فِي مُسْتَقْبَلٍ قَرِيبٍ.
وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْإِنْذَارِ قَدْ حَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
55
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً إِلَى قَوْلِهِ: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: ٢١- ٣٠].
وَقُرْبُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي تَحَقُّقِهِ وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بَعِيدٌ، قَالَ تَعَالَى:
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧]، أَيْ لِتَحَقُّقِهِ فَهُوَ كَالْقَرِيبِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ يُصَدَّقُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ الْإِنْذَارُ بِهِ، وَيُصَدَّقُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِ الشِّرْكِ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: هُوَ قَتْلُ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ. وَيَشْمَلُ عَذَابَ يَوْمِ الْفَتْحِ وَيَوْمِ حُنَيْنٍ كَمَا وَرَدَ لَفْظُ الْعَذَابِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: ١٤] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ [الطّور: ٤٧].
ْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ: اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: ٣٩] فَيكون وْمَ يَنْظُرُ
ظَرْفًا لَغوا مُتَعَلقا بنْذَرْناكُمْ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: ٣٨] لِأَنَّ قِيَامَ الْمَلَائِكَةِ صَفًّا حُضُورٌ لِمُحَاسَبَةِ النَّاسِ وَتَنْفِيذِ فَصْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ حِينَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أَيْ مَا عَمِلَهُ سَالِفًا فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الظَّرْفِ تَابِعٌ لَهُ فِي مَوْقِعِهِ.
وَعَلَى كلا الْوَجْهَيْنِ فجملةنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الظَّرْفِ وَمُتَعَلِّقِهِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا أُبْدِلَ مِنْهُ.
وَالْمَرْءُ: اسْمٌ لِلرَّجُلِ إِذْ هُوَ اسْمٌ مُؤَنَّثُهُ امْرَأَةٌ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرْءِ جَرَى عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ خَرَجَ
مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي التَّخَاطُبِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي شُؤُونِ مَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ.
وَالْمُرَادُ: يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ الدَّالِّ عَلَى عُمُومِ التَّكَالِيفِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا مَا خُصَّ مِنْهَا بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ لِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمُسْتَحْضَرُ فِي أَذْهَانِ الْمُتَخَاطِبِينَ عِنْدَ التَّخَاطُبِ.
56
وَتَعْرِيفُ (الْمَرْءُ) لِلِاسْتِغْرَاقِ مِثْلَ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْعَصْر: ٢- ٣].
وَفعل نْظُرُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ أَيِ الْبَصَرِ، وَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَرَى الْمَرْء مَا قَدمته يَدَاهُ. وَمَعْنَى نَظَرِ الْمَرْءِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ: حُصُولُ جَزَاءِ عَمَلِهِ لَهُ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالنَّظَرِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لِصَاحِبِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِطْلَاقُ النَّظَرِ هُنَا عَلَى الْوِجْدَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ [الزلزلة: ٦]، وَقَدْ جَاءَتِ الْحَقِيقَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمرَان: ٣٠] الْآيَةَ، وَ (مَا) مَوْصُولَة صلتها جملةدَّمَتْ يَداهُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَظَرِ الْفِكْرِ، وَأَصْلُهُ مَجَازٌ شَاعَ حَتَّى لحق بالمعاني الْحَقِيقَة كَمَا يُقَالُ: هُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ. وَمِنْهُ التَّنَظُّرُ: تَوَقُّعُ الشَّيْءِ، أَيْ يَوْمَ يَتَرَقَّبُ وَيَتَأَمَّلُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَتَكُونُ (مَا) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ استفهامية وَفعل نْظُرُ
مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: يَنْظُرُ الْمَرْءُ جَوَابَ مَنْ يَسْأَلُ: مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ؟
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِانْتِظَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: ٥٣].
وتعريفْ مَرْءُ
تَعْرِيف الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَالتَّقْدِيمُ: تَسْبِيقُ الشَّيْءِ والابتداء بِهِ.
وَا قَدَّمَتْ يَداهُ
هُوَ مَا أَسْلَفَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَا عَمِلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمرَان: ٣٠] الْآيَة.
وَقَوله: اقَدَّمَتْ يَداهُ
إِمَّا مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِإِطْلَاقِ الْيَدَيْنِ عَلَى جَمِيعِ آلَاتِ الْأَعْمَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ هَيْئَةِ الْعَامِلِ لِأَعْمَالِهِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَيْئَةِ الصَّانِعِ لِلْمَصْنُوعَاتِ
بِيَدَيْهِ كَمَا قَالُوا فِي الْمَثَلِ: «يَدَاكَ أَوْكَتَا» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلٍ بِلِسَانِهِ أَوْ مَشْيٍ بِرِجْلَيْهِ.
57
وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ ذِكْرُ الْيَدَيْنِ مِنَ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ التَّغْلِيبِ دون خُصُوصِيَّة التَّمْثِيل.
وَشَمل اقَدَّمَتْ يَداهُ
الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ عُمُومِ الْمَرْءِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الَّذِي يَقُول: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
لِأَنَّ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلَى إِنْذَارِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَكَانَ ذَلِكَ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ، أَيْ يَوْمَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِنَ الْأَحْيَاءِ فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْمُكَلَّفِينَ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُدْرِكٍ وَلَا حَسَّاسٍ بِأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ شَيْءٍ مِمَّا لَا إِدْرَاكَ لَهُ وَهُوَ التُّرَابُ، وَذَلِكَ تَلَهُّفٌ وَتَنَدُّمٌ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْكُفْرِ.
وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٩٨] فَجَعَلَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ بِالتَّحَسُّرِ وَتَمَنِّي أَنْ يَكُونُوا مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْكَافِرِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ عَمِلَ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ وَتَوَقَّعَ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ يَرْجُو أَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهُ إِلَى النَّعِيمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمرَان: ٣٠] وَقَالَ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٦- ٨]، فَالْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ ثَوَابَ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَعْظَمُ ثَوَاب، وَثَوَابُ حَسَنَاتِهِمْ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِيهَا وَيَرْجُونَ الْمَصِيرَ إِلَى ذَلِكَ الثَّوَابِ وَمَا يَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ لَا يَطْغَى عَلَى ثَوَابِ حَسَنَاتِهِمْ، فَهُمْ كُلُّهُمْ يَرْجُونَ الْمَصِيرَ إِلَى النَّعِيمِ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَوْ لِمَنْ يُقَارِبُهُمْ مَثَلًا بِقَوْلِهِ:
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الْأَعْرَاف: ٤٦] عَلَى مَا فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ وُجُوهٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةٌ لِمَا جَاءَ فِي السُّورَةِ مِنْ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَفِي آخِرِهَا رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ عُرِّفُوا بِالطَّاغِينَ وَبِذَلِكَ كَانَ خِتَامُ السُّورَةِ بِهَا بَرَاعَةَ مَقْطَعٍ.
58

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٧٩- سُورَةُ النَّازِعَاتِ
سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَأَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ النَّازِعَاتِ» بِإِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى النَّازِعَاتِ بِدُونِ وَاوٍ، وَجعل لَفْظُ «النَّازِعَاتِ» عَلَمًا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا. وَعُنْوِنَتْ فِي كِتَابِ التَّفْسِير فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ بِسُورَةِ «وَالنَّازِعَاتِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ عَلَى حِكَايَةِ أَوَّلِ أَلْفَاظِهَا.
وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ الشَّهِيرُ بِسَعْدِي وَالْخَفَاجِيُّ: إِنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ السَّاهِرَةِ» لِوُقُوعِ لَفْظِ «السَّاهِرَةِ» فِي أَثْنَائِهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ.
وَقَالَا: تُسَمَّى سُورَةَ الطَّامَّةِ (أَيْ لِوُقُوعِ لَفْظِ الطَّامَّةِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا). وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ.
وَرَأَيْتُ فِي مُصْحَفٍ مَكْتُوبٍ بِخَطٍّ تُونُسِيٍّ عُنْوِنَ اسْمُهَا «سُورَةَ فَالْمُدَبِّرَاتِ» وَهُوَ غَرِيبٌ، لِوُقُوعِ لَفْظِ الْمُدَبِّرَاتِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ الْحَادِيَةَ وَالثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النَّبَأِ وَقَبْلَ سُورَةِ الِانْفِطَارِ.
وَعَدَدُ آيِهَا خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سِتًّا وَأَرْبَعين آيَة.
أغراضها
اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَإِبْطَالِ إِحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وُقُوعَهُ.
وَتَهْوِيلِ يَوْمِهِ وَمَا يَعْتَرِي النَّاسَ حِينَئِذٍ مِنَ الْوَهْلِ.
59
Icon