تفسير سورة النجم

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة النجم من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة والنجم
وهي مكية، وفي قول بعضهم إلا قوله تعالى :( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم )١ الآية. قال : هي نزلت بالمدينة. وهذه السورة أول سورة أعلنها النبي صلى الله عليه و سلم وقرأها جهرا عند المشركين.
١ - النجم : ٣٢..

قَوْله تَعَالَى: ﴿والنجم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الْوَالِبِي هُوَ الثريا، [وَهِي] إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مُجَاهِد. وروى أَسْبَاط عَن السدى: أَنه الزهرة. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى، وَهُوَ قَول جمَاعَة: أَن المُرَاد بِهِ الْقُرْآن أنزل نجما نجما فِي عشْرين سنة. وَقيل: فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: قَول قَتَادَة وَغَيره أَنه جَمِيع النُّجُوم فِي السَّمَاء، عبر عَنْهَا باسم الْجِنْس، وَهَذَا أظهر الْأَقَاوِيل؛ لِأَنَّهُ يُطَابق اللَّفْظ من كل وَجه. وَيجوز أَن يذكر النَّجْم بِمَعْنى النُّجُوم.
قَالَ [عمر] بن أبي ربيعَة:
(أحسن [النَّجْم] فِي السَّمَاء الثريا والثريا فِي الأَرْض زين السَّمَاء)
وَمَعْنَاهُ: أحسن النُّجُوم.
وَقَوله: ﴿إِذا هوى﴾ أَي: غَابَ وغار هَذَا إِذا حملناه على النَّجْم الْمَعْرُوف وَأما إِذا حملناه على نُجُوم الْقُرْآن؛ فَمَعْنَاه: إِذا نزل يَعْنِي نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: ﴿والنجم إِذا هوى﴾ أَي: تساقطت يَوْم الْقِيَامَة أَي:
283
﴿مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى (٢) وَمَا ينْطق عَن الْهوى (٣) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى (٤) علمه شَدِيد القوى (٥) النُّجُوم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا النُّجُوم انكدرت﴾ أَي: انتثرت. وَعَن بَعضهم: ﴿إِذا هوى﴾ مَعْنَاهُ: انقضاضها فِي أثر الشَّيَاطِين، وَهُوَ الرَّمْي بِالشُّهُبِ على مَا ورد بِهِ الْقُرْآن فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
284
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى﴾ الْآيَة الأولى وَردت على وَجه الْقسم وَمَعْنَاهُ وَرب النَّجْم.
وَقَوله ﴿مَا ضل صَاحبكُم﴾ على هَذَا وَقع الْقسم، وَكَانَت قُرَيْش يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا ضال غاو، فأقسم الله تَعَالَى أَنه مَا ضل وَمَا غوى، أَي: مَا أَخطَأ [طَرِيقا] ﴿وَمَا غوى﴾ أَي: مَا خرج عَن الرشد فِي أَمر دينه ودنياه، والغي: ضد الرشد. وَيُقَال: مَا غوى أَي: مَا خَابَ سَعْيه فِيمَا يَطْلُبهُ. كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى وجود مَا هُوَ فِي طلبه.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما)
أَي: من خَابَ سَعْيه، وَلم يجد مَا يَطْلُبهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بالهوى. وَقَالَ غَيره: مَا ينْطق عَن هَوَاهُ أَي: مَا ينْطق بِغَيْر الْحق؛ لِأَن من اتبع الْهوى فِي قَوْله قَالَ بِغَيْر الْحق.
وَقَوله: ﴿إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾ الْوَحْي فِي اللُّغَة: إِلْقَاء الشَّيْء إِلَى النَّفس خُفْيَة، وَهُوَ فِي عرف أهل الْإِسْلَام عبارَة عَمَّا ينزله الله تَعَالَى على الْأَنْبِيَاء، وَمن الْأَنْبِيَاء التَّبْلِيغ إِلَى الْخلق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿علمه شَدِيد القوى﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الَّذِي علم الرَّسُول مَا أنزلهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ.
284
﴿ذُو مرّة فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى (٧) ثمَّ دنا فَتَدَلَّى (٨) ﴾
وروى عباد بن مَنْصُور عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن قَوْله: " علمه شَدِيد القوى " هُوَ الله تَعَالَى. والقوى جمع الْقُوَّة. قَالَ ابْن عَبَّاس: من قُوَّة جِبْرِيل أَنه أَدخل جنَاحه تَحت الأَرْض السَّابِعَة، وَقلع مَدَائِن لوط، ورفعها إِلَى السَّمَاء، ثمَّ قَلبهَا. وَعَن كَعْب الحبر: أَن إِبْلِيس تعرض لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام على عقبَة من الأعقاب، وقصده، فنفخه جِبْرِيل بجناحه نفخة أَلْقَاهُ إِلَى الْهِنْد.
285
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذُو مرّة فَاسْتَوَى﴾ قَالَ الْحسن: ذُو مرّة أَي: ذُو منظر حسن. وَقَالَ غَيره وَهُوَ الأولى ذُو قُوَّة. يُقَال: حَبل مري أَي: مُحكم الفتل.
وَقَوله: ﴿فَاسْتَوَى﴾ أَي: فَاسْتَوَى جِبْرِيل فِي أفق السَّمَاء على صورته الَّتِي خلق فِيهَا. وَكَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وعلقمة وقرة بن شرَاحِيل وَأكْثر أهل التَّفْسِير. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه الله تَعَالَى، وَالأَصَح هُوَ الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى﴾ هُوَ الْأُفق الَّذِي تطلع من جَانِبه الشَّمْس. وَقيل: الَّذِي يَجِيء مِنْهُ النَّهَار. والأفق: جَوَانِب السَّمَاء. وَيُقَال بالأفق الْأَعْلَى أَي: بالسماء. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أظهر نَفسه للنَّبِي على صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا، وَقد سد الْأُفق ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات: رَأسه فِي السَّمَاء وَرجلَاهُ فِي الأَرْض، فقد مَلأ بجناحيه مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ دنا﴾ أَي: دنا جِبْرِيل من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَوله: ﴿فَتَدَلَّى﴾ أَي: زَاد فِي الدنو. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: ﴿ثمَّ دنا فَتَدَلَّى﴾ على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.
وَقَوله: ﴿تدلى﴾ أَي: هوى وَأرْسل نَفسه من السَّمَاء، ثمَّ دنا أَي: دنا جِبْرِيل من
285
﴿فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى (٩) النَّبِي وَصَارَ مَا بَينهمَا قاب قوسين أَو أدنى، وَهُوَ معنى قَوْله: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى﴾ أَي: كَانَ (بَينهمَا) مِقْدَار قوسين أَو أقل من ذَلِك، وقاب لُغَة يَمَانِية فِي هَذَا الْمَعْنى، قَالَ الشَّاعِر:
((ألم تعلمُوا أَن رشيمة لم تكن لتبخسنا من وَرَاء قاب إِبْهَام))
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قاب نصف الْإِبْهَام. وروى أَسْبَاط عَن السدى أَن قَوْله: ﴿فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى﴾ أَي: قدر ذراعين. وَقَالَ مُجَاهِد: من الْوتر إِلَى المقبض. وَقيل: من السية إِلَى السية، فَإِن قيل: إِذا حملتم هَذَا على جِبْرِيل، فَكيف تَقْدِير الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: " أَن جِبْرِيل لما اسْتَوَى فِي الْأُفق الْأَعْلَى على صورته غشي على النَّبِي " وَهُوَ مَرْوِيّ فِي الْأَخْبَار من عظم مَا رأى، فانتقل جِبْرِيل من صورته إِلَى الصُّورَة الَّتِي كَانَ يلقى النَّبِي فِيهَا، وَهُوَ صُورَة رجل، ودنا من النَّبِي، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿ثمَّ دنا﴾ ثمَّ نكس رَأسه إِلَيْهِ، بِمَعْنى قَوْله: ﴿فَتَدَلَّى﴾ وضمه إِلَيْهِ، فسكنه من رَوْعَته.
286
فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى﴾ [و] " أَو " كلمة تشكيك، وَلَا يجوز الشَّك على الله تَعَالَى. وَإِن كَانَ بِمَعْنى الْوَاو، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: فَكَانَ مِنْهُ أدنى من قاب قوسين، وَأَيْضًا فقد قَالَ: ﴿قاب قوسين أَو أدنى﴾ وَأي معنى لذكر القوسين هَاهُنَا وتخصيصهما بِالذكر، وَقد كَانَ يُمكنهُ تمثيله وتشبيهه بِشَيْء وَاحِد غير الْقوس فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر القوسين؟ وَالْجَوَاب: أَن الْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب على مَا كَانُوا يتخاطبون بِهِ، وَيفهم بَعضهم من بعض، فعلى هَذَا
286
نزلت الْآيَة، إِنَّكُم لَو رَأَيْتُمُوهُ لقلتم إِن الْقرب الَّذِي بَينهمَا قاب قوسين أَو أدنى أَو أنقص، وَقيل: أَزِيد أَو أنقص، وَأما ذكر الْقوس فَهُوَ على مَا كَانُوا يعتادونه، وَقرب الْقوس من الْوتر مَعْلُوم. وَيُقَال: إِن القوسين هَاهُنَا بِمَعْنى الْقوس الْوَاحِد، وَقد ذكرنَا أَن الشَّيْء الْوَاحِد يذكر بِلَفْظ التَّثْنِيَة. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ القوسان على الْحَقِيقَة، وَهُوَ غير مستنكر فِي لُغَة الْعَرَب، وَلَا يستبعد.
القَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن قَوْله: ﴿ثمَّ دنا﴾ أَي: دنا مُحَمَّد من ربه.
وَقَوله: ﴿فَتَدَلَّى﴾ أَي: زَاد فِي الدنو. وَفِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة أَن النَّبِي [قَالَ] :" بَينا أَنه قَاعد إِذْ أَتَانِي جِبْرِيل فلكزني بَين كَتِفي، فَقُمْت فَإِذا شَجَرَة عَلَيْهَا شبه وكرين، فَجَلَست فِي أَحدهمَا، وَجلسَ جِبْرِيل فِي الآخر، وارتفعنا إِلَى السَّمَاء، وَرَأَيْت نورا عَظِيما، وَنظرت فَإِذا جِبْرِيل كالحلس فَعرفت فضل خَشيته على خَشْيَتِي، ولط دُوننَا الْحجاب ". وَفِي بعض الرِّوَايَات قَالَ: " فارقني جِبْرِيل، وهدأت الْأَصْوَات، وَسمعت من رَبِّي: ادن يَا مُحَمَّد ". وَقد ذكر هَذَا اللَّفْظ فِي الصَّحِيح، وَهُوَ دنو مُحَمَّد من ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى قَوْله: ﴿ثمَّ دنا﴾ أَي: دنا الرب من مُحَمَّد، وَهُوَ لفظ ثَابت أَيْضا، وَهُوَ على مَا شَاءَ الله.
وَقَوله: ﴿فَتَدَلَّى﴾ أَي: زَاد فِي الدنو، وَالْمَعْرُوف عِنْد الْأَكْثَرين القَوْل الأول، وَهُوَ الأسلم.
287
{فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى (١٠) مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى (١١)
288
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: فَأوحى جِبْرِيل إِلَى عبد الله مَا أوحى، وَهُوَ مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى أَي: أوحى الله تَعَالَى إِلَى مُحَمَّد مَا أوحى. وَفِي الْأَخْبَار: أَنه كَانَ مِمَّا أوحى الله إِلَيْهِ أَنه فرض على هَذِه الْأمة خمسين صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ثمَّ ردَّتْ إِلَى الْخمس، [وَمِمَّا] أوحى إِلَيْهِ أَيْضا خَوَاتِيم سُورَة الْبَقَرَة، وَمِمَّا أوحى إِلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَة أَنه غفر لأمته الْمُقْحمَات مَا لم يشركوا بِاللَّه " يَعْنِي: يغْفر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: رأى شَيْئا، وَصدق فِيمَا أخبر عَن رُؤْيَته. وَيُقَال: مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى أَي: رأى الْفُؤَاد مَا رَآهُ حَقِيقَة، وَلم يكن على تخييل وحسبان.
تَقول الْعَرَب: كذبت فلَانا عينه: إِذا تخيل لَهُ الشَّيْء على غير حَقِيقَته.
قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: يُقَال: مَا كذب فلَان الحَدِيث. أَي: مَا كذب فِيهِ.
وَقُرِئَ: ﴿مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى﴾ من التَّكْذِيب، وَالْأول أولى، قَالَ الشَّاعِر:
(كذبتك عَيْنَيْك أَو رَأَيْت بِوَاسِطَة غلس الظلام من الربَاب خيالا)
وَيُقَال: مَا كذب الْفُؤَاد الْعين أَي: لم توهمه أَنه علم شَيْئا وَلم يُعلمهُ. وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه بفؤاده مرَّتَيْنِ. فَإِن قَالَ قَائِل: الْمُؤْمِنُونَ يرونه بفؤادهم، وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الْعلم بِهِ، فَمَا معنى تَخْصِيص النَّبِي؟
288
﴿أفتماروه على مَا يرى (١٢) وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى (١٣) ﴾ وَالْجَوَاب: أَنهم قَالُوا: إِن الله تَعَالَى خلق رُؤْيَة لفؤاده، فَرَأى بفؤاده مثل مَا يرى الْإِنْسَان بِعَيْنِه. وعَلى القَوْل الأول الرُّؤْيَة منصرفة إِلَى جِبْرِيل.
289
قَوْله تَعَالَى ﴿أفتمارونه على مَا يرى﴾ بعنى افتجادلونه وَكَانَت مجادلتهم مجادلة الشاكين المكذبين وَقد روى أَنهم استعوصفوه مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس واستخبروه عَن عيرهم فِي الطَّرِيق وقربها من مَكَّة وقرىء " أفتمرونه على مَا يرى أى أفتجحدونه قَالَ الشَّاعِر:
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى﴾ أَي: رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نزلة أُخْرَى أَي: مرّة أُخْرَى. فَإِن قيل: قد كَانَ رَآهُ كثيرا، فَمَا معنى نزلة أُخْرَى؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم ير جِبْرِيل فِي [صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا] إِلَّا مرَّتَيْنِ: مرّة بالأفق الْأَعْلَى، وَكَانَ ذَلِك عِنْد ابْتِدَاء الْوَحْي، وَقَالَ أهل الْمعَانِي: كَانَ ذَلِك شبه آيَة أَرَاهَا النَّبِي ليعلم أَنه من الله. والمرة الثَّانِيَة رَآهُ عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى لَيْلَة الْمِعْرَاج كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى﴾ والسدرة شَجَرَة النبق. وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَيُقَال: فِي السَّادِسَة. وَعَن عِكْرِمَة: هِيَ على يَمِين الْعَرْش.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رفعت لي سِدْرَة الْمُنْتَهى فَإِذا نبقها كقلال هجر، وأوراقها كآذان الفيلة، يخرج من أَصْلهَا أَرْبَعَة أَنهَار: نهران ظاهران، ونهران باطنان ". على مَا بَينا.
وَاخْتلف القَوْل فِي معنى الْمُنْتَهى، قَالَ بَعضهم: يَنْتَهِي إِلَيْهَا علم الْمَلَائِكَة، وَلَا يعلمُونَ مَا وَرَاء ذَلِك، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف.
289
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يصعد إِلَيّ السَّمَاء، وَيَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يهْبط من فَوق.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تصعد بأعمال بني آدم حَتَّى إِذا انْتَهوا إِلَى سِدْرَة قبضت مِنْهُم، وَلم يعلمُوا مَا وَرَاء ذَلِك.
وَقد ذكر أَبُو عِيسَى القَوْل الثَّانِي الَّذِي ذكرنَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى المنتهي أَنه يَنْتَهِي إِلَيْهَا مقَام جِبْرِيل. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى﴾ أَي: رأى مُحَمَّد ربه نزلة أُخْرَى، وَقد ذكرنَا قَول ابْن عَبَّاس من قبل.
وَاخْتلف أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي عَنْهُم فِي هَذَا، فَقَالَ ابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة: إِنَّه رأى جِبْرِيل وَلم ير الله تَعَالَى.
وَعَن مَسْرُوق قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا من زعم ثَلَاثًا فقد أعظم الْفِرْيَة، من زعم أَن مُحَمَّدًا يعلم مَا فِي غَد فقد أعظم الْفِرْيَة؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن الله عِنْده علم السَّاعَة﴾ وَذكرت الْآيَة، وَمن زعم أَن مُحَمَّدًا كتم من الْوَحْي فقد أعظم الْفِرْيَة؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته﴾ وَمن زعم أَن مُحَمَّدًا رأى ربه فقد أعظم الْفِرْيَة، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار﴾ الْآيَة.
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: " أَن مُحَمَّدًا رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج بِعَيْنِه ". وَهُوَ قَول أنس وَكَعب الْأَحْبَار وَجَمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين مِنْهُم: الْحسن، وَعِكْرِمَة: أَن الله قسم رُؤْيَته وَكَلَامه بَين مُحَمَّد ومُوسَى، فَكلم مُوسَى مرَّتَيْنِ، وَرَأى مُحَمَّد ربه
290
{عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدهَا جنَّة المأوى (١٥) إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى (١٦) مرَّتَيْنِ. وَهَذَا قَول جمَاعَة من الْأَئِمَّة مِنْهُم أَحْمد بن حَنْبَل، وَإِسْحَاق، وَغَيرهمَا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: جعلت الْخلَّة لإِبْرَاهِيم، وَالْكَلَام لمُوسَى، والرؤية لمُحَمد.
فَإِن قيل: كَيفَ تجوز الرُّؤْيَة على الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم يكن فِي الدُّنْيَا، وَإِن كَانَ فِي الدُّنْيَا فَكل مَا فعل الله تَعَالَى وَأكْرم بِهِ نَبيا من أنبيائه فَجَائِز بِلَا كَيفَ.
وَفِي رِوَايَة [زرين] حُبَيْش عَن ابْن مَسْعُود فِي معنى الْآيَة " أَن النَّبِي رأى جِبْرِيل وَله سِتّمائَة جنَاح " وَالْخَبَر صَحِيح. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة " وَالله أعلم.
291
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله تعالى :( ولقد رآه نزلة أخرى ) أي : رأى جبريل عليه السلام نزلة أخرى أي : مرة أخرى. فإن قيل : قد كان رآه كثيرا، فما معنى نزلة أخرى ؟ والجواب : أنه لم ير جبريل في [ صورته التي خلق عليها ]١ إلا مرتين : مرة بالأفق الأعلى، وكان ذلك عند ابتداء الوحي، وقال أهل المعاني : كان ذلك شبه آية أراها النبي صلى الله عليه و سلم ليعلم أنه من الله. والمرة الثانية رآه عند سدرة المنتهى ليلة المعراج كما قال :( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) والسدرة شجرة النبق. وفي التفسير : أنها في السماء السابعة، ويقال : في السادسة. وعن عكرمة : هي على يمين العرش.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :" رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كقلال هجر، وأوراقها كآذان الفيلة، يخرج من أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران، ونهران باطنان " ٢. على ما بينا.
واختلف القول في معنى المنتهى، قال بعضهم : ينتهي إليها علم الملائكة، ولا يعلمون ما وراء ذلك، وهو القول المعروف.
والقول الثاني : ينتهي إليها ما يصعد إلي السماء، وينتهي إليها ما يهبط من فوق. وفي بعض الأخبار : أن الملائكة تصعد بأعمال بني آدم حتى إذا انتهوا إلى سدرة قبضت منهم، ولم يعلموا ما وراء ذلك.
وقد ذكر أبو عيسى القول الثاني الذي ذكرنا مسندا إلى النبي صلى الله عليه و سلم٣.
والقول الثالث : أن معنى المنتهي أنه ينتهي إليها مقام جبريل. وفي الآية قول آخر : وهو أن معنى قوله :( ولقد رآه نزلة أخرى ) أي : رأى محمد ربه نزلة أخرى، وقد ذكرنا قول ابن عباس من قبل.
واختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم في هذا، فقال ابن مسعود وجماعة : إنه رأى جبريل ولم ير الله تعالى.
وعن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها من زعم ثلاثا فقد أعظم الفرية، من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية ؛ قال الله تعالى :( إن الله عنده علم الساعة )٤ وذكرت الآية، ومن زعم أن محمدا كتم من الوحي فقد أعظم الفرية ؛ قال الله تعالى :( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته )٥ ومن زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية، قال الله تعالى :( لا تدركه الأبصار... )٦ الآية٧.
وروى عكرمة عن ابن عباس :" أن محمدا صلى الله عليه و سلم رأى ربه ليلة المعراج بعينه " ٨. وهو قول أنس وكعب الأحبار وجماعة كثيرة من التابعين منهم : الحسن، وعكرمة : أن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورأى محمد ربه مرتين. وهذا قول جماعة من الأئمة منهم أحمد بن حنبل، وإسحاق، وغيرهما. وفي بعض الروايات : جعلت الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه و سلم.
فإن قيل : كيف تجوز الرؤية على الله تعالى في الدنيا ؟ والجواب : أنه لم يكن في الدنيا، وإن كان في الدنيا فكل ما فعل الله تعالى وأكرم به نبيا من أنبيائه فجائز بلا كيف.
وفي رواية [ زرين ]٩ حبيش عن ابن مسعود في معنى الآية " أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى جبريل وله ستمائة جناح " والخبر صحيح. وقد ثبت برواية عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" رأيت ربي في أحسن صورة " ١٠ والله أعلم.
١ - في (( الأصل )) : صورة التي خلق فيها. و المثبت من ((ك))..
٢ - تقدم تخريجه..
٣ - هو حديث عبد الله بن مسعود المتقدم قبل حديث..
٤ - لقمان : ٣٤..
٥ - المائدة : ٦٧..
٦ - الأنعام : ١٠٣..
٧ - تقدم تخريجه..
٨ - عزاه السيوطي في الدر ( ٦/١٣٧) لابن مردويه..
٩ - سقط من (( الاصل، ك ))، و المثبت هو الصواب كما سبق في تخريجنا للحديث..
١٠ - تقدم تخريجه..

وَقَوله: ﴿عِنْدهَا جنَّة المأوى﴾ أَي: يأوى إِلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: تأوى إِلَيْهَا أَرْوَاح الشُّهَدَاء. وَقيل: [تأوى] إِلَيْهَا الْمَلَائِكَة.
قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كالغربان يقعن على الشّجر. وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الْجنَّة فِي السَّمَاء وَأَنَّهَا مخلوقة، وَمن زعم أَنَّهَا غير مخلوقة فَهُوَ كَافِر بِهَذِهِ الْآيَة.
وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: جنَّة المأوى جنَّة الْمبيت. وَعَن بَعضهم: جنَّة المثوى وَالْمقَام. وَعَن بَعضهم: يأوى إِلَيْهَا جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة المقربون.
قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هِيَ جنَّة فِيهَا طير خضر فِي حواصلها أَرْوَاح الشُّهَدَاء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: يَغْشَاهَا فرَاش من ذهب. وَعَن الْحسن: يَغْشَاهَا نور الرب تَعَالَى. فِي بعض الْأَحَادِيث: أَن الْمَلَائِكَة اسْتَأْذنُوا لرَبهم أَن ينْظرُوا إِلَى مُحَمَّد لَيْلَة الْمِعْرَاج، فَأذن لَهُم، فَاجْتمعُوا على السِّدْرَة.
291
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت على كل ورقة مِنْهَا ملكا قَائِما يسبح الله تَعَالَى ". أوردهُ أَبُو الْحسن بن فَارس قَالَ: فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى﴾ وَفِي بعض الرِّوَايَات: يَغْشَاهَا جَراد من ذهب. وَاعْلَم أَن السِّدْرَة شَجَرَة تجمع ثَلَاثَة أَشْيَاء: الظل المديد، والطعم اللذيذ، والرائحة الطّيبَة، كَذَلِك الْإِيمَان يجمع ثَلَاثَة أَشْيَاء: النِّيَّة، وَالْقَوْل، وَالْعَمَل. وَاعْلَم أَنا قد ذكرنَا اخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي عَنْهُم فِي أَنه هَل رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج أَولا؟
وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره آثارا سوى مَا ذَكرنَاهَا؛ فحكي عَن ابْن عمر أَن الله تَعَالَى احتجب عَن خلقه بِنور وظلمة ونار. وَرُوِيَ عَن [أبي] الْعَالِيَة الريَاحي رَحمَه الله أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت لَيْلَة الْمِعْرَاج نَهرا، وَرَأَيْت وَرَاءه حِجَابا، وَرَأَيْت وَرَاء الْحجاب نورا، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاء ذَلِك ". وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ " أَن النَّبِي رأى ربه بفؤاده كَمَا يرى بِالْعينِ ".
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر " أَن النَّبِي سُئِلَ هَل رَأَيْت رَبك؟ فَقَالَ: نور أَنِّي أرَاهُ ". فالروايات مُخْتَلفَة فِي الْبَاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ من ذَلِك. وَيَنْبَغِي أَن يُقَال: إِن ثَبت النَّقْل أَنه رأى ربه نحكم بِالرُّؤْيَةِ ونعتقدها، وَإِن لم يثبت النَّقْل فالأمثل أَنه لم ير.
292
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى﴾ فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: لم يلْتَفت يَمِينا وَلَا
292
﴿مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى (١٧) لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى (١٨) أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى (١٩) وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى (٢٠) ﴾ شمالا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: مَا قصر عَمَّا أَمر بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وَمَا جَاوز بَصَره فِي النّظر إِلَى غير مَا أَمر بِهِ بِالنّظرِ. وَمعنى الزيغ فِي اللُّغَة: هُوَ الْميل بِهِ، وَمعنى الطغيان: هُوَ التجاوز.
293
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: أَي: جِبْرِيل وَله سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق. وَفِي رِوَايَة ينتشر من ريشه الدّرّ والياقوت (والتعاويذ). وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن مَسْعُود: أَنه رأى رفرفا أَخْضَر قد مَلأ الْأُفق.
وَتَقْدِير الْآيَة: " رأى من آيَات ربه الْآيَة الْكُبْرَى ". وَقيل: رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى، أَي: النُّور الَّذِي رَآهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى﴾ مَعْنَاهُ: أَفَرَأَيْتُم هَذِه الْأَصْنَام الَّتِي تعبدونها، هَل تملك شَيْئا مِمَّا ذكر الله تَعَالَى؟ أَو هَل لَهَا من الْعُلُوّ والرفعة وَالْقُدْرَة مثل مَا ذكرنَا؟.
وَأما تَفْسِير هَذَا الْأَصْنَام: " فلات " صنم كَانَت ثَقِيف تعبده، وَقيل: إِنَّه كَانَ صَخْرَة. وَأما " الْعُزَّى " فشجرة كَانَت تعبدها غطفان وجشم وسليم. وَيُقَال: كَانَت بَيت عَلَيْهِ سدنة، وَكَانَت الْعَرَب قد عَلقُوا عَلَيْهِ السوار، وزينوه بالعهن وَمَا يُشبههُ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي " أَنه بعث خَالِد بن الْوَلِيد ليهْدم الْعُزَّى فَقطع شجرات ثمَّ، وَهدم بعض الْهدم، فَرجع إِلَى النَّبِي وَأخْبرهُ، فَقَالَ: هَل رَأَيْت شَيْئا؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: إِنَّك لم تفعل، عد، فَعَاد وَبَالغ فِي الْهدم وَقتل السَّدَنَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا عزى عوزيه، يَا عزى خبليه. قَالَ: فَخرجت امْرَأَة عُرْيَانَة من جَوف الْعُزَّى، نَاشِرَة شعرهَا، تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، وتحثو التُّرَاب على رَأسهَا، فعمها خَالِد بِالسَّيْفِ وقتلها، وَرجع
293
إِلَى النَّبِي وَذكر لَهُ ذَلِك. فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى لَا تعبد بعد الْيَوْم ". وَهَذَا خبر مَعْرُوف. وَأما " مَنَاة " صنم كَانَ " بِقديد " بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. وَيُقَال: بالمشلل.
قَالَ أهل التَّفْسِير: وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى﴾ لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن مَنَاة دون اللات والعزى. وَفِي التَّفْسِير: أَن " اللات " كَانَ رجل يلت السويق على حجر، فَكَانَ كل من يَأْكُل مِنْهُ سمن، فَلَمَّا مَاتَ عبدوه، وَاتَّخذُوا حجرا (بصورته).
قَالَ الشَّاعِر:
(لَئِن هجرت أَخا صدق ومكرمة فقد مريت أَخا مَا كَانَ يمركما) أى جحدت.
وَاعْلَم أَنا قد ذكرنَا فِي سُورَة الْحَج: " " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه السُّورَة على الْمُشْركين، فَلَمَّا بلغ هَذِه الْآيَة ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه تِلْكَ الغرانيق العلى، وَإِن شفاعتهن لترتجى ". رَوَاهُ سعيد بن جُبَير. وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " فَلَمَّا قَرَأَ (كَذَلِك) فَخرج الْمُشْركُونَ وَقَالُوا: مَا كُنَّا نطلب مِنْك إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَن لَا تعيب آلِهَتنَا وَلَا تسبها، وَتعلم أَن لَهَا شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة. لما بلغ آخر السُّورَة سجد النَّبِي وَسجد الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، ثمَّ إِن جِبْرِيل أَتَاهُ وَأمره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ السُّورَة، فَقَرَأَ كَمَا قَرَأَ على الْمُشْركين، فَقَالَ: إِن هَذَا لم أنزلهُ عَلَيْك، واستخرج ذَلِك من قِرَاءَته، وحزن النَّبِي بذلك حزنا شَدِيدا حَيْثُ عمل الشَّيْطَان على لِسَانه مَا عمل، فَأنْزل الله تَعَالَى مسليا ومعزيا لَهُ:
294
﴿ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزى (٢٢) إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم﴾ سبّ آلِهَتهم وعيبها، عَاد الْمُشْركُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ".
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قد وصل ذَلِك الْخَبَر إِلَى الْحَبَشَة، أَن الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين اتَّفقُوا، وَأَن الْكفَّار قد سجدوا بسجود النَّبِي حَتَّى الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقد كَانَ شيخهم وَكَبِيرهمْ فَرفع التُّرَاب إِلَى جَبهته وَسجد عَلَيْهِ، فَرجع الْمُسلمُونَ من الْحَبَشَة، فَلَمَّا صَارُوا فِي بعض الطَّرِيق بَلغهُمْ الْخَبَر فَرَجَعُوا إِلَى الْحَبَشَة.
295
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله تعالى :( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) معناه : أفرأيتم هذه الأصنام التي تعبدونها، هل تملك شيئا مما ذكر الله تعالى ؟ أو هل لها من العلو والرفعة والقدرة مثل ما ذكرنا ؟.
وأما تفسير هذا الأصنام :" فلات " صنم كانت ثقيف تعبده، وقيل : إنه كان صخرة. وأما " العزى " فشجرة كانت تعبدها غطفان وجشم وسليم. ويقال : كانت بيت عليه سدنة، وكانت العرب قد علقوا عليه السوار، وزينوه بالعهن وما يشبهه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم " أنه بعث خالد بن الوليد ليهدم العزى فقطع شجرات ثم، وهدم بعض الهدم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأخبره، فقال : هل رأيت شيئا ؟ فقال : لا. قال : إنك لم تفعل، عد، فعاد وبالغ في الهدم وقتل السدنة، وكانوا يقولون : يا عزى عوزيه، يا عزى خبليه. قال : فخرجت امرأة عريانة من جوف العزى، ناشرة شعرها، تدعو بالويل والثبور، وتحثو التراب على رأسها، فعمها خالد بالسيف وقتلها، ورجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وذكر له ذلك. فقال : تلك العزى لا تعبد بعد اليوم " ١. وهذا خبر معروف. وأما " مناة " صنم كان " بقديد " بين مكة والمدينة. ويقال : بالمشلل.
قال أهل التفسير : وإنما قال :( ومناة الثالثة الأخرى ) لأنهم كانوا يعتقدون أن مناة دون اللات والعزى. وفي التفسير : أن " اللات " كان رجل يلت السويق على حجر، فكان كل من يأكل منه سمن، فلما مات عبدوه، واتخذوا حجرا ( بصورته )٢.

قال الشاعر :
(لَا تعبدوا اللات إِن الله مهلكها وَكَيف ينصركم من لَيْسَ ينتصر)
﴿وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته .﴾ الْآيَة. ثمَّ إِن الرَّسُول لما رَجَعَ عَمَّا سمع مِنْهُ، وَعَاد إِلَى
لا تعبدوا اللات إن الله مهلكها وكيف ينصركم من ليس ينتصر
واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الحج :" " أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ هذه السورة على المشركين، فلما بلغ هذه الآية ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى " ٣. رواه سعيد بن جبير. وغيره عن ابن عباس قال :" فلما قرأ ( كذلك )٤ فخرج المشركون وقالوا : ما كنا نطلب منك إلا هذا، وهو أن لا تعيب آلهتنا ولا تسبها، وتعلم أن لها شفاعة يوم القيامة. لما بلغ آخر السورة سجد النبي صلى الله عليه و سلم وسجد المسلمون والمشركون جميعا، ثم إن جبريل أتاه وأمره أن يقرأ عليه السورة، فقرأ كما قرأ على المشركين، فقال : إن هذا لم أنزله عليك، واستخرج ذلك من قراءته، وحزن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك حزنا شديدا حيث عمل الشيطان على لسانه ما عمل، فأنزل الله تعالى مسليا ومعزيا له :( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته.... )٥ الآية. ثم إن الرسول لما رجع عما سمع منه، وعاد إلى سب آلهتهم وعيبها، عاد المشركون إلى ما كانوا عليه " ٦.
وفي القصة : أنه كان قد وصل ذلك الخبر إلى الحبشة، أن المسلمين والمشركين اتفقوا، وأن الكفار قد سجدوا بسجود النبي صلى الله عليه و سلم حتى الوليد بن المغيرة، وقد كان شيخهم وكبيرهم فرفع التراب إلى جبهته وسجد عليه، فرجع المسلمون من الحبشة، فلما صاروا في بعض الطريق بلغهم الخبر فرجعوا إلى الحبشة.
١ - رواه النسائي في الكبرى ( ٦/٤٧٤ رقم ١١٥٤٧)، و أبو يعلى ( ٢/ ١٩٦/ ١٩٧ رقم ٩٠٢) و و من طريقه ورواه البيهقي في الدلائل ( ٥/ ٧٧) عن أبي الطفيل عامر بن وائلة به.
و قال الهيثمي في المجمع ( ٦ /١٧٩) : رواه الطبراني، و فيه يحيى بن المنذر، و هو ضعيف.
و في الباب أحاديث عن ابن عباس و غيره، و انظر تخريج الكشاف ( ٣/ ٣٨٣ -٣٨٤)..

٢ - في ((ك)) : لصورته..
٣ - و هذا حديث باطل، قد تقدم تخريجه..
٤ - في ((ك)): ذلك..
٥ - الحج : ٥٢..
٦ - و هذا حديث باطل، قذ تقدم تخريجه..

قَوْله تَعَالَى: ﴿ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى﴾ هَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار عَلَيْهِم، لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِه الْأَصْنَام على صور الْمَلَائِكَة، وَالْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَهَذَا قَول بَعضهم.
وَقَوله: ﴿تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزى﴾ أَي: جائرة. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ إِذا كرهتم الْبَنَات لأنفسكم فَأولى أَن تكرهوها لله تَعَالَى.
وَقد حكى أهل اللُّغَة هَذِه الْكَلِمَة عَن الْعَرَب على أَرْبَعَة أوجه: ضيزى، وضوزى بِغَيْر همزَة، وضأزى، وضازي بِغَيْر همزَة، وَهَذِه اللُّغَات وَرَاء مَا ورد بِهِ التَّنْزِيل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان﴾ أَي: حجَّة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن كل سُلْطَان فِي الْقُرْآن هُوَ بِمَعْنى الْحجَّة.
وَقَوله: ﴿إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن﴾ فِي بعض الْآثَار: أَن الْمُؤمن أحسن الْعَمَل فَحسن ظَنّه، وَأَن الْمُنَافِق أَسَاءَ الْعَمَل فسَاء ظَنّه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أكذب الحَدِيث هُوَ الظَّن ".
295
﴿مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى (٢٣) أم للْإنْسَان مَا تمنى (٢٤) فَللَّه الْآخِرَة وَالْأولَى (٢٥) وَكم من ملك فِي السَّمَوَات لَا تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى (٢٦) إِن﴾
وَقَوله: ﴿وَمَا تهوى الْأَنْفس﴾ أَي: مَا تَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ النَّفس.
وَقَوله: ﴿وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى﴾ أَي: طَرِيق الرشد وَالْحق.
296
وَقَوله تَعَالَى: {أم للْإنْسَان مَا تمنى؟ مَعْنَاهُ: اللأنسان مَا تمنى؟ أَي: لَيْسَ لَهُ مَا تمنى. وَاعْلَم أَن الأمنية مذمومة، والإرادة محمودة، وَالْفرق بَينهمَا أَن الأمنية شَهْوَة لَا يصدقها الْعَمَل، والإرادة هُوَ مَا يصدقهُ الْعَمَل. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت، والفاجر من اتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة ". وَعَن بَعضهم: الْأَمَانِي رَأس مَال المفاليس.
وَقَوله: ﴿فَللَّه الْآخِرَة وَالْأولَى﴾ أَي: الْملك فِي الْآخِرَة وَالْأولَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكم من ملك فِي السَّمَوَات﴾ روى عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: مَا من مَوضِع شبر فِي السَّمَاء إِلَّا وَفِيه ملك قَائِم أَو ساجد.
وَقد روى مثل هَذَا فِي الأَرْض أَيْضا عَن غَيره. وَكم فِي اللُّغَة للتكثير.
وَقَوله: ﴿لَا تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى﴾ وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة لأحد حَتَّى يَأْذَن الله فِيهِ ويرضاه. وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذَا جَوَاب لقَوْل الْمُشْركين: إِن الغرانقة تشفع يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله تَعَالَى، وَهِي الْأَصْنَام، فَأخْبر الله تَعَالَى أَن أحدا لَا يملك الشَّفَاعَة إِلَّا بِإِذن الله تَعَالَى وَرضَاهُ فِي ذَلِك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة ليسمون الْمَلَائِكَة تَسْمِيَة الْأُنْثَى﴾ هُوَ قَوْلهم للأصنام وتسميتهم إِيَّاهَا اللات، والعزى، وَمَنَاة تَسْمِيَة الْإِنَاث. وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِن هَذِه الْأَصْنَام على صُورَة الْمَلَائِكَة.
296
﴿الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة ليسمون الْمَلَائِكَة تَسْمِيَة الْأُنْثَى (٢٧) وَمَا لَهُم بِهِ من علم إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا (٢٨) فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَّا الْحَيَاة الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِك مبلغهم من الْعلم أَن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن﴾
297
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ من علم إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا﴾ أَي: لَا يَنُوب على الْحق أبدا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَّا الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسختها آيَة السَّيْف.
وَقَوله: ﴿ذَلِك مبلغهم من الْعلم﴾ أَي: لَا يعلمُونَ إِلَّا أَمر المعاش فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: رب رجل ينقر درهما بظفره فيذكرونه وَلَا يُخطئ فِيهِ، وَهُوَ لَا يحسن يُصَلِّي.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بِمن اهْتَدَى﴾ أَي: يعلم الْمُهْتَدي والضال، وَالْمُؤمن وَالْكَافِر، وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَمرهم.
وَقَوله: ﴿وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض ليجزي الَّذين أساءوا بِمَا عمِلُوا وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى﴾ أَي: بِالْجنَّةِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش﴾ وَقُرِئَ: " كَبِير الْإِثْم " وَقد بَينا معنى الْكَبَائِر من قبل. وَقيل: إِنَّه كل مَا أوعد الله عَلَيْهِ بالنَّار. وَالْفَوَاحِش: الْمعاصِي.
وَقَوله: ﴿إِلَّا اللمم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: وَهُوَ أَن يلم بالذنب ثمَّ يَتُوب مِنْهُ. أَي: يفعل ذَلِك مرّة وَلَا يصر عَلَيْهِ. وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِك لَا محَالة، فزنا الْعين النّظر، وزنا الْيَد اللَّمْس، وَالنَّفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِك أويكذبه ". وَهُوَ حَدِيث صَحِيح.
297
﴿سَبيله وَهُوَ أعلم بِمن اهْتَدَى (٣٠) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض ليجزي الَّذين أساؤوا بِمَا عمِلُوا وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة هُوَ أعلم بكم إِذا أنشأكم من الأَرْض وَإِذ﴾
فعلى هَذَا القَوْل: اللمم هُوَ النّظر واللمس وَمَا يشبه ذَلِك. وَفِيه حَدِيث نَبهَان التمار الَّذِي ذكرنَا فِي سُورَة هود.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن اللمم هُوَ الصَّغَائِر. وَفِيه قَول رَابِع: أَن اللمم هُوَ مَا فعله الْمُسلمُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة قبل إسْلَامهمْ، فَلَمَّا أَسْلمُوا وَقع الْعَفو عَنْهَا.
وَقيل: إِن اللمم هُوَ النّظر فَجْأَة، ثمَّ يغض بَصَره فِي الْحَال. وَعَن بَعضهم:
(إِن تغْفر اللَّهُمَّ فَاغْفِر جما فَأَي عبد لَك لَا ألما.)
وَقد روى بَعضهم هَذَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي وَأما معنى " إِلَّا " فِي الْآيَة، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ مُنْقَطع، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَكِن اللمم. وَمِنْهُم من قَالَ: الِاسْتِثْنَاء على حَقِيقَته، واللمم: فواحش إِلَّا أَن الله تَعَالَى يعْفُو عَنْهَا بمشيئته.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة﴾ أَي: كثير الْمَغْفِرَة.
وَقَوله: ﴿هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: هُوَ ابْتِدَاء خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم﴾ يَعْنِي: أَنه كَانَ عَالما بأحوالكم وَأَنْتُم أجنة فِي بطُون الْأُمَّهَات جاهلون بأحوالكم.
وَقَوله: ﴿فَلَا تزكوا أَنفسكُم﴾ أَي: لَا تمدحوا أَنفسكُم.
وَقَوله: ﴿هُوَ أعلم بِمن اتَّقى﴾ أَي: هُوَ أعلم بالمتقين. وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَن اللمم أَن يعزم على الذَّنب ثمَّ لَا يفعل. ذكره الْقفال الشَّاشِي فِي تَفْسِيره. وَحكي عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: اللمم: الغمزة والقبلة.
298
﴿أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم فَلَا تزكوا أَنفسكُم هُوَ أعلم بِمن اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْت الَّذِي﴾
وَأما قَوْله: ﴿فَلَا تزكوا أَنفسكُم﴾ قد بَينا. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الرجل من الْيَهُود كَانَ إِذا مَاتَ لَهُ طِفْل يَقُول: هُوَ صديق، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ردا عَلَيْهِم. وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي الرجل يخبر بصومه وَصلَاته وَفعله الْخَيْر بَين النَّاس، وَقد كَانَ مِنْهُم من يَقُول كَذَلِك فعلنَا كَذَا، وصنعنا كَذَا، فنهاهم الله تَعَالَى عَن ذَلِك. وَاعْلَم أَن مدح الرجل نَفسه مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مدح الرجل غَيره فِي وَجهه.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن رجلا مدح رجلا عِنْد النَّبِي فَقَالَ: " وَيلك قطعت عنق أَخِيك فَإِن كنت قَائِلا شَيْئا، فَقل: أَحسب فلَانا كَذَا، وَلَا أزكى على الله أحدا ".
وَفِي خبر آخر " احثوا التُّرَاب فِي وُجُوه المداحين "، رَوَاهُ الْمِقْدَاد عَن النَّبِي.
وَقَوله: ﴿هُوَ أعلم بِمن اتَّقى﴾ قد بَينا.
299
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْت الَّذِي تولى﴾ أَي: أعرض عَن الْإِيمَان بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿وَأعْطى قَلِيلا وأكدى﴾ معنى قَوْله أكدى: أَي: قطع عطاءه.
وَيُقَال: أكدى مَعْنَاهُ: أجبل. وَمِنْه الكدية، وَهِي إِذا حفر الرجل بِئْرا فَبلغ موضعا لَا يُمكنهُ الْعَمَل فِيهِ من صَخْرَة وَمَا يشبهها، يُقَال لَهُ: الكدية. وَمعنى قَوْله أجبل أَي: بلغ جبلا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَيُقَال: فِي الْعَاصِ بن وَائِل، كَانَ يحضر مجْلِس النَّبِي ويستمع إِلَى الْقُرْآن، ثمَّ إِن الْمُشْركين عيروه فَقَالَ: إِنِّي أخْشَى الْعَذَاب، فَقَالَ لَهُ بَعضهم: أَعْطِنِي شَيْئا أتحمل عَنْك الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة، فَأعْطَاهُ وَتحمل عَنهُ، فعلى هَذَا قَوْله: " أعْطى قَلِيلا " أَي: اسْتمع وَرغب فِي الْإِسْلَام.
299
﴿تولى (٣٣) وَأعْطى قَلِيلا وأكدى (٣٤) أعنده علم الْغَيْب فَهُوَ يرى (٣٥) أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى (٣٧) أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾
وَقَوله: ﴿أكدى﴾ أَي: قطع مَا أعْطى. وَقَالَ مقَاتل: أعْطى بِلِسَانِهِ وَقطع بِقَلْبِه. وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: أطَاع ثمَّ عصى. وَذكر بَعضهم: أَن رجلا من جهلاء الْأَعْرَاب، وَكَانَ قد أسلم وَقدم الْمَدِينَة فَجعل يَقُول: من يَشْتَرِي حسناتي بِصَاع من تمر، فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَة الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ رجلا فِيهِ خير: أَنا أشتريها مِنْك بوسق من تمر. والوسق: سِتُّونَ صَاعا، فَبَاعَ الْأَعرَابِي مِنْهُ حَسَنَاته وَأخذ الوسق، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي الْأَعرَابِي هَذِه الْآيَة. وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول.
300
قَوْله تَعَالَى: ﴿أعنده علم الْغَيْب فَهُوَ يرى﴾ أَي: يعلم. والرؤية تكون بِمَعْنى رُؤْيَة الْبَصَر، وَتَكون بِمَعْنى الْعلم. تَقول الْعَرَب: رَأَيْت فلَانا عَالما أَي: علمت. وَمعنى الْآيَة: أَكَانَ عِنْد من (تحمل) الذُّنُوب عَن الْوَلِيد علم الْغَيْب فَهُوَ يعلم أَنه يتحملها عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة؟.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى﴾ مَعْنَاهُ: أم لم يخبر.
وَقَوله: ﴿بِمَا فِي صحف مُوسَى﴾ ذكر وهب بن مُنَبّه: أَن الله تَعَالَى أنزل مائَة [وَأَرْبَعَة] كتب؛ ثَلَاثُونَ صحيفَة على شِيث، وَخَمْسُونَ على إِدْرِيس، وَعِشْرُونَ على إِبْرَاهِيم، وَأَرْبَعَة على مُوسَى وَدَاوُد وَعِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: ﴿وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى﴾ قَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ " وفى " مخففا أَي: بِمَا أَمر بِهِ. وَيُقَال: [وفى فِي ذبح ابْنه].
وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بِالتَّشْدِيدِ فَيجوز أَن تكون بِمَعْنى " وفى " إِلَّا أَنه أكده بِالتَّشْدِيدِ وَيُقَال: وفى [بسهام] الْإِسْلَام. قَالَ الْحسن: لم يُؤمر بِأَمْر إِلَّا عمل بِهِ.
300
((٣٨} وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى (٣٩) وَأَن سَعْيه سَوف يرى (٤٠) ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى (٤١) وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى (٤٣) وَأَنه)
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْإِسْلَام ثَلَاثُونَ سَهْما، وَلم يتم جَمِيعهَا غير إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقَالَ الْفراء: " وفى " مَعْنَاهُ: بلغ. وَعَن الْهُذيْل بن شُرَحْبِيل قَالَ: كَانَ بَين نوح وَإِبْرَاهِيم قُرُون يَأْخُذُونَ الْجَار بذنب الْجَار، وَابْن الْعم بذنب ابْن الْعم، وَالصديق بذنب الصّديق، فجَاء إِبْرَاهِيم وَبلغ عَن الله تَعَالَى
301
: ﴿أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ أَي: لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى﴾ مَعْنَاهُ: إِن سعي فِي الْخَيْر يلق الْخَيْر، وَإِن سعى فِي الشَّرّ يلق الشَّرّ.
وَقَوله: ﴿وَأَن سَعْيه سَوف يرى﴾ أَي: يرَاهُ على معنى أَن الله تَعَالَى يرِيه إِيَّاه، وَهُوَ الْجَزَاء الَّذِي يجازيه عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى
قَوْله: ﴿ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى﴾ أَي: الْأَكْمَل الأتم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى﴾ أَي: مصير الْعباد ومرجعهم إِلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: تاه فِيهِ الْعُقُول أَي: تحيرت. فعلى هَذَا معنى الْآيَة: أَن الْعُقُول إِذا انْتَهَت إِلَى أَوْصَافه تحيرت، يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تدْرك أَوْصَافه على الْكَمَال. وَفِي بعض التفاسير: أَن بعض الْمَلَائِكَة تفكر فِي الله تَعَالَى فصيحت عَلَيْهِ صَيْحَة، فتاه عقله، فَهُوَ يُسمى بَين الْمَلَائِكَة التائه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أضْحك أهل الْجنَّة، وأبكى أهل النَّار. وَيُقَال: أضْحك بالوعد، وأبكى بالوعيد. وَيُقَال: أضْحك الأَرْض بالنبات، وأبكى السَّمَاء بالمطر. وَالأَصَح من الْأَقَاوِيل أَنه أضْحك الْخلق وأبكاهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه هُوَ أمات وَأَحْيَا﴾ يُقَال: أمات الْآبَاء، وَأَحْيَا الْأَبْنَاء وَقيل: أمات قوما بالضلالة، وَأَحْيَا بالهداية. وَالأَصَح أَنه أمات الْخلق وأحياهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى﴾ أَي: الصِّنْفَيْنِ. قَالَ الضَّحَّاك:
301
﴿هُوَ أمات وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنه خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى (٤٥) من نُطْفَة إِذا تمنى (٤٦) وَأَن عَلَيْهِ النشأة الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنه هُوَ أغْنى وأقنى (٤٨) وَأَنه هُوَ رب﴾ آدم وحواء. وَالأَصَح أَنه الذّكر وَالْأُنْثَى من بني آدم.
302
وَقَوله: ﴿من نُطْفَة إِذا تمنى﴾ أَي: تقدر. تَقول الْعَرَب: مَا تمنى تِلْكَ [الْأَمَانِي] أَي: يقدر ذَلِك الْمُقدر. وَقيل: إِذا تمنى، هُوَ عبارَة عَن الْوَطْء أَي: من نُطْفَة تحصل بِالْجِمَاعِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن عَلَيْهِ النشأة الْأُخْرَى﴾ أَي: الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قَالَ: " الْأُخْرَى " لِأَنَّهَا ثَانِيَة النشأة الأولى، والنشأة الأولى ابْتِدَاء الْخلق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه هُوَ أغْنى وأقنى﴾ مَعْنَاهُ: أعْطى وأوسع، فَقَوله: ﴿أقنى﴾ أَي: أعْطى الْقنية، والقنية: هِيَ أصل مَال يتَّخذ. قَالُوا: وَهُوَ مثل الْإِبِل وَالْبَقر والضياع والنبات وَمَا أشبه. وَيُقَال: أغْنى بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وأقنى بِغَيْرِهِمَا من الْأَمْوَال. وَيُقَال: أغْنى وأقنى: أَي: أعْطى وقنع بِمَا أعْطى. قَالَ القتيبي: أغْنى أَي: أعْطى المَال وأفنى أَي أخدم كَأَنَّهُ أعطَاهُ من يَخْدمه وَقَالَ أغْنى أى أعْطى بِمَا أعْطى. وَعَن بَعضهم أغْنى: أَي: أغْنى نَفسه، كَأَنَّهُ وصف نَفسه بالغنى. وَقَوله: ﴿وأقنى﴾ أَي: أفقر خلقه إِلَى نَفسه، وَيُقَال: أغْنى وأقنى: أَي: وسع وقتر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه هُوَ رب الشعرى﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ رجل من خُزَاعَة خَالف دين آبَائِهِ وَعبد الشّعْر العبور، وَهُوَ كَوْكَب خلف الجوزاء تسمى المرزم، وهما الشعريان: [إِحْدَاهمَا] : الغميصاء، وَالْأُخْرَى: العبور، فالغميصاء فِي المجرة، والعبور خلف الجوزاء وَتسَمى كلب الجوزاء. وَكَانَ ذَلِك الرجل يعبد الشعرى، وَيَقُول: إِنَّهَا تقطع الْفلك عرضا دون سَائِر الْكَوَاكِب، فَإِنَّهَا تقطع أَمْوَالًا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر أَنه خَالق الشعرى الَّتِي تعبدونها. [قَالَه] مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا. وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا الزهرة، وَهَذَا مُخَالف لظَاهِر الْآيَة.
302
﴿الشعرى (٤٩) وَأَنه أهلك عادا الأولى (٥٠) وَثَمُود فَمَا أبقى (٥١) وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى (٥٢) والمؤتفكة أَهْوى (٥٣) فغشاها مَا غشى (٥٤) ﴾
303
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه أهلك عادا الأولى﴾ فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " عادا الأولى "، وَعَاد كَانَت وَاحِد لَا اثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن ثمودا وعادا كَانَا من ولد آدم بن سَام بن نوح، فَعَاد هم قوم هود، وهم عَاد الأولى، وَثَمُود هم قوم صَالح وهم عَاد الْأُخْرَى.
وَقَوله: ﴿وَثَمُود فَمَا أبقى﴾ أَي: أبادهم وأفناهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى﴾ أَي: أكبر وَأَشد طغيانا. وَفِي الْقِصَّة: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَأْتِي بِابْنِهِ إِلَى نوح فَيَقُول: احذر هَذَا الشَّيْخ، وَإِيَّاك أَن يضلك، فَإِن أبي حَملَنِي وَأَنا فِي مثل سنك إِلَيْهِ وَحَذَّرَنِي مِنْهُ كَمَا حذرتك مِنْهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿والمؤتفكة أَهْوى﴾ المؤتفكة هِيَ مَدَائِن لوط، ائتفكت بهم الأَرْض أَي: انقلبت بهم.
وَقَوله: ﴿أَهْوى﴾ يُقَال: هوى إِذا سقط، وأهوى إِذا أسقط. وَقد بَينا أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قلعهَا من أَصْلهَا، وَبلغ بهَا السَّمَاء الدُّنْيَا حَتَّى سمع أهل السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وأصوات ديكتهم، وَكَانَ فِيهَا أَرْبَعمِائَة ألف رجل. وَقد قيل أَكثر من ذَلِك، ثمَّ أَن جِبْرِيل قَلبهَا فَجَاءَت تهوى فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿والمؤتفكة أَهْوى﴾ قَالَ عِكْرِمَة: فَهِيَ تتجلجل فِي الأَرْض إِلَى قيام السَّاعَة. وَالْعرب تَقول: أَهْوى أَي: وَقع فِي هوة، والهوة: الحفرة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فغشاها مَا غشى﴾ أَي: غشاها من الْحِجَارَة مَا غشى. يُقَال: من عَذَاب الله مَا غشى. والتغشية: التغطية. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر يتبع شرادهم حَتَّى أهلكهم جَمِيعًا، وَكَانَ فِي الْحرم رجل مِنْهُم فَوقف حجر فِي الْهَوَاء سَبْعَة أشهر، ثمَّ خرج فَلَمَّا خرج وخطا خطْوَة سقط عَلَيْهِ الْحجر وأهلكه، وَكَانَ اسْمه أَبُو رِغَال.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى﴾ أَي: تتشكك، وَمَعْنَاهُ: تشك، وَقيل:
303
﴿فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى (٥٥) هَذَا نَذِير من النّذر الأولى (٥٦) أزفت الآزفة (٥٧) لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة (٥٨) أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا﴾ تكذب. والمرية: هِيَ الشَّك فِي اللُّغَة. وَالْخطاب للْكَافِرِ أَي: فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى أَيهَا الْكَافِر.
304
وَقَوله: ﴿هَذَا نَذِير من النّذر الأولى﴾ أَي: نَبِي يشبه الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين.
وَقَوله: ﴿أزفت الآزفة لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة﴾ فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " كاشفة "؟ وَلم أَدخل هَاء التَّأْنِيث؟ وَالْجَوَاب: أَن بَعضهم قَالَ: لموافقة رُءُوس الآى وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا من دون الله نفس كاشفة وَهَذَا أحسن وَمعنى الْآيَة: أَنه لَا يعلم علمهَا سوى الله تَعَالَى. وَهُوَ علم قِيَامهَا وتجليها وَيُقَال لَا يَأْتِي بهَا أحد سوى الله تَعَالَى.
يُقَال: كشف عَن الشَّيْء إِذا أظهره أَي: لَا يكْشف عَن الْقِيَامَة وَلَا يظهرها غير الله تَعَالَى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٧:وقوله :( أ زفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة ) فإن قيل : ما معنى قوله :" كاشفة " ؟ ولم أدخل هاء التأنيث ؟ والجواب : أن بعضهم قال : لموافقة رءوس الآى وقال بعضهم معناه ليس لها من دون الله نفس كاشفة وهذا أحسن ومعنى الآية : أنه لا يعلم علمها سوى الله تعالى. وهو علم قيامها وتجليها ويقال لا يأتي بها أحد سوى الله تعالى. يقال : كشف عن الشيء إذا أظهره أي : لا يكشف عن القيامة ولا يظهرها غير الله تعالى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ﴾ أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿تعْجبُونَ﴾ أَي: تتعجبون، وتعجبهم أَنهم قَالُوا: كَيفَ أنزل على وَاحِد مثلنَا. وَيُقَال: تعجبهم من قَوْله إِن الله وَاحِد على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر ﴿أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب﴾.
وَقَوله: ﴿وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ﴾ يَعْنِي: من حقكم أَن تبكوا لَا أَن تَضْحَكُوا. وَفِي التَّفْسِير: " أَن النَّبِي لما نزلت هَذِه الْآيَة لم ير ضَاحِكا إِلَى أَن خرج من الدُّنْيَا، غير أَنه كَانَ يبتسم ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: عجبت من ضَاحِك (ملْء فِيهِ وَالْمَوْت يَطْلُبهُ).
304
﴿تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُم سامدون (٦١) فاسجدوا لله واعبدوا (٦٢) ﴾
305
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم سامدون﴾ أَي: لاهون غافلون، وَيُقَال: متكبرون. قَالَ مُجَاهِد: السمود هُوَ الْغناء بلغَة حمير. يَقُولُونَ: يَا جَارِيَة سمدى لنا: أَي: غنى. وَيُقَال لَهُ: البرطمة أَيْضا وَأنْشد بَعضهم:
(رمى الْحدثَان نسْوَة آل حَرْب... بداهية سمدان لَهَا سمودا) ويروى:
(بِمِقْدَار سمدن لَهُ سمودا....
وَقَوله: ﴿فاسجدوا لله واعبدوا﴾ حمل بَعضهم هَذَا على الصَّلَوَات الْخمس. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت بِمَكَّة قبل فرض الصَّلَوَات الْخمس، وَالسورَة مَكِّيَّة، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: فاسجدوا لله واعبدوا أَي: اخضعوا لله ووحدوا. وَيُقَال: المُرَاد مِنْهُ أصل السُّجُود، وَالْمرَاد من الْعِبَادَة هِيَ الطَّاعَة، وَهُوَ مَوضِع سُجُود عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء إِلَّا مَالك حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمفصل سُجُود أصلا. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَرَأَ سُورَة النَّجْم فَسجدَ فِيهَا، فَمَا بقى من الْقَوْم أحد إِلَّا سجد غير رجل وَاحِد أَخذ حَصى وَوَضعه على جَبهته، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. وَقَالَ عبد الله: فرأيته قتل كَافِرًا ". وَالله أعلم.
305

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر (١) ﴾
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ وَالْآيَة الَّتِي بعْدهَا.
306
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(فَرد شعورهن السود بيضًا ورد وجوههن الْبيض سُودًا)