بسم الله الرحمن الرحيم
٥٣ – سورة النجممكية وآيها اثنتان وستون آية.
روى البخاري١ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :( أول سورة أنزلت فيها سجدة ﴿ والنجم ﴾. قال ؛ فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف ) :. ووقع في رواية غيره، تسمية غير أمية – كما بسطه ابن حجر في ( الفتح )-.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجممكية. وآيها ثنتان وستون آية.
روى البخاريّ «١» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ. قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف
. ووقع في رواية غيره، تسمية غير أمية- كما بسطه ابن حجر في (الفتح) -.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢)وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أي إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو انتثر يوم القيامة. أو انقضّ. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. والخطاب لقريش. أي ما حاد عن الحق، ولا زال عنه. وَما غَوى أي ما صار غويّا، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى. وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغيّ. وذكره ﷺ بعنوان (صاحبهم) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة.
فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣ الى ٤]
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه. وفيه تعريض بهم أيضا إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه.
وجملة (يوحى) صفة مؤكدة ل (وحي) رافعة لاحتمال المجاز، مفيدة للاستمرار
وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقا. واستدل على أن السنن القولية من الوحي، وقوّاه بما في (مراسيل) أبي داود عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله ﷺ بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها، كما يعلمه القرآن، واستدل أيضا على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم. والصواب هو الأول. أعني: كون مرجع الضمير للقرآن، لما ذكرنا، فإنه ردّ لقولهم (افتراه) والقرينة من أكبر المخصصات.
وجلىّ أنه ﷺ كثيرا ما يقول بالرأى في أمور الحرب، وأمور أخرى. فلا بد من التخصيص قطعا، وبأنه لا قوة في المراسيل، لما تقرر في الأصول. وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقا. لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا، لا نطقا عن الهوى. لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه ﷺ (متى ما ظننت كذا فهو حكمي) أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي، فيكون وحيا حقيقة، لاندراجه تحت الإذن المذكور، لأنه من أفراده. فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفيّ المدرك بسرعة، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهاديّ إلا بعموم المجاز. مع أنه يأباه قوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٥]، غير وارد عليه، بعد ما عرفت من تقريره- نقله في (العناية) عن (الكشف) - وتفصيل المسألة في مطولات الأصول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٥]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي علم محمدا ﷺ ملك شديد قواه، يعني جبريل عليه السلام. كما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: ١٩- ٢٠]، والْقُوى جمع قوة، بضم القاف. ومن العرب من يكسرها كالرّشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحبا في جمع حبوة- نقله ابن جرير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٦ الى ٧]
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧)
ذُو مِرَّةٍ بكسر الميم. أي متابة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيّره ونسيانه.
والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي ذُو مِرَّةٍ من (أمررت الحبل) إذا أحكمت فتله فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى قال الزمخشريّ: فاستقام على صورة نفسه الحقيقة، دون الصورة التي كان يتمثل بها، كلما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية.
وقيل: (استوى) بمعنى (استولى) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور- حكاه القاضي-.
قال الشهاب: الأفق الناحية، وجمعه آفاق. والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة. انتهى.
وقال ابن كثير: وقوله تعالى: فَاسْتَوى يعني جبريل عليه السلام- قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد.
ثم قال ابن كثير: وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره، ولا حكاه هو عن أحد. وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى، أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم، بالأفق الأعلى، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى، وذلك ليلة الإسراء- كذا قال- ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال:
وهو كقوله: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا [النمل: ٦٧]، فعطف بالآباء على المكنيّ في كُنَّا من غير إظهار (نحن) فكذلك قوله: فَاسْتَوى وَهُوَ. قال: وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده:
ألم تر أن النّبع يصلب عوده | ولا يستوي والخروع المتقصّف |
أقول: قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية، وعبارته:
فَاسْتَوى فاستقام على صورته الذاتية، والنبيّ بالأفق الأعلى، لأنه حين كون النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ وكان من أحسن الناس صورة، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر، لم يفهم القلب كلامه، ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبيّ ﷺ إلا مرتين: عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي. انتهى.
وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته:
فَاسْتَوى وَهُوَ أي صاحبكم عند استواء نفسه، صار بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الروحانيّ. انتهى.
وكذا الفخر الرازيّ وعبارته:
المشهور أن (هو) ضمير جبريل، وتقديره: استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ، فسدّ المشرق لعظمته. والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم. معناه: استوى بمكان، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان.
فإن قيل: كيف يجوز هذا والله تعالى يقول: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: ٢٣]، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين؟ نقول: وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا هاهنا، أنه ﷺ رأى جبريل بالأفق المبين. يقول القائل: رأيت الهلال، فيقال له: أين رأيته؟ فيقول: فوق السطح. أي: إن الرائي فوق السطح، لا المرئيّ. و (المبين) هو الفارق، من (أبان) أي فرق. أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان، ومنزلة الملك، فإنه ﷺ انتهى، وبلغ الغاية، وصار نبيّا، كما صار بعض الأنبياء نبيّا يأتيه الوحي في نومه، وعلى هيئته، وهو واصل إلى الأفق الأعلى، والأفق الفارق بين المنزلتين.
فإن قيل: الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبيّ ﷺ نفسه على صورته، فسدّ المشرق. فنقول: نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية، حتى يلزم مخالفة الحديث، وإنما نقول إن جبريل أرى النبيّ ﷺ نفسه مرتين، وبسط جناحيه، وقد ستر الجانب الشرقي وسدّه، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك.
انتهى كلام الرازيّ.
وفي القرطبيّ حكاية أقوال أخر، وعبارته:
فَاسْتَوى أي ارتفع جبريل، وعلا إلى مكانه في السماء، بعد أن علّم محمدا صلى الله عليه وسلم- قاله سعيد بن المسيّب وابن جبير-.
وقيل: فَاسْتَوى أي قام وظهر في صورته التي خلق عليها.
وقول ثالث: أن معنى فَاسْتَوى أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام.
الثاني- في صدر محمد ﷺ حين نزل عليه.
وقول رابع: أن معنى فَاسْتَوى فاعتدل. يعني محمدا في قوّته، والثاني في رسالته- ذكره الماورديّ-.
وعلى الأول يكون تمام الكلام ذُو مِرَّةٍ، وعلى الثاني شَدِيدُ الْقُوى.
وقول خامس أن معناه فارتفع، وفيه على هذا وجهان:
أحدهما- أنه جبريل ارتفع إلى مكانه، على ما ذكرناه آنفا.
الثاني- أنه النبيّ ﷺ ارتفع بالمعراج.
وقول سادس: فَاسْتَوى يعني الله عز وجل. أي استوى على العرش- على قول الحسين- انتهى.
هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية.
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
ثُمَّ دَنا أي ثم بعد استوائه، اقترب جبريل من محمد ﷺ فَتَدَلَّى أي إليه.
قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو ثم تدلى فدنا، ولكنه حسن تقديم قوله دَنا إذ كان الدنو يدل على التدلي، والتدلي على الدنو.
كما يقال: زارني فلان فأحسن، وأحسن إليّ فزارني.
وقال الشهاب: التدلي مجاز عن التعلق بالنبيّ بعد الدنو منه، لا بمعنى التنزل من علوّ، كما هو المشهور. أو هو دنوّ بحالة التعلق، فلا قلب ولا تأويل ب (أراد الدنو) - كما في الإيضاح-.
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين. أي بقدرهما إذا مدّا أو أقرب. أو الضمير لجبريل. أي كأن قربه قدر ذلك.
قال الشهاب: وقاب القوس وقيبه: ما بين الوتر ومقبضه. والمراد به المقدار، فإنه يقدّر بالقوس، كالذراع.
وقد قيل: إنه مقلوب، أي قابى قوس، ولا حاجة إليه. فإن هذا إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله. إذا تحالفوا أخرجوا قوسين. ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقا للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معا ويرميان بهما سهما واحدا، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهما رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه- كذا قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين- انتهى.
قال السمين: وقوله تعالى: أَوْ أَدْنى كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:
١٤٧]، لأن المعنى: فكان بأحد هذين المقدارين في رأى الرائي. أي لتقارب ما بينهما، يشك الرائي في ذلك. فهو تمثيل لشدة القرب، وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بأنه في رأى العين، ورأى الواقف عليه، كما مر في أَوْ يَزِيدُونَ فإن المعنى:
إذا رآهم الرائي يقول هم مائة ألف أو يزيدون.
وقيل: (أو) بمعنى (بل) أي بل أدنى.
و (أدنى) أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف. أي: أو أدنى من قاب قوسين. وقوله تعالى:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)
حى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) فَأَوْحى أي جبريل إِلى عَبْدِهِ
أي عبد الله تعالى، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس، وغاية ظهوره. أو: فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه ما أَوْحى
أي مما أمره به. وفيه تفخيم للموحى به، إذ الإبهام يفيد التعظيم، كأنه أعظم من أن يحيط به بيان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ١١]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما كذب فؤاد محمد ﷺ ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه. يعني: أنه رآه بعينه، وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق وقرئ ما كَذَبَ بالتشديد. أي صدقه ولم يشك أنه ملك ربانيّ، لا خيال شيطانيّ، كما قال وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير: ٢٥]. وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما تقدم النقل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ١٢]
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه.
قال القاشانيّ: أي أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور، فلا مخاصمة حقيقة. انتهى. وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبيّ ﷺ وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها، والإذعان لها، لقيام الدليل عليها. وبالجملة، فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئيّ، لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
قال القاضي: ولعلها شبهت بالسدرة، وهي شجرة النبق، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني أن شجر النبق يجتمع الناس في ظله، وهذه يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت (سدرة) لذلك. فإطلاقها عليها بطريق الاستعارة. لكن ورد في الحديث أن كل نبقة فيها كقلة من قلال هجر، فهي على هذا حقيقة، وهو الأظهر- قاله الشهاب-.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي التي يأوي إليها أرواح المقرّبين. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال القاشانيّ: أي من جلال الله وعظمته. معناه أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول الله ﷺ عما رآه. وَما طَغى أي ما تجاوز مرئيّة المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتا مستيقنا صحيحا لا شبهة فيه.
وفيه وصف لأدبه ﷺ وتمكّنه، إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني الملك الذي عاينه وأخبره برسالته. وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبر.
قال الناصر: ويحتمل أن تكون الْكُبْرى صفة لآيات، ويكون المرئيّ محذوفا لتفخيم الأمر وتعظيمه، كأنه قال: لقد رأى من آيات ربّه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف. والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.
تنبيهات:
الأول- قدمنا في تفسير قوله تعالى: فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ما قاله المفسرون من الأقوال العديدة. ولا يخفى ما في بعضها من التكلف والتعسف، كتوجيه ابن جرير والرازيّ ومن وافقهما، وبعض أقوال حكاها القرطبيّ. والأقرب في معنى الآية ما ذكره الإمام ابن كثير، كما نقلناه عنه، لكثرة الأحاديث الواردة فيما يفسرها بذلك ونحن نقول في تأييده إن القرآن يفسر بعضه بعضا، لتشابه آياته الكريمة وتماثلها. والآية هذه مشابهة لما في سورة التكوير تمام المشابهة، فقد قال
أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم، جمّ المناقب، لأنه شديد القوى، ذو مرة، رفيع المكانة بالأفق الأعلى. ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق، ودنا إليه، وكان في غاية القرب منه، والتمكن من رؤيته، وتلقي الوحي عنه، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه. وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة، بل رآه نزلة ثانية، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه، وهو سدرة المنتهى. وبالجملة، فتوافق هذه الآيات لآيات (التكوير) وتفسير بعضها بعضا، أمر لا خفاء به عند المتدبر، وكله رد على المشركين المفترين، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل، وصدق ما يخبر به، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه. فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة، كما أشار له في آخر السورة.
هذا ملخص معنى الآيات، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته. وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد- والله الموفق-.
الثاني- ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى...
إلخ إلى جبريل عليه السلام، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين، وقد أيدناه بما رأيت.
قال الإمام ابن تيمية: الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه- كما قالت عائشة وابن مسعود- والسياق يدل عليه، فإنه قال عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وهو ذو المرة أي القوة، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى، وهو الذي دنا فتدلّى، فكان من محمد ﷺ قدر قوسين
وروى البخاريّ «١» في هذه الآيات عن ابن مسعود قال: رأى جبريل له ستمائة جناح.
وروى الترمذي «٢» عن عائشة رضي الله عنها أنه ﷺ رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق.
وأما ما وقع في
حديث شريك في البخاريّ «٣»
من قوله: (دنا الجبّار رب العزة فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)
، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره، فهو دنو وتدلّ غير ما في سورة النجم، نؤمن به. ونفوّض كيفيته إليه تعالى، كسائر أخبار الصفات.
قال ابن كثير: قد تكلّم كثير من الناس في رواية شريك، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله ﷺ في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال بعده وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ: وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه ﷺ رأى الله عز وجل. وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل، أصح.
قال العماد بن كثير: وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله في هذه المسألة، هو الحق،
فإن أبا ذرّ قال: يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه.
وفي رواية: رأيت نورا- أخرجه مسلم «٤» -.
وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إنما هو جبريل عليه السلام، كما ثبت ذلك في
(٢) أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة النجم، ٣- حدثنا ابن أبي عمر.
(٣) أخرجه البخاري في: التوحيد، ٣٧- باب قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم ١٦٨٤، عن أنس بن مالك.
(٤) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٢٩١ و ٢٩٢.
وقال شمس الدين بن القيم في (زاد المعاد) : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقال: إن قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى إنما هو جبريل.
وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه.
أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما في لفظ آخر: رأيت نورا.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال الإمام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده. وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربي تبارك وتعالى، لكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه. وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقّا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ثم قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه ﷺ أن هذا المرئيّ جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. انتهى.
وقال ابن كثير: أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي عز وجل»
، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما
رواه الإمام أحمد «٤» أيضا عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قال: أتاني ربي الليلة في أحسن صورة (أحسبه، يعني في النوم) فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، ١- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم ١٥٢٦.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٨٠.
(٣) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٢٨٣.
(٤) أخرجه في المسند ١/ ٣٦٨. حديث رقم ٣٤٨٤.
قال: «والدرجات بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام».
ثم قال ابن كثير: وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، كقوله:
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: ٢٣]، أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع. لأنه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك للناس. انتهى.
الثالث- ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبويّ، أعني: عروجه صلى الله عليه وسلم، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السموات السبع، كما ذكر في أحاديث المعراج عن سدرة المنتهى فوق السماوات، ومشاهدة جبريل على صورته.
قال القليوبيّ: لما كان الإسراء مقدما في الوجود على المعراج، لأنه كالوسيلة والبرهان، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه، التصديق بالمعراج وما فيه. وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر، صدره تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته، والرد على منكريه والطاعنين فيه، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه ﷺ ما لا يجوز عليه، فقال وَالنَّجْمِ... إلخ انتهى.
ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية، وتحقيق الوحي، بأنه تعليم ملك كريم، مرئيّ للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس، لا لإثبات المعراج.
ثم من الغرائب أيضا هنا، قول بعضهم محاولا سرّ إفراد الإسراء عن المعراج، وذكر كلّ في سورة، ما مثاله: إن الإسراء أنزل أولا وحده، حملا للمشركين على تسليم ما وضح صدقه ﷺ فيه، توصلا للتصديق بما وراءه فإنه ﷺ أرشد أن يخبر المشركين أولا بالإسراء إلى المسجد الأقصى، لأن قريشا تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفون، مع علمهم بأنه ﷺ لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة
ثم قال تعالى منكرا على المشركين عبادتهم الأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ قال ابن كثير: هي صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف، هم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
وقال الزمخشري: هي فعلة من (لوى) لأنهم كانوا يلوون عليها، ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي يطوفون.
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا (اللاتّ) بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يلتّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه. وَالْعُزَّى وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.
قال ابن جرير: اشتقوا اسمها من اسمه تعالى (العزيز) وقال الزمخشريّ: أصلها تأنيث الأعز.
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظّمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
روى البخاريّ عن عائشة نحوه.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول:
اللّات والعزّى ومناة الثالثة، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
انتهى.
تنبيهات:
الأول- قال القاضي: (مناة) فعلة، من مناه إذا قطعه. فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين. ومنه سميت (منى) لأنه يمنى فيها القرابين، أي ينحر.
وقال الزمخشريّ: وكأنها سميت (مناة) لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها، أي تراق. وقرئ (مناءة) مفعلة من (النوء)، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.
فإن قيل: كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها، معلوم غير محتاج للبيان.
وأجيب: بأنهما صفتان للتأكيد، أو الثَّالِثَةَ للتأكيد، والْأُخْرى بيان لها، لأنها مؤخرة رتبة عندهم، عن اللات والعزى.
وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية. انتهى.
الثاني- قال ابن كثير: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب. ويهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. فكافت لقريش ولبني كنانة (العزّى) بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. وبعث إليها رسول الله ﷺ خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك | إني رأيت الله قد أهانك |
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر، من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله ﷺ إليها أبا سفيان، صخر بن حرب فهدمها. ويقال: عليّ بن أبي طالب. انتهى.
الثالث- قال ابن جرير: اختلف أهل العربية في وجه الوقف على (اللات) و (منات) فكان بعض نحويّي البصرة يقول: إذا سكت قلت اللات، وكذلك مناة، تقول منات. وقال: قال بعضهم: اللاتّ، فجعله من اللتّ الذي يلت. ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء، يقولون: رأيت طلحت. وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء، نحو نعمة ربك، وشجرة. وكان بعض نحويّي الكوفة يقف على (اللات) بالهاء. وكان غيره منهم يقول: الاختيار في كل ما لم يضف، أن يكون بالهاء رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: ٩٨]، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ [المؤمنون: ٢٠]، وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني. وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب، وإن كان للأخرى وجه معروف. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى قال الزمخشريّ: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، مع وأدهم البنات، فقيل لهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ويجوز أن يراد أن اللات والعزى ومنات إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم، وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله، وتسمونهنّ آلهة؟ انتهى.
لطيفة:
قال الشهاب: قد مرّ مرارا الكلام في أَرَأَيْتَ وأنها بمعنى (أخبرني) وفي كيفية دلالتها على ذلك، واختلاف النحاة في فعل الرؤية فيه، هل هو بصري؟ فتكون
أو علمية، فتكون في محل المفعول الثاني، فالرابط حينئذ أنها في تأويل: أهي بنات الله؟
قال السمين: وكأنّ أصل التركيب: ألكم الذكر، وله هن، أي: تلك الأصنام.
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة.
وقوله تعالى: تِلْكَ إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائرة، غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم من لولد والندّ ما تكرهون لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه.
قال ابن جرير: والعرب تقول (ضزته حقّه) بكسر الضاد، و (ضزته) بضمها، فأنا أضيزه وأضوزه، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته.
تنبيه:
قال السمين: قرأ ابن كثير (ضئزى) بهمزة ساكنة، والباقون بياء مكانها. وقرأ زيد بن علي (ضيزى) بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فتحتمل أن تكون من (ضازه يضيزه) إذا ضامه وجار عليه، فمعنى (ضيزى) جائرة. وعلى هذا فتحتمل وجهين: أحدهما- أن تكون صفة على (فعلى) بضم الفاء، وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض.
فإن قيل: وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء، ولم لا قيل (فعلى) بالكسر؟.
فالجواب: أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات (فعلى) بكسر الفاء، وإنما ورد بضمها، نحو حبلى وأنثى وربّى وما أشبهه، إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك.
حكى ثعلب: مشية حيكى، ورجل كيسي. وحكى غيره: امرأة عزهى وامرأة سعلى.
وهذا لا ينقض على سيبويه لأنه يقول في (حيكى وكيسي) كقوله في (ضيزى) لتصح الياء. وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة سعلاة.
والوجه الثاني- أن تكون مصدرا كذكرى. قال الكسائيّ: يقال ضاز يضيز ضيزى، كذكر يذكر ذكرى. ويحتمل أن يكون من (ضأزه) بالهمزة كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها، وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياء، لكنها لغة التزمت، فقرأوا بها. ومعنى ضأزه يضأزه بالهمزة، نقصه ظلما وجورا، وهو
فإن قيل: لم لا قيل في (ضئزى) بالكسر والهمز، أن أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء، لما قيل فيها مع الياء؟
فالجواب: أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة وسمع منهم (ضؤزى) بضم الضاد مع الواو والهمزة.
وأما قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدرا وصف به، كدعوى، وأن تكون صفة كسكرى وعطشى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٢٣]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
إِنْ هِيَ أي الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لها إِلَّا أَسْماءٌ أي محضة ليس تحتها مما تنبئ هي عنه من معنى الألوهية، شيء ما أصلا.
أي ليس لها نصيب منها إلا إطلاق تلك الأسماء عليها.
قال الشهاب: والمراد لا نصيب لها أصلا، ولا وجه لتسميتها بذلك، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة، فهو من نفي الشيء بإثباته، أو هو ادعاء محض لا طائل تحته. سَمَّيْتُمُوها أي جعلتموها أسماء مع خلوّها عن المسميات أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي بمقتضى أهوائكم. وتقليد التابع للمتبوع ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي برهان يتعلق به إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي إلا توهم أن ما هم عليه حق وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي تشتهيه أنفسهم.
قال ابن جرير: لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله، ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي الدليل الواضح، والبيان بالوحي أن عبادتها لا تنبغي وأنه لا تصلح العبادة إلا له تعالى وحده.
قال أبو السعود: والجملة حال من فاعل يَتَّبِعُونَ أو اعتراض. وأيّا ما كان، ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن، وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم، فإن اتباعهما
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ.. إلخ على أن اللغات توقيفية. ووجهه أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف، لما صح هذا الذم، لكون الكل اصطلاحا منهم.
واستدل بقوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ إلخ على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقا، أو إبطال القياس.
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: احذروا هذا الرأي على الدين، فإنما كان الرأي من رسول الله ﷺ مصيبا لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٢٤]
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي ليس له ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد، وتعنته في دفاع اليقين بالظن، وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيده ولا مهيمن يزعه. فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم، كقوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء: ١٢٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٢٥]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي فمصير الأمر فيهما له تعالى، لا للإنسان حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء، كما قال: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إلخ [المؤمنون: ٧١]، ولذا أرسل له الرسل، وانزل الكتب، قطعا للمعاذير.
ونبهه بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٢٦]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
ثم أشار إلى طغيان آخر للمشركين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٢٧]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي تسمية الإناث، وذلك أنهم كانوا يقولون: هم بنات الله. فالأنثى بمعنى الإناث، لأنهم اسم جنس يتناول الكثير والقليل. وقيل: بمعنى الطائفة الأنثى. وقيل: منصوب بنزع الخافض على التشبيه، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية. وقيل: أفرد لرعاية الفاصلة. وقيل:
الملائكة في معنى استغراق المفرد، أي ليسمون كل واحد منهم بنتا، وهي تسمية الأنثى، على وزان (كسانا الأمير حلة) أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس.
قال أبو السعود: وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة، إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة، واستتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩)
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يفيد فائدته، ولا يقوم مقامه، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه، إنما تدرك إدراكا معتدّا به، إذا كان عن يقين، لا عن ظن وتوهم فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها، لقصر نظرهم على المحسوسات. والمراد من (الإعراض) هجرهم هجرا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٣٠]
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يعني أمر الدنيا منتهى علمهم، لا علم لهم فوقه.
ومن كان هذا أقصى معارفه، فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله.
و (مبلغ) اسم مكان مجازا، كأنه محل وقف فيه علمهم ادعاء- كما حققه الشهاب- والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض بقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي: ولا بد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلّا بما يقتضيه عمله، وتقديم العلم بمن ضل، لأنهم المقصودون من الخطاب، والسياق فيهم. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٣١]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيه على سعة ملكه، وعظمة قدرته، وأن ما فيهما من قبضته، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجرة، كما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة ثم بيّن صفات هؤلاء المحسنين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٣٢]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وغيره أن معنى (اللمم) ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها لهم حين أسلموا.
وعن ابن عباس أيضا قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ولا يعود.
قال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا | وأيّ عبد لك لا ألمّا |
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن جرير: أي واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قال ابن جرير: أي أحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حيثما يصوركم في الأرحام فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي تشهدوا لها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي. والمراد به الثناء تمدحا أو رياء هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي بمن اتقاه فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه وأصلح. وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: ٤٩].
وفي الصحيحين «١» عن أبي بكرة قال: مدح رجل رجلا عند النبيّ ﷺ فقال
وأخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث ٦٥ و ٦٦.
، أحسبه:
كذا وكذا إن كان يعلم ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن الذكر بعد إذ جاءه، كما قال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: ٣١- ٣٢]. وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أي قطع العطاء بخلا وشحّا أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي يراه حتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز؟.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، كما قال: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. [البقرة: ١٢٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٣٨]
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها. بل كل آثمة، فإن إثمها عليها.
قال القاشانيّ: لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب، وكذلك الذنوب. وكذلك الثواب، إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : آية ٣٩]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي: إلا سعيه وكسبه.
تنبيهات:
الأول- قال ابن جرير: إنما عنى بقوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى الذي
وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات ردّا على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجا وجهلا. ومع ذلك فمفهومها الشموليّ جليّ.
الثاني: قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحيّ والميت. واستدل به الشافعيّ على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات. انتهى.
وقال ابن كثير: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعيّ رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله ﷺ أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما
الحديث الذي رواه مسلم «١» في صحيحه عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»
- فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكدّه وعمله، كما جاء في
الحديث «٢»
«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه. والصدقة الجارية- كالوقف ونحوه- هي من آثار عمله ووقفه»
، وقد قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢]. والعلم الذي نشره في الناس، فاقتدى به الناس بعده، هو أيضا من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح «٣» : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. انتهى.
(٢) أخرجه النسائي في: البيوع، ١- باب الحث على الكسب، عن عائشة.
(٣) أخرجه مسلم في: العلم، حديث رقم ١٦.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يراه، ويعرض عليه، ويكشف له. من (أريت الشيء) أو يرى للخلق وللملائكة. ففيه بشارة للمؤمن، وإفراح له، ونذارة للكافر، وإرهاب له، أو هو من (رأى) المجرد. أي يراه. كقوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: ١٠٥]، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى سعيه جزاء وافرا لا يبخس منه شيئا.
قال الشهاب: أصله يجزي الله الإنسان سعيه، ف (الجزاء) منصوب بنزع الخافض، و (سعيه) هو المفعول الثاني، وهو يتعدى له بنفسه. نحو: جزاك الله خيرا.
وجزاؤه سعيه بمعنى جزائه بمثله. أو هو مجاز. وقيل: المنصوب بنزع الخافض الضمير، والتقدير: بسعيه أو على سعيه- كما في (الكشاف) -.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٩]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي انتهاء الخلق، ورجوعهم لمجازاتهم. والمخاطب وإما عامّ، أي أيها السامع أو العاقل، ففيه وعد ووعيد أو خاص بالنبيّ صلوات الله عليه، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم.
قال الرازيّ: اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بهما سببا، وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد، وهو الله تعالى. وأطال في ذلك وأطاب، رحمه الله تعالى.
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات من شاء من خلقه، وأحيى من شاء قال ابن جرير وعنى بقوله أَحْيا نفخ الروح في النطفة الميتة، فجعلها حية بتصييره الروح فيها وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الخلق بعد مماتهم في نشاة أخرى لا تعلم، كما قال: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
[الواقعة: ٦١]، وذلك للحساب والجزاء، المرتب على أعمال الخير والشر، بالمصير إلى الجنة أو النار وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى من شاء بالمال. و (أقناه) أي جعل له قنية، وهو ما يدخره من أشرف أمواله. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهو نجم مضيء خلف الجوزاء، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٦]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى يعني قوم هود. وسميت الْأُولى لتقدمها في الزمان. وَثَمُودَ أي قوم صالح فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أي أشد في كفرهم وَأَطْغى أي أشد طغيانا وعصيانا من الذين أهلكوا بعدهم، لتمردهم على الكفر، وردّ دعوته، في طول مدته بينهم، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أي قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت.
أَهْوى أي أهواها على أهلها ودمّرها. فَغَشَّاها ما غَشَّى أي من العذاب السماويّ الذي صب عليها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ أي نعمائه. تَتَمارى أي ترتاب وتشكّ وتجادل في أنها ليست من عنده، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة الموصوفة بالقرب. فاللام في الْآزِفَةُ للعهد وقيل: الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب.
قال الشهاب: وفيه نظر، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت).
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لقيامها غير الله مبيّن لوقتها، كقوله:
لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: ١٨٧]، وكاشِفَةٌ صفة محذوف، أي نفس كاشفة، أو حال كاشفة. أو التاء للمبالغة. أو هو مصدر بني على التأنيث ومِنْ دُونِ اللَّهِ بمعنى غير الله، أو إلا الله. وقيل: الكشف بمعنى الإزالة. أي ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت، إلا هو تعالى، من (كشف الغماء).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن الذي قص ما تقدم، وأنذر بما أخبر تَعْجَبُونَ أي: تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار، كما قال وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من وعيد للعصاة، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به، المحدث عنهم في آية وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:
١٠٩]، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون عما فيه من العبر، معرضون عن آياته كبرا.
قال مجاهد: كانوا يمرّون على النبيّ ﷺ غضابا مبرطمين، أي: شامخين.
وعن ابن عباس: هو الغناء: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن. يقولون: اسمد لنا: تغنّ لنا. والمآل واحد. وإن اختلفت العبارة عنه. ولا ريب
قال في (الإكليل) : فيه استحباب البكاء عند القراءة، وذم الضحك والغناء، واللهو واللعب والغفلة. كما فسر بالأربعة قوله: سامِدُونَ وفسره السدّي بالاستكبار.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي واعبدوه دون من سواه من الأوثان، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، فلا تجعلوا له شريكا في عبادته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله ﷺ وسجد من خلفه.. الحديث.
وتقدم في أول السورة.
وروى الإمام أحمد «١» عن المطّلب بن وداعة قال: قرأ رسول الله ﷺ بمكة سورة النجم. فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا قرأها إلا سجد معه- ورواه النسائيّ-