تفسير سورة النجم

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة النجم من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية وفيها من الآيات اثنا وستون آية. وهي حافلة بألوان التذكير والتحذير مما يريع ويثير.
والسورة بآياتها القصيرة، وكلماتها المؤثرة العذاب، وإيقاعها الشجي النفاذ، كل ذلك يحيط النفس والخيال والذهن بظلال من الترويع والذكرى. على أن السورة مبدوءة بالقسم من الله - جل جلاله - بجزء من خلقه على صدق رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم وحقيقة نبوته الميمونة، وأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأتيه الوحي من السماء بالآيات والأخبار من ربه.
وفي السورة تنديد بعبادة الأصنام كاللات والعزى ومناة. وتلك أصنام مصطنعة بلهاء عكف المشركون على عبادتها سفها وضلالا إلى غير ذلك من المعاني والعبر مما فيه موعظة وذكرى للمعتبرين.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والنجم إذا هوى ١ ما ضل صاحبكم وما غوى ٢ وما ينطق عن الهوى ٣ إن هو إلا وحي يوحى ٤ علّمه شديد القوى ٥ ذو مرة فاستوى ٦ وهو بالأفق الأعلى ٧ ثم دنا فتدلى ٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى ١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ١١ أفتمارونه على ما يرى ١٢ ولقد رآه نزلة أخرى ١٣ عند سدرة المنتهى ١٤ عندها جنة المأوى ١٥ إذ يغشى السدرة ما يغشى ١٦ ما زاغ البصر وما طغى ١٧ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ﴾.
أقسم الله بجزء من خلقه وهو النجم إذا هوى أي إذا سقط إلى أسفل. والمراد بالنجم ههنا الثريا إذا سقطت مع الفجر. والثريا من حيث العدد جملة نجوم. وقيل : المراد نجوم السماء جميعا حين تغرب، فقد أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وقيل غير ذلك.
وقد روي في هذا الصدد عن عروة بن الزبير ( رضي الله عنه ) أن عتبة بن أبي لهب وكان زوجا لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد الخروج إلى الشام فقال : لآتينّ محمدا فلأوذينّه. فأتاه فقال : يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه ابنته وطلقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " وكان أبو طالب حاضرا فوجم١ لها وقال : ما كان أغناك با ابن أخي عن هذه الدعوة. فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره. ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ( تكثر فيها السباع ). فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة. فإني أخاف على ابني من دعوة محمد. فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة فجاء الأسد يتشمّم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله.
١ وجم، من الوجوم وهو الحزن والغيظ. والواجم، العابس المطرق لشدة الحزن. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٨٦..
قوله :﴿ ما ضل صاحبكم وما غوى ﴾ وهذا جواب القسم. وضل، من الضلال وهو ضد الرشاد١ وغوى، من الغي، وهو الانهماك في الجهل وهو خلاف الرشد. والإسم الغواية٢ والمعنى : ما حاد محمد عن سبيل الحق وما مال عن الصواب وهو طريق الله المستقيم ﴿ وما غوى ﴾ يعني ما صار غاويا وما تلبس بضلال أو غواية ولكنه رشيد سديد، فما ضل عن الحق ولا تكلم بالباطل.
١ مختار الصحاح ص ٣٨٢..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ١١١..
قوله :﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ يعني ما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه.
قوله :﴿ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ أي ما هذا القرآن إلا وحي يوحى إليه من ربه. فالله جل وعلا يوحي بالقرآن إلى جبريل ثم يوحى جبريل به إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول للناس إلا ما أمره الله به فيقوله لهم كاملا دون نقص أو زيادة.
ويستفاد من الآية أن السنة من جملة الوحي الذي أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فهي وحي من الوحي، وذلك من حيث المضمون والمعنى. أما النظم والمبنى فهو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف أنواعها يجب العمل بها والتزام أحكامها كالقرآن. ومما يؤيد هذه الحقيقة ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه. فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق ".
قوله :﴿ علمه شديد القوى ﴾ المراد بشديد القوى جبريل ( عليه السلام ) فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. وقد وصفه ربه بأنه ﴿ ذو مرة فاستوى ﴾.
قوله :﴿ ذو مرة فاستوى ﴾ ذو مرة أي ذو قوة. وقيل : ذو منظر حسن. والأول أولى بالصواب، لما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ " ﴿ فاستوى ﴾ أي ارتفع واعتدل.
قوله :﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾ أي جبريل فقد ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن. وقيل ﴿ فاستوى ﴾ أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض. ومرة في السماء. فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأرض إلى المغرب. فخرّ النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره وجعل يمسح الغبار عن وجهه. فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة ".
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى. ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه مسلم.
قوله :﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾ أي استوى جبريل بالأفق الأعلى وهو مطلع الشمس على صورته الحقيقة المريعة. فقد كان جبريل يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة في صورة إنسان. فأحب النبي أن يراه على صورته الحقيقية فاستوى جبريل في الأفق الأعلى فملأ مطلع الشمس أو سده.
قوله :﴿ ثم دنا فتدلى ﴾ أي دنا جبريل من الأرض بعد استوائه بالأفق الأعلى " فتدلى " أي نزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض بالوحي.
قوله :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ أي فكان جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم لما هبط عليه إلى الأرض على قدر قوسين عربيتين، أو أقرب من ذلك.
قوله :﴿ فأوحى إلى عبده ما أوحى ﴾ أي فأوحى جبريل إلى عبد الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إلى جبريل. أي أوحى الله إلى جبريل فأوحى به جبريل إلى محمد. والوحي في اللغة معناه الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفي. وأوحى إليه أي بعثه وألهمه ١ والمراد بالوحي إلقاء الشيء بسرعة كالإشارة.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٤٠١..
قوله :﴿ ما كذب الفؤاد ما أرى ﴾ كذب، بالتخفيف. وما، في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر. وتقديره : ما كذب الفؤاد فيما رأى. وما موصولية بمعنى الذي. أومصدرية ١ والمعنى : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رآه ليلة المعراج ولكنه صدّقه فقد رأى ربه بقلبه ولم يره بعينه. وهو قول أكثر المفسرين ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنّى أراه ؟ " يعني غلبني نوره الساطع وبهرني منه ما منعني من رؤيته. وفي رواية " رأيت نورا ".
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٩٧..
قوله :﴿ أفتمارونه على ما يرى ﴾ أفتمارونه يعني أفتجادلونه. والاستفهام للإنكار والتوبيخ. وذلك أن المشركين كانوا قد جحدوا المعراج وكذبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسري به وأنه قد رأى ما رآه ليلة الإسراء. فخاصموه في ذلك معاندين مكذبين. فقال الله لهم موبخا إياهم : أفتجادلون محمدا على ما أراه الله من الآيات ؟ !
قوله :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ نزلة، منصوب على المصدر في موضع الحال. والتقدير : رآه نازلا نزلة أخرى١. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية التي خلق عليها مرة أخرى وذلك في ليلة الإسراء.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٩٨..
قوله :﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ السدرة، شجرة النبق وهي في السماء السابعة. وقيل لها سدرة المنتهى، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم مقرب، أو نبي مرسل. وقيل : لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء وقيل : ينتهي إليها أرواح المؤمنين وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ عندها جنة المأوى ﴾ وهي منازل الشهداء عن يمين العرش. وقيل : هي التي تأوي إليها أرواح المؤمنين.
قوله :﴿ إذ يغشى السدرة ما يغشى ﴾ أي غشيها نور رب العالمين فاستنارت. وقيل : غشيها نور الله، وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجرة.
قوله :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ يعني ما مال البصر يمينا ولا شمالا ﴿ وما طغى ﴾ أي ولا جاوز الحد الذي أمر به. وهو قول ابن عباس.
قوله :﴿ لقد رأى من آيات ربه الكبرى ﴾ أي رأى جبريل في صورته الحقيقية وقد سد بجانحيه الأفق. وقيل : المراد بآيات الله الكبرى ما رآه في تلك الليلة في ذهابه وفي إيابه من عجائب الخلائق في ملكوت الله١.
١ تفسير القرطبي جـ ١٧ ص ٨٥-٩٧ والكشاف جـ ٤ ص ٢٨ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٢٩٥ وتفسير الطبري جـ ٢٧ ص ٣١-٣٥ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٤٨-٢٥٢..
قوله تعالى :﴿ أفرأيتم اللات والعزّى ١٩ ومناة الثالثة الأخرى ٢٠ ألكم الذكر وله الأنثى ٢١ تلك إذا قسمة ضيزى ٢٢ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى النفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ٢٣ أم للإنسان ما تمنى ٢٤ فلله الآخرة والأولى ٢٥ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ﴾.
يندد الله أشد تنديد بالمشركين السفهاء الذين رسخوا في الضلالة وأوغلوا في التقليد والتعصب والجهالة إيغالا، إذ اتخذوا الأصنام والأوثان والأنداد آلهة مع الله، وقد اتخذوا لها البيوت وأقاموا لها المقامات يضاهون بها الكعبة. فقال سبحانه موبخا مقرعا تقريعا :﴿ أفرأيتم اللات والعزى ﴾ والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع. أما اللات فهي صخرة بيضاء وعليها بيت له أستار وسدنة وقد كان يتوجه إليها أهل الطائف وهم ثقيف بالعبادة والتقديس. وقيل : إن اسم اللات مشتق من اسم الله. وقيل : إن رجلا كان في الجاهلية يلتّ السويق للحجيج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وأما العزى، فهي من العزيز، وكانت شجرة عليها بناء وأستار- بنخلة- وهي ما بين مكة والطائف. وكانت قريش يعظمونها فقد قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم ".
قوله :﴿ ومناة الثالثة الأخرى ﴾ وأما مناة، فكانت بالمشلّل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها سبحانه في كتابه الحكيم، وإنما أفرد هذه الثلاثة بالذكر، لأنها أشهر من غيرها. وأما اللات، فقد كانت لثقيف بالطائف وقد بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها وجعلا مكانها مسجدا بالطائف.
وأما العزى، فقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فهدمها، وجعل يقول :
يا عزّ كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك
وأما مناة، فقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان صخر بن حرب، فهدمها. ويقال علي بن أبي طالب.
على أن الكلام فيه محذوف دل عليه سياق الآية. والتقدير هو : أفرأيتم هذه الآلهة المفتراة التي اصطنعتموها وعبدتموها هل تملك نفعا أو ضرا فتتخذوها آلهة من دون الله.
قوله :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. فهو يرد بذلك عليهم افتراءهم، إذ قالوا : الملائكة بنات الله، فقال الله لهم موبخا مقرعا : أتجعلون لله الولد وتجعلون ولده أنثى وتستأثرون بالذكور لأنفسكم وأنتم تأنفون من البنات وتزدرونهن ازدارء ؟ أفتجعلون لله ما تزدرون وتكرهون، ولأنفسكم ما تحبون ؟
﴿ تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ أي هذه القسمة جور وباطل. نقول ضاز في الحكم أي جار. وضازه حقه أي نقصه وبخسه. وضيزى، يعني جائرة١.
قوله :﴿ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ﴾ يقول الله منددا مستنكرا ما ابتدعه المشركون من الافتراء والشرك وتسميتهم الأصنام بأسماء مكذوبة : ما هذه الأسماء التي سميتموها وهي اللات والعزى ومناة إلا أسماء مفتراة سميتموها بأسمائها المصطنعة أنتم وآباؤكم من قبلكم ﴿ ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ يعني لم يأذن الله لكم بذلك ولا أنزل لكم بذلك حجة أو برهانا.
قوله :﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ يعني ما يتبع هؤلاء المشركون السفهاء وآباؤهم الضالون في اختلاف هذه الأسماء لآلهتهم إلا التخمين والوهم وما تميل إليه أنفسهم الجانحة من ضلال وباطل. قوله :﴿ ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾ أي جاءهم من الله البيان : إذ أرسل لهم رسوله الأمين مبينا وهاديا ونذيرا.
قوله :﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾ أم، المنقطعة، والهمزة فيها للإنكار. أي لا يتحصل للإنسان كل ما يتمناه من الخير، وإنما كل شيء من خير أو شر بقدر.
قوله :﴿ فللّه الآخرة والأولى ﴾ الله مالك كل شيء. وله ملكوت الدنيا والآخرة فهو سبحانه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.
قوله :﴿ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ﴾ ذلك توبيخ من الله للمشركين وتسفيه لأحلامهم، إذ كانوا يعبدون الملائكة والأصنام وهم يزعمون أنها تقربهم إلى الله، فبين الله لهم أن الملائكة بالرغم من كرامتهم على الله وكونهم أطهارا أبرارا عابدين لله، فإنهم لا يملكون الشفاعة لأحد، إلا أن يأذن الله لهم بالشفاعة١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٥٣-٢٥٥ وتفسير القرطبي جـ ١٧ ص ١٠١-١٠٤..
قوله تعالى :﴿ إن الذين لا يؤمنون بالأخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى ٢٧ وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ٢٨ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ٢٩ ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ﴾.
ذلك إنكار من الله شديد على المشركين السفهاء، إذ تلبسوا بجريمتين شنيعتين كبريين، الأولى : تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى. فهم بذلك يعتقدون أن الملائكة إناث وهم لم يشهدوا خلقهم فأنى لهم أن يفتروا مثل هذا الإفتراء.
والثانية : أنهم جعلوا الملائكة بنات الله. تعالى الله عن اتخاذ الولد علوا كبيرا. فقال سبحانه موبخا منكرا :﴿ وما لهم به من علم ﴾.
قوله :﴿ وما لهم به من علم ﴾ أي ليس لهم بما يفترونه ويزعمونه من مستند ولا دليل، وإنما يقولون الكذب والزور والباطل ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ والظن، خلاف اليقين١ أي ما يتبعون في قولهم المفترى، وزعمهم الباطل إلا الوهم والتخمين.
قوله :﴿ وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ لا يقوم الظن مقام اليقين، وهو لا ينفع ولا يجدي شيئا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الظن فهو طريق الضلال والزلل، ويفضي إلى الخطيئة والباطل. فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ".
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٣٤..
قوله :﴿ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ﴾ يعني دع من أدبر عن الحق، واستكبر عن منهج الله ﴿ ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ يعني لا يبتغي ولا يهوى إلا الحياة الدنيا وما فيها من متاع وشهوات وزخرف، وبذلك يأمر الله عباده المؤمنين المخلصين أن يتركوا الظالمين المكذبين، الناكبين عن شرع الله، المعرضين عن منهج الإسلام، ولا يريدون غير المتاع والتلذذ بالشهوات وطيبات الحياة الدنيا.
قوله :﴿ ذلك مبلغهم من العلم ﴾ وهذا تسفيه لأحلام المشركين المعرضين عن دين الله، وتحقير لقدرهم واستخفاف بهم وبعقولهم فإنهم لا يتدبرون الآيات ولا يتجاوزون الدنيا وزينتها في اهتماماتهم وانشغال أذهانهم.
والمعنى : ذلك هو قدر عقولهم ونهاية علمهم وفهمهم، إذ آثروا الحياة الدنيا على الآخرة واختاروا الضلال والباطل، ونبذوا الهداية والسداد والحق. وفي هذا الصدد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له " وفي الدعاء المأثور : " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ".
قوله :﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ يعني إن ربك يا محمد أعلم- في سابق علمه القديم - بمن مال عن الحق وعن طريق الله المستقيم فهو لا يؤمن. وهو سبحانه أعلم- في سابق علمه - بمن اهتدى أي سلك سبيل السداد والرشاد وهو الإسلام١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٧ ص ٣٧، ٣٨ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٥٥ وفتح القدير جـ ٤ص ١١٢..
قوله تعالى :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أسائوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ٣١ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾.
الله مالك كل شيء، وهو مالك السماوات و الأرض وخالقهما. فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسنين بإحسانهم ويجزي المسيئين بإساءاتهم.
قوله :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ الذين في موضع نصب على أنه بدل أو صفة لقوله :﴿ الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ ١ أي هم لا يفعلون كبائر الإثم وهو الشرك فإنه أكبر الكبائر جميعا وأما الفواحش فالمراد بها الزنا.
قوله :﴿ إلا اللمم ﴾ استثناء منقطع٢ والمراد باللمم صغائر الذنوب. واللمم أيضا طرف من الجنون. ورجل ملموم أي به لمم. ويقال : أصابت فلانا من الجن ( لمة ) وهو المسّ. والملمة بمعنى النازلة من نوازل الدنيا. والعين اللامة، التي تصيب بسوء. يقال : أعيذه من كل هامة ولامّة ٣. والمراد به في الآية صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال التي لا ينجو منها إلا صانه الله بعصمة أو رعاية. واللمم في قول كثير من العلماء أنه ما دون الزنا. وقيل : ما دون الوطء، من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله كتب على آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه " قال القرطبي في تفسير ذلك : والمعنى أن الفاحشة العظيمة والزنا التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج، وغيره له حظ من الإثم. وذكر عن ابن مسعود قال : زنا العينين النظر، وزنا الفم التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم. وسئل أبو هريرة عن قول الله ﴿ إلا اللمم ﴾ فقال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة. فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا.
وقيل : اللمم كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة. فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. وقيل : هو الذنب العظيم يلمّ به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه.
فقد روي عن ابن عباس قال : اللمم الذي يلم المرة. أي يلم بالذنب الكبير ثم يتوب. قوله :﴿ إن ربك واسع المغفرة ﴾ الله غفار للذنوب وإن كثرت، إذا اجتنبت الكبائر. فما كان من لمم وهي الصغائر والمحقرات من السيئات إذ تلبس بها المرء فإن الله يعفو عن ذلك بواسع رحمته وعظيم فضله وكرمه لمن تاب وأناب.
قوله :﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ﴾ يبين الله للناس أنه علمه محيط بهم. فهو عليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وما هم صائرون إليه. فقد خلق الله الناس من الأرض وذلك بخلق أبيهم آدم الذي خلق من طين ثم خلق منه نسله فجعلهم مختلفين متفاوتين في الطبائع والصفات والأهواء. فالله عليم بذلك كله. عليم باختلافهم في الإيمان والكفر، وفي السعادة والشقاء، وفي السواد والبياض، وفي الحسن والقبح، وفي الفطنة والبغاء، وغير ذلك من وجوه الصفات المختلفة.
قوله :﴿ وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ أجنة، جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه. وسمي جنينا، لاجتنابه أي استتاره. أي أن الله ( جل وعلا ) أعلم بالإنسان وقت اجتنابه مستترا في بطن أمه ويعلم رزقه وأجله وعمله في هذه الدنيا، ويعلم مصيره الذي يؤول إليه من حيث السعادة والشقاوة. فالله لا يعزب عن علمه شيء من ذلك.
قوله :﴿ فلا تزكّوا أنفسكم ﴾ أي لا تمدحوها وتثنوا عليها، فإن مدح النفس يفضي إلى الرياء والمنّة والغرور. وهذه محاذير خطيرة تفضي إلى حبوط الأعمال والخسران.
قوله :﴿ هو أعلم بمن اتقى ﴾ الله أعلم بالمتقين المخلصين الذين يطيعون الله، خوفا من عذابه وطمعا في رضاه.
قال صاحب الكشاف : وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء. فأما من اعتقد أن ما علمه من العمل الصالح، من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدّح لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. ويؤيد هذا القول، ما رواه الطبراني عن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم : " من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن ".
ويستفاد من الآية كراهية امتداح المرء صاحبه وهو يرى ويسمع. فقد روى الإمام أحمد عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك قطعت عنق صاحبك " مرارا " إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك ".
وروى أحمد كذلك عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه. فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المدّاحين أن نحثو في وجوههم التراب " ٤.
قوله تعالى :﴿ أفرأيت الذي تولى ٣٣ وأعطى قليلا وأكدى ٣٤ أعنده علم الغيب فهو يرى ٣٥ أم لم ينبّأ بما في صحف موسى ٣٦ وإبراهيم الذي وفّى ٣٧ ألا تزر وازرة وزر أخرى ٣٨ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ٣٩ وأن سعيه سوف يرى ٤٠ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ﴾.
ذكر في سبب نزول هذه الآيات عدة أقوال منها ما ذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيّره بعض المشركين وقال : لم تركت دين الأشياخ وضلّلتهم وزعمت أنهم في النار ؟ ! قال : إني خشيت عذاب الله. فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله. فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه، فأنزل الله هذه الآية. وقيل : كان الوليد بن المغيرة قد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل ﴿ وأعطى قليلا ﴾ أي من الخير بلسانه ﴿ وأكدى ﴾ أي قطع ذلك وأمسك عنه.
قوله :﴿ أفرأيت الذي تولى ﴾ ذلك تعجيب من الذي أعرض عن دين الله وأدبر عن طاعته.
١ البيان لابن الأنباري ج٢ ص٣٩٩.
٢ المصدر السابق.
٣ القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٧٨ ومختار الصحاح ص ٦٠٥..
٤ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٥٦، ٢٥٧ والكشاف جـ ٤ ص ٣٣..
قوله :﴿ وأعطى قليلا وأكدى ﴾ أكدى الرجل، أي قل خيره وأكدى، أي قطع القليل وأمسك١.
١ مختار الصحاح ص ٥٦٥..
قوله :﴿ أعنده علم الغيب فهو يرى ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. والمعنى : أعند هذا المكدي الممسك عن الخير والعطاء، علم الغيب فعلم ما قيل له من أن احتمال أوزاره يجديه أو ينفعه.
قوله :﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى ﴾ أم، ههنا فيها وجهان. أحدهما : أن تكون المنقطعة، بمعنى ( بل والهمزة ).
ثانيهما : أن تكون المتصلة بمعنى ( بل ) ١ يعني : أم لم يخبر بما في صحف موسى، أن لا تؤخذ نفس بدلا عن نفس أخرى. وكذلك إبراهيم ﴿ الذي وفّى ﴾.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٩٩..
قوله :﴿ الذي وفّى ﴾ أي قام بتبليغ الرسالة على التمام واضطلع بأعباء النبوة والصبر على ذبح ولده وعلى نار نمروذ وغير ذلك من وجوه الصبر والاحتمال والطاعة.
قوله :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ ذلك مما أخبر الله أنه في صحف موسى وإبراهيم. وهو أن كل نفس ظلمت نفسها بإثم أو ذنب أو شرك فإنما عليها وزر ذلك ولا يحمله عنها أحد غيرها. فكل نفس آثمة إنما إثمها عليها.
قوله :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ أي لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما فعله هو لنفسه. وقد استدل الإمام الشافعي ( رحمه الله ) من هذه الآية أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأن ذلك ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ( رضي الله عنهم )، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. والقربات إنما يقتصر فيها على النصوص ولا يستند فيها على الآراء الأقيسة. أما الدعاء والصدقة فقد أجمعوا على وصولهما إلى الموتى وقد نص الشارع على ذلك. أما ما رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له، أوصدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به ". فهذه الثلاثة إنما هي من سعي الإنسان ومن كده وعلمه وقد جاء في الحديث : " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه " وإن ولده من كسبه، والصدقة الجارية هي أثر من آثاره، وكذلك العلم الذي نشره وعمل الناس بمقتضاه، هو أيضا من سعيه وعلمه.
قوله :﴿ وأن سعيه سوف يرى ﴾ أي كل عامل سوف يرى جزاء عمله يوم القيامة من خير أو شر.
قوله :﴿ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ﴾ أي ثم يثاب بسعيه الثواب الأتم١.
١ تفسير الطبري جـ ٢٧ ص ٤٤ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٥٨..
قوله تعالى :﴿ وأنّ إلى ربك المنتهى ٤٢ وأنه هو أضحك وأبكى ٤٣ وأنه هو أمات وأحيا ٤٤ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ٤٥ من نطفة إذا تمنى ٤٦ وأنّ عليه النشأة الأخرى ٤٧ وأنه هو أغنى وأقنى ٤٨ وأنه هو رب الشّعرى ٤٩ وأنه أهلك عادا الأولى ٥٠ وثمودا فما أبقى ٥١ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ٥٢ والمؤتفكة أهوى ٥٣ فغشاها ما غشى ٥٤ فبأي آلاء ربك تتمارى ﴾.
هذه جملة دلائل وآيات في الطبيعة والخلق والكائنات تحمل الأذهان على التدبر والذكرى لتستيقن أن الله حق وأنه خالق كل شيء وأنه الحكيم المقتدر. وذلك كله مبدوء بالتأكيد على أن كل شيء صائر إلى الله وأن نهايته إليه سبحانه حيث الحساب والجزاء وهو قوله :﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء. أي ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه كقوله سبحانه :﴿ وإلى الله المصير ﴾.
قوله :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ هذه خصّيصة لا تتجلى في غير الإنسان من الخلائق. ومزيّة الضحك والبكاء اللتين انفرد بهما الإنسان لا جرم أنهما من تقدير الله ومشيئته، إذ ذرأ في ابن آدم مركبات الضحك والبكاء العضوية والنفسية والفطرية، تلك المركبات التي تهيجها أسباب الضحك والبكاء الخارجية، كالأفراح والأتراح، والمباهج والأحزان، والتغيظ والسرور، والاغتمام والحبور. وتلكم خصائص وأسباب ومركبات لم تكن في غير الإنسان من أصناف الخلق وهذه ظاهرة من ظواهر كثيرة عجاب تزجي بالدليل على عظمة الخالق الصانع الحكيم.
قوله :﴿ وأنه هو أمات وأحيا ﴾ الله الذي يميت الخلق. بما أنشأ فيهم من أسباب تفضي إلى الموت. وهو سبحانه الذي يحيي عباده بنفخ الأرواح في الأجنة لدى استتارها في الأرحام فتسري فيها الحياة.
قوله :﴿ من نطفة إذا تمنى ﴾ النطفة هي الماء القليل. والمراد ما يقذف من ذلك من ماء الرجال في الأرحام. والمعنى : أن الله خلق الصنفين من بني آدم من الذكور والإناث ﴿ من نطفة ﴾ أي من ماء قليل مهين، في غاية البساطة والمهانة ﴿ إذا تمنى ﴾ إذا أريقت في الأرحام. أمنى إمناء، يعني أراق منيه إراقة١.
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٤٩..
قوله :﴿ وأن عليه النشأة الأخرى ﴾ النشأة الأخرى يعني الإعادة يوم القيامة. فالله الذي ذرأ بداءة الخلق لا جرم قادر أن يعيدهم أحياء يوم البعث لملاقاة الحساب والجزاء.
قوله :﴿ وأنه هو أغنى وأقنى ﴾ الله الذي يعطي من يشاء من عباده المال، فيغنيه به ويجعل منه ما يقتنيه. أي أعطاكم المال وجعله لكم قنية تقتنونها.
قوله :﴿ وأنه هو رب الشّعرى ﴾ الشعرى هو النجم الهائل والقاد، الذي خلف الجوزاء كان الجاهليون يعبدونه مع الله. وهو في حجمه وسعته أثقل من الشمس بعشرين مرة. ونوره أعظم من نور الشمس بخمسين مرة. وهو أبعد من الشمس بمليون ضعف ما بين الشمس والأرض، فالله جل جلاله يبين لهؤلاء المشركين أن الشعرى مخلوق مربوب، وأن الله لهو ربه. وخالقه، فهو أحق أن يعبدوه وحده دون غيره من المخاليق.
قوله :﴿ وأنه أهلك عادا الأولى ﴾ يبين الله للمشركين منذرا محذرا – مهلك عاد قوم هود، وذلك ليعتبروا ويزدجروا عن غيهم وضلالهم. وقد سمى عادا، بالأولى، لأنهم كانوا من قبل ثمود فقد أهلكهم الله بريح صرصر عاتية.
قوله :﴿ وثمودا فما أبقى ﴾ وثمود، قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة، فدمر عليهم وقطع دابرهم.
قوله :﴿ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ﴾ أي أهلك الله قوم نوح بالطوفان من قبل مهلك عاد وثمود. وقد كانوا أشد من الذين جاءوا من بعدهم كفرا وجحودا وأفظع عتوا وتمردا. وفي ذلك تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليبصر وليعلم أن الله المنتقم الجبار مهلك الظالمين والمجرمين، وأن العاقبة للمؤمنين المتقين الصابرين.
قوله :﴿ والمؤتفكة أهوى ﴾ المؤتفكة، من الأفك، بفتح الهمزة وسكون الفاء، وهو القلب. أفكة أي قلبه. ائتفكت البلدة بأهلها أي انقلبت١والمؤتفكة، منصوب، لأنه مفعول ﴿ أهوى ﴾ ٢ والمراد بالمؤتفكة مدائن قوم لوط التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت. فقد رفعها جبريل إلى السماء ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها وجعل عاليها سافلها.
١ مختار الصحاح ص ١٩..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٠١..
قوله :﴿ فغشّها ما غشّى ﴾ أي غشاها من البلاء ورمي الحجارة ما غشاها. وذلك تهويل وتعظيم لما نزل بقوم لوط من العذاب.
قوله :﴿ فبأي آلاء ربك تتمارى ﴾ آلاء، نعم، وهو جمع ومفرده : إلى وألى، وإلي. والمعنى : فبأي نعم الله تجادل وترتاب أيها الإنسان، وهي نعم كثيرة ومبسوطة ومختلفة١.
١ الكشاف جـ ٤ ص ٣٤ وفتح القدير جـ ٥ ص ١١٧ وتفسير الطبري جـ ٢٧ ص ٤٥ –٤٧..
قوله تعالى :﴿ هذا نذير من النذر الأولى ٥٦ أزفت الأزفة ٥٧ ليس لها من دون الله كاشفة ٥٨ أفمن هذا الحديث تعجبون ٥٩ وتضحكون ولا تبكون ٦٠ وأنتم سامدون٦١ فاسجدوا لله واعبدوا ﴾.
النذر، جمع نذير، وهو من الإنذار أي الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف١ والمراد بالإشارة ﴿ هذا ﴾ الرسول صلى الله عليه وسلم فهو منذر من المنذرين أرسله الله للناس ليبلغهم دعوة الحق والتوحيد، ويحذرهم الشرك، والنكول عن دينه، أو الإعراض عن منهجه العظيم. وقيل : المراد بهذا، القرآن، فهو إنذار من جنس الإنذارات السابقة الأولى التي أنذر الله بها العباد. وقيل : هذا الذي أخبرتكم به من أخبار الأمم الماضية مما حل بهم من التدمير وسوء العقاب إنما هو تخويف لكم أن ينزل بكم ما نزل بهم.
١ مختار الصحاح ص ٦٥٣..
قوله :﴿ أزفت الأزفة ﴾ أزفت، بمعنى قربت. والآزفة، هي الموصوفة بالقرب وهي القيامة أي قربت القيامة. وسميت بالآزفة، لدنو موعدها وشدة قربها من الناس، فأجدر بالناس أن يحذروا الآخرة، وأن يتعظوا ويتقوا ربهم ويجتنبوا معاصيه.
والتعبير بمثل هذه العبارة لا جرم يثير الانتباه ويبعث على الاهتمام والتيقظ والحذر. فما يتلو القارئ المتدبر هذه العبارة إلا ويستشعر في خياله وعميق إحساسه ظلال الساعة وأن أوانها قد دنا واقترب.
قوله :﴿ ليس لها من دون الله كاشفة ﴾ كاشفة، مبينة. أي ليس من أحد يبين متى تقوم الساعة أو يكشف عنها سوى الله. كقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو }.
قوله :﴿ أفمن هذا الحديث تعجبون ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. يعني : أفمن هذا القرآن تعجبون إنكارا وتكذيبا.
قوله :﴿ وتضحكون ولا تبكون ﴾ أي أتضحكون استهزاء بكلام الله ولا تبكون خوفا من وعيده ومن عاقبة تكذيبكم وجحودكم.
قوله :﴿ وأنتم سامدون ﴾ أي لاهون غافلون معرضون.
قوله :﴿ فاسجدوا لله واعبدوا ﴾ المراد بالسجود ههنا، سجود التلاوة وقيل : سجود الفرض في الصلاة، ﴿ واعبدوا ﴾ أي : أخلصوا لله العبادة والطاعة دون أحد غيره من المخاليق والأنداد١.
١ الكشاف ج ٤ ص ٣٥ وتفسير البيضاوي ص ٧٠٠ وتفسير القرطبي جـ ١٧ ص ١٢١، ١٢٤، وفي ظلال القرآن ج ٢٧ ص ٧٠..
Icon