تتضمن السورة توكيدا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من رؤيته المشاهد الربانية والملك الرباني وبصدق صلته بالوحي الرباني. وتزييفا لعقائد العرب بالأصنام والملائكة والشفاعة، وتنويها بالمؤمنين الصالحين. وتنديدا بالكفار المكذبين. وإنذارا بالآخرة والوقوف بين يدي الله، وتقريرا بعدم انتفاع الإنسان إلا بسعيه. وتذكيرا ببعض الأقوام السابقة، وما كان من تنكيل الله بهم بسبب تكذيبهم أنبياءه وتمردهم على دعوتهم إلى الله. وهي متوازنة الآيات مترابطة الفصول، مما يلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو فصولا متتابعة. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [ ٣٢ ] مدنية وانسجامها مع ما قبلها وما بعدها نظما وموضوعا يحمل على التوقف في هذه الرواية.
ﰡ
( ٢ ) هوى : خرّ وسقط.
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
( ٤ ) صاحبكم : كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
( ٥ ) غوى : جهل أو التبس عليه أو ضل عن الحق.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
تعليق على مدى متناول آيات :
﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾
والعصمة النبوية
وقد ذهب بعض المفسرين١ إلى أن آيتي :﴿ وما ينطق عن الهوى٣ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ النجم [ ٣-٤ ] تشملان كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل ديني ودنيوي وقرآني وغير قرآني، وجعلوهما في عداد الدلائل على العصمة النبوية. والذي نلحظه من روح الآيات وسياقها : أن الآيتين في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من اتصال وحي الله به ورؤيته الملك وما ألقاه عليه من آيات القرآن. وفي الاستدلال بها على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه من قول وعمل دنيوي وغير قرآني واعتباره وحيا ربانيا تجوز كبير يتعارض مع وقائع ونصوص قرآنية كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في أمر فيصدر عنه فيه قول أو فعل فينزل قرآن معاتبا ومنبها حينا ومذكرا حينا بما هو الأولى مثل حادث استغفاره مع المؤمنين لذوي قرباهم من موتى المشركين الذي أشارت إليه آيات سورة التوبة هذه منبهة :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم١١٣ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم١١٤ ﴾٢ ومثل حادث أسرى بدر الذي أشارت إليه آيات سورة الأنفال هذه :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم٦٧ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم٦٨ ﴾ ومثل حادث حلفه على عدم قرب زوجاته التي أشارت إليه آية سورة التحريم هذه :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم١ ﴾ ومثل حادث الأعمى الذي أشارت إليه آيات سورة عبس هذه :﴿ عبس وتولى١ أن جاءه الأعمى٢ وما يدركك لعله يزكى٣ أو يذكر فتنفعه الذكرى٤ أما من استغنى٥ فأنت له تصدى٦ وما عليك ألا يزكى٧ وأما من جاءك يسعى٨ وهو يخشى٩ فأنت عنه تلهى١٠ ﴾٣.
ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير مما قاله أو فعله أو أمر به أو نهى عنه مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله عز وجل. ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرآن قد وقع بإلهام رباني. وأن القرآن نزل بعد وقوعه مؤيدا له فيه، ومن الأمثلة على ذلك سيره إلى مكة لأجل العمرة مع أصحابه بناء على رؤيا رآها وانتهاء ذلك بصلح الحديبية. فقد كان ذلك بإلهام رباني، ثم نزلت سورة الفتح مؤيدة له. ومن ذلك أيضا واقعة بدر، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بإلهام رباني مع أصحابه للاستيلاء على قافلة قريش وأدى ذلك إلى الاشتباك مع جيش قريش الذي انتصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتصارهم العظيم. وقد نزلت بعد ذلك سورة الأنفال مؤيدة له٤. وإلى هذا فإن جميع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من سنن قولية وفعلية وأوامر ونواه مات عليها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن على ما جاء في آية سورة الحشر هذه :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ ٧ ] ومن المحتمل أن يكون بإلهام رباني. وإنما الذي نعنيه التوقف في تشميل مفهوم الآيتين لكل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل وقول طيلة حياته إطلاقا حسب ما شرحناه آنفا.
وهذا لا يمس العصمة النبوية التي يجب الإيمان بها لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عليه أن يصدر منه أي قول أو فعل أو اجتهاد في مختلف شؤون الحياة والناس، قد يكون فيه الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله، والذي لا ينكشف له إلا بوحي، مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، وإنما على المعنى الذي يرتفع به النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصمة عن أي إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن فعلا وقولا، وعن كتم أي شيء أوحي به إليه أو تحريفه وتبديله وذلك نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق في الله الذي جعله أهلا للاصطفاء الرباني٥.
٢ - في الآية الثانية ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين اجتهدوا فقاسوا بما فعله إبراهيم عليه السلام فبين الله فيها الفرق ووجه الحق في ذلك..
٣ - هناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها..
٤ - وهناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها أيضا..
٥ - انظر كتابنا القرآن المجيد ص ٢٨٨ -٢٩٤..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣:( ٦ ) الهوى : الرأي الذي لا يستند فيه صاحبه إلى الحق ويصدر فيه عن غاية خاصة وعاطفة وأنانية.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
تعليق على مدى متناول آيات :
﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾
والعصمة النبوية
وقد ذهب بعض المفسرين١ إلى أن آيتي :﴿ وما ينطق عن الهوى٣ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ النجم [ ٣-٤ ] تشملان كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل ديني ودنيوي وقرآني وغير قرآني، وجعلوهما في عداد الدلائل على العصمة النبوية. والذي نلحظه من روح الآيات وسياقها : أن الآيتين في صدد توكيد صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من اتصال وحي الله به ورؤيته الملك وما ألقاه عليه من آيات القرآن. وفي الاستدلال بها على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه من قول وعمل دنيوي وغير قرآني واعتباره وحيا ربانيا تجوز كبير يتعارض مع وقائع ونصوص قرآنية كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في أمر فيصدر عنه فيه قول أو فعل فينزل قرآن معاتبا ومنبها حينا ومذكرا حينا بما هو الأولى مثل حادث استغفاره مع المؤمنين لذوي قرباهم من موتى المشركين الذي أشارت إليه آيات سورة التوبة هذه منبهة :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم١١٣ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم١١٤ ﴾٢ ومثل حادث أسرى بدر الذي أشارت إليه آيات سورة الأنفال هذه :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم٦٧ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم٦٨ ﴾ ومثل حادث حلفه على عدم قرب زوجاته التي أشارت إليه آية سورة التحريم هذه :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم١ ﴾ ومثل حادث الأعمى الذي أشارت إليه آيات سورة عبس هذه :﴿ عبس وتولى١ أن جاءه الأعمى٢ وما يدركك لعله يزكى٣ أو يذكر فتنفعه الذكرى٤ أما من استغنى٥ فأنت له تصدى٦ وما عليك ألا يزكى٧ وأما من جاءك يسعى٨ وهو يخشى٩ فأنت عنه تلهى١٠ ﴾٣.
ونريد أن ننبه على نقطة هامة، فنحن لا نعني بما نقرره ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير مما قاله أو فعله أو أمر به أو نهى عنه مما لم ينزل فيه قرآن ناقض أو معدل أو معاتب ملهما به من الله عز وجل. ففي القرآن دلائل عديدة على أن كثيرا مما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول القرآن قد وقع بإلهام رباني. وأن القرآن نزل بعد وقوعه مؤيدا له فيه، ومن الأمثلة على ذلك سيره إلى مكة لأجل العمرة مع أصحابه بناء على رؤيا رآها وانتهاء ذلك بصلح الحديبية. فقد كان ذلك بإلهام رباني، ثم نزلت سورة الفتح مؤيدة له. ومن ذلك أيضا واقعة بدر، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بإلهام رباني مع أصحابه للاستيلاء على قافلة قريش وأدى ذلك إلى الاشتباك مع جيش قريش الذي انتصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتصارهم العظيم. وقد نزلت بعد ذلك سورة الأنفال مؤيدة له٤. وإلى هذا فإن جميع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من سنن قولية وفعلية وأوامر ونواه مات عليها دون أن ينقضها هو أو القرآن هو تشريع واجب الاتباع بنص القرآن على ما جاء في آية سورة الحشر هذه :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ ٧ ] ومن المحتمل أن يكون بإلهام رباني. وإنما الذي نعنيه التوقف في تشميل مفهوم الآيتين لكل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل وقول طيلة حياته إطلاقا حسب ما شرحناه آنفا.
وهذا لا يمس العصمة النبوية التي يجب الإيمان بها لا على ذلك المعنى الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عليه أن يصدر منه أي قول أو فعل أو اجتهاد في مختلف شؤون الحياة والناس، قد يكون فيه الخطأ والصواب وخلاف الأولى الذي في علم الله، والذي لا ينكشف له إلا بوحي، مما لا يمكن أن ينتفي عن الطبيعة البشرية النبوية المقررة في القرآن، وإنما على المعنى الذي يرتفع به النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصمة عن أي إثم أو جريمة أو فاحشة أو مخالفة للقرآن فعلا وقولا، وعن كتم أي شيء أوحي به إليه أو تحريفه وتبديله وذلك نتيجة لما وصل إليه بنعمة الله وفضله من كمال الخلق والروح والعقل والإيمان والاستغراق في الله الذي جعله أهلا للاصطفاء الرباني٥.
٢ - في الآية الثانية ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين اجتهدوا فقاسوا بما فعله إبراهيم عليه السلام فبين الله فيها الفرق ووجه الحق في ذلك..
٣ - هناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها..
٤ - وهناك أمثلة أخرى سننبه عليها في مناسباتها أيضا..
٥ - انظر كتابنا القرآن المجيد ص ٢٨٨ -٢٩٤..
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
( ١٠ ) استوى : اعتلى أو وقف موقف البروز والعلو. والضمير عائد للملك أيضا.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ والنجم١ إذا هوى٢ ( ١ )ما ضل٣ صاحبكم٤ وما غوى٥ ( ٢ ) وما ينطق عن الهوى٦ ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى٧ ( ٤ ) علمه٨ شديد القوى( ٥ )ذو مرة فاستوى١٠ ( ٦ ) وهو بالأفق الأعلى١١ ( ٧ ) ثم دنا فتدلى١٢ ( ٨ ) فكان قاب قوسين١٣ أو أدنى( ٩ ) فأوحى إلى عبده ما أوحى١٤ ( ١٠ ) ما كذب الفؤاد١٥ ما رأى ( ١١ ) أفتمارونه١٦ على ما يرى( ١٢ ) ﴾ [ ١-١٢ ].
في الآيات قسم رباني في معرض التوكيد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهل ولم ينحرف عن الحق والصدق، ولم ينطق بما نطق ولم يبلغ ما بلغ كذبا وشفاء لهوى النفس وخيلائها، وبأن ما أخبر به هو وحي أوحي إليه، وقد أبلغه إياه رسول رباني قوي صادق، وقد رآه في أفق السماء وقد اقترب منه إلى مسافة قريبة جدا، ومن المكابرة أن تجادلوه فيما رآه وعاينه.
وواضح من هذا أن الآيات بسبيل وصف مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيد صدق ما أخبر به من ذلك.
ولقد روى الشيخان والترمذي في فصل التفسير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا عن الشيباني قال :( سألت زرا عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ فأوحى إلى عبده ما أوحى١٠ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ٩-١١ ] فقال : أخبرنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح )١. وروى البخاري حديثا عن مسروق جاء فيه :( قال مسروق لعائشة أين قوله تعالى :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ النجم [ ٨-٩ ] قالت : ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وأتاه هذه المرة في صورة الأصلية فسد الأفق )٢.
وأكثر المفسرين٣ يرجحون أن المشهد هو مشهد جبريل عليه السلام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى، وهو الأوجه فيما هو المتبادر.
ولقد ورد في سورة التكوير آيات فيها بعض ما في هذه الآيات من وصف لملك الله ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له بالأفق وتوكيد ذلك وهي :﴿ إنه لقول رسول كريم١٩ ذي قوة عند ذي العرش مكين٢٠ مطاع ثم أمين٢١ وما صاحبكم بمجنون٢٢ ولقد رآه بالأفق المبين٢٣ ﴾ التكوير [ ١٩-٢٣ ]، فمن الجائز أن تكون آيات النجم التي نحن في صددها بسبيل توكيد صحة ما أخبر به سابقا حيث ظل الكفار يكذبون ويمارون.
ولقد احتوت الآيات التالية لهذه الآيات إشارة إلى مشهد ثان مماثل رآه النبي صلى الله عليه وسلم والضمير فيه معطوف على الأول. فمن الجائز كذلك أن تكون الآيات التي احتوت توكيدا للمشهد الذي حكته آيات سورة التكوير قد جاءت كتمهيد توكيدي واستشهادي للمشهد الثاني الذي حكته الآيات التالية لها.
وتعبير ﴿ وما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] قد يفيد كون المشهد الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم روحاني خاص به شهده بقوة البصيرة التي اختصه الله بها من دون الناس العاديين، على ما هو المتبادر من السياق. والآية التالية لهذه الآية تدعم هذا ؛ حيث استنكرت المراء في أمر خاص بالشعور والإدراك النبوي الذي لا يجوز أن يكون موضع مراء ؛ كأنما أرادت الآية أن تقول : إن المراد إنما يصح أن يكون فيما يمكن أن يكون قدرا مشتركا بين الناس يستطيع جميعهم أن يروه ويحسوا به ويدركوه بحاسة من حواسهم. فإذا ادعى أحدهم أنه رآه وأحس به وأدركه كان لغيره أن يماري في ذلك إذا لم يره هو ويحس به ويدركه.
ويمكن أن يضرب المثل للتوضيح برؤية الكسوف والرؤيا النومية. فلا يستطيع أحدا مثلا أن يدعي أنه رأى كسوف الشمس دون سائر الناس ؛ لأنه مشهد عام يتساوى الناس في رؤيته. وذلك على عكس الرؤيا لأنها خاصة بالشخص الذي رآها، ولا تتحمل دعوى رؤياها أي جدل أو مكابرة أو مراء.
وقد قصدنا بهذا الشرح المستلهم من الآيات توضيح ما يكون بين الله وبين أنبيائه من اتصال خاص بهم على اختلاف صوره التي ذكرتها آية سورة الشورى هذه :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾ [ ٥١ ]٤ يدركونه ويشعرون به بما اختصهم الله به من قوة لا يمكن إدراكها بالعقل العادي، ويجب الإيمان بها لأن ذلك مما يستتبعه الإيمان بالله وأنبيائه، والمشهد الذي وصفته وأكدته الآيات مظهر من مظاهر هذا الاتصال ويجب الإيمان بصحته لأن القرآن والنبي قد أخبرا به.
﴿ ولقد رآه١ نزلة أخرى( ١٣ ) عند سدرة المنتهى٢ ( ١٤ ) عندها جنة المأوى٣ ( ١٥ ) إذ يغشى السدرة ما يغشى( ١٦ ) ما زاغ٤ البصر وما طغى٥ ( ١٧ ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى( ١٨ ) ﴾ [ ١٣-١٨ ].
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلى الله عليه وسلم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت جبريل وله ستمائة جناح )١ وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ).
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك، إلا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات ؛ حيث ورد في الأولى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] وفي الثانية :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ النجم [ ١٧ ]. ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلى الله عليه وسلم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين٢ يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا : إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته.
وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾ ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا : إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم ؛ لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين !. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية، وهي أن الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان : إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور٣.
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو٤. ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا، وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا، فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة ؛ حيث أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء، وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل : إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا، وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول آية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة ﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في المسجد الحرام، وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء، وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش، ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جل جلاله ). ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها : يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها : إنه سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به.
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه :( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا )٥. وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال :( قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق )٦. وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا )٧.
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق )٨. وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال : فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته فقيل لي : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )٩. وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار : البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت آدم فسلمت عليه فقال : مرحبا بك من ابن ونبي. وفي رواية فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل : من هذا ؟ قال جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [ مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة
﴿ ولقد رآه١ نزلة أخرى( ١٣ ) عند سدرة المنتهى٢ ( ١٤ ) عندها جنة المأوى٣ ( ١٥ ) إذ يغشى السدرة ما يغشى( ١٦ ) ما زاغ٤ البصر وما طغى٥ ( ١٧ ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى( ١٨ ) ﴾ [ ١٣-١٨ ].
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلى الله عليه وسلم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت جبريل وله ستمائة جناح )١ وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ).
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك، إلا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات ؛ حيث ورد في الأولى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] وفي الثانية :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ النجم [ ١٧ ]. ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلى الله عليه وسلم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين٢ يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا : إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته.
وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾ ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا : إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم ؛ لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين !. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية، وهي أن الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان : إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور٣.
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو٤. ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا، وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا، فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة ؛ حيث أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء، وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل : إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا، وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول آية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة ﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في المسجد الحرام، وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء، وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش، ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جل جلاله ). ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها : يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها : إنه سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به.
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه :( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا )٥. وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال :( قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق )٦. وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا )٧.
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق )٨. وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال : فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته فقيل لي : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )٩. وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار : البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت آدم فسلمت عليه فقال : مرحبا بك من ابن ونبي. وفي رواية فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل : من هذا ؟ قال جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [ مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة
﴿ ولقد رآه١ نزلة أخرى( ١٣ ) عند سدرة المنتهى٢ ( ١٤ ) عندها جنة المأوى٣ ( ١٥ ) إذ يغشى السدرة ما يغشى( ١٦ ) ما زاغ٤ البصر وما طغى٥ ( ١٧ ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى( ١٨ ) ﴾ [ ١٣-١٨ ].
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلى الله عليه وسلم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت جبريل وله ستمائة جناح )١ وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ).
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك، إلا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات ؛ حيث ورد في الأولى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] وفي الثانية :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ النجم [ ١٧ ]. ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلى الله عليه وسلم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين٢ يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا : إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته.
وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾ ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا : إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم ؛ لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين !. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية، وهي أن الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان : إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور٣.
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو٤. ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا، وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا، فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة ؛ حيث أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء، وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل : إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا، وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول آية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة ﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في المسجد الحرام، وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء، وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش، ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جل جلاله ). ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها : يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها : إنه سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به.
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه :( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا )٥. وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال :( قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق )٦. وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا )٧.
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق )٨. وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال : فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته فقيل لي : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )٩. وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار : البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت آدم فسلمت عليه فقال : مرحبا بك من ابن ونبي. وفي رواية فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل : من هذا ؟ قال جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [ مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلى الله عليه وسلم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت جبريل وله ستمائة جناح )١ وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ).
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك، إلا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات ؛ حيث ورد في الأولى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] وفي الثانية :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ النجم [ ١٧ ]. ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلى الله عليه وسلم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين٢ يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا : إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته.
وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾ ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا : إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم ؛ لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين !. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية، وهي أن الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان : إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور٣.
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو٤. ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا، وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا، فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة ؛ حيث أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء، وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل : إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا، وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول آية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة ﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في المسجد الحرام، وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء، وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش، ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جل جلاله ). ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها : يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها : إنه سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به.
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه :( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا )٥. وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال :( قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق )٦. وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا )٧.
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق )٨. وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال : فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته فقيل لي : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )٩. وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار : البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت آدم فسلمت عليه فقال : مرحبا بك من ابن ونبي. وفي رواية فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل : من هذا ؟ قال جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [ مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة
( ٥ ) طغى : تجاوز الحد والهدف.
﴿ ولقد رآه١ نزلة أخرى( ١٣ ) عند سدرة المنتهى٢ ( ١٤ ) عندها جنة المأوى٣ ( ١٥ ) إذ يغشى السدرة ما يغشى( ١٦ ) ما زاغ٤ البصر وما طغى٥ ( ١٧ ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى( ١٨ ) ﴾ [ ١٣-١٨ ].
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلى الله عليه وسلم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت جبريل وله ستمائة جناح )١ وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ).
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك، إلا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات ؛ حيث ورد في الأولى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] وفي الثانية :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ النجم [ ١٧ ]. ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلى الله عليه وسلم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين٢ يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا : إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته.
وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾ ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا : إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم ؛ لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين !. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية، وهي أن الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان : إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور٣.
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو٤. ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا، وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا، فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة ؛ حيث أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء، وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل : إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا، وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول آية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة ﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في المسجد الحرام، وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء، وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش، ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جل جلاله ). ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها : يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها : إنه سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به.
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه :( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا )٥. وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال :( قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق )٦. وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا )٧.
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق )٨. وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال : فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته فقيل لي : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )٩. وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار : البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت آدم فسلمت عليه فقال : مرحبا بك من ابن ونبي. وفي رواية فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل : من هذا ؟ قال جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [ مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة
في الآيات إشارة إلى مشهد آخر شاهده النبي صلى الله عليه وسلم فشاهد فيه ما شاء الله أن يشاهده من آيات الله الكبرى.
ولقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود في صدد تفسير هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت جبريل وله ستمائة جناح )١ وروى الإمام أحمد عن مسروق أنه سأل عائشة عن آية :﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] ( فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين. رآه متهبطا إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ).
ففي هذه الأحاديث تفسير لمدى هذه الآيات أيضا، مع التنبيه على أنه ليس هناك ما يساعد على توضيح مدى المقصود من سدرة المنتهى وجنة المأوى في سياق ذلك، إلا إذا كان جاء كوصف متمم للمشهد، والله أعلم.
وقد يلحظ فرق في التعبير في مجموعتي الآيات ؛ حيث ورد في الأولى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ النجم [ ١١ ] وفي الثانية :﴿ ما زاغ البصر وما طغى ﴾ النجم [ ١٧ ]. ويتبادر لنا أن مؤدى التعبيرين واحد وهو توكيد صحة المشهدين الذين شاهدهما النبي صلى الله عليه وسلم واللذين فسرتهما الأحاديث بأنهما مشهدا منظر جبريل عليه السلام في الأفق في صورته العظيمة. والله تعالى أعلم.
تعليق على حادث الإسراء والمعراج وما ورد في ذلك من أحاديث
ومع ما ورد في صدد هذه الآيات من الأحاديث التي أوردناها آنفا والتي تفسر مداها فإن المفسرين٢ يذكرون في سياقها أيضا حادث الإسراء والمعراج ويصرفونها إليه ويروون في صدده أحاديث كثيرة متنوعة الرتب. وفيها شيء كثير من التضارب فمنها ما يفيد أن الإسراء والمعراج كانا رؤيا منامية وأن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه. ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا روحانيا، ومنها ما يفيد أنه كان مشهدا حيا وحادثا واقعا بالجسد واليقظة. ومنها ما يفيد أن الإسراء كان بالجسد واليقظة وأن المعراج كان في النوم أو بالروح. هذا أولا. وثانيا : إن معظم الروايات تقرن حادث العروج بحادث الإسراء وتجعلهما في وقت واحد وتروي مشاهدهما في سلسلة واحدة، وإن كان هناك روايات تفيد حدوث كل منهما لحدته.
وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله في حادث الإسراء إلى المسجد الأقصى عرج به إلى السماء. هذا في حين أن حادث الإسراء قد أشير إليه في سورة الإسراء التي يجيء ترتيبها بعد هذه السورة بمراحل. والإشارة فيها قاصرة على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ترى في نص الآية الأولى من سورة الإسراء وهو :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾ ومن الروايات ما يجعل حادث الإسراء قاصرا على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى دون عروج إلى السماء. ومنها ما يجعل الإسراء والعروج أكثر من مرة، وثالثا : إن في الروايات تضاربا في الوقت الذي وقع فيه الحادث. فهناك رواية تذكر أن الإسراء والمعراج معا قد كانا بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا قد يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم، ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء التي يرجح أنها نزلت في أواسط العهد النبوي المكي. وهناك رواية تذكر وقوعهما معا بعد البعثة بخمس سنوات. وهذا يتطابق مع تاريخ نزول سورة الإسراء. ولكنه لا يتطابق مع تاريخ نزول سورة النجم ؛ لأنها نزلت أبكر كثيرا من سورة الإسراء. وهناك روايات تذكر أنهما كانا قبل الهجرة بخمس سنوات وهذا لا يتطابق مع تاريخ نزول أي من السورتين !. بل وهناك رواية غريبة جدا تذكر أنهما وقعا قبل البعثة بسنة واحدة. وهناك رواية موازية في الغرابة لهذه الرواية، وهي أن الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة واحدة. أي بعد نزول السورتين بمدة طويلة. ومما يزيد في غرابة هذه الرواية أن بعض الأئمة مثل البغوي وابن حزم يقولان : إنها مما يكاد يتفق فيها الجمهور٣.
وهناك أحاديث كثيرة جدا أوردها المفسرون في سياق حادثي الإسراء والمعراج. منها ما ورد في كتب الصحاح بنصه أو قريب منه ومنها ما لم يرو٤. ومن هذا النوع ما روي من قبل أئمة معروفين من أئمة الحديث بأسناد متواصلة مثل الإمام أحمد والإمام الطبراني والحافظ البزار والإمام ابن جرير والنسائي وابن أبي حاتم. ومنها ما وصف بأنه بسند حسن ومنها ما وصف بالغريب أو المنكر. ومنها ما أورد في سياق الآية الأولى من سورة الإسراء ومنها ما أورد في سياق آيات سورة النجم التي نحن في صددها. وأكثر المفسرين استقصاء واستيعابا لها فيما بدا لنا الإمام ابن كثير حتى لقد استغرقت نحو خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وقد أورد جلها في سياق تفسير مطلع سورة الإسراء.
ومع أن بعض هذه الأحاديث قد يفيد أن المعراج كان لحدة ومن مكة رأسا، وأن الإسراء كان كذلك لحدة ومن مكة رأسا، فإن معظمها يفيد أنهما وقعا معا ومرة واحدة ؛ حيث أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. مع التنبيه على أمر مهم وهو أن ما ورد في كتب الصحاح من هذه الأحاديث لا يقرن بين الإسراء والمعراج فبعضها اقتصر على خبر الإسراء إلى بيت المقدس دون عروج إلى السماء، وبعضها ذكر أن الانطلاق من المسجد الحرام كان إلى السماء دون تعريج على بيت المقدس.
ولقد قلنا قبل : إن هناك فترة طويلة بين نزول سورة النجم التي تساق قصة الإسراء والمعراج في مناسبة آياتها التي نحن في صددها وبين نزول سورة الإسراء التي ذكر فيها الإسراء. وقد يمكن التوفيق بين ذلك بالقول تبعا لما تفيده معظم الأحاديث التي منها الوارد في كتب الصحاح أنهما وقعا في ظرف نزول سورة النجم التي كان نزولها سابقا، وإن ذكر الإسراء في سورة الإسراء إنما جاء للتذكير بواقعته. وهذا إذا تغاضينا عن الاختلافات في سنة حدوث الإسراء والمعراج التي لا تتفق أحيانا مع الظرف المخمن لنزول آية من السورتين والتي تبدو غريبة جدا مثل وقوعهما قبل البعثة بسنة أو قبل الهجرة بسنة. غير أنه يظل هناك نقطة معترضة. وهي أن آية سورة الإسراء الأولى تقتصر في ما تخبر به أو تذكر به على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وليس في آيات النجم شيء صريح عن المعراج الذي يظل خبره الصريح مستندا إلى الأحاديث المروية وحسب، وأكثرهم يعتبر جملة ﴿ ولقد رآه نزلة أخرى ﴾ النجم [ ١٣ ] من قرائن العروج مع أن الحديث الذي أوردناه قبل عن عائشة يذكر أن المرئي هو جبريل عليه السلام.
وليس في معظم الأحاديث صراحة قطعية بأن الإسراء والمعراج وقعا باليقظة والجسد. وإن كان ذلك قد يستفاد من فحواها. غير أن في بعضها ما يفيد أنه وقع والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في المسجد الحرام، وأنه استيقظ بعد أن تمت مشاهدهما. وهناك روايات أخرى بينها تضارب في صدد ذلك. رواية أو حديث عن معاوية أن الحادث كان رؤيا صادقة. ورواية أو حديث عن عائشة أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق فراشه. وأن الإسراء إنما كان بروحه. ورواية أو حديث عن أم هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت في بيتها ليلة الإسراء، وأنها افتقدته في فراشه فلم تجده وخافت عليه أن يكون قد لحقه أذى من قريش، ثم عاد فأخبرها عن ركوبه البراق ومسراه إلى بيت المقدس ورؤيته لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولله جل جلاله ). ورواية أو حديث آخر عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها بعد صلاة العشاء فلما كان قبل الفجر أهابت به فاستيقظ فصلى الصبح وصلت معه ثم قال لها : يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الأخيرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين. وقال لها : إنه سيخبر الناس بذلك فأخذت تحذره وتخوفه من التكذيب والأذى. وهناك رواية أو حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته نفسه وأن جبريل نزل عليه من سقفه وانطلق به.
وفي الأحاديث المروية على مختلف رتبها حتى فيما ورد منها في كتب الصحاح أشياء عجيبة مذهلة. ونكتفي بإيراد النص الكامل لما ورد منها في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن عبد الله في سياق تفسير سورة النجم جاء فيه :( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى قال انتهى إليها ما يعرج من الأرض وما ينزل من فوق. قال فأعطاه الله عندها ثلاثا لم يعطهن نبيا قبله. فرضت عليه الصلاة خمسا، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لأمته المقحمات ما لم يشركوا بالله شيئا )٥. وحديث رواه البخاري عن عبد الله كذلك قال :( قال الله تعالى لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق )٦. وحديث رواه الترمذي في سياق تفسير سورة الإسراء عن أنس قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجما مسرجا فاستصعب عليه فقال له جبريل : أبمحمد تفعل هذا ؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض عرقا )٧.
وحديث ثان رواه الترمذي عن بريدة في نفس السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق )٨. وحديث ثالث في نفس السياق عن أبي هريرة رواه الشيخان والترمذي قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام، فإذا رجل مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به. قال : فأتيت بإنائين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر فقيل لي : خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته فقيل لي : هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )٩. وحديث رواه البخاري عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملأى حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار : البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا قيل من هذا ؟ قال : جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت آدم فسلمت عليه فقال : مرحبا بك من ابن ونبي. وفي رواية فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فأتينا السماء الثانية قيل : من هذا ؟ قال جبريل، قيل : من معك ؟ قال : محمد، قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء فأتيت على عيسى ويحيى فقالا [ مرحبا بك من أخ ونبي. فأتينا السماء الثالثة
﴿ أفرأيتم اللات والعزى( ١٩ ) ومناة١ الثالثة الأخرى( ٢٠ ) ألكم الذكر وله الأنثى( ٢١ ) تلك إذا قسمة ضيزى٢ ( ٢٢ ) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان٣ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى( ٢٣ ) أم للإنسان ما تمنى( ٢٤ ) فلله الآخرة والأولى( ٢٥ ) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى( ٢٦ ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى( ٢٧ ) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا( ٢٨ ) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا( ٢٩ ) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
﴿ أفرأيتم اللات والعزى( ١٩ ) ومناة١ الثالثة الأخرى( ٢٠ ) ألكم الذكر وله الأنثى( ٢١ ) تلك إذا قسمة ضيزى٢ ( ٢٢ ) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان٣ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى( ٢٣ ) أم للإنسان ما تمنى( ٢٤ ) فلله الآخرة والأولى( ٢٥ ) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى( ٢٦ ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى( ٢٧ ) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا( ٢٨ ) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا( ٢٩ ) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
﴿ أفرأيتم اللات والعزى( ١٩ ) ومناة١ الثالثة الأخرى( ٢٠ ) ألكم الذكر وله الأنثى( ٢١ ) تلك إذا قسمة ضيزى٢ ( ٢٢ ) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان٣ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى( ٢٣ ) أم للإنسان ما تمنى( ٢٤ ) فلله الآخرة والأولى( ٢٥ ) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى( ٢٦ ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى( ٢٧ ) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا( ٢٨ ) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا( ٢٩ ) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى( ٣٠ ) ﴾ [ ١٩-٣٠ ].
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
في الآيات تنديد بالمشركين الذين يسمون الملائكة تسمية الإناث ويعبدونهم ويستشفعون بهم على اعتبار أنهم بنات الله مع أنهم عبيده ولا يشفعون لأحد إلا بإذنه ورضائه. وتسفيه لهم على إقامة دينهم على أساس الظن وهوى النفس وإعراضهم عن الهدى والحق الذي جاءهم من ربهم، وتقرير بأنهم في ذلك كله يصدرون عن عدم إيمانهم بالآخرة واستغراقهم في الدنيا ومطالبها ولذاتها.
والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضا صريحا بمعبودات العرب وعقائدهم ونقاشا وحجاجا وتسفيها وإفحاما حول هذه العقائد. فإن الآيات التي نزلت قبلها من السور الأخرى اكتفت بالإنذار والوعيد والدعوة إلى وحدة الله وبيان أهداف الرسالة النبوية العامة، والتنديد بموقف التصدي والتعطيل والتكذيب والمكابرة الذي وقفه المشركون والرد على ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشككوا فيه في صدد صلته بالله ووحيه، وفي ذلك صورة من صور تطور التنزيل القرآني كما هو المتبادر.
ولقد أمرت الآية [ ٢٩ ] النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله ولم يستجب إلى دعوته. والمتبادر أن ذلك أسلوب يقصد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إزاء ما بدا من الكفار من إعراض عن الدعوة واستغراق في متع الحياة ؛ لأن الاستمرار في الدعوة هو مهمة النبي صلى الله عليه وسلم الرئيسية بقطع النظر عن استجابة المدعوين وعدمها. والآية التي تليها تدعم هذا القصد كما يلمح فيها، فكأنما تقول للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يغتم لموقفهم، فإنه مظهر من مظاهر ضعف إدراكهم للأمور وعدم تقديرهم للعواقب، وإن الله هو الحكم الفصل في من هو على الحق والهدى ومن هو في الغواية والضلال.
ولقد احتوت الآيات تلقينات جليلة عامة ومستمرة المدى في تنديدها الشديد المتكرر بالذين يتبعون هوى النفس ويسيرون وراء الظن والوهم، وخاصة بعد أن تبدو أعلام الحق والهدى ويستبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. فالحق والهدى يجب أن يكونا غاية مطلب المرء. وعليه أن يبذل جهده في الوصول إليهما واتباعهما. ولا يجوز له أن يبني أحكامه على الظنون أو يصدر عن هوى النفس المنحرفة وأغراضها ومتعها.
شرح عقائد العرب في اللات والعزى ومناة والملائكة وتعليقات في صدد ذلك
ونرى من المفيد أن نشرح ما تضمنته الآيات من إشارات إلى عقائد العرب وتقاليدهم قبل الإسلام ؛ لأن ذلك يساعد على فهم مقاصد الآيات وحكمة تنزيلها فنقول : إن مضمون الآيات وروحها تدل على الأمور التالية :
١-إن العرب كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وكانوا يسمونها بأسمائها المؤنثة على اعتبار أنها رموز للملائكة وأن أسماءها هي أسماء الملائكة وأن الملائكة هم بنات الله.
٢-إنهم كانوا يعبدون الملائكة بقصد الاستشفاع بهم عند الله على اعتبار أنهم بناته وذوو حظوة لديه.
٣-إن هذه العقائد ليست حديثة، وإنما هي متوارثة عن الآباء.
٤- إنهم كانوا يقصدون من عبادتهم الملائكة والاستشفاع بهم تحقيق ما يبتغون من مطالب الحياة الدنيا فقط من جلب النفع ودفع الضرر دون تفكير بالآخرة ومصيرهم فيها لأنهم لم يكونوا يؤمنون بها.
٥- ولقد تكرر في القرآن تسفيه العرب في عقائدهم المذكورة ونفي أثر ونفع استشفاعهم بالملائكة وتقرير كون الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح فقط هو المفيد للإنسان مما مرت منه أمثلة، ومما سوف يأتي كثير منه ؛ حيث يدل هذا على أن فكرة الشفاعة كانت راسخة عندهم يعتقدون بأثرها النافع.
ولقد تكرر كذلك تقرير كون الملائكة إنما هم عبيد الله، وأنهم لا يشفعون لأحد عند الله إلا إذا كان راضيا عنه آذنا بالشفاعة فيه مما أوردنا في سياق سورة المدثر أمثلة قرآنية عنه. والمتبادر أن هذا التقرير المتكرر قد انطوى فيه فيما انطوى إفهام العرب أن الذين يعبدونهم ويشركونهم في الدعاء والاتجاه مع الله هم عبيد خاضعون له لا يفتأون يسبحون بحمده ويقدسونه. وأن الأحجى أن يعبدوا الله رب العالمين من إنس وجن وملائكة.
٦-والأقوال في اللات والعزى ومناة عديدة وفيها تضارب. منها أن اللات كان صنما بالطائف لثقيف أو بنخلة لقريش. وأن العزى شجرة بأرض غطفان أو صنم لهم أو بيت عبادة في الطائف. وأن مناة صنم لهذيل وخزاعة، وكان من معبودات أهل مكة أو أنها بيت عبادة في المشلل كان يطوف به بنو كعب، أو أنها صخرة كان العرب يستمطرون عندها، وأن اسمها مشتق من النوء وهو الريح الماطر. وقد ورد فيما ورد أن الثلاثة أصنام كانت قائمة في فناء الكعبة أو موضوعة في جوفها.
وذكر هذه المعبودات في آيات مبكرة، وقبل أن تتجاوز الدعوة مدينة مكة وورود السؤال عنها في صيغة الخطاب القريب الذي يرجح أنه وجه لأهل مكة ثانيا وتواتر الروايات على أن أهل مكة كانوا يحلفون باللات والعزى، وأنهم كانوا يسمون المعبودات الثلاث : الغرانيق العلى، ويهتفون بها ويقولون إن شفاعتها لترتجى، وأنهم كانوا يقسمون بها مضافة إلى تعبير العبودية أي " عبد العزى " و " عبد اللات " و " عبد مناة " وما يفيده هذا من اعتبارهم هذه المعبودات معبودات لهم ثالثا، وما في روايات السيرة من أن أبا جهل كان يقول للناس : إن محمدا يريد أن يصرفكم عن اللات والعزى. ومن هتاف أبي سفيان يوم أحد متفاخرا على المسلمين وقد نكبوا في هذا اليوم :" لنا العزى ولا عزى لكم " رابعا، كل هذا يجعل الرجحان للقول بأن هذه المعبودات الثلاث كانت في مكة وكانت معبودات لأهلها. وهذا لا يمنع أن تكون قبائل أخرى في مناطق أخرى مشتركة في عبادتها أو في عبادة بعضها أو أن يكون لها في هذه المناطق هياكل مشابهة لها. بل إن اختصاصها بالذكر في القرآن وهي الوحيدة التي ذكرت فيه كمعبودات عربية جاهلية يدل على أنه كان لها خطورة وعمومية عند العرب أو على الأقل في بلاد الحجاز. وانتشار الحلف باللات والعزى، وانتشار تسميات عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة في خارج مكة من قرى وقبائل على ما تذكره الروايات العديد يؤيدان كلتا الخطورة والعمومية.
واعتبار العرب هذه المعبودات رموزا للملائكة يستلهم من مضمون الآيات وروحها ؛ حيث تربط بقوة بين هذه المعبودات وأسمائها المؤنثة وبين الملائكة وبين عقيدة العرب بأن الملائكة بنات الله وبين تسمية الملائكة بأسماء الإناث. وقد ذكر ذلك عنهم في آيات عديدة صريحة تارة، وضمنية تارة، مسفهة منددة مما مرت منه أمثلة في سياق تفسير سورة المدث، ر ومما سوف يأتي كثير منه بعد.
ولقد قلنا في تعريف كلمة " اللات " : إن المفسرين قالوا إنها مؤنث الله. غير أن المعروف أن بين معبودات العراق القديمة معبودا اسمه " اللاتو " وأن هيرودوت ذكر اللات قبل ألف سنة من البعثة النبوية على أنها من معبودات العرب. وقد قرئ اسم اللات- اللت- هللت- على نقوش نبطية ولحيانية وثمودية كتبت قبل البعثة بزمن يتراوح بين ثلاثمائة عام وثمانمائة عام. فالذي يتبادر أنه الأصوب هو أن اللاة معبود عربي قديم اشترك في عبادته جماعات كثيرة من العرب في أنحاء مختلفة في جزيرة العرب وخارجها، وظل يحتفظ باسمه ومكانته في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بنوع خاص. ولعل مفهوم كون اللاة مؤنث الله عز وجل نشأ عندهم حين استقرت صيغ الفصحى وصاروا يعتقدون بوجود الله كإله أعظم، وبكون الملائكة إناثا وبنات الله. فصاروا يعتبرون المعبود الذي يسمونه بهذا الاسم رغما عن قدم التسمية من الوجهة التاريخية رمزا للملائكة. ويظل احتمال أن يكون اللاة من جذر عربي قديم فيه معنى الألوهية أو العبادة واردا على ما ذكرناه في سياق التعليق على كلمة " الله " في سورة الفاتحة.
كذلك قلنا في تعريف مناة : إن المفسرين قالوا : إنها مشتقة من النوء وإن العرب كانوا يستمطرون عندها. ولقد قرئ اسم " منوتو " على نقوش نبطية تعود إلى قرون عديدة قبل الإسلام كمعبود من جملة المعبودات النبطية. حيث يمكن أن يقال عن هذا المعبود ما قلناه عن اللاة. وإن كانت دائرة التشارك فيه أضيق. واحتمال تطور مفهوم الاسم والرمزية الذي أوردناه بالنسبة للاة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم في دور العروبة الفصحى وارد أيضا بالنسبة لمناة التي يحتمل والحالة هذه أن تكون تطورا عن منوتو. ولا يبعد أن يكون جذر هذه الكلمة متصلا بمعنى النوء والمطر فكان أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءلون بالاسم ويستمطرون عند المعبود المسمى به.
ولعل في هذا تفسيرا لتعدد المعبودات والآلهة عند العرب ؛ حيث كانوا يتجهون في كل مطلب إلى إله خاص. وفي الروايات العربية تأييدات أخرى لذلك كانوا يلقون سهام الاستخارة حينما يريدون مشاورة المعبودات في بعض شؤونهم عند صنم لهم في الكعبة اسمه هبل. ولعله كان غير ذلك مما أباد عصر الإسلام خبره.
وهذا طور من أطوار العقائد البشرية ما تزال آثاره قائمة إلى اليوم في أوساط تعد متحضرة وأصول ديانتها توحيدية علوية ؛ حيث يتخذ بعض المسلمين والنصارى واليهود فضلا عن غيرهم من أبناء الأديان الأخرى لكل مطلب وليا أو قديسا يتوسلون بهم أو عند قبورهم في مطالبهم برغم ما في ذلك من انحراف عن أصل العقيدة عند أصحاب الديانات التوحيدية السماوية.
ولقد قلنا : إن المفسرين قالوا : إن العزى هي تأنيث الأعز أو العزيز. ولقد قرئ اسم " عزيزو " وفي نقوش تدمرية تعود إلى ما قبل البعثة بعدة قرون كمعبود من المعبودات. وقد ذكر في بعض المؤلفات السريانية القديمة المؤلفة قبل البعثة اسم " العزى " كمعبود لأهل الحيرة له صنم كانوا يقدمون إليه قرابين من البشر ؛ حيث يصح أن يقال في هذا المعبود ما قلناه في المعبودين السابقين، سواء من حيث احتفاظه باسمه ومكانته وتطور صيغته ورمزيته. ويبدو من صيغته أنه أكثر من الأولين انسجاما مع صيغ الفصحى ليكون رمزا على بنت من بنات الله سبحانه وتعالى.
وأسلوب الآيات التي تجعل صلة بين هذه المعبودات الثلاثة وبين الملائكة وتسمية الملائكة بتسميات الأنثى هو أسلوب تنديدي فيه تنبيه لعقول العرب على عقائدهم الباطلة. والأسئلة الاستنكارية التي جاءت فيها هي من قبيل المساجلة والسخرية من قولهم وعقيدتهم. فقد كانوا يكرهون ولادة البنات ويتمنون لأنفسهم الذكور، ويعتبرون ولادتهم علامة امتياز وفضل. فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم تزدادون ضلالا وسخفا بنسبتكم البنات لله وأنتم تفضلون الذكور ؛ حيث إن من المعقول أن يتخذ الله ولدا من الجنس المفضل. إذا كان لا بد من أن يكون له ولد.
وقد جاء هذا صريحا ف
وفي الآيات تقرير لشمول علم الله وحكمته وإحاطته بأحوال الناس منذ بدء خلقتهم، ومعرفته محسنهم ومسيئهم، وقدرته على جزاء كل منهم حسب عمله. وفيها تنويه بأصحاب الأعمال الحسنة الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وتأميلهم بغفران ما يلمون به من هفوات وأخطاء، فإن الله واسع المغفرة.
والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها. فتلك تضمنت التنديد بعقائد العرب الجاهلية واتباعهم الظن والهوى وتبجحهم بأنهم على الحق، وهذه تضمنت تعقبيا وتوضيحا وتنبيها.
تعليق على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم
وفي الآية الأولى توكيد لتقريرات سابقة بأن الله سيحاسب الناس على أعمالهم الحسنة والسيئة وسيجزيهم عليها، ويتضمن هذا توكيد تقرير قابلية الإنسان للكسب ومسؤوليته عن كسبه.
ومما لا ريب فيه أن هذه التقريرات والتوكيدات المتكررة مما يفيد فائدة كبيرة في تربية النفس وجعل المرء يفكر قبل إقدامه على أي عمل في عواقب ما هو مقدم عليه.
ولقد تعددت الأقوال في تأويل " اللمم " المستثنى في الآية الثانية حيث قيل : إنه الذنب الذي يتوب عنه فاعله أو صغائر الذنوب أو الذنب الذي لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا أو ما يخطر على القلب من ذنوب أو ما ليس عادة متكررة أو النظرة غير المتعمدة أو القبلة والغمزة والنظرة. والذي نرجحه هو أنه صغائر الذنوب والهفوات التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تتفاداها. ولقد روى الترمذي في صددها١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
" إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألمّا "
مما فيه تدعيم لذلك. وعلى هذا تكون الآية الثانية قد احتوت مبدأ قرآنيا جليلا متمشيا مع الوقائع وطبائع الأمور. فالناس بسبب ما فيهم من غرائز تسوقهم إلى ما يرون فيه نفعهم وتدفعهم عما يرون فيه من ضرر لا يمكن أن يكونوا معصومين من الوقوع في الأخطاء واقتراف الذنوب والانحراف. غير أن من هذه الذنوب والأخطاء والانحرافات ما يكون كبائر وفواحش، ويكون مخالفته لحقوق الله وضرره العظيم للناس واضحا لا يدق عن الأفهام بصورة عامة، ومنه الهفوات التي قد تبدر عن حسن نية أو غفلة أو تقصير غير متعمد فيه الضرر والإثم والمخالفة. أو التي يكون ضررها محدودا ضئيلا. ومنه كذلك خلجات النفس الآثمة التي تظل في القوة ولا تخرج إلى حيز الفعل. فالواجب المحتم على الناس أن يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش على كل حال، ولا يمكن أن يعذروا على اقترافها. أما تلك الهفوات والأخطاء والإلمامات العابرة والخلجات التي لا تخرج إلى نطاق الفعل فإن الله عز وجل يشملها بعفوه وغفرانه إذا كانت صدرت من صاحبها عن نية حسنة أو غفلة أو تقصير أو اضطرار ولم يكن ضررها كبيرا، وكان صاحبها مؤمنا مجتنبا للكبائر.
وفي سورة النساء آية فيها هذا المعنى بأسلوب إيجابي قوي داعم لما قررناه وهي :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما٣١ ﴾ حيث يتساوق التلقين القرآني المدني مع التلقين القرآني المكي تساوقا رائعا قويا.
وفيما جاء في الآية نفسها من التنبيه إلى عدم التبجح والدعاوى الفارغة وتزكية النفس بغير حق تلقين جليل في صدد تربية النفس وجعل صاحبها يعرف حدوده، ويعرف أن الله لا تخفى عليه خافية فتزعه هذه المعرفة عن الخيلاء والغرور وتبعده عن الخداع والتضليل.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [ ٣٢ ] مدنية في حين أنها متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا قويا نظما وموضوعا. وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية.
ولقد روى مسلم والترمذي عن النواس الأنصاري حديثا نبويا فيه تعريف للإثم جاء فيه :( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق، والإثم ما جال في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه )٢. غير أن الكلمة في مقامها تعني كما هو المتبادر الذنب المقترف بصورة عامة. ولقد وردت الكلمة في هذا المعنى في آيات عديدة مكية ومدنية مثل آية سورة الأعراف هذه :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون٣٣ ﴾ وآية سورة الأنعام هذه :﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون١٢٠ ﴾ وآية سورة المائدة هذه :﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ [ ٢ ] وآية سورة النور هذه :﴿ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ﴾ [ ١١ ] ؛ حيث يبدو من هذا أن الحديث النبوي إنما احتوى تعريفا بأخف مظاهر الإثم لينبه على أن هذا المظهر مكروه عند الله ومؤاخذ عليه فيكون ما هو أكبر منه أكثر كراهية ومؤاخذة.
على أن جملة ﴿ كبائر الإثم والفواحش ﴾ في مقامها تعني الذنوب الكبيرة كما هو المتبادر. وهناك أحاديث نبوية عديدة في وصف هذه الذنوب. وأكثرها متماثل بخلاف يسير ومنها المرفوع ومنها المتصل، ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة بوصف الموبقات. ومما ذكر فيها الشرك بالله. وأكل مال اليتيم، وأكل الربا وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف واستحلال البيت الحرام، وشهادة الزور وعقوق الوالدين وشرب الخمر والسحر والبهتان والقتل وترك الصلاة واليمين الغموس والزنا واستطالة المسلم في عرض رجل مسلم بغير حق. والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والسرقة والغلول ومنع فضول الماء والتعرب بعد الهجرة- أي العودة إلى الأعراب والبادية. وهناك من قال : إن الكبائر كثيرة قد يصل عددها إلى سبعين، بل وإلى سبعمائه٣.
وهذه بعض نصوص الأحاديث النبوية الواردة في ذلك، فمن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )٤. وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري قالا :( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات، ثم أكب، فأكب كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل : ادخل بسلام ).
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبركم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور. قال : فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت )٥.
وحديث أورده ابن كثير عن عميرة بن قتادة قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتب الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي الزكاة من ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها فسأله رجل يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : تسع، الشرك بالله وقتل النفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ).
وهناك نصوص عديدة أخرى في كتب التفسير، وبخاصة في تفسير ابن كثير لا تخرج عن نطاق ما أوردناه فنكتفي بما أوردناه. وننبه على كل ما ورد في الأحاديث مما نهى القرآن وشدد فيه الإنذار والوعيد. ويبدو من تنوع الكبائر في الأحاديث أنها لم تذكر على سبيل الحصر، وفي القرآن كبائر لم تذكر في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض مثلا.
والأحاديث الواردة في هذا الصدد مما أوردناه ولم نورده هي على الأرجح على ما يدل عليه أنواع الكبائر المذكورة فيها وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني ؛ حيث يمكن القول إن الجملة التي نحن في صددها والتي نزلت في وقت مبكر من العهد المكي قد قصدت كل ذنب كبير إطلاقا مما فيه تقرير مبدئي. وهذا من سمات القرآن المكي، أما التنوع الملحوظ في الأحاديث فالمتبادر أنه متصل بالظروف التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من الحكمة أن ينبه أو ينهى عما جاء فيها، والله تعالى أعلم.
٢ - التاج جـ ٥ ص ٣..
٣ - انظر تفسير الآية [٣١] من سورة النساء في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي وغيرهم. وأكثرهم استيعابا للأحاديث الواردة في كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها ابن كثير..
٤ - التاج جـ ٣ ص ٤-٥..
٥ - المصدر نفسه ٥٧.
( ٢ ) اللمم : الهفوات الصغيرة أو الإلمام ببعض الذنوب الصغيرة من حين إلى حين، أو النية والتحويم حولها دون اقترافها فعلا.
( ٣ ) أجنة : جمع جنين، وهو الطفل في بطن أمه.
( ٤ ) فلا تزكوا أنفسكم : لا تتبجحوا ولا تدعوا الطهارة والنقاء والبراءة لأنفسكم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣١:﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى( ٣١ ) الذين يجتنبون كبائر الإثم١ والفواحش إلا اللمم٢ إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة٣ في بطون أمهاتكم فلا تزكوا٤ أنفسكم هو أعلم بمن اتقى( ٣٢ ) ﴾ [ ٣١-٣٢ ].
وفي الآيات تقرير لشمول علم الله وحكمته وإحاطته بأحوال الناس منذ بدء خلقتهم، ومعرفته محسنهم ومسيئهم، وقدرته على جزاء كل منهم حسب عمله. وفيها تنويه بأصحاب الأعمال الحسنة الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وتأميلهم بغفران ما يلمون به من هفوات وأخطاء، فإن الله واسع المغفرة.
والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها. فتلك تضمنت التنديد بعقائد العرب الجاهلية واتباعهم الظن والهوى وتبجحهم بأنهم على الحق، وهذه تضمنت تعقبيا وتوضيحا وتنبيها.
تعليق على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم
وفي الآية الأولى توكيد لتقريرات سابقة بأن الله سيحاسب الناس على أعمالهم الحسنة والسيئة وسيجزيهم عليها، ويتضمن هذا توكيد تقرير قابلية الإنسان للكسب ومسؤوليته عن كسبه.
ومما لا ريب فيه أن هذه التقريرات والتوكيدات المتكررة مما يفيد فائدة كبيرة في تربية النفس وجعل المرء يفكر قبل إقدامه على أي عمل في عواقب ما هو مقدم عليه.
ولقد تعددت الأقوال في تأويل " اللمم " المستثنى في الآية الثانية حيث قيل : إنه الذنب الذي يتوب عنه فاعله أو صغائر الذنوب أو الذنب الذي لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا أو ما يخطر على القلب من ذنوب أو ما ليس عادة متكررة أو النظرة غير المتعمدة أو القبلة والغمزة والنظرة. والذي نرجحه هو أنه صغائر الذنوب والهفوات التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تتفاداها. ولقد روى الترمذي في صددها١ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
" إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألمّا "
مما فيه تدعيم لذلك. وعلى هذا تكون الآية الثانية قد احتوت مبدأ قرآنيا جليلا متمشيا مع الوقائع وطبائع الأمور. فالناس بسبب ما فيهم من غرائز تسوقهم إلى ما يرون فيه نفعهم وتدفعهم عما يرون فيه من ضرر لا يمكن أن يكونوا معصومين من الوقوع في الأخطاء واقتراف الذنوب والانحراف. غير أن من هذه الذنوب والأخطاء والانحرافات ما يكون كبائر وفواحش، ويكون مخالفته لحقوق الله وضرره العظيم للناس واضحا لا يدق عن الأفهام بصورة عامة، ومنه الهفوات التي قد تبدر عن حسن نية أو غفلة أو تقصير غير متعمد فيه الضرر والإثم والمخالفة. أو التي يكون ضررها محدودا ضئيلا. ومنه كذلك خلجات النفس الآثمة التي تظل في القوة ولا تخرج إلى حيز الفعل. فالواجب المحتم على الناس أن يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش على كل حال، ولا يمكن أن يعذروا على اقترافها. أما تلك الهفوات والأخطاء والإلمامات العابرة والخلجات التي لا تخرج إلى نطاق الفعل فإن الله عز وجل يشملها بعفوه وغفرانه إذا كانت صدرت من صاحبها عن نية حسنة أو غفلة أو تقصير أو اضطرار ولم يكن ضررها كبيرا، وكان صاحبها مؤمنا مجتنبا للكبائر.
وفي سورة النساء آية فيها هذا المعنى بأسلوب إيجابي قوي داعم لما قررناه وهي :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما٣١ ﴾ حيث يتساوق التلقين القرآني المدني مع التلقين القرآني المكي تساوقا رائعا قويا.
وفيما جاء في الآية نفسها من التنبيه إلى عدم التبجح والدعاوى الفارغة وتزكية النفس بغير حق تلقين جليل في صدد تربية النفس وجعل صاحبها يعرف حدوده، ويعرف أن الله لا تخفى عليه خافية فتزعه هذه المعرفة عن الخيلاء والغرور وتبعده عن الخداع والتضليل.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [ ٣٢ ] مدنية في حين أنها متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا قويا نظما وموضوعا. وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية.
ولقد روى مسلم والترمذي عن النواس الأنصاري حديثا نبويا فيه تعريف للإثم جاء فيه :( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق، والإثم ما جال في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه )٢. غير أن الكلمة في مقامها تعني كما هو المتبادر الذنب المقترف بصورة عامة. ولقد وردت الكلمة في هذا المعنى في آيات عديدة مكية ومدنية مثل آية سورة الأعراف هذه :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون٣٣ ﴾ وآية سورة الأنعام هذه :﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون١٢٠ ﴾ وآية سورة المائدة هذه :﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ [ ٢ ] وآية سورة النور هذه :﴿ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ﴾ [ ١١ ] ؛ حيث يبدو من هذا أن الحديث النبوي إنما احتوى تعريفا بأخف مظاهر الإثم لينبه على أن هذا المظهر مكروه عند الله ومؤاخذ عليه فيكون ما هو أكبر منه أكثر كراهية ومؤاخذة.
على أن جملة ﴿ كبائر الإثم والفواحش ﴾ في مقامها تعني الذنوب الكبيرة كما هو المتبادر. وهناك أحاديث نبوية عديدة في وصف هذه الذنوب. وأكثرها متماثل بخلاف يسير ومنها المرفوع ومنها المتصل، ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة بوصف الموبقات. ومما ذكر فيها الشرك بالله. وأكل مال اليتيم، وأكل الربا وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف واستحلال البيت الحرام، وشهادة الزور وعقوق الوالدين وشرب الخمر والسحر والبهتان والقتل وترك الصلاة واليمين الغموس والزنا واستطالة المسلم في عرض رجل مسلم بغير حق. والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والسرقة والغلول ومنع فضول الماء والتعرب بعد الهجرة- أي العودة إلى الأعراب والبادية. وهناك من قال : إن الكبائر كثيرة قد يصل عددها إلى سبعين، بل وإلى سبعمائه٣.
وهذه بعض نصوص الأحاديث النبوية الواردة في ذلك، فمن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )٤. وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري قالا :( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات، ثم أكب، فأكب كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل : ادخل بسلام ).
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبركم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور. قال : فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت )٥.
وحديث أورده ابن كثير عن عميرة بن قتادة قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتب الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي الزكاة من ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها فسأله رجل يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : تسع، الشرك بالله وقتل النفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ).
وهناك نصوص عديدة أخرى في كتب التفسير، وبخاصة في تفسير ابن كثير لا تخرج عن نطاق ما أوردناه فنكتفي بما أوردناه. وننبه على كل ما ورد في الأحاديث مما نهى القرآن وشدد فيه الإنذار والوعيد. ويبدو من تنوع الكبائر في الأحاديث أنها لم تذكر على سبيل الحصر، وفي القرآن كبائر لم تذكر في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض مثلا.
والأحاديث الواردة في هذا الصدد مما أوردناه ولم نورده هي على الأرجح على ما يدل عليه أنواع الكبائر المذكورة فيها وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني ؛ حيث يمكن القول إن الجملة التي نحن في صددها والتي نزلت في وقت مبكر من العهد المكي قد قصدت كل ذنب كبير إطلاقا مما فيه تقرير مبدئي. وهذا من سمات القرآن المكي، أما التنوع الملحوظ في الأحاديث فالمتبادر أنه متصل بالظروف التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من الحكمة أن ينبه أو ينهى عما جاء فيها، والله تعالى أعلم.
٢ - التاج جـ ٥ ص ٣..
٣ - انظر تفسير الآية [٣١] من سورة النساء في كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي وغيرهم. وأكثرهم استيعابا للأحاديث الواردة في كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها ابن كثير..
٤ - التاج جـ ٣ ص ٤-٥..
٥ - المصدر نفسه ٥٧.
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
( ٣ ) وزر : حمل ومعنى الآية ﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ : ألا يحمل امرؤ ذنب امرئ آخر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
( ٩ ) أهوى : أسقطها وجعل عاليها سافلها كما جاء في آيات أخرى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
( ١٢ ) تتمارى : تشك وتكذب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أفرأيت الذي تولى( ٣٣ ) وأعطى قليلا وأكدى١ ( ٣٤ ) أعنده علم الغيب فهو يرى( ٣٥ ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى( ٣٦ ) وإبراهيم الذي وفى( ٣٧ ) ألا تزر٢ وازرة وزر أخرى( ٣٨ ) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى( ٣٩ ) وأن سعيه سوف يرى( ٤٠ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى( ٤١ ) وأن إلى ربك المنتهى( ٤٢ ) وأنه هو أضحك وأبكى( ٤٣ ) وأنه هو أمات وأحيا( ٤٤ ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى( ٤٥ ) من نطفة إذا تمنى٤ ( ٤٦ ) وأن عليه النشأة الأخرى( ٤٧ ) وأنه هو أغنى وأقنى٥ ( ٤٨ ) وأنه هو رب الشعرى٦ ( ٤٩ ) وأنه أهلك عادا الأولى( ٥٠ ) وثمودا فما أبقى( ٥١ ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم٧ وأطغى( ٥٢ ) والمؤتفكة٨ أهوى٩ ( ٥٣ ) فغشاها ما غشى١٠( ٥٤ ) فبأي آلاء١١ ربك تتمارى١٢( ٥٥ ) ﴾ [ ٣٣-٥٥ ].
معاني الآيات اللغوية والبيانية واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وأكثرها جاء على ما يتبادر استطرادا معطوفا على التنديد بالذي أعرض عن الدعوة ولم يعط من ماله إلا القليل، ثم تباخل وتظاهر بالفقر مطمئنا إلى المستقبل كأنما أمر الغيب في يده، وهو ما احتوته الآيات الثلاث الأولى فجاء ما بعدها من الآيات لتستطرد إلى توكيد المبادئ التي قررها الله في كتبه منذ القدم بحتمية انتهاء مصائر الناس إليه ونيلهم جزاء أعمالهم من خير وشر، دون أن يحمل أحد وزر غيره، والتنبيه إلى سنن الله وآلائه في كونه والتذكير بما كان من نكال الله في الطغاة والغابرين أمثال عاد وثمود وقوم لوط في معرض التدليل على شمول قدرته وتصرفه، وكون ما في أيدي الناس من مال وخير إنما هو من تيسيره ونعمه.
والمتبادر أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الآيات السابقة لها، وخاصة الآيتين السابقتين مباشرة. ففيهما أمر بالإعراض فمن تولى عن ذكر الله وتنويه وبشرى للذين أحسنوا فجاءت هذه الآيات تندد بالمتولي المتباخل، ثم تستطرد إلى ما استطردت إليه.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات أو القسم الأول منها. فهناك رواية بأنها نزلت في الوليد بن المغيرة الذي لان قلبه واتبع الرسول فعيره بعضهم فقال : إني خشيت عذاب الآخرة. فقال له : أعطني بعض مالك وأنا أتحمل عنك ذلك العذاب، فأعطاه شيئا ثم أمسك. ورواية بأنها نزلت في أبي جهل أو العاص بن وائل السهمي ؛ لأنهما كادا يقران برسالة النبي ثم نكصا. ورواية بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح أخي عثمان بن عفان في الرضاعة لأنه خوف أخاه من ذهاب ماله من كثرة ما أنفق في سبيل الله فقال له : إن لي ذنوبا كثيرة أرجو بما أفعله عفو الله فقال له : أعطني ناقتك برحلها، وأنا أتحمل عنك ذنوبك.
والحوادث المروية لا تتطابق مع نص الآيات ومضمونها. ومع أننا نرجح أن يكون شخص معين فعل شيئا مما ورد في الآيات فاستحق ما احتوته من حملة تنديدية، فإن عدم انفصاح السلسلة عما قبلها يسوغ القول : إن فعل هذا الشخص كان وسيلة وموضوعا لحملة عامة مطلقة تشمله وتشمل أمثاله. وتقرر ما قررته من مبادئ، وتذكر بما ذكرت به من مواضع العبر السالفة مما جرى النظم القرآني عليه كثيرا.
ولقد روى الطبري بطرقه في سياق تفسير الآية [ ١٢٤ ] من سورة البقرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها توضيح لجملة ﴿ وإبراهيم الذي وفى٣٧ ﴾ منها حديث رواه أبو أمامة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإبراهيم الذي وفى أتدرون ما وفّى ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : وفّى عمل يوم أربع ركعات في النهار ). وحديث رواه أنس قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم لم سمّى الله خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآيات ). والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، والخبر من المغيبات يجب الوقوف منها عند ما وقف عنده القرآن ما دام ليس هناك أثر نبوي وثيق فيها. وإن كان يصح القول أن الجملة في صدد التنويه بإبراهيم عليه السلام ؛ لأنه وفّى ما أمره به الله تعالى.
تعليق على مبدأ ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وعلى مبدأ :
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾
وفي الآيات [ ٤٠-٤٢ ] توكيد قوي وحاسم للمبدأ القرآني الذي قررته بعض آيات هذه السورة والسور التي قبلها. وهو قابلية الإنسان للكسب والاختيار والسعي ومسؤوليته عن كسبه واختياره، واستحقاقه الجزاء على ذلك وفاقا لما يكون فيه من خير وشر ونفع وضر وهدى وضلال.
وفي هذا ما فيه من تقوية الوازع الذاتي فيما يباشره الإنسان من عمل وفي عواقبه على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر.
وفي الآيات زيادة مهمة ذات خطورة تلقينية عظمى في تقوية هذا الوازع، وهي تقرير أثر سعي الإنسان في عاقبته وجزائه على طريق الحصر بحيث يوفر في نفسه عدم الجدوى في الاعتماد على شيء آخر غير العمل الصالح على سعة شموله لنيل ما وعد الله عباده الصالحين من سعادة الدنيا والآخرة.
ولقد استطرد المفسرون٢ في سياق تفسير هذه الآيات إلى مسألة انتفاع الموتى بما يهبه لهم الأحياء من عبادات وصدقات. وأوردوا في ذلك أحاديث نبوية عديدة، منها حديث رواه الشيخان عن عائشة جاء فيه :( أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم )٣. وحديث رواه البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عباس جاء فيه :( إن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب عنها فقال : يا رسول الله أينفعها شيء إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم. قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها )٤. وحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن سعد عن عبادة نفسه أنه قال :( يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ؟ قال : الماء، فحفر بئرا وقال : هذه لأم سعد )٥. وحديث عن عائشة رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )٦. وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم، قال : فدين الله أحق أن يُقضى )٧. وحديث رواه الشيخان جاء فيه :( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قال : نعم. قال : فصومي عن أمك )٨. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا )٩. وقد ذهب الإمام أحمد إلى صحة انتفاع الميت بثواب كل ما يوهب له من عبادات وتطوعات وصدقات استنادا إلى هذه الأحاديث. والمذهب وجيه، ولسنا نرى فيه تناقضا مع روح الآيات، وفي الأحاديث النبوية حث على فعل الخير عبادة وصدقات ولو كان للميت. وفي ذلك ما فيه من تلقين. ويتحفظ الإمام الشافعي بخاصة في انتفاع الموتى بما يقرأ ويوهب لهم من قرآن ؛ لأنه ليس من عملهم وكسبهم، وأيده ابن كثير الذي فرق بين قراءة القرآن وبين الدعاء والصدقات وقال : إن هذا مجمع على وصول نفعه إلى الموتى. ومن هذا السنة المتواترة بالصلاة على الأموات والدعاء والاستغفار لهم.
ولقد أورد المفسرون إلى ذلك أحاديث أخرى عن انتفاع الموتى بثواب ما يكون أثرا من آثارهم. منها حديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )١٠. وحديث رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أيضا جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )١١.
وحديث رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة كذلك جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته )١٢. وحديث رواه مسلم والترمذي عن جرير قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء )١٣ وحديث رواه الترمذي عن عوف المزني قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : إعلم ؟ قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا )١٤. وهذه الأحاديث أكثر من تلك تساوقا مع الآيات ؛ لأن هذه الأعمال التي تلحق آثارها الموتى هي من كسبهم وسعيهم
ومهما يكن من أمر هذا الاستطراد فإن المتبادر أن الآيات في أصلها وظرف نزولها المبكر قد استهدفت حض السامع على الإيمان والعمل الصالح، وتحذيره من عواقب الإثم والضلال وتنبيهه إلى أن نجاته وشقاءه في الآخرة مرهونان بسعيه وكسبه اللذين سوف يجازى حسبهما جزاء تاما وافيا. وليس من شأن ما ورد من آثار أن تؤثر في قوة ما احتوته الآيات من ذلك.
وجملة :﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ النجم [ ٣٨ ] تكررت أربع مرات أخرى في أربع سور١٥. وفي كل المقامات جاءت في صدد كسب الإنسان لعمله ومسؤوليته عنه أمام الله تعالى ؛ حيث ينطوي في ذلك إيذان قرآني بأن كل إنسان مسؤول عن عمله وبأن الله تعالى لا يمكن أن يحمل أحدا مسؤولية عمل صدر من غيره وحيث يمكن أن يقال : إن هذا من المبادئ القرآنية المحكمة المتسقة مع مبادئ الحق والعدل التي بشرت بها الدعوة الإسلامية.
وإطلاق العبارة يجعل تلقينها شاملا بحيث يمكن أن يقال : إن الله تعالى كما أنه لا يحمل أحد مسؤولية عمل صدر عن غيره، وبأن كل إنسان مسؤول عن عمله أمامه فلا ينبغي لأحد أن يحمل شخصا مسؤولية عمل صدر من شخص آخر، إذا لم يكن له صلة ما بهذا العمل ظاهرة أم باطنة. وإن مسؤولية أعمال الإنسان منحصرة في فاعلها.
وقد تقدم تعريف بقومي عاد وثمود في سياق تفسير سورتي الشمس والفجر. وسيأتي بتفصيلات أخرى عنهما في مناسبات أخرى ؛ لأن قصصهما تكررت وتنوعت مضامينها في سور عديدة وليس في ما جاء عنهما في السورة جديد يتحمل تعليقا جديدا فنرجئ ذلك إلى المناسبات الآتية :
وذكر قوم نوح يأتي هنا لأول مرة، وقد تكرر كثيرا في سور أخرى في بعضها إسهاب غير يسير. وخلاصة قصة نوح وقومه في القرآن : أن الله أرسله إلى قومه فكفروا وكذبوه، فأخبره الله أنه سوف يهلكهم بالطوفان، وأمره بصنع سفينة تحمله وأهله وزوجين من كل حي ؛ لينجيهم من الطوفان ففعل، ثم كان الطوفان فأغرق الناس، ونجا نوح وأهله ومن على السفينة. وكان نوح وأهله هم الباقين من بني آدم وأصلهم الثاني.
وقد ذكرت قصة نوح وسفينته وطوفانه في الإصحاحات ٥-٩ من سفر التكوين وبين ما و
٢ - انظر تفسير البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي..
٣ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥ -٣٤٦..
٤ - التاج جـ ١ ص ٣٤٥-٣٤٦..
٥ - المصدر نفسه..
٦ - التاج جـ ٢ ص ٧١..
٧ - المصدر نفسه ص٧٢..
٨ - المصدر نفسه..
٩ - المصدر نفسه.
١٠ - التاج جـ ١ ص ٦٦..
١١ - المصدر نفسه..
١٢ - المصدر نفسه ص ٦٦-٦٧.
١٣ - المصدر نفسه..
١٤ - التاج جـ ١ ص ٦٦-٦٧.
١٥ - الأنعام ١٦٤ والإسراء ١٥ وفاطر ١٨ والزمر ٧..
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.
( ٢ ) الآزفة : كناية عن يوم القيامة ؛ حيث تتضمن معنى القريبة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ هذا نذير من النذر الأولى( ٥٦ ) أزفت١ الأزفة٢ ( ٥٧ ) ليس لها من دون الله كاشفة ( ٥٨ ) أفمن هذا الحديث تعجبون( ٥٩ ) وتضحكون ولا تبكون( ٦٠ ) وأنتم سامدون٣( ٦١ ) فاسجدوا لله واعبدوا( ٦٢ ) ﴾ [ ٥٦-٦٢ ].
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ هذا نذير من النذر الأولى( ٥٦ ) أزفت١ الأزفة٢ ( ٥٧ ) ليس لها من دون الله كاشفة ( ٥٨ ) أفمن هذا الحديث تعجبون( ٥٩ ) وتضحكون ولا تبكون( ٦٠ ) وأنتم سامدون٣( ٦١ ) فاسجدوا لله واعبدوا( ٦٢ ) ﴾ [ ٥٦-٦٢ ].
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.
في الآيات توكيد بأن الإنذار القرآني الذي يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم للناس هو من جنس النذر الأولى التي أرسلها الله على لسان رسله الأولين، وهتاف بقرب مجيء يوم القيامة الذي ليس لأحد منه معاذ إلا الله والاستجابة لدعوته، وخطاب تنديدي موجه إلى الكفار بسبب مقابلتهم نذير الله وقرآنه بالعجب والضحك والإعراض في حين أن الأولى بهم أن يخافوا ويبكوا من هول ما ينذرون به، وقد انتهت الآيات بأمر السامعين بالسجود لله وعبادته كأنما تهتف بهم بأن هذا هو ما يجب أن يفعلوه.
والآية الأخيرة يمكن أن تكون موجهة إلى المؤمنين حثا لهم على عدم الاهتمام بموقف الكفار وما هم فيه من لهو وضحك، والإقبال على عبادة الله والتقرب إليه كما يمكن أن تكون موجهة إلى الكفار استمرار على الخطاب الموجه إليهم.
والآية الأولى خاصة جاءت معقبة على الآيات السابقة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا يستدعي الاستغراب ويثير العجب. والقرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أوحى الله به. وهذا وذاك مما جرى من سنن الله في إنذار البشر منذ الأزمنة الأولى كما أنهما متصلان في أهدافهما ومضامينهما بما أرسل الله من رسل وأوحى إليهم من كتب، وهذا المعنى قد تكرر كثيرا في القرآن، والمتبادر أنه استهدف تأنيب الكفار على مواقفهم من جهة وتقرير وحدة الأسس والمصدر بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام من جهة أخرى، ولما كان السامعون والكفار منهم يعرفون خبر رسالات الرسل السابقين كانت الحجة قد قامت عليهم.
والآية الثانية وإن كان يبدو من ظاهرها أنها تتضمن معنى اقتراب يوم القيامة فإن روحها تلهم أنها بقصد الإنذار بهذا اليوم مطلقا إنذار فيه إرهاب وقطعية، على اعتبار أن الشيء الذي لابد من مجيئه وشهوده واقع لا ريب فيه ومقترب إليهم. فكأنما أريد تذكير السامعين وخاصة المكذبين بأسلوب إنذاري حاسم أن ما يظنونه غير ممكن أو غير حقيقي أو بعيد الاحتمال هو أمر حقيقي لا ريب فيه، ولا يقيهم من هوله إلا اللجوء إلى الله والاستجابة إلى دعوة نبيه، وفي هذا من التلقين وقوة الوازع ما فيه.