تفسير سورة فصّلت

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي خمسون وآيتان

﴿حم﴾
﴿تنزيلُ من الرحمن الرحيم﴾ ابتداءٌ وخبره قوله:
﴿كتابٌ فصلت آياته﴾ بُيِّنت ﴿لقوم يعلمون﴾ لمَنْ يعلم ذلك ممَّن يعلم العربيَّة
﴿بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون﴾
﴿وقالوا قلوبنا في أكنَّة﴾ أغطيةٍ ﴿وفي آذاننا وقر﴾ صممٌ أَيْ: نحن في ترك القبول منك بمنزلة مَن لا يفقه ولا يسمع ﴿ومن بيننا وبينك حجاب﴾ خلافٌ في الدِّين فلا نجتمع معك ولا وافقك ﴿فاعمل﴾ على دينك فـ ﴿إننا عاملون﴾ على ديننا وقوله:
﴿فاستقيموا إليه﴾ وجِّهوا إليه وجوهكم بالطَّاعة ﴿وويلٌ للمشركين﴾
﴿الذين لا يؤتون الزكاة﴾ لا يؤمنون بوجوبها فلا يؤدونها
﴿إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون﴾
﴿قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين﴾ الأحد والأثنين
﴿وبارك فيها﴾ بما خلق فيها من المنافع ﴿وقدَّر فيها أقواتها﴾ أرزاق أهلها وما يصلح لمعاشهم في البحار والأنهار والأشجار والدَّوابِّ ﴿في أربعة أيام﴾ في تتمة أربعة أَيَّامٍ وهو يوم الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أربعة أيَّام خلق الله الأرض وما فيها من سبب الأقوات والمنافع والتجارات فتمَّ أمرها في أربعة أيَّام ﴿سواء﴾ أَيْ: استوت استواء وسواءً ﴿للسائلين﴾ عن ذلك أَيْ: لمَنْ سأل في كم خُلقت السماوات والأرض؟ فيقال: في أربعة أيام
﴿ثم استوى﴾ قصد وعمد ﴿إلى﴾ خلق ﴿السماء وهي دخان﴾ بخارٌ مرتفعٌ عن الماء ﴿فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً﴾ بما خلقت فيكما من المنافع وأَخْرِجاها لمنافع خلقي قال للسماوات: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك وقال للأرض: أخرجي ماءك وثمارك طائعةً أو كارهةً ففعلتا ما أمرهما طوعاً وهو قوله: ﴿قالتا أتينا طائعين﴾
﴿فقضاهن﴾ صنعهنَّ وأحكمهنَّ ﴿سبع سماوات في يومين وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها﴾ أوحى في أهل كلِّ سماءٍ بما أراد من الأمر والنَّهي وقوله: ﴿وحفظاً﴾ أَيْ: حفظناها من استماع الشَّياطين بالكواكب حفظاً
﴿فإن أعرضوا﴾ عن الإِيمان بعد هذا البيان ﴿فقل أنذرتكم﴾ خوَّفتكم ﴿صاعقة﴾ مهلكةً تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم ﴿إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم﴾ أتت الرُّسل إيَّاهم ومَنْ كان قبلهم ﴿ومن خلفهم﴾ ومن بعد الرُّسل الذين أُرسلوا إلى آبائهم جاءتهم الرسل أنفسهم وقوله:
﴿إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلاَّ الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون﴾
﴿فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون﴾
﴿ريحاً صرصراً﴾ أي: لها صوتٌ شديدٌ ﴿في أيام نحسات﴾ مشؤومات عليهم وقوله:
﴿وأما ثمود فهديناهم﴾ دعوناهم ودللناهم ﴿فاستحبوا العمى على الهدى﴾ فاختاروا الكفر على الإيمان ﴿فأخذتهم صاعقة﴾ مهلكةُ ﴿العذاب﴾ ذي ﴿الهون﴾ وهو الهوان أي: العذاب الذي يهينهم وقوله:
﴿ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾
﴿ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون﴾
﴿حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون﴾
﴿وهو خلقكم أوَّل مرة﴾ ابتداءُ إخبارٍ عن الله تعالى وليس من كلام الجلود
﴿وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم﴾ أي مِنْ أن يشهد عليكم سمعكم أي: لم تكونوا تخافون أن يشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها ﴿ولكن ظننتم أنَّ الله﴾ أي: ظننتم أنَّ ما تُخفون ﴿لا يعلم﴾ اللَّهُ ذلك ولا يطَّلع عليه وذلك الظَّنُّ منكم بربِّكم
﴿أرداكم﴾ أهلككم
﴿فإن يصبروا﴾ في جهنَّم ﴿فالنار مثوىً لهم﴾ أي: مقامهم لا يخرجون منها ﴿وإن يستعتبوا﴾ يطلبوا الصلح ﴿فما هم من المعتبين﴾ أَيْ: ممَّن يُصالح ويرضى
﴿وقيضنا لهم﴾ أيْ: سبَّبنا لهم ﴿قرناء﴾ من الشَّياطين ﴿فزينوا لهم ما بين أيديهم﴾ من أمر الدُّنيا حتى آثروه ﴿وما خلفهم﴾ من أمر الآخرة فدعوهم إلى التَّكذيب به وأن لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب ﴿وحقَّ عليهم القول في أمم﴾ مع أممٍ بالخسران والهلاك وقوله:
﴿والغوا فيه﴾ أَيْ: عارضوه بكلامٍ لا يُفهم من المُكاء والصَّفير وباطل الكلام ﴿لعلكم تغلبون﴾ هـ على قراءته فيترك القراءة وقوله:
﴿فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون﴾
﴿ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون﴾
﴿ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس﴾ يعنون: إبليس وقابيل لأنًّهما أوَّل مَنْ سنَّ الضَّلالة ﴿نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا﴾ في الدرك الأسفل من النَّار
﴿إنَّ الذين قالوا ربنا الله﴾ أَيْ: وحَّدوه ﴿ثمَّ استقاموا﴾ على التَّوحيد فلم يشركوا به شيئاً ﴿تتنزل عليهم الملائكة﴾ عند الموت ﴿أن لا تخافوا﴾ ذنوبكم ﴿ولا تحزنوا﴾ عليها فإنَّ الله يغفرها لكم
﴿نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ أَيْ: أنصاركم وأحباؤكم وهم قرناؤهم الذين كانوا معهم في الدُّنيا من الحفظة يقولون لهم: لن نُفارقكم في القيامة حتى ندخلكم الجنَّة ﴿ولكم فيها ما تدَّعون﴾ تمنون وتسألون
﴿نزلاً﴾ أيْ: جعل الله ذلك رزقا لهم مُهيَّئاً
﴿ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله﴾ الآية قيل: هو رسول الله ﷺ لأنَّه دعا إلى توحيد الله وقيل: إنَّها نزلت في المُؤّذِّنين
﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة﴾ لا زائدة ﴿ادفع﴾ السَّيئة ﴿بالتي هي أحسن﴾ كالغضب يُدفع بالصَّبر والجهل والحلم والإِساءة بالعفو ﴿فإذا الذي بينك وبينه عداوة﴾ يصير لك كأنًّه صديقٌ قريبٌ إذا فعلت ذلك
﴿وما يلقاها﴾ أي: ما يُلقَّى هذه الخصلة ﴿إلاَّ الذين صبروا﴾ بكظم الغيظ واحتمال الأذى ﴿وما يلقَّاها إلاَّ ذو حظ عظيم﴾ وهو الجنَّة
﴿وإما ينزغنك من الشيطان نزغ﴾ أَيْ: إنْ صرفك عن الاحتمال نَزْغُ الشَّيطان ﴿فاستعذ بالله﴾ من شرِّه وامض على حلمك
﴿ومن آياته﴾ علاماته التي تدلُّ على أنَّه واحدٌ ﴿الليل والنهار والشمس والقمر﴾ الآية
﴿فإن استكبروا﴾ أي: الكفَّار يقول: إن استكبروا عن السُّجود لله ﴿فالذين عند ربك﴾ وهم الملائكة ﴿يسبحون له﴾ يُصلُّون له ﴿بالليل والنهار وهم لا يسأمون﴾ لا يملُّون
﴿ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة﴾ مُغبَّرةً لا نبات فيها ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ﴾ تحرَّكت بالنًّبات ﴿وربت﴾ انتفخت وعلت ثمَّ تصدَّعت عن النَّبات
﴿إنَّ الذين يلحدون في آياتنا﴾ يجعلون الكلام فيها على غير جهته بأن ينسبوها إلى الكذب والسِّحر ﴿لا يخفون علينا﴾ بل نعلمهم ونجازيهم بذلك
﴿إنَّ الذين كفروا بالذكر﴾ أَيْ: بالقرآن ﴿لما جاءهم وإنَّه لكتاب عزيز﴾ منيعٌ من الشَّيطان والباطل
﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ أي: الكُتب التي تقدَّمت لا تبطله ولا يأتي كتابٌ بعده يبطله وقيل: إنَّه محفوظٌ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلقه
﴿ما يقال لك إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك﴾ أَيْ: إنْ كذَّبك قومك فقد كذَّب الذين من قبلك
﴿ولو جعلناه قرآناً أعجمياً﴾ لا بلسان العرب ﴿لقالوا لولا فصلت﴾ بُيِّنت ﴿آياته﴾ بلغتنا حتى نعرفها ﴿أأعجمي وعربي﴾ أي: القرآنُ أعجميٌّ ونبيٌّ عربيٌّ ﴿قل هو﴾ أي: القرآن ﴿للذين آمنوا هدى﴾ من الضَّلالة ﴿وشفاء﴾ من الجهل ﴿والذين لا يؤمنون﴾ في ترك قبوله بمنزلة مَنْ ﴿في آذانهم وقرٌ وهو﴾ أي: القرآن ﴿عليهم﴾ ذو ﴿عمى﴾ لأنَّهم لا يفقهونه ﴿أولئك ينادون من مكان بعيد﴾ أَيْ: كأنهم لقلَّة استماعهم وانتفاعهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه﴾ بالتَّكذيب والتَّصديق والإِيمان به والكفر كما فعل قومك ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك﴾ بتأخير العذاب عن قومك ﴿لقضي بينهم﴾ لفرغ من هلاكهم ﴿وإنهم لفي شك منه﴾ من القرآن ﴿مريب﴾
﴿من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد﴾
﴿إليه يردُّ علم الساعة﴾ لأنَّه لا يعلمه غيره ﴿وما تخرج من ثمرات من أكمامها﴾ أوعيتها ﴿ويوم يناديهم أين شركائي﴾ الذين كنتم تزعمون ﴿قالوا آذناك﴾ أعلمناك ﴿ما منا من شهيد﴾ شاهدٍ أنَّ لك شريكاً لمَّا عاينوا القيامة تبرَّؤوا من معبوديهم
﴿وضلَّ عنهم﴾ زال وبطل ﴿ما كانوا يدعون من قبل﴾ يثقون به ويعبدون قبل يوم القيامة ﴿وظنوا﴾ علموا ﴿ما لهم من محيص﴾ من مهربٍ
﴿لا يسأم الإنسان من دعاء الخير﴾ لا يَمَلُّ الكافر من الدُّعاء بالصحَّة والمال ﴿وإن مسَّه الشرُّ﴾ الفقر والضرُّ ﴿فيؤوس﴾ من روح الله ﴿قنوط﴾ من رحمته وقوله:
﴿ليقولنَّ هذا لي﴾ أَيْ: هذا واجبٌ لي بعملي استحققه ﴿وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى﴾ أَيْ: لستُ أوقن بالبعث وقيام السَّاعة فإن كان الأمر على ذلك إنَّ لي عنده لثواباً
﴿وإذا أنعمنا على الإنسان﴾ الآية يقول: إذا كان الكافر في نعمةٍ تباعد عن ذكر الله وإذا مسَّته الحاجة أكثر الدُّعاء
﴿قل أرأيتم إن كان﴾ القرآن ﴿من عند الله ثم كفرتم به من أضلُّ﴾ منكم لأنَّهم في ﴿شقاق بعيد﴾ أيْ: في خلافٍ بعيدٍ عن الحقّ بكفرهم بالقرآن
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق﴾ ما يفتح على محمَّد ﷺ من القرى ﴿وفي أنفسهم﴾ فتح مكة ﴿حتى يتبين لهم﴾ أنَّ القرآن حقٌّ وصدقٌ منزلٌ من عند الله تعالى ﴿أَوَلَمْ يكف بربك أنَّه على كل شيء شهيد﴾ وهو يشهد لمحمَّد عليه السَّلام ولكتابه بالصِّدق
﴿ألا إنهم في مرية﴾ شكٍّ ﴿من لقاء ربهم﴾ من البعث والمصير إليه ﴿ألا إنَّه بكلِّ شيء محيط﴾ عالمٌ
Icon