تفسير سورة النبأ

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة النبأ (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ قال أبو إسحاق: أصله: (عَنْ ما)، وأدغمت النون في الميم؛ لأن الميم تشرك [النون في] (٢) الغُنَّة (٣) في الأنف (٤).
وقال صاحب النظم: أصله: (عما)، وهم إذا وضعوا (ما) في الاستفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن يكون اسماً مثل قولهم: (فيم)، و (بم)، و (لم)، و (علام)، و (حتام) (٥).
وقال غيره: حذفت الألف لاتصالها بحرف الجر حتى صار كجزء منه
(١) يقال لها: النَّبأ، والتساؤل، والمعصرات. انظر: "الإتقان" ١/ ١٥٩. وهي مكية بقول الجميع. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ١، "الكشف والبيان" ج: ١٣/ ٢٥/ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٦، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٣، "زاد السير" ٨/ ١٦٠، "التفسير الكبير" ٣/ ٣١، وغيرها من كتب التفسير.
(٢) ساقطة من النسخة، والمثبت من مصدر القول، وبه تستقيم العبارة.
(٣) الغنة: صوت هوائي يخرج من الخيشوم، لا عمل للسان فيه، والغنة: صفة مركبة في جسم حرف النون، وجسم حرف الميم مطلقًا. "حق التلاوة لحسني شيخ عثمان": ١٠٧.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧١ بتصرف يسير.
(٥) "التفسير الكبير" ٣١/ ٣، وعزاه الفخر إلى الجرجاني، ويراد به صاحب النظم، وانظر: "كتاب سيبويه" ٤/ ١٦٤.
109
لتنبئ عن شدة الاتصال مع تخفيف الكلام بحذف حرف الاعتلال (١).
قال مقاتل: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ استفهام (٢)، وذلك أن كفار مكة قالوا: ما يخبركم هذا الرجل، وما جاء به، فأنزل الله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾.
وقال الحسن: لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ (٣).
قال المفسرون (٤): إنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولما جاء به، فجعلوا يتساءلون عما جاء به، فأنزل الله تعالى: (عم يتساءلون عن النبأ العظيم).
قال أبو إسحاق: اللفظ [لفظ] (٥) الاستفهام، والمعنى تفخيم القصة، كما تقول: أي شيء زيدٌ (٦).
ثم بين فقال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ المعنى: يتساءلون عن النبأ العظيم، وفي انتظام الاثنين وجوه:
أحدها: (أن الكلام تم عند قوله: (يتساءلون) ثم قال: (عن النبأ
(١) لم أعثر على مصدر القول، ولا على قائله، وانظر: "مغني اللبيب" لابن هشام ٢/ ١٣٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢٢٤/ أ.
(٣) "جامع البيان" ٣٠/ ١، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٠ وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه. وانظر: "تفسير الحسن البصري" ٢/ ٣٨٧، "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطى ٢٢٦.
(٤) حكاه ابن الجوزي عن المفسرين "زاد المسير" ٨/ ١٦١، ونقل الشوكاني عن الواحدي قول المفسرين في "فتح القدير" ٥/ ٣٦٢ - ٣٦٣.
(٥) في (أ): لفظه، والمثبت من مصدر القول: "معانى القرآن وإعرابه".
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧١ بنصه.
110
العظيم)، ويكون التقدير: يتساءلون عن النبأ العظيم إلا أنه حذف يتساءلون لدلالة يتساءلون في الآية الأولى عليه. وهذا قول البصريين، واختيار أبي حاتم (١).
وعند الكوفيين: أن الآية الثانية متصلة بالأولى على تقدير: لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم، و (عم) كأنها في المعنى: لأي شيء) (٢)، وهذا قول الفراء (٣).
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ استفهام وسؤال يقتضي جواباً من غير السائل المستفهم.
٢ - ثم قال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ فكان الجواب والسؤال من وجهة واحدة -قال- ويحتمل أيضًا أن يكون معنى قوله: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ استفهاماً على تأويل: عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؛ إلا أنه اقتصر على ما قبله من الاستفهام إذ هو متصل به، وكالترجمة والبيان كما ترى في قوله: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٢]، بكسر الألف من غير استفهام، وهو موضع الاستفهام؛ لأن، إنكارهم بما كان للبعث، ولكنه لما ظهر الاستفهام في أول الكلام اقتصر عليه (٤).
ومعنى: (النبأ العظيم) القرآن في قول جميع المفسرين، وهو قول
(١) تقدمت ترجمته في سورة النساء.
(٢) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن النحاس من كتابه "القطع والائتناف" ٢/ ٧٨٠ بتصرف.
(٣) "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٧.
(٤) لم أعثر على مصدر لقوله.
الكلبي (١)، ومقاتل (٢)، ومجاهد (٣)، وقتادة (٤)، وسفيان (٥).
وقال أهل المعاني: النبأ العظيم: الخبر العظيم الشأن؛ وذلك أنه ينبئ عن التوحيد، وصفة الإله، وتصديق رسوله، والخبر عما يجوز، وعما لا يجوز، وعن البعث، والنشور، والنفخ في الصور، وقيام الناس من القبور (٦).
وروي عن قتادة (٧)، وابن زيد (٨) في (النبأ العظيم) أنه البعث، وهذا كقوله: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ [ص: ٦٧] الآية.
٣ - قوله تعالى: ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ فمن مصدق به ومكذب (٩)،
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢٢٤/ ب.
(٣) "تفسير الإمام مجاهد" ٦٩٤، "جامع البيان" ٣٠/ ٢، " الكشف والبيان" ج: ١٣/ ٢٥/ أ، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٢، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٦ وعزاه إلى مجاهد والأكثرين من المفسرين، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٣، "زاد المسير" ٨/ ١٦١، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٢، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٠ وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وعبد الرزاق، ولم أجده عنده.
(٤) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٢، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٣، "زاد المسير" ٨/ ١٦١.
(٥) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله
(٧) "جامع البيان" ٣٠/ ٢، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٢، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٦، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٣، "زاد المسير" ٨/ ١٦١، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٦٨، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٢.
(٨) بمعناه في "جامع البيان" ٣٠/ ٢، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٢، وبمثله في "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٢.
(٩) وهو قول قتادة، ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٢، "جامع البيان" ٣٠/ ٢، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٠.
وعلى هذا يجب أن يكون هذا الاختلاف بين الكافرين والمؤمنين؛ لأن المؤمنين صدقوا، والكافرين كذبوا.
وإن كان الاختلاف بين الكافرين في القرآن، فيكون معناه: أن بعضهم جعله سحرًا، وبعضهم قالوا: إنه أساطير (١) الأولين، وبعضهم جعله. كَهانة (٢)، على ما ذكرنا في قوله: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ (٣) [الحجر: ٩١].
قال مقاتل: (فأوعد الله من كذب بالقرآن، فقال:
٤ - ٥ - قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ وعيد على أثر وعيد) (٤)، ونحو هذا قال عطاء (٥)، والكلبي (٦)، أن الآيتين وعيد للمشركين
(١) الأساطير: هي الأباطيل، والأساطير: أحاديث لا نظام لها، واحدتها: إسطار، وإسطارة بالكسر، وأُسطير، وأُسطيرة، وأُسطور، وأسطورة. "لسان العرب" ٤/ ٦٣: (سطر).
(٢) الكهانة: الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، وحرفته: الكهانة. "لسان العرب" ١٣/ ٣٦٢ (كهن).
(٣) ومما جاء في تفسيرها: (ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين: أحدهما: أن واحدها عضه، وأصلها عضوه من عضيت الشيء إذا مزقته، وكل قطعة عِضة، والتعضية التجزئة والتفريق. قال ابن عباس في قوله: (جعلوا القرآن عضين) يريد جزؤوه أجزاء، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى.
القول الثاني: إنها عضه، وأصلها: عضهه، فاستثقلوا الجمع بين هاتين، فقالوا: عضه، وهي من العضه بمعنى الكذب".
(٤) ما بين القوسين من قول مقاتل. "تفسير مقاتل" ٢٢٤/ ب.
(٥) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
113
على معنى: سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور.
(والقراء على (الياء) في (سيعلمون) في الآيتين (١).
وروي بالتاء عن ابن عامر (٢)، والوجه (بالياء)؛ لأن ما تقدم من قولهم: (هم فيه مختلفون) على لفظ الغيبة، و (التاء) على قل لهم ستعلمون) (٣).
وقال الضحاك: الآية الأولى للكفار، والثانية للمؤمنين (٤).
أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، والقول هو الأول؛ لأن المراد بالتكرير تأكيد التهديد.
ومعنى (كلا) للنفي؛ لاختلافهم، لا اختلاف فيه.
قال الكلبي: هو رد على الذين كذبوا (٥).
وقال عطاء: يريد الذين لا يؤمنون (٦).
(١) قرأ بذلك: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي. انظر: "الحجة" ٦/ ٣٦٧، "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٤١. وانظر: "بحر العلوم" ٣/ ٤٣٨،"الكشف والبيان" ج: ١٣/ ٢٦/ أ، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٣، "تفسير أبي العالية" ٢/ ٦٢٤، تح الورثان.
(٢) قرأ ابن عامر وحده بالتاء في الآيتين. انظر: "الحجة" ٦/ ٣٦٧، "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٤١. وانظر: "زاد المسير" ٨/ ١٦٢، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٣.
(٣) ما بين القوسين نقله عن أبي علي في "الحجة" ٦/ ٣٦٧ بتصرف.
(٤) "جامع البيان" ٣٠/ ٣، "الكشف والبيان" ج: ١٣/ ٢٦/ أ، "للنكت والعيون" ٦/ ١٨٣، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٦، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٣ - ٤٢٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٦٩، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٠، وانظر: "القطع والائتناف" ٢/ ٧٨٠.
(٥) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
114
ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال:
٦ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ أي فراشاً، وبساطاً، ووطاء (١).
(والمعنى: ذللناها للخلق حتى سكنوها، وساروا في مناكبها) (٢).
٧ - ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ أي للأرض حتى لا تميد بأهلها.
٨ - ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ (أصنافاً: ذكراناً وإناثاً، وقيل: ألواناً) (٣).
٩ - ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ قال الليث: السبات: النوم، شبهُ غَشْية، يقال: سُبّت المريض، فهو مَسبوت (٤).
قال مقاتل: سباتاً لكل ذي عين، والنائم مسبوت لا يعقل، كأنه ميت (٥)، وهذا قول أبي عبيدة (٦)، والمبرد (٧)، جعلا في معنى السبات الغشية التي تغشى الإنسان شبه الموت، وليس بموت؛ لأنه لم تفارقه الروح.
قال المبرد: أي جعلنا نومكم يَخرجون منه إلى انتباه، تقول العرب: رجل مسبوت، إذا كان النوم يغالبه، وهو يدافعه، ولا يزال النوم يغلبه
(١) وطأ: وطئ الأرض، ونحوها، يطأ، ووطُؤ الموضع، صار وطيئاً. انظر: مختار "الصحاح" ٧٢٧ (وطأ). وطئته برجلي، أطؤه وطأ: علوته. انظر: "المصباح المنير" ٢/ ٨٢٩ (وطئ).
(٢) ما بين القوسين نقله عن الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢.
(٣) ما بين القوسين نقله عن الزجاج. المرجع السابق. وقد أورد الثعلبي بنحوه، قال: "أصنافاً: ذكوراً وإناثاً". "الكشف" ج: ١٣/ ٢٦/ أ.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ٣٨٧ (سبت). وانظر: "التفسير الكبير" ٣١/ ٧.
(٥) "تفسير مقاتل" ٢٢٤/ ب.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ٢٨٢، وعبارته: (ليس بمرت رجل مسبوت فيه روح).
(٧) لم أعثر على مصدر لقوله.
وينتبه (١).
وقال ابن الأعرابي: في قوله: (سباتاً) أي قطعاً، والسَّبت: القطع، كأنه إذا نام فقد إنقطع عن الناس (٢).
وقال أبو إسحاق: السُّباتُ: أن ينقطع عن الحركة، والروح في بدنه، أي جعلنا نومكم راحة لكم (٣).
واختار هذا القول ابن قتيبة، قال: معناه: جعلنا النوم راحة لأبدانكم، ومنه قيل: يوم السبت يوم الراحة، قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، فلا تعملوا شيئاً (٤).
وأنكر ذلك ابن الأنباري، وقال: لا يقال للراحة سبات، ولا يقال: سبت بمعنى استراح، ومعنى الآية: وجعلنا نومكم قطعاً لأعماركم؛ لأن أصل السبت القطع (٥).
١٠ - ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ قال عطاء: يريد لتسكنوا فيه، وتأووا
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣٨٦ (سبت)، وانظر: "لسان العرب" ٢/ ٣٧ (سبت).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢ بنصه.
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ٧٩ - ٨٠ نقله عنه مختصرًا، وانظر: "تفسير غريب القرآن" ٥٠٨.
(٥) "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣٨٦ - ٣٨٧ (سبت)، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٦٩.
وما مضى من الأقوال تتناول المعنى اللغوي، فالسبت لغة يطلق على: السبت: من الأيام، وأيضًا برهة من الدهر، والسبت: القطع، والسُّبات: من النوم شبه الغشية، والمسبوت: الميت، والمغشي عليه، والسُّبات: النوم، وأصله الراحة. انظر: "تهذيب اللغة" المرجع السابق، "لسان العرب" ٢/ ٣٧ - ٣٩ (سبت).
إليه (١)، ونحو هذا قال مقاتل: يعني سكن، كقوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] (٢).
قال أبو إسحاق: أي يسكنون فيه، وهو مشتمل [عليكم] (٣).
وقال أهل المعاني: إنما سمي الليل لباساً لأنه يلبس كل شيء بظلمته (٤).
ستر اللباس من الثوب، ومنه قول ذي الرمة:
فلمَّا لبسْن الليلَ أو حينَ نصَّبتْ له مِنْ خذا آذانها وَهْوَ جانِحُ (٥)
فجعل الليل يلبس، وإذا لبس فهو لباس، واللباس ساتر، وكذا الليل ساتر بظلمته كل شيء (٦).
١١ - ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ يقال: عاش يعيش عيشاً، ومعاشاً، ومعيشة، وعيشة، ومعنى المعاش: المطعم والمشرب، وما يكون به
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٣) في (أ): عليه والمثبت من المعاني.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢ بتصرف يسير.
(٥) ورد البيت في "ديوانه" ٢/ ٨٩٧، "جامع البيان" ٣٠/ ٣.
ومعناه: لبسن الليل: أي دخلن فيه، وقوله: أو حين نصبت له من خذا آذانها: يريد نصبت آذانها لبرد الليل، كانت قد خفضتها، كانت منكبات الرؤوس، ثم رفعت رؤوسها، ونصبت آذانها في ذا الوقت. حين جنح الليل، أي: دنا، والخذا الاسترخاء. "ديوانه" ٨٩٧ - ٨٩٨.
(٦) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد أورد الطبري معنى قول أهل المعاني. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٣.
الحياة، وكل شيء يعاش به فهو معاش (١).
ومعنى المعاش -هاهنا- المنصرف للعيش، ولهذا قال سفيان: مبتغى (٢).
وقال عطاء: يريد يبتغون فيه من فضل الله ربكم، وما قسم لكم فيه من رزقه (٣).
وقال مقاتل: يعني لطلب المعيشة (٤).
والمعنى: مكناكم في النهار للتصرف في المعاش، ولابد من تقدير حذف المضاف؛ لأن المعنى: وجعلنا النهار مبتغى معاش، أو طلب معاش.
١٢ - ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ يريد سبع سموات غلظ كل واحدة مسيرة خمس مائة عام.
١٣ - قوله تعالى: ﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ قال أبو عبيدة (٥)، والمبرد (٦): الوهاج: الوقاد، وهو الذي له وهج، يعني بها الشمس، ويقال لحر الشمس والنار: وهج (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٥٩ (عيش)، وانظر: "لسان العرب" ٦/ ٣٢١ (عيش).
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد وردت في "الوسيط" برواية عطاء عن ابن عباس:
(٤) ورد بمعناه في "تفسير مقاتل" ٢٢٤/ ب.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ٢٨٢.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٧) قال الليث: الوَهج: حر النار والشمس من بعيد، وقد توهجت النار ووهجت. "تهذيب اللغة" ٦/ ٣٥٤ (وهج)، وانظر: "لسان العرب" ٢/ ٤٠١ (وهج).
قال الفراء: وهجت تهج وهجاً، ووهجاً، ووهجاناً (١).
قال ابن عباس: وقاداً (٢).
وقال الكلبي عنه: مضيئاً (٣).
وجمع بينهما مقاتل فقال: جعل فيهما نوراً وحراً (٤).
وقال مجاهد (٥)، وقتادة (٦): متلألئاً.
(والوهج: يجمع النور والحر، ويقال للجَوْهر إذا تلألأ: توَهَّج) (٧) ومنه قول الشاعر يصف النَّوْر:
نوارها متباهج يتوهج (٨)
١٤ - قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ قال مجاهد (٩)،
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٣) "جامع البيان" ٣٠/ ٤، "زاد المسير" ٨/ ١٦٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢٢٤/ ب بمعناه، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٧، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٤.
(٥) "تفسير الإمام مجاهد" ٦٩٤، "جامع البيان" ٣٠/ ٤ بنحوه، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٤، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩١ وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٧) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" ٦/ ٣٥٤ (وهج)، وانظر: "لسان العرب" ٢/ ٤٠١ (وهج).
(٨) لم أجد من نسب البيت لقائل معين فيما اطلعت عليه من المصادر، وقد ورد تحت (بهج) في "تهذيب اللغة" ٦/ ٦٤، "لسان العرب" ٢/ ٢١٦، "تاج العروس" ٢/ ١٠، وجممعها برواية "نواره" بدلاً من "نوارها". وانظر: "التفسير الكبير" ٣١/ ٩.
(٩) "تفسير الإمام مجاهد" ٦٩٤، "جامع البيان" ٣٠/ ٥، "الكشف والبيان" =
119
ومقاتل (١)، وقتادة (٢): يعني الرياح.
قال الأزهري: سميت الرياح مُعْصِرات: إذا كانت ذوات أعاصير، واحدها: إعصار (٣).
و (من) على هذا القول قامت مقام (الباء) كأنه قال: وأنزلناها بالمعصرات (٤).
[وقال] (٥) عطاء (٦)، ومقاتل (٧):
إن (تلك) (٨) ريح تجلب المطر.
= ١٣/ ٢٦٠ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٧، "زاد المسير" ٨/ ١٦٣، "التفسير الكبير" ٩/ ٣١، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٠، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٣، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩١ وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والفريابي، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٤.
(١) "تفسير مقاتل" ٢٢٥/ ب، وانظر: المراجع السابقة عدا تفسير مجاهد، و"جامع البيان"، و"الجامع لأحكام القرآن".
(٢) المراجع السابقة جميعها، وانظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٢، وعزاه صاحب الدر للخرائطي في مكارم الأخلاق.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥ (عصر)، نقله عنه بتصرف.
(٤) وبه قال الثعلبي في "الكشف والبيان" ١٣/ ٢٦ أ. وضعف هذا القول ابن منظور في "لسان العرب" ٤/ ٥٧٨: (عصر).
(٥) في (أ): وقاله.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٧) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" ٢٢٥/ أ، كما ورد قوله في "الكشف والبيان" ١٣/ ٢٦/ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٧، "زاد المسير" ٨/ ١٦٣، "التفسير الكبير" ٣١/ ٩، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٣، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٤.
(٨) في (أ): ذلك.
120
وقال أبو العالية (١)، والربيع (٢): هي السحاب.
واختلفوا في معنى تسمية السحاب، ووصفها بالمعصرات.
قال الفراء: السحابة المعصر التي تتحلب بالمطر، ولما تجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تَحِضْ (٣).
قال الأزهري: وأهل اللغة في الجارية المعصر على خلاف ما [ذكره الفراء] (٤).
قال أبو عبيد عن أصحابه: إذا أدركت الجارية فهي معصر، وأنشد (٥):
قَدْ أعْصَرَتْ أوْ قَدْ دَنا إعْصَارُها (٦)
(١) المراجع السابقة بالإضافة إلى "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٠، "البحر المحيط" ٨/ ٤١١، "تفسير أبي العالية" ٢/ ٦٢٥؛ رسالة ماجستير غير منشورة، تح: الورثان.
(٢) المراجع السابقة بالإضافة إلى: "جامع البيان" ٣٠/ ٥، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٤.
(٣) لم أعثر على قوله في "معاني القرآن"، ولكن وجدته في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦: (عصر)، و"لسان العرب" ٤/ ٥٧٨ (عصر).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من: أ، وأثبت ما رأيته أنه يستقيم به المعنى وينتظم الكلام، وقد بين الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧، (عصر) أن أهل اللغة على خلاف، وما قاله الفراء في معنى "المعصر" ففهم أن الساقط من الكلام ما أثبته. والله أعلم.
(٥) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، ونسبه في "الدر" لأبي النجم العجلي ٦/ ٤٦٢، ولم أجده في ديوان أبي النجم.
(٦) تمام الرجز:
جارية بسفوان دارها
تمشي الهوينى مائلاً خمارها
معصرة أو قد دنا إعصارها
وقد ورد في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧ (عصر)، "لسان العرب" ٤/ ٥٧٦.
121
وقال الكسائي: المعصر التي قد راهقت العشرين (١).
وقال ابن الأعرابي: المعْصِر: ساعةَ تطمُث؛ لأنها تُحبس في البيت يجعل لها عَصراً، قال: وكل حِصن يتحصَن به فهو عَصَر (٢).
وقال غير الفراء: إنما قيل للسحابة معصر تشبيهاً بالجارية المعصر لانعصار دم حيضتها، ونزول ماء تريبتها للجماع، يقال: اعتصرت الجارية إذا بلغت هذه الحالة (٣).
وقال أبو إسحاق: المعصرات: السحائب؛ لأنها تعصر الماء.
وقيل: معصرات كما يقال: أجزَّ (٤) الزرع أي صار إلى أن يجز، وكذلك صار المطر إلى أن يمطر فيعصر (٥).
وقال المبرد: من قال في المعصرات إنها السحاب فمعناه: أنها ممسكات الماء من العصر، وهو الملجأ الذي يمنع اللاجئ إليه، وكذلك العصر، والمعتصر (٦).
وقال المازني (٧): أعصرت السحابة إذا ارتفع لها غبار شديد، وهو
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧، (عصر)..
(٢) المرجع السابق.
(٣) المرجع السابق.
(٤) أجز، وجزَّ الزرع: حان أن يزرع. "لسان العرب" ٥/ ٣٢١ (جز).
وفي مختار "الصحاح" جَزَّ البُرَّ، والنَّخْل، والصوف من باب ردَّ، و"المجز": بالكسر ما يجز به، وهذا زمن "الجزاز" بفتح الجيم وكسره، أي زمن الحصاد، وصرام النخل، و"أجز" البُرُّ، والنَّخل، والغنم: حان له أن يُجَزَّ. ١٠٢ - ١٠٣.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢ بتصرف يسير.
(٦) بمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧١.
(٧) تقدمت ترجمته في سورة البقرة.
122
الإعصار (١).
وعلى هذا: يجوز أن تكون المعصرات ذوات الأعاصير من السحاب.
واختار الأزهري أن تكون المعصرات في هذه الآية بمعنى السحاب. قال: وهو أشبه بما أراد الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأن الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر، وقد وصف الله المعصرات بالماء الثجاج (٢).
وقال البعيثُ (٣) في المعصرات، فجعلها سحائب ذوات مطر:
وذي أُشُر كأقحوان تشوفُه ذهابُ الصبا والمعصرات الدوالح (٤)
والدوالح: من نعت السحاب، لا من نعت الرياح، وهي التي أثقلها الماء (٥)) (٦).
وقوله: ﴿ثَجَّاجًا﴾ الثج: شدة الانصباب، يقال: مطر ثجاج، ودم ثجاج أي: صباب (٧).
قال الأزهري: يقال: ثججته الماء، وأثججته فثج يثج، وقد ثججته
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ١٦ (عصر) نقله عنه بتصرف يسير، وانظر: "لسان العرب" ٤/ ٥٧٨ (عصر).
(٣) تقدمت ترجمته في سورة القلم.
(٤) ورد البيت في (عصر) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦، "لسان العرب" ٤/ ٥٧٨.
(٥) هذا البيان لمعنى البيت من قول الأزهري، وتتمته: (قال: وهي التي أثقلها الماء، فهي تَدْلَح أي تمشي مشي المثقل، والذهاب: الأمطار. "تهذيب اللغة" ٣/ ١٦ - ١٧.
(٦) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة". المرجع السابق.
(٧) انظر: مادة (ثج) في "مقاييس اللغة" ١/ ٣٦٧، "لسان العرب" ٢/ ٢٢١.
123
أثج، وثَجَّ الماء ثجاً، ومطر ثجوج إذا انصب، وماء ثجاج شديد الانصباب، وقد ثبت أن الثج يكون لازماً بمعنى الانصباب، ويكون واقعًا بمعنى انصب (١).
والثجاج في هذه الآية: المتدفق المنصب. قاله قتادة (٢)، ومقاتل (٣).
وقال أبو إسحاق: معنى ثجاج: صَبَّاب (٤)، وعلى هذا هو من الثج الواقع، كأنه يثج نفسه، أي يصب.
١٥ - قوله تعالى: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾، بذلك الماء.
﴿حَبًّا﴾، يعني: ما يأكله الناس من الحبوب.
﴿وَنَبَاتًا﴾، مما تنبته الأرض مما يأكله الأنعام.
١٦ - ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾، قال أبو عبيدة: ملتفة من الشجر، ليس بينها خلال (٥).
قال الأخفش (٦)، والكسائي (٧): واحدها: (لِفٌّ) بالكسر، وزاد الكسائي: (لُفٌ) بالضم.
(١) "تهذيب اللغة" ١٠/ ٤٧٢ (ثج).
(٢) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٢، "جامع البيان" ٣٠/ ٦، "زاد المسير" ٨/ ١٦٣ هامش النسخة الأزهرية، وبمعناه في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٧، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٠، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٣.
(٣) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٠، "زاد المسير" ٨/ ١٦٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢ بنصه
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ٢٨٢ بنصه.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٧٢٧، قال: وواحدها: اللُّفُّ.
(٧) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٢، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٥.
وأنكر أبو العباس الكسر، وقال: لم يسمع شجرة (لَفٌّ)، ولكن واحدها: (لَفَّاء)، وجمعها (لُفٌّ)، وجمع (لُفّ) (أَلْفاف) (١).
قال المفسرون: يعني: بساتين ملتفة النبات والشجر (٢).
قال أبو إسحاق: أعلم الله عَزَّ وَجَلَّ بما خلق أنه قادر على البعث فقال:
١٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾ (٣) يعني يوم القضاء بين الخلق كان ميقاتاً.
قال عطاء: يريد ميقاتاً للأنبياء والمرسلين (٤).
وقال غيره: يعني لما وعد من الثواب والعقاب (٥).
(١) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٣٣ (لف).
والصواب في واحد (الألفاف) أن الألفاف جمع لَفّ، أو لفيف، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناه: ملتفة، واللفاء هي الغليظة، وليس الالتفاف من الغلظ في شيء إلا أن يوجه إلى أنه غلظ الالتفاف، فيكون ذلك حينذ وجهاً. قاله الطبري: "جامع البيان" ٣٠/ ٧.
(٢) وإلى معنى هذا القول ذهب: ابن عباس، وقتادة، وسفيان الثوري، وابن زيد، قالوا: ملتفة بعضها ببعض. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٧. وبه قال: الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢، والبغوي في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٧، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٨/ ١٦٣، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن": ١٩/ ١٧٢.
(٣) إلى الآية ينتهي قول أبي إسحاق "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٢.
(٤) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٥) قال بذلك: الماوردي في "النكت والعيون" ٦/ ١٨٥ في أحد الوجهين.
وانظر هذا القول في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٧، "زاد المسير" ٨/ ١٦٣، "التفسير الكبير" ٣١/ ١١، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٣.
١٨ - قوله تعالى: ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجً﴾ قال مجاهد (١)، ومقاتل (٢): زمراً زمرًا من كل مكان للحساب.
وقال عطاء: كل نبي يأتي معه أمَّته (٣).
١٩ - ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾: لنزول الملائكة.
﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾: والآية من باب حذف المضاف؛ لأن التقدير: وكانت ذات أبواب.
٢٠ - ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾: عن أماكنها.
﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾: أي هباء منبثاً لعين الناظر، كالسراب بعد شدتها وصلابتها (٤).
٢١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ قال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو نحو (المضمار) الموضع الذي يضمر فيه الخيل (٥).
(١) بمعناه في "تفسير الإمام مجاهد" ٦٩٤، "جامع البيان" ٣٠/ ٨.
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله، وقد ورد في "الوسيط" ٤/ ٤١٣ بمثل قوله من غير عزو.
(٣) ورد قوله في "التفسير الكبير" ٣١/ ١١.
(٤) جاء بنحوه عن الطبري في "جامع البيان" ٣٠/ ٨.
(٥) "تهذيب اللغة" ١٢/ ١٣٧ (رصد).
وقال ابن فارس: (رصد: أصل واحد، وهو التهيُّؤ لِرقبة شيء على مَسْلكه، ثم يحمل على ما يشاكله، يقال: أرصدت له كذا، أي هيأته له، كأنك جعلته على مَرصده، رصدته، أرصده، أي ترقبته، وأرصدت له، أي أعددت، والمرصد: موقع الرَّصد، والرَّصد: القوم يرصدون، والرصد: الفِعل).
"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٠٠ (رصد).
وقال المبرد: مَرصاداً محلاً يرصد، أي هو معد لهم (١).
والمرصاد -على هذا- المكان والمحل الذي يرصد به، أي هو معد لهم، وجهنم مرصاد يرصد به خزنتها الكفار.
قال أبو إسحاق: يَرْصُدُ أهل الكفر، ومن حق عليه العذاب (٢)، وهو قول الحسن قال: يرصدهم والله (٣).
وعلى هذا يجوز أن يكون المرصاد مفعالاً من الرصد، وهو الترقب.
بمعنى: ذلك يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة، كالمعطار، والمعمار، وهو لمن دام منه الفعل) (٤).
ثم بين أنها مرصاد لمن، فقال: ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ قال ابن عباس (٥)، ومقاتل (٦): يريد للمشركين الضالين.
وقوله: ﴿مَآبًا﴾ بدل من قوله: (مرصاداً).
٢٣ - قوله تعالى: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾
وقرأ حمزة (لبثين فيها) (٧)،.......
(١) بمعناه ورد في "زاد المسير" ٨/ ١٦٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٣ بنصه.
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٤) ما بين القوسين انظر فيه: كتاب ما تلحن فيه العامة لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي: ١٢٤.
(٥) "زاد المسير" ٨/ ١٦٤.
(٦) بمعناه في "تفسير مقاتل" ٢٢٥/ ب، "الكشف والبيان" ج: ١٣/ ٢٧/ ب.
(٧) وقرأ الباقون: (لابثين) بألف، وحجتهم: مجيء المصدر على (اللُّبْث) يدل على أنه من باب: شرب يشرب، ولقِم يلقَم، فهو: شارب، ولا قم. وليس من باب: فرق يفرق، ولو كان منه لكان المصدر مفتوح العين، فلما سكّن وقيل: اللُّبْث.
127
وهما بمعنى واحد (١)، يقال: لابث، ولبث، مثل: طامِع، وطَمِعَ، وفارَه، وفره، وهو كثير. قاله الفراء (٢)، والزجاج (٣).
وقوله: ﴿أَحْقَابًا﴾ (واحدها: حُقُب، وهو ثمانون سنة -عند أهل اللغة-، والحقب: السنون، واحدها: حِقْبة، وهي زمان من الدهر لا وقت له) (٤)، ومنه قول متمم (٥):
وكنَّا كَنَدْمانَيْ جّذِيمَةَ حِقْبَةً من الدَّهْرِ حتَّى قيلَ أنْ يَتَصّدَّعا (٦).
وذكرنا تفسير الحقب عند قوله: ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: ٦٠].
قال عطاء عن ابن عباس (٧)، ومقاتل في قوله: (حقباً): الحقب
= وجب أن يكون اسم الفاعل (فاعلاً) لما كان اللُّبْث كاللقم.
انظر: "الحجة" ٦/ ٣٦٩، "حجة القراءات" ٧٤٦، "الكشف" ٢/ ٣٥٩، "تحبير التيسير" ١٩٦، "المهذب" ٢/ ٣٢.
(١) لبث: أصل يدل على تَمكُّث، يقال: لَبِثَ بالمكان أقام، واللَّبْث واللباث: الْمُكْثُ. وقد لَبِث يَلْبثُ لَبْثاً -على غير قياس-، فهو لابِثٌ، ولَبِثٌ. انظر (لبث) في "مقاييس اللغة" ٥/ ٢٢٨، "الصحاح" ١/ ٢٩١.
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٣، وعبارته: (وَلَبثين: يقال: لبث الرجل، فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان كذا، أي صار اللبث شأنه).
(٤) ما بين القوسين نقله عن الأزهري من "تهذيب اللغة" ٤/ ٧٣ (حقب)، وقد تضمن قولي الليث والكسائي. وانظر أيضًا المعنى اللغوي في (حقب) في "مقاييس اللغة" ٢/ ٨٩، "الصحاح" ١/ ١١٤، "لسان العرب" ١/ ٣٢٦.
(٥) تقدمت ترجمته في سورة يوسف.
(٦) ورد البيت في "المفضليات": تح: شاكر: ٥٣٥ برواية: (لن يتصدعا)، ديوان "المفضليات" للضبي (٥٣٥) برواية: (لن يتصدعا)، "جامع البيان" ٣٠/ ١٠.
(٧) "جامع البيان" ٣٠/ ١١ مختصرًا جداً، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٦، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٥ مختصرًا.
128
الواحد بضع وثمانون سنة، والسنة: ثلاث مائة يوم وستون يوماً، اليوم: ألف سنة من أيام الدنيا (١).
وروي عن علي أنه سأل هلالاً الهجري: ما تعدون الحقب فيكم؟ قال: نجده في كتاب الله مائة سنة، والسنة: اثنا عشر شهراً، والشهر: ثلاثون يوماً، واليوم: ألف سنة (٢).
وقال قتادة: الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة (٣).
وقال الحسن: الأحقاب لا يدري أحد ما هي، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون (٤).
(١) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٤.
(٢) "زوائد الزهد" لابن المبارك ٩٠ ح: ٣١٨، "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٢ بنحوه، وبرواية: ثمانون بدلاً من مائة، "جامع البيان" ٣٠/ ١١، بمثل رواية "تفسير عبد الرزاق"، "الكشف والبيان" ١٣/ ٢٨/ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٨ مختصرًا، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٦، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٤، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٤ برواية: ثمانون سنة، وكذا في "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٥ وعزاه إلى الفريابي، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، و"فتح القدير" ٥/ ٣٦٧.
(٣) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٢، "جامع البيان" ٣٠/ ١١، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٤ وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٤) "الكشف والبيان" ج ١٣/ ٢٨/ ب، "جامع البيان" ٣٠/ ١١ - ١٢، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٦ مختصرًا، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٦ مختصرًا، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٦، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٤ مختصرًا، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٤ وعزاه إلى عبد حميد، وانظر: "تفسير الحسن البصري" ٢/ ٣٨٩.
129
ونحو هذا قال الفراء (١)، والزجاج (٢) في الحقب: (أنه ثمانون سنة، كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا.
فإن قيل: الأحقاب وإن طالت، فإنها إلى انتهاء، وقد أخبر الله تعالى أنهم خالدون في النار؟ قيل: ليس في الأحقاب ما يدل على غاية، وإنما يدل على الغاية التوقيت، كقولك: خمسة أحقاب، أو عشرة أحقاب، فالمعنى: أنهم يلبثون فيها أحقاباً، كلما مضى حقب تبعه حقب آخر) (٣).
وهذا معنى قول الحسن: لم يجعل الله لأهل النار مدة؛ بل قال: (أحقاباً)، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر، كذلك إلى الأبد (٤).
وقال أبو إسحاق: المعنى أنهم يلبثون أحقاباً لا يذوقون في الأحقاب برداً، ولا شراباً، وهم خالدون فيها أبداً، كما قال الله تعالى (٥) (٦).
وعلى هذا: الأحقاب توقيت لنوع من العذاب، وهو [مدمهم] (٧)
(١) "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٨ مختصرًا.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٣.
(٣) ما بين القوسين: من قول الفراء، وقد ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٧٣، وذكر أيضًا في حاشية "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٨، وانظر أيضًا "لسان العرب" ١/ ٣٢٦ (حقب).
(٤) "الكشف والبيان" ج ١٣/ ٢٨/ أ - ب.
(٥) أي في قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [التوبة: ٦٨]، وقد استشهد الزجاج بهذه الآية على قوله.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٣.
(٧) غير مقروءة في (أ)، ولعلها [منهم].
130
البرد، والشراب، لا لمقدار اللبث (١).
وقال الأزهري: والقول ما قاله الزجاج، وهو بين لا ثواب فيه (٢).
٢٤ - قوله تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤)﴾ يجوز أن يكون الضمير في قوله: (فيها) لجهنم (٣).
ويجوز أن يكون للأحقاب (٤) على ما قاله أبو إسحاق (٥).
وأما (البرد) فقال عطاء عن ابن عباس: يريد النوم، و (لا شراباً) يريد الماء (٦).
وقال مقاتل: لا يذوقون في جهنم برداً ينفعهم من حرها، ولا شراباً ينفعهم من عطشها (٧).
(١) قال القرطبي -بعد عرضه للأقوال في معنى الأحقاب وتحديده- "هذه الأقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما المعنى -والله أعلم- أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع" "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٧. وهذا معنى قول الحسن. كما ذهب الشوكاني أيضًا إلى أن المقصود بالآية التأبيد لا التقييد. "فتح القدير" ٥/ ٣٦٦.
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٣) وعليه يكون الكلام مستأنفاً مبتدأ. انظر: "التفسير الكبير" ٣١/ ١٥.
(٤) عن الكرماني: عود الضمير إلى الأحقاب من غريب التفسير. "غرائب التفسير" ٢/ ١٢٩٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٣.
(٦) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٨٣ مختصرًا، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٨.
(٧) وبمعناه في "تفسير مقاتل" ٢٢٥/ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٨، "زاد المسير" ٨/ ١٦٥.
131
وذكر الكلبي القولين في البرد (١).
قال الفراء: وإن النوم ليبرد صاحبه، وإن العطشان لينام فيبرد بالنوم (٢)، وهو قول أبي عبيدة (٣)، والمبرد (٤) في البرد: إنه النوم في هذه الآية، وأنشد (٥):
بردت مَراشِفُها عليَّ فصدني عنها وعن رشفاتها البرد (٦)
يعني النوم.
قال المبرد: ومن أمثال العرب: يمنع البرد البرد (٧)، أي أصابني من البرد ما يمنعني النوم (٨)، وأنشد للعَرْجي (٩):
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٨ بنصه.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ٢٨٢.
(٤) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٥.
(٥) امرؤ القيس.
(٦) ورد البيت في "النكت والعيون" ٦/ ١٨٧ برواية: تقبيلها بدلاً من: رشفاتها. "التفسير الكبير" ٣١/ ١٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٧ برواية تقبيلها بدلاً من: رشفاتها. ولم أعثر عليه في ديوانه.
(٧) انظر: "الكشف والبيان" ج: ١٣/ ٢٩/ أ.
(٨) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٥.
(٩) العَرْجي هو: عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكان ينزل بموضع قِبل الطائف يقال له: العرج، فنسب إليه، وهو أشعر بني أمية، حبسه محمد بن هشام، فمات في حبسه. انظر: "ديوانه" (٧)، "خزانة الأدب" ١/ ٩٨، "الشعر والشعراء" ٣٨١، العرجي وشعر الغزل في العصر الأموي: لوليم نقولا (١٠٣)، "الأغاني" ١/ ١٤٧.
132
فإن شِئْتِ حرَّمْتُ النِّساءَ سواكُمُ وإنْ شِئْتِ لم نطعمْ نُقاحاً ولا بَرْدا (١)
قال (٢): النقاخ: الماء العذب، والبرد: النوم (٣).
وجعل أبو إسحاق البرد برد كل شيء له راحة، فقال: لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نوم (٤).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ معنى تفسيره في سورة ص (٥)، والاستثناء من غير الجنس (٦).
(١) ورد البيت في "ديوانه" ١٠٩ برواية: أحرمت، وأطعم. وانظر: "تهذيب اللغة" ١٤، ١٥ (برد)، "لسان العرب" ٣/ ٨٥.
(٢) أي الزهري.
(٣) "تهذيب اللغة" المرجع السابق.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٣ بتصرف يسير.
والقول: إن البرد هو النوم قد رده النحاس، قال: لأن البرد ليس باسم من أسماء النوم، وإنما يحتال فيه، فيقال للنوم برد؛ لأنه يهدئ العطش، ثم قال: والواجب أن يحمل تفسير كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ على الظاهر والمعروف من المعاني، إلا أن يقع دليل على غير ذلك. ثم قال في معنى الآية: أي لا يذوقون فيها بردًا يبرد عنهم السعير. "إعراب القرآن" ٥/ ١٣١ - ١٣٢.
(٥) سورة ص: ٥٧، قال تعالى: ﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾. ومما جاء في تفسير الحميم، والغساق -من هذه السورة-: (قال مقاتل: حميم: يعني الحار الذي قد انتهى حره، و"غساقاً" يعني البارد الذي قد انتهى برده، ينطلق بهم من الحر إلى البرد، فتتقطع جلودهم، ويحرق البارد كما يحرق الحار. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعونه من برده. وقال ابن عباس: هو الزمهرير برده، يحرق كما يحرق النار. وقال الفراء: الغساق هو بارد يحرق حراق الحميم، وقال الزجاج نحواً منه. وذكر الأزهري أن الغاسق: البارد. وهناك تفسير ثانٍ لمعنى (غساق)، وهو أنه المنتن. قال به ابن بريدة، والليث. وقول ثالث في (الغساق) أنه ما سال من جلود أهل النار، والموافق للغة، يقال: غسقت عينه إذا انصبت، الغساق: الإنصاب).
(٦) أي أنه استثناء منقطع، وهذا في قول من جعل البرد: النوم. انظر: "البيان في =
قوله تعالى: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ قال مقاتل: يقول وافق عذاب النار الشرك؛ لأنهما عظيمان، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار (١). وهذا معنى قول مجاهد: وافق الجزاء العمل (٢).
قال الزجاج: أي جُوزوا جزاء وفق أعمالهم (٣).
قال الأخفش: يقول: وافق أعمالهم وفاقاً، كما تقول: قاتل قتالاً (٤).
وعلى هذا: (وفاقاً) ينتصب انتصاباً (٥)، ويجوز أن يكون نعتاً لقوله: (جزاء)، ويكون معنى (وفاقاً) موافقاً.
ثم أخبر عنهم فقال:
٢٧ - ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ لا يخافون أن يحاسبوا. قاله مقاتل (٦)، والمفسرون (٧).
= غريب إعراب القرآن" لابن الأنباري ٢/ ٤٩٠.
(١) ورد معنى قوله في "تفسير مقاتل" ٢٢٥/ ب، "الكشف والبيان" ١٣/ ٢٩/ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٩.
(٢) تفسير الإمام مجاهد ٦٩٥، "جامع البيان" ٣٠/ ١٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٤ نقله عنه بإضافة (جزاء).
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٧٢٧ بمعناه.
(٥) أي أن (وفاقاً) مصدر فعله مضمر، أي فوافق عملهم وفاقاً. انظر: "غرائب التفسير" ٢/ ١٢٩٧.
(٦) "تفسير مقاتل" ٢٢٥/ ب، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٧.
(٧) قال بذلك: قتادة، ومجاهد. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ١٦، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٧، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٧. وحكى القول عن المفسرين ابن الجوزي في "زاد المسير" ٨/ ١٦٥. وبه قال الثعلبي في "الكشف والبيان" ج ١٣/ ٢٩/ أ، والبغوي في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٩، وعزاه ابن عطية إلى أبي عبيدة في "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٧.
وقال الزجاج: معناه لا يؤمنون بالبعث، ولا بأنهم محاسبون فيرجون ثواب حسناتهم (١).
﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ قال ابن عباس: بما جاءت به الأنبياء (٢).
﴿كِذَّابًا﴾ (تكذيباً، وفعال من مصادر التفعيل، وأنشد الزجاج:
لقد طال ما ريَّثْتِني عن صحابتي وعن حِوج قَضَّاؤُها من شِفائيا (٣)
من قضيت قضاء) (٤).
وقال الفراء: هي لغة فصيحة يمانية (٥)، وكل فعَّلتُ فمصدره في لغتهم: فِعَّال، نحو: خرَّقت القميص خِرَّاقاً، وقال لي أعرابي منهم (٦): على المروة (٧) يستفتيني الحلق أحب [إليك] (٨) أم القصَّار (٩).
٢٩ - قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ قال أبو إسحاق: (كل) منصوب بفعل
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٤ بيسير جداً من التصرف.
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد ورد في "الوسيط" بمثله من غير عزو ٤/ ٤١٥.
(٣) البيت لبعض بني كلاب. وقد ورد تحت مادة (قضى) في "لسان العرب" ١٥/ ١٨٨، و"تاج العروس" ١٩/ ٢٩٩، وكلاهما برواية (ما لبثتني). وفي "جامع البيان" ٣٠/ ١٦، "الكشف والبيان" ج ١٣/ ٢٩/ أ، "البحر المحيط" ٨/ ٤١٤، "روح المعاني" ٣٠/ ١٦، وجميعها برواية (ما ثبطتني).
(٤) ما بين القوسين من قول الزجاج. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٤ بتصرف.
(٥) يعني قراءة: (كذاباً) بالتشديد، وقد أجمع القراء على قراءة (كِذَّاباً) بتشديد الذال. انظر: "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٤٢، "جامع البيان" ٣٠/ ١٦.
(٦) أي من اليمن.
(٧) المروة: جبل بمكة مائل إلى الحمرة. "معجم البلدان" ٥/ ١١٦.
(٨) في (أ): إلى، والمثبت من "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٩.
(٩) "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٩ بنصه.
مضمرٍ تفسيره: (أحصيناه)، المعنى: وأحصيناه كل شيء (١).
قوله: ﴿كِتَابًا﴾ (توكيد ل: (أحصيناه)؛ لأن معنى أحصيناه، وكتبناه واحد فيما يحصل ويثبت، فالمعنى: كتبناه كتابًا) (٢).
قال المفسرون (٣): وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ، كقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ١٢].
٣٠ - قوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾، أي فيقال لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون، فلن نزيدكم إلا عذاباً.
قال الضحاك: هي أشد آية سمعها أهل النار، كلما استغاثوا من نوع العذاب أغيثوا بأشد منه (٤).
٣١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ قال ابن عباس: يعني: الذين لم يجعلوا لله شريكاً (٥)، والمفاز: مصدر كالفوز، والمعنى: أن لهم فوزاً بالنجاة، ونجاة من النار، وهو معنى قول المفسرين (٦).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٤ نقله عنه باختصار.
(٢) ما بين القوسين من قول الزجاج نقله الواحدي بنصه انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٤ أي أنه منصوب على المصدر في قوله: (أحصيناه) مصدر أثبتناه وكتبناه، كأنه قيل: وكل شيء كتبنا كتاباً.
انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ١٧. وقيل: إنه منتصب على الحال؛ أي مكتوباً. انظر: "فتح القدير" ٥/ ٣٦٧، "روح المعاني" ٣٠/ ١٧.
(٣) حكاه من المفسرين أيضًا: ابن الجوزي في "زاد المسير" ٨/ ١٦٦، وإليه ذهب البغوي في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٣٩.
(٤) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٥) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٦) قال بذلك: قتادة، ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٣، "جامع البيان" ٣٠/ ١٧، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٨، "زاد المسير" ٨/ ١٦٦، "تفسير القرآن =
136
ثم فسر ذلك الفوز فقال: ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾ يعني أشجار الجنة وثمارها. ﴿وَكَوَاعِبَ﴾ جمع كاعب (١)، وهي النواهد (٢).
قال مجاهد (٣)، ومقاتل (٤): يعني: النواهد.
وقال الكلبي: المفلكات (٥)، وهن اللواتي تكعبت ثديهن، وتفلكت (٦).
ومعنى تفسير الأتراب في سورة ص (٧).
= العظيم" ٤/ ٤٩٥، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٨، "تفسير الإمام مجاهد" ٦٩٦، وبه قال الطبري في "جامع البيان" ٣٠/ ١٧. وإلى هذا القول ذهب أيضًا: القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨١، الخازن في "لباب التأويل" ٤/ ٣٤٨. وأصل الفاء، والواو، والزاي: كلمتان متضادتان، فالأولى: النجاة، والآخرة: الهلكة. انظر: "مقاييس اللغة" ٤/ ٤٥٩.
(١) الكاعب هي: الجارية التي كَعَب ثدياها، وكعَّب بالتشديد، والتخفيف، والجمع: الكواعب. انظر (كعب) في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٢٥، "لسان العرب" ١/ ٧١٩.
(٢) الناهد: نهد الثدي ينهد نُهودًا -بالضم-: إذا كعب وارتفع، يقال: نهد الثدي إذا ارتفع عن الصدر، وصار له حجم. "تاج العروس" ٢/ ٥١٩ (نهد).
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٤) لم أعثر على مصدر لقوله. وقد قال بمثله ابن عباس كما في "جامع البيان" ٣٠/ ١٨.
(٥) فَلَّك ثديُ الجارية تفليكًا، وتفلَّك: استدار. انظر: (ذلك) في "الصحاح" ٤/ ١٦٠٤، "لسان العرب" ١٠/ ٤٧٨.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٧) سورة -صلى الله عليه وسلم- ٥٢. قال تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف أتراب) ومما جاء في تفسير أتراب قوله: (أتراب: جمع ترب، وهو اللِّدة. قال أبو عبيدة: أتراب: أسنانهن واحدة، قال ابن عباس، والمفسرون: (أتراب): مستويات على سن واحد، وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين. وقال مجاهد: أتراب: أمثال. وقال النحويون: أي هن في غاية الشباب والحسن).
137
﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ قال الليث: أدهقت الكأس إذا ملأتها جداً (١)، وكأس دهاق: ممتلئة (٢).
وكذلك قال الكسائي (٣)، والمبرد (٤)، قالوا: هي الملأى تطفح، وليس فيها فضل مخلى، وأنشد المبرد قوله:
ألا اسقني صرفاً سقاك الساقي من مائها بكأسة ماء الدهاق (٥)
[وقال] (٦) ابن عباس: الدهاق: الملأى المترعة التي إذا زدتها فاضت (٧).
(١) ذكر الأزهري معنى هذا القول من غير نسبة قال: (وقال غيره: أدهقت الكأس إلى أضبارها، أي ملأتها إلى أعاليها. وعبارة الليث: أدهقتها: شددت ملأها، قال: والدَّهْدقة: دوران البضع الكثير في القدر إذا غلت، تراها تعلو مرة وتسفل أخرى). "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٩٤ (دهق).
(٢) "تهذيب اللغة" المرجع السابق. وقال ابن فارس: (الدال، والهاء، والقاف: يدل على امتلاء في مجيء وذهاب، واضطراب، يقال: أدهقت الكأس ملأتُها). "مقاييس اللغة": ٢/ ٣٠٧ (دهق). وانظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" ٢/ ١٤٥ (دهق).
(٣) بمعناه في "التفسير الكبير" ٣١/ ٢١، وعبارته: ممتلئة.
(٤) المرجع السابق، وبنفس العبارة أيضًا.
(٥) ورد البيت غير منسوب في "فتح القدير" ٥/ ٣٦٩. ولم أعثر على مصدر لقول المبرد فيما بين يدي من كتبه.
(٦) ساقطة من: أ، وقد أثبت ما رأيت فيه استقامة المعنى.
(٧) ورد قوله مختصرًا في "جامع البيان" ٣٠/ ١٩، "زاد المسير" ٨/ ١٦٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨١، "لباب التأويل" ٤/ ٣٤٨، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٨، "روح المعاني" ٣٠/ ١٨. وانظر: "صحيح البخاري" ٢/ ٤٣١، كتاب بدء الخلق: باب: ٨، و"تفسير ابن عباس" للحميدي: ٢/ ٩٦٣. وانظر: "كتاب البعث" ٢٠٧، رقم: ٣٢٢.
138
قال (١) مسلم (٢): دعا ابن عباس غلاماً له، فقال: اسقنا دهاقاً، قال: فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدهاق (٣).
قال عكرمة: وربما سمعت ابن عباس يقول: اسقنا، وأدهق لنا (٤). وقال آخرون (٥): هي المتتابعة.
وأهل اللغة على القول الأول، وأصل القول الثاني من قول العرب: (ادَّهقت الحجارة ادِّهاقاً، وهو شدةٌ تلازمها، ودخول بعضها في بعض) (٦). والمتتابع كالمتداخل.
عكرمة في قوله: (وكأساً دهاقاً) قال: هي الصافية (٧).
(١) في (أ): ابن، والصواب حذفها؛ لأن الرواية وردت بنصها عند الطبري: ٣٠/ ١٨ عن مسلم، وليس ابن مسلم، وكذا في "الوسيط" ٤/ ٤١٥.
(٢) هو: مسلم بن نَسْطاس، روى عن عبيدة السلماني، وأبي البختري، وروى عنه يحيى بن ميسرة، نا عبد الرحمن، قال: سمعت أبي يقول: أرى أنهما واحد، وكان البخاري قد فرقهما. انظر: كتاب "الجرح والتعديل" ٨/ ١٩٧ ت ٨٦١، كتاب " التاريخ الكبير" ٧/ ٢٧٤: ت: ١١٥٩.
(٣) "جامع البيان" ٣٠/ ١٨، "التفسير الكبير" ٣١/ ٢١، "البعث" ٢٠٧ ح ٣٢٣.
(٤) "التفسير الكبير" ٣١/ ٢١، "تفسير ابن عباس" ٢/ ٩٦٤. وانظر: "المستدرك" ٢/ ٥١٢ "كتاب التفسير". وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(٥) منهم سعيد بن جبير، وابن عباس، ومجاهد، وعطية، والعباس بن عبد المطلب، وإبراهيم النخعي، وأبو هريرة، وعكرمة، والضحاك. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ١٩، "بحر العلوم" ٣/ ٤٤٠، "الكشف والبيان" ج ٢٩١٣/ ب، "زاد المسير" ٨/ ١٦٦، "التفسير الكبير" ٣١/ ٢١، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨١، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٨.
(٦) ما بين القوسين نقله عن "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٩٤ (دهق)، وهو من قول الليث، وانظر: "لسان العرب" ١٠/ ١٠٦ - ١٠٧ (دهق).
(٧) "جامع البيان" ٣٠/ ١٩، "التفسير الكبير" ٣١/ ٢١، "تفسير القرآن العظيم" =
139
والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع (دَهَقٍ، وهو خشبتان يغمز بها ويعصر) (١).
والمراد بـ (الكأس) الخمر.
قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر (٢)، ويكون التقدير: وخمراً ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بها فقال:
٣٥ - قوله تعالى: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾ قال مقاتل: يعني في الجنة إذا شربوها (٣).
﴿لَغْوًا﴾ باطلاً من الكلام (٤).
﴿وَلَا كِذَّابًا﴾ لا يكذب بعضهم بعضاً (٥).
قال ابن عباس: وذلك أن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم، ولم يتكلموا عليها بشيء يكرهه (٦).
وذكرنا آنفاً تفسير (الكذاب) (٧).
= ٤/ ٤٩٦، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٩، "روح المعاني" ٣٠/ ١٨.
(١) نقله عن "تهذيب اللغة" ٥/ ٣٩٤ (دهق)، وهو قول الليث، والعبارة عنه: قال: الدّهق: خشبان يُغْمزُ بهما الساق. وانظر: "لسان العرب" ١٠/ ١٠٦ (دهق).
(٢) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٨.
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٤) قال بذلك: قتادة. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠، "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٤٣.
(٥) قال بذلك: سعيد بن جبير. انظر: "النكت والعيون" ٦/ ١٨٩.
(٦) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٧) راجع آية: ٢٨ من هذه السورة.
140
وروي عن الكسائي التخفيف في هذه الآية (١).
قال الفراء: لأن (كذاباً) في هذه الآية ليس بمقيد بفعل يوجب تشديده، كما في قوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ [النبأ: ٢٨]، وكذبوا يقيد الكذاب بالمصدر، والتخفيف -هاهنا- حسن، والمعنى: لا يكذب بعضهم بعضاً (٢).
ونحو هذا قال أبو عبيدة (٣) في الكذاب، مخفف أنه مصدر المكاذبة، وأنشد للأعشى:
فصَدَّقْتُها وكَذَّبْتُها والمرء ينفعُه كِذابُهْ (٤)
وهو قول الأخفش، قال: هو مثل قولك: قاتل قِتالاً (٥).
(١) انظر: "السبعة في القراءات" لابن مجاهد ٦٦٩، "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٤٢، "الحجة" ٦/ ٣٦٩، "المبسوط" ٣٩٣، "حجة القراءات" ٧٤٦، "كتاب التبصرة" ٧١٩. وقرأ الباقون بالتشديد. انظر المراجع السابقة.
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٢٢٩ بتصرف.
(٣) في (أ): أبو عبيد، والأظهر أنه أبو عبيدة، وقد ورد قوله في المجاز بنحو مما أورده الواحدي. انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٨٣.
(٤) لم أعثر عليه في ديوانه، وقد ورد البيت بالإضافة إلى المجاز في "المخصص" ١٤/ ١٢٨، "لسان العرب" ١٠/ ١٩٣ (صدق)، "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠، "الكشف والبيان" ج ١٣/ ٣٠/ أ، "النكت والعيون" ٦/ ١٨٨، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٢٨، "زاد المسير" ٨/ ١٦٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٧٩، "البحر المحيط" ٨/ ٤١٤، "إعراب القرآن" للنحاس ٥/ ١٣٣، "الكامل" ٢/ ٧٤٧، "الدر المصون" ٦/ ٤٦٦، "شرح المفصل" لابن يعيش ٦/ ٤٤، "روح المعاني" ٣٠/ ١٦، "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٤٣، "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ١٧٤.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٧٢٧، وعبارته: وعلى هذا القياس تقول: قاتل قيتالاً، وهو من كلام العرب.
141
وقال أبو علي الفارسي: (كِذّابًا) مصدر كذب، كالكتاب في مصدر كتب (١).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّك﴾ قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاء، وكذلك (عطاء)؛ لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد (٢).
قوله تعالى: ﴿حِسَابًا﴾ قال أبو عبيدة: كافياً، يقال: أعطاني ما أحسبني، أي ما كفاني (٣).
قال ابن قتيبة: (عطاء حِساباً) أي كثيرًا، وأحسبت فلاناً، أي أكثرت له. قال الشاعر:
ونُقْفي وليدَ الحيِّ إن كان جائعاً ونُحْسِبُه إن كان ليس بجائع (٤)
قال: ونرى أن أصل هذا أن تقول: حسبي، حسبي (٥).
وقال الزجاج: (حِساباً) معناه: ما يكفيهم، أي فيه كل ما يشتهون،
(١) "الحجة" ٦/ ٣٧٠ بتصرف يسير.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٥ بتصرف يسير.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ٢٨٣ بنصه.
(٤) ورد البيت منسوبًا إلى امرأة من بني قشير في شعراء بني قشير في الجاهلية والإِسلام: القسم الثاني (٢٥٤) رقم (١٩٢)، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٦٠ (حسب)، "تفسير غريب القرآن" ١٧، "سمط اللآلي" ٨٩٩. وورد غير منسوب في "الصحاح" ١/ ١١٠ (حسب)، "لسان العرب" ١/ ٣١٢ (حسب)، و١٥/ ١٩٧ (قفا)، "الأمالي" للقالي: ٢/ ٢٦٢، "التفسير الكبير" ٣١/ ٢٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٢، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٩. ومعنى البيت: أي نعطيه حتى يقول حسبي، وقولها: نُقفيه: أي نؤثره بالقفيَّة، ويقال لها: القفاوة أيضًا، وهي ما يؤثر به الضيف والصَّبيّ. انظر: "شعراء بني قشير" المرجع السابق.
(٥) "تفسير غريب القرآن" ٥١٠ بتصرف يسير.
142
فقال: أحْسَبَني كذا وكذا، بمعنى كفاني (١).
وهذا معنى قول قتادة: (عطاء حساباً) عطاء كبيرًا (٢).
وقال الكلبي: يعني حاسبتهم بالحسنة واحدة، وجزاؤها كبير (٣).
وقال مجاهد: حساباً بأعمالهم (٤). ونحو هذا قال مقاتل (٥).
وعلى قول هؤلاء هو من الحساب الذي بمعنى العد.
قال صاحب النظم: قد اختُلف في قوله: (حساباً) على وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم: أحسبني الشيء، أي كفاني، وحسبي هو، ومنه قوله:
فما حللت به ضمني قائـ ـلاً جميلاً وأعطى حسابا (٦)
أي أعطاني ما كفاني.
والوجه الآخر: أن يكون قوله: (حساباً) مأخوذاً من حسبت الشيء إذا عددته، وقدرته، فيكون بمعنى: (عطاء حساباً)، أي بقدر ما وجب لك فيما وعده من الإضعاف؛ لأنه عز وجلَّ قدر الجزاء على ثلاثة أوجه: وجه
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٥ بتصرف يسير.
(٢) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٣، "جامع البيان" ٣٠/ ٢١، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٩ وعزاه إلى ابن المنذر، وعبد بن حميد.
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٤) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٣، "جامع البيان" ٣٠/ ٢١، بمعناه في "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٣، "فتح القدير" ٥/ ٣٦٩، "الدر المنثور" ٣٩٩ بمعناه، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٥) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٦) غير مقروء في (أ)، ولم أعثر على مصدر له أو لقائله.
143
منها على عشرة أضعاف (١)، ووجه على سبع مائة ضعف (٢)، ووجه على ما لا مقدار له، كما قال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠] (٣).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ﴾ فيه ثلاثة أوجه من القراءة: (الرفع في: (ربّ السموات)، و (الرحمن) (٤)، والخفض فيهما (٥)، والخفض في الأول، والرفع في الثاني (٦)، فمن رفع قطع الأول من الخبر الذي قبله في قولك: (من ربك) فابتدأه، وجعل: (الرحمن) خبره، ثم استأنف: (لا يملكون منه).
ومن خفضهما أتبع الاسمين الجر الذي قبلهما، ومن خفض الأول دون الثاني أتبع الأول الجر الذي قبله، واستأنف بقوله: ﴿الرَّحْمَنِ﴾، وجعل قوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ﴾ في موضع خبر، فقال: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ (٧).
(١) نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠].
(٢) نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٦١].
(٣) "التفسير الكبير" ٢٣/ ٣١ من غير نسبة. وقد جاء في "مقاييس اللغة" أن الحاء، والسين، والباء: أصول أربعة: فالأول: العد، والثاني: الكفاية، والثالث: الحسبان، وهو جمع حُسبانة، وهي الوسادة الصغيرة، والأصل الرابع: الأحسب: الذي ابيضت جِلدته من داء، ففسدت شعرته كانه أبرص. ٢/ ٥٩ - ٦١ (حسب). وانظر أيضًا: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٨، "لسان العرب" ١/ ٣١٠ (حسب).
(٤) قرأ بذلك ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو. انظر: "الحجة" ٦/ ٣٧٠،"حجة القراءات" ٧٤٧، "كتاب التبصرة" ٧١٩، " إتحاف فضلاء البشر" ٤٣١.
(٥) قرأ بذلك: ابن عامر، وعاصم. انظر: المراجع السابقة.
(٦) قرأ بذلك: حمزة، والكسائي. انظر: المراجع السابقة.
(٧) ما بين القوسين نقله عن أبي علي الفارسي في "الحجة" ٦/ ٣٧٠.
ومعني: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ قال مقاتل: يقول: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه (١).
وهذا كقوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [هود: ١٠٥]. وهذا كقوله: عام في كل أحد إلا من استثني في قوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [هود: ١٠٥]) (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد: لا يخاطب المشركون، والمؤمنون يشفعون ويخاطبون، فيقبل الله ذلك منهم (٣)، وهذا يوجب أن قوله: (لا يملكون منه خطاباً) للكفار (٤).
ومعنى: (لا يملكون) من الله أن يخاطبوه؛ لأنه لم يأذن لهم، يدل على هذا قوله:
٣٨ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾
(١) ورد معناه في "تفسير مقاتل" ٢٢٦/ ب، كما ورد قوله في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٤٠، "زاد المسير" ٨/ ١٦٧.
(٢) ما بين القوسين نقله بمعناه عن أبي علي الفارسي. انظر: "الحجة" ٦/ ٣٧٠.
(٣) "التفسير الكبير" ٣١/ ٢٣، "البحر المحيط" ٨/ ٤١٥.
(٤) والقول: إن الذين لا يملكون منه خطاباً أنهم الكفار، قد خطأه ابن تيمية؛ بل اعتبره قول مبتدع، قال: (إنه قول مبتدع، وهو خطأ محض؛ لأنه لم يذكر في قوله: (لا يملكون منه خطاباً) استثناء، فإن أحداً لا يملك من الله خطاباً مطلقاً؛ إذ المخلوق لا يملك شيئاً يشارك فيه الخالق، ولكن الله إذا أذن لهم شفعوا من غير أن يكون ذلك مملوكاً لهم، وكذلك قوله: (لا يملكون منه خطاباً)، وهذا قول السلف، وجمهور المفسرين، وهو الصحيح). وذكر أيضًا جواباً آخر، فليراجع في ذلك كله: "مجموع الفتاوى" ١٤/ ٣٩٧ - ٣٩٨.
145
وانتصب قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ بالظرف، والعامل فيه قوله: (يملكون) (١).
اختلفوا في الروح المذكور -هاهنا-، فروى مجاهد عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هو جند من جند الله؛ ليسوا بملائكة، لهم رؤوس وأيد، وأرجل، يأكلون الطعام، ثم قرأ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ فقال: هؤلاء جند، وهؤلاء جند" (٢).
وهذا قول مجاهد (٣)، وأبي صالح (٤)، وقتادة، قال: هم خلق على صور بني آدم، كالناس، وليسوا بالناس (٥).
(١) انظر: "الدر المصون" ٦/ ٤٦٨.
(٢) وردت هذه الرواية في "الكشف والبيان" ١٣/ ٣٠/ ب، "زاد المسير" ٨/ ١٦٧ مختصرًا، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٦ بمعناه، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٩ وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، "روح المعاني" ٣٠/ ٢٠، وقد أوردها الماوردي عند تفسيره لآية سورة القدر ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ ٦/ ٣١٣.
(٣) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٥، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٦، "الدر المنثور" ٨/ ٣٩٩ وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ في العظمة، "روح المعاني" ٣٠/ ٢٠.
(٤) المراجع السابقة عدا "تفسير عبد الرزاق". وانظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي ٢/ ١٠٥ باب ما جاء في تفسير الروح، كتاب "الزهد والرقائق" لابن المبارك (٤٦٤) ح ١٣١٦.
(٥) بمعناه ورد في "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٣، "جامع البيان" ٣٠/ ٢٣، "بحر العلوم" ٣/ ٤٤١، "النكت والعيون" ٦/ ١٩٠، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٤٠، "فتح القدير" ٥/ ٣٧٠. وذهب أيضًا مجاهد، وأبو صالح إلى هذا القول. انظر المراجع السابقة عدا "النكت والعيون". وانظر: "الكشف والبيان" ٣١١٣/ أ، "زاد المسير" ٨/ ١٦٧.
146
وقال عطاء عن ابن عباس: الروح ملك من الملائكة، ما خلق الله مخلوقاً بعد العرش أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم (١).
قال الشعبي: هو جبريل عليه السلام (٢).
وقال الحسن: الروح: بنو آدم (٣). وعلى هذا معناه ذوو الروح.
وقوله: ﴿صَفًّا﴾ يجوز أن يكون المعنى: أن الروح على الاختلاف الذي ذكرنا، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً.
والصف في الأول مصدر، فينبني عن الواحد، والجمع كالعدل والزور، وظاهر قول المفسرين (٤) أنهم يقومون صفين: الروح صف، والملائكة صف.
وقال ابن قتيبة: صفوفاً، ويقال ليوم العيد: يوم الصف (٥).
(١) "النكت والعيون" ٦/ ١٩٠ مختصرًا، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٤٠، "زاد المسير" ٨/ ١٦٨، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٦ مختصرًا.
(٢) "جامع البيان" ٣٠/ ٢٢، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٤٠، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٦.
(٣) المراجع السابقة بالإضافة إلى "زاد المسير" ٨/ ١٦٨، وانظر: "تفسير الحسن البصري" ٢/ ٣٩٢.
قال ابن كثير: (وتوقف ابن جرير، فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها، والأشبه عنده -والله أعلم- أنهم بنو آدم". "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٤٩٧، وانظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٢٣ - ٢٤.
(٤) قال بذلك الحسن، والشعبي. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٢٤، "النكت والعيون" ٦/ ١٩٠، "زاد المسير" ٨/ ١٦٨.
(٥) "تفسير غريب القرآن" ٥١١ بنصه.
147
وقوله: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ الظاهر أن هذا من صفة الملائكة الذين يقومون صفاً.
والمعنى: أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله، فمن أذن له الرحمن وقال: ﴿صَوَابًا﴾ تكلم.
ومعنى الصواب: شهادة أن لا إله إلا الله في قول ابن عباس (١).
والمفسرون قالوا: هو التوحيد، ونفي الشرك، وتنزيه الله عزَّ وجلَّ عن كل فرية (٢).
والصواب هو السداد من الفعل والقول (٣)، يقال: فعل صواباً، وقال صواباً، وهو اسم من أصاب يصيب إصابة، كالجواب من أجاب يجيب إجابة (٤).
ويجوز أن يكون الاستثناء من جميع الخلق على قول من قال: لا يملكون منه خطاباً للخلق كلهم، فاستثنى من ملك منهم الخطاب، وهو الذي يتكلم بإذنه، وقال في الدنيا صواباً، أي شهد بالتوحيد، وهم المؤمنون.
(١) "جامع البيان" ٣٠/ ٢٤، "النكت والعيون" ٦/ ١٩٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٥، "الدر المنثور" ٨/ ٤٠١، "الأسماء والصفات" ١/ ١٨٦.
(٢) حكى هذا القول ابن الجوزي عن أكثر المفسرين. انظر: "زاد المسير" ٨/ ١٦٨.
(٣) وعن ابن فارس: (الصواب أجل صحيح يدل على نزول شيء واستقراره قراره، من ذلك الصواب في القول والفعل، كأنه أمر نازل مستقر قراره، وهو خلاف الخطأ). "مقاييس اللغة" ٣/ ٣١٧ (صوب).
(٤) ورد من قوله: والصواب إلى: يجيب إجابة: في "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٦ من غير عزو.
148
وقال مقاتل: لا يتكلمون بالشفاعة، يعني الملائكة (١).
﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ أي حقاً، وهو التوحيد، وهذا معنى قول ابن عباس، يريد: يشفعون لمن قال: لا إله إلا الله، وهذا قول بعيد، واللفظ لا يدل على هذا المعنى إلا باستكراه.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ أي الكائن الواقع، يعني يوم القيامة.
ويجوز أن يكون المعنى أن الشكوك زائلة في ذلك اليوم، وكل من يرتاب فيه عرف باطله، وأن ذلك اليوم الحق، فهو اليوم الحق عند كل أحد، وهذا معنى قول عطاء (٢).
ثم حض العباد على الطاعة:
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ أي مرجعاً بالطاعة، أي فمن شاء رجع إلى الله بطاعته قبل ذلك اليوم، والظاهر أن فعل المشيئة مسند إلى (من).
وقال عطاء عن ابن عباس: فمن شاء الله أن يهديه ﴿اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ (٣)
ثم خوف كفار مكة فقال:
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت فهو قريب، ويدل على أن المراد عذاب الآخرة فقال:
٤٠ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ يجوز أن يكون:
(١) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٢) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٣) بنحوه في "التفسير الكبير" ٣١/ ٢٦.
149
ينظر إلى ما قدمت، فحذف (إلى). قاله الأخفش (١).
والظاهر أن (المرء) عام في كل أحد؛ لأن كل أحد يرى ذلك اليوم ما كسب، وقدم وأخر من خير وشر مثبتاً عليه في صحيفته.
وقال عطاء: هو أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط (٢).
وقال الحسن: هو المرء المؤمن (٣). يرى عمله، فيرجو ثواب الله على صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله، وأما الكافر فإنه يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾.
قال جماعة المفسرين (٤): وذلك أن الله تعالى يحشر الدواب، والبهائم، والوحش، فيقتص لبعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني تراباً، فيتمنى الكافر عند ذلك أنه كان تراباً، وكان واحداً من الوحش: خنزيراً، أو ما كان فلا يحاسب بعمله، ويصير تراباً.
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٧٢٧ بنصه، وقد حكاه الأخفش عن بعضهم.
(٢) ذكر في "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٦ من غير نسبة، وكذا في "فتح القدير" ٥/ ٣٧٠.
(٣) "جامع البيان" ٣٠/ ٢٥، "التفسير الكبير" ٣١/ ٢٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١٩/ ١٨٦، "الدر المنثور" ٨/ ٤٠١ وعزاه إلى ابن المنذر، "القطع والائتناف" ٢/ ٧٨٥، "فتح القدير" ٥/ ٣٧٠، "روح المعاني" ٣٠/ ٢٢. وانظر: "تفسير الحسن البصري" ٢/ ٣٩٢.
(٤) ممن قال بمعنى هذه الرواية من غير تمنيه أن يكون خنزيراً: أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، ومجاهد، والحسن، وعن أحد المقاتلين. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤٤، "جامع البيان" ٣٠/ ٢٦، "الكشف والبيان" ج ١٣، ٣١/ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٤٠، "فتح القدير" ٥/ ٣٧١، "تفسير الحسن البصري" ٢/ ٣٩٢، "روح المعاني" ٣٠/ ٢٢. وبنحوه هذه الرواية وردت عن أحد المقاتلين في "معالم التنزيل" ٤/ ٤٤٠.
150
قال أبو إسحاق: وقيل إن معنى: (يا ليتني كنت تراباً): أي ليتني لم أبعث (١).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٧٦ بنصه.
151
سورة النَّازعات
153
Icon