مكية وآياتها أربعون
ﰡ
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥) ﴾
﴿عَمَّ﴾ أَصْلُهُ: "عَنْ مَا" فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْمِيمِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ "مَا" [كَقَوْلِهِ] (٢) "فِيمَ" وَ"بِمَ"؟ ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ أَيْ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ؟ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَخْبَرَهُمْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَاذَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّفْظُ لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ وَمَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ زَيْدٌ؟ إِذَا عَظَّمْتَ [أَمْرَهُ] (٣) وَشَأْنَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ عَمَّاذَا فَقَالَ: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْقُرْآنُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ: "قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ" (ص-٦٧) وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْبَعْثُ. ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ فَمُصَدِّقٌ وَمُكَذِّبٌ ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ "كَلَّا" نَفْيٌ لِقَوْلِهِمْ، "سَيَعْلَمُونَ" عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ حِينَ تَنْكَشِفُ الْأُمُورُ. ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِثْرِ وَعِيدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "كَلَّا سَيَعْلَمُونَ" يَعْنِي الْكَافِرِينَ، "ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ" يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، ثم ذكر صنعائه لِيَعْلَمُوا تَوْحِيدَهُ فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤) ﴾
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ فِرَاشًا.
(٢) في "ب" كقولهم.
(٣) ساقط من "ب".
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ الرياح ذوات ١٨٣/أالْأَعَاصِيرِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ "مِنْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالْمُعْصِرَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: الْمُعْصِرَاتُ هِيَ السَّحَابُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(٢) ساقط من "ب".
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْمُغِيثَاتُ مِنْ قَوْلِهِ " [فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ] وَفِيهِ يَعْصِرُونَ".
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: "مِنَ الْمُعْصِرَاتِ" أَيْ مِنَ السَّمَاوَاتِ.
﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ أَيْ صَبَّابًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِدْرَارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَتَابِعًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَثِيرًا.
﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (١٨) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) ﴾
﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾ أَيْ بِذَلِكَ الْمَاءِ ﴿حَبًّا﴾ وَهُوَ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ ﴿وَنَبَاتًا﴾ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ. ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ مُلْتَفَّةً بِالشَّجَرِ، واحدها لَفٌ وليف، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، يُقَالُ: جَنَّةٌ لَفًّا، وَجَمْعُهَا لُفٌ، بِضَمِّ اللَّامِ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَلْفَافٌ. ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ يَوْمَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ ﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ زُمَرًا [زُمَرًا] (٤) مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لِلْحِسَابِ. ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "فُتِحَتْ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ شُقَّتْ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ ﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ أَيْ ذَاتَ أَبْوَابٍ. وَقِيلَ: تَنْحَلُّ، وَتَتَنَاثَرُ حَتَّى تَصِيرَ فِيهَا أَبْوَابٌ وَطُرُقٌ.
(٢) زيادة من "ب".
(٣) انظر: "القرطين" لابن مطرف: ٢ / ٢٠٠.
(٤) ساقط من "ب".
﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ أَيْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لِعَيْنِ النَّاظِرِ كَالسَّرَابِ. ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ طَرِيقًا وَمَمَرًّا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى يَقْطَعَ النَّارَ.
وَقِيلَ: "كَانَتْ مِرْصَادًا" أَيْ: مُعَدَّةً لَهُمْ، يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لَهُ [الشَّيْءَ] (١) إِذَا أَعْدَدْتُهُ لَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ مَنْ رَصَدْتُ الشَّيْءَ أَرْصُدُهُ إِذَا تَرَقَّبْتُهُ. "وَالْمِرْصَادُ" الْمَكَانُ الَّذِي يَرْصُدُ الرَّاصِدُ فِيهِ الْعَدُوَّ. وَقَوْلُهُ: "إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا" أَيْ تَرْصُدُ الْكُفَّارَ.
وَرَوَى مُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَلَى جسر جهنم سبع مَحَابِسَ يُسْأَلُ الْعَبْدُ عِنْدَ أَوَّلِهَا عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ [أَجَابَهَا] (٢) تَامَّةً جَازَ إِلَى الثَّانِي، فَيُسْأَلُ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ [أَجَابَهَا] (٣) تَامَّةً جَازَ إِلَى الثَّالِثِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ [أَجَابَهَا] (٤) تَامَّةً جَازَ إِلَى الرَّابِعِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الصَّوْمِ فَإِنْ جَاءَ بِهِ تَامًّا جَازَ إِلَى الْخَامِسِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْحَجِّ فَإِنْ جَاءَ بِهِ تَامًّا جَازَ إِلَى السَّادِسِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ [أَجَابَهَا] (٥) تَامَّةً جَازَ إِلَى السَّابِعِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْمَظَالِمِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا وَإِلَّا يُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَ بِهِ أَعْمَالُهُ، فَإِذَا فُرِغَ مِنْهُ انْطُلِقَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. ﴿َّ لِلطَّاغِينَ﴾ لِلْكَافِرِينَ ﴿مَآبًا﴾ مَرْجِعًا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ. ﴿لَابِثِينَ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: "لَبِثِينَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ "لَابِثِينَ" [بِالْأَلِفِ] (٦) وَهُمَا لُغَتَانِ. ﴿فِيهَا أَحْقَابًا﴾ جَمْعُ حِقْبٍ، وَالْحِقْبُ الْوَاحِدُ: ثَمَانُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ (٧). رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْأَحْقَابُ" ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ حِقْبًا كُلُّ حِقْبٍ سَبْعُونَ خَرِيفًا، كُلُّ خَرِيفٍ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ.
(٢) في "ب" جاء بها.
(٣) في "ب" جاء بها.
(٤) في "ب" جاء بها.
(٥) في "ب" جاء بها.
(٦) ساقط من "ب".
(٧) انظر: الطبري: ٣٠ / ١١.
وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَوْ عَلِمَ أَهْلُ النَّارِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي النَّارِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَفَرِحُوا، وَلَوْ عَلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي الْجَنَّةِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَحَزِنُوا.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْحِقْبُ الْوَاحِدُ سَبْعَ عَشْرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ. قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا "فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا" يَعْنِي أَنَّ الْعَدَدَ قَدِ ارْتَفَعَ وَالْخُلُودَ قَدْ حَصَلَ (٣).
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) ﴾
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْبَرْدَ النَّوْمُ، وَمِثْلُهُ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَ [قَالَ] (٤) أَبُو عُبَيْدَةَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنَعَ الْبَرْدُ، الْبَرْدَ أَيْ أَذْهَبَ الْبَرْدُ النَّوْمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: "لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا" أَيْ: رَوْحًا وَرَاحَةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا" يَنْفَعُهُمْ مِنْ حَرٍّ، "وَلَا شَرَابًا" يَنْفَعُهُمْ مِنْ عَطَشٍ. ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْغَسَّاقُ" الزَّمْهَرِيرُ يَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهِ. وَقِيلَ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ "ص" (٥) ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أَيْ جَزَيْنَاهُمْ جَزَاءً وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَافَقَ الْعَذَابُ الذَّنْبَ، فَلَا ذَنْبَ أَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا عَذَابَ أَعْظَمَ مِنَ النَّارِ. ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ لَا يَخَافُونَ أَنْ يُحَاسَبُوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَلَا بِأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ. ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أَيْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ﴿كِذَّابًا﴾ تَكْذِيبًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ فَصِيحَةٌ، يَقُولُونَ فِي مَصْدَرِ التَّفْعِيلِ فِعَّالٌ وَقَالَ: قَالَ لِي أَعْرَابِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الْمَرْوَةِ يَسْتَفْتِينِي: الْحَلْقُ أَحَبُّ
(٢) انظر: الطبري: ٣٠ / ١١-١٢.
(٣) قال الطبري: ٣٠ / ١٢: "ولا معنى لهذا القول لأن قوله (لابثين فيها أحقابا) خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي".
(٤) ساقط من "أ".
(٥) "وغساق": قرأ حمزة، والكسائي وحفص: "وغسَّاق" حيث كان بالتشديد، وخففها الآخرون، فمن شدد جعله اسمًا على فَعَّال، نحو: الخباز والطباخ، ومن خفف جعله اسمًا على فَعَال نحو العذاب.
واختلفوا في معنى الغساق، قال ابن عباس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده، كما تحرقهم النار بحرّها.
وقال مقاتل ومجاهد: هو الذي انتهى برده.
وقيل: هو المنتن بلغة الترك.
وقال قتادة: هو ما يغسق أي: ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار، ولحومهم، وفروج الزناة، من قوله: غَسِقَتْ عينه إذا انصبَّت، والغسقان الانصباب.
﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠) ﴾
﴿فَذُوقُوا﴾ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: فَذُوقُوا، ﴿فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ فَوْزًا وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُتَنَزَّهًا. ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾ يُرِيدُ أَشْجَارَ الْجَنَّةِ وَثِمَارَهَا. ﴿وَكَوَاعِبَ﴾ جَوَارِيَ نَوَاهِدَ قَدْ تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ، وَاحِدَتُهَا كَاعِبٌ، ﴿أَتْرَابًا﴾ مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ. ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةَ وَابْنُ زَيْدٍ: مُتْرَعَةً مَمْلُوءَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُتَتَابِعَةً. قَالَ عِكْرِمَةُ: صَافِيَةً. ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ بَاطِلًا مِنَ الْكَلَامِ ﴿وَلَا كِذَّابًا﴾ تَكْذِيبًا، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "كِذَّابًا" بِالتَّخْفِيفِ مَصْدَرُ [كَاذِبٌ] (١) كَالْمُكَاذَبَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْكَذِبُ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ كَالْمُشَدَّدِ. ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ أَيْ جَازَاهُمْ جَزَاءً وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءً "حِسَابًا" أَيْ: كَافِيًا وَافِيًا، يُقَالُ: أَحْسَبْتُ فُلَانًا، أَيْ أَعْطَيْتُهُ مَا يَكْفِيهِ حَتَّى قَالَ حَسْبِي. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: "عَطَاءً حِسَابًا" أَيْ كَثِيرًا (٢) وَقِيلَ: هُوَ جَزَاءٌ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ. ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَبُو عَمْرٍو: "رَبُّ" رَفْعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَ"الرَّحْمَنُ" خَبَرُهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ إِتْبَاعًا لِقَوْلِهِ: "مِنْ رَبِّكَ" وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ،
(٢) انظر: القرطين: ٢ / ٢٠١.
وَمَعْنَى ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إِلَّا بِإِذْنِهِ.
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٣٨) ﴾
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ﴿وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الرُّوحِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جِبْرِيلُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الرُّوحُ" مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَعْظَمَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَامَ وَحْدَهُ صَفَّا وَقَامَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا، فَيَكُونُ عِظَمُ خَلْقِهِ مِثْلُهُمْ (١).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرُّوحُ مَلَكٌ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَمِنَ الْجِبَالِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ [أَلْفَ] (٢) تَسْبِيحَةٍ، يُخْلَقُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكٌ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَّا وَحْدَهُ (٣).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ: "الرُّوحُ" خُلِقَ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ لَيْسُوا بِنَاسٍ يَقُومُونَ صَفًّا وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا، هَؤُلَاءِ جُنْدٌ وَهَؤُلَاءِ جُنْدٌ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ خَلْقٌ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (٤).
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو آدَمَ (٥). وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: هَذَا مِمَّا كَانَ يَكْتُمُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ (٦).
(٢) ساقط من "ب".
(٣) أخرجه الطبري: ٣٠ / ٢٢. واستغربه ابن كثير: ٤ / ٤٦٦ فقال: "وهذا قول غريب جدا". وانظر: الدر المنثور: ٨ / ٤٠٠.
(٤) انظر: الطبري ٣٠ / ٢٣.
(٥) أخرجه الطبري: ٣٠ / ٢٣.
(٦) الراجح الجمع بين هذه الأقوال كما بين ابن جرير: ٣٠ / ٢٣ فقال: "والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الروح، والروح خلق من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائر الجهل به". وراجع ابن كثير: ٤ / ٤٦٦ -٤٦٧ فقد رجح أنهم بنو آدم.
﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ فِي الدُّنْيَا، أَيْ حَقًّا. وَقِيلَ: قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (٢).
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (٤٠) ﴾
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ الْكَائِنُ الْوَاقِعُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ مَرْجِعًا وَسَبِيلًا بِطَاعَتِهِ، أَيْ: فَمَنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أَيْ كُلُّ امْرِئٍ يَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا قَدَّمَ مِنَ الْعَمَلِ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِهِ، ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: (٣) إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُدَّتِ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، وَحُشِرَتِ الدَّوَابُّ وَالْبَهَائِمُ وَالْوُحُوشُ، ثُمَّ يُجْعَلُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِصَاصِ قِيلَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْوُحُوشَ وَالْهَوَامَّ وَالطَّيْرَ فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا خَلَقْتُكُمْ وَسَخَّرْتُكُمْ لِبَنِي آدَمَ وَكُنْتُمْ مُطِيعِينَ إِيَّاهُمْ أَيْامَ حَيَاتِكُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى الَّذِي
(٢) رواه الطبري: ٣٠ / ٢٤ عن عكرمة ثم قال: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: "إن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه أنهم لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكة صفا إلا من أذن له منهم في الكلام الرحمن، وقال صوابا فالواجب أن يقال كما أخبر إذ لم يخبرنا في كتابه، ولا على لسان رسوله، أنه عنى بذلك نوعا من أنواع الصواب، والظاهر محتمل جميعه".
(٣) في المخطوطتين: عبد الله بن عمر، أما في الطبري: ٣٠ / ٢٦ فعبد الله بن عمرو. وكذلك عند ابن كثير: ٤ / ٤٦٧. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٤٠٢ لعبد بن حميد وابن شاهين في كتاب "العجائب والغرائب".
وَعَنْ [أَبِي الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ] (١) قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ وَأَمَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ لِسَائِرِ الْأُمَمِ وَلِمُؤْمِنِي الْجِنِّ عُودُوا تُرَابًا فَيَعُودُونَ تُرَابًا، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَبِهِ قَالَ لَيْثُ بْنُ [أَبِي] (٢) سُلَيْمٍ، مُؤْمِنُو الْجِنِّ يَعُودُونَ تُرَابًا (٣)
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافِرَ هَاهُنَا إِبْلِيسُ (٤) وَذَلِكَ أَنَّهُ عَابَ آدَمَ وَأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَافْتَخَرَ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا عَايَنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا فِيهِ آدَمُ وَبَنُوهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْعَذَابِ، قَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: التُّرَابُ لَا وَلَا كَرَامَةَ لَكَ، مَنْ جَعَلَكَ مِثْلِي؟.
(٢) ساقط من "ب" والصحيح ما أثبتناه كما في "تهذيب التهذيب".
(٣) انظر الطبري: ٣٠ / ٢٦.
(٤) حكى الثعلبي عن بعض أشياخه أنه رأى ذلك في بعض التفاسير، انظر: زاد المسير: ٨ / ١٣. والصحيح أنها عامة في كل كافر لأنه لم يخص كافرا معينا فيدخل إبليس وغيره...