تفسير سورة النبأ

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة النبأ
وتسمى سورة عم وعم يتساءلون، والتساؤل، والمعصرات، وهي مكية بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرها ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دل ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك ألم نهلك الأولين ألم نخلقكم من ماء مهين ألم نجعل الأرض كفاتا الخ وفي هذه ألم نجعل الأرض مهادا الخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر وأيضا في سورة المرسلات لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل وفي هذه أن يوم الفصل كان ميقاتا الخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها أه وقيل أنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه حديث بعده يؤمنون وكاد المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن ألمراد بالنبأ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النّبإ
وتسمى سورة عم وعم يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دلّ ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر وجه اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: ١٦] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: ٢٠] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [المرسلات: ٢٥] إلخ وفي هذه أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] إلخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر أيضا في سورة المرسلات لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات: ١٣] وفي هذه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧] إلخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها اهـ. وقيل إنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: ٢٥] وكان المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد بالنبإ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ أصله عما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الاتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم. وقد قرأ عبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الاستعمال وقال ابن جنّي إثبات الألف أضعف اللغتين
201
وعليه قوله:
علام قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
والاستفهام بالإيذان بفخامة شأن المسئول عنه وهو له وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن يَتَساءَلُونَ الضمير لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم للاستغناء عنه بحضورهم حسا مع ما في الترك على ما قيل من التحقير والإهانة لإشعاره بأن ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع المقام عنه، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه. «وما» كما مر غير مرة وإن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسئول عن ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الإرشاد أن صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه يرفع المتعدد على الفاعلية ترجيحا لجانب فاعليته وتحال مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم، أي رأى كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراؤوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا فيراد بها تعدده باعتبار تعدد متعلقة مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النجم: ٥٥] وذكر بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول أيضا لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكأس وتفاوضا الحديث، وعليه قول امرئ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فمن قال إن تفاعل لا يكون إلّا من اثنين ولا يكون إلّا لازما فقط غلط كما قال البطليوسي في شرح أدب الكاتب إن أراد ذلك على الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير متعدد الفاعل كتوانى زيد وتدانى الأمر وتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: ٦٣] كثير جدا وكذا مجيئه متعديا إلى غير الذي فعل به مثل فعله كما سمعت، وجوز أن يكون ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عموما سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيمانا، وسؤال غيرهم استهزاء ليزدادوا كفرا وطغيانا وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيات بعد. وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ إلخ ظاهر في أنه كان عن البعث وهو مروي عن قتادة أيضا لأنه من أدلته، وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الإخبار بالبعث فبعد أن ذكر ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض الدليل ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان لشأن المسئول عنه أثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإنّ إيراده على طريقة الاستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لانقطاع قرينه وانعدام نظيره خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم
202
قيل بطريق الجواب عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ على منهاج لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزالة التنزيل. وقال مكي إن ذلك بدل من ما الاستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في الكشف بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الاستفهام أولا. وقال الخفاجي: البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الاستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض. وقيل هو متعلق ب يَتَساءَلُونَ المذكور وعَمَّ متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية «عمه» بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا حسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام، ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقتان ب يَتَساءَلُونَ المذكور كأنه قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم. ونقله ابن عطية عن أكثر النحاة وقيل عَنِ النَّبَإِ متعلق بمحذوف وهناك استفهام مضمر كأنه قيل عَمَّ يَتَساءَلُونَ أيتساءلون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ووصف النبأ وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفِيهِ متعلق ب مُخْتَلِفُونَ قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا [المؤمنون: ٣٧] إلخ وشاك يقول ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] وقيل منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى. وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لإنكاره الصانع المختار تعالى شأنه، ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الاختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والاستهزاء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ وضميرهم للناس عامة وقيل: يجوز أن يكون الاختلاف بالإقرار والإنكار على كون ضمير يَتَساءَلُونَ للكفار أيضا بأن يجعل ضميرهم للسائلين والمسئولين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول. وقال مفتي الديار الرومية: الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق
والتسابق والانتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل «الذي هم فيه مخالفون» للنبي صلّى الله عليه وسلم انتهى. وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء، وقرأ عبد الله وابن جبير «تسّاءلون» بغير ياء وشد السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين.
كَلَّا ردع عن التساؤل على الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الاختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم في أمر البعث، وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إلى ما فيها. وقوله
203
سبحانه سَيَعْلَمُونَ وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقرب والتأكيد ومفعول «يعلمون» محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل، والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل. وقيل: هو ما ينبىء عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه على معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يديّ ربهم عزّ وجلّ وإلّا لم يظهر كون ما ذكر وعيدا ومن جعل ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين بالبعث الجازمين به، وجوز بعضهم كون كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردعا ووعدا على الارتداع والمراد ليرتدعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الارتداع، وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات. وقوله تعالى ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة. وثُمَّ للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وأشد وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله إنه من التوكيد اللفظي وإن توسط حرف العطف فلا تغفل. وقيل: الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء، والثاني إشارة إلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديد العقاب فثم في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه. والظاهر أن العطف على هذا وما قبله على مجموع كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف على سَيَعْلَمُونَ وأورد عليه أن ثُمَّ إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه لدفع التخصيص بلا مخصص أنه على الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتها بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون كَلَّا الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي عليه إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلّا سَيَعْلَمُونَ دون كَلَّا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الإنكار أي الصريح، وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما ترى. وقيل: متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء على إنكاره، وثُمَّ في محلها أي كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حقيقة البعث إذا بعثوا ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ الجزاء على إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا. وجوز أن يكون المتعلق مختلفا وثُمَّ للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحواله المؤمنين، والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والثاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى، وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا بناء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة وثُمَّ لذلك أيضا بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا للكافرين وهما متفاوتان رتبة، ولا يخفى عليك ما في ذلك.
وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر «ستعلمون» في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون إلخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع سن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلّى الله عليه وسلم. وعن الضحاك.
أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة. وقوله تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إلخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته إثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع، وجوز أن
204
يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكّون في البعث وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي و (المهاد) الفراش الموطأ.
وفي القاموس المهد الموضع الذي يهيأ للصبي كالمهاد وعليه فالمهد والمهاد بمعنى ويؤيده قراءة مجاهد وعيسى الهمداني «مهدا» وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمّي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير، أو لتقدير ذات مهاد أو مهد. وقيل: كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا سمّي المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ للمفعول كالإله والإمام وجعل الأرض مهادا إما في أصل الخلقة أو بعدها، وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم، وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد قال الأفوه:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وفي الحديث: «خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت فقالت الملائكة:
ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالت: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال:
نعم النار، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار؟ قال: نعم الماء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال: نعم الهواء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفي ذلك عن شماله»

. وظاهره كغيره أن خلق الجبال به خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس إن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حدث منها بطول الزمان:
إن الجديدين إذا ما استو ليا على جديد أسلماه للبلى
وربما يشاهد حدوث بعض تلاع حجرية من انجماد بعض المياه واستشكل احتياجها للإرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق، وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكون ويكون عليها من الأثقال ما يكون، ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز حجم ومركز ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق أو المغرب مثلا عليها تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر للمتحرك بعد قدر يحس به. وقيل: إنها كانت لخفتها بحيث يحركها أمواج البحر المحيط بها فيحصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا تحركها الأمواج. وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد مر فتذكر. وحكي عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سببا لانتظام أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما تهيأت
205
للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على محالية إرادة الظاهر. نعم قيل: إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعله كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به، وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك والارتباط فافهم. وَخَلَقْناكُمْ عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا إلخ أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا إلخ والالتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سَيَعْلَمُونَ للمبالغة في الإلزام والتبكيت أَزْواجاً قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش، وقيل: أصنافا في اللون والصورة واللسان، وقيل: يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة خلقنا كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم، والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: ٦٠] وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة، ويقال: سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه. وزعم ابن الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه كان أصم. وقيل:
أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والامتنان به لما فيه من عدم الانزعاج، وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا أي سكونا وراحة. يقال: سبت الرجل إذا استراح. وزعم ابن الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحساس فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلال، ومنه سمّي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم فيه، وقيل: سمّي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز وجل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمّي بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ الذي يقع فيه النوم غالبا لِباساً يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل. واختار غير واحد إرادة الأعم وأن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيون إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الاطّلاع عليه من كثير من الأمور. وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال:
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم وزارك فيه ذو الدلال المحجب
وقال بعضهم: يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة إخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلّى عريانا في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة.
206
ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق كما لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو: أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر، وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة. والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط. وقيل: المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل، ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الاستتار. وفي الكشف أن المطابقة بين قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وقوله سبحانه وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى وجعلنا النوم من حيث إن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحيّ ومنه علم أن قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه. وفيه تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهها بالقباب المبنية على سكنتها. وقيل: للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك. وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلنا سقفا في آية أخرى. وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن. كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرش مشابه لتحدب الأرض فيه، لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسّا فكذا سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية، وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا. وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم، وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته. بقي هاهنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة
المنكرون للعبث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة، فيقال: إن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة وهم المكذبون بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي،
207
وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها بعضا فقالوا في بادىء النظر بسبع سماوات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه. واعترض بأن هذا لا يتم إلّا إذا كانوا قائلين بأن السماء عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا، ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة، ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره. وقيل إنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه منافيا لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل، وقيل: نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد. وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى. واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة قد جعلنا الأرض إلى آخره وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عزّ وجلّ بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي ب «لم» أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل. وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إنه مع مراعاة الفواصل.
وَجَعَلْنا أي أنشأنا وأبدعنا سِراجاً وَهَّاجاً مشرقا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج. والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء.
ونصب سِراجاً على المفعولية ووَهَّاجاً على الوصفية له، وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه هنا ما يتعدى إليهما، وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وإن قيل السراج الشمس وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة. واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في السماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في البحر من عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوا.
والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج، وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف، وأيهما خفي لونه فهو منكسف. وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولا انكسافها بشيء من الكواكب غير القمر، فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفاتها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معا والبصر على خط واحد مستقيم وإلّا لم
208
يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والأبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للأبصار على ما نص عليه بطليموس في الاقتصاص. وذهب بعض من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وإن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة النظام على ما بيّن في موضعه ومال إليه بطليموس. قال في المجسطي: ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يعبد عنها إلا يسيرا، ثم قوي عزمه لما رأى بعد الشمس المعلوم من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأن لما وجد بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة. قال في الاقتصاص: مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير، وفي الثاني في أسفله، ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله. وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء، وأهل الإرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالى جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الاختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل إنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كما جزر إذا حان وقت جزاره، وأحصد إذا شارفت وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. قال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينا مائلا خمارها قد عصرت أو قد دنا إعصارها
وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لها أن تعصر أي تغيث، ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كيسان: سميت السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر، وقيل: إنها جمع لذلك أيضا إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة أنه الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر، وفسّرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل للنسبة إلّا الإعصار بالكسر وهي ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضا إلّا أنه قال: المعصرات السحائب ذوات الأعاصير فإنها لا بد أن تمطر معها، وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة «بالمعصرات» بباء السببية والآلية
209
فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل المال من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير الْمُعْصِراتِ بالرياح للتعليل. وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للإنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة أيضا أنها السماوات، وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأن السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب، ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر، ولو قيل المراد بالمعصر الذي حان له أن يعصل كان تكلفا على تكلف والذي في الكشف أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل ماءً ثَجَّاجاً أي منصبا بكثرة، يقال: ثج الماء إذا سال بكثرة، وثجه أي أساله فثجّ. ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في النظم الكريم من اللازم لأنه الأكثر في الاستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كأن الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج»
أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدي والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأبى الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلّا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية. وقرأ الأعرج «ثجاجا» بجيم ثم حاء مهملة ومثاجج الماء: مصابه.
لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده حَبًّا وَنَباتاً ما يقتات به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الإنسان وَجَنَّاتٍ جمع جنة وهي كل بستان ذي شجر يستره بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر. وقال الفراء: الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قوله زهير:
من النواضح تسقي جنة سحقا وهو المراد هنا وقوله تعالى أَلْفافاً أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة اختاره الزمخشري. وقال ابن قتيبة: جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع
210
الجمع، واستبعد بأنه لم يجىء في نظائره ذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجىء أخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل. وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعا لفاعل وفي الكشاف لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها انتهى. وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في الكشف فقال فيه إنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت (١) أما جمعه فلا لكن قيل إن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يتعرضوا له لقلته والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال باطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الاقليد أنه قال: أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
جنة لف وعيش مغدق... وندامى كلهم بيض زهر
وجوز في القاموس أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عزّ وجلّ فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى. الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل قد فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالة على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء. وقوله تعالى إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: ٧١، سبأ: ٣٩، يس: ٤٨، الملك: ٢٥] ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالا. وقال بعض الأجلة إنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل: إِنَّ إلخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي إن يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز وجل ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأيّا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي النفخة الثانية ويَوْمَ بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيته الفصل ومبادئه وآثاره وتقدم الكلام في الصور. وقرأ أبو عياض «في الصّور» بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضا.
والفاء في قوله تعالى فَتَأْتُونَ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية
(١) قوله أما جمعه فلا واللواقح والطوائح ليسا منه على ما قيل اه منه.
211
سرعة الإتيان كما في قوله تعالى فقلنا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: ٦٣] أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا أَفْواجاً أي أمما كل أمة بإمامها كما قال سبحانه يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها. واستدل لهذا بما
خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا؟ فقال: «يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة والسلام: «عشرة أصناف قد ميّزهم عز وجل من جماعة المسلمين فبدل صورهم، فبعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صمّ بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر»
. وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه، وعليه قيل لا بد من التغليب في قوله تعالى «تأتون». إذ لا يمكن الإتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه، وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشي بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية وَفُتِحَتِ السَّماءُ عطف على يُنْفَخُ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق. وعن الزمخشري أنه معطوف على فَتَأْتُونَ وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في الكشف وقال: الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيما وتحقيقا لوقوعه فهو أقرب قريب منه. ولو جعل حالا على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها. وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين «فتحت» بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى فَكانَتْ أَبْواباً وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] وقوله سبحانه إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١] إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضا. وجاء الفتح بهذا المعنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الإشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان معنى صار ولدلالتها على الانتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبوابا حقيقة قالوا إن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب، وقيل الفتح على ظاهره الكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كأن كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها، وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: ٢٥] فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضا فتح أبوابها ليس
212
من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم إن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد. وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وإن حقق الملا صدرا في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤول له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف.
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨] وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:
٥] فَكانَتْ سَراباً أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليست بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلّا من الجبال والسراب يرى على كل شيء وليس هو بذلك الشيء، وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٥، ٦] والمستفاد من الأزهار البديعة في علم الطبيعة لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكان أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض ولانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة، وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلّا صور حاصلة من انعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز وجل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما نطق به قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: ١٠٥- ١٠٨] وقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: ٤٨] فإن اتّباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلّا بعد النفخة الثانية، وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى. وقيل: إن تسييرها وصيرورتها سرابا عند النفخة الأولى أيضا ويأباه ظاهر الآية. نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم إنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً شروع في تفصيل أحكام الفصل الذي أضيف إليه اليوم إثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما، كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجميع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزانة النار الكفار ليعذبوهم. وقيل: ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في
213
مجازهم عليها. وقيل: ترصد فيه الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب (١) إحداهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمتحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفا، وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه. وفي البحر إن مِرْصاداً معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية، لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار. وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار. وقوله تعالى لِلطَّاغِينَ أي المتجاوزين الحد فيه الطغيان متعلق بمضمر إما نعت ل مِرْصاداً أي كائنا للطاغين وإما حال من قوله تعالى مَآباً قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة، وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو بمرصاد، وعليه قيل معنى مِرْصاداً لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعدت وكافأته بالخير أو بالشر ومَآباً قيل بدل من مِرْصاداً على جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل: هو خبر ثان لكانت أو صفة لمرصادا، ولِلطَّاغِينَ متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في كانَتْ مِرْصاداً فتأمل. وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر «أن جهنم» بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لإقامة الجزاء، وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون «أن للمتقين» أيضا بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بإقامة الجزاء إلّا أن يقال ترك العطف للإشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى لابِثِينَ فِيها أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في لِلطَّاغِينَ.
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح «لبثين» بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابِثِينَ وقال أبو حيان إن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على من شأنه ذلك كحاذر وحذر. وقوله تعالى أَحْقاباً ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر. وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال: الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن عمر. وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا إن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا.
وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون
وقيل أربعون سنة. وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة. واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأيّا ما كان فالمعنى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الاستعمال بشهادة الاشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف
(١) قوله لتعذب إحداهما وهي المؤمنة هكذا في خط المؤلف ولعل صوابه لتنقذ وانظره اه.
214
الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال، وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى، وتتابع الأحقاب القليلة كذلك. وقيل: إن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل إنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما، أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز. ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود. وقوله تعالى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [المائدة: ٣٧] إلى غير ذلك وإن جعل قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً حالا من المستكن في لابِثِينَ فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا، ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب. وكذا إن جعل أَحْقاباً منصوبا ب لا يَذُوقُونَ قيدا له إلّا أن فيه بعدا ومثله لو جعل لا يَذُوقُونَ فِيها إلخ صفة ل أَحْقاباً وضمير فِيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه. وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى. وقوله مقاتل إن ذلك منسوخ بقوله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فاسد كما لا يخفى. وجوز أن يكون أَحْقاباً جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذ قل مطره وخيره. والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير لابِثِينَ وقوله تعالى لا يَذُوقُونَ صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم. والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير، والشراب معروف، والحميم الماء الشديد الحرارة، والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيه شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا.
وفي الحديث «إن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع»
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ. ومنه قول حسان بن ثابت:
يسقون من ورد البريص عليهم بردا (١) يصفق بالرحيق السلسل
وقول الآخر:
أمانيّ من سعدى حسان كأنما سقتك بها سعدى على ظما بردا
فيكون وَلا شَراباً من نفي العام بعد الخاص. وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ
(١) قوله بردا النحويون ينشدون بيت حسان بردى بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث وهو نهر بدمشق اه منه.
215
النحوي: البرد النوم، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد وقال الشاعر:
فلو شئت حرمت النساء سواكم... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
أي وهو مجاز في ذلك عند بعض. ونقل في البحر عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل. وعن ابن عباس وأبي العالية: الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بَرْداً إلا أنه أخر لتوافق رؤوس الآي فلا تغفل. وقرأ غير واحد من السبعة «غساقا» بالتخفيف جَزاءً أي جوزوا بذلك جزاء ف جَزاءً مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء وقوله تعالى وِفاقاً مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأيّا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى، والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون وِفاقاً مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء. وقال الفراء: هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «وفّاقا» بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله. وفي الكشف وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا يخفى. وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به كِذَّاباً أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مصدر شائع في كلام فصحاء العرب. وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني آلحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي... وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
وقال ابن مالك في التسهيل: إنه قليل. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف. قال صاحب اللوامح: وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها... والمرء ينفعه كذابه
والكلام هنا عليه من باب أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بأياتنا وكذبوا كذابا، أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون، وأيّا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم، وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلّا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلّا كذب الآخر حقيقة. ويجوز أن تكون المفاعلة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل، ويحتمل الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها. وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون «كذّابا» بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قوله طرفة:
216
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا به حين يأتي لا كذاب ولا علل
وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردا صيغة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا كذابا فيفيد المبالغة والدلالة على الإفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والإسناد فيه مجازي وَكُلَّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أعمالهم. وقال أبو حيان: أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره أَحْصَيْناهُ أي حفظناه وضبطناه. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء كِتاباً مصدر مؤكد ل أَحْصَيْناهُ فإن الإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فأما أن يؤول أَحْصَيْناهُ بكتبناه أو كِتاباً بإحصاء، وجوز الاحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح أو صحف الحفظة. والظاهر أن الكلام على حقيقته. وقال بعضهم: الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الأشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلّا فهو عز وجل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلّا فالانضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للاحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لا حق بهم لأنّ معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء. وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك. وقال البعض: الأوجه عندي أن كل شيء منصوب بالعطف على اسم إن في إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وأَحْصَيْناهُ كِتاباً عطف على خبره والرفع على العطف على محل اسم إن، والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقا لأعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الأوليان لإفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لإفادة الضبط وعدم الفوت أي مع إدماج الإشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضا انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور. وقيل: الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً إلخ أي إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلخ. وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الاعتراض ومجيئه على طريق الالتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار، فقال: قول الله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ووجه الأشدية على ما قيل إنه تقريع في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأبيد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة. وقيل: يحتمل
أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار، وفيه من البعد ما فيه. واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى. وقيل: إن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا، وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوما فيوما وقيل: لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى
217
أشد عذاب والعذاب المزاد يوما فيوما من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومَفازاً مصدر ميمي أو اسم مكان أي إن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو موضع فوز وقيل نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة حَدائِقَ بدل اشتمال من مَفازاً على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك، وجوز أن يكون بدل كل على الادعاء أو منصوبا بأعني مقدرا وهو جمع حديقة بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر. وقال الراغب: قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر وَأَعْناباً جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الكروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به، وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الاشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكروم وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطفا على مَفازاً وَكَواعِبَ جمع كاعب وهي المرأة التي تكعّب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية أَتْراباً أي لدات ينشأن معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض. وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين وَكَأْساً دِهاقاً أي مترعة. يقال: دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه وروي عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قوله الشاعر:
أتانا عامر يبغي قرانا فأترعنا له كأسا دهاقا
وفي البحر الدهاق الملأى مأخوذ من الدهق وهو ضغط الشيء وشده باليد كأنه لامتلائه انضغط. وعن مجاهد وجماعة تفسيره بالمتتابعة، وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول: يا غلام اسقنا وادهق لنا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: أي صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية لَغْواً هو ما لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وكذا ما لا يعتد به مطلقا وَلا كِذَّاباً أي تكذيبا وقرىء بالتخفيف أي «كذابا» أو «مكاذبة» وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعا من الذات الحسية كما لا يخفى جَزاءً مِنْ رَبِّكَ مصدر مؤكد منصوب بمعنى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين بمفازا جزاء كائنا من ربك، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دونهم لتشريفه صلّى الله تعالى عليه وسلم. وقيل: لم يقل: «من ربهم» لئلا يحمله المشركون على أصنامهم وهو بعيد جدا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك مِنْ رَبِّكَ فيما تقدم من قوله تعالى جَزاءً وِفاقاً وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه تعالى بعنوان آخر قيل من باب: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» وقوله تعالى عَطاءً أي تفضلا وإحسانا منه عز وجل إذ لا يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء، فمعنى كونه جزاء أنه كذلك بمقتضى وعده جل وعلا.
وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به. وتعقبه أبو حيان بأن جَزاءً مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف لعلمه عند النحاة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا
218
كان الناصب للمفعول المطلق مذكورا أما إذا حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العالم أو الفعل. وقال الشهاب:
الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من اللفظ بفعله:
كندل زريق المال ندل الثعالب وقوله:
يا قابل التوب غفرانا مآثم قد أسلفتها أنا منها خائف وجل
فليعرف. وقوله تعالى حِساباً صفة عطاء بمعنى كافيا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال: حسبي، وقيل على حسب أعمالهم أي مقسطا على قدرها. وروي ذلك عن مجاهد وكأن المراد مقسطا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل إنه غير مناسب لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وِفاقاً كما في السابق. ودفع أيضا بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقا وقيل: المعنى عطاه مفروغا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع ما فيه من الإيهام. وقرأ ابن قطيب «حسّابا» بفتح الحاء وشد السين قال ابن جني بنى فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه محسبا أي كافيا. ومنع بعضهم مجيء فعالا من الأفعال ودراك من درك فليحرر. وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء وشد السين على أن مصدر ككذاب. وقرأ ابن عباس «حسنا» بالنون من الحسن وحكى المهدوي «حسبا» بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا بدل من لفظ رَبِّكَ وفي إبداله تعظيم لا يخفى وإيماء على ما قيل إلى ما
روي في كتب الصوفية من الحديث القدسي: «لولاك لما خلقت الأفلاك»
وقوله تعالى الرَّحْمنِ صفة لربك أو لرب السماوات على الأصح عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعرف بها وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ رَبِّكَ؟ قال في البحر: فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر. وقوله تعالى لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً استئناف مقرر لما إفادته الربوبية العامة من غاية العظمة واستقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم. وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الاسمين فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السماوات إلخ. وقيل الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيان وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خبر آخر أو هو الخبر والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يَمْلِكُونَ حال لازمة. وقيل: الأول مبتدأ أول، والثاني مبتدأ ثان ولا يَمْلِكُونَ خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على رأي من يقول به، واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني صفة للأول ولا يَمْلِكُونَ استئنافا على حاله لما في ذلك من توافق القراءتين معنى. وقرأ الأخوان والحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ما سمعت ورفع الثاني على الابتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان، وضمير لا يَمْلِكُونَ لأهل السماوات والأرض ومِنْهُ بيان ل خِطاباً مقدم عليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبىء عنه لفظ الملك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه عز وجل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه تعالى على
219
أبلغ وجه وآكده، وجوز أن يكون منه صلة يَمْلِكُونَ ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم خطاب يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من العقاب، وهذا كما تقول: ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر من جعل مِنْهُ حالا من خِطاباً مقدما وإضمار مضاف أي خطابا من خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب. وظاهر كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا لا يملكون خطابه تعالى والاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز وجل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا. وأيّا ما كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز وجل. وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يَمْلِكُونَ للمشركين وعدم الصلاحية عليه أظهر.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قيل الرُّوحُ خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وقيل: هو ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرش خلقا أعظم منه. عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا. وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل».
وفي رواية: «يأكلون الطعام» ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا وقال: «هؤلاء جند وهؤلاء جند»
وروي القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح. وقيل: هم أشراف الملائكة وقيل: هم حفظة الملائكة، وقيل: ملك موكل على الأرواح قال في الأحياء: الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس
فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال: إن جبريل عليه السلام يقوم القيامة لقائم بين يديّ الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله تعالى يقول: سبحانك لا إله إلّا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا
وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وأن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن الحبر. وقيل: القرآن وقيامه مجاز عن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويَوْمَ ظرف لـ لا يَمْلِكُونَ وصَفًّا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر، وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢] وقيل يوم يقوم الروح والملائكة الكل صفا واحدا وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ وقوله سبحانه إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً بدل من ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ وهو عائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء ربوبيته عز وجل وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مقطعها. والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ ومؤكد له على معنى أن أهل السماوات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلّا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له بعض.
220
الإذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما. وجوز أن يكون ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ إلى الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ أيضا لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكر بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الاعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقا. وأنت تعلم أن من أهل السنة أيضا من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي. ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصدي من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالاطلاع على ما غاب عنا. والمناسبة في النزاهة وقلة الوسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الاعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادا في التبسط والدلال عليه. وعن ابن عباس أن ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ للناس وجوز أن يكون إِلَّا مَنْ أَذِنَ إلخ منصوبا على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلّا في حق شخص أذن له الرحمن. وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روي عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل:
يجوز أن يكون قالَ صَواباً في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفا على أَذِنَ ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضا لكن من ضمير يَتَكَلَّمُونَ باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلّا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه. وقيل: جملة لا يَتَكَلَّمُونَ حال من الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ أو من ضميرهم في صَفًّا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم بالإشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز وجل.
ذلِكَ إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى الْيَوْمُ الموصوف بقوله سبحانه الْحَقُّ أو هو الخير واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً فصيحة تفصح عن شرط محذوف، ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإِلى رَبِّهِ متعلق بما تقدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر مَآباً أي سبيلا وتعلق الجار به لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال والأول أظهر. وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز وجل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد منه شاء أم لا، والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الإيمان والطاعة ولا ثواب بدونهما وقيل لتقدم قوله تعالى لِلطَّاغِينَ مَآباً فإن
221
لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة
إنَّا أَنْذَرْناكُمْ: أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم
عذاباً قَرِيباً: هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز وجل، أو يقال: البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد. وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين. وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى "يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ " فإن الظاهر أنه ظرف لمضمر هو صفة عذاباً أي عذابا كائنا يوم إلخ. وليس ذلك اليوم إلّا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من عذاباً أو ظرف لـ قرِيباً
وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء، ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل.
والظاهر أنْ المَرْءُ عام للمؤمن والكافر
و"ما" موصولة منصوبة بـ ينْظُرُ
والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بـ قدَّمَتْ أي ينظر أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوله ينْظُرُ جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا. وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومرأ ومرء على حسب الإعراب ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرور. وقال عطاء "الْمَرْءُ" هنا الكافر لقوله تعالى: إ نَّا أَنْذَرْناكُمْ
وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلّا أنه وضع الظاهر موضعه لزيادة الذم. وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهم الوجه لقوله تعالى فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً و"إنَّا أَنْذَرْناكُمْ "
لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على الاختصاص. وقال ابن عباس وقتادة والحسن: المراد به المؤمن، قال الإمام دل عليه قول الكافر فيما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن، ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلّا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا يا ليْتَنِي كُنْتُ تُراباً
في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث. وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد أن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله. وإلى حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى. وقيل: الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره لما قال "خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف: ١٢، ص: ٧٦] وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا. والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى
222
Icon