ﰡ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)أصله عن ما يتساءلون. فأدْغمت النون في الميم، لأن الميم تشرك
النُونَ في الغُنَّةِ في الأنف، وقد فسرنا لم حذفت الألف فيما مضى من
الكتاب، والمعنى عن أي شيء يتساءلون، فاللفظ لفظ الاستفهام، والمعنى
تفخيم القصة كماتقول: أي شيء زَيْدٌ.
ثم بين فقال:
* * *
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)
قيل هو القرآنَ، وقيل عن البعث، وقيل عن أمر النبي - ﷺ -.
والذي يدل عليه قوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)
يدل على أنهم كانوا يَتساءلون عن البعث.
* * *
وقوله: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤)
وقرئتْ: (كلا ستعلمون) بالتاء.
والذىَ عليه القراء: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) بالياء.
وهو أجود، والتاء تروى عَنِ الحَسنِ.
* * *
وقوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦)
وقرئت (مَهْداً)، وأكثر القراء يقرأونها (مِهَادًا).
والمعنى واحد وتأويله إنا ذللناها لهم حتى سكنوها وساروا في مناكبها.
خلق الذكَر والأنثى، وقيل أزواجاً أي ألواناً.
* * *
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩)
والسُّبَاتُ أن ينْقطع عن الحركة والروحُ في بدنه، أي جعلنا نومكم راحة
لكم.
* * *
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠)
أي تسكنون فيه وهو مشتمل عليكم
* * *
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢)
أي سبعَ سمواتٍ.
* * *
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣)
أي جعلنا فيها الشمس سراجاً.
وتأويل (وَهَّاجًا) وَقًاداً..
* * *
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤)
المعصرات: السحائب لأنها تعصر الماء وقيل المعصرات كما يقال: قد
أَجَزَّ الزرْعُ فهو مُجَزّ إذا صار إلى أن يمطر. فقد أَعْصَر (١)
ومعنى ثجاج صباب.
* * *
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥)
كل ما حصد فهو حَبٌّ، وكل ما أكلته الماشية من الكلأ فهو نَبَات.
* * *
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦)
أي وبساتين ملتفة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما خلق وأنه قادِرٌ على
البعث فقال:
* * *
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧)
* * *
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (١٨)
بدل من يوم الفصل، إن شئت كان مُفسَراً ليوم الفصلِ.
وقد فسرنا الصور فيما مضى.
(فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا)
أي تأتي كل أمة مع إمَامِهِم.
وقال الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجزَّ الزرع، فهو مُجِزُّ، أي: صار إلى أن يُجَزَّ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر، فقد أعصر. اهـ (زاد المسير. ٩/ ٦)
وقال السَّمين:
قوله: ﴿مِنَ المعصرات﴾: يجوزُ في «مِنْ» أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ للسببية. ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة «بالمُعْصِرات» بالباءِ بدلَ «مِنْ» وهذا على خلافٍ في «المُعْصِرات» ما المرادُ بها؟ فقيل: السحاب. يقال: أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ، أي: شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك: «أجَزَّ الزرعُ» إذا حان له أن يُجَزَّ. ومنه «أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ» إذا حان لها أَنْ تحيضَ. قاله الزمخشريُّ. وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم:
٤٤٦٦ تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها... قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت: ولولا تأويلُ «أَعْصَرَتْ» بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها.
وقال الزمخشري: «وقرأ عكرمةُ» بالمُعْصِرات «. وفيه وجهان: أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول: أَعْطى مِنْ يدِه درهماً، وأَعْطى بيدِه. وعن مجاهد: المُعْصِرات: الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ. وعن الحسن وقتادة: هي السماواتُ. وتأويلُه: أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ، أي: يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه. فإنْ قلتَ: فما وَجْهُ مَنْ قرأ» من المُعْصِرات «وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت: الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال. وقد جاء: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ. فإنْ قلت: ذكر ابن كَيْسانَ: أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر. يقال: عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ. قلت: وَجْهُه أَنْ يُرادَ: اللاتي أَعْصَرْن، أي: حان لها أَنْ تُعْصِرَ، أي: تُغيث». قلت: يعني أنَّ «عَصَرَ» بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ، فكيف قيل هنا: مُعْصِرات بهذا المعنى، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء.
قوله: ﴿ثَجَّاجاً﴾ الثَّجُّ: الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ. وفي الحديث: «أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ» فالعَجُّ: رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: إراقةُ دماءِ الهَدْيِ. يقال: ثَجَّ الماءُ بنفسِه، أي: انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا، أي: صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً، فيكونُ لازماً ومتعدياً. وقال الشاعر:
٤٤٦٧ إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ... تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
وقرأ الأعرج «ثجَّاحاً» بالحاءِ المهملةِ أخيراً. وقال الزمخشري: «ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي تشققت كما قال عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)
(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
* * *
وقوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢)
أي يَرْصُدُ أَهلَ الكفر ومن حق عليه العذاب.
تكاد تميز من الغيظ، فلا يجاوزها من حقت عليه كلمة العذاب.
ومعنى (مَآبًا) إليها يرجعون.
* * *
وقوله: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)
وَلَبِثينَ، يقال: لبث الرجل فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان كذا أي
صار اللبث شَأنَهُ.
والأحقاب واحدها حُقْب، والحقب ثمانون سنة، كل سنة
اثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا، والمعنى أنهم يلبثون أحقاباً لاَ يَذُوقُون في الأحقاب برداً ولا شراباً، وهم خالدون في النار أبداً كما قال عزَّ وجلَّ: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (١).
* * *
ومعنى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤)
قيل نوماً، وجائز أن يكون لَا يَذُفقُونَ فِيهَا بَرْدَ رِيح وَلاَ ظِلٍّ وَلاَ نَوْم.
* * *
(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥)
أي لا يذوقون فيها إلَّا حميماً وهو في غاية الحرارة.
قوله: ﴿لاَّبِثِينَ﴾: منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في «للطَّاغِين» وهي حالٌ مقدرةٌ. وقرأ حمزةُ «لَبِثِيْنَ» دونَ ألفٍ، والباقون «لابِثين» بها. وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ، قال: «ومَنْ قرأ» لبِثين «، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو: حَذِر وفَرِق، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ». ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال: «قُرِىءَ: لابِثين ولَبِثين. والَّلبِثُ أَقْوى»؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُ، ولا يُقال: لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه «. قلت: وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ. وأمَّا قولُ مكيّ: الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة.
قوله: ﴿أَحْقَاباً﴾ منصوبٌ على الظرفِ، وناصبهُ» لا بثين «، هذا هو المشهورُ. وقيل: هو منصوبٌ بقولِه» لا يَذُوقون «وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد» لا «عليها، وهو أحدُ الأوجه، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، قال:» وفيه وجهٌ آخر: وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا: إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه، وحَقِبَ فلانٌ: إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ، وجمعهُ أَحْقاب، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى: لابثين فيها حَقِبين جَحِدين «. وقد تقدَّم الكلامُ على» الحُقُب «، وما قيل فيه في سورة الكهف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقيل: الغسَّاق الشديد البَرْدِ.
* * *
(جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦)
أي جُوزُوا وِفْق أعمالهم.
* * *
(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧)
أي لا يؤمنون بالبعث وَلَا بأنهمْ يُحَاسَبُونَ، ويرجون ثواب حساب.
* * *
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨)
هذا أكثر القراءة، وَقَدْ قُرِئَتْ (كِذَابًا) بالتخفيف.
و (كِذَّابًا) بالتَشْدِيدِ أكثر.
وهو في مصادر فعَّلْتُ أجود من فِعَال.
قال الشاعر:
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي... وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
من قضيت قضَاء.
ومثل كِذَاباً - بالتخفيف
قول الشاعر:
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ
* * *
وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩)
(وَكُلَّ) منصوبٌ، بفعل مُضْمَر تفسيره أَحْصَيْنَاهُ كتاباً.
المعنى وأَحصينا كلَّ شيء أحْصَيْناه.
وقوله (كِتاباً) توكيد لقوله (أحْصَيْنَاهُ) لأن معنى أحْصَيْنَاه وكتبناه
فيما يحصل ويثبت واحد؛ فالمعنى كتبناه كتاباً.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ: - (وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤)
أي تقدير الآية لا يرجون ثواب حساب - فهناك مضاف محذوف.
شراب. فليس بكأس، وكذلك المائدة: ما كان عليها من الأخونة طعام فهو
مائدة، ومعنى دهاقاً مليء، وجاء في التفسير أَيْضاً أنها صافية، قال الشاعر:
يَلَذُّه بكَأْسِه الدِّهاق
* * *
وقوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦)
منصوب بمعنى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)، المعنى جازاهم بذلك جزاء.
وكذلك (عَطَاءً حِسَابًا)، لأن معنى أعطاهم وجزاهم وَاحِد.
و (حِسَابًا) معناه ما يكفيهم، أي فيه ما يشتهون.
يقال: أَحْسَبَنِي كذا وكذا بمعنى كفاني.
* * *
وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (٣٧)
قرئت بالجر على الصفة من قوله: " مِنْ رَبِّكَ " رَبِّ.
وقرئت " ربُّ " على معنى هو رَبُّ السَّمَاواتِ والأرْضِ.
وكذلك قرئَت (الرَّحْمَنُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) - بالجرِّ والرفع.
وتفسيرها تفسير (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
* * *
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٣٨)
(الرُّوحُ) خلق كالإنس، وليس هو إنس.
وقيل: الروح جبريل عليه السلام.
* * *
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٣٩)
أي مرْجعاً.
* * *
وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (٤٠)
جاء في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة اقتُصَّ للجَمَّاءِ مِنَ القَرْناء.
والجمَّاء
ثم يجعل اللَّه تعالى الجميع تراباً، وذَلِك التُرابً هو القَتَرَة
التي تَرْهَقُ وجوهَ الكفار وتعلو وجوههم، فيتمنى الكافر أن يكون ترَاباً.
وقد قيل: إن معنى (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا).
أي ليتني لم أبعث، كما قال: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥).