مكية كلها على ما روي عن الحسن وعطاء وطاوس وقال مقاتل : فيها من المدني قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله ) إلى قوله تعالى ( لا نبتغي الجاهلين ) فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه عليه الصلاة والسلام للهجرة وقيل : نزلت بين مكة والجحفة وقال المدائني في كتاب العدد حدثني محمد ثنا عبد الله قال : حدثنا أبي قال : حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها قال : نعم قال ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد الآية وهي ثمان وثمانون آية بالاتفاق ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام. قال الجلال السيوطي إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام :( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت ) إلى قول موسى عليه السلام ( ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ) ثم حكى سبحانه في طس قول موسى عليه السلام لأهله ( إني آنست نارا ) إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار وكان الأمر ان على سبيل الاشارة والاجمال فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ عز وجل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام وتزويجه ابنته إلى أن سار بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجات لربه جل جلاله وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب وبذلك عرف وجه الحكمة في تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف وكذا في النزول فقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما أبسط وأكثر مما تقدم وأيضا ذكر عز وجل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك وقد يقال في وجه المناسبة أيضا : إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط وأجمل هنا في قوله تعالى :( وكم أهلكنا من قرية ) الآيات وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى :( من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ) فلم يذكر عز وجل من حال الأولين أمنهم من الفزع ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل
ﰡ
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قد مر ما يتعلق به من الكلام في أشباهه نَتْلُوا عَلَيْكَ أي نقرأ بواسطة جبرائيل عليه السلام فالإسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والتلاوة في كلامهم على ما قال الراغب تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب أو ما يتوهم فيه ذلك وهو أخص من القراءة، ويجوز أن تكون التلاوة هنا مجازا مرسلا عن التنزيل بعلاقة أن التنزيل لازم لها أو سببها
والظاهر أن مِنْ تبعيضية، وجوز بعضهم كونها بيانية وكونها صلة على رأي الأخفش فنبأ مجرور، لفظا (١) مرفوع محلا مفعول نتلو ويوهم كلام بعضهم أن مِنْ هو المفعول كأنه قيل: نتلو بعض نبأ وفيه بحث، وأيا ما كان فلا تجوز في كون النبأ متلوّا لما أنه نوع من اللفظ، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل نتلو أي نتلو ملتبسين بِالْحَقِّ أو مفعوله أي نتلو شيئا من نبئهما ملتبسا بالحق أو وقع صفة لمصدر نتلو أي نتلو تلاوة ملتبسة بالحق وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ متعلق بنتلو واللام للتعليل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به، وقد تقدم الكلام في شمول يُؤْمِنُونَ للمؤمنين حالا واستقبالا في السورة السابقة، وقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي إِنَّ فِرْعَوْنَ تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرف وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يعمل ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يجعلهم ضعفاء مقهورين والمراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل وعدهم من أهلها للتغليب أو لأنهم كانوا فيها زمانا طويلا، والجملة إما استئناف نحوي أو بياني في جواب ماذا صنع بعد ذلك وإما حال من فاعل جعل أو من مفعوله، وإما صفة لشيعا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية، وقوله تعالى:
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ بدل من الجملة قبلها بدل اشتمال أو تفسير أو حال من فاعل يستضعف أو صفة لطائفة أو حال منها لتخصصها بالوصف وكان ذلك منه لما أن كاهنا قال له: يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده.
وقال السدي: إنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده فأخذ يفعل ما يفعل ولا يخفى أنه من الحمق بمكان إذ لو صدق الكاهن أو الرؤيا فما فائدة القتل وإلا فما وجهه، وفي الآية دليل على أن قتل الأولاد لحفظ الملك شريعة فرعونية.
وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «يذبح» بفتح الياء وسكون الذال إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من ذراري الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بإنجائهم من بأسه، وصيغة المضارع في نريد لحكاية الحال الماضية وأما نمن فمستقبل بالنسبة للإرادة فلا حاجة لتأويله وهو معطوف على قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا إلخ لتناسبهما في الوقوع في حيز التفسير للنبإ وهذا هو الظاهر.
فإن قلت يدفعه أن العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلا بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلا باستضعاف مقيد بحال الإرادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال انتهى.
وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالا مساغا أيضا بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقا غير مسلم فإن سبب العلم بالأولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب، يجوز أن يكون سببا للعلم بالثانية، وأيضا يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد إلخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الإلزام، وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغا وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسرا بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشاهدة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر، والإنصاف أن قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لا يظهر كونه بيانا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معا على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على إن فرعون وإدخاله في حيز البيان وإلا فالظاهر من إن فرعون إلخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبإ فرعون فقط فتأمل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقتدى بهم في الدين والدنيا على ما في البحر، وقال مجاهد دعاة إلى الخير. وقال قتادة ولاة كقوله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: ٢٠] وقال الضحاك أنبياء وأيا ما كان ففيه نسبة ما للبعض إلى الكل وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لجميع ما كان منتظما في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يومىء إليه التعريف وذلك بأن لا ينازعهم أحد فيه وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر، وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكانا يتمكن فيه (١) ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم
وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما إضافة الجنود إلى ضميرهما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيرا أو لأن جند السلطان جند الوزير، ونري من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة، وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة، وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعوله الأول، وقوله تعالى: مِنْهُمْ أي من أولئك المستضعفين متعلق به، وقوله تعالى: ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني، والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة ومثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين:
أبكاني البين حتى... رأيت غسلي بعيني
وقيل: المراد رؤية وقت ذلك، وليس بذاك، والأمر على تقدير كونها بمعنى المعرفة ظاهر. لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم، لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم، وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم. وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام، وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي- ويرى- بالياء مضارع رأى، وفرعون بالرفع على الفاعلية، وكذا ما عطف عليه وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل يوخابذ (١) وقيل يارخا وقيل يارخت، وقيل غير ذلك. والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك، ولا ينافي حكاية أبي حيان الإجماع على عدم نبوتها، لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم، وإلى هذا ذهب قطرب وجماعة وقال مقاتل منهم: إن الملك المرسل إليها هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس وقتادة أنه كان إلهاما، ولا يأباه قوله تعالى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ نعم هو أوفق بالأول. وقال قوم: إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام، وأوقع الله تعالى في قلبها اليقين. وحكي عن الجبائي أنها رأت في ذلك رؤيا، فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها. وقيل كان بإخبار نبي في عصرها إياها، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة، وفي الأخبار ما يشهد له، فيكون في الكلام جملة محذوفة، وكأن التقدير والله تعالى أعلم: ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ وقيل: كان قبل الولادة، وأن تفسيرية أو مصدرية، والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه. وقرأ عمر بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش.
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأبناء، أو من الجيران ونحوهم أن ينموا عليه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر. والمراد به النيل، ويسمى مثله بحرا، وإن غلب في غير العذب وَلا تَخافِي عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع وَلا تَحْزَنِي من مفارقتك إياه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب
روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها، فلما وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعاية فقالت لأمه:
احفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة وألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فأخذته، فلما ألح فرعون في طلب الولدان واجتهد العيون في تفحصها أوحى الله تعالى إليها ما أوحى، وأرضعته ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية على اختلاف الروايات، فلما خافت عليه عمدت إلى بردي فصنعت منه تابوتا أي صندوقا فطلته بالقار من داخله. وعن السدي أنها دعت نجارا، فصنع لها تابوتا، وجعلت مفتاحه من داخل، ووضعت موسى عليه السلام فيه وألقته في النيل بين أحجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا، فلما فتحنه رأته آسية ووقعت عليه رحمتها فأحبته، وأراد فرعون قتله فلم تزل تكلمه حتى تركه لها
. وروي عن ابن عباس وغيره أنه كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس إليه، وكان بها برص شديد أعيا الأطباء، وكان قد ذكر له أنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية وأقبلت بنته في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل فإذا بتابوت تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فأعياهم فنظرت آسية فكشف لها عن نور في جوفه لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا صبي صغير فيه وله نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى الله تعالى محبته عليه السلام في قلبها وقلوب القوم وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها.
وقيل: لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك فاقتله فهمّ أن يقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي إن شاء الله تعالى والأخبار في هذه القصة كثيرة، وقد قدمنا منها ما قدمنا، وآل فرعون أتباعه وقولهم: إن الآل لا يستعمل إلا فيما فيه شرف مبني على الغالب أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري ومعنى التقاطهم إياه عليه السلام أخذهم إياه عليه السلام أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فيه استعارة تهكمية ضرورة أنه لم يدعهم للالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا وإنما دعاهم شيء آخر كالتبني ونفعه إياهم إذا كبر.
وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه عدوّا وحزنا بالعلة الغائية كالتبني والنفع تشبيها مضمرا في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية
واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد لا ينافي قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون إلخ، والتعليل فيه إنما هو للأخذ ولا إشكال فيه.
وقال بعضهم: يحتمل تعلق اللام بمقدر أي قدرنا الالتقاط ليكون إلخ، وعليه لا تجوز في الكلام إلا عند من يقول: إن أفعال الله تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال، وفي جعله عليه السلام نفس الحزن ما لا يخفى من المبالغة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان- حزنا- بضم الحاء وسكون الزاي، وقراءة الجمهور بفتحتين لغة قريش إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم ان قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون،
روي أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد.
وخاطِئِينَ على هذا من الخطأ في الرأي، ويجوز أن يكون من خطىء بمعنى أذنب، وفي الأساس يقال: خطىء خطأ إذا تعمد الذنب، والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم، والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فإنه كما سمعت استعارة تهكمية على الثاني، اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام، وقيل: يتعين عليه أن تكون اعتراضا لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافا بيانيا إن أريد بما ابتلوا به كونه عدوا وحزنا وهو لا ينافي الاعتراض عندهم، وقرىء خاطين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر، وقيل: هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل، وقيل: كانت منهم من سبط موسى عليه السلام، وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب، والمشهور القول الأول. والجملة عطف على جملة فالتقطه آل فرعون أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت.
وقيل: هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب، واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بادرة أمن جديد بقتله فالتفتت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها:
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولا في قولها: لي ولك وأفردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في عَسى أَنْ يَنْفَعَنا إلخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك بأن تقول: عسى أن ينفعني وينفعك مثلا فتأمل. ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة:
في المهد ينطق عن سعادة جده | أثر النجابة ساطع البرهان |
فارغا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كقوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: ٤٣] أي خلاء لا عقول فيها واعترض على القولين بأن الكلام عليهما لا يلائم ما بعده وفيه نظر، وقرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو- فواد- بالواو وقرأ- مؤسى- بهمزة بدل الواو، وقرأ فضالة بن عبيد والحسن ويزيد ابن قطيب وأبو زرعة بن عمرو بن جرير- فزعا- بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف والقلق، وابن عباس قرعا بالقاف وكسر الراء وإسكانها من قرع رأسه إذا انحسر شعره كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام، وقيل: قرعا بالسكون مصدر أي قرع قرعا من القارعة وهو الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة فزغا (١) بفاء مكسورة وزاي ساكنة وغين معجمة ومعناه ذاهبا هدرا والمراد هالكا من شدة الهم كأنه قتيل لا قود ولا دية فيه، ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال:
فإن يك قبلي قد أصيبت نفوسهم | فلن يذهبوا فزغا بقتل حبال |
كلثوم. والتعبير عنها بأخوته دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر قُصِّيهِ أي اتبعي أثره وتتبعي خبره، والظاهر أن هذا القول وقع منها بعد أن أصبح فؤادها فارغا فإن كانت لم تعرف مكانه إذ ذاك فظاهر وإن
وقرأ قتادة والحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه، والأعرج عن جنب بفتح الجيم وسكون النون وعن قتادة أنه قرأ بفتحهما أيضا، وعن الحسن أنه قرىء بضم الجيم وإسكان النون، وقرأ النعمان بن سالم- عن جانب- والكل على ما قيل: بمعنى واحد، وفي البحر الجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي منعناه ذلك فالتحريم مجاز عن المنع فإن من حرم عليه شيء فقد منعه ولا يصح إرادة التحريم الشرعي لأن الصبي ليس من أهل التكليف ولا دليل على الخصوصية، والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد وهي المرأة التي ترضع، وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء أو لأنه بمعنى شخص مرضع أو جمع مرضع بفتح الميم على أنه مصدر ميمي بمعنى الرضاع وجمع لتعدد مراته أو اسم مكان أي موضع الرضاع وهو الثدي مِنْ قَبْلُ أي من قبل قصها أو إبصارها أو وروده على من هو عنده، أو من قبل ذلك أي من أول أمره وظاهر صنيع أبي حيان اختياره فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ أي هل تريدون أن أدلكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنونه ويقومون بتربيته لأجلكم، والفاء فصيحة أي فدخلت عليهم فقالت، وقولها: على أهل بيت دون امرأة إشارة إلى أن المراد امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في خدمته وتربيته، وروي أن هامان لما سمع هذا منها قال إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فخلصت بذلك من الشر الذي يجوز لمثله الكذب وأحسنت وليس ببدع لأنها من بيت النبوة فحقيق بها ذلك، واحتمال الضمير لأمرين مما لا تختص به اللغة العربية بل يكون في جميع اللغات على أن الفراعنة من بقايا العمالقة وكانوا يتكلمون بالعربية فلعلها كلمت بلسانهم ويسمى هذا الأسلوب من الكلام الموجه.
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ الفاء فصيحة أي فقبلوا ذلك منها ودلتهم على أمه وكلموها في إرضاعه فقبلت فرددناه إليها أو يقدر نحو ذلك،
وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال: من أنت منه؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجرى عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الأجرة على إرضاعها إياه
ولو سلّم فلا نسلم أنه كان حراما فيما تدين وكانت النفقة على ما في البحر دينارا في كل يوم كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بوصول ولدها إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين حَقٌّ لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل.
واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الإيحاء كان إلهاما أو مناما لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد، وفيه نظر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لا يجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وقيل: لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشوءه، وقوله تعالى: وَاسْتَوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل: واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة، وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: ١٥] لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير، ولعل الأولى على ما قيل: أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن | له دون ما يهوى حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى | وإن جر أسباب الحياة له العمر |
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ قال ابن عباس على ما في البحر: هي منف عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها، أو لا يتوقعونه فيه، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة، وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة وذلك أن فرعون ركب يوما وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت. وقال ابن إسحاق: هي مصر، كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وغاب، فدخلها متنكرا. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له، وبعد عهدهم به. وقيل: دخل في يوم عيد وهم مشغولون بلهوهم. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين، وقيل: المدينة عين شمس، وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها: حابين.
وقيل: هي الإسكندرية، والأشهر أنها مصر، ولعله هو الأظهر والمتبادر أن- على حين- متعلق بدخل، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: ١٠٢] على قول.
وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من المدينة، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلسا اهـ ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل وقيل: إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصا في دخولها غافلا أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلسا كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث.
ومِنْ أَهْلِها في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر، وقرأ أبو طالب القارئ- على حين- بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراءات الدال في الحمد لله لمجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل: على حين غفل أهلها فبنى حين كما يبني إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا وهو كما ترى فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين. وقال ابن عطية: في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجيء الحال من النكرة من غير شرط، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان
وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة | لو شئت ساقكم إليّ قطينا |
وقال أبو حيان: الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور، وفي كتب التفاسير مسطور.
وقرأ عبد الله فلكزه باللام وعنه فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضا الضرب والدفع، وقيل: الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: الوكز على القلب واللكز على اللحى. روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام: لقد هممت أنه أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام، وكان قد أوتي قوة فوكزه فَقَضى عَلَيْهِ أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الحجر: ٦٦] وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر، وقيل: هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم، وقيل: يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه.
وقيل: من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو، وقيل: ظاهر العداوة والإضلال، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ٢١] وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ أربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل.
وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله: ظَلَمْتُ نَفْسِي إني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله: فَاغْفِرْ لِي فاستر عليّ ذلك، وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور، ولا يخفى ما فيه، ويأبى عنه قوله تعالى:
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وترتيب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له لاستغفاره وجملة إِنَّهُ إلخ كالتعليل للعلية أي إنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم، ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول، وأما توسيط قال في قوله تعالى: قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فوجهه ظاهر، والباء في بما للقسم، وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بإنعامك عليّ لأمتنعن عن مثل هذا الفعل.
وقيل: لأتوبن، وقوله تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ عطف على الجواب، ولعل المراد بإنعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك.
وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد، ومعرفته عليه السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بإلهام أو رؤيا، والظهير المعين، والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للإسناد إلى السبب، وجوز أن يراد بذلك الكفار وعنى بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم، وقيل:
أراد بالمجرمين فرعون وقومه، والمعنى أقسم بإنعامك عليّ لأتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى عليه السلام لم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى فابتلى به
أي بالكون ظهيرا للمجرمين مرة أخرى وهو ما في قوله تعالى: فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ إلخ لأن الاستثناء لا يناسب الاستعطاف لكون النفي معلقا بعصمة الله عز وجل، وجوز أن تكون الباء سببية متعلقة بفعل مقدر يعطف عليه لن أكون إلخ وما موصولة، والمعنى بسبب الذي أنعمته عليّ من القوة أشكرك فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا وهو إلزام لنفسه بنصرة أوليائه عز وجل كالنذر وليس هناك قسم بوجه خلافا لمن توهم ذلك ولا يخفى أن هذا وإن لم يبعده الأثر لا يخلو عن بعد نظر إلى السباق، و (لن) على جميع الأوجه المذكورة للنفي وفي البحر قيل: إنها للدعاء (١) وحكى ابن هشام رده بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب نحو يا رب لاعذبت فلانا، ويجوز لا عذب الله تعالى عمرا ثم قال ويرده قوله:
ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال، ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لا يخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حمل بما أنعمت عليّ على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون إلخ تفسيرا لذلك المحذوف كما قيل: في قوله تعالى:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا [الأنبياء: ٨٤] فليتدبر، واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له: إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال: لمن يكتب؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فإن الله تعالى سيأتيه برزق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال: قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي قال: فلعلك تكتب في دم يسفك قال: لا. قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في دار تهدم قال: لا. قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال: أبلغت إليّ يا أبا عمرو والله عز وجل لا أخط لهم بقلم أبدا قال والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدا. وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال:
صح حديث ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم
فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطا سأله فقال: أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال: لا.
أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، ويا حسرتا على من باع دينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه. هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً وقوع المكروه به يَتَرَقَّبُ يترصد ذلك أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه وكان عليه السلام فيما يروى قد دفن القبطي بعد أن مات في الرمل، وقيل: خائفا وقوع المكروه من فرعون يترقب نصرة ربه عز وجل، وقيل: يترقب أن يسلمه قومه، وقيل: يترقب هداية قومه، وقيل: خائفا من ربه عز وجل يترقب المغفرة، والكل كما ترى، والمتبادر على ما قيل: إن في المدينة متعلق بأصبح واسم أصبح ضمير موسى عليه السلام
وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا والخبر إذا، والمراد بالأمس اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وفي الحواشي الشهابية ان كان دخوله عليه السلام المدينة بين العشاءين فالأمس مجاز عن قرب الزمان وهو معرب لدخول أل عليه وذلك الشائع فيه عند دخولها، وقد بني معها على سبيل الندرة كما في قوله:
وإني حبست اليوم والأمس قبله | إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب |
قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ قاله الإسرائيلي الذي يستصرخه على ما روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وكأنه توهم إرادة البطش به دون القبطي من تسمية موسى عليه السلام إياه غويا، وقال الحسن: قاله القبطي الذي هو عدو لهما كأنه توهم من قوله للإسرائيلي إنك لغوي أنه الذي قتل القبطي بالأمس له ولا بعد فيه لأن ما ذكر إما إجمال لكلام يفهم منه ذلك أو لأن قوله ذلك لمظلوم انتصر به خلاف الظاهر فلا بعد للانتقال منه لذلك، والذي في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما هو صريح في أن هذين الرجلين كانا من بني إسرائيل، وأما الرجلان اللذان رآهما بالأمس فأحدهما إسرائيلي والآخر مصري، ووجه أمر العداوة على ذلك بأن هذا الذي أراد عليه السلام أن يبطش به كان ظالما لمن استصرخه فيكون عدوا له وعاصيا لله تعالى فيكون عدوا لموسى عليه السلام، ويحتمل أن تكون عداوته لهما لكونه مخالفا لما هما عليه من الدين وإن كان إسرائيليا وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قائل ذلك.
وأنت تعلم أن هذه التوراة لا يلتفت إليها فيما يكذب القرآن أو السنة الصحيحة وهي فيما عدا ذلك كسائر أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب. نعم قد يستأنس بها لبعض الأمور ثم إن ما فيها من قصة موسى عليه السلام مخالف لما قصه الله تعالى منها هنا، وفي سائر المواضع زيادة ونقصا وهو ظاهر لمن وقف عليها، ولا يخفى الحكم
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه قال: من قتل رجلين أي بغير حق فهو جبار، ثم تلا هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه فهموا بقتل موسى عليه السلام فخرج مؤمن من آل فرعون هو ابن عم فرعون ليخبره بذلك وينصحه كما قال عز وجل:
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى الآية، واسمه قيل: شمعان، وقيل: شمعون بن إسحاق، وقيل:
حزقيل، وقيل: غير ذلك وكون هذا الرجل الجائي مؤمن آل فرعون هو المشهور، وقيل: هو غيره، ويسعى بمعنى يسرع في المشي وإنما أسرع لبعد محله ومزيد اهتمامه بإخبار موسى عليه السلام ونصحه، وقيل: يسعى بمعنى يقصد وجه الله تعالى كما في قوله سبحانه: وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: ١٩] وهو وإن كان مجازا يجوز الحمل عليه لشهرته.
والظاهر أن مِنْ أَقْصَى صلة جاءَ وجملة يَسْعى صفة رَجُلٌ، وجوز أن يكون مِنْ أَقْصَى في موضع الصفة لرجل، وجملة يسعى صفة بعد صفة.
وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من رجل، أما إذا جعل الجار والمجرور في موضع الصفة منه فظاهر لأنه وإن كان نكرة ملحق بالمعارف فيسوغ أن يكون ذا حال، وأما إذا كان متعلقا بجاء فمنع ذلك الجمهور وأجازه سيبويه، وجوز أن يعلق الجار والمجرور بيسعى وهو كما ترى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ وهم وجوه أهل دولة فرعون يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورن بسببك وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ من المدينة قبل أن يظفروا بك إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ اللام للبيان كما في سقيا لك فيتعلق بمحذوف أعني- أعني- ولم يجوز الجمهور تعلقه بالناصحين لأن أل فيه اسم موصول ومعمول الصلة لا يتقدم الموصول ولا بمحذوف مقدم يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا وعند من جوز تقدم معمول الصلة إذا كان الموصول أل خاصة لكونها على صورة الحرف، أو إذا كان المتقدم ظرفا للتوسع فيه، أو قال إن أل هنا حرف تعريف لإرادة الثبوت يجوز أن يكون لك متعلقا بالناصحين أو بمحذوف يفسره ذلك.
واستدل القرطبي وغيره بالآية على جواز النميمة لمصلحة دينية فَخَرَجَ مِنْها أي من المدينة ممتثلا.
خائِفاً يَتَرَقَّبُ لحوق الطالبين قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ أي صرف وجهه تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي ما يقابل جانبها، وتلقاء في الأصل مصدر انتصب على الظرفية. ومدين قرية شعيب سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام ولم يكن في سلطان فرعون ولذا توجه لقريته، وقيل توجه إليها لمعرفته به، وقيل لقرابته منه عليهما السلام، وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان.
قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق المؤدّي إلى النجاة، وإنما قال عليه السلام ذلك توكلا على الله تعالى وثقة بحسن توفيقه عز وجل، وكان عليه السلام لا يعرف الطرق فعن ثلاث طرائق فأخذ في الوسطى وأخذ طالبوه في الأخريين وقالوا: المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا بنياتها فبقي ثماني ليال وهو
وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام لم يصل حتى سقط خف قدميه
، وروي أنه عليه السلام أخذ يمشي من غير معرفة فهداه جبريل عليه السلام إلى مدين،
وعن السدي أنه عليه السلام أخذ في بنيات الطريق فجاءه ملك على فرس بيده عنزة فلما رآه موسى عليه السلام سجد له أي خضع من الفرق، فقال: لا تسجد لي ولكن اتبعني فتبعه وانطلق حتى انتهى به إلى مدين.
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي وصل إليه وورد. الورود بمعنى الدخول وبمعنى الشرب وليس شيء منهما مرادا والمراد بماء مدين بئر كانوا يسقون منها، فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف، ويشعر بالقيد الأول التنوين، وبالثاني من الناس لشموله للأصناف المختلفة وهي فائدة ذكره، وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر يَسْقُونَ الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع بمعنى أن منهم من كان يسقي إبلا ومنهم من كان يسقي غنما وهكذا، وتخصص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم، وقيل من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال: المعنى ووجد من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة امْرَأَتَيْنِ اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفا، واسم الأخرى قيل صفوريا وقيل صفوراء وقيل صفيراء، وفي الكشاف صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء تَذُودانِ كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قاله ابن عباس وغيره، وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها. وحكي ذلك عن الزجاج، وقال قتادة: تمنعان الناس عن غنمهما، وقال الفراء: تحبسان غنمهما عن أن تتفرق، وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنما، والظاهر أن ذلك عن توقيف، وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذا كما ترى قالَ ما خَطْبُكُما أي ما مخطوبكما ومطلوبكما مما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كغيركما؟. وأصل الخطب مصدر خطب بمعنى طلب ثم استعمل بمعنى المفعول. وفي سؤاله عليه السلام إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني.
وقرأ شمر «ما خطبكما» بكسر الخاء، قال في البحر: أي من زوجكما؟. ولم لا يسقي هو؟. وهذه قراءة شاذة نادرة اه. ولا يخفى ما فيه وإباء الجواب عنه. وقال بعضهم: الخطب فيها بمعنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة، ونظيره الحب بكسر الحاء المهملة بمعنى المحبوب قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزا عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية. وقرأ ابن مصرف «لا نسقي» بضم النون من الاسقاء، وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن وقتادة، والعربيان: ابن عامر، وأبو عمرو «يصدر» بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم. وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى. فأجيب بأن قراءة يصدر بفتح الياء تدل على فرط حيائهما وتواريهما من الاختلاط بالأجانب، وقراءة يصدر بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء. وقرىء بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي، وقرىء الرعاء بضم الراء والمعروف في صيغ الجمع فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور، وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ، وإذا استعمل في معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو اسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلي وقيل إنه جمع ولكن الأصل فيه الكسر، والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتح في نحو سكارى، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درة الغواص والمشهور منها على ما قال ثمانية، وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله:
فرباب وفرار وتؤام... وعرام وعراق ورخال وظؤار (٢)
جمع ظئر وبساط، جمع بسط هكذا فيما يقال.
وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضا قال: لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كقاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس، وقرأ عياش عن أبي عمرو الرعاء بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ إبداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا: إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وذكر بعضهم أنه عليه السلام أخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصدا لأن يجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك، وقيل: ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى وأبونا شيخ كبير أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه، ولعل الأولى أن يقال: إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحياء، والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما فيه ما يشير إليه لمن له قلب، ويفهم من بيان معنى جوابهما المار آنفا أن جملة أبونا شيخ كبير عطف على مقدر، وجوز أن تكون حالا أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه السلام.
فإن قيل كيف ساغ لنبي الله تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم؟ فالجواب: أن الأمر في نفسه ليس بمحظور فالدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحال حال ضرورة، وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه السلام فاخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه السلام أثرون ابن أخي شعيب النبي عليه السلام، وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضا إلا أنه ذكر هارون بدل أثرون وحكاه أيضا عن الحسن إلا أنه ذكر بدله مروان، وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبي عبيدة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال بلغني أن أبا الامرأتين ابن أخي شعيب واسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق أن اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه السلام يثرب صاحب مدين، وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن الكتاب من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيب عليه السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن
(٢) والظؤار جمع ظئر المرضع، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها اهـ منه.
وفيه بحث لأن عدم التقدير إن قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتذودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه بمفعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر، فإن منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الإطلاق والعموم انتهى، ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض
وقال بعض الأجلة: ترك المفعول في يسقون ويذودان لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إذ هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه السلام وما زاد على المقصود لكنة وفضول، وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فإن له قولهما: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه السلام للتوسل إلى إعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاه لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع، وقولهما: لا نَسْقِي إلخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص، وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها، وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره، وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض، ثم قال: وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب إليه الشيخان وقد انتصر لهما، وقال بقولهما غير واحد.
واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافا بأن الإضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والامرأتين فإن الظاهر في الأمة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لا يملكون، والظاهر أن ما في يد الامرأتين كان ملكا لأبيهما، ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام، والله تعالى أعلم، هذا والظاهر أنه عليه السلام سقى لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما
روي أنه عليه السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين قال ما خطبكما فحدثناه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسق إلا دلوا واحدا حتى رويت الغنم
لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم ولا يكاد يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورود فإنه يقال: لما ورد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد امرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذود والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي ذلك لجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فإذا بالامرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثناه إلخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الامرأتين تذودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر.
وقيل: إنه عليه السلام سقى لهما من بئر أخرى،
فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا إلا بئر عليها
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ الذي كان هناك وهو على ما روي عن ابن مسعود ظل شجرة قيل: كانت سمرة، وقيل: هو ظل جدار لا سقف له.
وقيل: إنه عليه السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس، وهو المراد بقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وهو كما ترى فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إليّ.
مِنْ خَيْرٍ جل أو قل فَقِيرٌ أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما، ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدي باللام، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية، وقيل: يجوز أن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفا، و (ما) على جميع الأوجه نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، والرابط محذوف، ومن خير بيان لها، والتنوين فيه للشيوع، والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب، وتأكيد الجملة للاعتناء، ويدل على كون الكلام تعريضا لذلك ما
أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما سقى موسى عليه السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: «لقد قال موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع»
وفي رواية أخرى عنه «أنه عليه السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه السلام قد ورد ماء مدين»
وأنه كما روى أحمد في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى كون الكلام تعريضا لذلك ذهب مجاهد وابن جبير، وأكثر المفسرين
وكان علي كرّم الله تعالى وجهه يقول: والله ما سأل إلا خبزا يأكله
، وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة ومن للبيان والتنكير في خير لإفادة النوع والتعظيم، وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزلته إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه السلام عند فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك، ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر.
وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور، ومثله في ذلك ما روي عن الحسن أنه عليه السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضا عن بعد. وجاء عن ابن عباس أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه فَجاءَتْهُ إِحْداهُما قيل هي الكبرى منهما وقيل الصغرى وكانتا على ما في بعض الروايات توأمتين ولدت إحداهما قبل الأخرى بنصف نهار. وقرأ ابن محيصن «حداهما» بحذف الهمزة تخفيفا على غير قياس مثل ويلمه في ويل أمه تَمْشِي حال من فاعل جاءت.
وقوله تعالى: عَلَى اسْتِحْياءٍ متعلق بمحذوف هو حال من ضمير تمشي أي جاءته ماشية كائنة على استحياء فمعناه أنها كانت على استحياء حالتي المشي والمجيء معا لا عند المجيء فقط، وتنكير استحياء للتفخيم. ومن هنا قيل جاءت متخفرة أي شديدة الحياء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه وفي رفعه إلى عمر رواية أخرى صححها الحاكم بلفظ واضعة ثوبها على وجهها قالَتْ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قالت له عليه السلام؟ فقيل قالت:
روي أنه عليه السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت.
وفي رواية أن قال لها كوني ورائي فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا أو يسارا
وروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولا أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص، فإنه مصدر سمي به المفعول كالعلل قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد فرعون وقومه، وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بأرضه، ويحتمل أنه قاله عن إلهام أو نحوه، واختلف في الداعي له عليه السلام إلى الإجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعا بما صرحت به من الأجر، ألا ترى إلى ما
أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء فقال له شعيب: كل. قال موسى. أعوذ بالله تعالى. قال: ولم ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل،
وقيل: الداعي له ما به من الحاجة وليس بمستنكر منه عليه السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما والله لو كان عند نبي الله تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد، واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه السلام رغبة بالجزاء بما روي عن عطاء بن السائب أنه عليه السلام رفع صوته بقوله: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ليسمعهما، ولذلك قيل له ليجزيك إلخ، وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر، ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه السلام قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته، ولا أقول إن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الأجر على عمل الآخرة أو مستلزمة لها، ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء، وعمله عليه السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية، ويعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى إذا كان كذلك، ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع قالَتْ إِحْداهُما وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما السلام يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي لرعي الأغنام والقيام بأمرها، وأصل الاستئجار كما قال الراغب طلب الشيء بالأجرة ثم عبر به عن تناوله بها وهو المراد هنا. وكذا في قوله سبحانه: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وهو تعليل جار مجرى الدليل على أنه عليه السلام حقيق بالاستئجار المفهوم من طلب استئجاره، وبعضهم رتب من الآية قياسا من الشكل الأول هكذا هو قوي أمين وكل قوي أمين لائق بالاستئجار ينتج هو لائق بالاستئجار وهو المدعى المفهوم من الطلب، وتعقب بأن هذا ظاهر لو كان خير خبرا وليس هو كذلك، وأجيب بأن المعنى على ذلك إلا أنه جعل اسما للاهتمام بأمر الخيرية لأنها أم الكمال المبني عليها غيرها. وفي الكشاف فإن قيل: كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن والقوي الأمين خبرا؟ قلت: هو مثل قوله:
ألا إن خير الناس حيّا وهالكا | أسير ثقيف عندهم في السلاسل |
وأنت تعلم أن أدلة القرآن لا يلزم فيها الترتيب الذي وضعه المنطقيون فذلك صناعة أغنى الله تعالى العرب عنها، وما ذكر من أن جعل خير اسما للاهتمام هو ما اختاره غير واحد، وجوز الطيبي أن يكون تقديمه وجعله اسما من باب القلب للمبالغة، والظاهر أن أل في القوي الأمين للجنس فيندرج موسى عليه السلام وهو وجه الاستدلال. وذكر الاستئجار بلفظ الماضي مع أن الظاهر ذكره بلفظ المضارع للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وجوز الطيبي أن يكون المراد بالقوي الأمين موسى عليه السلام فكأنها قالت: إن خير من استأجرت موسى، والأول أولى. ثم إن كلامها هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول: استأجره لقوته وأمانته، ولعمري إن مثل هذا المدح من المرأة للرجل أجمل من المدح الخاص وأبقى للحشمة وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها أن يزوجها منه، ومعرفتها قوته عليه السلام لما رأت من دفعه الناس عن الماء وحده حتى سقى لهما، ومعرفتها أمانته من عدم تعرضه لها بقبيح ما مع وحدتها وضعفها.
وروي أنها لما قالت ما قالت قال لها أبوها: ما أعلمك بقوته؟
فذكرت له أنه عليه السلام أقل صخرة على البئر لا يقلها كذا وكذا وقد مر في حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال والنقل في عدد من يقلها مضطرب فأقل ما قالوا فيه سبعة وأكثره مائة، وقد مر ما يعلم منه حال الخبر في أصل الإقلال، وذكرت أنه نزع وحده بدلو لا ينزع بها إلا أربعون. وقال: ما أعلمك بأمانته؟ فذكرت ما كان من أمره إياها بالمشي وراءه وأنه صوب رأسه حتى بلغته الرسالة، وقدمت وصف القوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر لتقدم علمها بقوته عليه السلام على علمها بأمانته أو ليكون ذكر وصف الأمانة بعده من باب الترقي من المهم إلى الأهم، واستدل بقولها استأجره على مشروعية الإجارة عندهم وكذا كانت في كل ملة وهي من ضروريات الناس ومصلحة الخلطة خلافا لابن علية والأصم حيث كانا لا يجيزانها وهذا ما انعقد عليه الإجماع وخلافهما خرق له فلا يلتفت إليه وهذا لعمري غريب منهما إن كانا لا يجيزان الإجارة مطلقا، ورأيت في الإكليل أن في قوله تعالى: أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي إلخ رد على من منع الإجارة المتعلقة
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ استئناف بياني كأنه قيل: فما قال أبوها بعد أن سمع كلامها؟ فقيل: قال إني. وفي تأكيد الجملة إظهار لمزيد الرغبة فيما تضمنته الجملة، وفي قوله: هاتَيْنِ إيماء إلى أنه كانت له بنات أخر غيرهما، وقد أخرج ابن المنذر عن مجاهد أن لهما أربع أخوات صغار، وقال البقاعي: إن له سبع بنات كما في التوراة وقد قدمنا نقل ذلك. وفي الكشاف فيه دليل على ذلك.
واعترض بأنه لا دلالة فيه على ما ذكر إذ يكفي في الحاجة إلى الإشارة عدم علم المخاطب بأنه ما كانت له غيرهما. وتعقب بأنه على هذا تكفي الإضافة العهدية ولا يحتاج إلى الإشارة فهذا يقتضي أن يكون للمخاطب علم بغيرهما معهود عنده أيضا، وإنما الإشارة لدفع إرادة غيرهما من ابنتيه الأخريين المعلومتين له من بينهن ونعم ما قال الخفاجي لا وجه للمشاحة في ذلك فإن مثله زهرة لا يحتمل الفرك.
وقرأ ورش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو «أنكحك احدى» بحذف الهمزة، وقوله تعالى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي في موضع الحال من مفعول أُنْكِحَكَ أي مشروطا عليك أو واجبا أو نحو ذلك، ويجوز أن يكون حالا من فاعله قاله أبو البقاء، وتأجرني من أجرته كنت له أجيرا كقولك أبوته كنت له أبا، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى مفعول واحد، وقوله تعالى: ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف له، ويجوز أن يكون تأجرني بمعنى تثيبني من أجره الله تعالى على ما فعل أي أثابه فيتعدى إلى اثنين ثانيهما هنا ثماني حجج. والكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي تثيبني رعية ثماني حجج أي تجعلها ثوابي وأجري على الإنكاح ويعني بذلك المهر.
وجوز على هذا المعنى أن يكون ظرفا لتأجرني أيضا بحذف المفعول أي تعوضني خدمتك أو عملك في ثماني حجج، ونقل عن المبرد أنه يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وآجرت ممدودا، والأول أكثر فعلى هذا يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الثاني محذوف، والمعنى على أن تأجرني نفسك، وقد يتعدى إلى واحد بنفسه، والثاني بمن فيقال: أجرت الدار من عمرو، وظاهر كلام الأكثرين أنه لا فرق بين آجر بالمد وأجر بدونه، وقال الراغب: يقال أجرت زيدا إذا اعتبر فعل أحدهما، ويقال: آجرته إذا اعتبر فعلاهما وكلاهما يرجعان إلى معنى، ويقال كما في القاموس أجرته أجرا وآجرته إيجارا ومؤاجرة.
وفي تحفة المحتاج آجره بالمد إيجارا وبالقصر يأجره بكسر الجيم وضمها أجرا، وفيها أن الإجارة بتثليث الهمزة والكسر أفصح لغة اسم للأجرة ثم اشتهرت في العقد، والحجج جمع حجة بالكسر السنة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً في الخدمة والعمل فَمِنْ عِنْدِكَ أي فهو من عندك من طريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام إتمام العشر والمناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة وهي ما يصعب تحمله من الشق بفتح الشين وهو فصل الشيء إلى شقين فإن ما يصعب عليك يشق عليك رأيك في أمره لتردده في تحمله وعدمه سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراد شعيب عليه السلام بالاستثناء التبرك به وتفويض أمره إلى توفيقه تعالى لا تعليق صلاحه بمشيئته سبحانه بمعنى أنه إن شاء الله تعالى استعمل الصلاح وإن شاء عز وجل استعمل خلافه لأنه لا يناسب المقام.
وقيل: لأن صلاحه عليه السلام متحقق فلا معنى للتعليق، ونحوه قول الشافعي: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى
وقرأ عبد الله «أي الأجلين ما قضيت» فما مزيدة لتأكيد القضاء أي أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له كما أنها في القراءة الأولى مزيدة لتأكيد إبهام أي وشياعها، وجعلها نافية لا يخفى ما فيه وقرأ الحسن، والعباس عن أبي عمرو «أيما» بتسكين الياء من غير تشديد كما في قول الفرزدق:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما | عليّ من الغيث استهلت مواطره |
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب «فلا عدوان» بكسر العين وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشروط الجارية بيننا وَكِيلٌ أي شهيد على ما روي عن ابن عباس، وقال قتادة: حفيظ، وفي البحر الوكيل الذي وكل إليه الأمر ولما ضمن معنى شاهد ونحوه عدي بعلى ومن هنا قيل: أي شاهد حفيظ، والمراد توثيق العهد وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عنه أصلا، وهذا بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه إجمالا من غير تعرض لبيان مواجب عقدي النكاح والإجارة في تلك الشريعة تفصيلا، وقول شعيب عليه السلام: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إلخ ظاهر في أنه عرض لرأيه على موسى عليه السلام واستدعاء منه للعقد لا إنشاء وتحقيق له بالفعل، ولم يجزم القائلون باتفاق الشريعتين في ذلك بكيفية ما وقع، فقيل لعل النكاح جرى على معينة بمهر غير الخدمة المذكورة وهي إنما ذكرت على طريق المعاهدة لا المعاقدة فكأنه قال: أريد أن أنكحك إحدى ابنتي بمهر معين إذا أجرتني ثماني حجج بأجرة معلومة فما تقول في ذلك فرضي فعقد له على معينة منهما، فلا يرد أن الإبهام في المرأة المزوجة غير صحيح، وعلى الخدمة ومنافع الحر عندنا أيضا خصوصا إذا قيل: إن مدتها غير معينة وهي أيضا ليست للزوجة بل لأبيها فكيف صح كونها مهرا، وقيل: يجوز أن يكون جرى على معينة بمهر الخدمة المذكورة ولا فساد في جعل الرعية مهرا فإنه جائز عند الشافعي عليه الرحمة وكذا عند الحنفية كما يفهم من الهداية ونقل عن صاحب المدارك أنه قال: التزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه قيام بأمر الزوجية لا خدمة صرفة، وفي دعوى الإجماع طن أريد به إجماع الأئمة مطلقا بحث، ففي المحيط البرهاني لو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل، وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز في الرعي، وفي الانتصاف مذهب مالك في ذلك على ثلاثة أقوال المنع والكراهة والجواز، ويقال على الجواز كانت الغنم للمزوجة لا لأبيها وليس في المدة إبهام إذ هي الحجج الثمان والزائدة قد وعد موسى عليه السلام الوفاء به إن تيسر له على أن الإبهام في المهر يجوز كما هو مبين في الفروع، وقال بعضهم: يجوز أن تكون الشرائع مختلفة في أمر الإنكاح فلعل إنكاح المبهمة جائز في شريعة شعيب عليه السلام ويكون التعيين للولي أو للزوج، وكذا جعل خدمة الولي صداقا ونحو ذلك مما لا يجوز في شريعتنا.
ودخل عليها فأعطاها لابان أمته زلفا لتكون لها أمة فلما كانت الغداة فإذا هي ليا فقال للابان: ماذا صنعت بي أليس براحيل خدمتك؟ قال: نعم لكن لا تزوج الصغرى قبل الكبرى في بلدنا فأكمل أسبوع هذه وأعطيك أختها راحيل أيضا بالخدمة التي تخدمها عندي سبع سنين أخر فكمل يعقوب أسبوع ليا ثم أعطاه ابنته راحيل زوجة وأعطاها أمته بلها لتكون لها أمة، فلما دخل عليها يعقوب أحبها أكثر من حبه ليا ثم خدمه سبع سنين أخر اهـ.
وأخبرني بعض أهل الكتاب أنه يجوز أن تكون خدمة الأب مهرا لابنته ويلزم الأب إرضاؤها بشيء إذا كانت كبيرة وأن ما التزم من الخدمة لا يجب فعله قبل الدخول ويكفي الالتزام والتعهد، وأن المهر عندهم كل شيء له قيمة أو ما في حكمها، وأن تسليم المرأة نفسها للزوج راضية بما يحصل لها منه من قضاء الوطر والانتفاع بدلا عن المهر قد يقوم مقام المهر، وأن حل الجمع بين الأختين كان ليعقوب عليه السلام خاصة، وهذا الأخير مما ذكره علماء الإسلام والله تعالى أعلم بصحة غيره مما ذكر من الكلام، هذا وللعلماء في الآية استدلالات. قال في الإكليل: فيها استحباب عرض الرجل موليته على أهل الخير والفضل أن ينكحوها، واعتبار الولي في النكاح، وأن العمى لا يقدح في الولاية فإنه عليه السلام كان أعمى، واعتبار الإيجاب والقبول في النكاح وقال ابن الغرس: استدل مالك بهذه الآية على إنكاح الأب البكر البالغة بغير استئمار لأنه لم يذكر فيها استئمار. قال: واحتج بعضهم على جواز أن يكتب في الصداق أنكحه إياها خلافا لمن اختار أنكحها إياه قائلا لأنه إنما يملك النكاح عليها لا عليه. وقال ابن العربي: استدل بها أصحاب الشافعي على أن النكاح موقوف على لفظ الإنكاح والتزويج. قال: واستدل بها قوم على جواز الجمع بين نكاح وإجارة في صفقة واحدة فعدوه إلى كل صفقة تجمع عقدين وقالوا بصحتها. قال: واستدل بها علماؤنا على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة فإن موسى عليه السلام لم يكن حينئذ موسرا. قال: وفي قوله: وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ اكتفاء بشهادة الله عز وجل إذ لم يشهد أحدا من الخلق فيدل على عدم اشتراط الإشهاد في النكاح اهـ.
واستدل بها الأوزاعية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك بألف نقدا أو ألفين نسيئة اهـ ما في الإكليل مع حذف قليل.
أنه عليه السلام دخل ولم ينفذ شيئا مما قاله غيره أيضا. وقد روي أيضا من طريق الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
، وقيل:
إنه عليه السلام لم يدخل حتى أتم الأجل،
وجاء في بعض الآثار أنهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما السلام:
ادخل ذلك البيت فخذ عصا من العصي التي فيه وكان عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فدخل وأخذ العصا التي هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فقال له شعيب: خذ غير هذه فما وقع في يده إلا هي سبع مرات
فعلم أن له شأنا،
وعن عكرمة أنه قال. خرج آدم عليه السلام بالعصا من الجنة فأخذها جبرائيل عليه السلام بعد موته وكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه.
وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة أتاه بها جبرائيل عليه السلام لما توجه تلقاء مدين.
وقال السدي: كانت تلك العصا قد أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتي بعصا فدخلت وأخذت العصا فأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع: فأتاهما الملك فقال ألقياها فمن رفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى عليه السلام
. وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا، وعن الكلبي الشجرة التي نودي منها شجرة العوسج ومنها كانت عصاه.
وروي أنه لما شرع عليه السلام بالخدمة والرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب وجد الغنم ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى عليه السلام بما كان ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن اضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع أو درعاء فوفى له شعيب بما قال
، وحكى يحيى بن سلام أنه جعل له كل سخلة تولد على خلاف شية أمها فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام في المنام أن ألق عصاك في الماء الذي تسقي منه الغنم ففعل فولدت كلها على خلاف شيتها،
وأخرج ابن ماجة والبزار وابن المنذر والطبراني وغيرهم من حديث عتبة السلمي مرفوعا «أنه عليه السلام لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة فأنمت وانثنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش أي واسعة الشخب ولا ضبوب أي طويلة الضرع تجره ولا غزور أي ضيقة الشخب ولا ثعول أي لا ضرع لها إلا كهيئة حلمتين ولا كمشة تفوت الكف أي صغيرة الضرع لا يدرك الكف»
وظاهر هذا الخبر أن الهبة كانت لزوجته عليه السلام وأنه كان ذلك لما أراد فراق شعيب عليهما السلام وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر ما تقدم فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟
فقال: فضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل،
وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سأله أي الأجلين قضى موسى فقال: لا أدري حتى أسأل رسول الله صلّى الله تعالى
قال علي بن عاصم: فكان أبو هارون إذا حدث بهذا الحديث يقول: حدثني أبو سعيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن الرفيع عن إسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى «أن موسى قضى أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين»
والفاء قيل: فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الأجل وَسارَ بِأَهْلِهِ قيل: نحو مصر بإذن من شعيب عليه السلام لزيارة والدته وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه السلام أقدمه على ذلك طول مدة الجناية وغلبة ظنه خفاء أمره، وقيل: سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال.
آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر، وأصل الإيناس على ما قيل الإحساس فيكون أعم من الإبصار، وقال الزمخشري: هو الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل: الجن لاستتارهم، وقيل: هو إبصار ما يؤنس به، ناراً استظهر بعضهم أن المبصر كان نورا حقيقة إلا أنه عبر عنه بالنار اعتبارا لاعتقاد موسى عليه السلام، وقال بعض العارفين: كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه السلام ظنه النار المعروفة قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الاثنان بصيغة الجمع، وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الأكبر جيرشوم واسم الأصغر اليعازر ولدا له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بأنه عليه السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه، وأما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى إلا بالتزام أنه عليه السلام مكث بعد ذلك سنين، وقد قيل به، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قضى موسى عشر سنين ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى، وعن وهب أنه عليه السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار، وفي البحر أنه عليه السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لا يدري أليلا تضع أم نهارا فسار في البرية لا يعرف طرقها فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، وقيل: كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا فأضل الطريق يوما حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فإذا نار تلوح من بعد فقال امكثوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي بخبر الطريق بأن أجد عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق، والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر أَوْ جَذْوَةٍ أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله:
وألقى على قيس من النار جذوة | شديدا عليها حرها والتهابها |
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها | جزل الجذا غير خوار ولا دعر |
وقرأ الأكثر «جذوة» بكسر الجيم والأعمش وطلحة وأبو حيوة وحمزة بضمها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون وتتسخنون بها، وفيه دليل على أنهم أصابهم برد.
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي أتاه النداء من الجانب الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطئ وهو ضد الأيسر، وجوز أن يكون الأيمن بمعنى المتصف باليمن والبركة ضد الأشأم، وعليه فيجوز كونه صفة للشاطىء أو الوادي، ومِنْ على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير موسى عليه السلام المستتر في نودي أي نودي قريبا من شاطىء الوادي، وجوز على الحالية أن تكون- من- بمعنى في كما في قوله تعالى: ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [الأحقاف: ٤] أي نودي كائنا في شاطىء الوادي، وقوله تعالى: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ في موضع الحال من الشاطئ أو صلة لنودي، والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في القاموس، وبذلك قرأ الأشهب العقيلي. ومسلمة، ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات الله عز وجل وأنواره.
وقيل: لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة وليس بذاك، وقوله سبحانه: مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من قوله تعالى:
مِنْ شاطِئِ أو الشجرة فيه بدل من شاطىء وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فإن الشاطئ كان مشتملا على الشجرة إذ كانت نابتة فيه، ومِنْ هنا لا تحتمل أن تكون بمعنى في كما سمعت في من الأولى، نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: ٢٥] متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة، وقيل: يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة، وكانت هذه الشجرة على ما روي عن ابن عباس عنابا، وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة، وعلى ما روي عن ابن جريج والكلبي ووهب عوسجة. وعلى ما روي عن قتادة ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم، وأن في قوله تعالى: أَنْ يا مُوسى تحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة والأصل بأنه، والجار متعلق بنودي، والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي:
ناديت باسم ربيعة بن مكدم | أن المنوه باسمه الموثوق |
وأجيب بأن المغايرة إنما هي في اللفظ، وأما في المعنى المراد فلا مغايرة، وذهب الإمام إلى أنه تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما والظاهر أن النداء منه عز وجل من غير توسيط ملك، وقد سمع موسى عليه السلام على ما تدل عليه الآثار كلاما لفظيا قيل:
خلقه الله تعالى في الشجرة بلا اتحاد وحلول، وقيل: خلقه في الهواء كذلك وسمعه موسى عليه السلام من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات، وأنا وإن كان كل أحد يشير به إلى نفسه فليس المعنى به محل لفظه.
وذهب الشيخ الأشعري، والإمام الغزالي إلى أنه عليه السلام سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف، وهذا كما ترى ذاته عز وجل بلا كيف ولا كم، وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت وكان ذلك بعد ظهوره عز وجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق،
وقد جاء في الصحيح أنه تعالى يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة، فيقول: أنا ربكم فينكرونه ثم يتجلى لهم بأخرى فيعرفونه
، والله تعالى وصفاته من وراء حجب العزة والعظمة والجلال فلا يحدثن الفكر نفسه بأن يكون له وقوف على الحقيقة بحال من الأحوال.
مرام شط مرمى العقل فيه | ودون مداه بيد لا تبيد |
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ عطف على أن يا موسى والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فألقاها فصارت حية فاهتزت فلما رآها تهتز وتتحرك كَأَنَّها جَانٌّ هي حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور، والتشبيه بها باعتبار سرعة حركتها
اسْلُكْ يَدَكَ أي أدخلها فِي جَيْبِكَ هو فتح الجبة من حيث يخرج الرأس تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي من أجل المخافة، قال مجاهد وابن زيد أمره سبحانه بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه، وقال الثوري: خاف موسى عليه السلام أن يكون حدث به سوء فأمره سبحانه أن يعيد يده إلى جنبه لتعود إلى حالتها الأولى فيعلم أنه لم يكن ذلك سوءا بل آية من الله عز وجل وقريب منه ما قيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها فاضممها إليك يسكن خوفك. وفي الكشاف فيه معنيان: أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب الله تعالى العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران:
اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، والثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، ومعنى وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وقوله تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرعب اهـ، وضم الجناح على الثاني كناية عن التجلد والضبط نحو قوله:
اشدد حيازيمك للموت... فإن الموت لاقيك
وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف، وهو في الأصل مستعار من فعل الطائر عند هذه الحالة ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلا فيه وكناية عنه، وعليه يكون تتميما لمعنى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ وهذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي فإنه قال: هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه. وليس المراد بالضم الضم المزيل للفرجة بين الشيئين وهو أبعد عن المناقشة مما ذكره الزمخشري. ومثله في البعد عن المناقشة ما قاله البقاعي: من أنه أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند خروج يده بيضاء حتى لا يحذر ولا يضطرب من الخوف. وأراد بأحد التفسيرين الوجه الأول لأن المعنى عليه أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى، وقال بعضهم: إن المعنى اضمم يديك المبسوطتين بإدخال اليمنى تحت العضد الأيسر واليسرى تحت الأيمن أو بإدخالهما في الجيب. وظاهره أنه أريد بالجناح الجناحان، وقد صرح الطبرسي بذلك في نحو ما ذكر وقال: إنه قد جاء المفرد مرادا به التثنية كما في قوله:
يداك يد إحداهما الجود كله... وراحتك اليسرى طعان تغامره
وقال بعضهم: هو فعلان من البرة بمعنى القطع فيفسر بالحجة القاطعة، وقيل: هو فعلان لقولهم برهن ونقل عن الأكثر أن برهن مولد بنوه من لفظ البرهان، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فذانّك» بتشديد النون وهي لغة فيه، فقيل: إنه عوض من الألف المحذوفة من ذا حال التثنية لألفها نون وأدغمت، وقال المبرد: إنه بدل من لام ذلك كأنهم أدخلوها بعد نون التثنية، ثم قلبت اللام نونا لقرب المخرج وأدغمت وكان القياس قلب الأولى لكنه حوفظ على علامة التثنية، وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل. «فذانيك» بياء بعد النون المكسورة وهي لغة هذيل، وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضا «فذانيك» بفتح النون قبل الياء على لغة من فتح نون التثنية نحو قوله:
على أحوذيين استقلت عشية | فما هي إلا لمحة وتغيب |
وفي البحر أنه متعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره اذهب إلى فرعون إِنَّهُمْ أي فرعون وملأه كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك بهاتين المعجزتين الباهرتين إليهم، والكلام في كانوا يعلم مما تقدم في نظائره قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ لذلك أَنْ يَقْتُلُونِ بمقابلتها، والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء من الإرسال، وزعمت اليهود أنه عليه السلام استعفى ربه سبحانه من ذلك. وفي التوراة التي بأيديهم اليوم أنه قال يا رب ابعث من أنت باعثه
وردئي كل أبيض مشرفي | شديد الحد عضب ذي فلول |
وزعم بعضهم أن الجواب على قراءة الرفع محذوف، ويرد عليه أن الأمر لا يلزم أن يكون له جواب فلا حاجة إلى دعوى الحذف، وقرأ أبي، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «يصدقوني» بضمير الجمع وهو عائد على فرعون وملئه لا على هارون والجمع للتعظيم كما قيل، والفعل على ما نقل عن ابن خالويه مجزوم فقد جعل هذه القراءة شاهدا لمن جزم من السبعة يصدقني وقال لأنه لو كان رفعا لقيل يصدقونني، وذكر أبو حيان بعد نقله أن الجزم على جواب الأمر والمعنى في يصدقون أرج تصديقهم إياي فتأمل قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ إجابة لمطلوبه وهو على ما قيل راجع لقوله فَأَرْسِلْهُ مَعِي إلخ والمعنى سنقويك به ونعينك على أن شد عضده كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشتد بشدة العضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف والجملة تشتد بشدة اليد ولا مانع من الحقيقة لعدم دخول بأخيك فيما جعل كناية أو على أن ذلك خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبه حال موسى عليه السلام في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الأصل سنقويك به ثم سنؤيدك ثم سنشد عضدك به، وقرأ زيد بن علي، والحسن عضدك بضمتين، وعن الحسن أنه قرأ بضم العين وإسكان الضاد، وقرأ عيسى بفتحهما، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد، ويقال فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد ولم أعلم أحدا قرأ بذلك، وقوله تعالى: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي تسلطا عظيما وغلبة راجع على ما قيل أيضا لقوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وقوله سبحانه: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما تفريع على ما حصل من مراده أي لا يصلون إليكما باستيلاء أو محاجة بِآياتِنا متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر أي اذهبا بآياتنا أو
المراد بالافتراء التمويه أي هو سحر مموه لا حقيقة له كسائر أنواع السحر. وعليه تكون الصفة مؤكدة والافتراء ليس على حقيقته كما في الوجه الأول. والحق أن من أنواع السحر ما له حقيقة فتكون الصفة مخصصة أيضا وَما سَمِعْنا بِهذا أي نوع السحر أو ما صدر من موسى عليه السلام على أن الكلام على تقدير مضاف أي بمثل هذا أو الإشارة إلى ادعاء النبوة ونفيهم السماع بذلك تعمد للكذب فقد جاءهم يوسف عليه السلام من قبل بالبينات وما بالعهد من قدم. ويحتمل أنهم أرادوا نفي سماع ادعاء النبوة على وجه الصدق عندهم وكانوا ينكرون أصل النبوات ولا يقولون بصحة شيء منها كالبراهمة وككثير من الإفرنج ومن لحس من فضلاتهم اليوم. والباء كما في مجمع البيان إما على أصلها أو زائدة أي ما سمعنا هذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي واقعا في أيامهم، فالجار والمجرور في موضع الحال من هذا بتقدير مضاف والعامل فيه سمعنا.
وجوز أن يكون بهذا على تقدير بوقوع هذا، ويكون الجار متعلقا بذلك المقدر، وأشاروا بوصف آبائهم بالأولين إلى انتفاء ذلك منذ زمان طويل وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يريد عليه السلام بالموصول نفسه، وقرأ ابن كثير «قال» يغيروا ولأنه جواب لقولهم: إنه سحر والجواب لا يعطف بواو ولا غيرها، ووجه العطف في قراءة باقي السبعة أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر المحكي له بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار وهي الدنيا، وعاقبتها أن يختم للإنسان بها بما يفضي به إلى الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ووجه إرادة العاقبة المحمودة من مطلق العاقبة انها هي التي دعا الله تعالى إليها عباده، وركب فيهم عقولا لا ترشدهم إليها ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم وحضهم عليها فكأنها لذلك هي المرادة من جميع العباد والغرض من خلقهم، وهذا ما اختاره ابن المنير موافقا لما عليه الجماعة، وحكى أن بعضهم قال له: ما يمنعك أن تقول فهم عاقبة الخير من إضافة العاقبة إلى ذويها باللام كما في هذه الآية، وقوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: ٤٢]، وقوله سبحانه: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨، القصص: ٨٣] إذ عاقبة الخير هي التي تكون لهم، وأما عاقبة السوء فعليهم لا لهم فقال له: لقد كان لي في ذلك مقال لولا وروده مثل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار، ولم يقل وعليهم فاستعمال اللام مكان على دليل على إلغاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، وقد يقال: إن اللام ظاهرة في النفع ويكفي ذلك في انفهام كون المراد بالعاقبة عاقبة الخير، ويلتزم في
وقال الطيبي انتصارا للبعض أيضا: قلت: الآية غير مانعة عن ذلك فإن قرينة اللعنة والسوء مانعة عن إرادة الخير وإنما أتى بلهم ليؤذن بأنهما حقان ثابتان لهم لازمان إياهم، ويعضده التقديم المفيد للاختصاص فتدبر وقرأ حمزة، والكسائي. «يكون» بالياء التحتية، لأن المرفوع مجازي التأنيث ومفصول عن رافعه.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور، وحاصل كلام موسى عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبىء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قاله اللعين بعد ما جمع السحرة وتصدى للمعارضة، والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه، ولم يجزم بالعدم بأن يقول: ليس لكم إله غيري مع أن كلا من هذا وما قاله كذب، لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره، وما تركه أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك.
فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي اصنع لي آجرا فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي أطلع وأصعد فافتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره.
إِلى إِلهِ مُوسى الذي ذكر أنه إلهه وإله العالمين، كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء كون الأجسام فيها يمكن الرقي إليه ثم قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما يذكر تأكيدا لما أراد وإعلاما بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليه السلام ليس لأنه جازم بأنه هناك، والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني، وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما الله عز وجل أعلم به، وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر، ويكون ما ذكر ذكرا لأحد طرق التحقيق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الأمر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول، وعلى الأول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل إليهم فقال لهم: صعدت إلى إله موسى وحققت أن ليس الأمر كما يقول وعلمت أن ليس لكم إله غيري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما بني له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دما فقال قتلت إله موسى، وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح، وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان. ولله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلا وعالما فاضلا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة.
الثاني أنه أراد أيضا نفي العلم بالوجود دون الوجود نفسه لكنه كان في نفي العلم ملبسا على قومه كاذبا فيه حيث كان يعلم أن لهم إلها غيره هو إله الخلق أجمعين، وهو الله عز وجل وأراد بقوله: وَإِنِّي إلخ إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة كما في سابقه، وأراد بقوله يا هامان إلخ طلب أن يجعل له ما يزيل به شكه في الرسالة، وذلك بأن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب الدالة على الحوادث الكونية بزعمه فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه.
وتعقب بأنه لا يناسب قوله: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى إلا أن يراد فأطلع على حكم إله موسى بأوضاع الكواكب والنظر فيها هل أرسل موسى كما يقول أم لا؟ فيكون الكلام على تقدير مضاف وإِلى فيه بمعنى على، وجوز على هذا الوجه أن يكون قد أراد بإله موسى الكواكب فكأنه قال لعلي أصعد إلى الكواكب التي هي إله موسى فأنظر هل فيها ما يدل على إرسالها إياه أو لعلي أطلع على حكم الكواكب التي هي إله موسى في أمر رسالته وهو كما ترى، وبالجملة هذا الوجه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. الثالث أنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده وبظنه كاذبا ظنه كاذبا في إثباته إلها غيره ويفسر الظن باليقين كما في قول دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج | سراتهم في الفارسي المسرد |
وقال بعضهم في دفع ما قيل: من المنافاة: إنها إنما تكون لو لم يكن قوله: لعلي أطلع إلخ على طريق التسليم والتنزل، وقال آخر في ذلك: إن اللعين كان مشركا يعتقد أن من ملك قطرا كان إلهه ومعبود أهله فما أثبته في قوله:
وفي الكشاف القول بالمناقضة بين بناء الصرح وما ادعاه من العلم واليقين إلا أنه قال قد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم أو لم تخف عليهم ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه وإذا فتح هذا الباب جاز إبقاء الظن على ظاهره من غير حاجة إلى دفع التناقض، والأولى عندي السعي في دفع التناقض فإذا لم يمكن استند في ارتكاب المخذول إياه إلى جهله أو سفهه وعدم مبالاته بالقوم لغباوتهم أو خوفهم منه أو نحو ذلك، واعترض القول بأنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده فقال في التحقيق: وذكره غيره أيضا إنه غير سديد فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه لا سيما عدم علم شخص واحد. وقال القاضي البيضاوي: هذا في العلوم الفعلية صحيح لأنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية ورد بأن غرض قائل ذلك أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ولا شك أنه كذلك فأطلق المسبب وأريد السبب لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد جاز أن يطلق ويراد به الوجود إذ لا يشترط في فن البلاغة اللزوم العقلي بل العادي والعرفي كاف أيضا وقد يقول أحد منا لا أعلم ذلك أي لو كان موجودا لعلمته إذا قامت قرينة وهذا الاستعمال شائع في عرفي العرب والعجم عند العامة والخاصة ومنه قول المزكي: إذا سئل عن عدالة الشهود لا أعلم كيف، وكان المخذول يدعي الإلهية، ثم الظاهر أن الكلام على تقدير إرادة نفي الوجود كناية لا مجاز، وبالجملة ما ذكر وجه وجيه وتعيين الأوجه مفوض إلى ذهنك والله تعالى الموفق.
واستدل بعض من يقول: إن الله تعالى في السماء بالمعنى الذي أراده سبحانه في قوله عز وجل: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: ١٦] حسبما يقول السلف بهذه الآية، ووجه ذلك بأن فرعون لو لم يسمع من موسى عليه السلام أن إلهه في السماء لما قال: فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى فقوله ذلك دليل السماع إلا أنه أخطأ في فهم المراد مما سمعه فزعم أن كونه تعالى في السماء بطريق المظروفية والتمكن ونحوهما مما يكون للأجسام، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وإثبات مذهب السلف لا يحتاج إلى أن يتمسك له بمثل ذلك وفي قول المخذول:
أوقد لي على الطين والمراد به اللبن دون اصنع لي آجرا إشارة إلى أنه لم يكن لهامان علم بصنعة الآجر فأمره باتخاذه على وجه يتضمن التعليم، وفي الآثار ما يؤيد ذلك، فقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: فرعون أول من أمر بصنعة الآجر وبنائه، وأخرج هو وجماعة عن قتادة قال بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون وفي أمره إياه وهو وزيره ورديفه بعمل السفلة من الإيقاد على الطين مناديا له باسمه دون تكنية وتلقيب بيا دون ما يدل على القرب في وسط الكلام دون أوله من الدلالة على تجبره وتعظمه ما لا يخفى.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ أي رأوا كل من سواهم حقيرا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد فِي الْأَرْضِ الأكثرون على أن المراد في أرض مصر، وقيل: المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء، وفي التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الأجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرا بالإضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقا إلا من الله عز وجل، ومن هنا قال الزمخشري: الاستكبار بالحق إنما هو الله تعالى وكل مستكبر سواه عز وجل فاستكباره بغير الحق،
وفي الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار»
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه، وقد مر تفصيل ذلك، وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته | كنبذك نعلا من نعالك باليا |
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: ١] والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان لله عز وجل وأولها المعتزلة تارة بأن الجعل فيها بمعنى التسمية مثله في قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] أي وسميناهم فيما بين الأمم بعدهم دعاة إلى النار، وتارة بأن جعلهم كذلك بمعنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والأول محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي، وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجيل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا التي فتنتهم لَعْنَةً طردا وإبعادا أو لعنا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنونهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن الله تعالى فرعون وجنوده وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين المبعدين يقال: قبحه الله تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث، ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل: لأن معناها الطرد أيضا لأن ذلك في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن من المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص، وقال أبو عبيدة والأخفش من المقبوحين أي من المهلكين، وعن ابن عباس أي من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر، وقد يقال: إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضا، وجوز أن يكون ذلك تفسيرا بما هو لازم في الجملة، ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو بمحذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفا في نظيره، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروي عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور، والظاهر ما سمعته أولا.
وفي الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافر».
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الأحكام مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار، ومن غفل عن هذا قال:
الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام، وقيل:
المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل، وليس بذاك، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر، والمراد بالناس قيل أمّته عليه السلام، وقيل ما يعمهم ومن بعدهم، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام، أو يزيدهم علما إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها،
وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلّى الله تعالى عليه وسلّم حتى عرف في وجهه ثم قال: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك.
وأجيب بأن غضبه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلّم ويزيد علما بصحة ما جاء به. ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: ٩٣] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطين الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلم، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.
وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه وَهُدىً أي إلى الشرائع التي
ولا يخفى أن تعين كونه بوحي لا يتم إلا بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلّم كما قال المشركون: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: ١٠٣] ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هو أظهر انتفاء منه للإشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بأن المحتاج إلى الإخبار بانتفائه ذانك الأمران (١) دونه على أنه عز وجل قد نفى في موضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاستفاضة وإن قلنا: إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدا، ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر، والمعنى على ما ذهب إليه بعضهم وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه السلام، والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب إضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في مسجد الجامع، والأصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الأول.
إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة.
وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي من جملة الحاضرين للوحي إليه أو الشاهدين على الوحي إليه عليه السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس، فالشاهد من الشهادة إما بمعنى الحضور أو بمعناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الأول بلزوم التكرار فإنه قد نفى الحضور أولا في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ وكذا إرادة المعنى الثاني بلزوم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى، ومن هنا قيل: المراد من الأول نفي كونه صلّى الله عليه وسلّم حاضرا بنفسه لغرض من الأغراض،
وقيل: المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام فقد جاء الشاهد اسما للملك كما في القاموس فكأنه قيل: ما كنت حاضرا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر الله تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهم السلام ولهم من الاطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه السلام فتخبر به الناس.
وقال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى، وقيل: وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عموما بعد خصوص، وقيل: المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فيكون ترقيا في النفي.
وقيل: المراد وَما كُنْتَ إذ ذاك منتظما في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور.
ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من القيل والقال، وفي القلب من صحة نسبة ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك، والله تعالى يتولى هداك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم الذين أنت فيهم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الأنباء على ما هي عليه فأوحينا إليك وقصصنا الأنباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد وخلاصة المعنى لم تكن حاضرا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الأنباء، وقوله تعالى:
وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب عليه السلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلى الله عليه وسلّم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك، وقوله سبحانه: تَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه آياتِنا الناطقة بما كان لموسى عليه السلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وقت ندائنا موسى إني أنا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس.
وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس
وقرأ عيسى، وأبو حيوة «رحمة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور، وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا: ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ صفة لقوما ومِنْ الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة (١) بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل: ذلك، وقيل: إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم قال العلامة ابن حجر في المنح المكية: من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته اهـ، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلّى الله عليه وسلّم.
وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا بإسماعيل عليه السلام، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال: «فائدة» كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة اهـ. وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على أعراف الرد والقبول، ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك، وقيل: إن موسى، وعيسى عليهما السلام كما أرسلا لبني إسرائيل أرسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الإتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، ومنها على ما روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة، ونفي إتيان نبي بين زماني إتيان نبينا وإتيان عيسى عليهما الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث لا نبي بيني وبين عيسى وقال بعضهم: إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان، وقيل: غير ذلك، واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلّى الله تعالى عليه وسلّم إذ هم الذين
٢٤] والعرب أعظم أمة وكذا لقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: ٦] بناء على أن- ما- فيه ليست نافية وهو على القول بأن ما فيه نافية مؤول بحمل الآباء على الآباء الأقربين، ولا يكاد يجوز في ما هاهنا ما جاز فيها من الاحتمال في آية يس بل المتعين فيها النفي ليس غير، وتكلف غيره مما لا ينبغي في كتاب الله تعالى والنذير بمعنى المنذر، واحتمال كونه مصدرا بمعنى الإنذار مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر بمعنى أحكام أمر نبوة موسى عليه السلام بالوحي وإيتاء التوراة وثوائه عليه السلام في أهل مدين المشار إليه بقوله تعالى: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ والنداء للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة والسلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو روعي الترتيب الوقوعي، ونفى أولا الثواء في أهل مدين ونفى ثانيا الحضور عند النداء ونفى ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة، ومن الناس من فسر قضاء الأمر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى: خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم: ١٢] رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع، وقد وسط في النظم الكريم بينهما، وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فسر أنسب بما يلي كلا من الاستدراك، ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه السلام لما أعطى التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسيره ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي، وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام الذين كانوا حول النار فإن الآثار ناطقة بحضورهم حولها عند ما أتاها موسى عليه السلام وكذا قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل: ٨] في قول، هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال الفراء في قوله تعالى: وَما كُنْتَ ثاوِياً إلخ أي وما كنت مقيما في أهل مدين مع موسى عليه السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع اهـ، ونحوه ما روي عن مقاتل فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا إليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمت، وقال الضحاك: يقول سبحانه إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء اهـ. ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار.
وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا كان نداء فيما يتعلق بهذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك.
أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في
وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا
وأخرج هو أيضا وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة، والديلمي عن عمرو بن عيينة قال سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لما قرب الله تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أجد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما قال: نعم. محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ منك. قال: فإن كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت البحر لهم وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى. قال: نعم. أمة محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ من بني إسرائيل. قال:
إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي. فنادى ربنا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أجيبوا ربكم. قال: فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال: صدقتم أنا ربكم حقا وأنتم عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة»
. قال ابن عباس فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى أمته فقال: يا محمد وما كنت بجانب الطور إذ نادينا، واستشكل ذلك بأنه معنى لا يناسب المقام ولا تكاد ترتبط الآيات عليه، ولا بد لصحة هذه الأخبار من دليل، وتصحيح الحاكم لا يخفى حاله.
وقال بعض: يمكن أن يقال على تقدير صحة الأخبار إن المراد وما كنت حاضرا مع موسى عليه السلام بجانب الطور لتقف على أحواله فتخبر بها الناس ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بذلك وبغيره رحمة منا لك وللناس، والتوقيت بنداء أمته ليس لكون المخبر به ما كان من ذلك بل لإدخال المسرة عليه عليه الصلاة والسلام فيما يعود إليه وإلى أمته وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم مما يكون من أمة الدعوة من الكفر به عليه الصلاة والسلام والإباء عن شريعته وتلويح ما إلى مضمون فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: ٨٩] وحينئذ ترتبط الآيات بعضها ببعض ارتباطا ظاهرا فتأمل وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة وهي على ما نقل عن أبي مسلم عذاب الدنيا والآخرة، وقيل: عذاب الاستئصال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما اقترفوا من الكفر والمعاصي ويعبر عن كل الأعمال وإن لم تصدر عن الأيدي باجتراح الأيدي وتقديم الأيدي لما أن أكثر الأعمال تزاول بها فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي هلا أرسلت إلينا رسولا مؤيدا من عندك بالآيات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الظاهرة على يده وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بما جاء به، ولولا الثانية تحضيضية كما أشرنا إليه، وقوله تعالى: فَنَتَّبِعَ جوابها ولكون التحضيض طلبا كالأمر أجيبت على نحو ما يجاب، وأما الأولى فامتناعية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الحال عليه، والتقدير لما أرسلناك، والفاء في فَيَقُولُوا عاطفة ليقول على تصيبهم، والمقصود بالسببية لانتفاء الجواب والركن الأصيل فيها قولهم ذلك إذا أصابتهم مصيبة، فالمعنى لولا قولهم إذا عوقبوا بما اقترفوا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه ونكون من المؤمنين لما أرسلناك إليهم، وحاصله سببية القول المذكور لإرساله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم قطعا
وذهب بعضهم إلى أن الكلام على تقدير مضاف أي كراهة أن تصيبهم إلخ، فالسبب للإرسال إنما هو كراهة ذلك لما فيه من إلزام الحجة ولله تعالى الحجة البالغة، وهذه الكراهة مما لا ريب في تحققها الذي تقتضيه لولا ودفعوا بهذا التقدير لزوم تحقق الإصابة والقول المذكور وانتفاء عدم الإرسال كما هو مقتضى لولا، وفي ذلك ما فيه، وقال ابن المنير: التحقيق عندي أن لولا ليست كما قال النحاة تدل على أن ما بعدها موجود أو أن جوابها ممتنع والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس لو، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما في الآية من الثاني فلا إشكال فيها، واستدل بالآية على أن قول من لم يرسل إليه رسول أن عذب: ربي لولا أرسلت إليّ رسولا مما يصلح للاحتجاج وإلا لما صلح لأن يكون سببا للإرسال وفي ذلك دلالة على أن العقل لا يغني عن الرسول، والبحث في ذلك شهير، والكلام فيه كثير فَلَمَّا جاءَهُمُ أي أولئك القوم، والمراد بهم هنا أهل مكة الموجودون عند البعثة وضمائر الجمع الآتية كلها راجعة إليهم. الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل عليه عليه الصلاة والسلام قالُوا تعنتا واقتراحا لَوْلا أُوتِيَ يعنونه عليه الصلاة والسلام مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى عليه السلام من الكتاب المنزل جملة وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق ومِنْ قَبْلُ متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليه السلام من قبل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة. نعم أمر الرد عليه على حاله أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى: قالُوا استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى: سِحْرانِ خبر لمبتدأ محذوف أي هما يعنون ما أوتي نبينا وما أوتي موسى عليهما الصلاة والسلام سحران تَظاهَرا أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده إياه، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه الصلاة والسلام فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك. وقوله تعالى: وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ أي بكل واحد من الكتابين كافِرُونَ تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان وقرأ الأكثرون «ساحران» وأراد الكفرة بهما نبينا وموسى عليهما الصلاة والسلام.
وقرأ طلحة والأعمش «أظّاهرا» بهمزة الوصل وشد الظاء وكذا هي في حرف عبد الله وأصله تظاهرا فلما قلبت التاء ظاء وأدغمت سكنت فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بالساكن، وقرأ محبوب عن الحسن، ويحيى بن الحارث الذماري وأبو حيوة وأبو خلاد عن اليزيدي تظاهرا بالتاء وتشديد الظاء. قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح: لا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات لا معنى له.
وخرج ذلك أبو حيان على أنه مضارع حذفت منه النون بدون ناصب أو جازم، وجاء حذفها كذلك في قليل من الكلام
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي مما أوتياه من القرآن والتوراة أَتَّبِعْهُ أي إن تأتوا به أتبعه فالفعل مجزوم بجواب الأمر ومثل هذا الشرط يأتي به من يدل بوضوح حجته لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإلزام وإيراد كلمة إِنْ في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنهما سحران مختلقان مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم، وقرأ زيد بن علي أتبعه بالرفع على الاستئناف أي أنا أتبعه.
وقال الزمخشري: الحق الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات يعني أن المقام مقام أن يقال فلما جاءهم أي الرسول أو فلما جاءهم الرسول لكن عدل عن ذلك لإفادة تلك المعاني وما أوتي موسى بما هو أعم من الكتاب المنزل جملة واحدة واليد والعصا وغيرهما من آياته عليه السلام، وتعقب بأنه لا تعلق للمعجزات من اليد ونحوها بالمقام وكذا لا تعلق لغير القرآن من معجزات نبينا صلّى الله عليه وسلّم به ويرشد إلى ذلك ظاهر قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا إلخ.
وجوز أن يكون ضميرا جاءَهُمُ وقالُوا راجعين إلى أهل مكة الموجودين وضمير يَكْفُرُوا وكذا ضمير قالُوا في الموضعين راجع إلى جنس الكفرة المعلوم من السياق والمراد بهم الكفرة الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام ومِنْ قَبْلُ متعلق بيكفروا لا بأوتي لعدم ظهور الفائدة والمراد بسحرين أو ساحران موسى وهارون عليهما السلام كما روي عن مجاهد، وإطلاق سحرين عليهما للمبالغة أو هو بتقدير ذوا سحرين، والمعنى أو لم يكفر أبناء جنسهم من قبلهم بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا هم بما أوتيته وقال أولئك الكفرة هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا، وقيل: يجوز أن تكون الضمائر راجعة إلى الموجودين والكفر والقول المذكور لأولئك السابقين حقيقة وإسنادهما إلى الموجودين مجازي لما بين الطائفتين من الملابسة.
وقيل بناء على ما روي عن الحسن: من أنه كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام إن المعنى أو لم يكفر آباؤهم من قبل أن يرسل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما أوتي موسى قالوا هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا فهو على أسلوب وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: ٤٩] ونحوه ويفيد الكلام عليه أن قدمهم في الكفر من الرسوخ بمكان، ولهم في العناد عرق أصيل وكون العرب لهم أصل في أيام موسى عليه السلام مما لا شبهة فيه حتى قيل: إن فرعون كان عربيا من أولاد عاد لكن في حسن تخريج الآية على ذلك كلام، وأنت تعلم أن كل هذه الأوجه ليست مما ينشرح له الصدر وفيها من التكلف ما فيها.
وادعى أبو حيان ظهور رجوع ضمير يكفروا وكذا ضمير قالوا إلى قريش الذين قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وأن نسبة ذلك إليهم لما أن تكذيبهم لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام ونسبتهم السحر للرسول نسبتهم إياه لموسى وهارون عليهما السلام إذ الأنبياء عليهم السلام من واد واحد فمن نسب إلى أحد منهم ما لا يليق كان ناسبا ذلك إلى جميعهم فلا يحتاج إلى توسيط حكاية الرهط في أمر النسبة، وعليه يجوز أن يراد بكل كل واحد من الأنبياء عليهم السلام، ولا يخفى أن ما ادعاه من ظهور رجوع الضمير إلى ما ذكر أمر مقبول عند منصفي ذوي العقول، لكن توجيه نسبة الكفر والقول المبين لكيفيته مما ذكر مما يبعد قبوله، وكأنه إنما احتاج إليه لعدم
وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ سحران ويقول هما كتابان الفرقان والتوراة ألا تراه سبحانه يقول: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى منهما، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذانا بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمن من أمره، كان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه.
وقيل: المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد صلّى الله عليه وسلّم حقيقة وقوعه منهم وهي كما في البحر بمعنى الإجابة وتتعدى إلى الداعي باللام كما في هذه الآية، وقوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف: ٣٤]، وقوله سبحانه:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء: ٧٦، ٨٤، ٨٨، ٩٠] وبنفسها كما في بيت الكتاب:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا | فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
فقل لبني مروان ما نال ذمتي | بحبل ضعيف لا يزال يوصل |
وَإِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بأنه كلام الله تعالى: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا أي الحق الذي كنا نعرف حقيته، وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به، وجوز أن تكون الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى:
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزوله مُسْلِمِينَ بيان لكون إيمانهم به أمرا متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ويكفي في كونهم على دين الإسلام قبل نزوله إيمانهم به إجمالا. وفي الكشاف والبحر أن الإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي والظاهر عليه أن الإسلام ليس من خصوصيات هذه الأمة من بين الأمم، وذهب السيوطي عليه الرحمة إلى كونه من الخصوصيات وألف في ذلك كراسة وقال في ذيلها: لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد عليّ قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ الآية فكأنما ألقي على جبل لما أن ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد فكرت فيها ساعة ولم يتجه لي فيها شيء فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر عنها ثلاثة أجوبة: الأول أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه دون الحال والماضي والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من بعثه ووصفه ويرشح هذا أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أولا لنبو المقام عنه كما لا يخفى، الثاني أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله مسلمين به فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة فيما قبل حيث قال سبحانه: هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فإنه يدل على أن الصلة مرادة هنا أيضا إلا أنها حذفت كراهة التكرار. الثالث أن هذا الوصف منهم بناء على ما هو مذهب الأشعري من أن من كتب الله تعالى أن يموت مؤمنا فهو يسمى عنده تعالى مؤمنا ولو كان في حال الكفر وإنما لم نطلق نحن هذا الوصف عليه لعدم علمنا بما عنده تعالى، فهؤلاء لما ختم الله تعالى لهم بالدخول في الإسلام أخبروا عن أنفسهم أنهم كانوا متصفين به قبل لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة ووصفهم بذلك أولى من وصف الكافر الذي يعلم الله تعالى أنه يموت على الإسلام به لأنهم كانوا على دين حق وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الجواب وكذا الجواب الأول وأما الجواب الثاني فهو بمعنى ما ذكرناه في الآية وقد ذكره البيضاوي وغيره وجوز أن يراد بالإسلام الانقياد أي إنا كنا من قبل نزوله منقادين لأحكام الله تعالى الناطق بها كتابه المنزل إلينا ومنها وجوب الإيمان به فنحن مؤمنون به قيل نزوله أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من النعوت يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن بِما صَبَرُوا أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين
قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم لمعاذ: اتبع السيئة الحسنة تمحها
، وقيل: أي يدفعون بالحلم الأذى وقال ابن جبير: بالمعروف المنكر وقال ابن زيد: بالخير الشر وقال ابن سلام: بالعلم الجهل وبالكظم الغيظ وقال ابن مسعود: بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في سبيل الخير كما يقتضيه مقام المدح وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ سقط القول وقال مجاهد: الأذى والسب وقال الضحاك: الشرك وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم أَعْرَضُوا عَنْهُ أي عن اللغو تكرما كقوله تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: ٧٢] وَقالُوا لهم (١) أي للاغين المفهوم من ذكر اللغو لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ متاركة لهم كقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:
٦] سَلامٌ عَلَيْكُمْ قالوه توديعا لهم لا تحية أو هو للمتاركة أيضا كما في قوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وأيا ما كان فلا دليل في الآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام كما زعم الجصاص إذ ليس الغرض من ذلك إلا المتاركة أو التوديع.
وروي عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم في الكفار «لا تبدءوهم بالسلام وإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم»
. نعم روي عن ابن عباس جواز أن يقال للكافر ابتداء السلام عليك على معنى الله تعالى عليك فيكون دعاء عليه وهو ضعيف، وقوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ بيان للداعي للمتاركة والتوديع أي لا نطلب صحبة الجاهلين ولا نريد مخالطتهم إِنَّكَ لا تَهْدِي هداية موصلة إلى البغية لا محالة مَنْ أَحْبَبْتَ أي كل من أحببته طبعا من الناس قومك وغيرهم ولا تقدر أن تدخله في الإسلام وإن بذلت فيه غاية المجهود وجاوزت في السعي كل حد معهود، وقيل: من أحببت هدايته.
وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته فيدخله في الإسلام وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء سبحانه هدايتهم ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، وأفعل للمبالغة في علمه تعالى.
وقيل: يجوز أن يكون على ظاهره، وأفاد كلام بعضهم أن المراد أنه تعالى أعلم بالمهتدي دون غيره عز وجل، وحيث قرنت هداية الله تعالى بعلمه سبحانه بالمهتدي وأنه جل وعلا العالم به دون غيره دل على أن المراد بالمهتدي المستعد دون المتصف بالفعل فيلزم أن تكون هدايته إياه بمعنى القدرة عليها، وحيث كانت هدايته تعالى لذلك بهذا المعنى، وجيء بلكن متوسطة بينها وبين الهداية المنفية عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم لزم أن تكون تلك الهداية أيضا بمعنى القدرة عليها لتقع لكن في موضعها، ولذا قيل: المعنى إنك لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ولكن الله تعالى يقدر على أن يدخل من يشاء إدخاله وهو الذي علم سبحانه أنه غير مطبوع على قلبه، وللبحث فيه مجال، وظاهر عبارة الكشاف حمل نفي الهداية في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ على نفي القدرة على الإدخال في الإسلام وإثباتها في قوله سبحانه: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ على وقوع الإدخال في الإسلام بالفعل، وهذا ما اعتمدناه في تفسير الآية، ووجهه أن مساق الآية لتسليته صلّى الله تعالى عليه وسلّم حيث لم ينجع في قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم وما جاء به إليهم من الحق بل أصروا على ما هم عليه، وقالوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [القصص: ٤٨] ثم
أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم فقال: يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة فقال: لولا أن يعيروني قريش يقولون: ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية.
وأخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وغيرهم، عن سعيد بن المسيب عن أبيه نحو ذلك، وأخرج أبو سهل السري بن سهل من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ إلخ نزلت في أبي طالب ألح النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يسلم فأبى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد روى نزولها فيه عنه أيضا ابن مردويه، ومسألة إسلامه خلافية، وحكاية إجماع المسلمين أو المفسرين على أن الآية نزلت فيه لا تصح فقد ذهب الشيعة وغير واحد من مفسريهم إلى إسلامه وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك وأن أكثر قصائده تشهد له بذلك وكأن من يدعي إجماع المسلمين لا يعتد بخلاف الشيعة ولا يعول على رواياتهم، ثم إنه على القول بعدم إسلامه لا ينبغي سبه والتكلم فيه بفضول الكلام فإن ذلك مما يتأذى به العلويون بل لا يبعد أن يكون مما يتأذى به النبي عليه الصلاة والسلام الذي نطقت الآية بناء على هذه الروايات بحبه إياه، والاحتياط لا يخفى على ذي فهم.
ولأجل عين ألف عين تكرم
وقيل: هو متعلق بقوله سبحانه: من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله عز وجل إذ لو علموا لما خافوا غيره، والأول أظهر، والكلام عليه أبلغ في الذم، وقرأ المنقري «نتخطف» بالرفع كما قرىء في قوله تعالى:
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: ٧٨] برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ.
وقرأ نافع وجماعة عن يعقوب وأبو حاتم عن عاصم «تجبى» بتاء التأنيث، وقرىء «تجني» بالنون من الجني وهو قطع الثمرة وتعديته بإلى كقولك يجني إلى فيه ويجني إلى الخافة (١) وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم «ثمرات» بضم الثاء والميم، وقرأ بعضهم «ثمرات» بفتح الثاء وإسكان الميم، ثم إنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس الله تعالى بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثيرا من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها.
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد تدميرهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو إلا سكنا قليلا وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل: لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس.
وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلا منها سكن وفيه بعد، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم، وفي الكشاف أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثة إما مجرد انتقالها من أصحابها وإما إلحاقها بما خلقه الله تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك الله تعالى على ما كان أولا وهذا معنى الإرث، وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين، أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على إسقاط (في) أي في معيشتها على مذهب الأخفش، أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت سنته عز وجل أن لا يهلكها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى إليها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب، وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث إليهم رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل الأحكام فطنة وكيسا فهم أقبل للدعوة وأشرف.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم
وقرأ طلحة «أمن وعدناه» بغير فاء، وقرأ قالون والكسائي «ثم هو» بسكون الهاء كما قيل: عضد وعضد تشبيها للمنفصل وهو الميم الأخير من ثم بالمتصل، والآية نزلت على ما أخرج ابن جرير عن مجاهد في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل وأخرج من وجه آخر عنه أنها نزلت في حمزة وأبي جهل، وقيل: نزلت في علي كرّم الله تعالى وجهه وأبي جهل ونسب إلى محمد بن كعب والسدي، وقيل: في عمار رضي الله تعالى عنه، والوليد بن المغيرة، وقيل: نزلت في المؤمن والكافر مطلقا وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة لاختلافهما عنوانا وإن اتحدا ذاتا أو منصوب بإضمار
وأن الذي قد عاش يا أم مالك | يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا |
كأن لم يكن بين إذا كان بعده | تلاق ولكن لا إخال تلاقيا |
الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل: والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى: فَدَعَوْهُمْ أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والإشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة، وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك وَرَأَوُا الْعَذابَ الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك: هو للداعين والمدعوين جميعا، وقيل: هو للمدعوين فقط وليس بشيء.
والظاهر أن الرؤية بصرية ورؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلا بهم أو غاشيا لهم أو نحو ذلك.
وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب مختلف في جوازه وتقدم آنفا عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلا بهم جعل متصلا حالا من العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب.
واعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفيا وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى، وجوز أن تكون لَوْ للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب: فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم.
وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحما عليهم أو هو من الله تعالى شأنه على المجاز كما قيل: في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [البقرة: ١٠٣]، وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأول سئلوا أولا عن إشراكهم لأنه المقصود من أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أصله فعموا عن الأنباء أي لم يهتدوا إليها، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدي بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالأنباء لأنها مسموعة لا مبصرة، وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من الخارج ونفس الأمر إما ابتداء وإما بواسطة تذكر الصورة الواردة منه بأماراتها الخارجية فإذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل إليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار، وذلك لأنه لما جعل الأنباء الواردة عليهم من الخارج عميا لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فإذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل: فليتدبر، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به، وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسئول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم.
وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش وأبو زرعة بن عمرو بن جرير «فعمّيت» بضم العين وتشديد الميم. فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل، والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة.
وقرأ طلحة «لا يساءلون» بإدغام التاء في السين فَأَمَّا مَنْ تابَ أي من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أي جمع بين الإيمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي الفائزين بالمطلوب عنده عز وجل الناجين عن المهروب و (عسى) للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور بمعنى فليتوقع أن يفلح، وقوله تعالى: فَأَمَّا قيل لتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يؤول إليه حال المشركين، وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون، والدلالة على ترتب الاخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها.
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه من الأعيان والأعراض وَيَخْتارُ عطف على يخلق، والمعنى على ما قيل يخلق ما يشاؤه باختياره فلا يخلق شيئا بلا اختيار، وهذا مما لم يفهم مما يشاء فليس في الآية شائبة تكرار، وقيل في دفع ما يتوهم من ذلك غير ما ذكر مما نقله ورده الخفاجي ولم يتعرض للقدح في هذا الوجه، وأراه لا يخلو عن بعد ولي وجه في الآية سأذكره بعد إن شاء الله تعالى ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير وهما والاختيار بمعنى، وظاهر الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية، ومن أثبت للعبد اختيارا قال: إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها الله تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه العلامة الدواني قال: الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق الله تعالى الفعل فيه، وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له وتصور أنه ملائم وغير ذلك من أمور ليس شيء منها بقدرة العبد واختياره، وحقق العلامة الكوراني في بعض رسائله المؤلفة في هذه المسألة أن مذهب السلف أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى وأن له اختيارا لكنه مجبور باختياره وادعى أن ذلك هو مذهب الأشعري دون ما شاع من أن له قدرة غير مؤثرة أصلا بل هي كاليد الشلاء ونفي الاختيار عنه على هذا نحوه على ما مر فإنه حيث كان مجبورا به كان وجوده كالعدم، وقيل: إن الآية أفادت نفي ملكهم للاختيار ويصدق على المجبور باختياره بأنه غير مالك للاختيار إذ لا يتصرف فيه كما يشاء تصرف المالك في ملكه، وقيل: المراد لا يليق ولا ينبغي لهم أن يختاروا عليه تعالى أي لا ينبغي لهم التحكم عليه سبحانه بأن يقولوا لم لم يفعل الله تعالى كذا.
ويؤيده أن الآية نزلت حين قال الوليد بن المغيرة لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أو حين قال اليهود لو كان الرسول إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم غير جبريل عليه السلام لآمنا به على ما قيل، والجملة على هذا الوجه مؤكدة لما قبلها أو مفسرة له إذ معنى ذلك يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء أن يختاره لا ما يختاره العباد عليه ولذا خلت عن العاطف وهي على ما تقدم مستأنفة في جواب سؤال تقديره فما حال العباد أو هل لهم اختيار أو نحوه؟ فقيل: إنهم ليس لهم اختيار، وضعف هذا الوجه بأنه لا دلالة على هذا المعنى في النظم الجليل وفيه حذف المتعلق وهو على الله تعالى من غير قرينة دالة عليه، وكون سبب النزول ما ذكر ممنوع، والقول الثاني فيه يستدعي بظاهره أن يكون ضمير لهم لليهود وفيه من البعد ما فيه، وقيل: ما موصولة مفعول يختار والعائد محذوف، والوقف على يشاء لا نافية، والوقف على يختار كما نص عليه الزجاج وعلي بن سليمان والنحاس كما في الوجهين السابقين أي ويختار الذي كان لهم فيه الخير والصلاح، واختياره تعالى ذلك بطريق التفضل والكرم عندنا وبطريق الوجوب عند المعتزلة، وإلى موصولية ما وكونها مفعول يختار ذهب الطبري إلا أنه قال في بيان المعنى عليه: أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، وأنكر أن تكون نافية لئلا يكون المعنى أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وادعى أبو حيان أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معنى ما ذهب إليه، واعترض بأن اللغة لا تساعده لأن المعروف فيها أن الخيرة بمعنى الاختيار لا بمعنى الخير وبأنه لا يناسب ما بعده من قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ إلخ، وكذا لا يناسب ما قبله من قوله سبحانه: يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وضعفه بعضهم بأن
يعني والله تعالى أعلم أن المراد خيرة الله تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم. وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى: لَهُمُ الْخِيَرَةُ إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الإنكاري، وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه: سُبْحانَ اللَّهِ إلخ فإنه إما تعجيب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز وجل عنه، ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه، ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه، وهو أن يكون يختار معطوفا على يخلق والوقف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار بمعنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة بمعنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء، وتقديم المسند إليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة الحصر، وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بإفادة النفي الذي تضمنته، والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز إليه ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ وللتعبير- بما- وجه ظاهر، والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء انتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما شاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاؤوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدما عنده عز وجل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة الكاملة وعدم كون فاعله محجورا عليه أصلا وأنى لهم ذلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء الله تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الذين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الأحوال، وإن شئت فنزل الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضا آخر لكذا ويميز بعضا منها على بعض ويجعله مقدما عنده تعالى عليه فإنه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل، ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز وجل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فإن فيه انتقاء غيره صلّى الله عليه وسلّم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فإن صح ما قيل: في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضا إلا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جيء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم، وربما يقال:
إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة والسلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة والسلام بأهلية الإرسال إليه وتنزيل القرآن عليه جيء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن إشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيانهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى الله تعالى عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، ونحو ذلك وَما يُعْلِنُونَ وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، ولعله للمبالغة في خباثة باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكون كما قيل: ما يعلنون.
وقرأ ابن محيصن «تكن» بفتح التاء وضم الكاف وَهُوَ اللَّهُ أي وهو تعالى المستأثر بالألوهية المختص بها، وقوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لذلك كقولك: الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي.
لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي له تعالى ذلك دون غيره سبحانه لأنه جل جلاله المعطي لجميع النعم بالذات وما سواه وسائط، والمراد بالحمد هنا ما وقع في مقابلة النعم بقرينة ذكرها بعده بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ.
وزعم بعضهم أن الحمد هنا أعم من الشكر، واعتبر الحصر بالنسبة إلى مجموع حمدي الدارين زاعما أن الحمد في الدنيا وإن شاركه فيه غيره تعالى لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلا له تعالى، وفيه أن الحمد مطلقا مختص به تعالى لأن الفضائل والأوصاف الجميلة كلها بخلقه تعالى فيرجع الحمد عليها في الآخرة له تعالى لأنه جل وعلا مبديها ومبدعها، ولو نظر إلى الظاهر لم يكن حمد الآخرة مختصا به سبحانه أيضا فإن نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم يحمده الأولون والآخرون عند الشفاعة الكبرى، وفسر غير واحد حمده تعالى في الآخرة بقول المؤمنين:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: ٧٤]، وقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: ٣٤]، وقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢]، وقالوا: التحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر في وصف أهل الجنة يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس وَلَهُ الْحُكْمُ أي
تُرْجَعُونَ بالبعث قُلْ تقريرا لما ذكر أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني، وقرأ الكسائي «أريتم» بحذف الهمزة إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما وهو عند البعض من السرد وهو المتابعة والإطراد والميم مزيدة لدلالة الاشتقاق عليه فوزنه فعمل ونظيره دلامص من الدلاص، يقال: درع دلاص أي ملساء لينة.
واختار بعض النحاة أن الميم أصلية فوزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط، ونصبه إما على أنه مفعول ثان لجعل أو على أنه حال من الليل، وقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما متعلق بسرمدا أو بجعل وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بمحذوف وقع صفة لسرمدا وجعله تعالى كذلك بإسكان الشمس تحت الأرض مثلا وقوله تعالى:
مَنْ إِلهٌ مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: غَيْرُ اللَّهِ صفة لإله. وقوله تعالى: يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والإلزام كما في قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [سبأ: ٢٤]، وقوله سبحانه:
فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك: ٣٠] ونظائرهما خلا إنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة، ولم يؤت بهل التي هي لطلب التصديق المناسب بحسب الظاهر للمقام، وأتى بمن التي هي لطلب التعيين المقتضي لأصل الوجود لإيراد التبكيت والإلزام على زعمهم فإنه أبلغ كما لا يخفى، وجملة مَنْ إِلهٌ إلخ قال أبو حيان: في موضع المفعول الثاني لأرأيتم وجعل الليل مما تنازع فيه أرأيتم وجعل وقال: إنه أعمل فيه الثاني فيكون المفعول الأول للأول محذوفا، وحيث جعلت تلك الجملة في موضع مفعوله الثاني لا بد من تقدير العائد فيها أي من إله غيره يأتيكم بضياء بدله مثلا، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، وكذا يقال في الآية بعد، وعن ابن كثير أنه قرأ «بضآء» بهمزتين أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع فهم وقبول الدلائل الباهرة والنصوص المتظاهرة لتعرفوا أن غير الله تعالى لا يقدر على ذلك قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس في وسط السماء مثلا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال أَفَلا تُبْصِرُونَ الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة لتقفوا على أن غير الله تعالى لا قدرة له على ذلك، ويعلم مما ذكرنا أن كلّا من جملتي أفلا تسمعون وأ فلا تبصرون تذييل للتوبيخ الذي يعطيه قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ إلخ قبله، وأفاد الزمخشري أن ظاهر التقابل يقتضي ذكر النهار والتصرف فيه إلا أن العدول عن ذلك إلى الضياء وهو ضوء الشمس للدلالة على أنه يتضمن منافع كثيرة منها التصرف فلو أتى بالنهار لاستدعى القصر على تلك المنفعة من ضرورة التقابل ولأن المنافع للضياء لا للنهار على أن النهار أيضا من منافعه، ثم استشعر أن يقال: فلم لم يؤت بالظلام بدل الليل في الآية الثانية لتتم المقابلة من هذا الوجه؟ وأجاب بأنه ليس بتلك المنزلة فلا هو مقصود في ذاته كالضياء ولا أن المنافع من روادفه مع ما فيهما من الاستئناس والاشمئزاز، بل لو تأمل حق التأمل وجد حكم بأن الليل من منافع الضياء أيضا والظلام من ضرورات كون الشمس المضيئة تحت الأرض وإلقاء ظل الليل، ثم أفاد أن التفصلة وهو التذييل المذكور فيها إرشاد إلى هذه النكتة فإن قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ يدل على أن التوبيخ بعدم التأمل في الضياء أكثر من حيث إن مدرك السمع أكثر. والمراد ما يدركه العقل بواسطة السمع فلا يرد أن مدركه الأصوات وحدها ومدرك البصر أكثر من ذلك، وذلك أن ما لا يدرك بحس أصلا يدرك بواسطة السمع إذا عبر عنه المعبر بعبارة مفهمة، وأما ما يدرك بالبصر فمن مشاهدة المبصرات وهي قليلة، وأما المطالعة من الكتب فإنها أضيق مجالا من السمع وقرعه كذا في الكشف، والعلامة الطيبي قرر عبارة الكشاف بما قرر ثم قال: الأبعد من التكلف أن يجعل أفلا تسمعون تذييلا للتوبيخ المستفاد من أرأيتم إلخ قبله
ولما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل الله تعالى الذي هو بعض فوائد النهار شبيه بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ، وذكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولا ثم قال: وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل، وصاحب الكشف قرر العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين، ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال: إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء شمسه أكثر من أن تحصى أحق وأولى، ومعنى قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموع ليستدرك منه قصد القائل ويحيط بأكثر ما جعل الله تعالى في النهار من المنافع فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر وتفكر فيه ومعنى أَفَلا تُبْصِرُونَ أتستدركون من ذلك ما يجب استدراكه انتهى.
وفي الكشف أنه مؤيد لما ذكره صاحب الكشاف، وربما يقال ذكر سبحانه أولا فرضية جعل الليل سرمدا وثانيا فرضية جعل النهار كذلك لأن الليل كما قالوا مقدم على النهار شرعا وعرفا وأيضا ذلك أوفق بقوله تعالى وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [القصص: ٦٩] ففي المثل الليل أخفى للويل وكذا بقوله تعالى سبحانه: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ففي الأثر كان الخلق في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، ولعله لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ بناء على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه: أَفَلا تُبْصِرُونَ بناء على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك وجيء بالضياء غير موصوف في الآية الأولى وبالليل موصوفا في الثانية لما أفاده الزمخشري وقيل في وجه تذييل الآية الأولى بقوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ دون قوله سبحانه: أَفَلا تُبْصِرُونَ أن المفروض لو تحقق بقي معه السمع دون الإبصار إذ ظلمة الليل لا تحجب السمع وتحجب البصر، وفي وجه تذييل الثانية بقوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ دون أَفَلا تَسْمَعُونَ أن تحقق المفروض وعدمه سيان في أمر السمع دون الإبصار إذ لضياء النهار مدخل في الإبصار وليس له مدخل في السمع أصلا وهو كما ترى (واعلم) أن هاهنا إشكالا وهو أن جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بضياء أصلا وكذا جعل النهار سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بليل كذلك، أما من غيره تعالى فظاهر لأنه معدن العجز عن كل شيء، وأما منه عز وجل فلاستلزامه اجتماع الليل والنهار إذ لو لم يجتمعا لم يتحقق الليل مستمرا إلى يوم القيامة وكذا جعل النهار كذلك وهو خلاف المفروض واجتماعهما محال والمحال لا صلاحية له لتعلق القدرة فلا يراد.
وأجيب بأن المراد إن أراد سبحانه ذلك فمن إله غيره تعالى يأتيكم بخلاف مراده سبحانه بأن يقطع الاستمرار فيأتي بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، واعترض بأنه يفهم من الآية حينئذ أنه جل وعلا هو الذي إن أراد ذلك يأتيهم بخلاف مراده تعالى فيقطع الاستمرار وهو مشكل أيضا لأن إتيانه تعالى بخلاف مراده جل وعلا مستلزم لتخلف المراد عن الإرادة وهو محال فإذا أراد الله تبارك وتعالى شيئا على وجه إرادة لا تعليق فيها لا يمكن أن يريده على خلاف ذلك
ومقرطق يغني النديم بوجهه | عن كأسه الملأى وعن إبريقه |
فعل المدام ولونها ومذاقها | في مقلتيه ووجنتيه وريقه |
وقد ورد «الكاسب حبيب الله»
وهو لا ينافي التوكل وأن ما يحصل للعبد بواسطته فضل من الله عز وجل وليس مما يجب عليه سبحانه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لتعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ منصوب باذكر.
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقريع إثر تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز وجل، أو أن الأول لبيان فساد رأيهم كما يشير إليه قوله تعالى هناك: حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [القصص: ٦٣]، وهذا لبيان أن إشراكهم لم يكن عن سند بل عن محض هوى كما يشير إليه قوله تعالى بعد هاتُوا بُرْهانَكُمْ أو الأول إحضار للشركاء بعدم الصلوح لقوله سبحانه بعده: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ وهذا تحسير بأنهم لم يكونوا في شيء من اتخاذهم ألا ترى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وَنَزَعْنا عطف على يناديهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا بسرعة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً شاهدا يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبي تلك الأمة كما روي عن مجاهد، وقتادة، ويؤيده قوله تعالى:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: ٤١] وهذا في موقف من مواقف يوم القيامة فلا يضر كون الشهيد في موقف آخر غير الأنبياء عليهم السلام وهم أمة محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم أو الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر: ٦٩] فإنه دال في الظاهر على مغايرة الشهداء للأنبياء عليهم السلام.
وقيل: يجوز اتحاد الموقف والدلالة على المغايرة غير مسلمة ولو سلمت فشهادة الأنبياء عليهم السلام لا تنافي شهادة غيرهم معهم، وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وإفراد شهيد ظاهر فيما تقدم، ومن هنا قال في البحر قيل: أي عدولا وخيارا، والشهيد عليه اسم جنس فَقُلْنا لكل من تلك الأمم هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا يومئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية لا يشاركه سبحانه فيها أحد.
وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع فضل مستعار لمعنى غاب استعارة تبعية.
فروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جريج وقتادة وإبراهيم أنه ابن عم موسى عليه السلام فموسى بن عمران بن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ابن لاوي بالقصر ابن يعقوب عليه السلام وهو ابن يصهر بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ابن قاهث إلخ.
وفي مجمع البيان عن عطاء عن ابن عباس أنه ابن خالة موسى عليه السلام، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه.
وحكي عن محمد بن إسحاق أنه عم موسى عليه السلام وهو ظاهر على قول من قال: إن موسى عليه السلام ابن عمران بن يصهر بن قاهث وهو ابن يصهر بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهارون فما لي؟ وروي أنه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم وكان القربان إلى موسى عليه السلام فجعله لأخيه هارون وجد قارون في نفسه فحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شيء إلى متى أصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع الله تعالى قال والله تعالى لا أصدقك حتى تأتي بآية فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم وعد من تكبره أنه زاد في ثيابه شبرا أو ظلمهم وطلب ما ليس حقه قيل: وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل.
وقيل: حسدهم وطلب زوال نعمهم، وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهارون عليهما السلام، والفاء فصيحة أي ضل فبغى، وجوز أن تكون على ظاهرها لأن القرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أي الأموال المدخرة فهو مجاز بجعل المدخر كالمدفون إن كان الكنز مخصوصا به، وحكي في البحر أنه سميت أمواله كنوزا لأنها لم تؤد منها الزكاة وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبى وهو من أسباب عداوته إياه، وقيل: الكنوز هنا الأموال المدفونة وكان كما روي عن عطاء قد أظفره الله تعالى بكنز عظيم من كنوز يوسف عليه السلام ما إِنَّ مَفاتِحَهُ أي مفاتح صناديقه فهو على تقدير مضاف أو الإضافة لأدنى ملابسة وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به.
وقال السدي: أي خزائنه وفي معناه قول الضحاك أي ظروفه وأوعيته، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، والحسن وقياس واحده على هذا المفتح بالفتح لأنه اسم مكان، ويؤيد ما تقدم قراءة الأعمش مفاتيحه بياء جمع مفتاح وما موصولة ثاني مفعولي آتى ومفاتحه اسم إن وقوله تعالى: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ خبرها والجملة صلة ما والعائد الضمير المجرور، ومنع الكوفيون جواز كون الجملة المصدرة بأن صلة للموصول، قال النحاس: سمعت علي بن سليمان- يعني الأخفش الصغير- يقول ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه وفي القرآن ما إن مفاتحه انتهى، ولا يخفى أن المانع من ذلك إن كان عدم السماع فالرد عليهم لا يتم إلا بشاهد لا يحتمل غير ذلك وما في الآية تحتمل أن تكون نكرة موصوفة وإن كان المانع كون إن تقع في ابتداء الكلام فلا ترتبط الجملة المصدرة بها بما قبلها فالرد بالآية المذكورة عليهم تام لأن المانع المذكور كما يمنع كون
تنوء بأخراها فلأيأ قيامها | وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر |
مثل الفراخ نتفت حواصله أي حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا، وقال الزمخشري: وجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال كقولك ذهبت أهل اليمامة انتهى، وإنما فسر المفاتح بالخزائن دون ما يفتح به ليتم الاتصال فإن اتصال الخزائن بالمخزون فوق اتصال المفاتيح به بل لا اتصال للثاني وحينئذ يكتسي التذكير من المضاف إليه كما اكتسى التأنيث من عكسه كالمثال الذي ذكره، وما تقدم عن غيره أولى. قال في الكشف لأن تفسير المفاتح بالخزائن ضعيف جدا لفوات المبالغة، وقيل: إن المفاتح بذلك المعنى غير معروف وقد سمعت أنه تفسير مأثور فإذا صح ذلك فلا يلتفت إلى ما ذكر من هذا وكلام الكشف، وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ «ما إن مفتاحه» على الإفراد فلا تحتاج قراءته «لينوء» بالياء إلى تأويل، وقد بولغ في كثرة مفاتيحه فروي عن خيثمة أنها كانت وقر ستين بغلا أغر محجلا ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح كنز، وفي رواية أخرى عنه كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغر محجلا.
وفي البحر ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه، ومما لا مبالغة فيه ما روي عن ابن عباس من أن المفاتح الخزائن وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف وعليه فأمثال قارون في الناس أكثر من خزائنه، ولعل الآية تشير إلى ما أوتيه فوق ذلك، ولا أظن الأمر كما روي عن خيثمة، وأبعد أبو مسلم في تفسير الآية فقال: المراد من المفاتح العلم والإحاطة كما في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: ٥٩] والمراد وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها القائمين على حفظها إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ.
قال الزمخشري: هو متعلق بتنوء وضعف بأن أثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه، وقال ابن عطية:
أشد الغم عندي في سرور | تيقن عنه صاحبه انتقالا |
وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا | للمرء خير من نعيم زائل |
ولست بمفراح إذ الدهر سرني | ولا جازع من صرفه المتقلب |
إن تلاق منفسا لا تلقنا | فرح الخير ولا نكبو لضر |
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الكنوز والغنى الدَّارَ الْآخِرَةَ أي ثوابها أي ثواب الله تعالى فيها بصرف ذلك إلى ما يكون وسيلة إليه و (في) إما ظرفية على معنى ابتغ متقلبا ومتصرفا فيه أو سببية على معنى ابتغ بصرف ما أتاك الله تعالى ذلك وقرىء «اتبع» وَلا تَنْسَ أي ولا تترك ترك المنسي نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي حظك منها وهو كما أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن تعمل فيها لآخرتك، وروي ذلك عن مجاهد.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة هو أن تأخذ من الدنيا ما أحل الله تعالى لك، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن منصور قال: ليس هو عرض من عرض الدنيا ولكن نصيبك عمرك أن تقدم فيه لآخرتك، وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن أنه قال في الآية: قدم الفضل وأمسك ما يبلغك، وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف، وقيل:
أرادوا بنصيبه من الدنيا الكفن كما قال الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله | رادءان تلوى فيهما وحنوط |
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الكلام فيه كالكلام في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وهذه الموعظة بأسرها كانت من مؤمني قومه كما هو ظاهر الآية، وقيل: إنها كانت من موسى عليه السلام
قالَ مجيبا لمن نصحه إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي كأنه يريد الرد على قولهم: كما أحسن الله إليك لإنبائه عن أنه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله، وحاصله دعوى استحقاقه لما أوتيه لما هو عليه من العلم، وقوله عَلى عِلْمٍ عند أكثر المعربين في موضع الحال من مرفوع أوتيته قيد به العامل إشارة إلى علة الإيتاء ووجه استحقاقه له أي إنما أوتيته كائنا على علم، وجوز كون على تعليلية والجار والمجرور متعلق بأوتيت على أنه ظرف لغو كأنه قيل أوتيته لأجل علم، وعِنْدِي في موضع الصفة لعلم والمراد لعلم مختص بي دونكم، وجوز كونه متعلقا بأوتيت، ومعناه في ظني ورأيي كما في قولك: حكم كذا الحل عند أبي حنيفة عليه الرحمة، وفي الكشاف ما هو ظاهر في أن عندي إذا كان بمعنى في ظني ورأيي كان خبر مبتدأ محذوف أي هو في ظني ورأيي هكذا، والجملة عليه مستأنفة تقرر أن ما ذكره رأي مستقر هو عليه، قال في الكشف: وهذا هو الوجه، والمراد بهذا العلم قيل علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها، وقال أبو سليمان الداراني: علم التجارة ووجوه
سهل الانتقال والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيرا جدا اهـ، والذي ذهب إليه الشيخ أبو علي بن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة وبنى على ذلك إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها لأن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل، وهذا ما حكاه ابن خلدون عنه، وقال الإمام في المباحث المشرقية في الفصل الثامن من القسم الرابع منها: الشيخ سلم إمكان أن يصبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص، فإما أن يكون الفصل المنوع يسلب أو يكسى، قال: فلم يظهر لي إمكانه بعد، إذ هذه
وغلطه الطغرائي وهو من أكابر أهل هذه الصناعة وله فيها عدة كتب ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنما هو في إعداد المادة لقبول خاصة والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه جل شأنه وعظمت قدرته كما يفيض سبحانه النور على الأجسام بالصقل ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب والتبن، والحية من الشعر وغير ذلك فما المانع من العثور على مثل ذلك في المعادن وهذا كله بالصناعة وهي إنما موضوعها المادة فيعدها التدبير والعلاج إلى قبول تلك الفصول لا أكثر، فنحن نحاول مثل ذلك في الذهب والفضة فنتخذ مادة نصفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة ثم نحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلهما اهـ بمعناه وهو رد صحيح فيما يظهر، وقال الإمام بعد ذكره ما سمعت من كلام الشيخ: هو ليس بقوي لأنا نشاهد من الترياق آثارا وأفعالا مخصوصة فإما أن لا نثبت له صورة ترياقية بل نقول إن الأفعال الترياقية حاصلة من ذلك المزاج لا من صورة أخرى جاز أيضا أن يقال صفرة الذهب ورزانته حاصلتان مما فيه من المزاج لا من صورة مقومة فحينئذ لا يكون للذهب فصل منوع إلا مجرد الصفرة والرزانة ولكنهما معلومتان فأمكن أن تقصد إزالتهما واتخاذهما فبطل ما قاله الشيخ. وأما إذا أثبتنا صورة مقومة له فنقول لا شك بأنا لا نعقل من تلك الصورة إلا أنها حقيقة تقتضي الأفعال المخصوصة الصادرة عن الترياق فإما أن يكون هذا القدر من العلم يكفي في قصد الإيجاد والإبطال أو لا يكفي فإن لم يكف وجب أن لا يمكننا اتخاذ الترياق وإن كفى فهو في مسألتنا أيضا حاصل لأنا نعلم من الصورة الذهبية أنها ماهية تقتضي الذوب والصفرة والرزانة ويجاب أيضا بأنا وإن كنا لا نعلم الصورة المقومة على التفصيل إلا أنا نعلم الأعراض التي تلائمها والتي لا تلائمها ونعلم أن العرض الغير الملائم إذا اشتد في المادة بطلت الصورة مثل الصورة المائية فإنا نعلم أن الحرارة لا تلائمها وإن كنا لا نعلم ماهيتها على التفصيل فلذلك يمكننا أن نبطل الصورة المائية وأن نكسبها، أما الإبطال فبتسخين الماء وأما الاكتساب فبتبريد الهواء فكذلك في مسألتنا واحتج قوم من الفلاسفة على امتناعها بأمور: أولها، أن الطبيعة إنما تعمل هذه الأجساد من عناصر مجهولة عندنا ولتلك العناصر مقادير معينة مجهولة عندنا أيضا ولكيفيات تلك العناصر مراتب معلومة وهي مجهولة عندنا ولتمام الفعل والانفعال زمان معين مجهول عندنا، ومع الجهل بكل ذلك كيف يمكننا عمل هذه الأجساد، وثانيها: أن الجوهر الصابغ إما أن يكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوغ أصبر أو يتساويان فإن كان الصابغ أصبر وجب أن يفنى المصبوغ ويبقى الصابغ بعد فنائه وإن كان المصبوغ أصبر وجب أن يبقى بعد فناء الصابغ وإن تساويا في الصبر على النار فهما من نوع واحد لاستوائهما في الصبر على النار فليس أحدهما بالصابغية والآخر بالمصبوغية أولى من العكس، وثالثها: أنه لو كان بالصناعة مثلا لما كان بالطبيعة لكن التالي باطل، أما أولا: فلأنا لم نجد له شبيها، وأما ثانيا: فلأنه لو جاز أن يوجد بالصناعة ما يحصل بالطبيعة لجاز أن يحصل بالطبيعة ما يحصل بالصناعة حتى يوجد سيف أو سرير بالطبيعة، ولما ثبت امتناع التالي ثبت امتناع المقدم، ورابعها: أن لهذه الأجساد أماكن طبيعية هي معادنها وهي لها بمنزلة الأرحام للحيوان فمن جوز تولدها في غير تلك المعادن كان كمن جوز تولد الحيوانات في غير الأرحام. وأجاب الإمام عن الأول بأنه منقوض بصناعة الطب.
وعن الثاني بأنه لا يلزم من استواء الصابغ والمصبوغ في الصبر على النار استواؤهما في الماهية لأن المختلفين قد يشتركان في بعض الصفات، وعن الثالث بأنه قد يوجد بالصناعة مثل ما يوجد بالطبيعة مثل النار الحاصلة بالقدح،
وعن الرابع بأن من أراد أن يقلب النحاس فضة فهو لا يكون كالمحدث للشيء بل كالمعالج للمريض، فإن النحاس من جوهر الفضة إلا أن فيه عللا وأمراضا وكما يمكن المعالجة لا في موضع التكون فكذلك في هذا الموضع، على أن حاصل الدليل أن الذي يتكون في الجبال لا يمكن تكونه بالصناعة، وفيه وقع النزاع، وابن خلدون بعد أن ذكر كلام ابن سينا ورد الطغرائي عليه قال: لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذ آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان زعمهم أجمعين، وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة للجسم في المعدن حتى أحالته ذهبا أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمان كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانتفاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعا إلى الغذاء فتفعل تلك الصورة الأفاعيل المطلوبة، وذلك هو الإكسير، واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما حصل امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل، ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان لا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته، وانظر شأن الإنسان في تطوره نطفة ثم علقة ثم وثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور مختلف مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر، وكذا الحرارة المقدرة الغريزية في كل طور مخالفة لما في الطور الآخر، فانظر إلى الذهب ما يكون في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم، ومن شرط الصناعة مطلقا تصور ما يقصد إليه بها، فمن الأمثال السائرة في ذلك للحكماء أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المتضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك فعل الطبيعة في المعدن أو يعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها.
وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط وهو علمه عز وجل، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك، وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصناعة بمثابة من يدعي صنعة تخليق الإنسان من المني ونحن إذا سلمنا الإحاطة بأجزائه ونسبه وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما محصلا لتفاصيله حتى لا يشذ من ذلك شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان وأنى له ذلك. والحاصل أن الفعل الصناعي على ما يقتضيه كلامهم مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي تقصد مساواتها ومحاذاتها، وفعل المادة ذات القوى فيها على التفصيل وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عما دونها، فقصد تصيير النحاس ذهبا كقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات، وهذا أوثق ما علمته من البراهين الدالة على الاستحالة، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من جهة الطبيعة وإنما هي من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها، وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، ولذلك وجه آخر في
وبالجملة أن نيلها إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الصنائع والطبائع فهي إنما تكون بتأثيرات النفس وخوارق العادة كالمشيء على الماء وتخليق الطير فليست إلا معجزة أو كرامة أو سحرا، ولهذا كان كلام الحكماء فيها الغازا لا يظفر بتحقيقه إلا من خاض لجة من علوم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة، وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها اهـ. وإلى إمكانها ذهب الإمام الرازي فقال الحق إمكانها لأن الأجساد السبعة مشتركة في أنها أجساد ذائبة صابرة على النار منطرقة وأن الذهب لم يتميز عن غيره إلا بالصفرة والرزانة أو الصورة الذهبية المفيدة لهذين العرضين إن ثبت ذلك، وما به الاختلاف لا يكون لازما لما به الاشتراك، فإذن يمكن أن تتصف جسمية النحاس بصفرة الذهب ورزانته وذلك هو المطلوب، والحق أن الكيمياء ممكنة وأنها من الصنائع الطبيعية لكن العلم بها من أقاصي العلوم الصعبة التي لا يطلع عليها إلا من أهله الله تعالى لها واختصه سبحانه من عباده وأوليائه بها وهو علم تاهت في طلبه العقول وطاشت الأحلام، وأصله من الوحي الإلهي وحصل لبعض بالتصفية وكثرة النظر مع التجربة ووصل إلى من ليس أهلا للوحي ولم يتعاط ما تعاطاه البعض بالتعلم ممن من الله تعالى به عليه، وقال أرس: وهو من أجلة أهل هذا العلم كان أوله وحيا من الله تعالى ثم درس وباد فاستخرجه من استخرجه من الكتب وقد جرت سنة الله تعالى فيمن ظفر به بكتمه إلا على من شاء الله تعالى وتواصت الحكماء على كتمه عن غير أهله بل قيل: إن الله تعالى أخذ على العقول في فطرتها المواثيق بكتمانه وصيانته والاحتراس من إذاعته وإضاعته ولذا ترى الحكماء قد ألغزوه نهاية الالغاز وأغمضوه غاية الإغماض حتى عد كلامهم من لم يعرف مرامهم حديث خرافة وحكم على قائله بالسفه والسخافة وبهذا الكتم حفظت حكمة الله تعالى التي زعمها ابن خلدون في النقدين وسقط استدلاله الذي سمعته فيما مر.
وقد نص جابر بن حيان وهو إمام في هذه الصنعة وإنكار أنه كان موجودا حمق في كتابه سر الأسرار على ما قلنا
كتبه كجامع الأسرار وغيره ما يدل على ذلك، فذكر أنه
روي عن هرمس أنه قال: إن الله عز وجل أوحى إلى شيث بن آدم عليهما السلام أن ازرع الذهب في الأرض البيضاء النقية واسقه ماء الحياة
، وقالت مارية: إني لست أقول لكم من تلقاء نفسي،
وقال الطرسوسي في كتابه: إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة عوضه علم كل شيء وكان علم الصنعة مما علمه، وانتقل من قوم إلى قوم كما انتقلت العلوم الأخر إلى أيام هرمس الأول،
وقال أيضا: حدثونا عن محمد بن جرير الطبري بإسناد له متصل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وأعطيت الكبريت الأبيض والأحمر».
وروى جابر عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في ذلك روايات كثيرة حتى أنه أسند إليه عدة من كتبه ولا أحقق قوله ولا أكذبه وأجله لموضعه من العلم والعمل عن الافتراء على الأئمة،
وروي عن أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه أنه سئل فقيل: له ما تقول فيما خاض الناس فيه من علم الكيمياء؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه ثم قال:
سألتموني عن أخت النبوة وتوأم المروة لقد كان وإنه لكائن وما من شجرة ولا مدرة ولا شيء إلا وفيه أصل وفرع أو أصل أو فرع قيل: يا أمير المؤمنين أما تعلمه؟ قال: والله تعالى أنا أعلم به من العالمين له لأنهم يتكلمون بالعلم على ظاهره دون باطنه وأنا أعلم العلم ظاهره وباطنه، قيل: فاذكر لنا منه شيئا نأخذه منك، قال: والله تعالى لولا أن النفس أمارة بالسوء لقلت: قيل: فما كان تقول؟ قال: إني أعلم أن في الزئبق الرجراج والذهب الوهاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لكنوزا لا يؤتى على آخرها يلقح بعضها ببعض فتفتر عن ذهب كامن، قيل: يا أمير المؤمنين ما نعلم هذا، قال: هو ماء جامد وهواء راكد ونار حائلة وأرض سائلة قالوا ما نفقه هذا، قال: لو حل للمؤمنين من أهل الحكمة أن يكلموا الناس على غير هذا لعلمه الصبيان في المكاتب
اهـ كلام الطغرائي باختصار.
وذكر في كتابه مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة عن ستين نبيا وحكيما أنهم قالوا بحقية هذا العلم، وفي القلب من صحة هذه الأخبار شيء، والأغلب على الظن أنه لو كان في الكيمياء خبر مقبول عند المحدثين لشاع ولما أنكرها من هو من أجلتهم كشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فإنه كان ينكر ثبوتها وألف رسالة في إنكارها، ولعل رد الشيخ نجم الدين ابن أبي الذر البغدادي وتزييفه ما قاله فيها كما زعم الصفدي إنما كان فيما هو من باب الاستدلالات العقلية فإن الرجل في باب النقليات مما لا يجاريه نجم الدين المذكور وأمثاله وهو في باب العقليات وإن كان جليلا أيضا إلا أنه دونه في النقليات، والمطلب دقيق حتى أن بعض من تعقد عليه الخناصر اضطرب في أمرها فأنكرها تارة وأقر بها أخرى، فهذا شيخ الحكماء ورئيسهم أبو علي بن سينا سمعت ما نقل عنه أولا، وحكي عنه الرجوع عنه، وعلى جودة ذهنه وعلو كعبه في الحكمة بأقسامها لم يقف على حقيقة عملها حتى قال الطغرائي في تراكيب الأنوار ما ينقضي عجبي من أبي علي بن سينا كيف استجاز وضع رسالة في هذا الفن فضح بها نفسه وخالف الأصول التي عنده وقصر فيها عن كثير من الحشوية الطغام المظلمة الأذهان الكليلة الأفهام.
وقال في جامع الأسرار: إن الشيخ أبا علي بن سينا لفرط شغفه بهذا العلم وحدسه القوي بأنه حق صنف رسالة فيه فأحسن فيما يتعلق بأصول الطبيعيات ولخفاء طريق القوم واستعمائها دونه لم يذكر في التدابير المختصة بعلمنا لفظة صحيحة ولا أشار إلى ذكر المزاج الحق والأوزان والتراكيب المكتومة والنيران وطبقاتها والآلة التي لا يتم العمل إلا بها وهي أحد الشرائط العشرة، ولم يتجاوز ما عند الحشوية من تدابير الزوابق والكباريت والدفن في زبل الخيل
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً تقرير لعلمه ذلك وتنبيه على خطئه في اغتراره وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام أو من كتب التواريخ أو من القصّاص، والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية، والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال، والمعنى ألم يقف على ما يفيده العلم ولم يعلم ما فعل الله تعالى بمن هو أشد منه قوة حسا أو معنى وأكثر مالا أو جماعة يحوطونه ويخدمونه حتى لا يغتر بما اغتر به، ويحتمل أن تكون الهمزة للإنكار داخلة على مقدر، وجملة أولم يعلم حالية مقررة للإنكار ودالة على انتفاء ما دخلت عليه كما في قولك: أتدعي الفقه وأنت لا تعرف شروط الصلاة، والمراد رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين، وقيل: إن لَمْ يَعْلَمْ عطف على ذلك المقدر ونفي العلم عنه لعدم جريه على موجبه وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ الظاهر أن هذا في الآخرة وأن ضمير ذنوبهم للجرمين، وفاعل السؤال إما الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام، والمراد بالسؤال المنفي هنا، وكذا في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] على ما قيل: سؤال الاستعلام، ونفي ذلك بالنسبة إليه عز وجل ظاهر، وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم كما قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: ٤١].
والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز وجل: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] سؤال التوبيخ والتقريع فلا تناقض بين الآيتين، وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى والنفي والإثبات باعتبار موضعين أو زمانين، والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل فلا تناقض أيضا، والظاهر أن الجملة غير داخلة في حيز العلم، ولعل وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك بما فيه تهديد كافة المجرمين بما هو أشنع وأشنع من عذاب الآخرة فإن عدم سؤال المذنب مع شدة الغضب عليه يؤذن بالإيقاع به لا محالة، وجعل الزمخشري الجملة تذييلا لما قبلها، وقيل: إن ذلك في الدنيا.
والمراد أنه تعالى أهلك من أهلك من القرون عن علم منه سبحانه بذنوبهم فلم يحتج عز وجل إلى مسألتهم عنها، وقيل: إن ضمير ذنوبهم لمن هو أشد قوة وهو المهلك من القرون، والإفراد والجمع باعتبار اللفظ والمعنى، والمعنى ولا يسأل عن ذنوب أولئك المهلكين غيرهم ممن أجرم، ويعلم أنه لا يسأل عن ذنوبهم من لم يجرم بالأولى لما بين الصنفين من العداوة فمآل المعنى لا يسأل عن ذنوب المهلكين غيرهم ممن أجرم وممن لم يجرم، بل كل نفس بما كسبت رهينة، وكلا القولين كما ترى، وربما يختلج في ذهنك عطف هذه الجملة على جملة الاستفهام أو جعلها حالا من فاعل أهلك أو من مفعوله لكن إذا تأملت أدنى تأمل أخرجته من ذهنك وأبيت حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ عطف على قال وما بينهما اعتراض، وقوله تعالى: فِي زِينَتِهِ إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائنا في زينته. قال قتادة: ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال السدي: خرج في جوار بيض على سروج من ذهب على قطف أرجوان وهن على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلي ذهب، وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف خادم عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلاثمائة غلام وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، وكان ذلك أول يوم في الأرض رئيت المعصفرات فيه، وقيل غير ذلك من الكيفيات، وكان ذلك الخروج على ما قيل يوم السبت قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ قيل كانوا جماعة من المؤمنين، وقالوا ذلك جريا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار. وعن قتادة أنهم تمنوا ذلك ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه في سبيل الخير، ولعل إرادتهم الحياة الدنيا ليتوصلوا بها للآخرة لا لذاتها فإن إرادتها لذاتها ليست من شأن المؤمنين، وقيل:
كانوا كفارا ومنافقين، وتمنيهم مثل ما أوتي دونه نفسه من باب الغبط ولا ضرر فيه على المشهور، وقيل: ضرره دون ضرر الحسد
«فقد قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل يضر الغبط؟ فقال: لا إلا كما يضر العضاه الخبط»
وفي الكشف الظاهر أنه نفي للضرر على أبلغ وجه فإن الشجر ربما ينتفع بالخبط فضلا عن التضرر، وفيه أنه قد يفضي إلى الضرر إشارة إلى متعلق الغبط من ديني أو دنيوي، وقائل ذلك إن كان الكفرة ففيه من ذم الحسد ما فيه إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ قال الضحاك: أي درجة عظيمة، وقيل نصيب كثير من الدنيا، والحظ البخت والسعد، ويقال: فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ، والجملة تعليل لتمنيهم وتأكيد له وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي ومنهم يوشع عليه السلام، وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيها على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الإعراض عن الأولى والإقبال على الأخرى حتما، وأن تمني المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما ينبغي.
وقيل المراد بالعلم: معرفة الثواب والعقاب، وقيل: معرفة التوكل، وقيل: معرفة الأخبار، وما تقدم أولى وَيْلَكُمْ دعاء بالهلاك بحسب الأصل ثم شاع استعماله في الزجر عما لا يرتضى، والمراد به هنا الزجر عن التمني وهو منصوب على المصدرية لفعل من معناه ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ مما تتمنونه لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه عز وجل، هذا على القول بأن المتمنين كانوا مؤمنين أو فآمنوا لتفوزوا بثوابه تعالى الذي هو خير من ذلك، وتقدير المفضل عليه ما تتمنوه لاقتضاء المقام إياه، ويجوز أن يقدر عاما ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أي خير من الدنيا وما فيها وَلا يُلَقَّاها أي هذه المقالة أو الكلمة التي تكلم بها العلماء، والمراد بها المعنى اللغوي أو الثواب، والتأنيث باعتبار أنه بمعنى المثوبة أو الجنة المفهومة من الثواب، وقيل:
روى ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتبع العلم حتى جمع علما فلم يزل في ذلك حتى بغى على موسى عليه السلام وحسده، فقال موسى: إن الله تعالى أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم، قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلا بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت: نعم. فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك. قال: نعم فجمعهم فقالوا له: بما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم.
قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت. قال: أنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى عليه السلام؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدك بالله تعالى إلا ما صدقت، فقالت: أما إذ أنشدتني بالله تعالى فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكي فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها تطعك فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله تعالى يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم وفي بعض الروايات أنه جعل للبغيّ ألف دينار
، وقيل: طستا من ذهب مملوءة ذهبا،
وفي بعض أنه عليه السلام قال في سجوده: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل إن الله تعالى بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلى الأوساط ثم إلى الأعناق وهم يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه الرحم وهو عليه السلام لا يلتفت إلى قولهم لشدة غضبه ويقول خذيهم حتى انطبقت عليهم فأوحى الله تعالى يا موسى ما أفظك استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا
وفي رواية أن الله سبحانه أوحى إليه ما أشد قلبك وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته، فقال عليه السلام: رب غضبا لك فعلت.
ثم إن بني إسرائيل قالوا: إنما فعل موسى عليه السلام به ذلك ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله.
وفي بعض الأخبار أن الخسف به وبداره كان في زمان واحد، وكانت داره فيما قيل: من صفائح الذهب وجاء في عدة آثار أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل في الأرض لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم بصحة ذلك، بل هو مشكل إن صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض ولم يقل بأن لها حركة أصلا، وأما الخسف فلا شك في إمكانه الذاتي والوقوعي وسببه العادي مبين في محله فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة معينة مشتقة من فأوت قلبه إذا ميلته، وسميت الجماعة بذلك لميل بعضهم إلى بعض وهو محذوف اللام ووزنه فعة، وقال الراغب: إنه محذوف العين فوزنه فلة وأنه من الفيء وهو الرجوع لأن بعض الجماعة يرجع إلى بعض ومِنْ صلة أي فما كان
وفي البحر دل أصبح إذا حمل على ظاهره على أن الخسف به وبداره كان ليلا وهو أفظع العذاب إذ الليل مقر الراحة والسكون، وقال بعضهم: هي بمعنى صار أي صار المتمنون.
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق والقتر لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب التضييق، ووي عند الخليل وسيبويه اسم فعل ومعناها أعجب وتكون للتحسر والتندم أيضا كما صرحوا به، وعن الخليل أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم «وي» وكل من ندم وأراد إظهار ندمه قال «وي» ولعل الأظهر إرادة التعجب بأن يكونوا تعجبوا أولا مما وقع وقالوا ثانيا كأن إلخ وكأن فيه عارية عن معنى التشبيه جيء بها للتحقيق كما قيل ذلك في قوله:
وأصبح بطن مكة مقشعرا | كأن الأرض ليس بها هشام |
كأنني حين أمسي لا تكلمني | متيم يشتهي ما ليس موجودا |
وي كأن من يكن له نشب يح | بب ومن يفتقر يعش عيش ضر |
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها | قيل الفوارس ويك عنتر أقدم |
ألا ويك المضرة لا تدوم | ولا يبقى على البؤس النعيم |
لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بعدم إعطائه تعالى ما تمنيناه من إعطائنا مثل ما أعطاه قارون لَخَسَفَ بِنا أي الأرض كما خسف به أو لولا أن من الله تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه. وقرأ الأعمش «لولا منّ» بحذف أَنْ وهي مرادة، وروي عنه من الله برفع من والإضافة.
وقرأ الأكثر «لخسف بنا» على البناء للمفعول وبِنا هو القائم مقام الفاعل، وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش «لا نخسف بنا» على البناء للمفعول أيضا وبِنا أو ضمير المصدر قائم مقام الفاعل، وعنه أيضا «لتخسّف» بتاء وشد السين مبنيّا للمفعول وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة، والكلام في- ويكأن- هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلا لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي الخسف بقارون، واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا، وضمير ويكأنه للشأن.
هذا وفي مجمع البيان أن قصة قارون متصلة بقوله تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى [القصص: ٣] عليه السلام، وقيل: هي متصلة بقوله سبحانه: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، وقيل: لما تقدم خزي الكفار وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ مشيرا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل:
تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها، والدَّارُ صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر، والْآخِرَةُ صفة للدار، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى: نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي غلبة وتسلطا وَلا فَساداً أي ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون، وليس الموصول مخصوصا بهما، وفي إعادة لا إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي، وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما من مزيد تحذير منهما.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال: العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه.
وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى، وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي،
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها، ويقول:
نزلت هذه الآية تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إلخ، في أهل العدن والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا
فأسلم رضي الله تعالى
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية.
ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا
فقد روى أبو داود عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان جميلا فقال: يا رسول الله إني رجل حبب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك نعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس.
وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا قال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس»
واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وفي الكشاف ما هو ظاهر في ذلك، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون. ورد بأن التذييل بقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين.
وأجيب بأن المتقي هاهنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعا به لا سيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك. وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي، وقال الفاضل الخفاجي: إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوا وفسادا: إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيئا منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك: جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم، وقريب منه ما قيل: إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم ويقال في قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ نحو ما مر آنفا عن الخفاجي. بقي في الآية كلام آخر، وهو أن بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معنى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ إلخ نخلقها في المستقبل لأجلهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديا إلى مفعولين ثانيهما لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ إلخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها وهو محل النزاع، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ إلخ تمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فلا يمكن أن تكون نفس الجنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتمكين من التمكن وإن كان لازما لوجود الجنة لكن التمكن فيها
: ٩] الآية أن في التعبير بجاء دون عمل بأن يقال: من عمل الحسنة فله خير منها ومن عمل السيئة إلخ دلالة على أن استحقاق الثواب أي والعقاب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل، ويؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد، ولا يخلو عن حسن، ولعل نكتة التعبير بعملوا ثانيا تتأتى عليه أيضا.
وفي قوله تعالى: فَلا يُجْزَى إلخ دون فللذين عملوا السيئات ما كانوا يعملون أو فما للذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إشارة إلى أنه قد يحصل العفو عن العقاب، ولله تعالى در التنزيل ما أكثر أسراره، واستشكل ما تدل عليه الآية من أن جزاء السيئة مثلها بأن من كفر فمات على الكفر يعذب عذاب الأبد، وأين هو من كفر ساعة؟ وأجيب بأن أمر المماثلة مجهول لنا لا سيما على القول بنفي الحسن والقبح العقليين للأفعال، وقصارى ما نعلم أن الله تعالى جعل لكل ذنب جزاء أخبر عز وجل أنه مماثل له، وقد أخبر سبحانه أن جزاء الكفر عذاب الأبد فنؤمن به وبأنه مما تقتضيه الحكمة وما علينا إذا لم نعلم جهة المماثلة ووجه الحكمة فيه، وكذا يقال في الذنوب التي شرع الله تعالى لها حدودا في الدنيا كالزنا وشرب الخمر وقذف المحصن وحدودها التي شرعها جل شأنه لها فإنا لا نعلم وجه تخصيص كل ذنب منها بحد مخصوص من تلك الحدود المختلفة لكنا نجزم بأن ذلك لا يخلو عن الحكمة، وأجاب الإمام عن مسألة الكفر وعذاب الأبد بأن ذلك لأن الكافر كان عازما أنه لو عاش إلى الأبد لبقي على ذلك الكفر، وقيل: في وجه تعذيب الكافر أبد الآباد إن جزاء المعصية يتفاوت حسب تفاوت عظمة المعصي فكلما كان المعصي أعظم كان الجزاء أعظم، فحيث كان الكفر معصية من لا تتناهى عظمته جل شأنه كان جزاؤه غير متناه، وقياس ذلك أن يكون جزاء كل معصية كذلك إلا أنه لم يكن كذلك فيما عدا الكفر فضلا منه تعالى شأنه لمكان الإيمان، وقيل أيضا: إن كل كفر قولا كان أو فعلا يعود إلى نسبة النقص إليه عز وجل المنافي لوجوب الوجود المقتضي لوجوده سبحانه أزلا وأبدا وإذا توهم هناك زمان ممتد كان غير متناه فحيث كان الكفر مستلزما نفي وجوده تعالى شأنه فيما لا يتناهى كان جزاؤه غير متناه ولا كذلك سائر المعاصي فتدبر.
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إلى محل عظيم القدر اعتدت به وألفته على أنه من العادة لا من العود، وهو كما في صحيح البخاري، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس مكة، وروي ذلك أيضا عن مجاهد والضحاك وجوز أن يكون من العود، والمراد به مكة أيضا بناء على ما في مجمع البيان عن القتيبي أن معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه، وقد يقال: أطلق المعاد على مكة لأن العرب كانت تعود إليها في كل سنة لمكان البيت فيها، وهذا وعد منه عز وجل لنبيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم وهو بمكة أنه عليه الصلاة والسلام يهاجر منها ويعود إليها، وروي عن غير واحد أن الآية نزلت بالجحفة بعد أن خرج صلّى الله تعالى عليه وسلّم من مكة مهاجرا واشتاق إليها، ووجه ارتباطها بما تقدمها تضمنها الوعد بالعاقبة الحسنى في الدنيا كما تضمن ما قبلها الوعد بالعاقبة الحسنى في الآخرة.
وقيل: إنه تعالى لما ذكر من قصة موسى عليه السلام وقومه مع قارون وبغيه واستطالته عليهم وهلاكه ونصرة أهل الحق عليه ما ذكر جل شأنه هنا ما يتضمن قصة سيدنا صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأصحابه مع قومه واستطالتهم عليه وإخراجهم إياه من مسقط رأسه ثم إعزازه عليه الصلاة والسلام بالإعادة إلى مكة وفتحه إياها منصورا مكرما ووسط سبحانه بينهما ما هو كالتخلص من الأول إلى الثاني.
وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنه فسر المعاد بالجنة
، وأخرج تفسيره بها ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس، والتنكير عليه للتعظيم أيضا، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتصريح ببعض ما تضمنه ذلك.
واستشكل رده عليه الصلاة والسلام إلى الجنة من حيث إنه يقتضي سابقية كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم فيها مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فيها.
وأجيب بالتزام السابقية المذكورة ويكفي فيها كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم فيها بالقوة إذ كان في ظهر آدم عليهما الصلاة والسلام حين كان فيها، وقيل: إنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم لما كان مستعدا لها من قبل كان كأنه كان فيها فالسابقية باعتبار ذلك الاستعداد على نحو ما قيل في قوله تعالى في الكفار: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: ٦٨] ولا يخفى ما في كلا القولين من البعد، وقريب منهما ما قيل: إن ذلك باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام دخلها ليلة المعراج، وقد يقال: إن تفسيره بالجنة بيان لبعض ما يشعر به المعاد بأن يكون عبارة عن المحشر فقد صار كالحقيقة فيه لأنه ابتداء العود إلى الحياة التي كان المعاد عليها وجعله عظيما كما يشعر به التنوين لعظمة ما له صلّى الله تعالى عليه وسلّم فيه ومنه الجنة، فالمعاد بواسطة تنوينه الدال على التعظيم يشعر بالجنة لأنها الحاوية مما أعد له صلّى الله عليه وسلّم من الأمور العظيمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقريب من تفسيره بالمحشر تفسيره بالآخرة كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، وتفسيره بيوم القيامة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن عكرمة إلا أنه على ما ذكر اسم زمان، وعلى ما تقدم اسم مكان.
وجاء في رواية أخرى رواها عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري أيضا تفسيره بالموت، ورواها معهما عن الحبر الفريابي وابن أبي حاتم والطبراني، وكونه معادا لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] ولعل تعظيمه باعتبار أنه باب لوصوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى ما أعد الله عز وجل له من المقام المحمود والمنزلة العليا في الجنة إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجل المقصود ما أشعر به التعظيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن نعيم القاري أنه فسره ببيت المقدس. وكأن إطلاق المعاد عليه باعتبار أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم أسرى به إليه ليلة المعراج، والوعد برده عليه الصلاة والسلام إليه وعد له بالإسراء إليه مرة أخرى أو باعتبار أن أرضه أرض المحشر فالمراد بالرد إليه الرد إلى المحشر، وهذا غاية ما يقال في توجيه ذلك. فإن قبل فذاك وإلا فالأمر إليك وكأني بك تختار ما في صحيح البخاري ورواه الجماعة الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس من أنه مكة. وربما يخطر بالبال أن يراد بالمعاد الأمر المحبوب بنوع تجوز ويجعل بحيث يشمل مكة والجنة وغيرهما مما هو محبوب لديه صلّى الله تعالى عليه وسلم، ويراد برده عليه الصلاة والسلام إلى الأمر المحبوب إيصاله إليه مرة بعد أخرى فالرد هنا مثله في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم: ٩] وعليه يهون أمر اختلاف الروايات التي سمعتها في ذلك فتدبر.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يريد بذلك نفسه صلّى الله تعالى عليه وسلّم وبقوله سبحانه: وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ المشركين الذين بعث إليهم صلّى الله تعالى عليه وسلّم ومَنْ منتصب بفعل يدل عليه أعلم لا بأعلم لأن أفعل لا ينصب المفعول به في المشهور أي يعلم من جاء إلخ، وأجاز بعضهم أن يكون منصوبا بأعلم على أنه بمعنى عالم، والمراد أنه عز وجل يجازي كلا ممن جاء بالهدى ومن هو في ضلال على عمله، والجملة تقرير لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إلخ. وفي معالم التنزيل هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلّم إنك في ضلال، ولعله لهذا وكون السبب فيه مجيئه عليه الصلاة والسلام إليهم بالهدى قيل في جانبه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من جاء بالهدى وفي جانبهم من هو في ضلال مبين، ولم يؤت بهما على طرز واحد وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ تقرير لذلك أيضا أي سيردك إلى معاد كما أنزل إليك القرآن العظيم الشأن وما كنت ترجوه، وقال أبو حيان والطبرسي: هو تذكير لنعمته عز وجل عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ على ما ذهب إليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن ألقاه تعالى إليك رحمة منه عز وجل، وجوز أن يكون استثناء متصلا من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الإلقاء على أبلغ وجه، فيكون المعنى ما ألقي إليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي معينا لهم على دينهم، قال مقاتل: إن كفار مكة دعوه صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه وَلا يَصُدُّنَّكَ أي الكافرون عَنْ آياتِ اللَّهِ أي قراءتها والعمل بها.
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي بعد وقت إنزالها وإيحائها إليك المقتضي لنبوتك ومزيد شرفك، وقرأ يعقوب «يصدنك» بالنون الخفيفة وقرىء «يصدنك» مضارع أصد بمعنى صدّ حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه وقال الشاعر:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم | صدود السواقي عن أنوف الحوائم |
إياك أعني واسمعي يا جارة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده كُلُّ شَيْءٍ أي موجود مطلقا هالِكٌ أي معدوم محض، والمراد كونه كالمعدوم وفي حكمه إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا ذاته عز وجل وذلك لأن وجود ما سواه سبحانه لكونه ليس ذاتيا بل هو مستند إلى الواجب تعالى في كل آن قابل للعدم وعرضة له فهو كلا وجود وهذا ما اختاره غير واحد من الأجلة، والكلام عليه من قبيل التشبيه البليغ، والوجه بمعنى الذات مجاز مرسل وهو مجاز شائع وقد يختص بما شرف من الذوات، وقد يعتبر ذلك هنا، ويجعل نكتة للعدول عن إلا إياه إلى ما في النظم الجليل.
وفي الآية بناء على ما هو الأصل من اتصال الاستثناء دليل على صحة إطلاق الشيء عليه جل وعلا.
وقريب من هذا ما قيل: المعنى كل ما يطلق عليه الموجود معدوم في حد ذاته إلا ذاته تعالى، وقيل: الوجه بمعنى الذات إلا أن المراد ذات الشيء، وإضافته إلى ضميره تعالى باعتبار أنه مخلوق له سبحانه نظير ما قيل في قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: ١١٦] من أن المراد بالنفس الثاني نفس عيسى عليه السلام وإضافته إليه تعالى باعتبار أنه مخلوق له جل وعلا، والمعنى كل شيء قابل للهلاك والعدم إلا الذات من حيث استقبالها لربها ووقوفها في محراب قربها فإنها من تلك الحيثية لا تقبل العدم، وقيل: الوجه بمعنى الجهة التي تقصد ويتوجه إليها، والمعنى كل شيء معدوم في حد ذاته إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهو الوجود الذي صار به موجودا، وحاصله أن كل جهات الموجود من ذاته وصفاته وأحواله هالكة معدومة في حد ذاتها إلا الوجود الذي هو النور الإلهي، ومن الناس من جعل ضمير وجهه للشيء وفسر الشيء بالموجود بمعنى ما له نسبة إلى حضرة الوجود الحقيقي القائم بذاته وهو عين الواجب سبحانه، وفسر الوجه بهذا الوجود لأن الموجود يتوجه إليه وينسب، والمعنى كل منسوب إلى الوجود معدوم إلا وجهه الذي قصده وتوجه إليه وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو عين الواجب جل وعلا، ولا يخفى الغث والسمين من هذه الأقوال، وعليها كلها يدخل العرش والكرسي والسماوات والأرض والجنة والنار، ونحو ذلك في العموم.
وقال غير واحد: المراد بالهلاك خروج الشيء عن الانتفاع به المقصود منه إما بتفرق أجزائه أو نحوه، والمعنى كل شيء سيهلك ويخرج عن الانتفاع به المقصود منه إلا ذاته عز وجل، والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط فيؤول المعنى إلى قولنا: كل موجود في وقت من الأوقات سيهلك بعد وجوده إلا ذاته تعالى، فيدل ظاهر الآية على هلاك العرش والجنة والنار والذي دل عليه الدليل عدم هلاك الأخيرين.
وجاء في الخبر أن الجنة سقفها عرش الرحمن
، ولهذا اعترض بهذه الآية على القائلين بوجود الجنة والنار الآن والمنكرين له القائلين بأنهما سيوجدان يوم الجزاء ويستمران أبد الآباد، واختلفوا في الجواب عن ذلك فمنهم من قال:
إن كلّا ليست للإحاطة بل للتكثير كما في قولك: كل الناس جاء إلا زيدا إذا جاء أكثرهم دون زيد، وأيد بما روي عن
وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: لما نزلت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: ١٨٥، الأنبياء: ٣٥، العنكبوت: ٥٧] قيل يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله تعالى وبريته من الطير والوحوش والسباع والأنعام وكل ذي روح أنه هالك ميت، وأنت تعلم أن تخصيص الشيء بالحي الموجود في الدنيا لا بد له من قرينة فإن اعتبر كونه محكوما عليه بالهلاك حيث شاع استعماله في الموت وهو إنما يكون في الدنيا قرينة فذاك وإلا فهو كما ترى، ومن الناس من التزم ما يقتضيه ظاهر العموم من أنه كل ما يوجد في وقت من الأوقات في الدنيا والأخرى يصير هالكا بعد وجوده بناء على تجدد الجواهر وعدم بقاء شيء منها زمانين كالإعراض عند الأشعري، ولا يخفى بطلانه، وإن ذهب إلى ذلك بعض أكابر الصوفية قدست أسرارهم.
وقال سفيان الثوري: وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به إليه عز وجل، فقيل: في توجيه الاستثناء إن العمل المذكور قد كان في حيز العدم فلما فعله العبد ممتثلا أمره تعالى أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه أو أنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق،
وروي عن أبي عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه أنه ارتضى نحو ذلك، وقال المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به وجهه تعالى
، وزعم الخفاجي أن هذا كلام ظاهري.
وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي جعله في الناس وهو كما ترى لا وجه له، والسلف يقولون الوجه صفة نثبتها لله تعالى ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ عز وجل تُرْجَعُونَ عند البعث للجزاء بالحق والعدل لا إلى غيره تعالى ورجوع العباد إليه تعالى عند الصوفية أهل الوحدة بمعنى ما وراء طور العقل.
وقيل: ضمير إليه للحكم، وقرأ عيسى «ترجعون» مبنيا للفاعل، هذا والكلام من باب الإشارة في آيات هذه السورة أكثره فيما وقفنا عليه من باب تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ولعله يعلم بأدنى تأمل فيما مر بنا في نظائرها فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل.