تفسير سورة النجم

زاد المسير
تفسير سورة سورة النجم من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة النجم وهي مكية بإجماعهم
إلا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلا آية منها، وهي ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ [ النجم : ٣٢ ]، وكذلك قال مقاتل ؛ قال : وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.

سورة النّجم
وهي مكّيّة بإجماعهم، إلّا أنه قد حكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إِلا آية منها، وهي الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ «١» وكذلك قال مقاتل (١٣٥٣) قال: وهذه أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى هذا قسم. وفي المراد بالنجم خمسة أقوال «٢» : أحدها: أنه الثُّريّا، رواه العوفي عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن قتيبة: والعرب تسمي الثريا- وهي ستة أنجُم- نجماً. وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة، وواحد خفي يمتحن به الناسُ أبصارَهم.
والثاني: الرُّجوم من النُّجوم، يعني ما يرمى به الشياطين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه القرآن نزل نجوماً متفرِّقة، قاله عطاء عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد. وقال مجاهد: كان ينزل نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك. والرابع: نجوم السماء كُلِّها، وهو مروي عن مجاهد أيضاً.
والخامس: أنها الزُّهَرةُ: قاله السدي.
فعلى قول من قال: النجم: الثريا، يكون «هوى» بمعنى «غاب» ومن قال: هو الرُّجوم، يكون هُوِيُّها في رمي الشياطين، ومن قال: القرآن، يكون معنى «هوى» : نزل، ومن قال: نجوم السماء كلِّها، ففيه قولان: أحدهما: أن هُوِيَّها أن تغيب. والثاني: أن تنتثر يوم القيامة.
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلَّها بفتح أواخر آياتها. وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر. وقرأ حمزة والكسائي ذلك كلَّه بالإمالة.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وعزاه السيوطي في «الدر» ٦/ ١٥٣ لابن مردويه عن ابن مسعود، وابن مردويه يروي الواهيات والموضوعات.
__________
(١) النجم: ٣٢.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٥٠٤: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد، من أنه عني بالنجم في هذا الموضع: الثريا، وذلك أن العرب تدعوها النجم.
قوله تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ هذا جواب القَسَم والمعنى: ما ضَلَّ عن طريق الهُدى، والمراد به: رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي: ما يتكلَّم بالباطل. وقال أبو عبيدة: «عن) بمعنى الباء.
وذلك أنهم قالوا: إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه. إِنْ هُوَ أي: ما القرآنُ إِلَّا وَحْيٌ من الله يُوحى وهذا ممّا يحتجّ به من لا يجيز للنبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يجتهد، وليس كما ظنُّوا، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي، جاز أن ينسب إلى الوحي.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥ الى ١٨]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل عليه السلام علّم النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة: وأصل هذا من «قُوَى الحَبْل»
وهي طاقاتُه، الواحدة: قُوَّةٌ ذُو مِرَّةٍ أي: ذو قُوَّة، وأصل المِرَّة: الفَتْلُ. قال المفسرون: وكان من قُوَّته أنه قلع قَرْيات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين. قوله تعالى: فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى فيه قولان: أحدهما: فاستوى جبريل، (وهو) يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أُسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله الفرّاء. والثاني:
فاستوى جبريل، و (هو) يعني جبريل. بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية.
(١٣٥٤) لأنه كان يتمثّل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل، وأحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المَشْرِق، فملأ الأفق. فيكون المعنى: فاستوى جبريلُ بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول الزجَّاج. قال مجاهد: والأفق الأعلى: هو مَطْلِع الشمس. وقال غيره: إنما قيل له: «الأعلى» لأنه فوق جانب المَغْرب في صعيد الأرض لا في الهواء.
قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الفراء: المعنى: ثم تَدلَّى فدنا، ولكنه جائز أن تقدِّم أيَّ الفعلين شئتَ إذا كان المعنى فيهما واحداً، فتقول: قد دنا فقَربُ، وقَرُبَ فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «١»، المعنى- والله أعلم-: انشق القمر واقتربت الساعة. قال
ساقه المصنف بمعناه. ورد من حديث مسروق عن عائشة: أخرجه البخاري ٣٢٣٥ ثنا أبي أسامة ثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشرع به. وأخرجه مسلم ١٧٧ ح ٢٩٠ والطبري ٣٢٤٥٠ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٢١ وأبو عوانة ١/ ١٥٥ من طريق أبي أسامة بهذا الإسناد. وأخرجه البخاري ٤٦١٢ و ٤٨٥٥ و ٧٣٨٠ و ٧٥٣١ ومسلم ١٧٧ ح ١٨٩ وأحمد ٦/ ٤٩ وأبو عوانة ١/ ١٥٤ من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به. وأخرجه مسلم ١٧٧ ح ٢٨٧ و ٢٨٨ والترمذي ٣٠٦٨ والنسائي في «التفسير» ٤٢٨ و ٥٥٢ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢٢١- ٢٢٤ وأبو يعلى ٤٩٠٠ وابن حبان ٦٠ والطبري ٣٢٤٧٥ وابن مندة في «الإيمان» ٧٦٣ و ٧٦٦ وأبو عوانة ١/ ١٥٣ و ١٥٤ من طرق عن داود بن أبي هند عن الشعبي به. وأخرجه الترمذي ٣٢٧٨-
__________
(١) القمر: ١.
184
ابن قتيبة، المعنى: تَدلَّى فدنا، لأنه تَدَلَّى للدُّنُوِّ، ودنا بالتَّدلِّي، وقال الزجاج: دنا بمعنى قَرُبَ، وتدلى:
زاد في القُرْب، ومعنى اللفظتين واحد. وقال غيرهم: أصل التَّدَلِّي: النُّزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوُضع موضع القُرْب. وفي المشار إليه بقوله: «ثُمَّ دنا» ثلاثة أقوال «١» : أحدها، أنه الله عزّ وجلّ.
(١٣٥٥) روى البخاري ومسلم في الصحيحين. من حديث شريك بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى.
(١٣٥٦) وروى أبو سلمة عن ابن عباس: «ثم دنا» قال: دنا ربُّه فتدلَّى.
وهذا اختيار مقاتل. قال: دنا الرَّبُّ من محمد ليلةَ أُسْرِي به، فكان منه قابَ قوسين أو أدنى. وقد كشفتُ هذا الوجه في كتاب المُغْني وبيَّنتُ أنه ليس كما يخطُر بالبال من قُرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزَّه عن ذلك. والثاني: أنه محمد دنا من ربِّه، قاله ابن عباس، والقرظي. والثالث: أنه جبريل. ثم في الكلام قولان: أحدهما: دنا جبريلُ بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: دنا جبريلُ من ربّه عزّ وجلّ فكان منه قابَ قوسين أو أدنى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: «فكان قاد قوسين» بالدال.
وقال أبو عبيدة: القابُ والقادُ: القَدْر. وقال ابن فارس: القابُ: القدر. ويقال: بل القاب: ما بين
من طريق مجالد عن الشعبي به. وأخرجه البخاري ٣٢٣٤ من طريق ابن عون عن القاسم عن عائشة به.
وأخرجه ابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢٢٥ من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن مسروق به. وأخرجه أبو عوانة ١/ ١٥٥ من طريق بيان عن قيس عن عائشة به. ولفظ البخاري برقم ٣٢٣٥: عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله: ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، قالت: ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل، وإنما أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدّ الأفق.
شاذ، أخرجه البخاري ٧٥١٧ ومسلم ١٦٢ ح ٢٦٢ كلاهما من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس، وشريك متكلم فيه، وقد تفرد في حديث الإسراء بعشرة أشياء لم يتابع عليها، ومنها هذه العبارة، وهي من منكراته.
انظر ما ذكره الحافظ في «الفتح» ١٣/ ٤٨٠- ٤٨٣.
صحيح. أخرجه مسلم ١٧٦ ح ٢٨٦ والنسائي في «التفسير» ٥٥٥ والطبري ٣٢٤٦٦ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه مسلم ١٧٦ ح ٢٨٥ عن ابن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج به. وأخرجه الترمذي ٣٢٨٠ وابن خزيمة ص ٢٠٠ والطبري ٣٢٤٨٩ وابن حبان ٥٧ والطبراني ١٠٧٢٧ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٩٣٣ من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن ابن عباس.
__________
(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢٩٣: وقوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلّى الله عليه وسلم قاب قوسين أي بقدرهما إذا مدّا. وهو قول عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة. وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربّه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما وحديث شريك عن أنس في حديث الإسراء: «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى» تكلم الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه الآية كانت ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى فهذه ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
185
المَقْبِض والسِّية، ولكل قوس قابان. وقال ابن قتيبة: سِيَة القَوْس: ما عُطِفَ من طَرَفيْها. وفي المراد بالقوسين قولان: أحدهما: أنها القوس التي يُرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قَدْر قوسين، وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوساً واحداً. والثاني: أن القوس: الذراع: فالمعنى: كان بينهما قَدْر ذراعين، حكاه ابن قتيبة وهو قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي. قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قَدْرَ ذراع أو ذراعين.
قوله تعالى: أَدْنى فيه قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل»، قاله مقاتل. والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم، والمعنى: كان على ما تقدِّرونه أنتم قَدْرَ قوسين أو أقلَّ، هذا اختيار الزجّاج.
قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أَوْحى اللهُ إلى محمد كِفاحاً بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج. والثاني: أوحى جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما أَوحى اللهُ إليه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أَوحى اللهُ إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة.
قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: «ما كَذَّب» بتشديد الذّال، وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدَّد أراد: ما أَنكر فؤادُه ما رأته عينُه ومن خفَّف أراد: ما أوهمه فؤادُه أنه رأى، ولم ير بل صَدَّقَ الفؤاد رؤيته. وفي الذي رأى قولان «١» : أحدهما: أنه رأى ربّه عزّ وجلّ، قاله ابن عباس وأنس والحسن وعكرمة. والثاني: أنه رأى جبريلَ في صورته التي خُلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة. قوله تعالى: أَفَتُمارُونَهُ قرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف ويعقوب: «أفَتمْروُنه». قال ابن قتيبة: معنى «أفَتُماروُنه» : أفتُجادِلونه، مِن المِراء، ومعنى «أفتَمْرُونه» :
أفَتَجْحدونه. قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قال الزجّاج: أي رآه مَرَّةً أُخرى. قال ابن عباس: رأى محمدٌ ربَّه وبيان هذا أنه تردَّد لأجل الصلوات مراراً، فرأى ربَّه في بعض تلك المرّات مَرَّةً أُخرى. قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلَّمه موسى مرتين.
(١٣٥٧) وقد روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضاً، رآه على صورته التي خُلق عليها. فأمّا سِدْرة المُنتهى فالسِّدْرة: شجرة النَّبِق.
(١٣٥٨) وقد صح في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر، ووَرَقُها مثل آذان الفيلة». وفي مكانها قولان:
حديث صحيح. أخرجه البخاري ٤٨٥٦ ومسلم ١٧٤ ح ٢٨١ والترمذي ٣٢٧٧ والنسائي في «التفسير» ٥٥٤ و ٥٦٠ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٢٠ و ٢٠٣ وأبو عوانة ١/ ١٥٣ من طرق عن الشيباني به. وأخرجه الترمذي ٣٢٨٣ وابن خزيمة ص ٢٠٤ والحاكم ٢/ ٤٦٨- ٤٦٩ وابن حبان ٥٩ وأحمد ١/ ٤٩٤ و ٤١٨ من طرق عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
صحيح. أخرجه البخاري ٧٥١٧ ومسلم ١٦٢ ح ٢٦٢ وقد تقدم في سورة الإسراء.
__________
(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢٩٥: رواية إطلاق الرؤية عن ابن عباس محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم.
186
(١٣٥٩) أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة. قال مقاتل: وهي عن يمين العرش.
(١٣٦٠) والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود، وبه قال الضحاك.
قال المفسرون: وإنما سُمِّيتْ سِدْرة المُنتهى، لأنه إليها مُنتهى ما يُصْعَد به من الأرض، فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهبْطَ به من فوقها فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي عِلْم جميع الملائكة.
قوله تعالى: عِنْدَها وقرأ معاذ القارئ وابن يعمر وأبو نهيك: «عِنْدَهُ» بهاءٍ مرفوعة على ضمير مذكَّر جَنَّةُ الْمَأْوى قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن: هي التي يصير إليها أهل الجنة. وقال مقاتل: هي جَنَّة إليها تأوي أرواح الشهداء. وقرأ سعيد بن المسيّب والشعبي وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو العالية: «جَنَّهُ المأوى» بهاءٍ صحيحة مرفوعة. قال ثعلب:
يريدون أَجنَّهُ، وهي شاذَّة. وقيل: معنى «عندها» : أدركه المبيت يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى.
(١٣٦١) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: غَشِيَها فَراشٌ مِنْ ذهب.
(١٣٦٢) وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها، تغيَّرتْ، فما أحدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يستطيع أن يَصِفها مِنْ حُسْنها». وقال الحسن ومقاتل: تَغْشاها الملائكةُ أمثالَ الغِرْبان حين يَقَعْنَ على الشجرة. وقال الضحاك: غَشِيها نور ربِّ العالمين.
قوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما عدل بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يميناً ولا شِمالاً وَما طَغى أي ما زاد ولا جاوز ما رأى: وهذا وصف أدبه صلّى الله عليه وسلم في ذلك المقام. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى فيه قولان «١» :
أحدهما: لقد رأى من آياتِ ربِّه العِظامِ. والثاني: لقد رأى من آيات ربِّه الآية الكُبرى. وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سَدَّ الأفق، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد. والثالث:
أنه رأى من أعلام ربِّه وأدلَّته الأعلامَ والأدلةَ الكبرى، قاله ابن جرير.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٧ ومسلم ١/ ١٤٩ والطبري ٣٢٢٨٧ عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعا، وفي أثناء حديث الإسراء المطوّل وتقدّم في أول سورة الإسراء.
صحيح. أخرجه مسلم ١٧٣ من حديث ابن مسعود.
صحيح. أخرجه مسلم ١٧٣ من حديث ابن مسعود.
انظر الحديث المتقدم ١٣٥٩.
__________
(١) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢٩٨ وقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى كقوله: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا أي:
الدالة على قدرتنا وعظمتنا. وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع، لأنه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس.
187
قال الزجاج: فلمّا قَصَّ اللهُ تعالى هذه الأقاصيص قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى المعنى: أخبِرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القُدرة والعظمة التي وُصف بها ربُّ العِزَّة شيءٌ؟!. فأمّا «اللاّت» فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وهو اسم صنم كان لثقيف اتَّخذوه مِن دون الله، وكانوا يَشتقُّون لأصنامهم من أسماء الله تعالى فقالوا من «الله» : اللات: ومن «العزيز» : العُزَّى. قال أبو سليمان الخطابي: كان المشركون يتعاطَون «الله» اسماً لبعض أصنامهم، فصرفه الله إلى اللاّت صيانةً لهذا الاسم وذَبّاً عنه. وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك وابن السميفع ومجاهد وابن يعمر والأعمش، وورش عن يعقوب: «اللاتّ» بتشديد التاء ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق للحاجّ، فلمّا مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الزجاج: زعموا أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمّي الصّنم: اللّات. وكان الكسائيّ يقف عليها بالهاء، فيقول: «اللّاه» وهذا قياس، والأجود الوقف بالتاء، لاتباع المصحف. وأما «العُزَّى» ففيها قولان: أحدهما: أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، قاله مجاهد. والثاني: صنم لهم، قاله الضحاك.
قال: وأمّا «مَناةَ» فهو صنم لهُذَيل وخُزاعة يعبُده أهلُ مكة. وقال قتادة: بل كانت للأنصار. وقال أبو عبيدة: كانت اللاّت والعُزَّى ومَناة أصناماً من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ ابن كثير:
«ومَناءَةَ» ممدودة مهموزة. فأمّا قوله: الثَّالِثَةَ فانه نعت ل «مَناة»، هي ثالثة الصنمين في الذِّكر، و «الأُخرى» نعت لها. قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأُخرى، وإنما الأُخرى نعت للثانية فيكون في المعنى وجهان: أحدهما: أن ذلك لِوِفاق رؤوس الآية، كقوله مَآرِبُ أُخْرى «١» ولم يقل، أُخَر، قاله الخليل. والثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: أفرأيتم اللاّت والعُزَّى الأخرى ومَناة الثالثة، قاله الحسين بن الفضل.
قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ قال ابن السائب: إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة: بناتُ الله، وكان الرجُل منهم إذا بُشِّر بالأُنثى كرِه، فقال الله تعالى مُنْكِراً عليهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟
يعني الأصنام وهي إناث في أسمائها. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي: «ضِيزى» بكسر الضاد من غير همز وافقهم ابن كثير في كسر الضاد لكنه همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب ومعاذ القارئ: «ضَيْزى» بفتح الضاد من غير همز. قال الزجاج: الضِّيزى في كلام العرب: الناقصةُ الجائرة، يقال: ضازه يَضِيزُه: إذا نقصه حَقَّه، ويقال: ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز. وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى: ضُوزًى، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى، لتَسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبِيْض، وأصله: بُوضٌ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة. وقرأت على بعض العلماء باللُّغة: في «ضيزى» لغات يقال: ضِيزَى وضُوزَى وضُؤْزَى وضأزى على «فعلى» مفتوحة ولا يجوز
(١) طه: ١٨.
188
في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة وإنما لم يقُل النحويُّون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح، نحو سَكُرَى وغَضْبى، أو بالضم نحو حُبْلى وفُضْلى.
قوله تعالى: إِنْ هِيَ يعني الأوثان إِلَّا أَسْماءٌ والمعنى: إن هذه الأوثان التي سمَّوها بهذه الأسامي لا معنى تحتها، لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي تسميات أُلقيت على جمادات، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: لم يُنزل كتاباً فيه حُجّة بما يقولون: إِنها آلهة. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ في أنها آلهة إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهو ما زيَّن لهم الشيطان، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وهو البيان بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وُضوح البيان. ثم أنكر عليهم تَمنِّيهم شفاعتَها فقال: أَمْ لِلْإِنْسانِ يعني الكافر ما تَمَنَّى من شفاعة الأصنام فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي لا يَملك فيهما أحد شيئاً إلاّ بإذنه، ثم أكَّد هذا بقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً فجمع في الكناية، لأن معنى الكلام الجمع إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى والمعنى أنهم لا يَشفعون إلاّ لِمن رضي الله عنهم.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وذلك حين زعموا أنها بنات الله، وَما لَهُمْ بذلك مِنْ عِلْمٍ أي ما يَستيقِنون أنها إناث إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يقوم مقامَ العِلْم فالحقُّ هاهنا بمعنى العِلْم. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن، وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال الزجّاج: إنَّما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة. قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية: والمعنى أنه عالِمٌ بالفريقين فيجازيهم.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا إِخبار عن قُدرته وسَعَة مُلكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا لأن اللام في «ليجزي» متعلقة بمعنى الآية الأولى، لأنه إِذا كان أعلم بهما جازى كُلاًّ بما يستحقُّه، وهذه لام العاقبة، وذلك أن عِلْمه بالفريقين أدَّى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإِنما يَقْدِر على مُجازاة الفريقين إذا كان واسع المُلك، فلذلك أخبر به في قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قال المفسرون: و «أساؤوا» بمعنى أشركوا، و «أحسنوا»
189
بمعنى وحَّدوا. والحُسنى: الجنَّة. والكبائر مذكورة في سورة النساء «١». وقيل: كبائر الإثم. كُلُّ ذَنْب خُتم بالنّار، والفواحش كُلُّ ذَنْب فيه الحدّ. وقرأ حمزة والكسائي والمفضل وخلف: «يَجْتَنِبون كبِيرَ الإثم» واللَّمم في كلام العرب: المُقارَبة للشيء. وفي المراد به هاهنا ستة أقوال: أحدها: ما أَلمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية، فإنه يُغْفَر في الإسلام، قاله زيد بن ثابت. والثاني: أن يُلِمَّ بالذَّنْب مَرَّةً ثم يتوب ولا يعود، قاله ابن عباس والحسن والسدي. والثالث: أنه صِغار الذُّنوب، كالنَّظرة والقُبلة وما كان دون الزِّنا، قاله ابن مسعود وأبو هريرة والشعبي ومسروق.
(١٣٦٣) ويؤيِّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا، فزِنا العينين النَّظر، وزِنا اللسان النُّطق، والنفس تشتهي وتتمنَّى، ويصدِّق ذلك ويكذِّبه الفَرْج»، فإن تقدَّم بفَرْجه كان الزِّنا، وإلا فهو اللَّمم.
والرابع: أنه ما يَهُمُّ به الإنسان، قاله محمّد ابن الحنفية. والخامس: أنه ألَّم بالقلب، أي: خَطَر، قاله سعيد بن المسيّب. والسادس: أنه النَّظر من غير تعمُّد، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين الأولين يكون الاستثناء من الجنس، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس..
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس: لِمَن فعل ذلك ثم تاب. وهاهنا تمَّ الكلام.
ثم قال: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ يعني قبل خَلْقكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني آدم عليه السلام وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جَنِين والمعنى أنه عَلِم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون، فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا تَشهدوا لها أنَّها زكيَّة بريئة من المعاصي. وقيل: لا تمدحوها بحُسن أعمالها. وفي سبب نزول هذه الآية قولان:
(١٣٦٤) أحدهما: أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبيّ، قالوا: صِدِّيق، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي الله عنها.
والثاني: أن ناساً من المسلمين قالوا: قد صليَّنا وصُمنا وفعلنا، يُزَكُّون أنفُسَهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «٢».
قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عمل حسنة وارعوى عن معصية، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أخلص العمل لله، قاله الحسن. الثالث: اتّقى الشّرك فآمن، قاله الثّعلبي.
صحيح. أخرجه البخاري ٦٦١٢ عن محمود بن غيلان به. وأخرجه البخاري بإثر ٦٢٤٣ ومسلم ٢٦٥٧ ح ٢٠ وأحمد ٢/ ٢٧٦ وابن حبان ٤٤٢٠ والبيهقي ٧/ ٨٩ و ١٠/ ١٨٥ والواحدي ٤/ ٢٠١ من طريق عبد الرزاق به.
لم أره من حديث عائشة مسندا. وورد هنا حديث ثابت بن الحارث الأنصاري، وهو ضعيف. أخرجه الواحدي ٧٧٠ والطبراني ٢/ ٨١ عن ثابت بن الحارث الأنصاري مرفوعا وفيه ابن لهيعة ضعيف الحديث، والسورة مكية ومجادلات اليهود كانت في المدينة، وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٣٧٣ و «تفسير القرطبي» ٥٧١٦ بتخريجنا.
__________
(١) النساء: ٣١.
(٢) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فخبره لا شيء.
190

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٤١]

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(١٣٦٥) أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد تَبِع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على دينه، فعيَّره بعضُ المشركين، وقال: تركتَ دين الأشياخ وضللَّتَهم؟ قال: إنِّي خشيتُ عذابَ الله، فضَمِن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجَع إلى شِركه أن يتحمَّل عنه عذاب الله عزّ وجلّ، ففعل، فأعطاه بعضَ الذي ضَمِن له، ثم بَخِل ومنعه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وابن زيد.
(١٣٦٦) والثاني: أنه النَّضر بن الحارث أعطى بعض فقراء المسلمين خمسَ قلائص حتى ارتدَّ عن إسلامه، وضَمِن له أن يَحْمِل عنه إثمه، قاله الضحاك.
(١٣٦٧) والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: واللهِ ما يأمُرُنا محمدٌ إلاّ بمكارم الأخلاق، قاله محمد بن كعب القرظي.
والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان رَّبما وافق رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض الأُمور، قاله السدي «١».
ومعنى «تَولَّى» : أعرضَ عن الإيمان. وَأَعْطى قَلِيلًا فيه أربعة أقوال: أحدها: أطاع قليلاً ثم عصى. قاله ابن عباس. والثاني: أعطى قليلاً من نَفْسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع. قال مجاهد.
والثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم مَنَع، قاله الضحاك. والرابع: أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة: ومعنى «أَكْدَى» : قَطَع، وهو من كُدْية الرَّكِيَّة، وهي الصَّلابة فيها، وإذا بلغها الحافر يئس من حَفْرها، فقطع الحَفْر، فقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلُغ آخِرَه، أو أعطَى ولم يُتِمَّ:
أَكْدَىَ. قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى فيه قولان: أحدهما: فهو يرى حاله في الآخرة، قاله الفراء، والثاني: فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني التوراة، وَإِبْراهِيمَ أي: وصحف إبراهيم.
(١٣٦٨) وفي حديث أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف، وأنزل
أخرجه الطبري ٣٢٥٩٥ عن مجاهد وبرقم ٣٢٥٩٦ عن ابن زيد، وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٧٢ عن مجاهد وابن زيد بدون إسناد.
عزاه المصنف للضحاك، ولم أقف على إسناده، وهو مرسل، والضحاك ذو مناكير، وهذا منها، وأثر مجاهد المتقدم أصح.
عزاه المصنف للقرظي، وهذا مرسل، فهو واه.
ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان ٣٦١ وأبو نعيم ١/ ١٦٦ من حديث أبي ذر، وإسناده ضعيف جدا، فيه-
__________
(١) عزاه المصنف للسدي، وهذا معضل، فهو واه.
191
على موسى قَبْلَ التَّوراة عشر صحائف».
قوله تعالى: الَّذِي وَفَّى قرأ سعيد بن جبير، وأبو عمران الجوني، وابن السميفع اليماني «وَفَى» بتخفيف الفاء. قال الزجاج: قوله: «وَفَّى» أبلغ من «وَفَى» لأن الذي امتُحن به مِنْ أعظمِ المِحن.
وللمفسرين في الذي وفَّى عشرة أقوال:
(١٣٦٩) أحدها: أنه وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار، رواه أبو أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه وفَّى في كلمات كان يقولها.
(١٣٧٠) روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله الذي وفَّى؟ لأنه كان يقول كلمَّا أصبحَ وكلمَّا أمسى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ «١» وختم الآية.
والثالث: أنه وفَّى الطاعة فيما فعل بابنه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال القرظي. والرابع:
أنه وفَّى ربَّه جميع شرائع الإسلام، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس. والخامس: أنه وفَّى ما أُمر به من تبليغ الرِّسالة، روي عن ابن عباس أيضاً. والسادس: أنه عَمِل بما أُمر به، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: وفَّى ما فُرض عليه. والسابع: أنه وفَّى بتبليغ هذه الآيات، وهي: «ألاّ تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرى» وما بعدها، وهذا مروي عن عكرمة، ومجاهد، والنخعي. والثامن:
وفَّى شأن المناسك، قاله الضحاك. والتاسع: أنه عاهد أن لا يَسأل مخلوقاً شيئاً، فلمّا قُذف في النار قال له جبريل، ألَكَ حاجةٌ؟ فقال: أمّا إليك فلا، فوفَّى بما عاهد، ذكره عطاء بن السّائب. العاشر: أنه أدَّى الأمانة، قاله سفيان بن عيينة.
ثم بيَّن ما في صحفهما فقال: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي: لا تَحْمِل نَفْس حاملةٌ حِْملَ أُخْرى والمعنى: لا تؤخَذ بإثم غيرها. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى قال الزجّاج: هذا في صحفهما أيضاً ومعناه: ليس للإنسان إِلاّ جزاء سعيه، إِن عَمِل خيراً جُزِي عليه خيراً، وإِن عَمِل شَرّاً جزي شَرّاً.
واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال: أحدها: أنها منسوخة بقوله:
إبراهيم بن هشام الغساني، وهو متروك. وتقدم.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٢٦١٨ من طريق الحسن بن عطية عن إسرائيل. وإسناده ضعيف جدا، فيه جعفر بن الزبير متروك، والقاسم يروي مناكير عن أبي أمامة. قال الإمام أحمد: روى علي بن يزيد عن القاسم أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم. وإسرائيل هو ابن يونس السّبيعي، والقاسم هو ابن عبد الرحمن. وقد ضعفه ابن كثير في «التفسير» ٤/ ٢٥٨ والسيوطي في «الدر» ١٨٦.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٢٦١٧ وأحمد ٣/ ٢٣٩ و ٤١٩ والطبراني في «الكبير» ٢٠/ ١٩٢ وابن السني في «اليوم والليلة» ٧٨ من حديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعا، ومداره على زبان بن فائد، وهو ضعيف، وشيخه سهل بن معاذ روى مناكير كثيرة، وهذا منها وقال الهيثمي: في «المجمع» ١٠/ ١٠٧: وفيه ضعفاء وثقوا اه.
__________
(١) الروم: ١٧. [.....]
192
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ «١» فأُدخل الأبناء الجَنَّة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس، ولا يصح، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تُنْسَخ. والثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمَّة فلهم ما سَعَوا وما سعى غيرُهم، قاله عكرمة. واستدلّ بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته:
(١٣٧١) إنَّ أبي مات ولم يحُجَّ، فقال: «حُجِّي عنه».
والثالث: أن المراد بالإنسان هاهنا: الكافر، فأمّا المؤمن، فله ما سعى وما سُعي له، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أنه ليس للإنسان إلاّ ما سعى من طريق العدل، فأمّا مِنْ باب الفضل، فجائز أن يزيده الله عزّ وجلّ ما يشاء، قاله الحسين بن الفضل. والخامس: أن معنى «ما سعى» : ما نوى، قاله أبو بكر الورّاق. والسادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدُّنيا، فيُثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير، ذكره الثعلبي. والسابع: أن اللام بمعنى «على»، فتقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى. والثامن: أنه ليس له إلاّ سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق، وتارة يسعى في خِدمة الدِّين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدِّين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني.
قوله تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى فيه قولان: أحدهما: سوف يُعْلَم، قاله ابن قتيبة. والثاني:
سوف يرى العبدُ سعيَه يومَ القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يُجْزاهُ الهاء عائدة على السعي الْجَزاءَ الْأَوْفى أي: الأكمل الأتمّ.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٢ الى ٥٥]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي: مُنتهى العباد ومَرجِعهُم. قال الزجاج: هذا كُلُّه في صحف إبراهيم وموسى. قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. قالت عائشة:
(١٣٧٢) مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: «لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً، ولبَكَيتم كثيراً»، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فرجع إليهم، فقال «ما خطَوْتُ أربعينَ خطوة حتى أتاني جبريل، فقال: إئت هؤلاء فقُل لهم: إن الله يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبُكاء. وقال مجاهد: أضْحكَ أهلَ الجَنَّة. وأبكى أهل النّار. وقال الضحاك: أضْحَك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر.
هو حديث الخثعمية، خرّجه الشيخان، وتقدم.
ضعيف جدا. أخرجه الواحدي ٧٧٣ من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي الإسناد مجاهيل، ودلال بنت أبي المدلّ والصهباء لم أعثر لهما على ترجمة، والله أعلم، والمتن غريب جدا.
__________
(١) الطور: ٢١.
قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ في الدُّنيا وَأَحْيا للبعث. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ أي: الصِّنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من جميع الحيوانات، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى فيه قولان: أحدهما: إذا تُراق في الرَّحِم، قاله ابن السائب. والثاني: إذا تُخْلق وتُقَدَّر. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وهي الخَلْق الثاني للبعث يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى فيه أربعة أقوال: أحدها: أغنى بالكفاية، قاله ابن عباس. والثاني: بالمعيشة، قاله الضحاك. والثالث: بالأموال، قاله أبو صالح. والرابع: بالقناعة، قاله سفيان. وفي قوله: وَأَقْنى ثلاثة أقوال: أحدها: أرْضى بما أعطى، قاله ابن عباس. والثاني: أخْدم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: جعل للإنسان قِنْيَةً، وهو أصل مال. قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى قال ابن قتيبة: هو الكوكب الذي يطْلُع بعد الجَوْزاء، وكان ناس من العرب يعبُدونها.
قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«عاداً الأولى» منوَّنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو: «عاداً لُولى» موصولة مدغمة. ثم فيهم قولان: أحدهما:
أنهم قوم هود، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى، هذا قول الجمهور. والثاني: أن قوم هود هم عادٌ الأخرى، وهم من أولاد عادٍ الأولى، قاله كعب الأحبار، وقال الزجاج: وفي «الأولى» لغات، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة، والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة، ومن العرب من يقول:
لُولى، يريد: الأُولى، فتطرح الهمزة لتحرّك اللاّم.
قوله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي: مِن قَبْل عادٍ وثمودَ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من غيرهم، لطول دعوة نوح إيّاهم، وعتوّهم. وَالْمُؤْتَفِكَةَ قُرى قوم لوط أَهْوى أي: أسقط، وكان الذي تولَّى ذلك جبريل بعد أن رفعها، وأتبعهم اللهُ بالحجارة، فذلك قوله: فَغَشَّاها أي: ألبسها ما غَشَّى يعني الحجارة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى هذا خطاب للإنسان، لمّا عدَّد اللهُ ما فعله ممّا يَدلُّ على وحدانيَّته قال:
فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّ على وحدانيَّته تتشكَّك؟ وقال ابن عباس: فبأي آلاءِ ربِّك تكذِّب يا وليد، يعني الوليد ابن المغيرة.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٦ الى ٦٢]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠)
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن، نذيرٌ بما أنذرتْ الكتبُ المتقدِّمة، قاله قتادة. والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نذيرٌ بما أنذرتْ به الأنبياءُ، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي: دَنَت القيامة، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ فيه قولان: أحدهما:
إذا غَشِيَت الخَلْقَ شدائدُها وأهوالُها لمْ يَكْشِفها أحد ولم يرُدَّها، قاله عطاء، وقتادة، والضحاك.
والثاني: ليس لعِلْمها كاشف دونَ الله، أي: لا يَعلم عِلْمها إلاّ الله، قاله الفراء، قال: وتأنيث «كاشفة» كقوله: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «١» يريد: مِن بقاءٍ والعافية والباقية والناهية كُلُّه في معنى المصدر.
وقال غيره: تأنيث «كاشفة» على تقدير: «نفس كاشفة».
(١) الحاقة: ٨.
194
قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ قال مقاتل: يعني القرآن تَعْجَبُونَ تكذيباً به وَتَضْحَكُونَ استهزاءً وَلا تَبْكُونَ ممّا فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ فيه خمسة أقوال. أحدها:
لاهون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الفّراء والزجّاج. قال أبو عبيدة: يقال: دَعْ عنك سُمودَك، أي: لَهْوك. والثاني: مُعْرِضون، قاله مجاهد. والثالث: أنه الغِناء، وهي لغة يمانية، يقولون: اسْمُد لنا، أي: تَغَنَّ لنا، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة: هو الغِناء بالحِمْيَريَّة. والرابع: غافلون، قاله قتادة. والخامس: أشِرون بَطِرون، قاله الضحاك.
قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ فيه قولان «١» : أحدهما: أنه سُجود التلاوة، قاله ابن مسعود. والثاني:
سُجود الفرض في الصلاة. قال مقاتل: يعني بقوله: «فاسْجُدوا» : الصلوات الخمس.
وفي قوله: وَاعْبُدُوا قولان: أحدهما: أنه التّوحيد. والثاني: العبادة.
(١) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٤/ ١٧٢: قال علماؤنا رضي الله عنهم: لم يختلف قول مالك إن سجدة النجم ليست من عزائم القرآن، وأما ابن وهب رآها من عزائمه، وكان مالك يسجدها في خاصة نفسه.
وقال أبو حنيفة والشافعي: هي من عزائم السجود، وهو الصحيح.
195
Icon