تفسير سورة سورة النجم من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
سورة النّجم
مكية. وهى اثنتان وستون آية. وهى أول سورة أعلن بها النبي صلى الله عليه وسلم. ومناسبتها لما قبلها: قوله: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ «١» فأقسم هنا أنه ما ينطق عن الهوى، فقال:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالنَّجْمِ أي: الثريا، أو: جنس النجم إِذا هَوى إذا غرب، أو: انتثر يوم القيامة، أو طلع، يقال: هَوَى هَوِياً، بوزن «فيول» إذا غرب، وهَوى هُوياً، بوزن دُخول: إذا طلع «٢». والعامل في (إذا) فعل القسم، أي: أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه. وجواب القسم: ما ضَلَّ عن قصد الحق صاحِبُكُمْ أي: محمد صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش. وَما غَوى في اتباع الباطل، أو: ما اعتقد باطلاً قط، أي: هو في غاية الهدى والرشد، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية في شيء. فالضلال نقيض الهدى، والغي نقيض الرشد، ومرجعهما لشيء واحد، وهو عدم اتباع طريق الحق.
مكية. وهى اثنتان وستون آية. وهى أول سورة أعلن بها النبي صلى الله عليه وسلم. ومناسبتها لما قبلها: قوله: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ «١» فأقسم هنا أنه ما ينطق عن الهوى، فقال:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالنَّجْمِ أي: الثريا، أو: جنس النجم إِذا هَوى إذا غرب، أو: انتثر يوم القيامة، أو طلع، يقال: هَوَى هَوِياً، بوزن «فيول» إذا غرب، وهَوى هُوياً، بوزن دُخول: إذا طلع «٢». والعامل في (إذا) فعل القسم، أي: أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه. وجواب القسم: ما ضَلَّ عن قصد الحق صاحِبُكُمْ أي: محمد صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش. وَما غَوى في اتباع الباطل، أو: ما اعتقد باطلاً قط، أي: هو في غاية الهدى والرشد، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية في شيء. فالضلال نقيض الهدى، والغي نقيض الرشد، ومرجعهما لشيء واحد، وهو عدم اتباع طريق الحق.
(١) الآية سورة الطور ٣٣.
(٢) راجع لسان العرب (مادة هوا ٦/ ٤٧٢٧).
(٢) راجع لسان العرب (مادة هوا ٦/ ٤٧٢٧).
499
وقال الفخر: أكثر المفسرين لم يُفرقوا بين الغي والضلال، والفرق بينهما: أنَّ الغي في مقابلة الرشد، والضلال أعم منه، والاسم من الغي: الغَواية- بالفتح- والحاصل: أنّ الغي أقبح من الضلال، إذ لا يرجى فلاحه. وإيراده صلّى الله عليه وسلم بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم خبرا ببراءته- عليه الصلاة والسّلام- مما نفى عنه بالكلية، وباتصافه- عليه الصلاة والسّلام- بغاية الهدى والرشد فإنَّ كون صحبتهم له صلى الله عليه وسلم، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً. وتقييد القسم بوقت الهُوى لأن النجم لا يهتدي به الساري إلا عند هبوطه أو صعوده، وأما ما دام في وسط السماء فلا يهتدي به، ولا يعرف المشرق من المغرب، ولا الشمال من الجَنوب.
ثم قال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي: وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلاً، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ من الله تعالى يُوحى إليه، وهي صفة مؤكدة لوَحْي، لرفع المجاز، مفيدة لاستمرار التجدُّد للوحي، واحتج بهذه الآية مَن لا يرى الاجتهاد للأنبياء- عليهم السلام- ويُجاب بأن الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي، لا نُطقاً عن الهوى.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي: مَلكٌ شديد قواه، وهو جبريل عليه السلام، فإنه الواسطة في إيراد الوحي إلى الأنبياء، ومَن قوته أنه خلع قُرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح صيحةً بثمود، فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة.
ذُو مِرَّةٍ أي: ذو خصابة «١» في عقله، ورزانة ومتانة في دينه. وأصل المِرة: الشدّة، من مراير الحبل، وهو فتله فتلاً شديداً، أو: ذو حُسن في منظره، فَاسْتَوى: عطفٌ على «علَّمه» بطريق التفسير، فإنه إلى قوله:
(ما أوحى) بيان لكيفية التعليم، أو: فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها، دون الصورة التي كان يتمثّل بها كلما هبط بالوحي، وذلك أنّ رسول الله ﷺ أحبّ أن يراه في الصورة التي خلقه اللهُ عليها، وكان صلّى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريلُ من المشرق، وسدّ الأرض من المغرب، وملأ الأفق، فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل في صورة الأدمي، فضمّه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. قيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الأصلية إلا النبي ﷺ فإنه رآه فيها مرتين مرة في الأرض، ومرة في السماء، وقيل: استوى بقوته على ما جعل له [من الأمر] «٢».
ثم قال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي: وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلاً، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ من الله تعالى يُوحى إليه، وهي صفة مؤكدة لوَحْي، لرفع المجاز، مفيدة لاستمرار التجدُّد للوحي، واحتج بهذه الآية مَن لا يرى الاجتهاد للأنبياء- عليهم السلام- ويُجاب بأن الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي، لا نُطقاً عن الهوى.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى أي: مَلكٌ شديد قواه، وهو جبريل عليه السلام، فإنه الواسطة في إيراد الوحي إلى الأنبياء، ومَن قوته أنه خلع قُرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح صيحةً بثمود، فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة.
ذُو مِرَّةٍ أي: ذو خصابة «١» في عقله، ورزانة ومتانة في دينه. وأصل المِرة: الشدّة، من مراير الحبل، وهو فتله فتلاً شديداً، أو: ذو حُسن في منظره، فَاسْتَوى: عطفٌ على «علَّمه» بطريق التفسير، فإنه إلى قوله:
(ما أوحى) بيان لكيفية التعليم، أو: فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها، دون الصورة التي كان يتمثّل بها كلما هبط بالوحي، وذلك أنّ رسول الله ﷺ أحبّ أن يراه في الصورة التي خلقه اللهُ عليها، وكان صلّى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريلُ من المشرق، وسدّ الأرض من المغرب، وملأ الأفق، فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل في صورة الأدمي، فضمّه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. قيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الأصلية إلا النبي ﷺ فإنه رآه فيها مرتين مرة في الأرض، ومرة في السماء، وقيل: استوى بقوته على ما جعل له [من الأمر] «٢».
(١) فى تفسير أبى السعود [خصافة].
(٢) زيادة من تفسير أبى السعود.
(٢) زيادة من تفسير أبى السعود.
500
وَهُوَ أي: جبريل بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق الشمس، أي: مطلعها، ثُمَّ دَنا جبريلُ من النبي ﷺ فَتَدَلَّى أي: زاد في القرب، أو: استرسل من الأفق مع تعلُّق به. يقال: تدلت الشجرة، ودلّى رجله من السرير، وأدلى دلوه، والدوالي: الثمر المُعلّق. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أي: مقدار قوسين عربيين. والقاب: المقدار. قال قتادة وغيره: معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال مجاهد والحسن: من الوتر إلى العود في وسط القوس، أي:
فكان بين جبريل والنّبى صلّى الله عليه وسلم مقدار قوسين، أَوْ أَدْنى في تقديركم، كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ «١» وهذا لأنهم خُوطبوا على لغتهم وفهمهم، وهم يقولون: هذا مقدار قوسين أو أدنى.
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى
أي: فأوحى الله تعالى إلى عبده بواسطة تجلّي جبريل (ما أوحى) من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة، وقيل: أوحى إليه: «أنَّ الجنة مُحرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ويمكن حمل الآية على قصة المعراج، أي: (علَّمه شديد القوى) وهو الله تعالى، (ذُو مِرة) أي: شدة ومتانة، ومنه: أسمه «المتين»، (فاستوى) بنوره أي: تجلّى بنور ذاته من ناحية الأُفق، أي: العلو (فتدلّى) ذلك النور (فكان قاب قوسين أو أدنى) وفي البخاري: «فدنا ربُّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده» ويرجع لتجلّيه لنبيه، وتنزُّله له، وتعرّفه له، وفي حديث الإسراء عنه- عليه الصلاة والسّلام: «سمع النداء من العلي الأعلى: أُدن يا خير البرية، أُدن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنتُ كما قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى». قال القشيري: ويُقال: كان بينه وبين ربه قَدْر قوسين أو أدنى، فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ.
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ أي: فؤاد محمد عليه السلام ما رَأى أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية، أو:
من نور الحق تعالى الذي تجلّى له، أي: ما قال فؤاده لَمَّا رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه بقلبه، كما عرفه ببصره، وقيل: على إسقاط الخافض، أي: ما كذب القلب فيما رآه البصر، بل ما رآه ببصره حققه، وفي الحديث: سئل صلّى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت ربي بفؤادي مرتين» «٢»، حديث آخر: «جعل نور بصري في فؤادي، فنظرتُ إليه بفؤادي» «٣»، يعني أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة، وجاء
فكان بين جبريل والنّبى صلّى الله عليه وسلم مقدار قوسين، أَوْ أَدْنى في تقديركم، كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ «١» وهذا لأنهم خُوطبوا على لغتهم وفهمهم، وهم يقولون: هذا مقدار قوسين أو أدنى.
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحى
أي: فأوحى الله تعالى إلى عبده بواسطة تجلّي جبريل (ما أوحى) من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة، وقيل: أوحى إليه: «أنَّ الجنة مُحرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» ويمكن حمل الآية على قصة المعراج، أي: (علَّمه شديد القوى) وهو الله تعالى، (ذُو مِرة) أي: شدة ومتانة، ومنه: أسمه «المتين»، (فاستوى) بنوره أي: تجلّى بنور ذاته من ناحية الأُفق، أي: العلو (فتدلّى) ذلك النور (فكان قاب قوسين أو أدنى) وفي البخاري: «فدنا ربُّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده» ويرجع لتجلّيه لنبيه، وتنزُّله له، وتعرّفه له، وفي حديث الإسراء عنه- عليه الصلاة والسّلام: «سمع النداء من العلي الأعلى: أُدن يا خير البرية، أُدن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنتُ كما قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى». قال القشيري: ويُقال: كان بينه وبين ربه قَدْر قوسين أو أدنى، فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ.
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ أي: فؤاد محمد عليه السلام ما رَأى أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية، أو:
من نور الحق تعالى الذي تجلّى له، أي: ما قال فؤاده لَمَّا رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه بقلبه، كما عرفه ببصره، وقيل: على إسقاط الخافض، أي: ما كذب القلب فيما رآه البصر، بل ما رآه ببصره حققه، وفي الحديث: سئل صلّى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت ربي بفؤادي مرتين» «٢»، حديث آخر: «جعل نور بصري في فؤادي، فنظرتُ إليه بفؤادي» «٣»، يعني أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة، وجاء
(١) من الآية ١٤٧ من سورة الصافات.
(٢) أخرجه الطبري، وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ١٦٠) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج مسلم فى (الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.. رقم ٢٨٤ ح ١٧٦) عن ابن عباس، قال: «رآه بفؤاده مرتين». [.....]
(٣) أخرجه بطوله، الطبري، عن ابن عباس، فى رواية لحديث «اختصام الملأ الأعلى فى الدرجات والكفارات». قال ابن كثير فى التفسير (٤/ ٢٥١) :«إسناده ضعيف».
(٢) أخرجه الطبري، وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ١٦٠) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظي، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج مسلم فى (الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.. رقم ٢٨٤ ح ١٧٦) عن ابن عباس، قال: «رآه بفؤاده مرتين». [.....]
(٣) أخرجه بطوله، الطبري، عن ابن عباس، فى رواية لحديث «اختصام الملأ الأعلى فى الدرجات والكفارات». قال ابن كثير فى التفسير (٤/ ٢٥١) :«إسناده ضعيف».
501
أيضاً: أنه لما انتهى إلى العرش صار كله بصراً، وبهذا يرتفع الخلاف، وأنه رآه ببصر رأسه وقوله صلّى الله عليه وسلم، حين سأله أبو ذر: هل رأيت ربك؟ فقال: «نورَاني أراه» «١» وفي رواية: «نورٌ أَنَّى أراه» ؟ «٢» بالاستفهام، وفي طريق آخر:
«رأيت نوراً» «٣» وحاصلها: أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات، كما هو مقرر عند محققي الصوفية، كما قال الشاعر:
وقال كعب لابن عباس: إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلَّم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين «٤». وقيل لابن عباس: ألم يقل الله: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «٥»، قال: ذلك إذا تجلّى بنوره «٦». الذي هو نوره الأصلي، يعني أن الله تعالى يتجلّى لخلقه على ما يطيقون، ولو تجلّى بنوره الأصلي لتلاشى الخلق، كما قال في الحديث: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقت تجليات وجهه ما أدركه من بصره» «٧».
أَفَتُمارُونَهُ أي: أفتجادلونه، من: المراء، وهو المجادلة، واشتقاقه من: مَرْي الناقة، وهو استخراج لبنها، كأنَّ كل واحد من المتجادلين يَمْري ما عند صاحبه، أي: يستخرجه. وقرىء في التواتر: «أَفَتَمْرُونه» «٨» أي:
أفتغلبونه. ولما فيه من معنى الغلبة، قال تعالى: عَلى ما يَرى فعدّى بعلى، كما تقول: غلبته على كذا، وقيل:
أفتمرونه: أفتجحدونه، يقال: مريته حقّه: جحدته، وتعديته ب «على» على مذهب التضمين، والمعنى: أفتُخاصمونه على ما يرى معاينة، وحققه باطنا.
«رأيت نوراً» «٣» وحاصلها: أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات، كما هو مقرر عند محققي الصوفية، كما قال الشاعر:
وليستْ تُنال الذاتُ من غير مَظهرٍ | ولو هُتك الإنسانُ من شدةِ الحرصِ |
أَفَتُمارُونَهُ أي: أفتجادلونه، من: المراء، وهو المجادلة، واشتقاقه من: مَرْي الناقة، وهو استخراج لبنها، كأنَّ كل واحد من المتجادلين يَمْري ما عند صاحبه، أي: يستخرجه. وقرىء في التواتر: «أَفَتَمْرُونه» «٨» أي:
أفتغلبونه. ولما فيه من معنى الغلبة، قال تعالى: عَلى ما يَرى فعدّى بعلى، كما تقول: غلبته على كذا، وقيل:
أفتمرونه: أفتجحدونه، يقال: مريته حقّه: جحدته، وتعديته ب «على» على مذهب التضمين، والمعنى: أفتُخاصمونه على ما يرى معاينة، وحققه باطنا.
(١) ذكر هذه الرّواية بنصها السيوطي فى الدر المنثور (٦/ ١٦٠) وعزاها لمسلم والترمذي وابن مردويه، عن أبى ذر، ولم أقف عليها فى مسلم والترمذي. وقال الإمام النّووى فى شرح صحيح مسلم (٣/ ١٢) : قال الإمام المازري: وروى: «نورانى أراه» بفتح الرّاء وكسر النّون وتشديد الياء، ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلنا، أي: خالق النّور المانع من رؤيته، فيكون من صفات الأفعال.
وقال القاضي عياض- رحمه الله: هذه الرّواية لم تقع إلينا، ولا رأيتها فى شىء من الأصول. هـ.
(٢) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب فى قوله صلّى الله عليه وسلم: نور أنى أراه، رقم ٢٩١، ح ١٧٨).
(٣) أخرجه مسلم فى الموضع السابق (رقم ٢٩٢).
(٤) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير، باب ومن سورة النّجم، ح ٣٧٢٨).
(٥) من الآية ١٠٣ من سورة الأنعام.
(٦) أخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (ص ٤١٠) وضعّفه، عن عكرمةُ عن ابن عباس، بلفظ: «قال: يا لا أم لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شىء».
(٧) جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب فى قوله عليه السلام: «إنَّ الله لا ينام، رقم ٢٩٣ ح ١٧٩) عن أبى موسى رضي الله عنه.
(٨) «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم بلا ألف. وبها قرأ حمزة والكسائي ويعقوب، وخلف. وقرأ الجمهور «أفتمارونه» بضم التاء وفتح الميم وألف بعدها. انظر الإتحاف (٢/ ٥٠١).
وقال القاضي عياض- رحمه الله: هذه الرّواية لم تقع إلينا، ولا رأيتها فى شىء من الأصول. هـ.
(٢) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب فى قوله صلّى الله عليه وسلم: نور أنى أراه، رقم ٢٩١، ح ١٧٨).
(٣) أخرجه مسلم فى الموضع السابق (رقم ٢٩٢).
(٤) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير، باب ومن سورة النّجم، ح ٣٧٢٨).
(٥) من الآية ١٠٣ من سورة الأنعام.
(٦) أخرجه البيهقي فى الأسماء والصفات (ص ٤١٠) وضعّفه، عن عكرمةُ عن ابن عباس، بلفظ: «قال: يا لا أم لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شىء».
(٧) جزء من حديث صحيح أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب فى قوله عليه السلام: «إنَّ الله لا ينام، رقم ٢٩٣ ح ١٧٩) عن أبى موسى رضي الله عنه.
(٨) «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم بلا ألف. وبها قرأ حمزة والكسائي ويعقوب، وخلف. وقرأ الجمهور «أفتمارونه» بضم التاء وفتح الميم وألف بعدها. انظر الإتحاف (٢/ ٥٠١).
502
وَلَقَدْ رَآهُ أي: رآى محمدٌ جبريلَ على صورته الأصلية، أو: رأى ربه على تجلٍّ خاص وتعرفٍ تام، نَزْلَةً أُخْرى مرةً أخرى، والحاصل: أنه عليه السلام رأى ربه بتجلٍّ خاص جبروتي مرتين، عند خرق الحُجب العلوية فوق العرش، عند السدرة، وأما رؤيته عليه السلام لله تعالى في مظاهر الكائنات ففي كل حين، لا يغيب عنه طرفة عين.
والنزلة: فعلة من النزول، نُصب نَصبَ الظرف الذي هو «مرّة». عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، الجمهور: أنها شجرة النبق في السماء السابعة، عن يمين العرش، وتسميتها المنتهى إما لأنها في منتهى الجنة وآخرها، أو: لأنها لم يُجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها، أو: إليها ينتهي أرواح الخلائق، أو: أرواح الشهداء، وفي الحديث: «أنها شجرة يسير الراكب في ظلها ألف عام، لا يقطعها، والورقة منها تُظل الأُمّة، وتمرها كالقِلال الكبار». «١»
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي: الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها، أو: تأوي إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء. قال ابن جُزي: يعني أن الجنة التي وَعَدَ اللهُ بها عبادَه هي عند سدرة المنتهى، وقيل: هي جنة أخرى، والأول أظهر وأشهر. هـ. ويؤيده ما في الحديث: «إن النيل والفرات يخرجان من أصلها» وهما من الجنة، كما في الصحيح «٢». إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، ظرف للرؤية، أي: لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها، مما لا يكتنهه الوصف، ولا يفي به البيان، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، استحضاراً لصورتها البديعة، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدُّده، وقيل: يغشاها الجمُّ الغفير من الملائكة، يعبدون الله تعالى عندها، وقيل: يزورونها متبركين بها، كما يزور الناسُ الكعبة، وقيل: يغشاها فَراش من ذهب، والفَراش- بفتح الفاء- ما يطير ويضطرب. ما زاغَ الْبَصَرُ أي: بصر محمد صلى الله عليه وسلم، أي: ما عدل عن رؤية العجائب التي مُكِّنَ من رؤيتها، وَما طَغى وما جاوز ما أمر برؤيته، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي: والله لقد رأى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفي به نطاق العبارة، وقد دُوِّنَتْ هنا كُتبٌ في عجائب ما رآه صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
الإشارة: أقسم اللهُ تعالى بنجم العلم إذا طلع في أفق سماء القلوب الصاحية، إنَّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم بالله، وأشرقت عليه شمسُ الحقائق، لا يَضل صاحبُه ولا يغوى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ لأنه مستغرق في شهود الحق، لا يتجلى فيه إلاَّ الحق، (إنْ هو) أي: ما يتجلى فيه إلا وحي يُوحى من قِبل الإلهام الإلهي، علمه شديد القوى، وهو الوارد الرباني، ذو مِرةٍ وشدة لأنه من حضرة قهّار، ولا يُصادم شيئاً إلا دفعه، فاستوى وهو بالأفق
والنزلة: فعلة من النزول، نُصب نَصبَ الظرف الذي هو «مرّة». عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، الجمهور: أنها شجرة النبق في السماء السابعة، عن يمين العرش، وتسميتها المنتهى إما لأنها في منتهى الجنة وآخرها، أو: لأنها لم يُجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها، أو: إليها ينتهي أرواح الخلائق، أو: أرواح الشهداء، وفي الحديث: «أنها شجرة يسير الراكب في ظلها ألف عام، لا يقطعها، والورقة منها تُظل الأُمّة، وتمرها كالقِلال الكبار». «١»
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي: الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها، أو: تأوي إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء. قال ابن جُزي: يعني أن الجنة التي وَعَدَ اللهُ بها عبادَه هي عند سدرة المنتهى، وقيل: هي جنة أخرى، والأول أظهر وأشهر. هـ. ويؤيده ما في الحديث: «إن النيل والفرات يخرجان من أصلها» وهما من الجنة، كما في الصحيح «٢». إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، ظرف للرؤية، أي: لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها، مما لا يكتنهه الوصف، ولا يفي به البيان، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، استحضاراً لصورتها البديعة، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدُّده، وقيل: يغشاها الجمُّ الغفير من الملائكة، يعبدون الله تعالى عندها، وقيل: يزورونها متبركين بها، كما يزور الناسُ الكعبة، وقيل: يغشاها فَراش من ذهب، والفَراش- بفتح الفاء- ما يطير ويضطرب. ما زاغَ الْبَصَرُ أي: بصر محمد صلى الله عليه وسلم، أي: ما عدل عن رؤية العجائب التي مُكِّنَ من رؤيتها، وَما طَغى وما جاوز ما أمر برؤيته، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي: والله لقد رأى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفي به نطاق العبارة، وقد دُوِّنَتْ هنا كُتبٌ في عجائب ما رآه صلّى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
الإشارة: أقسم اللهُ تعالى بنجم العلم إذا طلع في أفق سماء القلوب الصاحية، إنَّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم بالله، وأشرقت عليه شمسُ الحقائق، لا يَضل صاحبُه ولا يغوى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ لأنه مستغرق في شهود الحق، لا يتجلى فيه إلاَّ الحق، (إنْ هو) أي: ما يتجلى فيه إلا وحي يُوحى من قِبل الإلهام الإلهي، علمه شديد القوى، وهو الوارد الرباني، ذو مِرةٍ وشدة لأنه من حضرة قهّار، ولا يُصادم شيئاً إلا دفعه، فاستوى وهو بالأفق
(١) جزء من حديث الإسراء الطويل، وأخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ح ٣٢٠٧) ومسلم فى (الإيمان، باب الإسراء رقم ٢٦٤، ح ١٦٤) عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وفيه: «ورفعت لى سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول، فى أصلها أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسألت جبريل، فقال: «أما الباطنان ففى الجنة، وأما الظاهران النّيل والفرات..» الحديث.
(٢) قوله: «هما فى الجنة كما في الصحيح» يشير الشيخ- رحمه الله- إلى ما أخرجه مسلم فى (الجنة، باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ح ٢٨٣٩) عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والنّيل والفرات كلّ من أنهار الجنة».
(٢) قوله: «هما فى الجنة كما في الصحيح» يشير الشيخ- رحمه الله- إلى ما أخرجه مسلم فى (الجنة، باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ح ٢٨٣٩) عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والنّيل والفرات كلّ من أنهار الجنة».
503
الأعلى من سماء الغيوب، ثم دنا من القلب فتدلّى، فكان من القلب قاب قوسين أو أدنى، فأوحى اللهُ تعالى بواسطة ذلك الوارد إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ من علوم الحقائق والأسرار، ومن مكاشفات غيوب الأقدار، ما كذب الفؤادُ فيما رأى لأنه حق، لكن قهرية العبودية غيَّبت عنه تعيين وقت وقوعه. ولقد رآه، أي: رآى القلبُ أسرارَ ذات الحق، نزلةً أخرى في عالم الجبروت، الخارج عن دائرة التجليات الكونية، وهي الأسرار اللطيفة، المحيطة في الأنوار الملكوتية والملكية، عند سِدرة المنتهى، وهي شجرة القبضة المحمدية، التي انتهى إليها علم العلماء، وأرواح الشهداء، إذ لا يخرج عن دائرتها أفكار العارفين. عندها جنة المأوى التي يأوي إليها أفكار العارفين وأسرار الرّاسخين، إذ يعشى السدرة- أي: شجرة الكون- ما يغشى من الفناء والتلاشي عند سطوع شمس الحقائق، ما زاغ بصرُ البصيرة عن شهود تلك الأسرار، وما حجبه عنها أرض، ولا سماء، ولا عرش، ولا كرسي لتلطُّف تلك العوالم في نظر العارف، وما طغى: وما جاوز العبودية حتى يطمع في الإحاطة بعظمة كنه الربوبية، فإنَّ الإحاطة لا تُمكن، لا في هذه الدار، ولا في تلك الدار، بل يبقى الترقي في الكشوفات، والمزيد من حلاوة الشهود أبداً سرمداً، لقد رأى هذا القلب الصافي من عجائب ربه الكبرى، حيث وسع مَن لم تسعه أرضه ولا سماؤه.
وقال الورتجبي: بعد كلام: في هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه، إذ رآه نزلةً أخرى، عند سدرة المنتهى، ظن ﷺ أنَّ ما رآه في الأول لا يكون في الكون- أي: في مظهر الكون- لكمال علمه بتنزيه الحق، فلما رآه ثانياً علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان، وعادة الكُبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريما، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حُبه لحبيبه. وحقيقة الإشارة: أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس، فلبس [الأمر] «١»، وظهرَ المكرُ، وبان الحقُّ من شجرة سدرة المنتهى، كما بان من شجرة العِناب لموسى، ليعرفَهُ حبيبُه بكمال المعرفة، إذ ليس بعارف مَن لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة، وبيان ذلك في قوله: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) وأبهم ما غشيه لأن العقول لا تُدرك حقائق ما يغشاها، وكيف يغشاها، والقِدم منزّه عن الحلول في الأماكن؟! كان ولا شجرة، وكانت الشجرة مرآه لظهوره سبحانه، ما ألطف ظهوره، لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به. هـ.
ولمّا فرغ من ذكر عظمة الله وكبريائه، ذكر حقارة من عبد من دونه، ترهيبا وترغيبا، فقال
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥)
وقال الورتجبي: بعد كلام: في هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه، إذ رآه نزلةً أخرى، عند سدرة المنتهى، ظن ﷺ أنَّ ما رآه في الأول لا يكون في الكون- أي: في مظهر الكون- لكمال علمه بتنزيه الحق، فلما رآه ثانياً علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان، وعادة الكُبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريما، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حُبه لحبيبه. وحقيقة الإشارة: أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس، فلبس [الأمر] «١»، وظهرَ المكرُ، وبان الحقُّ من شجرة سدرة المنتهى، كما بان من شجرة العِناب لموسى، ليعرفَهُ حبيبُه بكمال المعرفة، إذ ليس بعارف مَن لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة، وبيان ذلك في قوله: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) وأبهم ما غشيه لأن العقول لا تُدرك حقائق ما يغشاها، وكيف يغشاها، والقِدم منزّه عن الحلول في الأماكن؟! كان ولا شجرة، وكانت الشجرة مرآه لظهوره سبحانه، ما ألطف ظهوره، لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به. هـ.
ولمّا فرغ من ذكر عظمة الله وكبريائه، ذكر حقارة من عبد من دونه، ترهيبا وترغيبا، فقال
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥)
(١) زيادة أثبتها من الورتجبي.
504
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أي: أخبروني عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله، هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رَبُّ العزة في الآي السابقة حتى استحقت العبادة، أم لا؟ واللات وما بعدها: أصنام كانت لهم، فاللات كانت لثقيف بالطائف، وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش، وهي فَعْلَةٌ، من: لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها. وقرأ ابن عباس ومجاهد ورُويس بتشديد التاء، على أنه اسم فاعل، اشتهر به رجلا كان يُلتُّ السَّوِيق بالزيت، ويُطعمه الحاجَ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه «١». (والعزى) كانت لغطفان، وهي شجرة كانوا يعبدونها، فبعث رسول الله ﷺ خالدَ بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، واضعة يدها على رأسها، وهو تُولول، فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها، فأخبر رسول الله ﷺ فقال: «تلك العُزى، لن تُعبد بعد اليوم أبداً» «٢».
(ومناة) : صخرة على ساحل البحر لهذيل وخزاعة، وقيل: بيت بالمشلّل يعبده بنو كعب، وسميت مناة لأن دماء النسائك تُمنى، أي: تُراق عندها لأنهم كانوا يذبحون عندها. وقرأ ابن كثير بالهمزة بعد الألف، مشتق من النوء لأنهم كانوا يستمطرون بالأنواء عندها، تبرُّكاً بها، وقيل: سَموا هذه الأصنام بأسماء الله، وأَنَّثوها، كأنها بنات الله في زعمهم الفاسد، فاللات من «الله»، كما قالوا: عمر وعمرة، وعباس وعباسة، فالتاء للتأنيث. والعُزَّى: تأنيث العزيز، ومناة: تأنيث منان، فغُيّر تخفيفاً، ويؤيد هذا قوله تعالى ردا عليهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى.
والْأُخْرى: صفة ذمّ لها، وهي المتأخرة الوضيعة القدر، كقوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «٣» أي: وضعاؤهم لرؤسائهم، وقيل: وصفها بالوصفين لأنهم كانوا يُعظِّمونها أكثر من اللات والعزى، والفاء في قوله: (أفرأيتم) للعطف على محذوف، وهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: عَقِب ما سمعتم من كمال عظمته تعالى في ملكه وملكوته، وأحكام قدرته، ونفوذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما، رأيتم هذه الأصنام مع حقارتها بنات الله، مع وأدكم البنات، وكراهتكم لهنّ؟.
(ومناة) : صخرة على ساحل البحر لهذيل وخزاعة، وقيل: بيت بالمشلّل يعبده بنو كعب، وسميت مناة لأن دماء النسائك تُمنى، أي: تُراق عندها لأنهم كانوا يذبحون عندها. وقرأ ابن كثير بالهمزة بعد الألف، مشتق من النوء لأنهم كانوا يستمطرون بالأنواء عندها، تبرُّكاً بها، وقيل: سَموا هذه الأصنام بأسماء الله، وأَنَّثوها، كأنها بنات الله في زعمهم الفاسد، فاللات من «الله»، كما قالوا: عمر وعمرة، وعباس وعباسة، فالتاء للتأنيث. والعُزَّى: تأنيث العزيز، ومناة: تأنيث منان، فغُيّر تخفيفاً، ويؤيد هذا قوله تعالى ردا عليهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى.
والْأُخْرى: صفة ذمّ لها، وهي المتأخرة الوضيعة القدر، كقوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «٣» أي: وضعاؤهم لرؤسائهم، وقيل: وصفها بالوصفين لأنهم كانوا يُعظِّمونها أكثر من اللات والعزى، والفاء في قوله: (أفرأيتم) للعطف على محذوف، وهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: عَقِب ما سمعتم من كمال عظمته تعالى في ملكه وملكوته، وأحكام قدرته، ونفوذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما، رأيتم هذه الأصنام مع حقارتها بنات الله، مع وأدكم البنات، وكراهتكم لهنّ؟.
(١) أخرج البخاري المقطع الأول: «كان اللات رجلا يلت سويق الحاج» فى (التفسير، سورة النّجم، باب أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى رقم ٤٨٥٩).
(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي ٣/ ٩٠٧ لابن مردويه، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. [.....]
(٣) من الآية ٣٨ من سورة الأعراف.
(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي ٣/ ٩٠٧ لابن مردويه، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. [.....]
(٣) من الآية ٣٨ من سورة الأعراف.
505
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى أي: أتُحبون لكم الذكر وتنسبون له الأنثى كهذه الأصنام والملائكة؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي: جائرة، من: ضازه يضيزه: إذا ظلمه، وصرّح في القاموس بأنه مثلث الضاد ضيزى وضوزى وضازى، وهو هنا فُعلى بالضم، من الضيز، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء، كما فعل في «بيض»، فإن «فِعلى» بالكسر لم تأت وصفاً، وإنما هي من بناء الأسماء، كالشّعرى والدفلى. وقال ابن هشام: فإن كانت فُعلى صفة محضة وجب قلب الضمة كسرة، ولم يُسمع من ذلك إلا «قسمة ضيزى» «ومشية حِيكى»، أي: يتحرك فيها المنكبان. هـ.
وقرأ المكيُّ بالهمز «١»، من: ضأزه: ظلمه، فهو مصدر نعت به.
إِنْ هِيَ أي: هذه الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ وليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدّعون لها الألوهية، وهي أبعد شيء منها، سَمَّيْتُمُوها آلهة، أو: سميتم بها هذه الأصنام، واعتقدتم أنها آلهة، بمقتضى أهوائكم الباطلة، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ من حجة. إِنْ يَتَّبِعُونَ فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إِلَّا الظَّنَّ: إلا توهم أنَّ ما هم عليه حق، توهُّماً باطلاً، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي: ما تشتهيه أنفسهم الأمّارة، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول والكتاب فتركوه.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى. «أم» : منقطعة، والهمزة للإنكار، أي: ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسُه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها، كقول بعضهم: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «٢»، وكَتَمَنِّي بعضُهم أن يكون هو النبي، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي: الدنيا والآخرة، هو مالكهما والحاكم فيهما، يُعطي الشفاعة والنبوة مَن شاء، لا من تمناهما بمجرد الهوى، وهو تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما تمنّى، فإنّ اختصاص أمور الآخرة والأُولى به تعالى مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان شيء مما تمنى إلا ان يشاء ويرضى.
الإشارة: هذه الأصنام موجودة في كل إنسان، فاللات: حب اللذات والشهوات الجسمانية الفانية، فمَن كان حريصاً عليها، جامعاً لأسبابها، فهو عابد لها، والعُزى: حب العز والجاه والرئاسة وسائر الشهوات القلبية، فمَن طلبها فهو عبد لها، ومناة: تمني البقاء في الدنيا الدنية الحقيرة، وطول الأمل فيها، وكراهية الموت، فمَن كان هذا وصفه فهو عبد الدنيا، كاره لقاء الله، فيكره اللهُ لقاءه، فتوجه لهؤلاء العتاب بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ حيث تُحبون ما هو كمال لأنفسكم، وَلَهُ الْأُنْثى؟ حيث جعلتم هذه الأشياء الحقيرة
وقرأ المكيُّ بالهمز «١»، من: ضأزه: ظلمه، فهو مصدر نعت به.
إِنْ هِيَ أي: هذه الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ وليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدّعون لها الألوهية، وهي أبعد شيء منها، سَمَّيْتُمُوها آلهة، أو: سميتم بها هذه الأصنام، واعتقدتم أنها آلهة، بمقتضى أهوائكم الباطلة، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ، ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ من حجة. إِنْ يَتَّبِعُونَ فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها إِلَّا الظَّنَّ: إلا توهم أنَّ ما هم عليه حق، توهُّماً باطلاً، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي: ما تشتهيه أنفسهم الأمّارة، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول والكتاب فتركوه.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى. «أم» : منقطعة، والهمزة للإنكار، أي: ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسُه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها، كقول بعضهم: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «٢»، وكَتَمَنِّي بعضُهم أن يكون هو النبي، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي: الدنيا والآخرة، هو مالكهما والحاكم فيهما، يُعطي الشفاعة والنبوة مَن شاء، لا من تمناهما بمجرد الهوى، وهو تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما تمنّى، فإنّ اختصاص أمور الآخرة والأُولى به تعالى مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان شيء مما تمنى إلا ان يشاء ويرضى.
الإشارة: هذه الأصنام موجودة في كل إنسان، فاللات: حب اللذات والشهوات الجسمانية الفانية، فمَن كان حريصاً عليها، جامعاً لأسبابها، فهو عابد لها، والعُزى: حب العز والجاه والرئاسة وسائر الشهوات القلبية، فمَن طلبها فهو عبد لها، ومناة: تمني البقاء في الدنيا الدنية الحقيرة، وطول الأمل فيها، وكراهية الموت، فمَن كان هذا وصفه فهو عبد الدنيا، كاره لقاء الله، فيكره اللهُ لقاءه، فتوجه لهؤلاء العتاب بقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ حيث تُحبون ما هو كمال لأنفسكم، وَلَهُ الْأُنْثى؟ حيث جعلتم هذه الأشياء الحقيرة
(١) «ضئزى» بهمزة ساكنة، وبها قرأ ابن كثير المكي. انظر الإتحاف (١/ ٥٠١).
(٢) الآية ٥٠ من سورة فصلت.
(٢) الآية ٥٠ من سورة فصلت.
506
شريكة لله في استحقاق العبادة والمحبة، تلك إذاً قسمة ضِيزى جائرة، ما هي إلا أسماء ليس تحتها طائل، تفنى ويبقى عليها العذاب والعتاب، سميتموها واعتنيتم بشأنها والانكباب عليها، أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بمتابعتها والحرص على تحصيلها من سلطان ولا برهان، إن يتبعون في اتباعها والحرص عليها إلا الظن، ظنوا أنها حيث كانت مباحة في ظاهر الشرع لا تَضُر القلبَ ولا تحجبه عن شهود الرب، وهو رأي فاسد إذ ليس للقلب إلا وجهة واحدة، إن توجه لطلب الحظوظ أعرض عن الله قطعاً، وإن توجه لله أعرض عما سواه، وراجع ما تقدم في قوله:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ الآية «١». ويتبعون أيضاً ما تهوى الأنفُس الأمَّارة لأنها لا تهوى إلا ما فيه حظها وهواها، ولقد جاءهم من ربهم الهدى، أي: مَن يهدي إلى طريق السلوك، بقطع العلائق النفسانية والقلبية، وهم خلفاء الرسول عليه السلام، الدعوان إلى الله، من شيوخ التربية في كل زمان، أم للإنسان ما تمنى، ليس له ما يتمنى إلا بسابق العناية، فلا يُدرك العبدُ من الدنيا والآخرة، ومن الله تعالى، إلا ما سبق به القدر، كما قال الشاعر:
فلله الآخرة والأولى، قال القشيري: يُشير إلى قَهْرمَانيةِ الحق تعالى على العالم كله، ملكه وملكوته، الأخروي والدنيوي، فلا يملك الإنسان من أمر الدارين شيئاً، بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى، المقتضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة، يهبه باسمه الواهب لمَن شاء أن يكون مظهراً للطفه وجماله، وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى، المقتضية لأسباب حصول الدنيا، من حب الدنيا الدنية، المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة، وموافقة الطبيعة اللئيمة، باسمه المقسط، لمَن شاء أن يكون مظهر قهرِه وجلاله، وليس ذلك يزيد في ملكه، ولا هذا ينقص من ملكه، وكلتا يديه ملأى سحّاء، أي: فياضة. هـ.
ثم نفى الشفاعة عمّن يستحقها من الملائكة الكرام، فضلا عمن لا يستحقها من الأصنام اللئام، فقال:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ الآية «١». ويتبعون أيضاً ما تهوى الأنفُس الأمَّارة لأنها لا تهوى إلا ما فيه حظها وهواها، ولقد جاءهم من ربهم الهدى، أي: مَن يهدي إلى طريق السلوك، بقطع العلائق النفسانية والقلبية، وهم خلفاء الرسول عليه السلام، الدعوان إلى الله، من شيوخ التربية في كل زمان، أم للإنسان ما تمنى، ليس له ما يتمنى إلا بسابق العناية، فلا يُدرك العبدُ من الدنيا والآخرة، ومن الله تعالى، إلا ما سبق به القدر، كما قال الشاعر:
ما كل ما يتمنى المرءُ يُدركه | تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ |
ثم نفى الشفاعة عمّن يستحقها من الملائكة الكرام، فضلا عمن لا يستحقها من الأصنام اللئام، فقال:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
(١) الآية ٢٠ من سورة الأحقاف.
507
قلت: (كم) : خبرية، تفيد التكثير، ومحلها: رفع بالابتداء، والجملة المنفية: خبر، وجمع الضمير في (شفاعتهم) لأن النّكرة المنفية تعم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ أي: كثير من الملائكة لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ عند الله تعالى شَيْئاً من الإغناء في وقت من الأوقات، إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ أن يشفعوا له، وَيَرْضى ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم عن إذن الله بمعزلٍ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر، فما ظنهم بحال الأصنام؟! ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزّهين عن سمات النقص تَسْمِيَةَ الْأُنْثى، فإن قولهم: الملائكة بنات الله، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته- سبحانه، وهي التسمية بالأنثى، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترىء عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي: بما يقولون. وقرئ «بها» أي: بالتسمية، أو بالملائكة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وهو تقليد الآباء، وَإِنَّ الظَّنَّ أي: جنس الظن، ولذلك أظهر في موضع الإضمار، لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء، وهو لا يُدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي: عنهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة، ولتعليل الحكم، أي: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكِّر بالأمور الآخرة، أو: عن ذكرنا كما ينبغي، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، قال الطيبي: أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة، وهو يقول:
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ أي: كثير من الملائكة لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ عند الله تعالى شَيْئاً من الإغناء في وقت من الأوقات، إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ أن يشفعوا له، وَيَرْضى ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم عن إذن الله بمعزلٍ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر، فما ظنهم بحال الأصنام؟! ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزّهين عن سمات النقص تَسْمِيَةَ الْأُنْثى، فإن قولهم: الملائكة بنات الله، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته- سبحانه، وهي التسمية بالأنثى، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترىء عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي: بما يقولون. وقرئ «بها» أي: بالتسمية، أو بالملائكة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وهو تقليد الآباء، وَإِنَّ الظَّنَّ أي: جنس الظن، ولذلك أظهر في موضع الإضمار، لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء، وهو لا يُدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي: عنهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة، ولتعليل الحكم، أي: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكِّر بالأمور الآخرة، أو: عن ذكرنا كما ينبغي، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، قال الطيبي: أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة، وهو يقول: