تفسير سورة النجم

بيان المعاني
تفسير سورة سورة النجم من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

أحاديث كثيرة أعرضنا عنها لعدم الحاجة ولأن في بعضها مبالغة لم نعتمد صحتها وقد اكتفينا بما ذكرناه مما هو صحيح لاغبار عليه وللشيخ الرئيس أبي الحسين علي بن سينا كراسة لطيفة فسّر بها المعوذتين والإخلاص على طريقة الصوفية أبدع فيها رحمه الله، وهو في كل فن مبدع فمن أراد الوقوف عليها والتمتع بما فيها من الإبداع الذي تلذّ به الأسماع وينشرح له الصدر، فليراجعها فإني وأمثالي عيال عليه، هذا والله أعلم واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين.
تفسير سورة والنجم عدد ٢٣- ٥٢
نزلت في مكة بعد الإخلاص عدا الآية ٣٢ فإنها نزلت بالمدينة، وهي اثنتان وستون آية، وثلاثمائة وستون كلمة، وألف وأربعمائة وخمسة أحرف، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة ولا مختومة بما بدئت وختمت به.
مطلب معنى النجم وأنواع قسم الله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى: «وَالنَّجْمِ» خصه أكثر المفسّرين بأنه الثريا لأن العرب تسميها نجما لأنها نجوم مجتمعة سبعة فأكثر على حسب النظر وقوته، وأنّها تطلع وتغرب بمواسم مخصوصة عندهم لأنها تظهر أوائل الشتاء وتغيب أوائل الصيف عند حصاد الزرع، وانهم يتفاءلون بغيابها إذا كان الهواء غربيا وبالعكس إذا كان شرقيا «إِذا هَوى ١» سقط وغاب عن الأبصار، أقسم الله تعالى به لشيء أراده غير ما ذكرناه وهو لا يسأل عما يريد. ويطلق لفظ النجم على الجنس منه فيشمل كل نجم في السماء، وعلى النبات الذي لا ساق له، وعلى القرآن لنزوله نجوما متفرقة، وعلى محمد صلّى الله عليه وسلم لصعوده السماء ليلة المعراج كالنجم.
واعلم أن أقسام الله تعالى تنحصر في ثلاثة أشياء: بذاته المقدسة وبفعله كالسماء والأرض وبمفعوله كالقمر والشمس، وهي إما لفضيلة خاصة كقوله: (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أو لمنفعة عامة نحو (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ). والقسم إما ظاهرا كالآيات السبع التي أشرنا إليها في الآية ١٥ من سورة التكوير المارة، وإما مضمرا وهو قسمان قسم دلت
190
عليه اللام نحو: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) الآية ١٨٦ من آل عمران في ج ٣، وقسم دل عليه المعنى كقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) الآية ٧١ من سورة مريم الآتية (يا ويلتاه الورود محقق، والخروج مظنون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وجواب القسم هنا «ما ضَلَّ» عن الحق ولا زاغ عن الصواب فيما تلاه عليكم من الآيات البينات «صاحِبُكُمْ» محمد بن عبد الله «وَما غَوى» في اتباع الباطل وما جهل قط، لأن الضلال نقيض الهدى والغي ضد الرشد، وهو هاد مهتد راشد مرشد ليس كما تزعمون يا كفار قريش في نسبتكم إياه للضلال والغي والجهل «وَما يَنْطِقُ» قط «عَنِ الْهَوى ٣» من تلقاء نفسه عن لا شيء كلاما «إِنْ هُوَ» الذي يتلوه عليكم «إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ٤» إليه من قبلنا على لسان رسولنا لا من رأيه ولا من قبل الغير «عَلَّمَهُ» إياه ونزل به إليه من لدنا ملك عظيم «شَدِيدُ الْقُوى ٥» هو جبريل عليه السلام وقد مرّ شيء من قوته في تفسير الآية ١٩ من سورة التكوير المارة وهو «ذُو مِرَّةٍ» قوّة عظيمة، وبأس شديد، ومنظر حسن، وخلق جميل «فَاسْتَوى ٦» في خلقه على أحسن صورة واعتدل قائما على صورته الحقيقية حينما رآه عبدنا محمد عيانا على غير الصورة التي تمثل بها حين هبوطه بالوحي، إذ كان على صورة دحية الكلبي.
مطلب مقر جبريل ومعنى قاب قوسين:
ولم يره في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها غير مرة في الأرض، وهي المشار إليها في سورة التكوير المارّة «وَهُوَ» أي جبريل «بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ٧» الشرقي ومحمد بحراء كما مرّ فيها، ومرة في السماء ليلة المعراج كما سيأتي أول سورة الإسراء الآتية «ثُمَّ دَنا» جبريل من محمد «فَتَدَلَّى ٨» ازداد نزوله فتقرب منه «فَكانَ» جبريل من محمد «قابَ» وقبّ وقيب وقاد وقيس كلها بمعنى المقدار القليل، أي ان مسافة قربه منه «قَوْسَيْنِ» من الأقواس العربية المعروفة عندهم إذ لكل قوس قابان وقاب القوس ما بين وترها ومقبضها «أَوْ أَدْنى ٩» من ذلك وأقرب بحسب تقديركم أيها الناس إذ لا أقرب من هذا عندكم وأما عندنا نحن مولى
191
الكل وسيذهم فهو أقرب مما تتصوره عقولكم وهو من حيث القلّة (كأف) في زجر الوالدين في الآية ٣٣ من الإسراء الآتية، وفي التحقيق (كأو) في الآية ٤٦ من سورة الصافات في ج ٢، وقد جاء التعدد بالقوس والرمح والذراع والسوط والباع والقدم على حسب لغة العرب واستعمالها، لأن الله خاطبهم بما يفهمون، ومن هذا لا صلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين، ومنه ولقاب قوس أحدكم في الجنة وموضع قدّه أي سوطه خير من الدنيا وما فيها، وفيه اشارة الى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله عند مخالفتهم وارادة الصفاء بينهم وتوثيق العهود، فإنهم كانوا يخرجون بقوسين فيلصقانهما حتى يكونا ذا قاب واحد ثم ينتزعونهما ويرمون بكل منها سهما واحدا دلالة على أنهما تظاهرا وتعاقدا وتوافقا على أن يحمي أحدهما الآخر وأن يكون رضى أحدهما وسخطه رضاء الأخر وسخطه قال قل «فَأَوْحى»
جبريل عليه السلام وأعبد الضمير إليه لأنه أقرب، ولأن سياق الآية يدل عليه وسياق اللفظ يؤيده «إِلى عَبْدِهِ»
عبد الله محمد لأن العبودية الحقيقية لا تضاف إلا إليه ولا حاجة لأن يتقدم ذكره لأنه في غاية الظهور ولا لبس فيه مثل قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فالضمير فيه يعود للقرآن دون ذكر له لمعلوميته مع أنه لم يسبق له ذكر، وكذلك قوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية ٦٢ من سورة النحل في ج ٢، فالضمير يعود إلى الأرض في كلمة ظهرها ولم يسبق لها ذكر للعلة نفسها، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٣٢ من سورة ص الآتية فراجعه «ما أَوْحى ١»
الله إليه أي إلى جبريل فأوحاه جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم بنصه حرفيا، وقد أبهم الموحي به للتفخيم على حد قوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الآية ٧٨ من سورة طه الآتية فراجعا، أي شيء عظيم جليل خطير أوحاه الله إليه، ومن المفسرين من أعاد الضمير في أوحى إلى الله عز وجل وأعاد ضمير دنا فتدلى كذلك وأعاد ضمير عبده إلى محمد وهذا لا يتأتى إلا على القول من أن الإسراء وقع بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلم بخمس سنين أي زمن نزول هذه السورة، وهو قول الزّهري ويعضده قول ابن اسحق، ويؤيده ما جاء في الفتاوى بأنه سنة خمس أو ست من النبوة، أما القول بأنه وقع بعد مبعثه بخمسة عشر شهرا فلا يكاد يعقل فضلا عن عدم وجود ما يؤيده من راو
192
أو رواية، وأضعف منه قول شريك بأنه وقع قبل أن يوحى اليه، وهذا كله لا ينطبق على ما نحن فيه وقال الحريّ انه قبل الهجرة بسنة، ويقرب من قوله قول النووي انه بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وجزم الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء بأنه في السنة الثانية عشرة من البعثة، وادعى ابن حزم الإجماع عليه، وضعف ما في الفتاوى، وكأنهم يريدون بهذا زمن نزول سورة الإسراء، وعليه يقتضي أن يكون نزول هذه السورة بعد سورة الإسراء ولم يقل به أحد، والقول بنزولها قبلها لم يعارض فيه أحد، والمعارضة في نزولها بين سنة خمس أو ست فقط ورجح الأول لأن قول الثاني هو من باب التداخل في عدد السنين ليس إلا والله أعلم، فيظهر من هذا كله أن القول الموافق للحال والمطابق لترتيب نزول السورتين هو قول الزهري وعليه فتكون سورة الإسراء اخبارا عنها.
مطلب زمن الإسراء والمعراج والرؤية:
واني رغم تتبعي وسؤالي أهل العلم لم أقف على غير هذا، وسأتابع البحث فيه والسؤال عنه حتى إذا وقفت على غيره ذكرته إن شاء الله القائل
«ما كَذَبَ الْفُؤادُ» أي قلب الموحى اليه محمد صلّى الله عليه وسلم «ما رَأى ١١» بعينه وبصره من جبريل أو ما رأى ليلة المعراج من عجائب مكونات ربه وذاته المقدسة «أَفَتُمارُونَهُ»
تجادلونه يا كفار قريش، وقرىء أفتمرونه أي تغلبونه أو تجحدونه كما قرىء كذّب بالتشديد «عَلى ما يَرى ١٢» ويعاين من صورة جبريل الحقيقة التي ذكرها لكم أو مما قصه عليكم في ما شاهده في الإسراء والمعراج من العجائب وذلك أنه لما أخبرهم بإسرائه وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا فوصفه لهم وأخبرهم عن عيرهم وثبت لهم صدقه ومع هذا كذبوه كما سيأتي أول الإسراء الآتية «وَلَقَدْ رَآهُ» رأى محمد جبريل «نَزْلَةً أُخْرى ١٣» مرة ثانية في صورته الحقيقية حال بلوغه «عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ١٤» الكائنة في السماء السابعة وهي شجرة نبق عن يمين العرش التي ينتهي عندها كل أحد ولا يتجاوزها أحد من الملائكة أو رأى ربه عز وجل «عِنْدَها أي السدرة التي ت (١٣)
193
بقربها «جَنَّةُ الْمَأْوى ١٥» التي تأوى إليها أرواح الشهداء في الدنيا والمتقون أجمع في الآخرة «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ١٦» من تكبير وتعظيم وتهليل وتمجيد من الخلائق المختلفة الدالة على عظمة الخالق مما لا يحيط به الوصف ولا تسعه الأذهان ويعجز عنه النطق به كل لسان «ما زاغَ الْبَصَرُ» من محمد ولا حال عن رؤية ومشاهدة العجائب التي أبدعها المبدع وأمر رسوله برؤيتها حينما عرضها عليه ومكنه من رؤيتها في تلك الحضرة المقدسة لا يمينا ولا شمالا وهو غاية في أدبه صلّى الله عليه وسلم في ذلك المقام الجليل إذ لم يلتفت اليه وهذا يؤيد كون الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة لا الملائكة ولا الفراش الذهبي ولا أنواع المخلوقات وان نظر الرسول ما حال دون رؤية ربه عز وجل بصعقة أو غشية كما حصل لموسي وابراهيم عليهما وعليه أفضل الصلاة السلام. وقد ثبت في ذلك المقام الذي تحار به العقول وتزل به الأقدام وتشخص فيه الابصار، ولهذا فقد وصفه ربه بالقوة والسكينة في ذلك المقام بقوله جل قوله «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ١٧» أي ما جاوز بصره غير ما أمر بالنظر اليه وهو المعنى بقوله مقسما «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ١٨» التي هي أكبر آية وأعظمها وأجلها وهي رؤية ذاته المقدسة التي لا يضاهيها آية وتصغر دونها كل آية قال الأبوصيري:
أرآى من الآيات أكبر آية ما زاغ حاشا أن يزيغ المبرأ
قال ابن عباس رضي الله عنهما رآه بفؤاده وقال الحسن وأنس وعكرمة رآه بعينه حقيقة وسنذكر ما جاء في الأحاديث الواردة بالرؤية القلبية والعينية هنا وما جاء في حق جبريل أيضا، روي عن مسروق أنه قال قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد ربه؟ فقالت لقد قفّ شعري (أي قام من الفزع مثل اقشعر جلدي واشمأزت نفسي عند سماع مالا ينبغي) مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن بها فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تدركه الأبصار الآية ١٠٢ من الانعام في ج ٢ وقرأت (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الآية ٥٦ من سورة الشورى في ج ٢ أيضا، ومن
194
حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وقرأت (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً) الآية الأخرى من سورة لقمان ٢٤ ومن حدثك أنه كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ٧٠ من المائدة في ج ٣ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين أخرجاه في الصحيحين، وروى مسروق بن الأجدع قال قلت لعائشة فأين قوله (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ) إلخ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وأنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسدّ الأفق، أخرجاه في الصحيحين. وروى مسلم عن ابي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال رأى جبريل، وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى، قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح، وفي رواية مسلم عن مسروق قال كنت متكئا عند عائشة فقالت يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فجئت فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) الآية ٤٣ من سورة التكوير، المارة (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) الآية المارة؟ فقالت انها أول هذه الآية سئل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، الحديث. وروى مسلم عن أبي ذر قال سألت رسول الله هل رأيت ربك؟ قال نور أنى أراه! وفي رواية نورانيّ أراه. ، بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى الآية قال لقد رأى رفرفا أخضر سدّ أفق السماء. وجاء في الصحيحين من حديث المعراج عن شريك ابن عبد الله بن ابي بحر عن أنس (ودَنا الجبار ذي العزّة فَتَدَلَّى حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وهي رواية أبي سلمة عن ابن عباس، وروى مسلم عن ابن عباس (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) الآيتين قال رآه بفؤاده مرتين. وأخرج أحمد عن ابن عباس انه قال: قال رسول الله رأيت ربي، ذكره
195
محمد الصالحي الشامي في الآيات البينات وصححه وهو تلميذ الحافظ السيوطي. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال إن محمدا صلّى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده. وجاء عن ابن عباس أتعجبون ان تكون الخلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟! وعن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه، قال نعم، وكان الحسن يحلف بأن محمدا رأى ربه. هذا وقد بلغت الرؤية حد الإجماع، وكلام ابن عباس لا يكون إلا بالسماع من رسول الله ولا يشك فيه أحد، كيف لا وهو خير الأئمة وعالمها المرجوع اليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر فأخبره أنه رآه، وهذا إثبات والإثبات مقدم على النفي، على أن عائشة رضي الله عنها لم تقله عن رسول الله وإنما قالته متأولة الآيات التي ذكرتها من قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ) و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) والصحابي إذا خالفه مثله لا يكون قوله حجة ولو كان معها شيء عن رسول الله لذكرته فضلا عن انها عند نزول هذه السورة وسورة الاسراء كانت صغيرة دون سن التمييز، وليست هي بأعلم من ابن عباس، على
أن الإدراك الوارد بالآية معناه الإحاطة والله تعالى لا يحيط بعلمه أحد ولا يحاط به، وإذا ورد النفي بنفي الإحاطة لا يلزم نفي الرؤية بغير إحاطة، والله تعالى يرى بلا كيفية ولا احاطة فلو كانت الرؤية غير جائزة لما طلبها موسى، أو يلزم مع الرؤية وجود الكلام ليصح الاحتجاج بآية (وَما كانَ لِبَشَرٍ) بل تجرز من غير كلام، فارتفع الاحتجاج بها على أن ما من عموم إلا وخصّ منه البعض، فيمكن أن يقال: نفي الرؤية عام في حق البشر في الدنيا مخصوص بسيدنا محمد عليه السلام فيها ثابت بما تقدم من الأدلة، ولهذا فإن ثبوت الرؤية لسيدنا محمد ثابتة قاله كعب واحمد ابن حنبل وابو الحسن الأشعري وجعفر بن محمد ومحمد بن كعب والقاضي عياض والشيخ محي الدين النووي وغيرهم من أكابر السلف والخلف فمن أنكرها فجزاؤه حرمانها واعلم أن في جملة ما زاغ البصر إلخ أخبار من الله تعالى عن حسن أدبه صلّى الله عليه وسلم لدى الحضرة الإلهية وعن اعتدال قلبه المقدس في الإقبال اليه بكلية والإعراض عن سواه وعدم الالتفات إلى ما في
196
السموات والأرض وما فيهما، وتركه وراء ظهره، وفيه دلالة على أنه كان معتدل القوى لم تشغله حاسة عن حاسة حال تلقى ما ورد عليه من مقام الروح والقلب المشير اليه قوله (قابَ قَوْسَيْنِ) لذلك كان ثابتا في مقام تجلي الإله صارفا قواه العشرة لما يرد عليه من تلك الحضرة مستظلا بهيبته فلم يتخلف بصره عن بصيرته بل استقام معها حالة التجلي لئلا يتجاوز حده بالسبق لها كما أن البراق لم يتجاوز حافره غاية نظره صلّى الله عليه وسلم حالة السير به من مكة إلى البيت المقدس، وهذه غاية في الأدب ونهاية في التأدب قال تعالى «أَفَرَأَيْتُمُ» أعلمتم «اللَّاتَ وَالْعُزَّى ١٩ وَمَناةَ» أسماء أصنام انتقوها من أسماء الله، الآله والعزيز والمنان وقيل انها في الأصل اللآت مأخوذة من لوى لأنهم يلوون عليها بعبادتهم وهي صنم من الحجارة يشبه الإنسان ولذلك قال بعضهم انه كان رجلا يلت السويق للحجاج وكان صنما لثقيف، والعزى تأنيث الأعز شجرة كانت لغطفان فقطعها خالد بن الوليد بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وقال عند قطعها مرتجزا.
يا عز كفرانك لا سبحانك اني رأيت الله قد أهانك
ومناة كانت صنما في مكة أو بقديد لخزاعة وهذيل وقيل لثقيف، وكانوا يستمطرون عندها تبركا بها، وقيل بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وسميت مناة لأن دماء النسائك تمنى عندها، وهي عبارة عن صخرة يعظمونها فعاب الله عليهم ذلك على طريق الاستفهام توبيخا وتقريعا، أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة شيء وكانوا يسمونها والملائكة بنات الله ويزعمون أنها تشفع لهم مع ما هم عليه من وأد البنات واستحلال المحرمات والكفر ثم وصف مناة بقوله:
«الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ٢٠» المتأخرة أو أن في الكلام تقديما وتأخيرا أي أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، ثمّ أنكر عليهم ما ينسبونه اليه تعالى عنه
«ألكم» أيها الكفرة «الذَّكَرُ» تختصون به «وَلَهُ» جل شأنه «الْأُنْثى ٢١» مع أنكم تكرهونها قال تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) الآية ٥٩، وقوله وإذا بشر أحدهم بالأنثى إلخ الآية ٦٣ من سورة النحل في ج ٢
197
«تِلْكَ» القسمة التي قسمتموها بينكم وبين ربكم «إِذاً» بعد اختياركم الأحسن «قِسْمَةٌ ضِيزى ٢٢» عوجاء جائرة لم ترضوها لأنفسكم فكيف ترضونها لربكم «إِنْ هِيَ» ما الأصنام المذكورة بشيء البتة «إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» عفوا من تلقاه أنفسكم ودعيتموها آلهة افتراء على الله وهي ليست بشيء يستحق الذكر «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» حجة أو برهان بما تزعمون من آلهيتها «إِنْ» ما «يَتَّبِعُونَ» في ذلك الاتخاذ «إِلَّا الظَّنَّ» والوهم الذي لا حقيقة له «و» ما يتبعون في ذلك الا «ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» وتزينه لهم وتشهيهم بعبادة الأوثان وأتباع الشيطان «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ٢٣» بكتابه المنزل على رسوله بأن الأصنام ليست بآلهة ولا أهلا للعبادة وأن العبادة لا تكون الا الله الذي يخذل من يعبد غيره، ويقهر من يكذب آياته فلم يرتدعوا ولم ينتهوا عن ذلك، قال تعالى منّددا صنيعهم ذلك بقوله «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى ٢٤» استفهام على طريق الإنكار أي أيظن الكافر ان له ما يتمناه ويشتهيه من كل ما يصوره عقله، كلا ليس له ذلك بل لا يكون الا ما يريده الله «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ٢٥» كليهما وما فيهما ولا يقع فيهما إلا ما يشاء الله ليس لأحد فيها دخل ولا شيء البتة، ثم قال ردا على ما يزعمون من شفاعته أصنامهم «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً» لأحد ما لأنهم لا يشفعون «إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ» الشفاعة له ومن يؤهله للتشفع «وَيَرْضى ٢٦» له أن يكون شافعا فكيف إذن تشفع أصنامهم لهم وهم ليسوا بشيء «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» ويجحدون كونها ووجودها «لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ٢٧» بقولهم أنهم بنات الله ولم يقل تسمية الإناث لأن المراد الجنس وهو أليق لمناسبة رؤس الآي وما يسمونه بالروى في النظم «وَما لَهُمْ بِهِ» أي الذين يقولونه «مِنْ عِلْمٍ» يحتجون به في تلك التسمية والعبادة «إِنْ» ما «يَتَّبِعُونَ» في عبادتهم وتسميتهم «إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ٢٨» أبدا لأنه ناشىء عن التقليد والوهم والتخمين، والشيء
198
لا تدرك حقيقته إلا باليقين، فاذا كان هذا مبلغ علمم «فَأَعْرِضْ» أترك يا حبيبي وصدّ «عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا» الذي أنزلناه عليك لانهم أعرضوا عنه وتولوا عن الايمان به «وَلَمْ يُرِدْ» كل منهم «إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ٢٩» لإنها بغيتهم ولا همّ لهم بالآخرة لانهم لم يؤمنوا بها «ذلِكَ» ظنهم واختيارهم هو «مَبْلَغُهُمْ» وغاية مطلبهم ونهاية ما توصلت اليه عقولهم «مِنَ الْعِلْمِ» الذي لا يحيط ببعضه عقلاؤهم لقلة إدراكهم وشدة توغلهم في الدنيا «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» السوي وطريقه المستقيم الذي يجب أن يسلك دون غيره من السبل المضلة «وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ٣٠» اليه فيجازى كلا بعمله
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وما بينهما وما فيهما وما تحتهما وفوقهما ملكا وعبيدا. وهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين قوله «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا»
من السوء «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ٣١» أي الجزاء الحسن وفي الجنة أيضا لقاء عملهم الحسن، لأن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار إلا ليكافيء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر:
وهذه الآية المدنية المستثناة في هذه السورة قال تعالى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ» منها المستوجبة للحد الشرعي (إلا اللّمم) صغائر الذنوب، وهذا استثناء منطقع، لأن اللّمم ليس من الكبائر والفواحش، فهو كالقبلة والنظرة والغمزة والشتم بغير اذن وما ضاهى ذلك، وسبب نزولها قول المشركين ان المسلمين بالأمس كانوا يعملون ما نعمل والآن يعيبوننا به. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال ما رأيت أشبه باللمم مما قال ابو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج، يصدق ذلك أو يكذبه.
ولمسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل
199
زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه. فهذه الأولى كلها لمم، والأخير من الكبائر والفواحش، فالكبيرة كل شيء نهى الله ورسوله عنه أو أوعد عليه بنار أو غضب أو عذاب أو عقاب أو لعنة أو حد، والصغيرة كل ما لم يذكر الله ورسوله عليه حدّا في الدنيا أو عذابا في الآخرة فيدخل في الكبائر، من غيّر معالم الأرض ومن تزوج امرأة للتحليل، والواشمة والموشومة وكل ما اقترن بلعن من حضرة الرسول كمن أمسك امرأة محصنة ليزني بها غيره، أو قادها للزنى أو أمسك مسلما لمن يقتله، ومن دل الكفار على عورة المسلمين وفضح لهم عددهم وعددهم ومن كذب على إنسان كذبة أدت إلى قتله أو تعطيل عضو منه أو تعذيبه، لأن حد الكبيرة كل شيء كبر وعظم مما يعد ذنبا وكان فعله قصدا، فدلالة المسلم الكفار على مواقع المسلمين مع علمه أنهم سيستأصلونهم أعظم من الفرار عند الزحف، والكذب الموجب للقتل وأخذ المرأة للزنا والمسلم للقتل اكبر من أكل الربى وأكل مال اليتيم وشرب الخمر المعدودة من الكبائر المترتب عليها حد شرعي، وليعلم أن اكبر الكبائر الشرك بالله ثم القتل بغير حق ثم الزنا واللواط ثم شهادة الزور ثم السحر ثم قذف المحصنات ثم عقوق الوالدين، إذ عدها رسول الله من الموبقات أي المهلكات ثم كل ما يدخل تحت الحد وما اقترن باللعن إلخ ما تقدم، والصغيرة ما سوى ذلك على أنها إذا فعلت تهاونا واستخفافا أو اعتيد على ارتكابها جرأة تنقلب كبيرة، ولهذا أبلغوا عدد الكبائر إلى سبعين وبعضهم إلى سبعمائة كما في كتاب الزواجر المستقصى لأنواعها فراجعه، وعلى هذا إذا لم تقترن الفعلة بشيء مما ذكر من الوعيد وغيره وما يقع من فلتات اللسان وشهوات النفس في غير ما نصّ عليه وما ينشيء من فترة مراقبة التقوى فليس من الكبائر بل من الصغائر وهي أقرب للمغفرة ويوشك أن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة، وقد يغفرها الله عفوا نكرما منه ويكاد أن يجعلها حسنات إذا اقترنت بالندم والاستغفار راجع الآية ٧١ من سورة الفرقان الآتية وكذلك الكبائر إذا أعقبها بتوبة خالصة وعمل صالح من صوم أو صلاة أو صدقة فيوشك أن يقلبها الله له صغائر ويغفرها
200
أما ما يتعلق فيه حق الغير من الكبائر والصغائر فلا بد من إرجاع ما أخذ لأهله وإرضائه واستعفائه، وإن لم يقدر على شيء من ذلك فيعود إلى مشيئة الله ويسعها قوله «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» لمن تاب وأتاب وحسنت نيته وقد يغفر بدون شيء من ذلك لمن شاء عدا الشرك راجع الآية ٤٨ من سورة النساء في ج ٣ وإذا أراد أن يطمئن على نفسه من عذاب الله وقبول توبته فليجتهد برد المظالم لأهلها أو ورثتهم أو يتصدق بها على الفقراء وينوي ثوابها إليهم، هذا والله تعالى «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ» أيها المؤمنون وأعلم بما تفعلونه قبل خلقكم «إِذْ أَنْشَأَكُمْ» براكم من النطفة وخلق أباكم آدم «مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ» أي وهو أعلم بأحوالكم حالة كونكم «أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» وما أنتم صائرون اليه بعد فاعملوا خيرا لدينكم ودنياكم وآخرتكم «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» وتمدحوها بالطهارة من الذنوب فانه يعلم كل نفس وما هي صائرة اليه وما تصنعه في الدنيا وما تناله في الآخرة، فلا تفضلوا أنفسكم على غيركم في الحالة التي أنتم فيها لأنكم لا تعلمون العاقبة والله وحده «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ٣٢» منكم ومن أذنب فأكتفوا بعلمه عن علم الناس وجزائه عن جزائهم وثنائه عن ثنائهم. روى البخاري ومسلم عن خارجة بن زمعة بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار كانت بايعت النبي صلّى الله عليه وسلم وأخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا ابن صفعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي غسل وكفن في أثوابه وصلى عليه رسول الله، فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك قد أكرمك الله فقال صلّى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول
الله فمن يكرمه الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين والله اني لارجو له الخير، والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي. قالت فو الله لا أزكى بعده أحدا قالت: ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله فذكرت له ذلك، فقال: ذلك عمله وهذه الآية نزلت في أناس من المدينة يعملون أعمالا حسنة ثم يتبرمون بها، وهي عامة في كل من يتصف بذلك، هذا وقد سبق أن بينا أن الآيات
201
المستثناة من السور إذا طويتها وقرأت ما بعدها تبعا لما قبلها يستقيم المعنى والنظم وهذه كذلك، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه إسقاط حرف واحد من القرآن أو تغيره عن محله، حتى ان العلماء كرّهت ان يقرأ المصلي آية أو سورة ثم يترك التي تليها ويقرأ ما بعدها، كما كرهوا أن يقرأ القرآن على عكس ترتيبه قال تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ» يا أكمل الرسل هذا «الَّذِي تَوَلَّى ٣٣» عن الإيمان وعاد الى الكفر «وَأَعْطى قَلِيلًا» مما تعهد به الى من أغواه «وَأَكْدى ٣٤» قطع عطاءه وبخل بما وعد به وأصل الكدي من الكدية وهي حجر يظهر في البئر فيمنع من الحفر، نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان اتبع حضرة الرسول فعيره المشركون بقوله تركت دين الأشياخ وضللت قال أني خشيت الله وعذابه قال فأنا أضمن لك إن أعطيتني كذا من المال ورجعت الى دين آبائك فأتحمل عنك عذاب الله فرجع الوليد الى الشرك واعطى الذي عيره وتعهد له بعض الذي ضمنه له من المال ومنعه الباقي ثم وبخه الله بقوله «أَعِنْدَهُ» اي هذا الذي تولى «عِلْمُ الْغَيْبِ» بأن صاحبه يتحمل عنه ما يخافه من عذاب الله يوم القيامة «فَهُوَ يَرى ٣٥» ما خفى عنه وهل يبصر شيئا من الغيب «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ» بخبر «بِما فِي صُحُفِ مُوسى ٣٦» أسفاره وتوراته «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ٣٧» ما أمره به ربه من تبليغ الرسالة وبما فرض عليه فيها من التكاليف التي منها امتثاله الأمر بذبح ولده، قال عطاء بن السائب: عهد ابراهيم على نفسه ان لا يسأل أحدا غير الله فلما قذف في النار قال له جبريل ألك حاجة، قال أما إليك فلا، وفاء بعهده فأنجاه الله ثم أخبر الله عما في صحفهما فقال: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ٣٨» اي لا تحمل نفس غير ذنبها كما لا تعاقب الا عليه راجع تفسير الآية ١٩ من سورة الأعلى المارة والمعنى لم يبلغه ذلك قبلا إذا كان لم يبلغه شيء من هذا المعنى الآن قال ابن عباس: كانوا قبل ابراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره فيقتلونه بأبيه وأخيه وامرأته وعبده وتعلقاته كما يفعل اعراب البادية الآن إذ جرت عادتهم أن يقتلوا الرجل أو أن يسلبوه بقتل او سلب أحد من أقاربه وكانت الجاهلية
202
قبل الإسلام تفعل هذا فما يقع الآن منه فهو من بقايا عوائدهم القبيحة فلا حول ولا قوة الا بالله، فنهاهم الله عن ذلك وبلغهم أمره بأن لا تؤاخذ نفس بدل نفس.
مطلب ما هو موافق من شرع من قبلنا لشرعنا وما هو مخالف، وعوائد الجاهلية:
وعلى هذا شرعنا الذي جاء به رسولنا وهو موافق لشرع جده ابراهيم ومؤيد له وقد مضى على نزول هذه الآية خمس وخمسون سنة وثلاثمائة والف وهي تتلى عليهم ليل نهار ولم يرتدع أولئك الأعراب عن هذه العادة الخبيثة وكان في صحفهما ايضا ما ذكره الله بقوله: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ٣٩» اي لا يثاب الإنسان بعمل غيره له كما لا يعاقب ولا يضاعف له الأجر كأنه محمد بل يعطي له أجره بحسب عمله فقط. وهذا مخالف لشريعتنا التي جاءنا بها محمد صلّى الله عليه وسلم إذ يضاعف لنا الأجر من واحد الى سبعمائة الى ما شاء الله وان سعى الغير لها ينفعها، قال تعالى (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) الآية ٧٤ من الفرقان الآتية وقال (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) الآية ٨٧ من سورة الأنعام من ج ٢، وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية ٢٠ من سورة الطور والآية ٩ من سورة المؤمن من ج ٢ أيضا، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية، ٢ من سورة الرعد في ج ٣، ومن هنا تعلم أن الله تعالى أدخل الأنبياء الجنة بعمل آبائهم الصالحين يؤيده ما ورد عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله ان أمي توفيت أينفعها ان تصدقت عليها قال نعم. وفي رواية ان سعد ابن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه، وأخرجه البخاري وفي هذا البحث أحاديث كثيرة صحيحة سنأتي بها هناك، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بالأحاديث المذكورة أعلاه لا وجه له لان الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في بحث الشيخ في المقدمة وكما سيأتي في تفسير الآية ١٠ من البقرة من ج ٣ ولأن هذه الآية مما قصه الله علينا من شرع من قبلنا وكل ما شرع للأنبياء أن كان موافقا لشرعنا قبلناه، وإلا فنعمل بما هو لدينا، لأن ذلك من خصائصهم والمقدم لا يسري حكمه على المؤخر قال تعالى «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ٤٠» يعرض عليه في الآخرة ويوضع
203
في ميزانه وفي هذه الآية بشارة بأن الله تعالى يري المؤمن أعماله الصالحة ليفرح بها والكافر أعماله الطالحة ليحزن
«ثُمَّ يُجْزاهُ» أي يجزى الإنسان بفعله «الْجَزاءَ الْأَوْفى ٤١» الأتم الأكمل ان خيرا فخير كثير وان شرا فشر مثله، راجع الآية ١٦٠ من سورة الانعام من ج ٢ «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ٤٢» المرجع والمصير بعد هذه الدنيا إذ ينتهي كل شيء يوم القيامة اليه لا لأحد غيره، كما أن الأفكار لا تزال تسير في بدء حقائق الأمور وما هيأتها فتنتقل من بحث إلى بحث ومن برزخ إلى برزخ حتى إذا وصلت الى الله انتهت ووقفت وتعطل سيرها في بحر غيبه، لأن الغيب ما غاب عن الناس وتفرد به ربهم عز وجل إذ لا غيب عليه، ومن قال ان الله لا يعلم الغيب أراد هذا المعنى يعني لا غيب عليه لأن كل شيء عنده معلوم، غير. أنه لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة النفي عليه تعالى وتنزه عنه، حتى ان الإمام الرباني لما عرضت عليه هذه المسألة اغتاظ جدا لما فيها من النقص عليه، تنزه عنه، وعليه فإن من يقدم على هكذا أسئلة فإنه في غاية من الفتنة ونهاية من الجهل، وأفظع من هذا من يقول ان الله لا يقدر على أن يخرجني من ملكه في معرض سماعه ان الله على كل شيء قدير، لأنه وإن كان من حيث المعنى صحيح لأنه أينما قذفته فهو في ملكه، إلا أنه لا يقال لما في ظاهره من إيقاع الشك للجاهل، تدبر، وإياك أن تقدم على مثله.
مطلب في الغيب وأنه قسمان:
واعلم أن الغيب قسمان غيب حقيقي لا يعلمه إلا الله، وغيب اضافي قد يعلمه بعض الخلق بأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقي من رسله فليس لهم كسب فيه لأنه من خصائص النبوة، والنبوة غير مكتسبة لأحد ولو رقى في العلم أعلى رتبة، راجع ص ٤٢١ إلى ص ٤٦٩ من الجزء السابع وص ٥١٣ من الجزء التاسع في تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا المنسوب إلى الإمام محمد عبده. هذا ومن دون الأنبياء خواص قد أوتوا نصيبا من الإشراف على العالم باكتشاف للحجاب وإدراك ما بشيء من تلك
204
الأنوار قال صلّى الله عليه وسلم لو كشف الحجاب وفي رواية الغطاء ما ازددت يقينا، وذلك لأن الله تعالى شرح صدره فكان على نور من ربه بلغ به مقام الاطمئنان، ووقع لمن دونه في العرفان، رواية النور العيني عيانا ورأوا الملائكة، عدا أن جبريل كانت رؤيته في صورة دحية الكلبي ووقع لمن دون الآخرين ممن لهم سلامة فطرة أو معالجة النفس بالرياضة، أو طروء مرض يصرف قوى النفس عن الاهتمام بشهوات الجسد، أو من سلطان إرادة قوية على إرادة ضعيفة تصرفها عن حسها وتوجه قواها النفسية إلى ما شاءت أن تدركه لقوتها الخاصة بها، فقد يكون لبعض هؤلاء في بعض الأحوال من قوّة الروح ما يلمحون به بعض الأشياء أو الأشخاص البعيدة عنهم. وتتمثل لهم بعض الأمور قبل وقوعها في عالم الشهادة، فترتسم بخيالهم فيخبرون بها فنقع كما أخبروا، وقد ثبت هذا وذاك عند بعض الماديين في هذا الزمن مما يسمونه قراءة الأفكار، أو مراسلتها، ومن هذا ما ذكرت جريدة المقطّم في ١ صفر سنة ١٣٥٤ (الموافق مايو سنة ١٩٣٥) عن العرافة (مدام ترفران ليلى) أنّها قالت للوزراء والملوك والرؤساء بأنه سيقتل رئيس جمهورية فرنسا. ويعود كارول ملك رومانيا المنفي إلى بلاده، ويصير أحمد زوغو ملكا على ألبانيا، وبصير انقلاب في ألمانيا، ثم وقع ما قالت على علم من قبل الملأ. هذا وإن الأمور التي تكون على غير السنن المعروفة، والعادات المألوفة الخارقة للعادة، نقلتها جميع الأمم في كل العصور نقلا متواترا جنسا لا نوعا. فهذه ليست كلها خوارق حقيقية لأن منها ماله أسباب مجهولة، ومنها ما هو صناعي بتعليم خاص، ومنها ما هو من خصائص قوى النفس في توجهها لمطالبها. وفي تأثير قوى الإرادة على ضعيفها، ويدخل فيها المكاشفة والتنويم المغناطيسي وشفاء بعض المرضى بالأمراض العصبية التي يؤثر فيها الإعتقاد والوهم وبعض أنواع العمى والفالج. ومنه انخداع البصر بالتخيل الذي يحذقه المشعوذون، ومن هذا سحرة فرعون. ومنه انخداع السمع لمن يدعى استخدام الجن ويسمع الناس أصواتا غريبة، أو يتكلمون في بطونهم. فيظن الناس أنه صوت الجن، وقد انفضح كثير من أمثال هؤلاء بالاطلاع على حيلهم، فهذا كله لا يوثق
205
به، لأنهم لو كانوا صادقين لتنافس فيهم الملوك، ولما كانوا سائلين، راجع المجلد ٢ و ٦ من المنار تجد ما تتبعته وتبتغيه.
واعلم أن الذين يخضعون لهؤلاء الدّجالين ويجهلون ما كشفه العلماء من حيلهم فيسلبون أموالهم، ويهتكون أعراضهم، لا سيما الذين يدعون أنها كرامات وهم مشهورون بالجهل واللهو، والذين يدعون معرفة علم الكيمياء من قلب الصفر ذهبا والرصاص فضة، وغير ذلك من هذه الترهات المنشورة في الغرب أكثر منها في الشرق، فيجب على أولي الأمر تنويرهم وتفهيمهم.
مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها:
أما المشهورون بالصلاح والفقه والعلم فقد تظهر على أيديهم كرامات، لكن لا كسب لهم بها، كما ان المعجزات لا كسب للأنبياء بها، لأنها قد تكون عفوا من الله. والقاعدة أن كل ما جاز أن يكون معجزة للنبي، جاز أن يكون كرامة للولي. ولو كانت بكسب البشر لما خاف موسى من عصاه حينما تحولت حية، تأمل قوله تعالى «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» الآية ١٧ من الأنفال في ج ٣، وقوله تعالى «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» الآية ٩٢ من الإسراء الآتية، وقوله جل قوله (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) الآية ١٠٩ من الانعام في ج ٢، وقد أخبر عمر رضي الله رجل بأنه رأى رجلا يعلم الغيب فقال له: لا يعلم الغيب إلا الله. وقال له: اقبض قبضة من شيء لا تعلم عدده واسأله عنها ليظهر لك كذبه، فذهب اليه وفعل ما أمره به عمر وسأله فلم يعرف عدده ولا نوعه، فرجع إلى عمر وأخبره الخبر فقال له: إذا كنت تعرف شيئا هو راسخ في قلبك، فيمكن أن يعرفه أمثال هؤلاء، إذ يوشك أن ينقله وسواسك إلى وسواسه في قلبه فيخربه. ومن هذا ما يسمونه بقراءة الافكار، ومن أراد أن يطلع على بعض حيل المشعوذين، فليراجع كتاب كشف أسرار المحتالين يجد فيه العجاب طهر الله قلوبنا من الزيغ ووفقنا لمعرفة عيوبنا. قال تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ» العبد بخلق ما يسره ويبهره «وَأَبْكى ٤٣» عبده بخلق ما يسوءه ويحزنه، فأفرح
206
المؤمن في الجنة بثواب عمله الصالح في الدنيا، وأحزن الكافر في النار بعقاب عمله الطالح في الآخرة. روى البخاري ومسلم عن النبي قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فغطّى أصحاب رسول الله وجوههم لهم خنين بكاء مع صوت يخرج من الأنف- «وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ» خلقه في الدنيا بعد انتهاء آجالهم فيها «وَأَحْيا ٤٤» من أماته في الآخرة بعد انقضاء أجلهم في البرزخ. وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه مثل أتى أمر الله بمعنى يأتي وأعقبه بالجملة قبله، لأن الموت يعقبه البكاء، والولادة أي الإحياء يعقبها الضحك، وقيل في هذا المعنى:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا... والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا... في يوم موتك ضاحكا مسرورا
أي عند ربك بما قدمت من عمل صالح، راجع الآية ١١ من سورة غافر في ج ٢. قال تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ» راجع تفسيرها في الآية ٣ من سورة الليل المارة، وكذلك ما يتعلق في قوله: «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ٤٥» المخلوقين «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ٤٦» تقذف وتنصب في الرحم (أما النبات فبالاختلاط والتلقيح... ) وفي هذا تنبيه عظيم على قدرة القادر وعظمها وكمالها، لأن النطفة واحدة ويكون فيها أنثى وذكر بتقديره، وهذا مما لم يصل إليه الفهم ولم يتصوره العقل بعد، لأنهم حتى بعد تكوينه ووجوده في الرحم لم يعرفوا ما في الرحم هل هو ذكر أم أنثى؟ حتى ولا بعد تمام خلقه، لذلك كان في الخمس التي لا يعلمهن على الحقيقة إلا الله «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ٤٧» الإحياء بعد الإماتة للحساب والجزاء كما كان عليه النشأة الأولى للعمل والثواب «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى» عباده من الذهب والفضة والجواهر، وصنوف الأموال، وإضراب الأعيان، مما يدخر ومما لا «وَأَقْنى ٤٨» خلقه المذكورين من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير والبغال وسائر أصناف النعم والمواشي «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ٤٩» هي نجمتان الأولى شامية والأخرى يمانية وتفصل بينهما المجرة، فالأول كوكب يضيء خلف الجوزاء
207
ويسمى العبور، والأخرى كوكب في ذراع الأسد المبسوط وتسمى العميصاء وهي أخفى من العبور، وسميت عبورا بفتح العين لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا، وكانت خزاعة تعبدها، وأول من سنّ لهم عبادتها شريفهم أبو كبشة لأن سيرها يخالف سير النجوم لأنها تقطع السماء طولا والنجوم عرضا فأخبرهم الله بأنه هو رب معبودهم، ولذلك لقب أبو جهل غضب الله عليه حضرة الرسول صلوات الله عليه بابن أبي كبشة، لأنه جاءهم على ما يزعم بدين على خلاف دينهم الذي اعتادت العرب عليه تشبها له به في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة، وإنما خص الله تعالى الشعرى بالذكر دون غيرها لهذا السبب. ويقول الفلكيون بأنها أعظم من الشمس بملايين وان نورها لا يصل إلى الأرض إلا بمدة اثنتين وعشرين سنة بيد أن نور الشمس يصل إلى الأرض في بضع دقائق ولا يخفى أن هذا من قبيل الظن لأن مبنى مذهبهم في تقدير النجوم وسيره على الحدس إذ غاية ما يعتمدون عليه المكبرات والقياس ولا يخلوان من خطأ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ٥٠) هم قوم هود عليه السلام وهم أول الخلق هلاكا بريح صرصر بعد قوم نوح عليه السلام وصار لهم عقب فسموا عادا الأخرى أهلكهم الله أيضا راجع تفسير الآية ٦ من سورة الفجر المارة تجد قصتهم مفصلة (وثمود) قوم صالح عليه السلام أهلكهم بالصيحة
«فَما أَبْقى ٥١» منهم أحدا «وَقَوْمَ نُوحٍ» أهلكهم بالغرق من قبل عاد وثمود «إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ٥٢» ممن تقدمهم من الأمم إذ بقي يدعوهم إلى الله تسعماية وخمسين سنة وهم مكبون على الطغيان لا يصغون لما اليه يدعوهم من الإيمان «وَالْمُؤْتَفِكَةَ» قرى قوم لوط عليه السلام «أَهْوى ٥٣» أسقطها بعد أن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء «فَغَشَّاها» من البلاء العظيم «ما غَشَّى ٥٤» منه فيه تهويل وتفظيع للعذاب الذي صبه عليهم فكأنه ألبسها إلباسا راجع قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم في تفسير الآية ٥٨ فما بعدها من سورة الأعراف الآتية، وفي الآية ٤٤ فما بعدها من سورة هود في ج ٢، قال تعالى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ» أيها الإنسان «تَتَمارى ٥٥» تشك وتكذب لأنها نعم عظيمه لا تستطيع حصرها قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لا تُحْصُوها)
الآية ٣٤ من سورة ابراهيم من ج ٢، فيا أيها الناس «هذا» نبيكم محمد «نَذِيرٌ» لكم بهذا القرآن «مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ٥٤» الذين أرسلوا الى أقوامهم لينذروهم بما أوحى إليهم ربهم من الشرائع فعليكم أن تطيعوه وتؤمنوا به ولا تتوانوا إذ «أَزِفَتِ» قربت الساعة «الْآزِفَةُ ٥٧» أي القيامة الموصوفة بالقرب وانها إذ حضرت «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ ٥٨» أي الحالة التي تقع فيها على الناس لا يقدر أن يزيلها عنهم أحد الا الله إذ كل نفس عاجزة عن ازاحة ما يصيبها ولا يعلم وقتها إلا الله، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان من ج ٢، قال تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) الآية ١٥٦ من الأعراف الآتية «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» القرآن القديم المحدث نزوله عليكم في علم الله الأزلى «تَعْجَبُونَ ٥٩» أيها الناس وتنكرون حقيقته «وَتَضْحَكُونَ» منه استهزاء به وبمن أنزل عليه «وَلا تَبْكُونَ ٦٠» خشوعا وخوفا من منزله وتعرضون عما فيه من الوعيد
«وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ٦١» غافلون لا هون بما لديكم من الدنيا معرضون عن الآخرة. والسمود بلغة اليمن الغناء وفي اللغة رفع الرأس يقال سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في السير والسامد اللاهي، أي وأنتم لاهون عنه بالغناء غافلون عن سماعه بلعبكم، فتيقظوا أيها الناس وإذا آمنتم به «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» شكرا على إرسال واحد منكم من قبل ربكم لإرشادكم وهدايتكم لسبيله «وَاعْبُدُوا ٦٢» الله وحده ولا تشركوا به شيئا مما يعبده المشركون الضالون المهلكون.
مطلب في السجود وقصة الغرانيق:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قرأ سورة النجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش (هو أمية بن خلف) أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه الى جبهته وقال يكفي هذا، قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وروى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. والحكم الشرعي سجود التلاوة واجب عند الحنفية استدلالا بهذين الحديثين لأن الأمر في هذه الآية للوجوب وبه ت (١٤)
209
قال سفيان الثوري. وقال الشافعي وأحمد ومالك سنة استنادا لما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت قال: قرأت على رسول الله والنجم فلم يسجد فيها. وهذا لا ينفي الوجوب لأنه عبارة عن واقعة حال إذ يجوز ترك السجود لوقوع القراءة في وقت مكروه أو على غير وضوء لأنهم كانوا يقرأون القرآن عن ظهر الغيب لا بالمصاحف تلقيا وحفظا من رسول الله أو أن الرسول لم يسجد ليبين للناس أن السجود غير واجب على الفور، وهذا محمل حديث عمر المروي في الموطأ من أنه رضي الله عنه قرأ سجدة وهو على المنبر فلما نزل سجد وسجد معه الناس ثم قرأها في جمعة أخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا ان نشاء، فلم يسجد، ومعنى هذا أن الله لم يفترضها كالصلوات الخمس ولم يوجبها حالة قراءتها ولو أوجبها حالا لما جاز أن يقرأها أحد عن ظهر غيب إلا وهو متوضئ. هذا، ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع ص ٤١٤ من الجزء الأول من الهداية. والسبب في سجود المشركين أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يرتل القرآن ويفصل الآي أي يسكت سكتة خفيفة بين الآيتين، ولما قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلخ بمحضر المسلمين وقريش، ترصد الشيطان تلك السكتة فدسّ فيها ما اختلقه وهو جملة (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى) محاكيا بها صوت النبي صلّى الله عليه وسلم فسمعه ممن دنا من الكفار فظنوها من الرسول ورأوه قد سجد هو ومن معه من المؤمنين فسجدوا معه، سرورا بذكر آلهتهم وشاع الخبر في الآفاق حتى ان المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة أوائل سنة خمس من البعثة سنة نزول هذه السورة عادوا فرأوا الأمر على خلاف ما سمعوا فمنهم من دخل بجيرة غيره ومنهم من اختبأ ومنهم من عاد لهجرته، ولما عرف رسول الله ذلك حزن وضاق، فأنزل الله عليه مساء ذلك اليوم تسلية له وتعزية عما لحقه من الأسف قوله جل قوله «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» الآية ٥٢ فما بعدها الى ٥٥ من سورة الحج من ج ٣، ومعنى تمنى قرأ، قال حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنهما حين قتل وهو يقرأ:
210
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال غيره:
تمنى كتاب الله أول ليلة تمني داود الزبور على رسل
ومعنى «فِي أُمْنِيَّتِهِ» قراءته كما سيأتي في تفسير تلك الآيات في محلها ان شاء الله، ولهذا ظن بعض المفسرين أن سورة الحج مكية والحال أنها مدنية عدا هذه الآيات، ولما تحقق عند حضرة الرسول ذلك أخبر المسلمين وقريشا بأن تلك الكلمات من الشيطان القاها أثناء سكوته بين الآيتين، أما من قال ان تلك الكلمات صدرت عن حضرة الرسول فقد أخطأ وزاغ، لأنه إذا قال تكلم بها عمدا فقد كفر لأنه يعد مادحا للأصنام التي ذمها الله وبعثه لأجل تحطيمها ومنع الناس من عبادتها فكيف يتصور منه مدحها؟ وإذا قال أجراها على لسانه سهوا أو غفلة فمردود لأنه لا يجوز وجود الغفلة والسهو حال تبليغ الوحي لأنه يسبب عدم الاعتماد على قوله ولأن الله تعالى وصف القرآن بقوله «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» الآية ٤٢ من سورة فصلت ج ٢ وقال جل شأنه «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» الآية ٩ من سورة الحجر من ج ٢ أيضا فعليه لا يجوز أن يدخل في التزيل شيء من ذلك، وإذا قال ان الشيطان أجرى تلك الكلمات على لسان الرسول جبرا بحيث لا يقدر أن يمتنع منه فهو ممتنع أيضا لأن الشيطان عاجز عن ذلك في حق الغير فكيف في حق الرسول، وقال تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية ٦٥ من سورة الإسراء الآتية وقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية ٤٠ من سورة الصافات الآتية أيضا، إذا لم يبق الا ان حضرة الرسول سكت عند قوله تعالى «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» كما هو شأنه بين الآيات فتكلم الشيطان بتلك الكلمات متصلا بقراءته فوقع عند البعض أن النبي تكلم فيها وهذا معنى الإلقاء في هذه الآية المارة الذكر من سورة الحج، ولا يخفى أن الشيطان كان زمن الرسول ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يظهر بصورة الإنسان ويتكلم ويسمع كلامه كسائر البشر كما هو ثابت في الكتب القديمة وفي حادثة قريش
211
حينما اجتمعوا في دار الندوة للتداول في كيفية التخلص من حضرة الرسول كما سنبينه في تفسير الآية ٤١ من سورة العنكبوت في ج ٢، وفي تفسير الآية ٣٠ من سورة الأنفال ج ٣، وقد ذكر الله عنه بأنه قال يوم بدر لكفار قريش (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إلخ) الآية ٥١ من سورة الأنفال أيضا. وروي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدا قتل، كما سيأتي في الآية ١٢٢ من آل عمران في ج ٣ أيضا.
أما سجود المسلمين فلم يقدح فيهم لأنهم سجدوا مع حضرة الرسول لتحققهم من حاله في ذم الأوثان وأنهم كانوا يحفظون السورة عند تلقيها منه كما أنزلها الله ولم يسمعوا تلك الكلمات لذلك لم يأت ذكرها في الحديثين المارين وأن ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم لما تولى عنه قومه وشق عليه بعدهم تمنى أن يأتيه الله بما يقارب بينه وبينهم حرصا على إيمانهم وأنه لما قرأ سورة والنجم بينهم القى الشيطان على لسانه تلك الكلمات فلا عبرة به حيث رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا لا يعتمد عليه ولم يؤيده أحد من أهل الصحة ولا لسنده ثقة بسند صحيح أو سليم متصل. ومما يدل على توهين هذه الرواية اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها، لأن منهم من قال أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في الصلاة ومنهم من قال أنه كان في نادي قومه وآخر يقول أنه قرأها في حالة سنة من النوم، وغيره يقول أنه حدث بها نفسه، فجرت على لسانه، والبعض قال ان الشيطان قالها على لسانه أو بعض الكفرة تكلم بها أثناء قراءته حتى ظنوها منه، وبعضهم قال انه لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا اقرأتك، مما يدل على تلفيق هذه القصة ولا غرو أن كثيرا من المفسرين والمؤرخين ولعون بنقل كل غريب شاذ، لذلك فانهم ينقلون هذين النوعين بلا ترو لينقل عنهم هكذا مخالفات على حد خالف تعرف.
واعلم أن التمني ينحصر في معنيين لا ثالث لهما بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأخير لا شيء فيه كما علمت، وعلى الأول يكون معنى تمنى خطر بباله وتمنى بقلبه ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة، الا أنه يستحيل وقوعه من النبي في كل ما يتعلق بأمر تبليغ الوحي بدليل ما مر
212
Icon