تفسير سورة النجم

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة النجم من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ثنتان وستون
بسم الله الرحمان الرحيم
نزلت حين قال المشركون : إن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] يختلق القرآن.

﴿ والنجم إذا هوى ﴾ أقسم الله تعالى بالنجم وقت غروبه على أن محمدا صلى الله عليه وسلم منزه عن شائبة الضلال والغواية. والنجم : اسم جنس لكل كوكب ؛ فالمقسم به جنس النجم المعروف إذا هوى، أي سقط وغرب. يقال : هوى يهوي هويا وهويا، سقط من فوق إلى أسفل. وقيل : المصدر بالضم إذا سقط، وبالفتح إذا صعد، وقيل بالعكس. وتقييد المقسم به بوقت هويه لأنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيدا عن الأرض فلا يهتدي به الساري ؛ لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب، ولا الجنوب من الشمال. فإذا هبط من وسط السماء تبين بهبوطه جانب المغرب من المشرق، والجنوب من الشمال.
﴿ ما ضل صاحبكم ﴾ ما عدل عن طريق الحق في أقواله وأفعاله. ﴿ وما غوى ﴾ أي ما اعتقد باطلا قط. والغي : جهل ناشئ من اعتقاد فاسد، ويقابله الرشد ؛ وهو من تعرفون – لطول صحبتكم له – اتصافه بغاية الهدى والرشاد.
﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ أي لا يصدر نطقه فيما يأتيكم به عن هوى نفسه ورأيه.
﴿ إن هو ﴾ إلى ما الذي ينطق به من ذلك﴿ إلا وحي ﴾ أي موحى به. ﴿ يوحى ﴾ إليه من الله تعالى. والجملة صفة مؤكدة ل " وحي " رافعة لاحتمال التجوز به. ﴿ علمه ﴾ علم النبي صلى الله عليه وسلم الوحي أو القرآن
﴿ شديد القوى ﴾ جبريل عليه السلام. فقد بلغ من شدة قوته أن اقتلع قرى قوم لوط،
ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة أهلكتهم. وكان هبوطه على الأنبياء وعروجه إلى السماء في أسرع من رجع الطرف.
﴿ ذو مرة ﴾ ذو حصافة واستحكام في عقله ورأيه. وهو كناية عن ظهور آثاره البديعة وأفعاله العجيبة. أو ذو منظر حسن. ﴿ فاستوى ﴾ فاستقام وظهر في صورته الملائكية في ناحية المشرق ؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند حراء في مبادئ النبوة.
﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾ بالجهة العليا من السماء ؛ فسدّ الأفق إلى المغرب. وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة آدمية ؛ فسأله أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها. فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض، ومرة في السماء. ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه المرة أولاها ؛ فخر مغشيا عليه. فنزل جبريل متمثلا في صورة آدمية وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى ﴾
﴿ ثم دنا فتدلى ﴾ أي قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم، فزاد في القرب حتى كان أقرب شيء إليه ؛ كما قال تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾
﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ منه. أي فكان من النبي صلى الله عليه وسلم قدر قوسين من الأقواس العربية المعهودة بل أقرب. والقاب : القدر ؛ وقد جاء التقدير للأطوال بالذراع والباع والرمح والسوط والقوس، وربما سموا الدراع قوسا ؛ والمعنى عليه : كمقدار ذراعين بل أقرب. وقيل القاب : ما بين وتر القوس ومقبضها. وكان العرب في الجاهلية إذا تحالفوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر حتى كأنهما قاب واحد، ثم ينزعونهما معا ويرمون سهما واحدا ؛ فيكون ذلك رمزا إلى أن رضاء أحدهم رضاء الآخر، وسخطه سخطه، فكان جبريل ملاصقا له صلى الله عليه وسلم كما يلاصق القاب القاب من القوسين. وهذا المعنى أليق برواية : " ضمه إلى نفسه ".
﴿ فأوحى ﴾ جبريل بأمر الله تعالى﴿ إلى عبده ﴾ عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم﴿ ما أوحى ﴾ وأبهم الموحى به للتفخيم ؛ كما في قوله تعالى : " فغشيهم من اليم ما غشيهم " ١. أو ما أوحى إليه ربه.
١ آية ٧٨ سورة طه..
﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم
ما رآه ببصره من صورة جبريل ؛ أي ما قال فؤاده لما رآه ببصره : لم أعرفك. ولا يمكن أن يقول ذلك ! لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
﴿ أفتمارونه على ما يرى ﴾ أتكذبونه فتجادلونه فيما يراه من الصور التي يأتي بها عليه جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه ؛ بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة أتى. أو فيها رآه من صورة جبريل عليه السلام على خلقته الأصلية. يقال : ما رآه يماريه مماراة ومراء، جادله. مشتق من مرى الناقة يمريها، إذا مسح ضرعها ليخرج لبنها وتدبر به. فشبه به الجدال ؛ لأن كلا من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه، أي يسعى لاستخراجه ليلزمه الحجة. وعدي الفعل ب " على " لتضمنه معنى المغالبة.
﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ أي رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى
﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ ليلة المعراج. وهذه هي المرة الثانية، وكانت قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر. وقيل بثلاث سنين ؛ فكان بين الرؤيتين نحو عشر سنين. والسدرة في الأصل : شجرة النبق ؛ وخلق شجرة في السماء كخلق شجرة الزقوم في أصل الجحيم. وعدم رؤيتها بالأرصاد لا يدل على عدم وجودها لفرط بعدها. وقيل : إطلاق السدرة عليها مجاز ؛ لأن الملائكة تجتمع عندها كما يجتمع الناس في ظل السدرة المعروفة. والمنتهى : اسم مكان، أو مصدر ميمي بمعنى انتهاء، وإضافة السدرة إليه من إضافة الشيء إلى مكانه ؛ كأشجار البستان. وقيل لها : سدرة المنتهى لانتهاء علوم الخلائق إليها ؛ وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى.
﴿ عندها جنة المأوى ﴾ التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة. أو هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء أو الملائكة.
﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ ما مال بصره صلى الله عليه وسلم عما أذن له في رؤيته وما تجاوزه، إلى ما لم يؤذن له فيها ؛ بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا ؛ من الزيغ : وهو الميل عن الاستقامة. والطغيان : وهو تجاوز الحد.
﴿ أفرأيتم اللات والعزى... ﴾ أي أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمته تعالى، وأحكام قدرته
ونفاذ أمره، رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه ! ! وكانوا يقولون لها وللملائكة : بنات الله. واللات : صخرة لثقيف بالطائف. والعزى : سمرات بنخلة لغطفان، وهي التي قطعها خالد ابن الوليد بأمره صلى الله عليه وسلم. ومناة : صخرة لهذيل وخزاعة أو لثقيف. وقيل : إن الثلاثة كانت أصناما بالكعبة.
﴿ الثالثة ﴾ وصف للتأكيد. ﴿ الأخرى ﴾ صفة ذم للثالثة بأنها متأخرة في الرتبة وضيعة القدر، وكانت عندهم أعظم الثلاثة. وتتضمن ذم السابقتين أيضا.
﴿ قسمة ضيزى ﴾ وقرئ " ضزى " أي جائرة أو منقوصة حيث جعلتم له تعالى ما تستنكفون منه. يقال : ضاز في حكمه، جار. وضازه حقه يضيزه ويضوزه ضيزا : نقصه وبخسه. وضأزه – كمنعه – بمعناه.
﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾ أي بل أللإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه. والمراد : أنه ليس له كل ما يتمناه، ومنه شفاعة الآلهة لهم، والظفر بالحسنى عند الله يوم القيامة، ونزول القرآن على رجل عظيم من إحدى القريتين.
﴿ فلله الآخرة والأولى ﴾ فهو سبحانه لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد، ولكنه يعطى فيها ما يشاء لمن يريد، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منها.
ثم رد الله عليهم في زعمهم أن الأصنام تشفع لهم بقوله ﴿ وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم... ﴾ أي أن الملائكة مع قربهم وعلو منزلتهم لا تنفع شفاعتهم، إلا إذا شفعوا من أن يأذن الله لهم في
الشفاعة لمن يشاء له ويرضاه، ويراه أهلا لأن يشفع له ؛ فكيف تشفع الأصنام لكم ؟ !
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض ﴾ خلقا وملكا لا لغيره، وقد خلق ما فيهما﴿ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ﴾ أي بسببه﴿ ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ أي بسبب الأعمال الحسنى. أو بالمثوبة الحسنى.
ثم وصف المحسنين بقوله :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾ ما كبر عقابه من الذنوب. ﴿ والفواحش ﴾ ما عظم قبحه من الكبائر. ﴿ إلا اللمم ﴾ ما صغر من الذنوب ؛ كالنظرة والغمزة والقبلة ؛ من قولهم : ألمّ بالمكان، إذا قل لبثه فيه. وألمّ بالطعام : إذا قل أكله منه. وقيل : هو مقاربة الذنب من غير مواقعته ؛ فهو الهم به دون أن يفعله. من قولهم : ألم الشيء : قرب. وألم بكذا : قاربه ولم يخالطه. والجمهور على أن الذنوب منقسمة إلى كبائر وضغائر. وضابط الكبيرة : ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد في الكتاب أو السنة. وقيل : كل جريمة تؤذن بقلة اكثرات مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقيل غير ذلك. واعتمد الواحدي أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به. وقد أخفى الله أمرها ليجتهدوا في اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. وعرفها بعضهم بالعد، ومنها الموبقات السبع [ تراجع الزواجر لابن حجر ].
﴿ هو أعلم بكم... ﴾ أي يعلم أحوالكم، إذا أنشأكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم من تراب. ﴿ وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ فيعلم أطواركم فيها، وحاجتكم إلى الغداء، ويعلم العدد والذكورة والأنوثة، ووقت الانفصال عن الأم، ومدة المكث في الرحم، وغير ذلك من شئونها. ﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾ أي إذا كان عدم المؤاخذة باللمم مع كونه من الذنوب، إنما هي لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره منكم : فلا تمدحوا أنفسكم بالطهارة من الذنوب بالكلية، بل اشكروه تعالى على فضله وواسع مغفرته.
﴿ أفرأيت ﴾ أي أخبرني. ومفعولها الأول الموصول. والثاني جملة " أعنده علم الغيب ".
﴿ وأعطى قليلا ﴾ أعطى شيئا قليلا من المال. ﴿ وأكدى ﴾ قطع العطاء ؛ من قولهم : أكدى الحافر، إذا بلغ حفره إلى الكدية – وهي حجر صلب – فلم يمكنه الحفر فانقطع عنه. وكديت أصابعه : إذا كلت من الحفر فلم تعمل شيئا. نزلت في الوليد بن المغير حين همّ بالإسلام بعد أن سمع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد تلاوة القرآن، وجلس إلى الرسول ووعظه ؛ فعاتبه أحد المشركين، وضمن له أن يتحمل عنه عذاب الآخرة إذا أعطاه كذا وكذا من المال ؛ فرجع عما همّ به وأعطى الذي ضمن له بعض المال ثم منعه تمامه.
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ آية ١٦٥ الأنعام ص ٢٥١ ].
﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ أي أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم أن ليس للإنسان إلا سعيه ! ؟ فلا يثاب بعمل غيره، كما لا يؤاخذ بذنب غيره. أما في شريعتنا فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع انتفاع الإنسان بعمل غيره، ونقل العلامة الجمل في حاشيته على الجلالين بحثا نفيسا لشيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن تميمة، ننقل خلاصته لمزيد فائدته. قال : " من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع ؛ وذلك باطل من وجوه : أحدها – أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره. ثانيها – أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها. ثالثها – يشفع لأهل الكبائر في الخروج من النار ؛ وهذا انتفاع بسعي الغير. رابعها – أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض ؛ وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها – أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط – أي من المؤمنين – بمحض رحمته ؛ وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها – أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ؛ وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها – قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين : " وكان أبوهما صالحا " ١ ؛ فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما. ثامنها – أن الميت ينتفع بالصدقة عنه
وبالعتق، بنص السنة والإجماع ؛ وهو من عمل الغير. تاسعها – أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة ؛ وهو انتفاع بعمل الغير، عاشرها – أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة ؛ وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها – المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو من عمل الغير. ثاني عشرها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده :( ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه ) ؛ فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها – أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض ؛ وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها – أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه ؛ وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها – أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات – كما جاء في الأثر - ؛ وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها – أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ؛ وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات ؛ فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها – الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة، انتفاع للميت بصلاة الحي عليه ؛ وهو عمل غيره. ثامن عشرها – أن الجمعة تحصل باجتماع العدد، وكذا الجماعة بكثرة العدد ؛ وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها – أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ٢. وقال تعالى : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " ٣ فقد رفع الله تعالى عن بعض الناس بسبب بعض ؛ وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها – أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ؛ فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها. ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله مالا يكاد يحصى ؛ فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ! ؟ " اه. فإما أن يقال : إن الآية عامة قد خصصت بأمور كثيرة مما ذكر. أو يقال : إنها مخصوصة بقوم موسى وإبراهيم ؛ لأنها حكاية عما في صحفهما. وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي وما سعى لها غيرها ؛ بدليل ما ذكر، وبدليل قوله تعالى : " ألحقنا بهم ذريتهم " ٤ حين أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء. أو يقال : إن سعي غيره لما لم ينفعه
إلا مبنيا على سعي نفسه وهو بكونه مؤمنا كان كأنه سعى نفسه. أو يقال : إن المراد بالإنسان الكافر. والمعنى : أنه ليس له من الجزاء إلا ما عمل هو ؛ فيثاب عليه في الدنيا بسعة الرزق والمعافاة في البدن ونحو ذلك، حتى لا يبقى له في الآخرة منها نصيب. أو يقال : " ليس للإنسان إلا ما سعى " أي عدلا ؛ فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله من فضله ما يشاء. وفي الحديث الصحيح :( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث – وفيه - : أو ولد صالح يدعو له ). وهذا كله تفضل منه تعالى، كما أن تضعيف الحسنات فضل منه تعالى. هذا وقد نقل الخازن في تفسيره الأحاديث الصحيحة الواردة في الحج عن الغير، ثم قال : وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصل ثوابها إليه ؛ وهو إجماع العلماء. وكذلك أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين ؛ للنصوص الواردة في ذلك. ويصح الحج عن الميت حجة الإسلام. وكذا لو أوصى بحج تطوع على الأصح عند الشافعي. واختلف العلماء في الصوم عنه، والراجح جوازه عنه. والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصل ثوابها للميت. وذهب أحمد وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل ؛ فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه : اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، ونحو ذلك. وأما الصلوات وسائر التطوعات فلا يصله ثوابها عند الشافعي والجمهور. وقال أحمد : يصله ثواب الجميع. ا. ه.
وقد أشبعنا الكلام في هذا المقام في فتوى الأربعين. والله أعلم.
١ آية ٨٢ الكهف..
٢ آية ٢٣ الأنفال..
٣ آية ٢٥ الفتح..
٤ آية ٢١ الطور..
﴿ من نطفة إذا تمنى ﴾ أي تدفق في الرحم. يقال : أمنى الرجل ومنى بمعنى واحد. أو بمعنى تقدر. يقال : منى لك الماني، أي قدر لك المقدر. وما يدفق فيه مكون مما يسمى ماء الرجل وماء المرأة، أو منيهما ؛ ولا حجر في التسمية.
﴿ وأنه هو أغنى ﴾ أغنى الناس في الأموال. ﴿ وأقنى ﴾ أعطى القنية، وهي المال الذي تأثلته وعزمت ألا تخرج من يدك. يقال : أقناه الله مللا وقناه إياه، أي أكسبه إياه. وقيل : " أقنى " أرضى. وتحقيقه أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة. وقيل " أقنى " أفقر ؛ لأن الهمزة فيه للسلب والإزالة، كما في أشكى.
﴿ وأنه هو رب الشعرى ﴾ هي الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر
وتسمى الشعرى اليمانية. وخصت بالذكر – وإن كان الله ربا لسائر المخلوقات – لأن بعض العرب كان يعبدها ؛ فأعلمهم الله تعالى أن الشعرى مربوبة وليست برب كما يزعمون.
﴿ والمؤتفكة ﴾ أي والقرى التي ائتفكت بأهلها – أي انقلبت – وهي قرى قوم لوط. ﴿ أهوى ﴾ أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل إلى السماء. يقال : أفكها عن كذا يأفكه، أي قلبه وصرفه. وهوى يهوي – كرمى يرمي - : سقط. وأهوى : أسقط.
﴿ فغشاها ما غشى ﴾ ألبسها من الحجارة المنضودة المسومة ؛ كما قال تعالى : " فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود. مسومة عند ربك " ١. ويجوز عود الضمير لجميع الأمم المذكورة ؛ أي غشاها من العذاب ما غشاها.
١ آية ٨٢، ٨٣ هود..
﴿ فبأي آلاء ربك تتمارى ﴾ فبأي نعم ربك تتشكك أيها الإنسان !. والمراد بالنعم : ما عد في الآيات قبل، وسمى الكل نعما مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين ؛ فهي نعم بهذا الاعتبار.
﴿ هذا نذير... ﴾ أي هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من سبقكم من الأمم وسمعتم عواقبها.
﴿ أزفت الآزفة ﴾ أي قربت الساعة ودنت القيامة. يقال : أزف الترحل – كفرح – أزفا وأزوفا، دنا وقرب ؛ وهو كقوله تعالى : " اقتربت الساعة " وقد وصفت بالقرب في غاية آية من القرآن.
﴿ أفمن هذا الحديث ﴾ أي القرآن.
﴿ وأنتم سامدون ﴾ أي وأنتم لاهون معرضون. يقال : سمد يسمد – من باب دخل – إذا لها وأعرض. أو انتم رافعون رءوسكم تكبرا. يقال : سمد سمودا، ورفع رأسه تكبرا وعلا. وكل رافع رأسه فهو سامد ؛ ومنه بعير سامد في سيره : أي رافع رأسه. والله أعلم.
Icon