ﰡ
قوله: ﴿ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ الجملة حالية. قوله: (وكان) أي النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وكان قد سأله) الخ، تعليل لقوله: ﴿ فَٱسْتَوَىٰ ﴾ وذلك أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين، كما يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جعله الله عليها. فأراه نفسه مرتين، مرة بالأرض ومرة بالسماء، ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. قوله: (فنزل جبريل) عطف على قوله: (فخر مغشياً عليه). قوله: (زاد في القرب) أي فالكلام باق على ظاهره، وقيل: في الكلام قلب، والأصل فتدلى ثم دنا، ومعنى تدلى رجع لصورته الأصلية. قوله: ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ في الكلام حذف، والأصل فكان مقدار مسافة قربه منه، مثل مقدار مسافة قاب قوسين، والقاب القدر، وقيل: هو ما بين المقبض والطرف، ولكل قوس قابان، فأصل الكلام فكان قابي قوسين، فحصل في الكلام قلب. قوله: ﴿ أَوْ أَدْنَىٰ ﴾ أو بمعنى بل، نظير قوله تعالى:﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات: ١٤٧] أو على بابها، والشك بالنسبة للرائي، والمعنى: إذا نظرت إليه وهو في تلك الحالة، وتتردد بين المقدارين. قوله: (حتى أفاق) غاية لمحذوف أو ضمه إليه حتى أفاق، روي أنه لما أفاق قال: يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحداً على مثل هذه الصورة، فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي، وإن لي ستمائة جناح، سعة كل جناحٍ ما بين المشرق والمغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن هذا لعظيم، فقال جبريل: وما أنا في جنب خلق الله إلا يسيراً، ولقد خلق الله إسرافيل، له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى، حتى يكون بقدر الوصع، أي العصفور الصغير، وهذا على كلام الجمهور، وأما على المراد به الرب سبحانه وتعالى، فمعنى الاستواء: الاستعلاء والقهر، ومعنى الدنو والتدلي: تجليه بصفة الجمال والمحبة لعبده، على حد ما قيل في ينزل ربنا كل ليلة.
قوله: (لما أسري به) أي وكان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر، وقيل: كان قبلها بثلاث سنين، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين. قوله: (وهي شجرة نبق) أي وفيها الحل والحلل والثمار من جميع الألوان، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها. قيل: هي شجرة طوبى، والصحيح أنها غيرها، والنبق بكسر الياء وسكونها، واختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر، لما قيل: إن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعام لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية، فظللها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره، قيل: إن سدرة المنتهى قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: استوص بإخواني في الأرض خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم:" من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار "واستشكل هذا الحديث بأنه يقتضي أن قطع السدر حرام لحاجة ولغير حاجة، مع أنه خلاف المنصوص، وأجيب بأنه سئل أبو داود عن هذا الحديث فقال: هو مختصر وحاصله:" من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار "وبعد ذلك فهذا لا يخص السدر. قوله: ﴿ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ ﴾ حال من ﴿ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾.
قوله: (تأوي إليها الملائكة) الخ، وقيل: هي الجنة التي أوي إليها آدم عليه السلام إلى أن أخرج منها، وقيل: لأن جبريل وميكائيل يأويان إليها، فهذا وجه تسميتها جنة المأوى، أو لأن أهل السعادة يأوون إليها. قوله: ﴿ مَا يَغْشَىٰ ﴾ أبهم الموصول وصلته إشارة إلى أن ما غشيها لا يحيط به إلا الله تعالى. قوله: (من طير وغيره) ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى "وورد أنه عليه الصلاة والسلام قال:" ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى، ففرض علي خسمين صلاة في كل يوم وليلة "وقيل: يغشاها أنوار التجلي وقت مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لربه، كما تجلى على الجبل عند مكالمة موسى، لكن السدرة أقوى من الجبل، فالجبل صار دكاً، وخر موسى صعقاً، ولم تتحرك السدرة، ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ ﴾ أي ما يلتفت إلى ما غشى السدرة من العجائب المتقدمة، لأن الزيغ هو الالتفات لغير الجهة التي تعنيه. قوله: ﴿ وَمَا طَغَىٰ ﴾ الطغيان مجاوزة الحد اللائق كما أفاده المفسر، فوصف صلى الله عليه وسلم بكمال الثبات والأدب، مع غرابة ما هو فيه إذ ذاك، وسبق تنزيه علمه من الضلال، وعمله عن الغواية، ونطقه عن الهوى، وفؤاده عن التكذيب، وهنا تنزه بصره عن الزيغ والطغيان مع تأكيد ذلك وتحقيقه بالأقسام، وناهيك بذلك عن رب العزة جل جلاله ثناء.
قوله: ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ أي بمن أخلص في طاعته وتقواه، فينتفع بها ويثاب عليها، وأما المرائي، فلا ينتفع بطاعته، بل يعاقب عليها، لأن الرياء يحبط العمل. قوله: (أي ارتد) أي بعد أن أسلم بالفعل، وهذا أحد قولين: وقيل: قارب الإسلام ولم يسلم بالفعل. قوله: (وأعطاه من ماله) الضمير المستتر في أعطى عائد على الذي تولى، والبارز عائد على الذي ضمن له عذاب الله، فتحصل أن الضامن جعل على المتولي شيئين: الرجوع إلى الشرك، وأن يدفع له عدداً معيناً من ماله، وجعل على نفسه هو شيئاً واحداً، وهو ضمان عذاب الله. قوله: ﴿ وَأَكْدَىٰ ﴾ هو في الأصل من أكدى الحافر إذا أصاب كدية منعته من الحفر، ومثله أحبل، أي صادف جبلاً منعه من الحفر، ثم استعمل في كل من طلب منه شيء فلم يعطه. قوله: ﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ ﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ليس عنده علم الغيب. قوله: ﴿ فَهُوَ يَرَىٰ ﴾ عطف على قوله: ﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ ﴾ فهي داخلة في حيز الاستفهام. قوله: (وهو الوليد بن المغيرة) أي وهو قول مقاتل وعليه الأكثر. قوله: (أو غيره) أي فقيل: هو العاص بن وائل السهمي، وقيل: هو أبو جهل، وهذا الخلاف في بيان الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى، وأما الذي غره وضمن أن يحمل عنه العذاب، فلم يذكروا تعيينه.
قوله: (تمم ما أمر به) أي من تبليغ الرسالة، وقيامه بالضيفان، وخدمته إياهم بنفسه، فكان يخرج يلتقي الضيفان من مسافة فرسخ، فإن وجد الضيفان أكرمهم وأكل معهم، وإلا نوى الصوم، وصبره على النار، وذبح ولده، وقيل: المراد ﴿ وَفَّىٰ ﴾ سهام الإسلام وهي ثلاثون: عشرة في التوبة﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ﴾[التوبة: ١١٢] وعشرة في الأحزاب﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ ﴾[الأحزاب: ٣٥]، وعشرة في المؤمنون﴿ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾[المؤمنون: ١] وقيل: المراد ﴿ وَفَّىٰ ﴾ بكلمات كان يقولهن إذا أصبح وإذا أمسى﴿ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ﴾[الروم: ١٧] إلى﴿ تُظْهِرُونَ ﴾[الروم: ١٨] والمعنى أنه ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به. قوله: (وبيان ما) أي فقوله (أن لا تزر) في محل جر بدل من ما في قوله: ﴿ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ﴾ ويصح رفعه على أنه خبر لمحذوف، أي هو ﴿ أَلاَّ تَزِرُ ﴾ ونصبه على أنه مفعول لمحذوف، قوله: ﴿ وَازِرَةٌ ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي نفس وازرة، أي مكلفة بالوزر، وليس المراد وازرة بالفعل. قوله: ﴿ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ أي وزر نفس أخرى. قوله: (الخ) المراد به قوله:﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ﴾[النجم: ٥٥]، وهذا على فتح همزة ﴿ أَنَّ ﴾ في قوله:﴿ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾[النجم: ٤٢] وما بعده وهي المراد ثمانية تضم لثلاث قبلها، فتكون الجملة أحد عشر شيئاً، وأما على قراءة الكسر في هذه الثمانية، فيكون المراد بقوله إلى آخره ﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ﴾ فيكون البيان بالثلاثة الأول فقط. قوله: (وأن مخففة من الثقيلة) أي واسمها محذوف هو ضمير الشأن و ﴿ لاَّ تَزِرُ ﴾ هو الخبر. قوله: ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ ﴾ استشكل هذا الحصر بأمور: منها أن الدال على الخير كفاعله، ومنها واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ومنها إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، إلى قوله أو ولد صالح يدعو له، ومنها غير ذلك. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة، أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض. خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم. سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾[الكهف: ٨٢].
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع. تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة. عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو من عمل الغير، إلى آخر ما قال. وأجيب بأجوبة منها: أن الآية منسوخة، ورد بأنها خبر، والأخبار لا تنسخ. ومنها: أن المراد بالإنسان الكافر. ومنها: أن هذا حكاية عما في صحف موسى وإبراهيم فليس في شرعنا.
قوله: (وقرئ بالكسر استئنافاً) أي وعليه فيكون زائداً على ما في صحف موسى وإبراهيم، لأن القرآن فيه ما في الصحف وزيادة. قوله: (وكذا ما بعدها) أي من قوله: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ﴾ إلى قوله:﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ ﴾[النجم: ٥٠] والكسر شاذ. قوله: ﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾ أي منتهى أمر الخلق ومرجعهم إليه تعالى، وهذا كالدليل لقوله: ﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ﴾ وكأنه قال: الله يجزي الإنسان على أعماله الجزء الأوفى، لأنه إليه المنتهى في الأمور كلها، وإذا كان كذلك، فينبغي للإنسان أن يرجع إلى ربه في أموره كلها، ولا يعول على شيء من الأشياء، لأنه الآخذ بالنواصي، واختلف في المخاطب بقوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾ فقيل كل عاقل، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على قراءة الكسر، وأما على قراءة الفتح فقيل كل عاقل؛ وقيل موسى وإبراهيم على سبيل التوزيع، لأنه محكي عن صفحهما. قوله: (أفرحه) أشار بذلك إلى أن الضحك مستعمل في حقيقته، وكذا البكاء، وأن مفعول كل من الفعلين محذوف. قوله: ﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ﴾ الخ، الحكمة في إسقاط ضمير الفصل في هذا، وإثباته في قوله: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ الإشارة لدفع توهم أن للمخلوق مدخلاً في الإضحاك والإبكاء، والإماتة والإحياء، فأكّده بالفصل، ولما يحصل في خلق الذكر والأنثى وما بعده، توهم أن للغير مدخلاً لم يؤكده بضمير الفصل.