وتعرض سورة النبأ سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتهديد المشركين على إنكارهم لوحدانية الله ورسالات المرسلين. ثم تتحدث عن أحداث يوم القيامة، وما يلاقيه المكذبون من العذاب، وفوز المتقين بجنات النعيم، في ذلك اليوم الذي هو حق لا ريب فيه، حيث يتمنى الكافرون لو كانوا ترابا. وفي السورة الكريمة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه ومشاهده وصوره وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة. وأن اختيار الألفاظ والعبارات لَيوقع أثرا كبيرا في الحس والنفس والضمير.
ﰡ
كان الناس في مكة وغيرها في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بعضُهم بعضا عن رسالة النبي، ويسألون غيرهم ممن عنده عِلم فيقولون : هل هو رسول من عند الله ؟ وما هذا الخبر الذي جاء به ويدعي أنه مرسَل من قِبل الله، ويدعو إلى توحيده وإلى الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر ؟ وكان هذا شيئا جديدا عليهم، فردّ الله عليهم بقوله تعالى :
﴿ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴾
عن أي شيء يتساءلون ؟
عن هذا الخبر العظيم.
ثم ردّ الله عليهم الإنكارَ والترددَ بقوله :
﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾
ليس الأمرُ كما يزعم هؤلاء المنكِرون للبعث بعد الموت، ستنكشِفُ لهم الحقيقةُ وسيعلمون حقيقةَ الأمرِ حين يُبعثون ويَرَون صحةَ الخبر، يومَ تقومُ الساعة ويفصِل الله بينهم في كل ما اختلفوا فيه.
قراءات :
قرأ الجمهور : كلا سيعلمون بالياء، وقرأ ابن عامر : ستعلمون بالتاء.
﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾
ليس الأمرُ كما يزعم هؤلاء المنكِرون للبعث بعد الموت، ستنكشِفُ لهم الحقيقةُ وسيعلمون حقيقةَ الأمرِ حين يُبعثون ويَرَون صحةَ الخبر، يومَ تقومُ الساعة ويفصِل الله بينهم في كل ما اختلفوا فيه.
ثم شرع يبيّن لهم عظيمَ قُدرته، وآياتِ رحمته التي غَفَل عنها أولئك المنكِرون مع أنها أمامهم وبين أعينِهم في كل حِين. فذكر من مظاهرِ قدرته تسعةَ أمور يشاهِدونها فقال :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً ﴾
١- ألم نبسُط لهم هذه الأرضَ التي يعيشون عليها، ونمهّدها لهم لِيسيرَ الناسُ عليها والحيوان، ويستقروا بها.
٢-﴿ والجبال أَوْتَاداً ﴾ فالجبالُ جعلها الله مثلَ الأوتاد، تحفظ توازنَ الأرض، إذ يبلغ سُمكُ الجزء الصلب من القشرة الأرضية نحو ستين كيلومتراً، وتكثر فيه التجاعيد فيرتفع حيث تتكون الجبالُ، وينخفض لتكونَ بطونُ البحار وقيعان المحيطات والأودية.
وهو في حالة التوازن بسبب الضغوط الناتجة من الجبال.. فقشرةُ الأرض اليابسة تُرسيها الجبال، فهي كالأوتاد التي تحفظ الخيمةَ من السقوط. ولولا الجبالُ لكانت الأرض دائمةَ الاضطراب بما في جوفها من المواد الشديدة الغليان، الدائمة الجَيَشان، والتي نشاهد بعضاً منها عندما تنفجر البراكين.
٣-﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ جعلناكم ذكراً وأنثى لحِفظ النسل، وليتمَّ التعاون على سعادةِ هذه الحياة، وتربية النسل.
٤-﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾ وجعلنا النومَ راحةً لكم من عَناءِ الأعمال التي تزاولونها في النهار، وانقطاعاً عن السعي. وفيه نعمةٌ كبيرة على الإنسان، ففيه يتوقف نشاط الجزء المدرِك الواعي من المخّ، ويحصل هبوط كبير في نشاط كافة أعضاء الجسم وأنسجته مما يترتب عليه انخفاضٌ في توليد طاقة الجسم وحرارته. وهكذا يأخذ الجسم أثناءَ النوم نصيباً من الهدوء والراحة بعد عناء المجهودات العضلية والعصبية، فتهبط جميع وظائف الجسم الحيويّة، ما عدا عمليات الهضم وإفراز البول من الكليتين، والعَرق من الجلد... أما التنفس فيبطئ ويصير أكثر عمقا، كما ينخفض ضغطُ الدم، وتبطئ سرعة النبض، ويقل مقدار الدم الذي يدفعه من القلب. وكل هذا يسبّب الراحةَ للإنسان في مدة نومه، ويحدّد نشاطه حين يفيق.
٥-﴿ وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً ﴾ وجعلْنا الليلَ بظلامه ساتراً لكم، كاللّباس الذي يغطي الجسمَ ويستُره، اللّيل شبيه باللّباس لأنه يستر الأشخاصَ بظُلمته. وللناسِ في هذا السَّتر فوائدُ اللباس.
٦-﴿ وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ﴾ وجعلنا النهارَ وقتَ سعيٍ لكم، تسعون فيه لتحصيل ما به تعيشون وتتصرّفون. فكما كان النومُ انقطاعاً عن الحياة، كانت اليقظةُ حياة. والنهارُ زمنُ هذه الحياة، فيه يستيقظ الناس ويتقلبون في حوائجهم ومكاسبهم.
٧-﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ وأقمنا فوقكم سبعَ طرائق للكواكبِ السيّارة التي تشاهدونها.. وقد خصّها بالذِكر لظُهورها ومعرفةِ العامة لها، ولم يفصِّل ما في هذا الكونِ العجيب الواسع من عوالمَ ومجرّاتٍ لا حصرَ لها لأنهم لا خبرة لهم فيها، ولا علم. فاكتفى بما يرون ويشاهدون من إحكام الصنعة ودقة نظام دورانها وسَبْحها في هذا الفضاء.
٨-﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً ﴾ وخلقنا لكم في نظامِكم هذا شمساً منيرةً ساطعة الوهج، دائمة الحرارة. والشمسُ كما ثبت علمياً تبلغ درجةُ حرارتها على سطحها المشِعّ ستةَ آلاف درجة مطلقة، أما المركز فتزيدُ فيه درجة الحرارة على ثلاثين مليون درجة، بسبب الضغوطِ العالية في الموادّ التي فيه، فهي سِراج وهّاجٌ حقيقةً لما فيها من الحرارة.
وأنزلنا من السُحب والغيوم ماءً دافقاً منهمِراً بشدة.
ونباتا : جميع أنواع الخضار.
ثم بيّن عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال :
﴿ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً ﴾ لنخرِجَ لكم بهذا الماءِ العظيمِ حَبّاً ونباتا.
غذاءً لكم وللحيوان.
ألفافا : ملتفة الأغصان، كثيرة الشجر.
وحدائقَ وبساتينَ ذاتَ أشجارٍ ملتفة، وأغصانٍ متشابكة.
والمطرُ هو المصدر الوحيد للماءِ العذْب على الأرض. والأصل فيه تكاثُف أبخِرةِ الماء المتصاعدة من المحيطات والبحار وتشكُّله في صورة سحب، تتحولُ إلى نقط من الماء أو قطع من الثلج، وتتساقط على الأرض بقدرة الله تعالى على هيئة مطر أو ثلج أو بَرَد.
ميقاتا : وقتاً للحساب والجزاء.
بعد أن نبّه الله عبادَه إلى هذه الظواهر الباهرة، ووجه أنظارهم إلى آياته في هذا الكون العجيب، أخذ يبيّن ما اختلفوا فيه ونازعوا في إمكان حصوله وهو يومُ الفصل، ويذكُر لهم بعضَ ما يكون فيه، تخويفاً لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضَحت الأدلةُ واستبانَ الحق.
﴿ إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً ﴾ إن يوم القيامة هو يومُ الفصلِ بين الخلائق، وهو ميعاد مقدَّر للبعث.
ثم بيّن هذا اليومَ وزاد في تهويله فقال :
﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ﴾
في ذلك اليومِ يُنفخ في البوق فتُبعثون من قبورِكم وتأتون إلى المَحْشَرِ جماعاتٍ جماعاتٍ.
ما في حقيقة ذلك الصور، لأن الحياةَ الآخرة وجميعَ ما فيها تختلف عن حياتنا الدنيا.
قراءات
قرأ أهل الكوفة : وفتحت السماء : بالتخفيف، وقرأ الباقون : وفتّحت بتشديد التاء.
سرابا : السراب ما يرى في نصف النهار كأنه ماء وهو خيال ليس بشيء، وكذلك تسير الجبال.
وزالت الجبالُ عن أماكنها وتفتَّتَتْ صخورُها وذهبت هَباءً كالسراب. فالآخرةُ عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها، فنؤمن بما ورد به الخبر عنها
ولا نبحث. فالنشأةُ الأخرى قد تكون غير هذه الحياة فتكون السماء بالنسبة إلينا أبوابا ندخُل من أيها شئنا بإذن الله. وقد يكون معنى تفتُّح السماء ما عنى بقوله : إذا السماءُ انشقّت.. إذا السماءُ انفطرت.. يوم تَشَقَّقُ السماءُ بالغمام.. يعني يومَ يقعُ الاضطراب في نظام الكواكب، فيذهب التماسُك بينها ولا يكون فيها ما يسمّى سماء إلا مسالكَ وأبواب لا يلتقي فيها شيء بشيء، وذلك هو خرابُ الكون.
وقد ذُكر زوالُ الجبال في القرآن في عدة آيات منها قوله تعالى ﴿ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الحاقة : ١٤ ].
وقوله :﴿ وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ]، وقوله ﴿ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ﴾ [ الواقعة : ٥، ٦ ].
وبعد أن عدّد الله تعالى وُجوهَ إحسانه، ودلائلَ قدرته على إرسال رسوله الكريم، وذكَرَ يومَ الفصل وما فيه من أهوال وشدائد - ذكر هُنا وعيدَ المكذّبين وبيانَ ما يلاقونه فقال :
﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً... ﴾
إن جهنّم تترصَّد وتنتظر الجاحدين.
مآبا : مرجعاً.
وهي منزلُهم، ومرجعُهم إليها.
أحقابا : واحدها : حُقب وحِقب، وهو المدة الطويلة من الدهر.
حيث يستقرّون دهوراً متلاحقة كلّما انقضى زمن تجدَّد لهم زمن آخر.
قراءات :
قرأ حمزة وروح : لَبِثينَ بكسر الباء من غير ألف بعد اللام، وقرأ الباقون : لابثين بألف بعد اللام.
﴿ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً..... ﴾
إنهم لا يذوقون في جهنّم نَسيماً يُنَفِّسُ عنهم حَرَّها،
غسّاقا : صديدا وعرقا دائم السيلان من أجسادهم.
ولا شراباً يسكِّن عطشهم فيها، بل يجدون ماء بالغاً الغاية من الحرارة، وصديداً مُنِتنا يزيد في عذابهم.
قراءات :
قرأ حفص وحمزة والكسائي : غسّاقا بالتشديد، والباقون غَسَاقا بفتح الغين والسين من غير تشديد.
وهو جزاء موافق لأعمالهم السيئة.
﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ﴾
أي بالغوا في التكذيب بآياتنا وما فيها من براهينَ وبيّنات.
﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ﴾
أي أحصيناه مكتوباً في كتابٍ ﴿ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : لم ينزِل على أهل النار آيةٌ أشدّ من هذه الآية ﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾.
بعد أن بيّن حالَ المكذّبين الجاحدين وما يلاقونه من عذاب أليم، ذكر هنا ما يفوز به التقاةُ من الجنات، ووصفها ووصف ما فيها. ثم ذكر أن ذلك عطاء لهم من مالِكِ السموات والأرض، عظيم الرحمة والإنعام، الذي لا يملك أحد من أهل السموات والأرض أن يخاطبَه في شأنِ الثواب والعقاب، بل هو المتصرِّفُ فيه وحدَه يومَ يقوم الروحُ والخَلق المقدَّس من عالَم الغيب والملائكة صفاً، ولا يمكن لأحدٍ أن يتكلّم إلا من أذِن له الرحمنُ ونطق بالصواب، فقال :
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً ﴾
إن للمؤمنين الذين اتقَوا وعملوا الصالحاتِ فوزاً كبيرا ونجاةً من العذاب، وظَفَراً بالجنة.
أترابا : متقاربات في السن واحدها تِرب.
﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ﴾ من جواري الجنة، عذارى متقاربات في السن.
وهناك يشربون بكؤوس مملوءة من ألذّ شرابِ الجنة.
كِذّابا : تكذيبا.
ولا يسمعون شيئاً من الباطل واللغو، ولا كذبا من القول.
قراءات :
قرأ الجمهور : كذابا بتشديد الذال، وقرأ الكسائي : كذابا بتخفيفها.
حسابا : كافيا وافيا.
وكل هذا الفضل والإحسان والنعيم :
﴿ جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً ﴾
ينالونه تفضلاً منه وإحساناً جزاءَ أعمالهم الخيرة.
فالله الّذي رضي عنهم هو ربُّ السموات والأرض الذي وسِعت رحمتُه كلَّ شيء ولا يملك أحد مخاطبتَه تعالى بالشفاعة إلا بإذنِه.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : ربُّ السموات والأرض الرحمن، برفع رب والرحمن، والباقون بالكسر. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب : الرحمن بالجر. وقرأ حمزة والكسائي بجر رب السموات، ورفع الرحمن.
يوم يقوم جبريلُ والملائكة مصطفّين خاشِعين لا يتكلّم أحدٌ منهم إلا من أذِن له الرحمنُ بالكلام، ونطق بالصواب.
ثم بيّن الله تعالى أن ذلك اليومَ حقٌّ لا ريبَ فيه، ﴿ ذَلِكَ اليوم الحق ﴾، حيث الناس فريقان : فريق بعيد من الله ومآله إلى النار، وفريق مآبُه القُرب من الله.
﴿ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً ﴾.
بأن يعملَ عملاً صالحا يقرّبه منه ويُحِلّه دارَ النعيم.
ثم عاد إلى تهديدِ المعانِدين وتحذيرِهم من عاقبة عنادهم.. بأنهم سَيَعلمون غداً
ما قدّمت أيديهِم ويندمون حيثُ لا ينفع الندم.
فقال في خاتمة هذه السورة الكريمة :
﴿ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ تُرَاباً ﴾.
نسأل الله تعالى أن يثبّتنا بالقول الثابت، ويجعلَنا من الذين ينطقون بالصواب، ويهديَنا إلى العملِ بكتابه وسًنة نبيه، وأن يجمع كلمتنا ويوحّد صفوفنا لنحميَ أنفسَنا ونصون أوطاننا مما يهدّدنا من الأعداء...