تفسير سورة النجم

الدر المصون
تفسير سورة سورة النجم من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿إِذَا هوى﴾ : في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ، وعلى كلٍ فيها إشكال. أحدُ الأوجهِ: أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه: أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ، والإِنشاءُ حالٌ، و «إذا» لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني: أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي: أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه. وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين، أحدهما: أن النجم جثةٌ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها. والثاني: أنَّ «إذا» للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول: بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً. وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه. وعن الثاني: بأنها حالٌ مقدرةٌ. الثالث: أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص. وقد يُقال: إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل: والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ. وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها {
81
والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: ١] وما بعدَه، وقولُه: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ [الليل: ١]، ﴿والضحى والليل إِذَا سجى﴾ [الضحى: ١]. وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى. وقيل: المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد:
٤١٢١ - فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي: تَعُدُّ النجومَ، وقيل: بل المرادُ نجمٌ معين. فقيل: الثُّريَّا. وقيل: الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩]. وقيل: الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ. والصحيح أنها الثريَّا، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة. ومنه قولُ العرب: «إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً». وقالوا أيضاً: «طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة». وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي: سقط من علو، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي: صَبَا. وقال الراغب: «الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ». ثم قال: والهُوِيُّ: ذهابٌ في انحدارٍ. والهوى: ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد: /
82
وقيل: هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى، ومَقْصَدُه السُّفْلُ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه. قال:
٤١٢٢ -........................... يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ
٤١٢٣ -.......................... هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً.
83
وقوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ : هذا جوابُ القسم. و «عن الهوى» أي ما يَصْدُرُ عن الهوى نُطْقُه ف «عن» على بابِها. وقيل: هي بمعنى الباء. وفي فاعِل «يَنْطِق» وجهان، أحدُهما: هو ضميرُ النبيِّ عليه السلام، وهو الظاهرُ. والثاني: أنه ضميرُ القرآنِ كقولِه: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾ [الجاثية: ٢٩].
قوله: ﴿إِنْ هُوَ﴾ : أي: إنْ الذي يَنْطِق به، أو إنْ القرآنُ.
قوله: ﴿يوحى﴾ صفةٌ ل «وَحْيٌ». وفائدةُ المجيْءِ بهذا الوصفِ أنه
83
يَنْفي المجازَ أي: هو وحيٌ حقيقةً لا بمجردِ تسميتِه، كما تقول: هذا قولٌ يقال. وقيل: تقديرُه: يُوحى إليه، وفيه مزيدُ فائدةٍ.
84
قوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ﴾ : يجوز أَنْ تكونَ هذه الهاءُ للرسول، وهو الظاهرُ، فيكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً أي: عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي: المُوْحى، وأن تكونَ للقرآنِ والوحيِ، فيكونَ المفعولُ الأولُ محذوفاً أي: عَلَّمه الرسولَ. وشديدُ القُوى: قيل: جبريلُ وهو الظاهرُ. وقيل: الباري تعالى لقوله: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١-٢] وشديدُ القُوى: من إضافة الصفةِ المشبهة لمرفوعِها فهي غيرُ حقيقية.
قوله: ﴿مِرَّةٍ﴾ : المِرَّةُ: القوةُ والشدةُ. ومنه «أَمْرَرْتُ الحَبْلَ» إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه، والمَرِير: الحَبْلُ، وكذلك المَمَرُّ، كأنه كُرِّر فَتْلُه مرةً بعد أخرى. وقال قطرب: «العربُ تقول لكلِّ جَزْلِ الرأي حصيفِ العقلِ: ذو مِرَّة» وأنشد:
قوله: ﴿وَهُوَ بالأفق﴾ : فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ، و «بالأفق» خبرُه، والضميرُ لِجبريلَ أو للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. ثم في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنَّ هذه الجملةَ حالٌ مِنْ فاعل «استوى» قاله مكي. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك. والثاني:
84
أنَّ «هو» معطوفٌ على الضميرِ المستترِ في «استوى». وضميرُ «استوى» و «هو» : إمَّا أن يكونا لله تعالى، وهو قولُ الحسنِ. وقيل: ضميرُ «استوى» لجبريل و «هو» لمحمد عليه السلام. وقيل: بالعكس. وهذا الوجهُ الثاني إنما يتمشَّى على قول الكوفيين؛ لأن فيه العطفَ على الضمير المرفوع المتصل مِنْ غيرِ تأكيدٍ ولا فاصلٍ. وهذا الوجهُ منقولٌ عن الفراء والطبريِّ.
85
قوله: ﴿فتدلى﴾ : التدلِّي: الامتداد من عُلُوٍّ إلى سُفْل، فَيُستعمل في القُرْب من العلوِّ، قاله الفراء وابن الأعرابي. وقال الهُذلي:
٤١٢٤ - وإني لَذو مِرَّةٍ مُرَّةٍ إذا رَكِبَتْ خالةٌ خالَها
٤١٢٥ - تَدَلَّى علينا وهو زَرْقُ حَمامةٍ له طِحْلِبٌ في مُنْتهى القَيْظِ هامِدُ
وقال آخر:
85
٤١٢٦ - تَدَلَّى عليها بين سِبٍّ وخَيْطَةٍ ...............................
ويقال: «هو كالقِرِلَّى، إن رأى خيراً تدلَّى، وإن لم يَرَه تولَّى». واستوى قال مكي: «يقع للواحد، وأكثرُ ما يقع من اثنين، ولذلك جَعَل الفراء الضميرَ لاثنين».
86
قوله: ﴿فَكَانَ قَابَ﴾ : ههنا مضافاتٌ محذوفاتٌ يُضْطَرُّ لتقديرِها أي: فكان مقدارُ مسافةِ قُرْبِه منه مثلَ مقدارِ مسافةِ قابٍ. وقد فَعَلَ أبو علي هذا في قولِ الشاعر:
٤١٢٧ -.............................. وقد جَعَلَتْني مِنْ حَزِيْمَةَ إصبعا
أي: ذا مقدارِ مسافةِ إصبع. والقابُ: القَدْرُ. تقول: هذا قابُ هذا أي: قَدْرُه. ومثلُه: القِيبُ والقادُ والقِيس قال الزمخشري: «وقد جاء التقديرُ بالقوس والرُّمْح والسَّوْط والذِّراع والباعِ والخُطْوة والشُّبر والفِتْر والإِصبع، ومنه: لا صَلاةَ إلى أن ترتفعَ الشمسُ مِقدار رُمْحين. وفي
86
الحديث:» لَقابُ قوس أحدِكم من الجنة وموضعُ قِدِّه خيرٌ من الدنيا وما فيها «، والقِدُّ السَّوْط. وألفُ» قاب «عن واوٍ. نصَّ عليه أبو البقاء. وأمَّا» قِيْبٌ «فلا دَلالة فيه على كونِها ياءً؛ لأنَّ الواوَ إذا انكسر ما قبلها قُلِبت ياءً كدِيْمة وقِيمة، وذكره الراغب أيضاً في مادة» قوب «إلاَّ أنه قال في تفسيره:» هو ما بين المَقْبَضَ والسِّيَةِ من القوس «فعلى هذا يكون مقدارَ نصفِ القوس؛ لأن المَقْبَضَ في نصفِه. والسِّيَةُ هي الفُرْضَة التي يُخَطُّ فيها الوَتَرُ. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى. ويُرْوى عن مجاهد: أنه من الوَتَر إلى مَقْبَضِ القوس في وسَطه. وقيل: إنَّ القوسَ ذراعٌ يُقاس به، نُقل ذلك عن ابن عباس وأنه لغةٌ للحجازيين.
والقَوْسُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌ، وشَذُّوا في تصغيرِها فقالوا: قُوَيْس من غيرِ تأنيثٍ كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ، ويُجْمع على قِسِيّ، وهو مَقْلوب مِنْ قُوُوْس، ولتصريفِه موضعٌ آخر. /
قوله: ﴿أَوْ أدنى﴾ هي كقوله: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] لأنَّ المعنى: فكان بأحدِ هذين المقدارَيْنِ في رَأْيِ الرائي، أي: لتقارُبِ ما بينهما يَشُكُّ الرائي في ذلك. وأَدْنى أفعلُ تفضيلٍ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي: أو أدنى مِن قاب قوسين.
87
قوله: ﴿فأوحى﴾ : أي اللَّهُ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ
87
لعدم اللَّبْس. وقوله: «ما أَوْحى» أُبْهِم تعظيماً له ورَفْعاً مِنْ شأنِه، وبه استدلَّ جمال الدين ابن مالك على أنه لا يُشْتَرَطُ في الصلة أَنْ تكونَ معهودة عند المخاطبِ. ومثلُه ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨]، إلاَّ أنَّ هذا الشرطَ هو المشهورُ عند النَّحْوِيين.
88
قوله: ﴿مَا كَذَبَ﴾ : قرأ هشامٌ بتشديدِ الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا [القراءةُ] الأولى فإنَّ معناها أنَّ ما رآه محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم بعينِه صَدَّقه قلبُه، ولم يُنْكِرْه أي: لم يَقُلْ له: لم أَعْرِفْك و «ما» مفعولٌ به موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ. ففاعِلُ «رأى» ضميرٌ يعودُ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. وأمَّا قراءةُ التخفيفِ فقيل فيها كذلك. و «كذَبَ» يتعدى بنفسِه. وقيل: هو على إسقاطِ الخافضِ: أي: فيما رآه، قاله مكي وغيرُه. وجوَّز في «ما» وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ بمعنى الذي. والثاني: أَنْ تكونَ مصدريةً، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ «رأى» ضميراً يعودُ على الفؤادِ أي: لم يَشُكَّ قلبُه فيما رآه بعينِه.
قوله: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ﴾ : قرأ الأخَوان «أَفَتَمْرُوْنَه» بفتح التاء وسكون الميمِ، والباقون «تُمارونه». وعبد الله بن مسعود
88
والشعبي «أَفَتُمْرُوْنَه» بضمِّ التاءِ وسكون الميم. فأمَّا الأولى ففيها وجهان، أحدهما: أنها مِنْ مَرَيْتُه حَقَّهُ إذا غَلَبْتَه وجَحَدْتَه إياه. وعُدِّي ب «على» لتضمُّنِه معنى الغَلَبة. وأُنشِد:
٤١٢٨ - لَئِن هَجَرْتَ أخا صدقٍ ومَكْرُمَةٍ لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكا
لأنه إذا جَحَده حقَّه فقد غَلَبه عليه. والثاني: أنها مِنْ مَراه على كذا أي: غَلَبه عليه فهو مِن المِراء وهو الجِدالُ. وأمَّا الثانيةُ فهي مِنْ ماراه يُماريه مُراءاة أي: جادَلَه. واشتقاقُه مِنْ مَرْي الناقةِ؛ لأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلِيْن يَمْري ما عند صاحبه. وكان مِنْ حَقِّه أن يتعدَّى ب «في» كقولك: جادَلْتُه في كذا، وإنما ضُمِّن معنى الغَلَبة فعُدِّيَ تَعْدِيَتَها. وأمَّا قراءةُ عبد الله فمِنْ أمراه رباعياً.
89
قوله: ﴿نَزْلَةً أخرى﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها منصوبةٌ على الظرفِ. قال الزمخشري: «نَصْبَ الظرفِ الذي هو مَرَّة؛ لأنَّ الفَعْلَةَ اسمٌ للمَرَّة من الفعلِ فكانَتْ في حُكْمها» قلت: وهذا ليس مذهبَ البصريين، وإنما هو مذهبُ الفرَّاء، نقله عنه مكي. الثاني: أنها منصوبةٌ نَصْبَ المصدرِ الواقعِ موقعَ الحالِ. قال مكي: «
89
أي: رآه نازلاً نَزْلة أخرى»، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطية. والثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد، فقدَّره أبو البقاء: «مرةً أخرى أو رُؤْيةٌ أخرى». قلت: وفي تأويلِ «نَزْلَةً» برؤية نظرٌ. و «أخرى» تَدُلُّ على سَبْقِ رؤيةٍ قبلها.
90
قوله: ﴿عِندَ سِدْرَةِ﴾ : ظرفٌ لِرَآه و «عندها جنةُ» جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ. والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ، و «جَنَّةُ المَأْوى» فاعلٌ به. والعامَّةُ على «جنَّة» اسمٌ مرفوعٌ. وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب «جَنَّة» فعلاً ماضياً. والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى: سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى. وقيل: المعنى: ضَمَّه المبيتُ والليلُ. وقيل: جَنَّه بظلالِه ودَخَلَ فيه. وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا: «أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها»، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب «على» كقولِه ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل﴾ [الأنعام: ٧٦]. وقال أبو البقاء: «وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه». وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام. و «إذ يَغْشَى» منصوبٌ ب رآه. وقولُه: «ما يَغْشَى» كقولِه: ﴿مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠].
و " إذ يَغْشَى " منصوبٌ ب رآه. وقولُه :" ما يَغْشَى " كقولِه :﴿ مَآ أَوْحَى ﴾ [ النجم : ١٠ ].
قوله: ﴿الكبرى﴾ فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّ «الكبرى» مفعولُ رأى، و ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ﴾ حالٌ مقدمةٌ. والتقدير: لقد رأى الآياتِ الكبرى من آياتِ ربه. والثاني: أنَّ ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ﴾ وهو مفعولُ الرؤية والكُبْرى صفةٌ لآيات ربِّه. وهذا الجمعُ يجوزُ وَصْفُه بوَصْف المؤنثةِ الواحدةِ، وحَسَّنه هنا كونُه فاصلةً. وقد تقدَّم مِثْلُه في طه [الآية: ٢٣] كقوله: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى﴾
قوله: ﴿اللات﴾ : اسمُ صَنَمٍ. قيل: كان لثَقيفِ بالطائف، قاله: قتادة. وقيل: بنخلة. وقيل: بعُكاظ. ورَجَّح ابنُ عطيةً الأولَ بقولِ الشاعر:
٤١٢٩ - وفَرَّتْ ثَقِيْفٌ إلى لاتِها بمُنْقَلَبِ الخائبِ الخاسرِ
والألف واللام في «اللات» زائدةٌ لازمةٌ. فأمَّا قولُه: «إلى لاتِها» فَحَذَفَ للإِضافة. وهل هي والعُزَّى عَلَمان بالوَضْع، أو صفتان غالبتان؟ خلافٌ ويَتَرَتَّبُ على ذلك جوازُ حَذْفِ أل وعدمُه. فإنْ قلنا: إنهما ليسا وصفَيْن في الأصلِ فلا تُحْذَفُ منهما أل. وإنْ قلنا: إنهما صفتان، وإنَّ أل لِلَمْحِ الصفةِ جاز، وبالتقديرَيْن فأل زائدةٌ. وقال أبو البقاء: «وقيل: هما صفتان غالبتان مثلَ: الحارث والعباس فلا تكون أل زائدة» انتهى.
91
وهو غَلَطٌ لأن التي لِلَمْحِ الصفةِ منصوصٌ على زيادِتها، بمعنى أنها لم تؤثِّرْ تعريفاً.
واخْتُلِف في تاء «اللات» فقيل: أصلٌ، وأصلُه مِنْ لات يليتُ فألفُها عن ياءٍ، فإنَّ مادةَ ل ي ت موجودةٌ. وقيل: زائدة، وهي مِنْ لَوَى يَلْوي لأنهم كانوا يَلْوُوْن أعناقَهم إليها، أو يَلْتَوون أي: يَعْتكِفُون عليها، وأصلُها لَوَيَة فحُذِفت لأمُها، فألفُها على هذا مِنْ واوٍ. وقد اختلف القراءُ في الوقف على تائِها. فوقف الكسائيُّ عليها بالهاء والباقون بالتاء، وهو مبنيُّ على القولَيْن المتقدمَيْن: فَمَنْ اعتقدَ تاءَها أصليةً أقَرَّها في الوقف كتاء بَيْت، ومَنْ اعتقد زيادتَها وَقَف عليها هاءً. والعامَّةُ على تخفيفِ تائِها. وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وابن كثير في روايةٍ بتشديدِ التاء. وقيل: هو رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيْق ويُطْعِمُ الحاجَّ، فهو اسمُ فاعلٍ في الأصل غَلَبَ على هذا الرجلِ، وكان يجلسُ عند حَجَرٍ، فلما مات سُمِّي الحَجَرُ باسمِه وعُبِدَ مِنْ دون الله تعالى.
والعُزَّى فُعْلى من العِزِّ، وهي تأنيثُ الأَعَزِّ كالفُضْلى، والأفضل، وهي اسمُ صنمٍ. وقيل: شجرةٌ كانت تُعْبَدُ.
92
قوله: ﴿وَمَنَاةَ﴾ : قرأ ابن كثير «مَناءَة» بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألف، والباقون بألفٍ وحدَها، وهي صخرةٌ كانت تُعْبَدُ من
92
دونِ اللَّه. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فاشتقاقُها من النَّوْء، وهو المطرُ لأنهم يَسْتَمطرون عندها الأَنْواء، ووزنُها حينئذٍ مَفْعَلَة فألفُها عن واوٍ، وهمزتُها أصليةٌ، وميمُها زائدةٌ. وأنشدوا على ذلك:
٤١٣٠ - ألا هل أَتَى تَيْمَ بنَ عبدِ مَناءة علَى النَّأْيِ فيما بيننا ابنُ تميمِ
وقد أَنْكر أبو عبيد قراءةَ ابن كثير، وقال: «لم أسمع الهمز». قلت: قد سمعه غيرُه، والبيتُ حُجَّةٌ عليه.
وأمَّا قراءةُ العامَّة فاشتقاقُها مِنْ مَنى يَمْني أي: صبَّ؛ لأن دماءَ النَّسائِكِ كانت تُصَبُّ عندها، وأنشدوا لجرير:
٤١٣١ - أزيدَ مَناةَ تُوْعِدُ يا بنَ تَيْمٍ تَأَمَّلْ أين تاهَ بك الوعيدُ
وقال أبو البقاء: «وألفه من ياءٍ لقولِك: مَنَى يَمْني إذا قدَّر، ويجوز أَنْ تكونَ من الواو، ومنه مَنَوان» فوزْنُها على قراءة القصر فَعْلة.
«والأُخْرى» صفةٌ لمَناة. قال أبو البقاء: «والأُخْرى توكيدٌ؛ لأنَّ الثالثةَ لا تكونُ إلاَّ أُخرَى». وقال الزمخشري: «والأُخْرى ذَمٌ وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ، كقولِه: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٨] أي: وُضَعاؤُهم
93
لأَشْرافِهم، ويجوزُ أَنْ تكونَ الأَوَّليةُ والتقدمُ عندهم لِلاَّت والعُزَّى». انتهى. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الأخرى إنما تدلُّ على الغَيْرِيَّة وليس فيها تَعَرُّضٌ لمَدْح ولا ذَمٍّ، فإن جاء شيءٌ مِنْ هذا فلقرينةٍ خارجيةٍ. وقيل: الأُخْرى صفةٌّ للعُزَّى؛ لأنَّ الثانيةَ أُخْرى بالنسبة إلى الأُوْلى. وقال الحسين ابن الفضل: «فيه تقديمٌ وتأخيرٌ» أي: العُزَّى الأخرى ومناةَ الثالثة، ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ الأصلَ عدمُه.
و «أرأيت» بمعنى أَخْبِرْني فيتعدَّى لاثنين، أوَّلُهما: «اللات وما عُطِف عليها. والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه:» أَلكُمُ الذَّكَرَ «فإنْ قيل: لم يَعُدْ من هذه الجملةِ ضميرٌ على المفعول الأولِ. فالجوابُ: أنَّ قولَه:» وله الأنثى «في قوةِ» وله هذه الأصنامُ «وإن كان أصلُ التركيبِ: ألكم الذَّكَر وله هُنَّ، أي: تلك الأصنامُ، وإنما أُوْثِرَ هذا الاسمُ الظاهرُ لوقوعِه رَأْسَ فاصلةٍ. /
وقد جَعَلَ الزجَّاجُ المفعولَ الثاني محذوفاً فإنَّه قال:»
وجهُ تَلْفيقِ هذه الآيةِ مع ما قبلَها فيقول: أَخْبِروني عن آلهتِكم هل لها شيءٌ من القدرةِ والعظمة التي وُصِفَ بها ربُّ العزَّةُ في الآي السالفة «انتهى. فعلى هذا يكونُ قولُه:» ألكم الذَّكَرُ «متعلقاً بما قبلَه من حيث المعنى، لا من حيث الإِعرابُ. وجَعَل ابنُ عطية الرؤية هنا بَصَريةً فقال:» وهي من رؤيةِ العين؛ لأنَّه أحال على أَجْرام مرئيةٍ، ولو كانَتْ «أَرَأَيْتَ» التي هي استفتاءٌ لم تَتَعَدَّ «وهذا كلامٌ مُثْبَجٌ، وقد تقدَّم لك الكلامُ عليها مُشْبَعاً في الأنعام وغيرها.
94
والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه :" أَلكُمُ الذَّكَرَ " فإنْ قيل : لم يَعُدْ من هذه الجملةِ ضميرٌ على المفعول الأولِ. فالجوابُ : أنَّ قولَه :" وله الأنثى " في قوةِ " وله هذه الأصنامُ " وإن كان أصلُ التركيبِ : ألكم الذَّكَر وله هُنَّ، أي : تلك الأصنامُ، وإنما أُوْثِرَ هذا الاسمُ الظاهرُ لوقوعِه رَأْسَ فاصلةٍ. /
وقد جَعَلَ الزجَّاجُ المفعولَ الثاني محذوفاً فإنَّه قال :" وجهُ تَلْفيقِ هذه الآيةِ مع ما قبلَها فيقول : أَخْبِروني عن آلهتِكم هل لها شيءٌ من القدرةِ والعظمة التي وُصِفَ بها ربُّ العزَّةُ في الآي السالفة " انتهى. فعلى هذا يكونُ قولُه :" ألكم الذَّكَرُ " متعلقاً بما قبلَه من حيث المعنى، لا من حيث الإِعرابُ. وجَعَل ابنُ عطية الرؤية هنا بَصَريةً فقال :" وهي من رؤيةِ العين ؛ لأنَّه أحال على أَجْرام مرئيةٍ، ولو كانَتْ " أَرَأَيْتَ " التي هي استفتاءٌ لم تَتَعَدَّ " وهذا كلامٌ مُثْبَجٌ، وقد تقدَّم لك الكلامُ عليها مُشْبَعاً في الأنعام وغيرها.
قوله: ﴿ضيزى﴾ : قرأ ابنُ كثير «ضِئْزَى» بهمزةٍ ساكنةٍ، والباقون بياءٍ مكانَها. وزيدُ علي «ضَيْزَى» بفتح الضادِ والياءِ الساكنة. فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه. فمعنى ضِيْزَى أي: جائرة. قال الشاعر:
٤١٣٢ - ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ
وعلى هذا فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض. فإنْ قيل: وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو: حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه. إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك، حكى ثعلب: «مِشْية حِيْكى»، ورجلٌ كِيْصَى. وحكى غيرُه: أمرأةٌ عِزْهى، وامرأة سِعْلى، وهذا لا يُنْقَضُ لأن
95
سيبويه يقول: حِيْكى وكِيْصى كقولِه في «ضيزَى» لتَصِحَّ الياءُ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما: سِعْلاة وعِزْهاة.
والوجه الثاني: أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى، قال الكسائي: يقال: ضازَ يَضيز ضِيْزَى، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى. ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز: نَقَصه ظُلماً وجَوْراً، وهو قريبٌ من الأول. ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها. وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز:
٤١٣٣ - فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ
و «ضِئْزَى» في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه. فإنْ قيل: لِم لا قيل في «ضِئْزى» بالكسر والهمز: إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب: أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل
96
استثقالَه مع الياء الساكنة، وسُمع منهم «ضُوْزَى» بضم الضاد مع الواو أو الهمزة.
وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى.
97
قوله: ﴿إِنْ هِيَ﴾ : في «هي» وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ للأصنام أي: وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها، كقوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ﴾ [يوسف: ٤٠]. والثاني: أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة، يعني: وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به، قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: «أسماء» يجب أن يكون المعنى: ذواتُ أسماءٍ: لقوله «سَمَّيْتُموها» لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى «.
قوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم. وقرأ عبد الله/ وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب بالخطاب، وهو حسنٌ موافِقٌ.
97
قوله: ﴿وَمَا تَهْوَى الأنفس﴾ نَسَقٌ على الظنِّ، و» ما «مصدريةٌ، أو بمعنى الذي.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ»
يَتَّبعون «أي: يَتَّبعون الظنَّ وهَوَى النفس في حالِ تنافي ذلك وهي مجيْءُ الهدى مِنْ عند ربِّهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ اعتراضاً فإنَّ قولَه:» أم للإِنسان «متصلٌ بقولِه: ﴿وَمَا تَهْوَى الأنفس﴾ وهي أم المنقطعةُ فتتقدَّر ب بل والهمزةِ على الصحيح. قال الزمخشري:» ومعنى الهمزةِ فيها الإِنكارُ أي: ليس للإنسانِ ما تَمَنَّى «.
98
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:قوله :﴿ إِنْ هِيَ ﴾ : في " هي " وجهان، أحدهما : أنها ضميرٌ للأصنام أي : وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها، كقوله :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ ﴾ [ يوسف : ٤٠ ]. والثاني : أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة، يعني : وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به، قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء :" أسماء " يجب أن يكون المعنى : ذواتُ أسماءٍ : لقوله " سَمَّيْتُموها " لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى ".
قوله :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ ﴾ العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم. وقرأ عبد الله/ وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب بالخطاب، وهو حسنٌ موافِقٌ.
قوله :﴿ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ ﴾ نَسَقٌ على الظنِّ، و " ما " مصدريةٌ، أو بمعنى الذي.
قوله :﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ " يَتَّبعون " أي : يَتَّبعون الظنَّ وهَوَى النفس في حالِ تنافي ذلك وهي مجيْءُ الهدى مِنْ عند ربِّهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ اعتراضاً فإنَّ قولَه :" أم للإِنسان " متصلٌ بقولِه :﴿ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ ﴾ وهي أم المنقطعةُ فتتقدَّر ب بل والهمزةِ على الصحيح. قال الزمخشري :" ومعنى الهمزةِ فيها الإِنكارُ أي : ليس للإنسانِ ما تَمَنَّى ".

قوله: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ﴾ : كم هنا خبريةٌ تفيد التكثيرَ، ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ «ولا تُغْني شفاعتُهم» هو الخبرُ. والعامَّةُ على إفراد الشفاعة وجُمِعَ الضميرِ اعتباراً بمعنى مَلَكَ وبمعنى «كم». وزيد بن علي «شفاعتُه» بإفرادها اعتبر لفظ «كم»، و «مَلَكَ». وابن مقسم «شفاعاتُهم» بجمعها. و «شيئاً» مصدرٌ أي: شيئاً من الإِغناء.
قوله: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ﴾ : أي: بما يقولون أو بذلك. وقال مكي: «الهاءُ تعود على الاسمِ لأنَّ التسميةَ والاسمَ بمعنى». وقرأ أُبي «بها» أي: بالملائكة أو بالتسمية، وهذا يُقَوِّي قولَ مكي.
قوله: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ﴾ : قال الزمخشري: «هو
98
اعتراض أي: فأَعْرِضْ عنه ولا تُقابِلْه، إنَّ ربك هو أعلمُ [بالضالِّ] ». قال الشيخ: «كأنه يقول: هو اعتراضٌ بين» فأعرِضْ «وبين» إنَّ ربك «، ولا يظهر هذا الذي يقولُه من الاعتراضِ». قلت: كيف يقولُ: كأنه يقول هو اعتراضٌ وما بمعنى التشبيه، وهو قد نَصَّ عليه وصرَّح به فقال: أي فأعرِضْ عنه ولا تقابِلْه، إنَّ ربك؟ وقوله: «ولا يَظْهر»، ما أدري عدمَ الظهورِ مع ظهور أنَّ هذا علةٌ لذاك، أي: قوله: «إنَّ ربَّك» علةٌ لقولِه: «فأعْرِضْ» والاعتراضُ بين العلةِ والمعلولِ ظاهرٌ، وإذا كانوا يقولون: هذا معترضٌ فيما يجيءُ في أثناء قصةٍ فكيف بما بين علةٍ ومعلول؟
وقوله: ﴿أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ جوَّزَ مكي أن يكونَ على بابِه من التفضيل أي: هو أعلمُ مِنْ كل أحد، بهذين الوصفَيْن وبغيرِهما، وأَنْ يكونَ بمعنى عالِم وتقدَّم نظيرُ ذلك مراراً.
99
قوله: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ : في هذه اللامِ أوجهٌ: أحدها: أَنْ تتعلَّقَ بقولِه: ﴿لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ ذكره مكي. وهو بعيدٌ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى. الثاني: أَنْ تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات﴾ أي: له مِلْكُهما يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدي مَنْ يشاء ليجزيَ المحسنَ والمسيءَ. الثالث: أَنْ تتعلَّق بقولِه: «بمنْ ضَلَّ وبمَنْ اهتدى». واللام للصيرورةِ أي: عاقبة أمرهم جميعاً للجزاءِ بما عملوا، قال معناه
99
الزمخشري. الرابع: أن تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه: ﴿أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ أي: حَفِظ ذلك ليجزيَ، قاله أبو البقاء. وقرأ زيد بن علي «لنجزيَ، ونجزيَ» بنونِ العظمة، والباقون بياء الغَيْبَةِ.
100
قوله: ﴿الذين يَجْتَنِبُونَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً للذين أحسنوا، وبإضمار أَعْني، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي: هم الذين، وقد تقدَّم الخلاف في «كبائر» و «كبير الإِثم».
قوله: ﴿إِلاَّ اللمم﴾ فيه أوجه، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ اللَّمَمَ الصغائرُ، فلم تندرِجْ فيما قبلَها، قاله جماعةٌ وهو المشهور. الثاني: أنه صفةٌ و «إلاَّ» بمنزلة «غير» كقولِه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: كبائرَ الإِثم والفواحش غيرِ اللمم. الثالث: أنه متصلٌ وهذا عند مَنْ يُفَسِّر اللممَ بغير الصغائرِ، والخلاف مذكور في التفسير. وأصلُ اللَّمَم: ما قَلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المَسُّ من الجنون، وألمَّ بالمكان قلَّ لُبْثُه به، ألَمَّ بالطعام أي: قَلَّ أكلُه منه. وقال أبو العباس: «أًصلُ اللَّمم: أَنْ يُلِمَّ بالشيء من غير أن يركَبَه يقال: ألمَّ بكذا إذا قاربه، ولم يُخالِطْه». وقال الأزهري: «العربُ تستعمل الإِلمامَ في معنى الدُنوِّ والقُرْب». وقال جرير:
100
٤١٣٤ - بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ عليَّ ومَنْ زيارَتُه لِمامُ
وقال آخر:
٤١٣٥ - متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا
وقال آخر:
٤١٣٦ - لقاءُ أخِلاَّءِ الصَّفاءِ لِمامُ ............................
ومنه لِمَّة الشَّعْرِ لِما دونَ الوَفْرةِ.
قوله: ﴿أَجِنَّةٌ﴾ جمع جَنين، وهو الحَمْلُ في البطنِ لاستتارِه. وجنين وأَجِنَّةَ كسرير وأَسِرة.
101
قوله: ﴿وأكدى﴾ : أصلُه مِنْ أكدى الحافرُ إذا حفر شيئاً فصادفَ كُدْيَةً مَنَعَتْه من الحفر، ومثلُه أَجْبَلَ أي: صادف جبلاً منعه من الحفر، وكُدِيَتْ أصابِعُه: كلَّتْ من الهزِّ، ثم اسْتُعْمل في كلِّ مَنْ/ طلب شيئاً، فلم يَصِلْ إليه أو لم يُتَمِّمْه. وأَرَأَيْتَ بمعنى أخبرني.
و ﴿أَعِندَهُ عِلْمُ﴾ : هو المفعولُ الثاني. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ اقتصاراً لأعطى.
101
قوله: «فهو يَرَى» هذه الجملةُ مترتبةٌ على ما قبلَها ترتُّباً ظاهراً. وقال أبو البقاء: «فهو يرى» جملةٌ اسميةٌ واقعةٌ موقعَ الفعليةِ. والأصل: أَعنده عِلْمُ الغيبِ فيَرى. ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جوابِ الاستفهام «انتهى. وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهورِ الترتُّبِ بالجملةِ الاسميةِ، وقد تقدَّم له نظيرُ هذا الكلامِ في موضعٍ آخرَ وتقدَّمَ الردُّ عليه.
102
قوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ : عطفٌ على «موسى»، وإنما خَصَّ هذين النبيَّيْن عليهما السلامُ بالذِّكْر؛ لأنه كان بين إبراهيم وموسى يُؤْخَذُ الرجلُ بجَريرةِ غيره، فأولُ مَنْ خالفهم إبراهيمُ عليه السلام. و «أم» منقطعةٌ أي: بل ألم يُنَبَّأ. والعامَّةُ على «وَفَّى» بالتشديد. وقرأ أبو أمامةَ الباهلي وسعيد بن جبير وابن السَّمَيْفع «وَفَى» مخففاً. وقد تقدَّم أنَّ فيه ثلاثَ لغاتٍ، وأَطْلَقَ التوفيةَ والوفاءَ ليتناولا كلَّ ما وَفَى.
قوله: ﴿أَلاَّ تَزِرُ﴾ :«أَنْ» مخففةٌ من الثقيلة، واسمُها محذوفٌ هو ضميرُ الشأنِ. ولا تزرُ هو الخبرُ وجيْءَ بالنفيِ لكونِ الخبرِ جملةً فعليةً متصرفةً غيرَ مقرونةٍ ب «قد»، كما تقدَّم تحريرُه في المائدة و «أنْ» وما في حَيِّزها فيها قولان، أظهرهُما: الجرُّ بدلاً مِنْ «ما» في قولِه: ﴿بِمَا فِي صُحُفِ﴾. والثاني: الرفعُ خبراً لمبتدأ مضمر أي: ذلك أَنْ
102
لا تَزِرُ أو هو أَنْ لا تَزِرُ، وهو جوابٌ لسؤالٍ مقدر كأنَّ قائلاً قال: وما في صُحُفهما؟ فأجيب بذلك. قلت: ويجوزُ أَنْ يكونَ نصباً بإضمار أعني جواباً لذلك السَّائل. وكلُّ موضعٍ أُضْمِرَ فيه هذا المبتدأُ لهذا المعنى أُضْمِرَ فيه هذا الفعلُ.
103
قوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ﴾ : هي المخففةُ أيضاً. ولم يُفْصَلْ هنا بينها وبين الفعلِ لأنه لا يَتَصَرَّفُ. ومحلُّها الجرُّ أو الرفعُ أو النصبُ لعَطْفِها على أَنْ قبلَها، وكذلك محلُّ «وأَنَّ سَعْيَه» و «يُرَى» مبني للمفعول فيجوزُ أَنْ يكونَ من البصرية أي: يُبْصَر، وأن يكونَ من العِلميَّة، فيكونُ الثاني محذوفاً أي: يُرى حاضراً، والأولُ أوضحُ. وقال مكي: «وأجاز الزجَّاج» يَرى «بفتح الياء على إضمارِ الهاءِ أي: سوفَ يَراه، ولم يُجِزْه الكوفيون لأنَّ سَعْيَه يَصير قد عملَ فيه» أنَّ «و» يَرى «وهو جائزٌ عند المبرد وغيرِه؛ لأن دخولَ» أنَّ «على» سَعْيَه «وعملَها يَدُلُّ على أن الهاء المحذوفة مِنْ» يَرَى «، وعلى هذا جَوَّز البصريون:» إنَّ زيداً ضربْتُ «بغير هاء». قلت: وهو خلافٌ ضعيفٌ؛ توهَّموا أن الاسمَ تَوَجَّه عليه عاملان مختلفان في الجنسيةِ، وإنما قلتُ في الجنسية لأنَّ رأيَ بعضِهم أنه يُعْمِلُ فعلَيْن في معمولٍ واحدٍ، ومنه بابُ التنازع في بعض صورِه نحو: قام وقعد زيدٌ، وضربْتُ وأكرمْتُ عَمْراً، وأن يعملَ عاملٌ واحدٌ في اسمٍ وفي ضميرِه معاً نحو: «زيداً ضربتُه» في باب الاشتغال، وهذا توهُّمٌ باطلٌ لأنَّا نقولُ «سَعْيَه» منصوبٌ ب «أنَّ»، و «يَرى» متسلِّطٌ على ضميره المقدر.
103
قلت: فظاهرُ هذا أنه لم يُقْرَأْ به، وقد حكى أبو البقاء أنه قُرِىء به شاذَّاً، ولكنه ضَعَّفه مِنْ جهةٍ أخرى فقال: «وقُرِىء بفتح الياء وهو ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم» أنَّ «وهو السَّعْي، والضميرُ الذي فيه للهاءِ، فيبقى الاسمُ بغير خبرٍ، وهو كقولِك:» إنَّ غلامَ زيدٍ قامَ «وأنت تعني: قام زيدٌ، فلا خبرَ لغلام. وقد وُجِّه على أن التقديرَ: سوف يَراه فتعودُ الهاءُ على السعي وفيه بُعْدٌ» انتهى. وليت شعري كيف توهَّم المانعَ المذكورَ، وكيف نَظَّره بما ذكر؟ ثم أيُّ بُعْدٍ في تقدير: سوف يَرى سعي نفسِه؟ وكأنَّه اطلع على مذهبِ الكوفيين في المنعِ إلاَّ أنَّ المُدْرَك غيرُ المُدْرِك.
104
قوله: ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ﴾ : يجوزُ فيه وجهان، أظهرهما: أنَّ الضميرَ المرفوعَ عائدٌ على الإِنسان، والمنصوبَ عائدٌ على سعيه. والجزاء مصدرٌ مبيِّنٌ للنوع. والثاني: قال الزمخشريُّ: «ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للجزاء، ثم فَسَّره بقولِه» الجزاءَ «، أو أبدلَه عنه كقولِه: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣]. قال الشيخ:» وإذا كان تفسيراً للضميرِ المنصوبِ في «يُجْزاه» فعلى ماذا ينتصِبُ، وأمَّا إذا كان بدلاً فهو مِنْ بدلِ الظاهرِ/ من المضمرِ، وهي مسألةُ خلافٍ والصحيحُ المنعُ «.
قلت: العجبُ كيف يقولُ: فعلى ماذا ينتصِبُ؟ وانتصابُه من
104
وجهَيْن، أحدُهما: وهو الظاهرُ البيِّن - أنْ يكونَ عطفَ بيانٍ، وعطفُ البيانِ يَصْدُقُ عليه أنه مُفَسِّرٌ، وهي عبارةٌ سائغةٌ شائعةٌ. والثاني: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أَعْني، وهي عبارةٌ سائغةٌ أيضاً يُسَمُّون مثلَ ذلك تفسيراً. وقد مَنَعَ أبو البقاء أن ينتصِبَ الجزاء الأَوْفى على المصدرِ، فقال:» الجزاءَ الأوفى هو مفعولُ «يُجْزاه» وليس بمصدرٍ لأنَّه وَصَفَه بالأَوْفى، وذلك مِنْ صفةِ المَجْزِيِّ به لا من صفةِ الفعلِ «. قلت: وهذا لا يَبْعُدُ عن الغلطِ؛ لأنه يلزَمُ أَنْ يتعدَّى يُجْزى إلى ثلاثةِ مفاعيل. بيانه: أنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، والثاني: الهاءُ التي هي ضميرُ السعي، والثالث: الجزاءَ الأوفى. وأيضاً فكيف يَنْتَظم المعنى؟ وقد يُجاب عنه: بأنه أراد أنه بدلٌ من الهاءِ كما تقدَّم نَقْلُه عن الزمخشريَّ فيَصِحُّ أَنْ يُقالَ: هو مفعولُ» يُجْزاه «، فلا يتعدَّى لثلاثةٍ حينئذٍ، إلاَّ أنه بعيدٌ مِنْ غَرَضِه، ومثلُ هذا إلغازٌ. وأمَّا قولُه:» والأوفى ليس من صفات الفعل «ممنوعٌ، بل هو من صفاتِه مجازٌ، كما يُوْصف به المجزيُّ به مجازاً، فإن الحقيقةَ في كليهما منتفيةٌ، وإنما المُتَّصِفُ به حقيقةُ المُجازَى.
105
قوله: ﴿وَأَنَّ إلى رَبِّكَ﴾ : العامَّةُ على فتح هذه الهمزةِ وما عُطِفَ عليها بمعنى: أن الجميعَ في صُحُفِ موسى وإبراهيم. وقرأ أبو السَّمَّال بالكسرِ في الجميع على الابتداءِ. وقولُه: «أَضْحك وأَبْكى» وما بعده: هذا يُسَمِّيه البيانيون الطباقَ والتضادَّ، وهو نوعٌ من البديعِ، وهو أَنْ يُذْكَرَ ضدان أو نَقْيضان أو متنافيان بوجهٍ من الوجوه.
قوله: ﴿أقنى﴾ : قال الزمخشريُّ: «أعطى القُنْيَة وهي المالُ الذي تَأَثَّلْتَه وعَزَمْتَ أن لا يَخْرُج مِنْ يَدِك». قال الجوهري: «قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنَىً، مثلَ: غنِيَ يَغْنَى غِنَى». ثم يتعدَّى بتغييرِ الحركة فيقال: قَنَيْتُ مالاً أي: كَسَبْتُه، وهو نظير: شَتِرَتْ عينُه بالكسر وشَتَرَها اللَّهُ بالفتح، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ أو التضعيفُ اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أَقْناه الله مالاً، وقَنَّاه إياه أي: أَكْسَبه إياه، قال الشاعر:
٤١٣٧ - كم مِنْ غنيٍّ أصاب الدهرُ ثَرْوَته ومِنْ فقيرٍ تَقَنَّى بعد إقْلالِ
أي: تقنَّى مالاً، فحذف الثاني، وحُذِفَ مفعولا أغْنى وأَقْنى؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ هذين الفعلين إليه وحدَه وكذلك في باقيها.
وألفُ «أَقْنى» عن ياءٍ لأنه مِنَ القُنِيْةِ قال:
٤١٣٨ - ألا إنَّ بَعْد العُدْمِ للمَرْءِ قُنِيَةً ........................
وقيل: أقْنى أَرْضَى. قال الراغب: «وتحقيقُه: أنه جَعَلَ له قُنْية من الرضا وقَنَيْتُ كذا واقْتَنَيْتُه قال:
٤١٣٩ -...........................
106
قَنِيْتُ حَيائي عِفَّةً وتَكَرُّما
107
قوله: ﴿رَبُّ الشعرى﴾ : الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما: الشِّعْرى العَبُور، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم. والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ، ويُقال لها: مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار. والثاني: / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء، وهي التي في الذِّراع. وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ: مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر.
قوله: ﴿عَاداً الأولى﴾ : اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول: إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ، إحداها: قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون «عادَاً الأُولى» بالتنوين مكسوراً
107
وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على «عاداً» وابتدؤوا ب «الأُوْلى» فقياسُهم أَنْ يقولوا «الأولى» بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة.
الثانيةُ: قرأ قالون «عاداً لُّؤْلَى» بإدغامِ التنوين في اللامِ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ، وهمزِ الواوِ، هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ، الأولُ: «الُّؤْلَى» بهمزةِ وصل، ثم بلامٍ مضمومة، ثم بهمزةٍ ساكنة. الثاني: «لُؤْلَى» بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ. الثالث: كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه.
الثالثة: قرأ ورش «عاداً لُّوْلى» بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان: «ألُّوْلَى» بالهمزةِ والنقلِ، و «لُوْلَى» بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن.
الرابعة: قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ، وأنَّ لورشٍ وجهين. فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات.
وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ، الأول: حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ. الثاني: حكمُ حركةِ النقلِ. الثالث: أصلُ «أُوْلَى» ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو: {
108
قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإِخلاص: ١] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ ﴿أَحَدٌ الله الصمد﴾، وكقولِ الشاعر:
٤١٤٠ -......................... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وهو قليلٌ جداً، وقد مضى تحقيقُه. وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين: الاعتدادَ بالحركةِ، وعدمَ الاعتدادِ بها، وهي اللغةُ العالية. وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه. إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ:
أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا «عاداً» : إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله:
٤١٤١ - لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب
فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من
109
اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من «الأُوْلى» للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا: الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ. وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ.
وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول: لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ، ورأيت زياداً لَعْجَم، من غيرِ إدغام التنوينِ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ، وهذه هي اللغةُ المشهورة. ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ: لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ، هذا من حيث الإِجمال.
وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول: أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه.
وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان، أحدُهما: أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي: نجا، كما هو قولُ الكوفيين، ثم أَبْدَلَ
110
الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو: «أُوْمِنُ»، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى، وقد زالَتْ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه. والثاني: أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه:
٤١٤٢ - أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى .......................
وكقراءةِ «يُؤْقنون» وهمزِ «السُّؤْقِ» و «سُؤْقِه» وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً. وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ «أُوْلى» عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه. وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ. وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ.
وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ: تَرْكُ الاعتدادِ
111
بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه. وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً. ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ «الأولى» في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ. والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم.
وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك. ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في ﴿سِيَرتَهَا الأولى﴾ [طه: ٢١] و ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى﴾ [الأعلى: ١١] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها. وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ: ﴿قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق﴾ [البقرة: ٧١] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين. والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً، لا يُبْتَدأ له بالأصل، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك، و «الأُوْلَى» في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها.
وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ
112
المتقدمةِ لقالون، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ، وأبو العباس، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِضِ، ولكن لا التفاتَ إلى رَدِّهما لثبوتِ ذلك لغةً وقراءةً، وإن كان غيرُها أَفْصَحَ منها. وقد ثَبَتَ عن العرب أنَّهم يقولون: الَحْمَر ولَحْمَر بهمزةِ الوصلِ وعَدَمِها مع النقل، واللَّهُ أعلمُ.
وقرأ أُبَيٌّ وهي في حَرْفِه «عادَ الأُولى»، غيرَ مصروفٍ ذهاباً إلى القبيلةِ أو الأمِّ كما تقدَّم، ففيه العلَمِيَّةُ والتأنيثُ، ويَدُلُّ على التأنيثِ قولُه: «الأُوْلَى» فوصَفَها بوَصْفِ المؤنث.
113
وقد تقدَّمَ الخلافُ في «ثمود» بالنسبة للصَرْفِ وعَدَمِه في سورة هود، وفي انتصابِه هنا وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على «عاداً». والثاني: أنَّه منصوبٌ بالفعلِ المقدَّرِ، أي: وأهلَك، قاله أبو البقاء، وبه بَدَأ، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ب «أَبْقَى» لأنَّ ما بعد «ما» النافيةِ لا يعملُ فيما قبلها، والظاهرُ أنَّ متعلَّقَ «أَبْقَى»
113
عائدٌ على مَنْ تقدَّم مِنْ عادٍ وثمودَ، أي: فما أَبْقَى عليهم، أي: على عادٍ وثمودَ، أو يكونُ التقديرُ: فما أَبْقَى منهم أحداً ولا عَيْناً تَطْرُفُ.
114
و ﴿قَوْمَ نُوحٍ﴾ : كالذي قبلَه. و «مِنْ قبلُ»، أي: مِنْ قَبْلِ عادٍ وثمودَ.
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ الضميرُ لقومِ نوحٍ خاصةً، وأن يكونَ لجميعِ مَنْ تقدَّمَ مِن الأمم الثلاثةِ.
وقوله: ﴿كَانُواْ هُمْ﴾ يجوز في «هم» أَنْ يكون تأكيداً، وأَنْ يكون فَصْلاً، ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ بدلاً، والمفضَّل عليه محذوفٌ، تقديرُه: مِنْ عادٍ وثمودَ، على قولنا: إن الضميرَ لقومِ نوحٍ خاصةً، وعلى القول بأنَّ الضميرَ للكلِّ يكون التقديرُ: مِنْ غيرهم. و «المُؤْتَفِكَة» منصوبٌ ب «أَهْوَى» وقُدِّمَ لأَجْلِ الفواصل.
و " المُؤْتَفِكَة " منصوبٌ ب " أَهْوَى " وقُدِّمَ لأَجْلِ الفواصل.
قوله: ﴿مَا غشى﴾ : كقولِه ﴿مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠] في الإِبهام وهو المفعولُ الثاني، إنْ قلنا: إنَّ التضعيفَ للتعديةِ، وإن قُلْنا: إنه للمبالغةِ والتكثيرِ فتكونُ «ما» فاعلةً كقولِه: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨].
قوله: ﴿فَبِأَيِّ﴾ متعلقٌ ب «تَتَمارَى» والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في. وقرأ ابنُ محيصن ويعقوبُ «تَمارى» بالحذف كقراءةِ «تَذَكَّرون».
و ﴿هذا﴾ : إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الآي أو إلى القرآن، وإلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، ونذير: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، وأَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ، وكلاهما لا يَنْقاس، بل القياسُ في مصدرِه إنذار، وفي اسمِ فاعلِه مُنْذِر، والنُّذُر يجوز أَنْ يكونَ جمعاً لنَذير بمعنَييْهِ المذكوريَنْ، و «الأَُوْلَى» صفةٌ حملاً على معنى الجماعةِ كقولِه: ﴿مَآرِبُ﴾، [طه: ١٨] والآزِفَةُ، أي: الساعةُ الآزفة، كقولِه: ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١]، ويجوز أن تكونَ الآزفةُ عَلَماً للقيامة بالغَلَبة.
والآزِفَةُ، أي : الساعةُ الآزفة، كقولِه :﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾ [ القمر : ١ ]، ويجوز أن تكونَ الآزفةُ عَلَماً للقيامة بالغَلَبة.
قوله: ﴿كَاشِفَةٌ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ وصفاً، وأَنْ يكونَ مصدراً، فإنْ كانَتْ وصفاً احتمل أَنْ يكونَ التأنيثُ/ لأجلِ أنَّه صفةٌ لمؤنثٍ محذوفٍ وقيل: تقديرُه: نفسٌ كاشفةٌ، أو حالٌ كاشِفة، واحتمل أَنْ تكونَ التاءُ للمبالغة كعلاَّمَة ونَسَّابة، أي ليس لها إنسانٌ كاشفةٌ، أي: كثيرُ الكشف، وإن كان مصدراً فهو كالعافِية والعاقِبَة وخائِنَةِ الأَعْين، ومعنى الكَشْفِ هنا: إمَّا مِنْ كَشَفَ الشيءَ، أي: عَرَفَ حقيقتَه كقولِه: ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ﴾، وإمَّا مِنْ كَشَفَ الضُرَّ، أي: أزاله، أي: ليس لها مَنْ يُزيلها ويُنَجِّيها غيرُ اللَّهِ تعالى، وقد تقدَّم الكلامُ على مادة «أزف» في سورة غافر.
قوله: ﴿أَفَمِنْ هذا الحديث﴾ : متعلِّقٌ ب «تَعْجَبون»
115
ولا يجيءُ فيه الإِعمالُ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الإِعمال تأخُّرَ المعمولِ عن العوامل، هنا هو متقدِّمٌ. وفيه خلافٌ بعيدٌ، وعليه تَتَخَرَّج الآيةُ الكريمةُ. فإنَّ كلاً مِنْ قولِه: تَعْجبون، وتَضْحكون ولا تَبكون يَطْلُبُ هذا الجارَّ مِنْ حيث المعنى.
والعامَّةُ على فتح التاءِ والجيم والحاءِ مِنْ تَعْجَبون، تَضْحكون. والحسن: بضم التاءَ وكسرِ الجيمِ والحاءِ مِنْ غيرِ واوٍ عاطفةٍ بين الفعلَيْن، وهي أبْلَغُ: مِن حيث إنَّهم إذا أَضْحكوا غيرَهم كان تجرُّؤُهم أكثرَ. وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله كالجماعةَ، إلاَّ أنهما بلا واوٍ عاطفةٍ كالحسن، فيُحتمل أَنْ تكونَ «تضحكون» حالاً، وأَنْ تكونَ استئنافاً كالتي قبلها.
116
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:قوله :﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ﴾ : متعلِّقٌ ب " تَعْجَبون " ولا يجيءُ فيه الإِعمالُ ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الإِعمال تأخُّرَ المعمولِ عن العوامل، هنا هو متقدِّمٌ. وفيه خلافٌ بعيدٌ، وعليه تَتَخَرَّج الآيةُ الكريمةُ. فإنَّ كلاً مِنْ قولِه : تَعْجبون، وتَضْحكون ولا تَبكون يَطْلُبُ هذا الجارَّ مِنْ حيث المعنى.
والعامَّةُ على فتح التاءِ والجيم والحاءِ مِنْ تَعْجَبون، تَضْحكون. والحسن : بضم التاءَ وكسرِ الجيمِ والحاءِ مِنْ غيرِ واوٍ عاطفةٍ بين الفعلَيْن، وهي أبْلَغُ : مِن حيث إنَّهم إذا أَضْحكوا غيرَهم كان تجرُّؤُهم أكثرَ. وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله كالجماعةَ، إلاَّ أنهما بلا واوٍ عاطفةٍ كالحسن، فيُحتمل أَنْ تكونَ " تضحكون " حالاً، وأَنْ تكونَ استئنافاً كالتي قبلها.

قوله: ﴿وَأَنتُمْ سَامِدُونَ﴾ : هذه الجملةُ تَحْتمل أَن تكونَ مستأنفةً، أخبرَ اللَّهُ تعالى عنهم بذلك، وتَحْتمل أَنْ تكونَ حالاً أي: انتفى عنكم التباكي حالَ كونِكم «سامدونَ». والسُّمُود قيل الإِعراضُ. وقيل: اللهوُ. وقيل: الجمود. وقيل: الاستكبار. قال الشاعر:
116
٤١٤٣ - رَمَى الحِدْثانُ نِسْوَةَ آلِ سَعْدٍ بمقدارٍ سَمَدْن له سُمودا
فرَدَّ شعرورَهن السودَ بِيْضاً ورَدَّ وجوهَهن البيضَ سُودا
فهذا بمعنى الجمود والخُشوع، وقال آخر:
٤١٤٤ - ألا أيها الإِنسانُ إنَّك سامِدٌ كأنَّك لا تَفْنَى ولا أنت هالكُ
فهذا بمعنى لاهٍ لاعِبٌ، وقال أبو عبيدة/: «السُّمود» : الغناءُ بلغة حمير، يقولون: يا جاريةُ اسْمُدي لنا، أي: غَنِّي، وقال الراغب: «السَّامِدُ: اللاهي الرافعُ رأسَه، مِنْ قولهم: بعيرٌ سامِدٌ في سَيْرِه، وقيل: سَمَّدَ رأسَه وسَبَّدَه، أي: استأصلَ شَعْرَه».
117
Icon