ﰡ
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم ملك تجمّل عباده بطاعته، وتزيّن خدمه بعبادته، وهو سبحانه لا يتجمّل بطاعة المطيعين، ولا يتزيّن بخدمة العابدين فزينة العابدين صدار طاعتهم، وزينة العارفين حلّة معرفتهم، وزينة المحبّين تاج ولايتهم.. وزينة المذنبين غسل وجوههم بصوب «٢» عبرتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١ الى ١٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤)ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧)
مختلفون بشدة إنكارهم أمر البعث، ولا لتباس ذلك عليهم، وكثرة مساءلتهم عنه، وكثرة مراجعتهم إلى الرسول ﷺ في معناه.
تكرّر من الله إنزال أمر البعث، وكم استدلّ عليهم في جوازه بوجوه من الأمثلة...
فهذا من ذلك، يقول: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» : عن الخبر العظيم «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» قال الله تعالى على جهة الاحتجاج عليهم:
«أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً؟» ذلّلناهم لهم حتى سكنوها «وَالْجِبالَ أَوْتاداً؟».
(٢) هى في م (بضرب) وهي في ص (بصوت) وكلاهما غير مقبول في السياق، وقد رجحنا أن تكون فى الأصل (بصوب) على أساس أن القشيري يستعمل الفعل (تتقطر) مع (العبرة) فى مواضع مماثلة، كما أنها أقرب في الرسم.
«وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» ذكرا وأنثى، وحسنا وقبيحا.. وغير ذلك «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» أي راحة لكم، لتنقطعوا عن حركاتكم التي تعبتم بها في نهاركم.
«وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» تغطّى ظلمته كلّ شىء فتسكنوا فيه.
«وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» أي وقت معاشكم.
«وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» أي سبع سموات.
«وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» أي الشمس، جعلناها سراجا وقّادا مشتعلا.
«وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً» «الْمُعْصِراتِ» الرياح التي تعصر السحاب «١».
«ماءً ثَجَّاجاً» مطرا صبّابا.
«لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» «حَبًّا» كالحنطة والشعير، «وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» بساتين يلتفّ بعضها ببعض.
وإذا قد علمتم ذلك فهلّا علمتم أنّى قادر على أن أعيد الخلق وأقيم القيامة؟
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ١٨ الى ٣٠]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢)
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧)
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠)
مضى معناه «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» أي في ذلك اليوم تأتون زمرا وجماعات.
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» أي: تشقّقت وانفطرت.
«وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» أي كالسراب.
«إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً» أي ممرا. ويقال: ذات ارتقاب لأهلها.
«لِلطَّاغِينَ مَآباً» أي مرجعا.
«لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» أي دهورا، والمعنى مؤبّدين «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً» مضى معناه. ثم يعذّبون بعد ذلك بأنواع أخر من العذاب.
«جَزاءً وِفاقاً» أي: جوزوا على وفق أعمالهم. ويقال: على وفق ما سبق به التقدير، وجرى به الحكم.
«إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً»
«وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» «١» أي: تكذيبا.
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي: كتبناه كتابا، وعلمناه علما.
والمسبّح الزاهد يحصى تسبيحه، والمهجور البائس يحصى أيام هجرانه، والذي هو صاحب وصال لا يتفرّغ من وصله إلى تذكّر أيامه في العدد، أو الطول والقصر.
والملائكة يحصون زلّات العاصين، ويكتبونها في صحائفهم. والحق سبحانه يقول:
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» فكما أحصى زلّات العاصين وطاعات المطيعين فكذلك أحصى أيام هجران المهجورين وأيام محن الممتحنين، وإنّ لهم في ذلك لسلوة ونفسا:
ثمان قد مضين بلا تلاق | وما في الصبر فضل عن ثمان |
أيها الكافرون.. احترقوا في النار.. ولن نزيدكم إلا عذابا «٢» ويا أيها المطيعون.. افرحوا وارتعوا فلن نزيدكم إلا فضلا على فضل.
يا أيها المساكين.. ابكوا واجزعوا فلن نزيدكم إلّا عزلا على عزل.
قوله جل ذكره:
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٣١ الى ٣٨]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨)
فكل فعل في وزن (فعّل) مصدره فعال مشددة في لغتهم.
(٢) قال أبو برزة: سألت النبي (ص) عن أشد آية في القرآن فقال: قوله تعالى: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» أي: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» و «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً».
فيا أيها المهيّمون المتيّمون هنيئا لكم ما أنتم فيه اليوم في سبيل مولاكم من تجرّد وفقر، وما كلّفكم به من توكل وصبر، وما تجرعتم من صدّ وهجر.
أحرى الملابس ما تلقى الحبيب به... يوم التزاور «١» فى الثوب الذي خلعا
قوله: «لا يَسْمَعُونَ فِيها... » آذانهم مصونة عن سماع الأغيار، وأبصارهم محفوظة عن ملاحظة الرسوم والآثار.
قوله جل ذكره: «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» وكيف تكون للمكوّن المخلوق الفقير المسكين مكنة أن يملك منه خطابا؟ أو يتنفّس بدونه نفسا؟ كلّا.. بل هو الله الواحد الجبّار.
قوله جل ذكره: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» إنما تظهر الهيبة على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم، وأمّا الخواص وأصحاب الحضور فهم أبدا بمشهد العزّ بنعت الهيبة، لا نفس «٢» لهم ولا راحة أحاط بهم سرادقها واستولت عليهم حقائقها.
(٢) هكذا في ص وهي في م (لا نفر لهم ولا فرحة) وربما كانت (فرجة) بالجيم.
[سورة النبإ (٧٨) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
هم بمشهد الحقّ، والحكم عليهم الحقّ، حكم عليهم بالحق، وهم مجذوبون بالحقّ للحقّ.
قوله جل ذكره: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً»
وهو عند أهل الغفلة بعيد، ولكنّه في التحقيق قريب.
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ
«١» الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً».
مضوا في ذلّ الاختيار والتعنّى «٢»، وبعثوا في حسرة التمنّى، ولو أنهم رضوا بالتقدير لتخلّصوا «٣» عن التمنّى.
(٢) وردت في النسختين (التمني) وهي مقبولة، ولكننا نرجح أنها ربما كانت في الأصل (التعنى) لأن الاختيار. كان في الدنيا، واختيار المرء- حسب نظرية القشيري- مجلبة لعنائه وشقائه.. هذا فضلا عن أن إثبات (التعنى) يزيد المعنى- نظرا لتلون الفاصلة- قوة وجمالا.
(٣) هكذا في م وهي في ص (لتحصلوا) وواضح فيها خطأ الناسخ.