آيها ثمان وثمانون
هي مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل : إلا من آية٥٢ إلى٥٥ فمدنية، وإلا آية٨٥ فقد نزلت بالجحفة أثناء الهجرة إلى المدينة.
نزلت بعد النمل.
ووجه مناسبتها لما قبلها أمور :
إنه سبحانه بسط في هذه السورة ما أوجز في السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام وفصل ما أجمله هناك، فشرح تربية فرعون لموسى وذبح أبناء بني إسرائيل الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح، ثم ذكر قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته، ثم مناجاته لربه.
إنه أجمل في السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة وبسطه هنا أتم البسط.
إنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط، وأجمله هنا في قوله :﴿ وكم أهلكنا من قرية ﴾( القصص : ٥٨ ).
بسط هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة، وأوجز ذلك هنا، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين.
ﰡ
﴿ طسم( ١ ) تلك آيات الكتاب المبين( ٢ ) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون( ٣ ) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين( ٤ ) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين( ٥ ) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾( القصص : ١-٦ ).
الإيضاح :﴿ طسم ﴾ تقدم أن قلنا إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول في معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يراد بها التنبيه، كما يراد مثل ذلك من معنى( يا ) في النداء( ألا ) ونحوهما، وينطق بها بأسمائها هكذا( طاسين ميم ).
ثم ذكر ما هو كالدليل على أنه وحي يوحي وليس هو من وضع البشر فقال :
﴿ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ﴾أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة، وإخبار فرعون وجبروته وطغيانه، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تجد معه البراهين الساطعة، والمعجزات الواضحة، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر، فكانت عاقبته الدمار والوبال، وأغرق ومن معه من جنده أجمعون، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق كأنك شاهد حوادثها، مبصر وقائعها، تصف ما ترى وتبصر عيانا، لقوم يصدقون بك وبكتابك، لتطمئن به قلوبهم وتثلج به صدورهم، ويعلموا أنه الحق من ربهم، وأن سنته فيمن خالفك، وعاداك من المشركين هي سنته فيمن عادى موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل، وأن النصر دائما للمتقين ويخزي الله المكذبين :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾( الرعد : ١٧ ).
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين وهو يتلى على الناس أجمعين، لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع وأذن سامعة تذّكر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه، وأبى واستكبر، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر، فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقى له بالا، ولا يعي ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ما حكى الله عنهم :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ﴾{ فصلت : ٥ ).
ثم فصل هذا المجمل ووضحه بقوله :﴿ إن فرعون علا في الأرض ﴾.
الإيضاح :﴿ إن فرعون علا في الأرض ﴾أي إن فرعون تجبر في مصر وقهر أهلها وجاوز الغاية في الظلم والعدوان وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكن له في ذلك ما بينه الله سبحانه بقوله :
﴿ وجعل أهلها شيعا ﴾أي وفرقهم فرقا مختلفة، وأحزابا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء، كيلا يتفقوا على أمر ولا يجمعوا على رأي، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هي سياسة الدول الكبرى في العصر الحاضر، وذلك هو دستورها في حكمها لمستعمراتها وقد نقش حكامها في صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه " فرق تسد " وطالما أجدى عليهم في سياسة تلك البلاد، التي يعمها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور. ويرضون بالنّفاية والقشور.
رحماك، اللهم رحماك، بسطت لعبادك سنتك في الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد | ذا عفة فلعلة لا يظلم |
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله :
﴿ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ﴾أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكل بذلك عيونا تتجسس، فكلما ولدت امرأة منهم ذكرا ذبحوه، ويستبقي إناثهم، لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها والغلب الاقتصادي في بلد ما أشد وقعا وأعظم أثرا في أهلها من الغلب الاستعماري، ومن ثم لم يشأ أن يقتل النساء.
روى السّدّي أن فرعون رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتعلت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه، فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.
قال الزجاج : والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فلا داعي للقتل. ا ه.
ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شيء فسواء صحت أو لم تصح، فإن السر المعقول ما قصصناه عليك أولا.
ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم، وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله :
﴿ إنه كان من المفسدين ﴾ومن ثم سولت له نفسه أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه، وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان له فيها غنية عن سفك الدماء، ولكن قساة القلوب غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوغ في الدم، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم، وسخائم أفئدتهم.
ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة وما أتاح لها من السلطان الديني والدنيوي، فتأسست لهم دولة عظيمة في بلاد الشام، وصاروا يتصرفون في أرض مصر كما شاؤوا فقال :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ﴾.
الإيضاح :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ﴾أي ونريد أن نتفضل بإحساننا على من استضعفهم فرعون وأذلهم، وننجيهم من بأسه، ونريهم في أنفسهم وفي أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون.
﴿ ونجعلهم أئمة ﴾مقتدى بهم في الدين والدنيا.
﴿ ونجعلهم الوارثين ﴾لملك الشام لا ينازعهم فيه منازع، وقد جاء في آية أخرى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾( الأعراف : ١٣٧ )وفي ثالثة :﴿ كذلك وأورثناها بني إسرائيل ﴾ ( الشعراء : ٥٩ ).
الإيضاح :﴿ ونمكن لهم في الأرض ﴾أي ونسلطهم على أرض مصر يتصرفون فيها كيفما شاءوا بتأييدهم بكليم الله ثم بالأنبياء من بعده.
ثم بين ما نال عدوهم من النكال والوبال فقال :
﴿ ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾أي ونرى أولئك الأقوياء والأعداء الألداء على أيدي بني إسرائيل من المذلة والهوان وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن ينجي حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام الذي احترز من وجوده وقتل بسببه ألوفا من الولدان، وكان منشؤه ومرباه على فراشه وفي داره، وغذاؤه من طعامه، وكان يدلله ويتبناه، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه، ليعلم أن رب السماوات والأرض هو الغالب على أمره الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وخلاصة ما سلف :
إن فرعون علا في الأرض.
استضعف حزبا من أحزاب مصر.
قتل الأبناء.
استحيا النساء.
إنه كان من المفسدين.
وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة مثلها تكرمة لبني إسرائيل :
إنه من عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.
إنه جعلهم أئمة مقدّمين في الدارين.
إنه ورّثهم أرض الشام.
إنه مكن لهم في أرض الشام ومصر.
إنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من ذهاب ملكهم على أيديهم :
هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر كما يعقب الليل النهار، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا :﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾( آل عمران : ١٤٠ ).
انظر إلى الدولتين الفارسية والرومية، وما كان لهما من مجد بازخ، وملك واسع، كيف دالت دولتهما وذهب ريحهما بظلم أهلهما، وتقسم ملكهما، ثم قامت بعدهما الدولة العربية وعاشت ما شاء الله أن تعيش، ثم قام بعدها بنو عثمان وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية، ثم هرمت دولتهم وشاخت واستولت عليها ممالك أوروبا.
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾( آل عمران : ٢٦ ).
تفسير المفردات : الوحي : الإلهام كما جاء في قوله :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾( النحل : ٦٨ ) والخوف : غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث في المستقبل. والحزن( بفتحتين وبضم فسكون كالرشد والرشد والسقم والسقم )غم يحدث بسبب مكروه وقد حصل، واليم : البحر، والمراد هنا نهر النيل.
الإيضاح : بعد أن ذكر سبحانه أنه سيمن على بني إسرائيل الذين استضعفوا في الأرض، أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال :
﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ﴾أي وألهمناها وقذفنا في قلبها أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه عن عدوه وعدوك.
﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ﴾أي فإذا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون أولاد بني إسرائيل اتباعا لأمره، أو من الجيران أن ينموا عليه إذا سمعوا صوته، فألقيه في النيل ولا تخافي هلاكه، ولا تحزني لفراقه، وقد تقدم في سورة طه بيان الكيفية التي ألقته بها في اليم.
روي أن دارها كانت على الشاطئ فاتخذت تابوتا ومهدت فيه مهدا وألقته في النيل، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قضته بين الولادة والإلقاء في اليم.
ثم وعدها سبحانه بما يسليها ويطمئن قلبها ويملؤه غبطة وسرورا، وهو رده إليها وجعله رسولا نبيا فقال :
﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾أي إنا رادو ولدك إليك للرضاع وتكونين أنت مرضعه، وباعثوه رسولا على هذا الطاغية وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه.
وهذه الآية اشتملت على أمرين : أرضعيه وألقيه "، ونهيين :" ولا تخافي ولا تحزني "، وخبرين :" إنا رادوه إليك وجاعلوه ". وبشارتين في ضمن الخبرين : وهما الرد والجعل من المرسلين، حكي عن الأصمعي قال : سمعت أعرابية تنشد.
أستغفر الله لذنبي كله | قبّلت إنسانا بغير حله |
مثل الغزال ناعما في دله | فانتصف الليل ولم أصله |
ثم ذكر صدق وعده ومقدمات نجاته فقال :﴿ فالتقطه آل فرعون ﴾.
الإيضاح :﴿ فالتقطه آل فرعون ﴾أي فأخذه أهل فرعون أخذ اللقطة التي يعنى بها وتصان عن الضياع صبيحة الليل الذي ألقى فيه التابوت.
روي أن الموج أقبل به يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا، فلما فتحنه وجدن فيه غلاما فوقعت عليها رحمته فأحبته.
ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه إذ قال إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل وأن يكون هلاكنا على يديه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها.
ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت فقال :
﴿ ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾أي لتكون عاقبة أمره كذلك إذ أراد الله هذا، وهذا كما تقول : لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله وهو يظن نفسه محسنا فيه وأدى الأمر إلى مساءة وضر قد لحقه : فعلت هذا لضر نفسك، وهو قد كان حين الفعل راجيا نفعه غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو، وهذا جار على سنن العرب في كلامهم، فيذكرون الحال بالمآل قال شاعرهم :
وللمنايا تربّي كل مرضعة | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
فللموت تغذو الوالدات سخالها | كما لخراب الدهر تبنى المساكن |
والخلاصة : إن الله قيّضهم لالتقاطه : ليجعله لهم عدوا وحزنا، ويستبين لهم بطلان حذرهم منه.
وعداوته إياهم مخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات ولا يستجيبوا لدعوته، فتحل بهم القوارع كما هي في سنة الله في خلقه المكذبين.
ثم بين أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنوده لبني إسرائيل حمق وطيش فقال :
﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ﴾أي إن هؤلاء كان من دأبهم الخطأ وعدم التدبر في العواقب، ومن ثم قتلوا لأجله ألوفا، ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون.
الإيضاح : ثم حكى سبحانه قول امرأة فرعون حين رآه فرعون وهم بقتله.
﴿ وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه ﴾أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون : إنه مما تقر به العيون، وتفرح لرؤيته القلوب، فلا تقتلوه.
ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت :
﴿ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ﴾أي لعلنا نصيب منه خيرا، لأني أرى فيه مخايل اليمن ودلائل النجابة كما قال الشاعر :
في المهد ينطق عن سعادة جده | أثر النجابة ساطع البرهان |
ثم بين سبحانه أنهم لا يدرون خطأهم فيما صنعوا فقال :
﴿ وهم لا يشعرون ﴾أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر، وبما يؤول إليه أمرهم معه من عظائم الأمور التي تؤدي إلى هلاكهم، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب، فهو الذي يدري ما أراد بالتقاطهم إياه من الحكم البالغة، والحجج القاطعة.
الإيضاح : وبعد أن أخبر سبحانه عن حال من لقيه موسى عليه السلام خبر عن حال من فارقه بقوله :
﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ﴾أي إنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها شعاعا لما دهمها من الجزع والحزن وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريا على عادته مع أنداده ولداته، ولولا أن عصمناها وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها، وأظهرت أنه ابنها وقالت من شدة الوجد " وا ولداه " وقد فعلنا ذلك لتكون من المصدقين بوعدنا :﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾.
ثم أخبر عن فعلها في تعرف خبره بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله :﴿ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ﴾.
الإيضاح :﴿ وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ﴾أي وقالت لابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها : تتبّعي أثره، وتسمعي خبره، فأبصرته عن بعد، وهم لا يشعرون أنها تقصه، وتتعرف حاله، وأنها أخته.
الإيضاح : ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال :
﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ﴾أي ومنعنا موسى المراضع من أول أمره، فقالت أخته حين رأت اهتمامهم برضاعه : أتحبون أن أرشدكم إلى أهل بيت يأخذونه ويتولون تربيته ويقومون بجميع شؤونه ولا يقصرون في خدمته والعناية بأمره ؟
روي عن ابن عباس أنها لما قالت ذلك أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت : هم يفعلون ذلك رغبة منهم في سرور الملك ورجاء عطائه، وبذا خلصت من أذاهم، وذهبوا معها إلى منزلهم ودخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها العطاء الجزيل، ثم سألتها أن تقيم عندها وترضعه فأبت ذلك عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ولا أستطيع المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها إلى ما طلبت، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا وجزيل العطايا ورجعت بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا وهي موفورة العز والجاه والرزق الواسع، وقد جاء في الأثر " مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها ".
﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ﴾أي فرددناه إلى أمه بعد أن التقطه آل فرعون، لتقر عينها بابنها إذ رجع إليها سليما، ولا تحزن على فراقه إياها.
﴿ ولتعلم أن وعد الله حق ﴾أي ولتعلم أن وعد الله الذي وعدها حين قال لها :
﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾حق لا مرية فيه ولا خلف، وقد شاهدت بعضه، وقاست الباقي عليه.
وبرده إليها تحققت أنه سيكون رسولا، فربّته على ما ينبغي لمثله من كامل الأخلاق وفاضل الآداب.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة في الدنيا والآخرة، إذ قد يكون الشيء بغيضا إلى النفوس ظاهرا، محمود العاقبة آخرا كما قال :﴿ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾( النساء : ١٩ ).
وقد حدث هذا في أمر موسى فقد ألقي في اليم ثم رد إلى أمه مكرما ثم كان له من الوجاهة في الدنيا والآخرة ما كان.
تفسير المفردات : واحدة الأشد : شدة كأنعم ونعمة، والشدة : القوة والجلادة، وبلوغ الأشد : استكمال القوة الجسمانية وانتهاء النمو المعتد به، والاستواء : اعتدال العقل وكماله، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال، والحكم : الحكمة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه في الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه في التابوت وإلقائه في النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بني إسرائيل - أردفه ذكر ما أنعم به عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بني إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا في موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما، ثم أعقب بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطي آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا، فقال له المصري : أتريد الإصلاح في الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين ؟
الإيضاح :﴿ ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾أي ولما قوي جسمه واعتدل عقله آتيناه فقها في الدين وعلما بالشريعة كما قال تعالى :﴿ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ﴾( الأحزاب : ٣٤ )وكما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصبره على أمرنا - نجزي كل من أحسن من عبادنا، وأطاع أمرنا، وانتهى عما نهيناه عنه.
تفسير المفردات : المدينة : هي مصر، على حين غفلة : أي في وقت لا يتوقعون دخولها فيه، من شيعته : أي ممن شايعه وتابعه في الدين وهم بنو إسرائيل، من عدوه : أي من مخالفيه في الدين وهم القبط، فاستغاثه أي طلب غوثه ونصره، فوكزه أي فضربه بجمع يده، أي بيده، مجموعة الأصابع، فقضى عليه : أي فقتله وأنهى حياته، من عمل الشيطان : أي من تزيينه، مبين : أي ظاهر العداوة والإضلال.
الإيضاح : وبعد أن أخبره بتهيئته للنبوة ذكر ما كان السبب في هجرته إلى مدين وتوالي الأحداث الجسام عليه فقال :
﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ﴾أي ودخل مصر آتيا من عين شمس في وقت ليس من المعتاد الدخول فيه وهو وقت القائلة.
روي أنه دخلها مستخفيا من فرعون وقومه، لأنه كان قد خالفهم في دينهم وعاب ما كانوا عليه.
ثم أبان ما حدث منه حينئذ فقال :
﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان ﴾أي فوجد في مصر رجلين أحدهما من بني إسرائيل وثانيهما من القبط وهو طباخ فرعون وكان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلي من موسى غوثه ونصره على عدوه القبطي، فضربه موسى بجمع يده في صدره وحنكه فقتله فقال : إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته.
ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال :
﴿ إنه عدو مضل مبين ﴾أي إنه عدو فينبغي الحذر منه، مضل، فلا يقود إلى خير بين العداوة والإضلال.
تفسير المفردات : فاغفر لي : أي فاستر ذنوبي.
الإيضاح : ثم أخبر بندم موسى على قتله نفسا لم يؤمر بقتلها بقوله :
﴿ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ﴾أي قال : رب إني ظلمت نفسي بقتل نفس لا يحل قتلها، فاغفر لي ذنبي واستره ولا تؤاخذني بما فعلت، قال قتادة : عرف والله المخرج فاستغفر. ا ه.
ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه : إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، وإنما عده ذنبا وقال :﴿ إني ظلمت نفسي فاغفر لي ﴾من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر بالقتل.
روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال : يا أهل العراق : ما أسألكم، وأركبكم للكبيرة. سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الفتنة تجيء من هاهنا - وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل :﴿ وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ﴾.
ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له فقال :
﴿ فغفر له ﴾أي فعفا عن ذنبه ولم يعاقبه عليه.
وبعدئذ ذكر ما هو كالعلة لما قبله فقال :
﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾أي إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه، المتفضل عليه بالعفو عنها، الرحيم له أن يعاقبه بعد أن أخلص توبته، ورجع عن حوبته.
ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه فقال :﴿ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ﴾.
تفسير المفردات : بما أنعمت علي : أي أقسم بنعمك علي، ظهيرا أي معينا، يترقب : أي ينتظر ما يناله من أذى.
الإيضاح :﴿ قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ﴾أي قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ بعفوك عن قتل هذه النفس لأمتنعن عن مثل هذا الفعل، ولن أكون معينا للمشركين فأصحبهم وأكثر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد، ومن ثم كانوا يسمونه ابن فرعون.
وقد يكون المراد لأمتنعن عن مظاهرة من تؤول مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلي التي أدت إلى القتل الذي لم يؤمر به.
ونحو الآية قوله :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ﴾( هود : ١١٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه في الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه في التابوت وإلقائه في النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بني إسرائيل - أردفه ذكر ما أنعم به عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بني إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا في موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما، ثم أعقب بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطي آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا، فقال له المصري : أتريد الإصلاح في الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين ؟
الإيضاح : ثم ذكر حاله بعد قتل القبطي في المدينة فقال :
﴿ فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ﴾أي فصار موسى في تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من جنايته التي جناها بقتله النفس التي قتلها، وصار يتحسس الأخبار ويسأل عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي وما هم بالغوه به، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به، وإذا الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري يطلب منه الغوث والعون على مصري آخر، فقال موسى : إنك لذو غواية وضلال لا شك فيه، وقد تبينت ذلك بقتالك أمس رجلا واليوم آخر، ثم دنا منهما.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه في الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه في التابوت وإلقائه في النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بني إسرائيل - أردفه ذكر ما أنعم به عليه في كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بني إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا في موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما، ثم أعقب بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطي آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا، فقال له المصري : أتريد الإصلاح في الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين ؟
الإيضاح :﴿ فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ﴾أي فلما أراد موسى أن يأخذ الفرعوني عدوهما بالشدة والعنف قال له منكرا : أتريد أن تفعل معي كما فعلت بالأمس وتقتلني كما قتلت من قتلت ؟ وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه.
ثم زاد الإنكار توكيدا فقال :
﴿ إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ﴾أي ما تريد إلا أن تكون قاهرا عاليا في الأرض تضرب وتقتل دون أن تنظر في العواقب، ولا تريد أن تكون ممن يعمل بما فيه صلاح أهلها ودفع تخاصمهم بالحسنى.
تفسير المفردات : أقصى المدينة : أي أبعدها مكانا، يسعى : أي يسرع، الملأ : أشراف الدولة ووجوهها، يأتمرون بك : أي يتشاورون في أمرك، قال الأزهري ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا كما قال :﴿ وأتمروا بينكم بمعروف ﴾( الطلاق : ٦ ) وقال النمر بن تولب :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
الإيضاح :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ﴾أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، يخفي إيمانه عن فرعون وآله، لأسباب هو بها عليم، يسرع للحاق بموسى إشفاقا وخوفا عليه أن يصيبه مكروه من فرعون وآله وقال : يا موسى : إن الملك وبطانته وأشراف دولته يدبرون لك المكايد، وينصبون لك الحبائل، يريدون أن يقتلوك، فالبدار البدار والهرب الهرب قبل أن يقبضوا وينفذوا ما دبروه ويقتلوك فاخرج من المدينة مسرعا وإني لك لناصح أمين.
فانتصح بنصحه وتقبل قوله.
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
الإيضاح :﴿ فخرج منها خائفا يترقب ﴾أي فخرج من مدينة فرعون خائفا يترقب لحوق الطالبين، ويتلفت يمينا ويسارا وينظر أيتبعه أحد ؟
ثم لجأ إلى الله تعالى علما منه أن لا ملجأ إلا إليه.
﴿ قال رب نجني من القوم الظالمين ﴾أي قال : رب نجني من هؤلاء الذين من دأبهم الظلم والعسف ووضع الأمور في غير مواضعها، فيقتلون من لا يستحق القتل ومن لا يجرم إلى أحد، فاستجاب الله دعاءه، ووفقه إلى سلوك الطريق الأعظم نحو مدين، روي أن فرعون لما بعث في طلبه قال :( اركبوا بنيّات الطريق ) فانبثوا فيما بين الطريق الأعظم يمينا وشمالا ففاتهم ونجا من بغيهم.
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
الإيضاح : ثم أخبر عما ناجى به موسى ربه وهو سائر إلى مدين فقال :
﴿ ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾أي ولما اتجه نحو مدين ماضيا إليها شاخصا عن مدينة فرعون قال : رب اهدني إلى سواء السبيل، وأرشدني إلى الطريق القويم، ونجني من هؤلاء الظلمة ؛ وقد قال هذا توكلا على الله، وثقة بحسن توفيقه، وقد كان لا يعرف الطريق فعنّ له ثلاث طرائق فسار في الوسطى وأخذ طالبوه في الآخرين، وقالوا : المريب لا يسلك أعظم الطرق، بل يأخذ بنيّاتها( أضيقها غير المشهور منها ) وقد روي أنه بقي ثماني ليال وهو حاف لا يطعم إلا ورق الشجر، إذ ليس معه زاد ولا دابة يركبها.
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
لقد سلبت عصاك بنو تميم | فما تدري بأي عصا تذود ؟ |
الإيضاح : ثم ذكر سبحانه ما جرى له حين وصوله إلى مدين من الأحداث فقال :
﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ﴾أي ولما وصل إلى مدين ورد ماءها وقد كان لها بئر يرده رعاء الشاء فوجد جماعة منهم يسقون نعمهم ومواشيهم، ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تكفّان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذوها، فلما رآها موسى كذلك رق لهما ورحمهما، قال : ما خبركما، لم لا تردان الماء مع هؤلاء القوم ؟ فأجابتاه، قالتا : لا نسقي غنمنا إلا إذا فرغ هؤلاء من السقي، وأبونا شيخ كبير لا يستطيع السقي بنفسه، فنحن نلجأ إلى ما ترى، تشرب مواشينا فضل الماء.
ثم ذكر ما فعله بعد أن سمع هذا القصص فقال :﴿ فسقي لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ﴾.
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
الإيضاح :﴿ فسقي لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ﴾أي فسقي لهما غنمهما، ثم انصرف إلى ظل شجرة ليقيل ويستريح، وناجى ربه قائلا : إني لمحتاج إلى شيء تنزله إليّ من خزائن جودك وكرمك.
روي عن ابن عباس أنه قال : لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلق الله عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع.
فجاءه الفرج بعد الشدة وأجاب الله طلبه.
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
الإيضاح :﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ﴾أي فجاءته إحدى المرأتين تمشي وهي حيية وقد سترت وجهها بثوبها قائلة : إن أبي يدعوك ليكافئك على ما صنعت من الإحسان، وأسديت إلينا من المعروف بسقي غنمنا، قال عمرو بن ميمون : ولم تكن سلفعا من النساء( جريئة على الرجال ) خرّاجه ولاّجة.
وقد أسندت الدعوة إلى أبيها وعلّلتها بالجزاء حتى لا يتوهم من كلامها شيء من الريبة، كما أن في كلامها دلالة على كمال العقل والحياء والعفة كما لا يخفى.
وقد اختلف في الأب من هو ؟ فقيل هو شعيب عليه السلام وهو بعيد كل البعد، لأن شعيبا كان قبل موسى بزمن طويل بديل قوله تعالى لقومه :﴿ وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾( هود : ٨٩ ) وقد كان هلاك قوم لوط في عصر الخليل عليه السلام كما نص على ذلك الكتاب الكريم، وكان بين إبراهيم وموسى ما يزيد على أربعمائة سنة، وفي كتب اليهود أن اسمه يثرو ؛ وفي التوراة في الفصل الثاني من السفر الثاني ما نصه :
ولما سمع بهذا الخبر( خبر قتل القبطي ) طلب أن يقتل موسى فهرب من بين يديه وذهب إلى مدين وجلس على بئر ماء، وكان لكاهن مدين سبع بنات فجاءت وأدلت الدلاء وملأت الأحواض لسقي غنم أبيهن، فلما جاء الرعاة طردوهن، فقال موسى فأغاثهن وسقى غنمهن، فلما جئن إلى رعوائيل أبيهن قال : ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم ؟ الخ.
وفي الفصل الثالث : وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه كاهن مدين.
ولما قدمت هذه المرأة إلى موسى أجابها تبركا بالشيخ لا طمعا في الأجر.
﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾أي فلما جاء موسى هذا الشيخ وحدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم للعباد وتآمرهم على قتله وهربه منهم بعد الذي علمه - قال له : لا تخف من حولهم وطولهم، إنك قد نجوت من سطوة هؤلاء الظلمة، إذ لا سلطان لهم علينا، ولسنا في دائرة ملكهم.
ولما أمنه وطمأنه على نفسه دار الحديث وكان ذا شجون.
الإيضاح :﴿ قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ﴾أي قالت واحدة من بناته : استأجر موسى ليرعى عليك ماشيتك، فإن خير من تستأجره للرعي القوي على حفظ الماشية والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمين : الذي لا تخاف خيانته فيما تأتمنه عليه منها.
ولا يخفى أن مقالها من جوامع الكلم والحكمة البالغة، لأنه متى اجتمعت هاتان الصفتان : الأمانة والكفاية في القائم بأداء أمر من الأمور تكلّل عمله بالظفر وكفل له أسباب النجاح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب، وصاحب يوسف في قوله :﴿ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ﴾( يوسف : ٢١ ) وأبو بكر في عمر.
لمن الديار بقنّة الحجر | أقوين من حجج ومن دهر |
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
ولما أعلمت البنت الشيخ بذلك.
﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ﴾أي قال أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى : إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتي الحاضرتين أمامك، فانظر من يقع اختيارك عليها منهما، على أن تكون أجيرا لي ثماني سنوات ترعى لي فيها غنمي، فإن أتممت الثماني السنين التي شرطتها عليك فجعلتها عشرا فإحسان من عندك، وما أحب أن أشاقك بمناقشة أو مراعاة أوقات ولا إتمام عشر ولا غير ذلك، وإنك ستجدني إن شاء الله ممن تحسن صحبتهم ويوفون بما تريد من خير لك ولنا.
وفي هذا دليل على مشروعية عرض وليّ المرأة لها على الرجل، فقد عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر : لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر... الحديث أخرجه البخاري.
فأجابه موسى :﴿ قال ذلك بيني وبينك ﴾.
المعنى الجملي : اعلم أنه بعد أن انتشر في المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا في هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتي النبوة وهو قافل في طريقه.
الإيضاح :﴿ قال ذلك بيني وبينك ﴾أي قال ما شرطت عليّ فلك، وما شرطت من تزوج إحداهما فلي والأمر على ذلك لا يخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت علي، ولا أنت عما شرطت على نفسك.
ثم فسر هذا بقوله :
﴿ أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ﴾أي أيّ المدتين قضيت، الثماني الحجج أو العشر وفرغت منها فوفيتكها برعي غنمك وماشيتك فليس لك أن تطالبني بأكثر منها.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال :" أوفاهما وأبرهما "، رواه الخطيب في تاريخه.
ثم جعل الله شهيدا على صدق ما يقول كل منهما فقال :
﴿ والله على ما نقول وكيل ﴾أي والله شهيد على ما أوجب كل منهما على نفسه لصاحبه.
تفسير المفردات : قضى الأجل : أي أتم المدة المضروبة بينهما، آنس : أي أبصر إبصارا بينا لا شبهة فيه، جذوة : أي عود غليظ في رأسه نار، تصطلون : أي تستدفئون.
المعنى الجملي : بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوي قرابته، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسي أمره وكأنه أصبح في خبر كان، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث، ليحضر لهم جذوة من هذه النار، فناداه ربه، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا في كتابه.
الإيضاح :﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ﴾أي فلما وفّى موسى الأجل الذي اتفق عليه مع حميه تحمل بأهله وما كان معه من الغنم وهبها له صهره وسلك بهم الطريق في ليلة مطرة وظلمة باردة ونزل منزلا فجعل كلما أوري زنده لا يضيء شيئا، فعجب لذلك، وبينا هو كذلك رأى نارا تضيء عن بعد فقال لأهله انتظروا قليلا، إني أبصرت نارا لعلي آتيكم منها بخبر الطريق وكانوا قد ضلوا عنه، أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار لتستدفئوا بها من البرد وكان الوقت شتاء.
المعنى الجملي : بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوي قرابته، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسي أمره وكأنه أصبح في خبر كان، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث، ليحضر لهم جذوة من هذه النار، فناداه ربه، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا في كتابه.
الإيضاح :﴿ فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ﴾أي فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربه من جانب الوادي الأيمن : أي عن يمين موسى في البقعة المباركة من ناحية الشجرة : يا موسى إني أنا الله ربك ورب العالمين جميعا.
وقد خلق الله فيه علما يقينيا بأن المتكلم هو الله تعالى، وأن ذلك الكلام كلامه، وقد جعلت الشجرة مباركة، لأنه تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا.
المعنى الجملي : بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوي قرابته، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسي أمره وكأنه أصبح في خبر كان، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث، ليحضر لهم جذوة من هذه النار، فناداه ربه، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا في كتابه.
الإيضاح : ثم أمره الله أن يلقي عصاه لديه آية على نبوته فقال :
﴿ وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ﴾أي ونودي بأن ألق عصاك فألقاها فصارت حية تسعى، فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات، لسرعة عدوها وخفة حركتها - ولى هاربا منها ولم يرجع.
ثم نودي بما يهدئ روعه :
﴿ يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ﴾أي يا موسى أقبل إليّ ولا تخف مما تهرب منه، فإنك آمن من أن ينالك سوء، إنما في عصاك أردنا أن نريك فيها آية كبرى، لتكون عونك لدى الطاغية الجبار فرعون ملك مصر.
المعنى الجملي : بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوي قرابته، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسي أمره وكأنه أصبح في خبر كان، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث، ليحضر لهم جذوة من هذه النار، فناداه ربه، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا في كتابه.
الإيضاح : ثم أراه آية أخرى زيادة في طمأنينته، وأمره بقوله :
﴿ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ﴾أي أدخل يدك في جيب قميصك تخرج ولها شعاع يضيء من غير عيب ولا برص.
ولما اعترى موسى الخوف من العصا تارة، ومن الدهشة بشعاع يده مرة أخرى، أمره ربه أن يضع يده على صدره ليزول ما به من خوف فقال :
﴿ واضمم إليك جناحك من الرهب ﴾أي وضع يدك على صدرك يذهب ما بك من خوف، كما يشاهد من حال الطائر، إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان.
قال ابن عباس : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال :
﴿ فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ﴾أي فما تقدم من جعل العصا حية تسعى وخروج اليد بيضاء من غير سوء وضع اليد في الجيب - دليلان واضحان على قدرة ربك، وصحة نبوة من جريا على يديه، أرسلناهما إلى فرعون وقومه.
ثم ذكر العلة في إظهار الآيات لهم بقوله :
﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾أي إنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، مخالفين لأمره منكرين لكل دين جاء به الرسل، فكانوا جديرين بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين.
المعنى الجملي : أعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه - وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّي به قلبه ويزيل خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر - فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى : ربي أعلم بالمهتدى منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح :﴿ قال رب قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ﴾أي قال : يا رب إني قتلت من قوم فرعون نفسا، فأخاف إن أتيتهم ولم أبن عن نفسي بحجة أن يقتلوني، لأن ما في لساني من عقدة يحول بيني وبين ما أريد من الكلام، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا، وأحسن بيانا، فأرسله معي عونا يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، يجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإني أخاف أن يكذبوني ولساني لا يطاوعني حين المحاجة.
فأجابه سبحانه إلى ما طلب :﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾.
ألم تر أن أصرم كان ردئي | وخير الناس في قل ومال |
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون( ٣٣ ) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون( ٣٤ ) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون( ٣٥ ) فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين( ٣٦ ) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ﴾( القصص : ٣٣-٣٧ ).
المعنى الجملي : أعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه - وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّي به قلبه ويزيل خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر - فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى : ربي أعلم بالمهتدى منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح :﴿ قال رب قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ﴾أي قال : يا رب إني قتلت من قوم فرعون نفسا، فأخاف إن أتيتهم ولم أبن عن نفسي بحجة أن يقتلوني، لأن ما في لساني من عقدة يحول بيني وبين ما أريد من الكلام، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا، وأحسن بيانا، فأرسله معي عونا يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، يجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإني أخاف أن يكذبوني ولساني لا يطاوعني حين المحاجة.
فأجابه سبحانه إلى ما طلب :﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾.
بني لبينى لستم بيد *** إلا يدا ليست لها عضد
والسلطان : التسلط والغلبة.
المعنى الجملي : أعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه - وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّي به قلبه ويزيل خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر - فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى : ربي أعلم بالمهتدى منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح :﴿ قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ﴾أي سنقويك ونعينك بأخيك، ونجعل لكما تسلطا عظيما وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب.
﴿ بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾أي أنتما ومن تبعكما الغالبون بحججنا وسلطاننا الذي يجعله لكما.
وفي هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في سبيل الله.
المعنى الجملي : أعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه - وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّي به قلبه ويزيل خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر - فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى : ربي أعلم بالمهتدى منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح : ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجيء موسى إليه فقال :
﴿ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ﴾أي فحين جاء موسى بالحجج البالغة الدالة على صدق رسالته - فرعون وملأه، قالوا ما هذا إلا سحر افتريته من عندك، وانتحلته كذبا وبهتانا، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه من عبادة إله واحد في أسلافنا وآبائنا الذين مضوا من قبلنا.
وهذا تحكيم لعادة التقليد التي أضلت كثيرا من الناس، على أنهم قد كذبوا وافتروا، فإنهم سمعوا بذلك في عهد يوسف عليه السلام( وما بالعهد من قدم ) فقد قال لهم الذي آمن :﴿ يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ﴾- إلى أن قال-﴿ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ﴾( غافر : ٣٠-٣٤ ).
ولما كذبوه كفرا وعنادا وهم الكاذبون رد عليهم بما أشار إليه بقوله :﴿ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ﴾.
المعنى الجملي : أعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه - وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّي به قلبه ويزيل خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر - فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هارون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهارون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجؤوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى : ربي أعلم بالمهتدى منا ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده.
الإيضاح :﴿ وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ﴾أي وقال موسى مجيبا فرعون وملأه : ربي أعلم بالمحق منا يا فرعون من المبطل، ومن الذي جاء بالحق الذي يوصّل إلى سبيل الرشاد، ومن الذي له العقبى المحمودة في الدار الآخرة ؟
وفي هذا الأسلوب من أدب الخطاب في الحجاج والمناظرة ما لا يخفى، فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بقوله :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾( سبأ : ٢٤ ).
ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب فقال :
﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾أي إنه لا ينجح الكافرون ولا يدركون طلبتهم، وفي هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة، بل يحصلون على ضد ذلك، وهذا غاية الزجر والتهديد لكفهم عن العناد.
تفسير المفردات : هامان : وزير فرعون، صرحا : أي قصرا عاليا، أطلع : أي أصعد وأرتقي.
المعنى الجملي : بعد أن رغب موسى فرعون وقومه في التوحيد والنظر في الكون تارة، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى - أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار وأنه مطمع في إيمانه، لعتوّه وطغيانه واستكباره في الأرض حتى قال ما قال، ومن تم كانت عاقبته في الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح :﴿ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ﴾أي وقال فرعون : يا أيها القوم ما علمت لكم في أي زمن إلها غيري كما يدّعي موسى، والأمر محتمل أن يكون، وسأحقق ذلك لكم، وهذا كلام ظاهره الإنصاف، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك في شأن الإله، وتسليمهم إياه، اعتمادا على ما رأوا من عظيم نصفته في القول.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلمتان قالهما فرعون﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ " وقوله :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾( النازعات : ٢٤ ) كان بينهما أربعون عاما :﴿ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ﴾( النازعات : ٢٥ ).
وخلاصة مقاله : لا علم لي برب غيري فتعبدوه، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به، من أن لكم وله ربا غيري، ومعبودا سواي.
ونحو الآية قوله :﴿ فحشر فنادى( ٢٣ ) فقال أنا ربكم الأعلى( ٢٤ ) فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ﴾( النازعات : ٢٣-٢٥ ) وقوله :﴿ لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ﴾( الشعراء : ٢٩ ).
قال الرازي : ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السماوات والأرض والبحار والجبال وخالق الناس، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذي عقل، بل مراده بذلك وجوب عبادته، فهو ينفي وجود الإله ويقول : لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم وينقادوا لأمره اه بتصرف.
ثم خاطب وزيره آمرا له على سبيل التهكم أمام موسى، ليشكّك قومه في صدق مقالته.
﴿ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى ﴾أي فاصنع لي آجرا واجعل لي منه قصرا شامخا وبناء عاليا أصعد وأرتقي إلى إله موسى يعبده في السماء، ويدعي أنه يؤيده وينصره وهو الذي أرسله إلينا.
وبمعنى الآية قوله :﴿ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب( ٣٦ ) أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى لأظنه كاذبا ﴾( غافر : ٣٦-٣٧ ).
ثم زاد قومه شكا في صدقه بقوله :
﴿ وإني لأظنه من الكاذبين ﴾أي وإني لأظنه كاذبا فيما يدعي، من أن له معبودا في السماء ينصره ويؤيده، وأنه هو الذي أرسله.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح : ثم ذكر سبحانه ما هو كالسبب في العناد والجحود فقال :
﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ﴾أي ورأى هو وجنوده كل من سواهم في أرض مصر حقيرا، عتوا منهم على ربهم، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون، ولا يثابون ولا يعاقبون، ومن ثم ركبوا أهواءهم ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم، وسيئ أقوالهم.
ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة فقال :﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن رغب موسى فرعون وقومه في التوحيد والنظر في الكون تارة، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى - أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار وأنه مطمع في إيمانه، لعتوّه وطغيانه واستكباره في الأرض حتى قال ما قال، ومن تم كانت عاقبته في الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح :﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾أي فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فألقيناهم جميعا في البحر.
وفي هذا ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه، وشديد احتقاره لفرعون وقومه، واستقلاله لهم وإن كانوا عددا كبيرا، وجما غفيرا، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده في البحر.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل في العواقب، ليعلموا أن هذه سنة الله في كل مكذب برسله فقال :
﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾أي فانظر أيها المعتبر بالآيات، كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وردوا على رسوله نصيحته - ألم نهلكهم ونورّث ديارهم وأموالهم أولياءنا ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كبير، بعد أن كانوا مستضعفين، تقتل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، وإنا بك وبمن آمن بك فاعلون، فمخوّلوك وإياهم دبار من كذبك ورد عليك ما أتيتهم به من حق، وأموالهم بعد أن تستأصلوهم قتلا بالسيف - سنة الله في الذين خلوا من قبل.
المعنى الجملي : بعد أن رغب موسى فرعون وقومه في التوحيد والنظر في الكون تارة، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى - أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار وأنه مطمع في إيمانه، لعتوّه وطغيانه واستكباره في الأرض حتى قال ما قال، ومن تم كانت عاقبته في الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح : ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم في النار فقال :
﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ﴾أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدي بهم أهل العتو والكفر بالله، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي، وتدسية بالفسوق النفوس والآثام التي تلقي بفاعلها في النار.
وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين بالله ورسوله، بل دأبوا على إضلال سواهم وتحسين العصيان لهم، وبذا قد ارتكبوا جريمتين، فباؤوا بجزاءين : جزاء الضلال وجزاء الإضلال، وقد جاء في الحديث :" من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها يوم القيامة }.
ثم ذكر أنه لا نصير لهم ولا شفيع في ذلك اليوم فقال :
﴿ ويوم القيامة لا ينصرون ﴾أي ويوم القيامة لا يجدون نصيرا يدفع عنهم عذاب الله إذا حاق بهم، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون، فكان لهم مطمع في النصرة يومئذ بحسب ما يعرفون.
ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم، وبين سوء حالهم في الدارين فقال :﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾.
ألا قبح الله البراجم كلها | وقبّح يربوعا وقبح دارما |
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح :﴿ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ﴾أي وألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا خزيا وغضبا منا عليهم ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار وسوء الأحدوثة، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة، فمخزوهم الخزي الدائم ومهينوهم الهوان اللازم الذي لا فكاك عنه.
المعنى الجملي : بعد أن رغب موسى فرعون وقومه في التوحيد والنظر في الكون تارة، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى - أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار وأنه مطمع في إيمانه، لعتوّه وطغيانه واستكباره في الأرض حتى قال ما قال، ومن تم كانت عاقبته في الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله.
ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه.
الإيضاح : ثم بين سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ﴾أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفصلنا فيها الأحكام التي فيها سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم من بعد ما أهلكنا الأمم التي من قبلهم كقوم نوح وهود وصالح، ودرست معالم الشرائع وطمست آثارها واختلت نظم العالم، وفشا بينهم الشر، ورفع الخير. فاحتاج الناس إلى تشريع جديد يصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم، بتقرير أصول في ذلك التشريع تبقى على وجه الدهر، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور واختلاف أحوال الناس، وفيها التذكير بأحوال الأمم الخالية، ليكون في ذلك عبرة للناس، ونور لقلوبهم، تبصر به الحقائق، وتميز الحق من الباطل، بعد أن كانوا في عماية عن الفهم والإدراك، وتهديدهم إلى ما يوصلهم إلى القرب من ربهم، ونيل رضوانه ومغفرته ورحمته، ليتذكروا نعم الله عليهم فيشكروه عليها، ولا يكفروا بها.
قال أبو سعيد الخدري : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ﴾ ".
تفسير المفردات : الغربي : هو الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى، قضينا : أي عهدنا إليه وكفلناه أمرنا ونهينا، الأمر : أي أمر الرسالة، الشاهدين : أي الحاضرين.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى من بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند الله، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب.
الإيضاح :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ﴾ أي وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى حين عهدنا إليه أمر النبوة، وما كنت من جملة السبعين الذين اختيروا لسماع تفاصيل ذلك الأمر الذي أوحينا به إلى موسى حتى تخبر به كله على الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة.
وخلاصة ذلك : إن إخبارك بالغيوب الماضية التي لم تشهدها وقد قصصتها كأنك سامع راء لها وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئا من ذلك - لهو من أعظم البراهين على نبوتك، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من الله كما قال :﴿ أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ﴾( طه : ١٣٣ ).
فبات حيث يدخل الثّويّ
أي الضيف المقيم، أهل مدين : أي قوم شعيب عليه السلام.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى من بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند الله، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب.
الإيضاح :﴿ ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ﴾أي ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه فدرست العلوم فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء، وأحوال موسى، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر.
والخلاصة : إنك ما كنت شاهدا موسى وما جرى ولكنا أوحيناه لك، وفي هذا تنبيه إلى المعجزة كأنه قال : إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله - لدلالة ظاهرة على نبوتك.
ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال :
﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ﴾أي وما كنت مقيما بين أهل مدين تتلقف القصة ممن شاهدها، وتقرؤها عليهم بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم على معلمه، فتفهّم أخبار موسى بهذا الطريق ونحوه.
﴿ ولكنا كنا مرسلين ﴾لك موحين إليك تلك الآيات ونظائرها، ولولا ذلك ما علمتها وما أخبرتهم بها.
الإيضاح : ٢ ) ﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾أي وما كنت بجانب الطور ليلة المناجاة وتكليم الله موسى حتى تحدث أخبارها، وتفصل أحوالها حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها.
﴿ ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ﴾أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، لتنذر قوما لم يأتهم قبلك نذير، وتحذرهم بأس الله وشديد عقابه على إشراكهم به وعبادتهم الأوثان والأنداد، لعلهم يرجعون من غيهم، ويتذكرون عظيم خطئهم، وكبير جرمهم، فينيبوا إلى ربهم، ويقروا بوحدانيته، ويفردوه بالعبادة دون سواه من الآلهة.
ثم ذكر الحكمة في إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وأن في ذلك قطعا لمعذرتهم، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة فقال :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى من بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند الله، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب.
الإيضاح :﴿ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ﴾أي ولولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحل بهم بأسنا ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم واجتراحهم للمعاصي قبل أن نرسلك إليهم : ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا قبل أن يحل بنا سخطك وينزل بنا عذابك، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تنزلها عليه، ونكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين برسولك - لعاجلناهم العقوبة على شركهم، لكنا بعثناك إليهم نذيرا ببأسنا كما هو سنتنا في أمثالهم كما جاء في الآية الكريمة :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾( النساء : ١٦٥ ).
والخلاصة : إنا أزحنا العذر، وأكملنا البيان فبعثناك أيها الرسول إليهم، وقد حكمنا بأنا لا نعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل.
تفسير المفردات : الحق : أي الأمر الحق وهو القرآن، سحران : أي ما أوتيه موسى وما أوتيه محمد، تظاهرا : أي تعاونا وتناصرا.
المعنى الجملي : بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزولهم بأسنا بهم : هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه - أردفه بيان أنه حين مجيء الرسول وإنزال القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجيء معجزات كمعجزات موسى، من مجيء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا : ما هي إلا سحر مفترى وما هي إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.
ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا المنهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾أي فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله - بالكتاب الكريم قالوا تمردا وعنادا وتماديا في الغي والضلال : هلا أوتي مثل ما أوتي موسى من المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وتظليل الغمام إلى نحو أولئك.
ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين في كل زمان، لا يريدون بما يقولون إظهار الحق، بل يقصدون التمادي والإنكار، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة كما أشار إلى ذلك بقوله :
﴿ أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ﴾أي إن المعاندين الذين مذهبهم كمذهبكم وهم الكفار الذين كانوا في زمن موسى كفروا بما جاء به موسى، فأنتم متبعون نهجهم، وسالكون سبيلهم.
ثم بين طريق كفرهم به فقال :
﴿ قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ﴾أي قالوا : إن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الدّجل والتضليل، وخداع السذّج من الجماهير، ولم يرسلهما ربهما لهداية البشر كما زعما، وإنا لكافرون بكل منهما، ولا نؤمن بما جاءا به.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.
ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا المنهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح : ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى قومه بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر، وأصلح لحالهم في المعاش والمعاد من التوراة والقرآن فقال :
﴿ قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾أي ائتوني بكتاب من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن، فإن جئتم به فإني لأتركهما وأتبع مما تجيئون به، إن كنتم صادقين فيما تقولون، جادّين فيما تدّعون.
ثم توعدهم إذا هم نكصوا على أعقابهم، ولم يلبّوا طلبه، ولم يأتوا بالكتاب فقال :﴿ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزولهم بأسنا بهم : هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه - أردفه بيان أنه حين مجيء الرسول وإنزال القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجيء معجزات كمعجزات موسى، من مجيء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا : ما هي إلا سحر مفترى وما هي إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.
ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا المنهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح :﴿ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ﴾أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به فاعلم أنهم سادرون في غلوائهم، متبعون لأهوائهم، راكبون لرؤوسهم، حائدون عما يقتضيه الدليل والبرهان.
ثم بين عاقبة من يتبع الهوى فقال :
﴿ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ﴾أي ومن أضل عن طريق الرشاد وسبيل السداد، ممن سار متبعا الهوى بغير بيان من الله وعهد منه بما ينزله على رسله بوحي منه.
وفي هذا من التشنيع عليهم، وتقبيح فعلهم ما لا يخفى على كل ذي لب.
ثم بين سنته في خلقه فقال :
﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾أي إن الله لا يوفق لإصابة الحق واتباع سبيل الرشد، من خالفوا أمره وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدّلوا عهده، واتبعوا هوى أنفسهم، إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمان.
ولما أثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بين الحكمة في إنزال القرآن منجما فقال :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾.
فقل لبني مروان ما بال ذمّتي | بحبل ضعيف ما يزال يوصل |
المعنى الجملي : بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزولهم بأسنا بهم : هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه - أردفه بيان أنه حين مجيء الرسول وإنزال القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجيء معجزات كمعجزات موسى، من مجيء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا : ما هي إلا سحر مفترى وما هي إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل.
ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا المنهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم.
الإيضاح :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلا بعضه إثر بعض، على ما تقتضيه الحكمة، وترشد إليه المصلحة، وهي أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه، فهم في كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم، ورسوخه في نفوسهم، وامتلاء قلوبهم نورا به.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما في كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم :﴿ يس( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾( يس : ١-٢ ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.
الإيضاح :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾أي الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب، ثم أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا بالقرآن، لأنهم قد وجدوا في كتبهم البشرى به، وانطباق الأوصاف عليه.
ونحو الآية قوله :﴿ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ﴾( آل عمران : ١٩٩ )، وقوله :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾( البقرة : ١٢١ ).
المعنى الجملي : بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما في كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم :﴿ يس( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾( يس : ١-٢ ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.
الإيضاح :﴿ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾أي وإذا تلي هذا القرآن عليهم قالوا صدقنا بأنه نزل من عند ربنا حقا، وقد كنا مصدقين به قبل نزوله، لأنا وجدنا في كتبنا نعت محمد، ونعت كتابه.
وفي هذا إيماء إلى أن إيمانهم به متقادم العهد، فآباؤهم الأولون قرؤوا في الكتب الأول ذكره، وأبناؤه من بعدهم فعلوا كما فعلوا من قبل نزوله.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما في كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم :﴿ يس( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾( يس : ١-٢ ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.
الإيضاح : ثم بين جزاءهم على إيمانهم به بعد إيمانهم بما سبقه من الكتب بقوله :
﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾أي هم يؤتون ثواب عملهم مرتين : مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن، بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمانين فإن تجشم مثل هذه المشاقّ شديد على النفوس، فقد يصيبهم من جرّاء ذلك أذى من قومهم أو من المشركين في اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم.
ونحو الآية قوله تعالى في شأنهم :﴿ يؤتكم كفلين من رحمته ﴾( الحديد : ٢٨ ) وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها " وروى أبو أمامة قال : إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال :" من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه وما علينا ".
ثم ذكر من أوصافهم ما يؤهّلهم للزلفى والقرب من ربهم فقال :
﴿ ويدرؤون بالحسنة السيئة ﴾أي وهم يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم بالصفح والعفو عنه.
﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾أي وينفقون مما أعطاهم الله من فضله من المال الحلال، النفقات الواجبة لأهلهم وذوي قرباهم، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ويساعدون البائسين وذوي الخصاصة المعوزين.
المعنى الجملي : بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما في كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به.
قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم :﴿ يس( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾( يس : ١-٢ ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا.
الإيضاح :
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين }أي وإذا سمعوا ما لا ينفع في دين ولا دنيا، من السب والشتائم وتكذيب الرسول أعرضوا عن قائليه ولم يخالطوهم، وإذا سفه عليهم سفيه، وكلمهم بما لا ينبغي رده من القول لم يقابلوه بمثله، إذ لا يصدر منهم إلا طيب الكلام، وقالوا لنا أعمالنا لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون، ولكم أعمالكم لا نطالب بشيء منها، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، فإنا لا نريد طريق الجاهلين.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ وإذا مروا باللغو مروا كراما ﴾( الفرقان : ٧٢ ).
روى محمد بن إسحاق : أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو يزيدون من نصارى الحبشة حين بلغهم خبره، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب، بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، ما رأينا ركبا أحمق منكم، فقالوا لهم : سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خير.
تفسير المفردات : الهداية : تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير ؛ وهي التي أثبتها الله لرسوله في قوله :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾( الشورى : ٥٢ ) ؛ وتارة يراد بها هداية التوفيق وشرح الصدر بقذف نور يحيا به القلب ؛ كما جاء في قوله :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ﴾( الأنعام : ١٢٢ ). وهي بهذا المعنى نفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية.
المعنى الجملي : بعد أن أبان فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به، وجاؤوا إليه زرافات ووحدانا من كل فج عميق، وجابوا الفيافي وقطعوا البحار للإيمان به، بعد أن سمعوا أخباره، وترامت لهم فضائله وشمائله ؛ وقد كان في هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به وأن تحدثه نفسه الشريفة بالطمع في إيمانهم، ودخول الهدى في قلوبهم والانتفاع بما آتاه الله من العرفان ؛ فتكون لهم به السعادة في الدنيا والآخرة ؛ أردف ذلك الآية الأولى تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ لم ينجع في قومه - الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص - إنذاره وإبلاغه، فيقبلوا ما جاء به ؛ بل أصروا على ما هم عليه، وقالوا : لولا أوتي مثل ما أوتي موسى. فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به، وقالوا إنه الحق من ربنا.
وقد استفاضت الأخبار بأن الآية نزلت في أبي طالب ؛ فقد أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :" يا عماه ؛ قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ". فقال : لولا أن تعيّرني قريش- يقولون ما حمله على ذلك إلا جزعه من الموت - لأقررت بها عينك. فأنزل الله :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾الآية.
ونزل في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف - حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ؛ ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب- ونحن أكلة رأس ( يريد : إنا قليلو العدد ) أن يتخطفونا - قوله تعالى :﴿ وقالوا إن نتبع الهدى ﴾الآية.
الإيضاح :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾أي إنك لا تستطيع هدي من أحببت من قومك أو من غيرهم هدى موصلا إلى البغية ؛ فتدخله في دينك ؛ وإن بذلت كل مجهود. وإنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء ؛ وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
وبمعنى الآية قوله :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾( البقرة : ٢٧٢ ).
وقوله :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾( يوسف : ١٠٣ ).
﴿ وهو أعلم بالمهتدين ﴾أي وهو أعلم بالمستعدّين للهداية فيمنحونها. ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، دون من هم أهل الغواية كقومك وعشيرتك.
المعنى الجملي : بعد أن أبان فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به، وجاؤوا إليه زرافات ووحدانا من كل فج عميق، وجابوا الفيافي وقطعوا البحار للإيمان به، بعد أن سمعوا أخباره، وترامت لهم فضائله وشمائله ؛ وقد كان في هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به وأن تحدثه نفسه الشريفة بالطمع في إيمانهم، ودخول الهدى في قلوبهم والانتفاع بما آتاه الله من العرفان ؛ فتكون لهم به السعادة في الدنيا والآخرة ؛ أردف ذلك الآية الأولى تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ لم ينجع في قومه - الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص - إنذاره وإبلاغه، فيقبلوا ما جاء به ؛ بل أصروا على ما هم عليه، وقالوا : لولا أوتي مثل ما أوتي موسى. فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به، وقالوا إنه الحق من ربنا.
وقد استفاضت الأخبار بأن الآية نزلت في أبي طالب ؛ فقد أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال :" يا عماه ؛ قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة ". فقال : لولا أن تعيّرني قريش- يقولون ما حمله على ذلك إلا جزعه من الموت - لأقررت بها عينك. فأنزل الله :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ﴾الآية.
ونزل في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف - حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نحن نعلم أنك على الحق ؛ ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب- ونحن أكلة رأس ( يريد : إنا قليلو العدد ) أن يتخطفونا - قوله تعالى :﴿ وقالوا إن نتبع الهدى ﴾الآية.
الإيضاح : ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار في عدم إتباعهم للهدى فقال :
﴿ وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ﴾أي وقالوا : نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى، ويحاربونا ويجلونا من ديارنا.
فرد الله عليهم مقالتهم وأبان لهم ضعف شبهتهم فقال :
﴿ أولم نمكن حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ﴾أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أن يكون عذرا، لأنا جعلناكم في بلد أمين، وحرم معظم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لكم حال كفركم وشرككم ولا يكون أمنا لكم وقد أسلمتم واتبعتم الحق ؟ قال يحيى بن سلام : يقول : كنتم آمنين في حرمي، تأكلون رزقي، وتعبدون غيري، أفتخافون إذ عبدتموني وآمنتم بي ؟ وقد تفضل عليكم ربكم وأطعمكم من كل الثمرات التي تجلب من فجاج الأرض والمتاجر والأمتعة من كل بلد رزقا منه لكم.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾أي ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ومن ثم قالوا ما قالوا، وقد كان من حقهم أن يعلموا أن تلك الأرزاق إنما وصلت إليهم من ربهم، فهو الذي يخشى ويتقى لا سواه من المخلوقين.
تفسير المفردات : بطرت : أي بغت وتجبرت ولم تحفظ حق الله.
المعنى الجملي : هذا هو الرد الثاني على شبهتهم، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية الذين كانوا في رغد من العيش، فكذبوا الرسل، فأزال عنهم تلك النعم، وأحل بهم النقم.
وإجمال هذا : إن قولكم لا نؤمن خوفا من زوال النعم ليس بحق، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم.
ثم بين أن من سنته تعالى ألا يهلك قوما إلا إذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
الإيضاح :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ﴾أي وكثير من القرى أثرى أهلها وسعوا في الأرض فسادا وبطروا تلك النعم، فخرب الله ديارهم، وأصبحت خاوية لم يعمر منها إلا أقلها، وصار أكثرها خرابا يبابا.
ونحو الآية قوله :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾( هود : ١١٧ ).
﴿ وكنا نحن الوارثين ﴾لهم، إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ما يتصرفون فيه.
والشيء إذ لم يبق له مالك معين قيل إنه ميراث الله، لأنه هو الباقي بعد خلقه.
ونحو الآية قوله :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾( النحل : ١١٢ ).
المعنى الجملي : هذا هو الرد الثاني على شبهتهم، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية الذين كانوا في رغد من العيش، فكذبوا الرسل، فأزال عنهم تلك النعم، وأحل بهم النقم.
وإجمال هذا : إن قولكم لا نؤمن خوفا من زوال النعم ليس بحق، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم.
ثم بين أن من سنته تعالى ألا يهلك قوما إلا إذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين.
الإيضاح : ثم أخبر سبحانه عن عدله وأنه لا يهلك أحدا إلا بعد الإنذار وقيام الحجة بإرسال الرسل فقال :
﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا ﴾أي وما كانت سنته في عباده أن يهلك القرى حتى يبعث في كبراها رسولا يتلو عليهم الآيات الناطقة بالحق، ويدعوهم إليه بالترغيب حينا، والترهيب حينا آخر، فيكون ذلك أدعى إلى إلزام الحجة وقطع المعذرة.
وإنما كان البعث في أم القرى، لأن في أهلها فطنة وكياسة، فهم أقبل للدعوة، وأعرف بمواقع الحق ؛ إلى أن الرسول يبعث للأشراف كما يرسل إلى العامة، وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها.
ونحو الآية قوله :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾( الإسراء : ١٥ ).
ثم بين أنه لا يهلك القرى بعد إرسال الرسل إلا إذا ظلموا أنفسهم وكذبوا رسلهم فقال :
﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾أي ولا نهلك القرى التي نبعث فيها الرسل الذين يدعونهم إلى الحق، ويرشدونهم إلى سبيل السّداد إلا إذا ظلموا بتكذيب الرسول وكفروا بالآيات، فلا نهلك قرية بإيمان ؛ ولكن نهلكها بظلمها واجترامها المعاصي وارتكابها الآثام، وقوله : بظلم إشارة إلى أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.
المعنى الجملي : هذا هو الرد الثالث على تلك الشبهة، فإن خلاصة شبهتهم أنهم تركوا الدين لئلا تفوتهم منافع الدنيا، فرد الله عليهم بأن ذلك خرق ورأي وخطل عظيم، فإن ما عند الله خير مما فيها، لكثرة منافعه وخلوصه من شوائب المضار، ومنافعها مشوبة، وهو أبقى مما فيها، لأنه دائم لا ينقطع، ومنافعها لا بقاء لها، فمن الجهل الفاضح إذا ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافعها، ولاسيما إذا قرنت تلك المنافع بعقاب الآخرة.
الإيضاح :﴿ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى ﴾أي وما أعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في الحياة الدنيا، وتتزينون به فيها، وهو لا يغني عنكم شيئا عند ربكم، ولا يجديكم شروى نقير لديه، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته لدوامه وبقائه، بخلاف ما عندكم فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير.
ونحو الآية قوله :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ﴾( النحل : ٩٦ ) وقوله :﴿ وما عند الله خير للأبرار ﴾( آل عمران : ١٩٨ ) وقوله :{ بل تؤثرون الحياة الدنيا( ١٦ ) والآخرة خير وأبقى )( الأعلى : ١٦-١٧ )، وفي الحديث :{ والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر ماذا يرجع إليه ؟ ".
﴿ أفلا تعقلون ﴾أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها، فتعرفون الخير من الشر، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له على الفاني الذي ينقطع، ومن أجل هذا أثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث للمشتغلين بطاعة الله تعالى - وكأنه رحمه الله أخذه من هذه الآية.
المعنى الجملي : هذا هو الرد الثالث على تلك الشبهة، فإن خلاصة شبهتهم أنهم تركوا الدين لئلا تفوتهم منافع الدنيا، فرد الله عليهم بأن ذلك خرق ورأي وخطل عظيم، فإن ما عند الله خير مما فيها، لكثرة منافعه وخلوصه من شوائب المضار، ومنافعها مشوبة، وهو أبقى مما فيها، لأنه دائم لا ينقطع، ومنافعها لا بقاء لها، فمن الجهل الفاضح إذا ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافعها، ولاسيما إذا قرنت تلك المنافع بعقاب الآخرة.
الإيضاح : ثم أكد ترجيح ما عند الله على ما في الدنيا من زينة بقوله :
﴿ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ﴾أي أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فآمن بما وعدناه وأطاعنا فاستحق أن ننجز له وعدنا فهو لاقيه حتما وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسي العمل بما وعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله كان من المحضرين لعذابه، وأليم عقابه ؟
وهذه الآية تبين حال كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة.
وخلاصة ذلك : أفمن سمع كتاب الله فصدق به، وآمن بما وعده الله فيه، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا وقد كفر بالله وآياته ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه - الجواب الذي لا ثاني له - إنهما لا يستويان في نظر العقل الرجيح ؟ !.
وتلخيص المعنى : إنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا قيل لهم : لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضي بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم ؟
وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه - يكون وبالا على الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب - أردف ذلك بيان ما يحصل في هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون في الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أولا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها في الدنيا من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون ؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة.
الإيضاح :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادي رب العزة هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدون عن سبيل الله فيقول لهم : أين شركائي من الملائكة والجن والكواكب والأصنام الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم لي شركاء - ليخلصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب.
وهذا السؤال للإهانة والتحقير، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون.
ونحو الآية قوله :﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾( الأنعام : ٩٤ ).
ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال فقال :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه - يكون وبالا على الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب - أردف ذلك بيان ما يحصل في هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون في الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أولا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها في الدنيا من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون ؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة.
الإيضاح :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ﴾أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين حق عليهم غضب الله، ولزمهم الوعيد بقوله :﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾( هود : ١١٩ ) فدخلوا النار : ربنا إن هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم، أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلجاء - فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال.
وخلاصة ذلك : إن تبعة غيّهم واقعة عليهم لا علينا، إذ لم نلجئهم إلى ذلك، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب، فإن كان تسويلنا لهم داعيا إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع من الأدلة العقلية، وبعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر داعيا إلى الإيمان.
ونحو ذلك قوله حكاية عن الشيطان :﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾( إبراهيم : ٢٢ ) وقوله لإبليس :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾( الحجر : ٤٢ ) فقوله : إلا من اتبعك يدل على أن ذلك الإتباع من قبل أنفسهم، لا من إلجاء الشيطان إلى ذلك.
ثم زاد الجملة الأولى توكيدا بقوله :
﴿ تبرأنا إليك ﴾منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي إتباعا لهوى أنفسهم، فلا لوم علينا في الحقيقة بسببهم.
ونحو الآية قوله :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ﴾( البقرة : ١٦٦ ).
ثم ذكر ما هو كالعلة لنفي الشبهة عنهم فقال :
﴿ ما كانوا إيانا يعبدون ﴾أي هم ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زيّنت لهم أهواؤهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه - يكون وبالا على الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب - أردف ذلك بيان ما يحصل في هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون في الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أولا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها في الدنيا من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون ؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة.
الإيضاح : ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخا لهم وتهكما بهم فقال :
﴿ وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ﴾أي وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد في الدنيا : ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلا منكم شركتهم لله ليدفعوا العذاب عنكم، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الإجابة.
والمقصد من طلب ذلك منهم فضيحتهم على رؤوس الأشهاد، بدعاء من لا نفع له، ولا فائدة منه.
ثم بين حالهم حينئذ وتمنيهم أن لو كانوا وفّقوا في الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد فقال :
﴿ ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ﴾أي وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين في الدنيا.
ونحو الآية قوله :﴿ ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ﴾( الكهف : ٥٣ ).
وبعد أن سئلوا عن إشراكهم بالله توبيخا لهم، سئلوا عن تكذيبهم للأنبياء كما أشار إلى ذلك بقوله :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾.
الإيضاح :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾أي ويوم ينادي المشركين ربهم وقد برز الناس في صعيد واحد، منهم المطيع ومنهم العاصي، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، فيقول لهم : ماذا أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام ؟
ثم بين أنهم لا يحارون جوابا، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم فقال :﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ ﴾.
سورة القصص
آيها ثمان وثمانون
هي مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل : إلا من آية٥٢ إلى٥٥ فمدنية، وإلا آية٨٥ فقد نزلت بالجحفة أثناء الهجرة إلى المدينة.
نزلت بعد النمل.
ووجه مناسبتها لما قبلها أمور :
إنه سبحانه بسط في هذه السورة ما أوجز في السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام وفصل ما أجمله هناك، فشرح تربية فرعون لموسى وذبح أبناء بني إسرائيل الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح، ثم ذكر قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته، ثم مناجاته لربه.
إنه أجمل في السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة وبسطه هنا أتم البسط.
إنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط، وأجمله هنا في قوله :﴿ وكم أهلكنا من قرية ﴾( القصص : ٥٨ ).
بسط هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة، وأوجز ذلك هنا، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين.
الإيضاح :﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ ﴾أي فخفيت عليهم الحجج ولم يجدوا معذرة يجيبون بها، فلم يكن لهم إلا السكوت جوابا.
ثم ذكر أنه تخفى عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم في الدنيا فقال :
﴿ فهم لا يتساءلون ﴾أي فلا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات لما اعتراهم من الدهشة وعظيم الهول، ولتساويهم جميعا في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب.
وإذا كان الأنبياء لهول ذلك اليوم يتعتعون في الجواب عن مثل ذلك السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله كما قال :﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ﴾( المائدة : ١٠٩ ) فما ظنك بهؤلاء الضلال ؟
وبعد أن ذكر حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ والإهانة أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا، ترغيبا في التوبة وزجرا عن الثبات على الكفر فقال :﴿ فأما من تاب وآمن صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ﴾.
الإيضاح :﴿ فأما من تاب وآمن صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ﴾أي فأما من تاب من المشركين، وراجع الحق، وأخلق لله بالألوهة، وأفرد له العبادة، وصدّق نبيه، وعمل بما أمر به في كتابه على لسان نبيه، فهو من الفائزين، الذين أدركوا طلبتهم وفازوا بجنات النعيم خالدين فيها أبدا.
وقد تقدم أن ذكرنا في كثير من المواضع أن﴿ عسى ﴾يراد بها في الكتاب الكريم الإعداد وتوقع حصول ما بعدها من الفوز والنجاح لما طلبوا.
تفسير المفردات : الخيرة والتخيير : الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض، سبحان الله : أي تنزيها لله أن ينازعه في الاختيار.
المعنى الجملي : بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم - أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضلال.
الإيضاح :﴿ وربك يخلق ما يشاء ويختار ﴾أي وربك يخلق ما يشاء خلقه، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفي ما يريد أن يصطفيه ويختاره، فيختار أقواما لأداء الرسالة وهداية الخلق وإصلاح ما فسد من نظم العالم، ويميز بعض مخلوقاته عن بعض ويفضّله بما شاء، ويجعله مقدما عنده، وليس لهم إلا اتباع ما اصطفاه وهو لم يصطف شركاءهم الذين اختاروهم للعبادة والشفاعة، فما هم إلا في ضلال مبين، صدوا عن عمل ما يجب عليهم فعله طاعة لله ورسوله، وتصدّوا لما ليس من حقهم أن يفعلوه بحال.
ونحو الآية قوله :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾( الأحزاب : ٣٦ ) و قال الشاعر :
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر | والدهر ذو دول والرزق مقسوم |
والخير أجمع فيما اختار خالقنا | وفي اختيار سواه اللوم والشّوم |
ويستحسن ألا يقدم أحد على أمر من الأمور حتى يسأل الله الخيرة فيه، وذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾( الكافرون : ١ ) وفي الركعة الثانية :﴿ قل هو الله أحد ﴾( الإخلاص : ١ ).
وعن جابر بن عبد الله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول :" إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، الله إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به ". قال " ويسمي حاجته ".
ثم أكد هذا وقرره بقوله :
﴿ ما كان لهم الخيرة ﴾أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئا، وله الخيرة عليهم، فله أن يرسل من يشاء رسولا بحسب ما يعلمه من الحكمة والمصلحة دون أن يكون ذلك منوطا بمال أو جاه كما خيل إلى بعض المشركين فقالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾( الزخرف : ٣١ ).
ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه في سلطانه أحد فقال :
﴿ سبحان الله وتعالى عما يشركون ﴾أي تنزيها له وعلوا عن إشراك المشركين، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء، فإذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي أحدا ممن يجب أو أراد أهل مكة أن يرسل الله رسولا من عظائمهم قال الله لهم : ليس لكم من الأمر شيء، فلا النبي صلى الله عليه وسلم بقادر على هدي عمه، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة في عظمائهم.
ثم بين اختياره تعالى مبني على العلم الصحيح لاختيارهم فقال :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم - أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضلال.
الإيضاح :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾أي إن اختياره من يختار منهم للإيمان به مبني على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها، فيختار للخير أهله فيوفقهم له، ويولي الشر أهله ويخليهم وإياه.
ونحو الآية قوله :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾( الرعد : ١٠ ).
ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلها واحدا فردا صمدا، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علّمه قال :﴿ وهو الله لا إله إلا هو ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم - أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضلال.
الإيضاح :﴿ وهو الله لا إله إلا هو ﴾أي وهو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته، وهو العليم بكل شيء، القادر على كل شيء.
ثم ذكر بعض صفات كماله فقال :
﴿ له الحمد في الأولى والآخرة ﴾أي هو المحمود في جميع ما يفعل في الدنيا والآخرة، لأنه المعطي لجميع النعم عاجلا وآجلا.
﴿ وله الحكم ﴾النافذ في كل شيء، فلا معقب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
﴿ وإليه ترجعون ﴾يوم القيامة فيجزي كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا، ولا يخفى عليه منهم خافية.
تفسير المفردات : أرأيتم : أي أخبروني، والسرمد : الدائم المتصل قال طرفة :
لعمرك ما أمري علي بغمة | نهاري ولا ليلي علي بسرمد |
الإيضاح :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ﴾أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله : أيها القوم أخبروني إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار له يتبعه إلى يوم القيامة، أي معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار فتستضيئون به ؟
وفي هذا الأسلوب من التبكيت والتقريع والإلزام ما لا يخفى.
﴿ أفلا تسمعون ﴾ما يقال لكم سماع تدبر وتفكر فتتعظوا وتعلموا أن ربكم هو الذي يأتي بالليل ويزيل النهار إذا شاء، وإذا أراد أتى بالنهار وأذهب الليل، ولا يقدر على ذلك سواه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم، وتفضل به من المنن - أردف هذا تفصيل ما يجب أن يحمد عليه منها، ولا يقدر عليها سواه.
الإيضاح :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ﴾أي أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائما لا ليل معه أبدا إلى يوم القيامة، أي المعبودات غير الله الذي له عبادة كل شيء يأتيكم بليل تستقرون فيه وتهدؤون ؟
﴿ أفلا تبصرون ﴾الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار.
ثم بين أن المخالفة بينهما من فضله تعالى ورحمته فقال :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ﴾.
الإيضاح :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ﴾أي ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار، وخالف بينهما فجعل الليل ظلاما لتستقروا فيه راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارا في شؤونكم المختلفة، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله.
﴿ ولعلكم تشكرون ﴾أي ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم، وتخلصوا له الحمد، لأنه لم يشركه في إنعامه عليكم شريك، ومن ثم ينبغي ألا يكون له شريك يحمد.
والخلاصة : إن الليل والنهار نعمتان تتعاقبان على مر الزمان، والمرء في حاجة إليهما، إذ لا غنى له عن الكدح في الحياة لتحصيل قوته، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضي لولا ضوء النهار، كما لا يكمل له السعي على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل، ولا يقدر على شيء من ذلك إلا الله الواحد القهار.
وجاء تذييل الآيتين بقوله :﴿ أفلا تسمعون ﴾، ﴿ أفلا تبصرون ﴾لبيان أنهم لما ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر.
المعنى الجملي : بعد أن وبخ المشركين أولا على فساد رأيهم في اتخاذ الشركاء لله، ثم ذكر التوحيد ودلائله - عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيا ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح، بل كان عن محضر الهوى كما يرشد إلى ذلك قوله :﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾( البقرة : ١١١ ).
الإيضاح :﴿ ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾أي ويوم ينادي ربك - أيها الرسول - هؤلاء المشركين، فيقول لهم : أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي، ليخلصوكم مما أنتم فيه.
وهذا النداء للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد على عبادة غير الله، للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضبه تعالى من الإشراك به، كما أنه لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز وجل.
المعنى الجملي : بعد أن وبخ المشركين أولا على فساد رأيهم في اتخاذ الشركاء لله، ثم ذكر التوحيد ودلائله - عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيا ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح، بل كان عن محضر الهوى كما يرشد إلى ذلك قوله :﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾( البقرة : ١١١ ).
الإيضاح :﴿ ونزعنا من كل أمة شهيدا ﴾أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما آتاهم به عن الله برسالته.
ونحو الآية قوله :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾( النساء : ٤١ ).
وهذا في موقف من مواقف القيامة، وفي موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة كما قال تعالى :﴿ وجاء بالنبيين والشهداء ﴾( الزمر : ٦٩ ).
ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة فقال :
﴿ فقلنا هاتوا برهانكم ﴾على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء مع إعذار الرسل إليكم، وإقامة الحجج عليكم، فلم يحيروا جوابا وأيقنوا حينئذ بعذاب دائم، ونار تتلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
وحينئذ يستبين لهم خطأ ما كانوا يفعلون كما قال :
﴿ فعلموا أن الحق لله ﴾أي فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة عليهم، وأن خبره هو الصادق، وأنه لا يشركه في الألوهية شيء سواه.
﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾أي وغاب عنهم ما كانوا يتخرّصون به في الدنيا ويكذبون به على ربهم من الأباطيل والأضاليل.
تفسير المفردات : فبغى عليهم : أي تكبّر وتجبّر، والكنز : المال المدفون في باطن الأرض، والمراد به هنا المال المدخر، ومفاتحه : أي خزائنه واحدها مفتح( بفتح الميم )وتنوء : من ناء به الحمل ينوء : إذا أثقله حتى أماله. قال ذو الرمة :
تنوء بأخراها فلأيا قيامها | وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر |
ولست بمفراح إذا الدهر سرني | ولا جازع من صرفه المتقلب |
ندم البغاة ولات ساعة مندم | والبغي مرتع مبتغيه وخيم |
وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة، وأقرأهم لها، لكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوة لموسى، والمذبح والقربان لهارون، فما لي إذا ؟
﴿ فبغي عليهم ﴾أي تجاوز الحد في احتقارهم. والقرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي.
ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله :
﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة ﴾أي وأعطيناه المال المذخور الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه العدد الكثير من الأقوياء من الناس.
روي عن ابن عباس أن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء، وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوي يعسر الوصول إليه، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شيء معين.
وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال :
﴿ إذ قال له قومه لا تفرح ﴾أي إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتي حين قال له قومه من بني إسرائيل : لا تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا، وتتلهى عن شؤون الآخرة، وفعل ما يرضي ربك.
ثم علل النهي عن الفرح بكونه مانعا محبة الله فقال :
﴿ إن الله لا يحب الفرحين ﴾أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ويقربهم من جواره، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.
وأثر عن بعضهم أنه قال : لا يفرح بالدنيا لا من رضي بها واطمأن إليها، أما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب فلا يفرح بها، وما أحسن ما قال المتنبي :
أشد الغم عندي في سرور | تيقّن عنه صاحبه انتقالا |
ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا :
﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ﴾.
﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا ﴾.
﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ﴾.
﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رؤوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم. أعقبه بقصص قارون، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت في الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف، وزلزلت به الأرض، وهوت من تحته، ثم أصبح مثلا يضرب للناس في ظلمه وعتوه، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة، وما يكون لهم من النكال والوبال في الدنيا والآخرة فيندمون على ما فعلوا :
ندم البغاة ولات ساعة مندم | والبغي مرتع مبتغيه وخيم |
﴿ ولا تنس نصيبك من الدنيا ﴾أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا في مآكلها، ومشاربها وملابسها ؛ فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، وروي عن ابن عمر :" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " وعن الحسن :" قدم الفضل وأمسك ما يبلغ ".
﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ﴾أي وأحسن إلى خلقه، كما أحسن هو إليك فيما أنعم به عليك، فأعن خلقه بمالك وجاهك، وطلاقة وجهك، وحسن وجهك وحسن لقائهم، والثناء عليهم في غيبتهم.
﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض ﴾أي ولا تصرف همتك، بما أنت فيه إلى الفساد في الأرض، والإساءة إلى خلق الله.
﴿ إن الله لا يحب المفسدين ﴾أي إن الله لا يكرم المفسدين، بل يهينهم ويبعدهم من حظيرة قربه، ونيل مودته ورحمته.
ثم بين أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد في كفران النعمة فقال :﴿ قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ﴾.
ندم البغاة ولات ساعة مندم | والبغي مرتع مبتغيه وخيم |
وتلخيص ذلك : إني إنما أعطيته لعلم الله أنى له أهل.
ونحو الآية قوله :﴿ فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على عليم ﴾( الزمر : ٤٩ ).
فرد الله عليه مقاله بقوله :
﴿ أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ﴾أي أنسى ولم يعلم، حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي ؟ أن الله قد أهلك من قبله من الأمم، من هم أشد منه بطشا وأكثر جمعا للأموال ؟ ولو كان الله يؤتي الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالا، لأن من يرضى الله عنه، ولم يهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالا، لأن من يرضى الله عنه، فمحال أن يهلكه وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا، ألم يشاهد فرعون وهو في أبهة ملكه، وحقّق أمره يوم هلكه.
وفي هذا الأسلوب تعجيب من حاله، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك.
وبعد أن هدده سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا - أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة وهو عدم سؤالهم عن ذنوبهم، إذ إنه يؤذن بشدة الغضب عليهم، والإيقاع بهم لا محالة، فقال :﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾أي إنه تعالى حين إرادة عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم ولا عن كنهها، لأنه عليم بها، ولا يعاتبهم عليها، كما قال تعالى :﴿ فما هم من المعتبين ﴾( فصلت : ٢٤ )وقال :﴿ ولا هم يستعتبون ﴾( النحل : ٨٤ ).
ونحو الآية قوله :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾( الرحمان : ٣٩ ).
وهذا لا يمنع أنهم يسألون سؤال تقريع وإهانة، كما جاء في قوله :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ﴾( الحجر : ٩٢-٩٣ ).
تفسير المفردات : الحظ : البخت والنصيب.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولوا القوة - أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو في أبهى حليه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين : إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ؛ لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
الإيضاح :﴿ فخرج على قومه في زينته ﴾أي فخرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر من مراكب وخدم وحشم، مريدا بذلك التعالي على الناس، وإظهار العظمة، وذلك من الصفات البغيضة، والافتخار الممقوت، والخيلاء المذمومة لدى عقلاء الناس من جرّاء أنها تقوّض كيان المجتمع، وتفسد نظمه، وتفرق شمل الأمة، وتقسمها طبقات، وفي ذلك تخاذلها، وطمع العدو في امتلاك ناصيتها.
وفي هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يظهرون النعم، إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه، وسعة ماله بين عشيرته وبني جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب الله ثراءه ويجعله عبرة لمن اعتبر.
فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما في الآخرة فحسب، بل يحصل شؤمهما في الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم.
وقد روي عن مفسري السلف في زينة قارون ما يجعلنا نقف أمامه موقف الحذر، ويجعلنا نعتقد أن الإسرائيليات سداه ولحمته، فمن ذلك روي عن قتادة قال : ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه، على أربعة آلاف دابة، عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب، ومعه أربعمائة آلاف فارس على الخيول، وعليهم الثياب الأرجوانية، ومعه ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والثياب الحمر يركبن البغال الشهب.
وحين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين :
١ )﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾أي قال : من كان همه الدنيا وزينتها : يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل لقارون منها، حتى ننعم عيشا، ونتمتع بزخارف الحياة كما يتمتع.
وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم، وفي كل بلد، وفي كل قرية، فترى الرجل والشاب، والمرأة والفتاة، يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتي فلان وفلانة من ثوب جميل، أو دابة فارهة، أو مزرعة يحصد غلتها، أو قصر مشيد، أو نحو ذلك.
ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم :
﴿ إنه لذو حظ عظيم ﴾أي إن الله قد تفضل عليه، وآتاه من بسطة الرزق حظا عظيما، ونصيبا كبيرا يغبط عليه.
والقائلون هذه المقالة : إما جماعة من المؤمنين قالوا ذلك جريا على الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنوا مثل ماله، ولم يتمنوا زوال نعمته، ومثل هذا لا ضرر فيه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولوا القوة - أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو في أبهى حليه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين : إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ؛ لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
الإيضاح : ٢ )﴿ وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ﴾أي وقال الذين أوتوا العلم بما أعد الله لعباده في الآخرة وصدقوا به ردا على أولئك المتمنين : تبا لكم وخسرا، كيف تتغالون في طلب الدنيا، ويسيل لعابكم عليها، وما عند الله من ثواب في الآخرة لمن صدق به، وآمن برسله، وعمل صالح الأعمال، خير مما تتمنون، فإن هذا باق، وذاك فان، وهذا خالص مما يشوبه وينغصه من الأكدار، وذلك مشوب بالأحزان والمنغّصات.
ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال :
﴿ ولا يلقاها إلا الصابرون ﴾أي ولا يتبع هذه النصيحة، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات، واجتنب المحرمات، ورضي بقضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار، وأنفق ماله في كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع، وكان قدوة صالحة في حفظ مجد أمته، ورفع صيتها بين الأمم، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها، وإعلاء شأنها، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس، ويلقي المثوبة من ربه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولوا القوة - أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو في أبهى حليه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين : إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ؛ لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
الإيضاح : ثم ذكر ما آل إليه بطره وأشره من وبال ونكال فقال :
﴿ فخسفنا به وبداره الأرض ﴾أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوه وفي هذا عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالي في الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض.
وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة، فضاعت دورهم وأموالهم، وأصبحت ملكا لغيرهم، وهذا هو الخسف العظيم، وما خسف قارون بشيء إذا قيس بهذا، فإن الخسف الآن خسف الأمم، لا خسف الأفراد، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه، وخسف أمة أدهى من خسف فرد، فليخسف الفرد، ولتبق الأمة، وهكذا دخلت البلاد تباعا في ملك الغاصب، واحدة إثر أخرى، ولم يبق منها إلا ما رحم الله، وما ذاك إلا بجهلها لدينها، وعدم اتباعها أحكامه، وغفلتها عن مقاصده.
ثم بين أنه لم يجد له شفيعا ولا نصيرا يدفع عنه العذاب حينئذ فقال :
﴿ فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ﴾أي ما أغنى عنه ماله، ولا خدمه ولا حشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله ونكاله، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه.
وقصارى ذلك : إنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها، الجاهلة بمقاصد شريعتها في إنفاق الأموال أن تجد مناصا من خراب الديار، وإضاعة المجد الطارف والتالد، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة، وقد كان ذلك جزاءا وفاقا، لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها، ولا يظلم ربك أحدا، وهكذا حال من تصرف في ماله تصرف السفهاء، وركب رأسه، وصار يبعثره يمنة ويسرة، فإنه سيندم ولات ساعة مندم.
وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال، وحفظ الشهوات والعقول، وكل الفضائل التي حث عليها الدين، وسلك سبيلها السلف الصالح.
وقد حكى المفسرون في أسباب الخسف أمور كثيرة في غاية في الغرابة يبعد أن تصدقها العقول، ومن تم قال الرازي : إنها مضطربة متعارضة، فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب. ا ه.
ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب، صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى، وداعيا إلى الرضا بقضاء الله وبما قسمه، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله، كما أشار إلى ذلك بقوله :﴿ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون وي كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولوا القوة - أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو في أبهى حليه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين : إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ؛ لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض.
الإيضاح :﴿ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون وي كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ﴾أي فلما خسف الله بقارون الأرض ؛ أصبح قومه يقولون : إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا، لا تدل على رضا الله عن صاحبه ؛ فالله يعطي ويمنع ويوسع ويضيق، ويرفع ويخفض، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة، لا معقب لحكمه. وقد روي عن ابن مسعود مرفوعا :" إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب ".
ولما لاح لهم من واقعة أمره أن الرزق بيد الله يصرفه كيف يشاء، أتبعوه بما يدل على أنهم اعتقدوا أن الله قادر على كل ما يريد من رزق وغيره فقالوا :
﴿ لولا أن من الله علينا لخسف بنا ﴾أي لولا لطف الله بنا لخسف بنا كما خسف به، لأنا وددنا أن نكون مثله. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم :
﴿ وي كأنه لا يفلح الكافرون ﴾لنعمه المكذبون برسله وبما وعدوا به من ثواب الآخرة، كما كان شأن قارون.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه قول أهل العلم بالدين : ثواب الله خير - أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء، وهو الدار الآخرة ؛ وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين يترفعون على الناس، ولا يتجبرون عليهم، ولا يفسدون فيهم، بأخذ أموالهم بغير حق، ثم بين بعدئذ ما يحدث في هذه الدار ؛ جزاء على الأعمال في الدنيا، فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف ؛ إلى ما لا يحيط به إلا علام الغيوب، فضلا من الله ورحمة ؛ وجزاء السيئة مثلها، لطفا منه بعباده، وشفقة عليهم.
الإيضاح :﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ﴾أي تلك الدار التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها - نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحق، وإعراضا عنه، ولا ظلم ومعصية الله.
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنه أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد ". وروى مسلم وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال :" إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس ".
وروى أبو هريرة : أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان جميلا، فقال : يا رسول الله إني رجل حبّب إلي الجمال ؛ وأعطيت منه ما ترى ؛ حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل ؛ أفمن ذلك ؟ قال :" لا، ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس ".
وعن عدي بن حاتم قال : لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة وجلس على الأرض ؛ فقال :" أشهد إنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا فأسلم " أخرجه ابن مردويه.
﴿ والعاقبة للمتقين ﴾أي والعاقبة المحمودة، وهي الجنة لمن اتقى عذاب الله بعمل الطاعات، وترك المحرمات ولم يكن كفرعون في الاستكبار على الله، بعد امتثال أوامره، والارتداع عن زواجره، ولا كقارون في إرادة الفساد في الأرض.
الإيضاح : ثم بين ما يكون في تلك الدار من جزاء على الأعمال فقال :
﴿ من جاء بالحسنة فله خير منها ﴾أي من جاء الله يوم القيامة بحسنة فله خير منها، فهو يضاعفها له أضعافا مضاعفة تفضلا منه ورحمة.
﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ﴾أي ومن أتى بسيئة فلا يجزي عليها إلا مثلها، وهذا منه سبحانه رحمة وعدل.
ونحو الآية قوله :﴿ ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾( النمل : ٩٠ ).
تفسير المفردات : فرض عليك : أي أوجب عليك، ومعاد الرجل : بلده، لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون، وبين بغي قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإيذائهم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة، وفتحه إياها منصورا ظافرا.
الإيضاح :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه - لرادّك إلى محل عظيم القدر اعتدته وألفته، وهو مكة والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح، وقد كان للعود إليها شأن عظيم، لاستيلاء رسول الله عليها عنوة، وقهره أهلها، وإظهار عز الإسلام، وإذلال المشركين.
وهذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا.
روى مقاتل : أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الغار( حين الهجرة )وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال له : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم، فقال جبريل : فإن الله يقول :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾.
وهذه إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر.
ولما قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم( إنك لفي ضلال مبين )نزل قوله تعالى :
﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾أي قل لمن خالفك وكذبك من قومك المشركين ومن تبعهم : ربي أعلم بالمهتدى مني ومنكم وستعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن تكون له الغلبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون، وبين بغي قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإيذائهم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة، وفتحه إياها منصورا ظافرا.
الإيضاح : ثم ذكره سبحانه نعمه، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم فقال :
﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ﴾أي وما كنت أيها الرسول ترجو أن ينزل عليك القرآن، فتعلم أخبار الماضين من قبلك، وما سيحدث من بعدك وما فيه من تشريع، فيه سعادة البشر في معاشهم ومعادهم ؛ وآداب هي منتهى ما تسمو إليه نفوسهم وتطمح إليها عقولهم ؛ ثم تتلو ذلك على قومك، ولكن ربك رحمك فأنزله عليك.
ثم بين ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة فقال :
﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾أي فاحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك ؛ ولا تكونن عونا لمن كفروا به ؛ ولكن فارقهم ونابذهم.
ثم شدد عزمه وقواه بألا يأبه بمخالفتهم فقال :﴿ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك ﴾.
الإيضاح :﴿ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك ﴾أي ولا تبال بهم ؛ ولا تهتم بمخالفتهم لك ؛ وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك ومؤيدك ؛ ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان.
ثم أمره أن يصدع بالدعوة ؛ ولا يألو جهدا في تبليغ الرسالة فقال :
﴿ وادع إلى ربك ﴾أي وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم ؛ واعبده وحده لا شريك له.
﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾أي ولا تتركن الدعاء إلى ربك وتبليغ المشركين رسالتك، فتكون من فعل المشركين بمعصيته ومخالفة أمره.
ثم فسر هذا وبينه بقوله :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون، وبين بغي قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإيذائهم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة، وفتحه إياها منصورا ظافرا.
الإيضاح :﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر ﴾أي ولا تعبد أيها الرسول مع الله الذي لا عبادة كل شيء - معبودا آخر سواه.
ثم علل هذا بقوله :
﴿ لا إله إلا هو ﴾أي لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، ونحو الآية قوله :﴿ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ﴾( المزمل : ٩ ).
ثم بين صفاته فقال :
﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾أي هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق، كما قال :﴿ كل من عليها فان( ٢٦ ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾( الرحمان : ٢٦-٢٧ )وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أصدق كلمة قالها لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".
﴿ له الحكم ﴾أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ في الخلق.
﴿ وإليه ترجعون ﴾يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وصل ربنا على محمد وآله.