تفسير سورة النجم

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النجم من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية ثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف.
﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاط بصفات الكمال ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ الموجودات بصفة الجمال ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه بصالح الأعمال.

﴿ والنجم إذا هوى ﴾ قال ابن عباس في رواية العوفي : يعني الثريا إذا غابت وسقطت وهوت مغيبة، والعرب تسمي الثريا نجماً، وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً «ما طلع النجم قط وفي الأرض شيء من العاهات إلا رفع » وأراد بالنجم الثريا، وقال مجاهد : هو نجم السماء كلها حين يغرب، لفظه واحد ومعناه الجمع سمى الكوكب نجماً لطلوعه وكلّ طالع نجم يقال : نجم السن والنبت والقرن إذا طلع.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنها ما يرجم به الشياطين عند استراقهم السمع وقال أبو حمزة الثمالي : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة وقيل : المراد بالنجم القرآن سمي نجماً لأنه نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة ويسمى التفريق تنجيماً والمفرّق منجما هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وقال الكلبي : والهوى النزول من أعلى إلى أسفل وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله تعالى :﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ [ الرحمن : ٦ ] وهويه سقوطه على الأرض.
وقال جعفر الصادق : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج والهوى النزول يقال هوى يهوى هوياً والكلام في قوله تعالى :﴿ والنجم ﴾ كالكلام في قوله تعالى ﴿ والطور ﴾ حيث لم يقل والنجوم والأطوار وقال :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] كما مر.
تنبيه : أوّل هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها فإنه تعالى قال في آخر تلك ﴿ وإدبار النجوم ﴾ وقال تعالى في أوّل هذه :﴿ والنجم إذا هوى ﴾ قال الرازي : والفائدة في تقييد القسم به في وقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا نزل عن وسط السماء تبين بنزوله جانب المغرب عن المشرق والجنوب عن الشمال.
وقوله تعالى :﴿ ما ضل ﴾ أي : عن طريق الهداية ﴿ صاحبكم ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم وقتاً من الأوقات، جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه وقتاً من الأوقات جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طهارة شمائله ﴿ وما غوى ﴾ أي : وما مال أدنى ميل ولا كان مقصده مما يسوء فإنه محروس من أسباب غواية الشياطين وغيرها.
تنبيه : الغي جهل عن اعتقاد فاسد بخلاف الضلال، وذهب أكثر المفسرين إلى أن الغي والضلال بمعنى واحد وفرق بعضهم بينهما فقال : الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد قال تعالى :﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] وقال تعالى ﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ] قال الرازي : وتحقيق القول فيه أنّ الضلال أعم استعمالاً في الوضع تقول : ضل بعيري ورحلي ولا تقول غيّ.
فائدة : قد دافع الله سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمّا باقي الأنبياء فدافعوا عن أنفسهم ﴿ ليس بي ضلالة ﴾ ﴿ ليس بي سفاهة ﴾ ونحو ذلك قاله القشيري فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى :﴿ ما ضلّ صاحبكم ﴾ وبين قوله تعالى :﴿ ووجدك ضالاً فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ] أجيب : بأنّ المراد من الآية الآتية وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها بخلاف هذه الآية.
﴿ وما ينطق ﴾ أي : يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في هذا الحال ولا في الاستقبال نطقاً ناشئاً ﴿ عن الهوى ﴾ أي : عن أمره كالكهان الذين يغلب كذبهم صدقهم، والشعراء وغيرهم وما يقول هذا القرآن من عند نفسه.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو ﴾ أي : الذي يتكلم به من القرآن وكلّ أقواله وأفعاله وأحواله ﴿ إلا وحي ﴾ أي : من الله تعالى وأكده بقوله تعالى :﴿ يوحى ﴾ أي : يجدد إليه إيحاؤه منا وقتاً بعد وقت.
تنبيه : استدل بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، وأجيب : بأنّ الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى.
﴿ علمه ﴾ أي : صاحبكم الوحي الذي أتاكم به ملك ﴿ شديد القوى ﴾ فلا تعجبوا من هذه البحار الزاخرة فإنّ معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كلّ ما أمره الله تعالى به وهو جبريل عليه السلام، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه نفحة بجناحه فألقاه في أقصى بلاد الهند.
﴿ ذو مرّة ﴾ قال ابن عباس : ذو منظر حسن وقال أكثر المفسرين : ذو قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به، والطاقة لحمله بغاية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس في مزاولته ماض على طريقة واحدة على غاية من الشدّة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به، فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة لا يسأم في شيء يزاوله، ومن جملة ما أعطي من القوّة القدرة على التشكل وإلى ذلك أشار بما تسبب عن هذا من قوله تعالى ﴿ فاستوى ﴾ أي : فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوّته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها.
﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنّ جبريل عليه السلام ﴿ بالأفق الأعلى ﴾ أي : عند مطلع الشمس، وذلك أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين مرّة في الأرض ومرّة في السماء، فأمّا التي في الأرض ففي الأفق الأعلى، والمراد بالأعلى جانب المشرق وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان بحراء وكان جبريل واعده أن يأتيه وهو بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فنزل له جبريل عليه السلام في صورة الآدميين.
﴿ ثم دنا ﴾ أي قرب منه ﴿ فتدلى ﴾ أي زاد في القرب.
﴿ فكان ﴾ منه ﴿ قاب ﴾ أي قدر ﴿ قوسين ﴾ أي عربيتين ﴿ أو أدنى ﴾ من ذلك وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه، وأمّا في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم.
تنبيه : القاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين » وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها » والقد : السوط، ويقال بينهما خطوات يسيرة وقال الشاعر :
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا ***
فإن قيل : كيف تقدير قوله :﴿ فكان قاب قوسين ﴾ أجيب : بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله : وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع.
وروى الشيباني قال : سألت زراً عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود «أنه محمد صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح » وبهذا قال ابن عباس والحسن وقتادة، وقال آخرون : دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ومعنى دنوه تعالى : قرب منزلة كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى «من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة » وهذا إشارة إلى المعنى المجازي قال البغوي : وروينا في قصة المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس : فدنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه وقد قدّمت الكلام على المعراج وعلى جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في أوّل الإسراء. وقال الضحاك : دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجلّ فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى وتقدّم الكلام على القاب، والقوس : ما يرمى به في قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين. وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب والأصل في ذلك أنّ الحليفين من العرب كانا إذا أراد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فالصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه، وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قدر ذراعين وهو قول سعيد بن جبير، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء أو أدنى بل أقرب وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.
﴿ فأوحى ﴾ أي : الله تعالى وإن لم يجر له ذكر لعدم اللبس ﴿ إلى عبده ﴾ أي : جبريل عليه السلام ﴿ ما أوحى ﴾ أي : جبريل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الموحي تفخيماً لشأنه وهذا التفسير ما جرى عليه الجلال المحلي وهو ظاهر، وقيل : فأوحى إلى جبريل بسبب هذا القرب وعقبه إلى عبده أي عبد الله ما أوحى أي جبريل وقيل : الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله تعالى :﴿ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ﴾ [ الذاريات : ٥٨ ] ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بكليته إلى جانب القدس، واختلف في الموحى على أقوال الأول قال سعيد ابن جبير : أوحى إليه ﴿ ألم يجدك يتيماً ﴾ [ الضحى : ٦ ]
إلى قوله تعالى :﴿ ورفعنا لك ذكرك ﴾ [ الشرح : ٤ ] الثاني : أوحى إليه الصلاة. الثالث : أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك. الرابع : أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة. الخامس : أنّ ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.
﴿ ما كذب الفؤاد ﴾ أي : فؤاد النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ما رأى ﴾ أي : ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، وهذا أيضاً ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال البقاعي : ما رأى البصر أي حين رؤية البصر كأنه حاضر القلب لا أنها رؤية بصر فقط يمكن فيها الخلو عن حضور القلب وقال القشيري ما معناه : ما كذب فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره على الوصف الذي علمه قبل أن رآه، فكان علمه حق اليقين وقرأ هشام بتشديد الذال والباقون بالتخفيف.
وقوله تعالى :﴿ أفتمارونه ﴾ أي : تجادلونه وتغلبونه ﴿ على ما يرى ﴾ خطاب للمشركين المكذبين رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل، وهذا ما قاله ابن مسعود وعائشة. ومن قال : إنّ المرئي هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده وهو قول ابن عباس قال : رآه بفؤاده مرّتين ما كذب الفؤاد ما رأى، وقال أنس والحسن وعكرمة : رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعينه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إنّ الله تعالى اصطفى إبراهيم عليه السلام بالخلة واصطفى في موسى عليه السلام بالكلام واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية وكانت عائشة تقول لم ير محمد صلى الله عليه وسلم ربه وتحمل الرؤية على رؤية جبريل قال مسروق قلت لعائشة : يا أمّتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب ؟ من حدّثك أنّ محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت ﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ﴾ [ الشورى : ٥١ ] ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت ﴿ وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
ومن حدّثك أنه كتم شيئاً مما أنزل الله تعالى فقد كذب، ثم قرأت ﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين »، وروى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك «قال نور أنّى أراه » وحاصل المسألة : أنّ الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمّة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه أبو عمرو فأخبره أنه رآه ولا يقدح في ذلك حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لم أر وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم وجوابه ظاهر، فإنّ الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله ﴾ [ الشورى : ٥١ ] الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه » فقال الماوردي : الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه : إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل : هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب : بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه.
والواو في قوله تعالى :﴿ ولقد رآه ﴾ يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي : كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه ﴿ نزلة أخرى ﴾ على وجه لا شك فيه.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ نزلة ﴾ فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه :
الأوّل : أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء ﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ قال الرازي : ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ هو الله تعالى وقد قيل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان : أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما : أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث : أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة : ضدّها وهي العرجة كأنه قال : رآه عرجة أخرى قال ابن عباس : نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى :﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له : أين رأيته فيقول : على السطح، وقد يقول : عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال : بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل : بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر.
تنبيه : إضافة السدرة إلى المنتهى تحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعدّاه ملك، قال هلال بن كيسان : سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل : ينتهي إليها ما هبط من فوقها ويصعد من تحتها، وقال كعب : تنتهي إليها الملائكة والأنبياء، وقال الربيع : تنتهي إليها أرواح المؤمنين.
وثانيها : إضافة الملك إلى مالكه كقولك : دار زيد وشجر زيد وحينئذ المنتهى فيه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى :﴿ إلى ربك المنتهى ﴾ [ النجم : ٤٢ ] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والعظيم، كما يقال في التسبيح يا غاية رغبتاه ويا منتهى أملاه.
وثالثها : إضافة المحل إلى الحال فيه كقولك كتاب الفقه وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم فتتلقى هناك.
قال البقاعي : وذلك والله أعلم ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوّة قبل الهجرة بقليل بعد أن ترقى في معارج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينها من المسافات فانتهى إلى منتهى سمع فيه صرير الأقلام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:والواو في قوله تعالى :﴿ ولقد رآه ﴾ يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي : كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه ﴿ نزلة أخرى ﴾ على وجه لا شك فيه.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ نزلة ﴾ فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه :
الأوّل : أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء ﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ قال الرازي : ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ هو الله تعالى وقد قيل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان : أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما : أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث : أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة : ضدّها وهي العرجة كأنه قال : رآه عرجة أخرى قال ابن عباس : نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى :﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له : أين رأيته فيقول : على السطح، وقد يقول : عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال : بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل : بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر.
تنبيه : إضافة السدرة إلى المنتهى تحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعدّاه ملك، قال هلال بن كيسان : سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل : ينتهي إليها ما هبط من فوقها ويصعد من تحتها، وقال كعب : تنتهي إليها الملائكة والأنبياء، وقال الربيع : تنتهي إليها أرواح المؤمنين.
وثانيها : إضافة الملك إلى مالكه كقولك : دار زيد وشجر زيد وحينئذ المنتهى فيه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى :﴿ إلى ربك المنتهى ﴾ [ النجم : ٤٢ ] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والعظيم، كما يقال في التسبيح يا غاية رغبتاه ويا منتهى أملاه.
وثالثها : إضافة المحل إلى الحال فيه كقولك كتاب الفقه وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم فتتلقى هناك.
قال البقاعي : وذلك والله أعلم ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوّة قبل الهجرة بقليل بعد أن ترقى في معارج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينها من المسافات فانتهى إلى منتهى سمع فيه صرير الأقلام.

وعظمها بقوله تعالى :﴿ عندها ﴾ أي : السدرة ﴿ جنة المأوى ﴾ أي : التي لا مأوى في الحقيقة غيرها وهي الجنة التي وعدها المتقون كقوله تعالى :﴿ دار المقامة ﴾ [ فاطر : ٣٥ ]. وقيل هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء تأوي إليها وقيل هي جنة الملائكة.
وقوله تعالى :﴿ إذ ﴾ معمول لرأى أي : رأى من آيات ربه الكبرى حين ﴿ يغشى السدرة ﴾ وهي شجرة النبق وقوله تعالى :﴿ ما يغشى ﴾ تعظيم وتكثير لما يغشاها واختلفوا فيما يغشاها فقيل : فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك قال الرازي : وهذا ضعيف لأنّ ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر وإلا فلا وجه له ا. ه. قال القرطبي ورواه ابن مسعود وابن عباس مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قال «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كلّ ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى وذلك قوله عز من قائل :﴿ إذ يغشى السدرة ما يغشى ﴾ » وقيل : ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة وروي في حديث المعراج عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر قال : فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة ».
وقيل : يغشاها أنوار الله تعالى، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار، ولكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرّك الشجرة وخر موسى عليه السلام صعقاً ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : أبهمه تعظيماً له والغشيان يكون بمعنى التغطية قال الماوردي في معاني القرآن : فإن قيل : لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر قلنا : لأنّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلّ مديد وطعم لذيذ ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوره، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، وريحها بمنزلة القول لظهوره، وروى أبو داود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«من قطع سدرة صوب الله تعالى رأسه في النار » وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر يعني : من قطع سدرة في فلاة يستظلّ بها ابن السبيل والبهائم، عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله تعالى رأسه في النار.
ثم أكد سبحانه الرؤية وقرّرها بقوله تعالى ﴿ ما زاغ ﴾ أي : ما مال أدنى ميل ﴿ البصر ﴾ أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه فما قصر عن النظر إلى ما أذن له فيه وما زاد ﴿ وما طغى ﴾ أي : تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه، مع أنّ ذاك العالم غريب عن بني آدم وفيه من العجائب ما يحير الناظر، بل كانت له الصفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل فأثبت ما رآه على حقيقته، وكما هو قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه : وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية وهذه غامضة من غوامض الأدب اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنبيه : اللام في البصر تحتمل وجهين :
أحدهما : المعروف أي ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا إن قيل بأنّ الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غشيان الجراد والفراش ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن قيل إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان : أحدهما : لم يلتفت يمنة ولا يسرة بل اشتغل بمطالعتها. الثاني : ما زاغ البصر بصعقه بخلاف موسى عليه السلام فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأوّل بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الثاني بيان قوّته.
الوجه الثاني : أنّ اللام لتعريف الجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع لعظم هيبته فإن قيل : لو كان كذلك لقال ما زاغ بصره فإنه أدلّ على العموم فإنّ النكرة في معرض النفي تعم، أجيب : بأنّ هذا مثل كقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ولم يقل ولا يدركه بصر.
ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكاراً لم يقع لهم في غيره مثله زاد في تأكيده على وجه يعمّ غيره فقال تعالى :﴿ لقد رأى ﴾ أي : أبصر ما أهلناه له من الرسالة تلك الليلة إبصاراً سارياً إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر ﴿ من آيات ربه ﴾ أي : المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده ﴿ الكبرى ﴾ أي : العظام أي بعضها، واختلف في ذلك البعض فقيل جبريل عليه السلام رآه في صورته له ستمائة جناح. وقال الرازي : والظاهر أن هذه الآيات غير تلك لأنّ جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً لكنه ورد في الأخبار أنّ لله تعالى ملائكة أعظم منه، والكبرى تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال رأى من آيات ربه آيات هنّ أكبر الآيات وقيل رأى : رفرفاً أخضر سد الأفق وقيل : أراد ما رأى في تلك الليلة في مسيره وعوده ومن اجتماعه تلك الليلة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات.
ولما قرّر تعالى الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك بقوله تعالى :﴿ أفرأيتم اللات والعزى ﴾ إشارة إلى إبطال قولهم كما إذا ادّعى ضعيف الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون : انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره، فلذلك قال تعالى :﴿ أفرأيتم اللات والعزى ﴾ أي كما هما فكيف تشركونهما بالله سبحانه وتعالى، واللات صنم ثقيف والعزى شجرة لغسان وهما أعظم أصنامهم، اشتقوا لهما اسمين من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى وقيل : العزى تأنيث الأعز وعن ابن عباس كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
وعن مجاهد أن العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال إنّ خالداً رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد قلعتها فقال ما رأيت قال ما رأيت شيئاً فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما فعلت فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً.
وقال الضحاك : هي صنم لغطفان وضعها لهم سعيد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه لما قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بهما فعاد إلى نخلة وقال لقومه : إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا : فما تأمرنا به، قال : أنا أصنع لكم كذلك وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذه من الصفا وقال : هذا الصفا ووضع الذي أخذه من المروة، وقال هذه المروة : ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة فقال : هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فأمر برفع الحجارة وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها وقال ابن زيد : هي بيت بالطائف كان تعبده ثقيف.
وأما قوله تعالى ﴿ ومناة ﴾ فقال قتادة : هي صخرة كانت لخزاعة بقديد، وقالت عائشة في الأنصار كانوا يصلون لمناة فكانت حذو قديد. وقال ابن زيد بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وقال الضحاك : مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة وقيل اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
وقوله تعالى :﴿ الثالثة الأخرى ﴾ نعت لمناة إذ هي الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فقال أبو البقاء : توكيد لأنّ الثالثة لا تكون إلا أخرى، وقال الزمخشري : الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى :﴿ وقالت أخراهم ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] أي : وضعاؤهم ﴿ أولاهم ﴾ أي : لأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدّم عندهم للات والعزى ا. ه. قال ابن عادل : وفيه نظر لأنّ الأخرى إنما تدل على الغيرية وليس فيها تعرّض لمدح ولا ذم فإن جاء شيء فلقرينة خارجية ا. ه. ووجه الترتيب أنّ اللات كان وثناً على صورة آدمي، والعزى شجرة نبات، ومناة صخرة فهي جماد فهي في أخريات المراتب.
فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ﴾ وقد وردت في مواضع بغير فاء كقوله تعالى :﴿ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ﴾ [ الأحقاف : ٤ ] ﴿ أرأيتم شركاءكم ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] أجيب : بأنه تعالى لما قدم عظمته في ملكوته وأنّ رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدّته وقوّته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدّى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أفرايتم هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء الله تعالى مع ما تقدّم، فقال بالفاء أي عقب ما سمعتم من عظمة آيات الله الكبرى ونفاذ علمه في الملأ الأعلى وما تحت الثرى انظروا إلى اللات والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه.
تنبيه : مفعول أرأيت الأول اللات وما عطف عليه والثاني : محذوف والمعنى أخبروني ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدونها دون الله القادر على ما تقدّم ذكره.
وقرأ ابن كثير ﴿ مناة ﴾ بهمزة مفتوحة بعد الألف والباقون بغير همز.
ولما زعموا أيضاً أنّ الملائكة بنات الله مع كراهتهم للبنات نزل ﴿ ألكم ﴾ أي : خاصة ﴿ الذكر ﴾ أي : النوع الأعلى ﴿ وله ﴾ أي : وحده ﴿ الأنثى ﴾ أي : النوع الأسفل.
﴿ تلك ﴾ أي : هذه القسمة البعيدة عن الصواب ﴿ إذاً ﴾ أي : إذ جعلتم البنات له والبنين لكم ﴿ قسمة ضيزى ﴾ أي : جائرة ظالمة ناقصة فيها بخس للحق إلى الغاية عوجاء غير معتدلة، حيث خصصتم به ما أوصلتكم الكراهة له إلى دفنه حياً بل كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم العقل والنقل والعادة.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هي ﴾ أي : هذه الأصنام ﴿ إلا أسماء ﴾ أي : لا حقائق لها فيما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك غير الأسماء وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿ سميتموها ﴾ أي : ابتدعتم تسميتها.
فإن قيل : الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها أجيب : بأن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها ﴿ أنتم وآباؤكم ﴾ أي : لا غير ﴿ ما أنزل الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ بها ﴾ أي باستحقاقها للأسماء أو لما سميتموها به من الإلهية، وأغرق في النفي فقال :﴿ من سلطان ﴾ أي : حجة تصلح مسلطاً على ما يدعى فيها بل لمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط بكلمة تعتمدونها وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأيّ طريقة قويمة شرعت لكم، وأيّ كلام صالح أو بليغ برز إليكم منها وأيّ آية كبرى أرَتْكموها.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ يتبعون ﴾ أي : في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة وأنها تشفع لهم أو تقربهم إلى الله تعالى ﴿ إلا الظن ﴾ أي : وهو غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم والظن ترجيح أحد الجائزين على زعم الظان. ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال تعالى :﴿ وما تهوى الأنفس ﴾ أي : تشتهي وهي لما لها من النقص لا تشتهي أبداً إلا ما يهوى بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما يسوق إليها العقل.
قال القشيري : فأما الظن الجميل بالله تعالى فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل إنما الظن المعلول في الله تعالى وأحكامه وصفاته ا. ه. ولهذا كان كثير من الفقه ظنياً وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه «أنا عند ظن عبدي بي ».
﴿ ولقد جاءهم ﴾ أي : العجب أنهم يقولون ذلك والحال أنهم قد جاءهم ﴿ من ربهم ﴾ المحسن إليهم ﴿ الهدى ﴾ على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبرهان القاطع أنها ليست بآلهة، وأنّ العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار فلم يرجعوا عما هم عليه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بكسرهما والباقون بكسر الهاء وضم الميم.
﴿ أم للإنسان ﴾ أي : كل إنسان منهم ﴿ ما تمنى ﴾ أي : من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهة عيش، ومن أن الأصنام تشفع له ليس الأمر كذلك.
﴿ فللّه ﴾ أي : الملك الأعظم وحده ﴿ الآخرة ﴾ فهو لا يعطي ما فيها إلا لمن تبع هداه وترك هواه ﴿ والأولى ﴾ أي : الدنيا فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد ولكنه يعطي منها ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه سبحانه في شيء منها.
﴿ وكم من ملك ﴾ أي : كثير من الملائكة أي ممن يعبدهم هؤلاء الكفار، ودلّ على زيادة قوّتهم بشرف مسكنهم، وهو قوله تعالى :﴿ في السماوات ﴾ أي : وهم في الكرامة والزلفى ﴿ لا تغني شفاعتهم ﴾ أي : عن أحد من الناس ﴿ شيئاً ﴾ ثم قصر الأمر عليه ورده بحذافيره إليه بقوله تعالى :﴿ إلا من بعد أن يأذن ﴾ أي : يمكن ويريد ﴿ الله ﴾ أي الملك الذي لا أمر أصلاً لأحد معه ﴿ لمن يشاء ﴾ من عباده من الملائكة أو من الناس أن يشفع ﴿ ويرضى ﴾ أي : ويراه أهلاً لذلك فكيف تعبد الأصنام مع حقارتها لتشفع لهم.
﴿ إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي : لا يصدقون ولا يقرّون بالبعث وغيره من أحوال يوم القيامة ﴿ ليسمون الملائكة ﴾ أي : كل واحد منهم ﴿ تسمية الأنثى ﴾ بأن سموه بنتاً، وذلك أنهم كانوا يقولون : الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال : سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فسموهم تسمية الإناث.
فإن قيل : كيف يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب : بأنهم ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله تعالى عنهم :﴿ وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ] وبأنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل فإن قيل : كيف قال : تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث أجيب بأن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي.
﴿ وما ﴾ أي : والحال أنهم ما ﴿ لهم به ﴾ أي : بما يقولون، وقيل : الضمير يعود إلى ما تقدّم من عدم قبول الشفاعة وقيل : يعود إلى الله تعالى أي ما لهم بالله تعالى ﴿ من علم ﴾ ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله تعالى :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ يتبعون ﴾ أي بغاية ما يكون من شهوة النفس في ذلك وغيره ﴿ إلا الظن ﴾ أي الذي يتخيلونه ﴿ وإن ﴾ أي : والحال أن ﴿ الظن ﴾ أي : مطلقاً في هذا وفي غيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار ﴿ لا يغني ﴾ أي إغناء مبتدأ ﴿ من الحق ﴾ أي : الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله والظن إنما يعتبر في العمليات لا في العلميات ولاسيما الأصولية ﴿ شيئاً ﴾ أي : من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدّي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإنّ المقصود فيها تحقيق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإنّ المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه وهو ردّه إلى الأصول المستنبط منها، لعجز الإنسان عن القطع في جميع الفروع تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله تعالى ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوّته ليكشف له عن الحقائق.
ولما أن أصروا على الهوى بعد مجيء الهدى سبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فأعرض ﴾ أي : يا أشرف الرسل ﴿ عمن تولى ﴾ أي : كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة الأولى ﴿ عن ذكرنا ﴾ أي : القرآن الذي أنزلناه فلم يتله ولم يتدبر معانيه ﴿ ولم يرد ﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿ إلا الحياة الدنيا ﴾ أي الحاضرة لتقيده بالمحسوسات كالبهائم مع العمى عن دناءتها وحقارتها. قال الجلال المحلي : وهذا قبل الأمر بالجهاد.
قال الرازي : وأكثر المفسرين يقولون : بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى :﴿ فأعرض ﴾ منسوخ بآية القتال وهو باطل، لأنّ الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم. وقيل له : وجادلهم بالتي أحسن ثم لما لم ينفع قال له ربه : أعرض عنهم ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق، وقاتلهم والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها ؟
﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر المتناهي في الجهل والقباحة ﴿ مبلغهم ﴾ أي : نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم وتهكم بهم بقوله تعالى :﴿ من العلم ﴾ أي غايتهم من العلم أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراض مقرر لقصور همتهم على الدنيا وقوله تعالى :﴿ إنّ ربك ﴾ أي : المحسن إليك بالرسالة ﴿ هو أعلم ﴾ أي : عالم ﴿ بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ أي : ظاهراً وباطناً، تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كالطبيب للقلوب فأتى على ترتيب الأطباء في أنّ المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القويّ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي كما قيل : آخر الدواء الكي فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً أمر القلوب بذكر الله تعالى فقط، فإن بذكر الله تطمئن القلوب، كما أنّ بالغذاء تطمئن النفوس والذكر غذاء القلوب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أولاً :«قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر فانتفع مثل أبي بكر، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال ﴿ قل انظروا ﴾ [ الأعراف : ١٨٤ ] ﴿ قل انظروا ﴾ [ يونس : ١٠١ ] ﴿ أفلا ينظرون ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] إلى غير ذلك، فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
فإن قيل : إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى ؟ أجيب : بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب.
﴿ ولله ﴾ أي : الملك الأعظم وحده ﴿ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السماوات والأرض معترض بين الآية الأولى وبين قوله تعالى ﴿ ليجزي الذين أساؤوا ﴾ أي : بالضلال ﴿ بما عملوا ﴾ أي : بسببه أو بجنسه إما بواسطتك بسيوفك وبسيوف أتباعك إذ أذنت لكم في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة.
تنبيه : اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى :﴿ بمن ضل ﴾ و﴿ بمن اهتدى ﴾، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى :﴿ أعلم بمن ضلّ ﴾ أي : حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء ﴿ ويجزي ﴾ أي : ويثيب ويكرم ﴿ الذين أحسنوا ﴾ أي : على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم ﴿ بالحسنى ﴾ أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
وبين المحسنين بقوله تعالى :﴿ الذين يجتنبون ﴾ أي : يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا ﴿ كبائر الإثم ﴾ أي : ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة والباقون بفتح الموحدة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مكسورة وعطف على كبائر قوله تعالى :﴿ والفواحش ﴾ والفاحشة من الكبائر ما كرهه الطبع وأنكره العقل واستخبثه الشرع والكبيرة صفة عائدة إلى الكيفية.
وقوله تعالى :﴿ إلا اللمم ﴾ فيه أوجه : أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها : أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] أي كبائر الإثم والفواحش غير اللمم. ثالثها : أنه متصل وهذا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر قالوا : إنّ اللمم من الكبائر والفواحش قالوا : إن معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرّة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم وروى : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«أن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » ولمسلم «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه النطق واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ».
تنبيه : ذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة، وقد اختلف في ضبط الكبيرة بالحد فقال جمع : هي ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جمع : هي المعصية الموجبة للحد والأوّل أوجه لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها وقال إمام الحرمين : هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وأما تعريفها بالعد فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير هي إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا المحدود من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين.
فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن واليأس من رحمة الله تعالى، وأمن مكر الله تعالى، وقتل النفس عمداً أو شبه عمد، والفرار من الزحف وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا واللواط وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً، وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والسحر والنميمة، وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا فصغيرة.
ومن الصغائر النظر المحرم وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على سوآت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، والإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع يصيرها كبيرة إلا أن تغلب طاعاته معاصيه كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج وغيره.
﴿ إنّ ربك ﴾ أي : المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك ﴿ واسع المغفرة ﴾ يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة وله أن يفغر ما شاء من الذنوب ما عدا الشرك صغيرها وكبيرها كما قال تعالى :﴿ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ [ النساء : ٤٨ ] بخلاف غيره من الملوك فإنه لا يغفر لمن تكرّرت ذنوبه إليهم وإن صغرت قال البيضاويّ : ولعله عقب به وعيد المسيئين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى ا. ه. ونزل فيمن كان يقول صلاتنا صيامنا حجنا ﴿ هو أعلم بكم ﴾ أي : بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ أنشأكم من الأرض ﴾ أي : التي طبعها طبع الموت البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها، وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم وأنتم تراب قابلية للحياة بقوة قريبة ولا بعيدة أصلاً فميز التراب الذي يصلح لتكوينكم منه والذي لا يصلح ﴿ وإذ ﴾ أي : وحين ﴿ أنتم أجنة ﴾ أي : مستورون ﴿ في بطون أمهاتكم ﴾ فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشرّ وإن عملتم مدة من العمر بخلافه، لأنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك.
وقرأ حمزة والكسائيّ في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها، وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون، وأما في الابتداء بالهمزة فالجميع بضمها.
﴿ فلا تزكوا ﴾ أي : تمدحوا بالزكاة وهي البركة والطهارة عن الدناءة ﴿ أنفسكم ﴾ أي : حقيقة بأن يثني الإنسان على نفسه فإنّ تزكيته لنفسه قال القشيري : من علامات كونه محجوباً عن الله تعالى أي : من مدح نفسه على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، أو مجازاً بأن يثنى على غيره من إخوانه وأنه كثيراً ما يثنى بشيء فيظهر خلافه وربما حصل له الأذى بسببه «وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع » الحديث.
ولذلك علل بقوله تعالى :﴿ هو أعلم ﴾ أي : منكم ومن جميع الخلق ﴿ بمن اتقى ﴾ أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام فمن جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتاً.
ولما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحد منهم بسوء فعله فقال تعالى :﴿ أفرأيت الذي تولى ﴾ أي : عن اتباع الحق والثبات عليه. قال مجاهد وأبو زيد ومقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال : إني خشيت عذاب الله تعالى فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله تعالى ﴿ أفرأيت الذي تولى ﴾ أي أدبر عن الإيمان.
﴿ وأعطى قليلا ﴾ أي : من المال المسمى ﴿ وأكدى ﴾ أي : منع الباقي، مأخوذ من الكدية أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر إذا وصل إليها من الحفر، فأكدى أصله من أكدى الحافر إذا حفر شيئاً فصادف كدية منعته من الحفر ومثله : أجبل إذا صادف جبلاً منعه من الحفر وكديت أصابعه كَلَّت من الحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتممه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخره قال الحطيئة :
وأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه ومن يفعل المعروف في الناس يحمد
وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل السهمي وذلك أنه ربما يوافق النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله تعالى :﴿ وأعطى قليلاً وأكدى ﴾ أي لم يؤمن به ومعنى أكدى قطع، وروي أنّ عثمان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة : يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان : إنّ لي ذنوباً وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت.
وقوله تعالى :﴿ أعنده علم الغيب ﴾ أي : ما غاب هو المفعول الثاني لرأيت بمعنى أخبرني، والمفعول الأوّل محذوف اقتصاراً لأعطى ﴿ فهو ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنه ﴿ يرى ﴾ أي : يعلم أنّ صاحبه يتحمل عنه ذنوبه.
﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ لم ينبأ ﴾ أي : يخبر أخباراً عظيماً متتابعاً ﴿ بما في صحف موسى ﴾ أي : التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه، وكذا ما تبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها.
وقدم صحف موسى عليه السلام على قوله :﴿ وإبراهيم ﴾ أي : وصحفه لأنّ كتاب موسى عليه السلام أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس تمكن مراجعته، ثم مدح إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى :﴿ الذي وفى ﴾ أي : أتم ما أمر به من ذلك تبليغ الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة وقيامه بأضيافه وخدمتهم إياه بنفسه، وإنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وعن الحسن : ما أمر الله تعالى بشيء إلا وفى به وصبر على ما امتحن به، وما قلق شيئاً من قلق وصبر على حر ذبح الولد وعلى حر النار ولم يستعن بمخلوق بل قال لجبريل عليه السلام لما قال له : ألك حاجة قال : أما إليك فلا وقال الضحاك : وفي المناسك، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «إبراهيم الذي وفى أربع ركعات من أول النهار » وهي صلاة الضحى وروي «ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى كان يقول : إذا أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى تظهرون » وقيل : وفى سهام الإسلام وهي ثلاثون عشرة في التوبة ﴿ التائبون. . . ﴾ [ التوبة : ١١٢ ]، وعشرة في الأحزاب ﴿ إنّ المسلمين. . . ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ]، وعشرة في المؤمنون، ﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾ [ المؤمنون : ١ ] وخص هذين النبيين لأنّ الموعودين من بني إسرائيل اليهود والنصارى يدعون متابعة موسى عليه السلام، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوّة محققة ولا شريعة محفوظة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها.
ثم فسر تعالى الذي في الصحف واستأنف بقوله تعالى :﴿ ألا تزر ﴾ أي : تأثم وتحمل ﴿ وازرة ﴾ أي : نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة لوزر ﴿ وزر أخرى ﴾ أي : حملها الثقيل من الإثم، وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، وكان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وامرأته والعبد بسيده، حتى جاءهم إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل ﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾.
ولما نفى أن يضرّه أثم غيره نفي أن ينفعه سعي غيره بقوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان ﴾ كائناً من كان ﴿ إلا ما سعى ﴾ فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى فيه ودعاء المؤمنين للمؤمن من سعيه بموادته ولو بموافقته لهم في الدين فقط، وكذا الحج عنه والصدقة ونحوها، وأما الولد فواضح في ذلك، وأما ما كان بسبب العلم والصدقة ونحوها فكذلك، وتضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أمته أصل كبير في ذلك فإنّ من تبعه فقد واده وهو أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها إليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة أي : وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام بقوله :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ [ الطور : ٢١ ] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقال عكرمة إنّ ذلك لقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما يروى أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج فقال نعم ولك أجر «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ أمي انسلت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم ».
قال الشيخ تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة : أحدها : أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار وهذا انتفاع بعمل الغير. ثالثها : أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير. رابعها : أنّ الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها : أنّ الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها : أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين ﴿ وكان أبوهما صالحاً ﴾ [ الكهف : ٨٢ ] فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما. ثامنها : أنّ الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير. تاسعها : أنّ الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعلم الغير. عاشرها : أنّ الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها : أن المدين الذي امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير. ثاني عشرها : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده «ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلى معه » فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها : أنّ الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها : أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها : أنّ الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها : أنّ جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها : الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحيّ عليه وهو عمل غيره. ثامن عشرها : أنّ الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها : أنّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] وقال تعالى :﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها : أنّ صدقة الفطر تجب عن الصغير وغيره ممن يمونه الرجل فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي لهما. حادي عشريها : أنّ الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ومن تأمّل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأوّل الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
والمراد بالإنسان العموم وقال الربيع بن أنس : ليس للإنسان يعني الكافر : وأما المؤمن فله ما سعي وما سعى له وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وروي «أنّ عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها ».
﴿ وأن سعيه ﴾ أي : من خير وشر ﴿ سوف يرى ﴾ أي : في ميزانه من غير شك يوم القيامة بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى، من : أريته الشيء، أي : يعرض عليه ويكشف له.
فإن قيل : العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه ؟ أجيب : بأنه يرى على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً قال الرازي وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كل موجود يرى والله تعالى قادر على إعادة كل ما عدم فيعيد الفعل فيرى، وفيه بشارة للموحد وذلك أنّ الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً.
﴿ ثم يجزاه ﴾ أي : السعي ﴿ الجزاء الأوفى ﴾ أي : الأتمّ الأكمل والمعنى : أنّ الإنسان يجزى جزاء سعيه بالجزاء الأوفى يقال : جزيت فلاناً سعيه وبسعيه. قال الرازي : الجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين، لأنّ جزاء الطالح وافر قال تعالى :﴿ منهم فإنّ جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً ﴾ [ الإسراء : ٦٣ ] وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام فهي في نفسها أوفر.
﴿ وأنّ إلى ربك ﴾ أي : المحسن إليك لا إلى غيره ﴿ المنتهى ﴾ أي : الانتهاء برجوع الخلائق ومصيرهم إليه فيجازيهم بأعمالهم وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال، وروى أبو هريرة مرفوعاً «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنّ الله تعالى لا يحيط به الفكر » وفي رواية «لا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره ».
قال القرطبي : ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله تعالى » ولقد أحسن من قال :
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مخلوقاته فاعتبر بها وقل مثل ما قال الخليل المبجل
وقيل : المراد من الآية التوحيد وفي المخاطب وجهان : أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل والثاني : أنه خطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأول يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسلية لقلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تكون اللام في المنتهى للعهد المعهود في القران وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كل منتهى.
وقوله تعالى :﴿ وأنه هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ أضحك وأبكى ﴾ يدل على أنّ كل ما يعمله الإنسان فبقضاء الله تعالى وخلقه حتى الضحك والبكاء.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على قوم من أصحابه وهم يضحكون فقال صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنّ الله يقول لك :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ أي : قضى أسبابهما فرجع إليهم صلى الله عليه وسلم فقال ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : ائت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول :﴿ هو أضحك وأبكى ﴾ أي قضى أسباب الضحك والبكاء وقال بسام بن عبد الله أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد يقول :
السنّ تضحك والأحشاء تحترق وإنما ضحكها زور ومختلق
يا رب باك بعين لا دموع لها ورب ضاحك سنّ ما به رمق
وقال مجاهد والكلبي أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن لأنّ الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء وقيل : إنّ الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من سائر الحيوان وقيل : القرد وحده يضحك ولا يبكي وإنّ الإبل وحدها تبكي ولا تضحك وقال يونس بن الحسين : سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة ؟ فقال : ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم وعن عائشة قالت :«لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إن الميت يعذب ببكاء أحد ولكنه قال إنّ الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً وإنّ الله تعالى هو أضحك وأبكى ».
تنبيه : قوله تعالى :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ وما بعده يسميه البيانيون الطباق المتضادّ وهو نوع من البديع، وهو : أن يذكر ضدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه، وأضحك وأبكى لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما سيقا لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فلان بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع، ولا يريد ممنوعاً ومعطى واختار هذين الموضعين المذكورين لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبائعيين يبين لاختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً ولا سبباً، وإذا لم يعلل بأمر فلا بدّ له من موجد وهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون : سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ومما يدل على ذلك أنهم إذا عللوا الضحك قالوا : لقوّة التعجب وهو باطل، لأنّ الإنسان ربما بهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل : لقوّة الفرح وليس كذلك لأنّ الإنسان قد يبكي لقوّة الفرح كما قال بعضهم :
هجم السرور عليّ حتى أنه من عظم ما قد سرني أبكاني
﴿ وأنه هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ أمات وأحيا ﴾ وإن رأيتم أسباباً ظاهرة فإنها لا عبرة بها في نفس الأمر بل هو الذي خلقها أي أمات في الدنيا وأحيا في البعث وقال القرطبي : قضى أسباب الموت والحياة وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل : أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان.
﴿ وأنه خلق الزوجين ﴾ ثم فسرهما بقوله تعالى :﴿ الذكر والأنثى ﴾ فإنه لو كان ذلك في يد غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لغالب الناس.
وقوله تعالى :﴿ من نطفة إذا تمنى ﴾ أي : تصب يشمل سائر الحيوانات لا أن ذلك مختص بآدم وحوّاء عليهما السلام، لأنهما ما خلقا من نطفة، وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة لأنّ النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] وقال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ].
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ وأنه خلق ﴾ ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليه السلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وأنه هو أغنى وأقنى ﴾ [ النجم : ٤٨ ] حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ [ القصص : ٧٨ ] ولذلك قال :﴿ هو رب الشعرى ﴾ [ النجم : ٤٩ ] فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
﴿ وأن عليه ﴾ أي : خاصاً به علماً وقدرة ﴿ النشأة ﴾ أي الحياة ﴿ الأخرى ﴾ للبعث يوم القيامة بعد الحياة الأولى فإن قيل : الإعادة لا تجب على الله تعالى فما معنى عليه ؟ أجيب : بأنه عليه بحكم الوعد فإنه قال :﴿ إنا نحن نحيي الموتى ﴾ [ يس : ١٢ ] فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة والباقون بسكون الشين وبعدها الهمزة المفتوحة وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين.
﴿ وأنه هو ﴾ أي : وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره ﴿ أغنى ﴾ قال أبو صالح : أغنى الناس بالأموال ﴿ وأقنى ﴾ أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم وقال الحسن وقتادة : أخدم، وقال ابن عباس : أغنى وأقنى أعطى فأرضى وقال مجاهد ومقاتل : أقنى أرضى بما أعطى وقنع قال الراغب : وتحقيقه أنه جعل له قنية من الرضا وقال سليمان التيمي : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه وقال ابن زيد : أغنى أكثر وأقنى أقل وقرأ ﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ [ الرعد : ٢٦ ] وقال الأخفش : أقنى أفقر وقال ابن كيسان : أولد وقال الزمخشري : أقنى أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت على أن لا يخرج من يدك.
تنبيه : حذف مفعولا أغنى وأقنى لأنّ المراد نسبة هذين الفعلين إليه، وكذلك باقيها وألف أقنى منقلبه عن ياء لأنه من القنية قال الشاعر :
ألا إنّ بعد العدم للمرء قنية ***
ويقال : قنيت كذا وأقنيته قال الشاعر :
قنيت حياتي عفة وتكرّما ***
﴿ وأنه هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ رب الشعرى ﴾ أي : رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى، وأوّل من سنّ ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال : لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وأبو كبشة أحد أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل أمّهاته وبذلك كان مشركو قريش يسمون النبيّ صلى الله عليه وسلم بابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحدث ديناً غير دينهم.
والشعرى في لسان العرب كوكبان : تسمى أحدهما الشعرى العبور وهي المرادة في الآية الكريمة وهي تطلع بعد الجوزاء في شدّة الحرّ ويقال لها : مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار أيضاً، وتسمى الشعرى اليمانية. والثانية : الشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع والمجرة بينهما، وتسمى الشامية وسبب تسميتها بالغميضاء على ما زعمه العرب أنهما كانا أختين أو زوجتين لسهيل فانحدر سهيل إلى اليمن فأتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء تبكي حتى غمصت عينها ولذلك كانت أخفى من العبور وكان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم.
﴿ وأنه أهلك عاداً الأولى ﴾ وهم قوم هود عليه السلام هلكوا بريح صرصر، والأخرى قوم صالح وقيل : الأخرى إرم وقيل : الأولى أول الخلق هلاكاً بعد قوم نوح، وقرأ نافع وأبو عمرو بتشديد اللام بعد الدال المفتوحة نقلاً وهمز قالون الواو بعد اللام همزة ساكنة والباقون بتنوين الدال وكسر التنوين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة، فإذا قرأ القارئ عاد الأولى لقالون وأبي عمرو فله في الوصل أي وصل عاد بالأولى وجه واحد وهو النقل المذكور، وقالون على أصله بالهمزة كما ذكر، فإذا وقف على عاداً وابتدأ بالأولى فله الابتداء بهمزة الوصل وهو الأولى، وله أيضاً الابتداء بغير همز الوصل وهو لولى، وقالون يهمز الواو في الوجهين الأوّلين ولم يهمز في الوجه الثالث الذي هو الأصل، ووافقهما ورش في الأوجه المذكورة في الوصل والابتداء لا في الوجه الثالث الذي هو الأصل فإنه ليس من مذهبه إلا النقل.
﴿ وثموداً ﴾ وهم قوم صالح أهلكهم الله تعالى بصحية ﴿ فما أبقى ﴾ منهم أحداً، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدّال في الوصل وسكون الدال في الوقف والباقون بالتنوين في الوصل والوقف على الألف.
﴿ وقوم نوح ﴾ أي : أهلكهم لأجل ظلمهم بالتكذيب ﴿ من قبل ﴾ أي : قبل الفريقين ﴿ إنهم ﴾ أي : قوم نوح ﴿ كانوا ﴾ أي : بما لهم من الأخلاق التي هي كالجبلات التي لا انفكاك عنها ﴿ هم ﴾ أي : خاصة ﴿ أظلم ﴾ أي : من الطائفتين المذكورتين ﴿ وأطغى ﴾ أي : وأشدّ تجاوزاً في الظلم وعلوّاً وإسرافاً في المعاصي وتجبراً وعتوّاً لتمادي دعوة نوح عليه السلام قريباً من ألف سنة، ولأنهم أطول أعماراً وأشدّ أبداناً وكانوا مع ذلك ملء الأرض، روي أنّ الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه فينطلق به إلى نوح عليه السلام فيقول : احذر هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولهذا قال نوح عليه السلام :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ٢٦ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ٢٧ ].
وقوله تعالى :﴿ والمؤتفكة ﴾ منصوب بقوله تعالى :﴿ أهوى ﴾ وقدّم لأجل الفواصل، والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط رفعها إلى عنان السماء على جناح جبريل عليه السلام، ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها وأتبعها بحجارة النار الكبريتية، وهو قوله تعالى :﴿ فغشاها ما غشى ﴾.
﴿ فغشاها ﴾ أي : أتبعها ما غطاها فكان لها بمنزلة الغشاء وهوّله بقوله تعالى :﴿ ما غشى ﴾ أي : أمراً عظيماً من الحجارة المنضودة المسمومة وغيرها مما لا تسع العقول وصفه.
﴿ فبأيّ آلاء ﴾ أي : أنعم ﴿ ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ تتمارى ﴾ أي : تشك أيها الإنسان وقيل : أراد الوليد بن المغيرة وقال ابن عباس : تتمارى أي تكذب وقيل : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي تشك في إجالة الخواطر في فكرك في إرادة هداية جميع قومك بحيث لا تريد أن أحداً منهم يهلك، وقد حكم ربك بإهلاك كثير منهم لما اقتضته حكمته فكان بعض خواطرك في تلك الإجالة يشكك ببعضها بعضاً.
﴿ هذا ﴾ أي : النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ نذير ﴾ أي : محذر بليغ التحذير ﴿ من النذر الأولى ﴾ أي : من جنسهم أي رسول كالرسل قبله أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، وقال تعالى ﴿ الأولى ﴾ على تأويل الجماعة، أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم.
﴿ أزفت الأزفة ﴾ أي : قربت الموصوفة بالقرب في قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] وهو يوم القيامة.
﴿ ليس لها من دون الله ﴾ أي : من أدنى رتبة من رتبة الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وقوله تعالى :﴿ كاشفة ﴾ يجوز أن يكون وصفاً وأن يكون مصدراً، فإن كان وصفا احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه وصف لمؤنث محذوف تقديره نفس كاشفة، أو حال كاشفة أي مبينة متى تقوم كقول تعالى :﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] أو ليس لها نفس كاشفة أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه تعالى لا يكشفها، أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير وإن كان مصدراً فهي بمعنى الكشف كالعافية والمعنى ليس لها من دون الله كشف أي لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره.
﴿ أفمن هذا الحديث ﴾ قال : أكثر المفسرين المراد بالحديث القرآن العظيم الذي يأتي على سبيل التجدد بحسب الوقائع والحاجات ﴿ تعجبون ﴾ إنكاراً وهو في غاية ما يكون من ترقيق القلوب، وقرأ أبو عمرو بإدغام المثلثة في التاء المثناة بخلاف عنه.
﴿ وتضحكون ﴾ أي : استهزاء من هذا الحديث وتجدّدون ذلك في كل وقت ﴿ ولا تبكون ﴾ أي كما هو حق من يسمعه لما فيه من الوعد والوعيد وغير ذلك وقال الرازي يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى حديث أزفت الآزفة، فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد والعظام البالية.
وقوله تعالى :﴿ وأنتم سامدون ﴾ جملة مستأنفة أخبر الله تعالى عنهم بذلك ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين، واختلف في معنى السمود فقيل : هو الإعراض والغفلة عن الشيء أي : وأنتم معرضون غافلون عما يطلب منكم وقيل : هو اللهو يقال : دع عنا سمودك، أي : لهوك قاله الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال الشاعر :
ألا أيها الإنسان إنك سامد كأنك لا تفنى ولا أنت هالك
فهذا بمعنى لاه لاعب وقيل هو الجمود وقيل هو الاستكبار قال الشاعر :
رمى الحدثان نسوة آل سعد بمقدار سمدن له سمودا
فردّ شعورهنّ السود بيضا ورد وجوههنّ البيض سودا
فهذا بمعنى الجمود والخشوع وقال عكرمة وأبو عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية اسمدي لنا أي : غني، فكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وقال مجاهد أشِرون وقال الضحاك : غضاب يتبرطمون. وقال الراغب : السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم بعير سامد في سيره وقال الحسن : السامد الواقف للصلاة قبل وقوف الإمام لما روي : أنه صلى الله عليه وسلم خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال :«مالي أراكم سامدين » وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد.
وقوله تعالى :﴿ فاسجدوا ﴾ أي : اخضعوا خضوعاً كثيراً بالسجود ﴿ لله ﴾ أي الملك الأعظم يحتمل أن يكون المراد به سجود التلاوة وأن يكون المراد به سجود الصلاة ﴿ واعبدوا ﴾ أي : اشتغلوا بكل أنواع العبادة ولم يقل واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله تعالى :﴿ فاسجدوا لله ﴾ وإما لأنّ العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله ويقوّى الاحتمال الأوّل ما روى عكرمة عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس » وعن عبد الله ابن مسعود قال أوّل سورة أنزلت فيها سجدة النجم قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلاً شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا، قال عبد الله : فلقد رأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أمية بن خلف كما في بعض الروايات. وروى زيد بن ثابت قال : قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ والنجم ﴾ فلم يسجد فيها وهذا يدلّ على أنّ سجود التلاوة غير واجب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ الله تعالى لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، أي : فهي مستحبة وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع جميعاً وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وذهب قوم إلى أنها في المفصل غير مستحبة.
Icon