ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ اختلفت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، فقال في رواية الكلبي: أقسم بالقرآن إذا نزل نجوما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع آيات وثلاث آيات، والسورة، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة.ونحو هذا روي عن عطاء (١)، وهو قول مقاتل، والضحاك، ومجاهد في رواية الأعمش عنه، واختيار الفراء (٢).
وعلى هذا القول سُمي القرآن نجمًا لتفريقه في النزول، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرق نجومًا ومنه نجوم الدين ونجوم الكتابة،
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٤، و"جامع البيان" ٢٧/ ٢٤. قال الشنقيطي: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري أن المراد بـ ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ هنا في هذه السورة و ﴿بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجمًا فنجمًا، وذلك لأمرين:
أحدهما: أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- على حق، وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى موافق في المعنى لما أقسم عيه بمواقع النجم، وهو قوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾.
والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم، وهو أنسب لقوله بعده: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾.
انظر: "أضواء البيان" ٧/ ٧٠٠ - ٧٠١.
وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيتًا لحلول ديونها، فيقول إذا طلع النجم وهو الثريا: حل عليك مالي، وكذلك سائرها، ومن هذا قول زهير في ديات جعلت نجومًا على العاقلة (١):
يُنَجِّمُهَا قَوْمٌ لِقَوْمٍ غَرَامَةً | ولَمْ يُهريقُوا بَيْنَهُمْ مِلءَ محْجَم (٢) |
ويدل على صحة هذا التأويل الذي ذكرنا في الآية قوله -عز وجل-: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة: ٧٥]. قال عبد الله: يعني القرآن. فلما ذكر القسم به هاهنا ذكر أيضًا هناك.
وقوله: (هَوَى) معناه على هذا القول: نزل.
قال الأصمعي: هَوَى يَهْويِ هَوِيًّا إذا سقط من علو إلى أسفل، وقال أبو زيد: هَوت العقاب تَهْوي هَويًّا بالفتح إذا انقضّت على صيد أو غيره. فهذان ذكرا المصدر بفتح الهاء، ونحو ذلك قال ابن الأعرابي، وفرق بين الهَويّ والهُوي، فقال: بالفتح في السريع إلى أسفل والضم في السريع إلى فوق، وأنشد:
والَّدلْوُ في إِصْعادِها عَجْلىَ الهُويّ (٣)
(٢) انظر: "ديوان زهير" ص ١٧، و"تهذيب اللغة" ١١/ ١٢٩، و"اللسان" ٣/ ٥٨٩ (نجم)، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ٦٤.
والمِحجم: آلة الحجام، والمعنى أنهما لم يريقوا مقدار ما يملأ محجمًا من الدماء.
(٣) لم أجده منسوبًا. وانظر: "الأضداد" لقطرب ص ١٢٠، وفيه: (إتراعها) بدل (إصعادها).
وبان أن معنى (هَوَى) سقط كسقوط النجم في مغاربه من الأفق، ولما سمي القرآن نجمًا سمي نزوله هويًا ليتجانس اللفظ.
وقال في رواية علي بن أبي طلحة، وعطية: يعني والثريا إذا سقطت وغابت وهو قول مجاهد في رواية ابنه، ومنصور، وابن أبي نجيح عنه (٢).
والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة.
قال ساجعهم (٣):
طَلَعَ النجْمُ غُدَيَّه... ابتَغَى الرَّاعي شُكَيَّه (٤)
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٢٧، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٠، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٤٦.
وقال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله مجاهد من أنه عني بالنجم في هذا الموضع الثريا...) "جامع البيان" ٢٧/ ٢٥.
(٣) (ك): (سابعهم).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ١٢٧، ولم ينسبه لقائل، و"شواهد الكشاف" ص ٦، و"التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٧٩، و"البحر المحيط" ٨/ ١٥٧، وفي "ارتشاف الضرب" ١/ ١٧٠:
طَلَعَ النجم غدية... وبع لراعي كُسيَّه
وفي "الأضداد" لابن الأنباري ٦٢:
إذا الثريا طلعت غديه... فبع لراعي غنم كسيهْ
وفيه:
إذا الثريا طلعت عشاء... فبع لراعي غنم كساءَ
طَلَعَ النجْمُ عشيا... ابتَغَى الراعي شُكَيَّا
يعني الثريا. ومنه قول الراعي يصف قدرًا كثيرة الدسم:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحِيرَةٍ... سَرِيعٍ بأَيْدِي الآكِلِينَ جُمُوُدُهَا (١)
يريد: تعد أنجم الثريا.
قال ابن دريد: وهي سبعة أنجم ستة منها ظاهرة، وواحد منها خفي، يمتحن الناس به أبصارهم (٢).
وقوله: فباتت تعد النجم، يدل على أن هذا كان في وسط الشتاء حين تحلق الثريا في وسط السماء، وذلك في ليالي الشتاء؛ لأنها لو كانت في أفق لم يكن عدها في القِدْر.
وقال في رواية عكرمة: يعني الرجوم من النجوم، وهي ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع (٣).
وهذا القول ظاهر ونحن نشاهد هوي النجم إذا رمى به.
وهذا قول الحسن (٤). وقال أبو حمزة الثمالي: يعني النجوم إذا
إذا الثريا طلعت عثسيه... فبع لراعي غنم كسيه
(١) انظر: "ديوان الراعي" ص ١٩٤، و"الحماسة" لأبي تمام ٢/ ٢٠٧، و"مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٥، و"اللسان" ٣/ ٥٩٠ (نجم). والمستحيرة: هي المتحيرة في امتلائها، أي في مرقها. "اللسان" ١/ ٧٦٧ (حير).
(٢) انظر: "اللسان" ٣/ ٥٨٩ (نجم)، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٢.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٤.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٢.
هذا الذي ذكرنا أقوال المفسرين.
وقال أبو عبيدة: النجم بمعنى النجوم. أقسم بالنجم إذا سقط في المغرب، كأنه يخصص الثريا دون غيرها، واحتج ببيت الراعي، وجعل النجم فيه نجوم السماء عامة (٢).
وعلى هذا أقسم بالنجم ليدل على ما فيها من العبرة بتصريف من يملك طلوعها وغيوبها، ولا يملكه إلا الله وحده.
وقال الأخفش: النجم هاهنا معناه: النبت الذي ليس له ساق، وهوى سقط على الأرض (٣)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦] وسنذكر الكلام في النجم بمعنى النبت إذا انتهينا إلى هذه الآية إن شاء الله. ثم ذكر جواب القسم فقال:
٢ - قوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما ضل عن طريق الهدى وما غوى.
قال مقاتل: يعني ما تكلم بالباطل (٤).
٣ - ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ أي وما ينطق محمد بالقرآن من هوى نفسه. قال الكلبي: قالت قريش: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يقول القرآن من تلقاء نفسه،
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٥، وذكره الشوكاني ونسبه لجماعة المفسرين، ورجحه. "فتح القدير" ٥/ ١٠٤.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٤، "فتح القدير" ٥/ ١٠٥، شرحه ثم قال: وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له. فلا يظهر للهوي معنى صحيح.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٥.
قال أبو إسحاق: أي ما الذي يأتيكم به مما قاله بهواه.
٤ - ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ إنْ بمعنى ما (٢).
قال الكلبي ومقاتل: ما القرآن إلا وحي من الله -عز وجل- يأتي به جبريل، فذلك قوله:
٥ - ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (٣) قال ابن عباس والمفسرون: يعني جبريل (٤) عليه السلام، والقوى جمع قوة
٦ - ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾. قال الكلبي: ذو شدة (٥)، وقال مقاتل: ذو قوة (٦).
ومعنى المِرَّة في اللغة شدة الفتل وشدة أسر الخلق، ومنه الحديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سَوي" (٧).
وأصل المرة من أمررت الحبل أي: شددت قتله، وكل قوة من قوى الحبل مرة، وجمعها مِرر (٨). وتم الكلام عند قوله: ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ (٩) وهو من
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٠.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ، و"الوسيط" ٤/ ١٩٣.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩١، و"جامع البيان" ٢٧/ ٢٥، و"ابن كثير" ٤/ ٢٤٧.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩١، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٥.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ٢٥، عن ابن زيد، ومجاهد، وسفيان.
(٧) حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٢/ ١٦٤، ١٩٢ والترمذي في الزكاة، باب ما جاء من لا تحل له الصدقة ٣/ ٤٢، وأبو داود في الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغنى ١/ ٤٠٧، وابن ماجه في الزكاة ١/ ٥٨٠ (٢٦).
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٩٦ (مر).
(٩) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٧.
ثم قال: ﴿فَاسْتَوَى﴾ قال صاحب النظم: ﴿فَاسْتَوَى﴾ لا يحسن انتظامه بما قبله؛ لأن دخول الفاء لو كان متصلاً بما قبله لوجب أن يكون ما قبله للاستواء، وهو متصل بما بعده على تأويل ﴿فَاسْتَوَى﴾ أي جبريل ﴿وَهُوَ﴾ أي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا عطف بقوله ﴿وَهُوَ﴾ على الضمير المرفوع في ﴿اسْتَوَى﴾ من غير تأكيد.
قال الفراء: وأكثر كلام العرب إذا نسقوا على المكنى المرفوع أن يؤكدوه (٢) قبل أن ينسقوا عليه فيقولون: استوى هو وأبوه ولا يكادون يقولون: استوى وأبوه، وربما فعلوا ذلك كقول الشاعر:
ألم تر أن النبع يصلب عوده | ولا يستوى والخروع المتقصف (٣) |
(٢) في (ك): (يؤكده، فيقول).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٩٥، و"القطع والائتناف" ص ٦٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٥، ولم أجد البيت منسوبًا.
(٤) في (ك): (على) ساقطة.
(٥) انظر: "معانى القرآن" للزجاج ٥/ ٧٠.
٧ - ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ مرتفع ﴿هُوَ﴾ فيه بالابتداء وليس هو وهو، وكان قوله: ﴿بِالْأُفُقِ﴾ ظرفًا لـ (استوى)، وليس كذلك، ولكنه من استوى الذي هو يقتصر فيه على فاعل واحد، كقوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ [القصص: ١٤] ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] فقوله: ﴿بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ تأويلنا في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، وفيه ضمير للمبتدأ، وقد تبينت أنه لا دلالة لمن احتج بهذه الآية على جواز عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع من غير أن يؤكد، ولكن يجيء في الشعر كقوله:
قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وزُهْرٌ تَهادَى | كَنِعاجِ اْلْمَلا تَعَسَّفنَ رَمْلا (١) |
وعلى ما قالا: الواو في ﴿وَهُوَ﴾ واو الحال لا العطف، والضمير لجبريل.
وقول الفراء كما هو خطأ في العربية، ولم يقله أيضًا أحد من المفسرين الذين يعتمدون فيما أعلم، إنما جعلوا ﴿هُوَ﴾ ضميرًا لجبريل.
قال عطاء عن ابن عباس: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل وهو بالأفق الأعلى في صورته له ستمائة جناح، ونحو هذا ذكر الكلبي عنه (٣).
(٢) لم أجده.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٣، وفي صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة =
وقال الكلبي: يعني مطلع الشمس (٢)، وهذا قول الجميع في الأفق الأعلى. يعني: أفوق المشرق (٣). وذكرنا تفسير الأفق عند قوله: ﴿آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ (٤).
قال المفسرون: إن جبريل كان يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صورة الآدميين فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريه نفسه على صورته التي جعل عليها فأراه نفسه مرتين. مرة في الأرض، ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدًا (٥) -صلى الله عليه وسلم- كان بحراء (٦) فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغشيًّا عليه، فنزل جبريل في سورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، ومثل هذا (٧) قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ [التكوير: ٢٣]، وأما في
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩١.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق ٢/ ٢٥٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٨.
(٤) عند تفسيره لآية (٥٣) من سورة فصلت. حيث قال: واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء أطرافها ونواحيها.
(٥) قوله: (وذلك أن محمدًا) زيادة من "الوسيط" حيث لم تظهر في (ك).
(٦) حراء بالكسر والتخفيف والمد: جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال.
انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٢٣٣.
(٧) في (ك): (ومثل هذا) لم تظهر ولعل ما أثبته يقيم العبارة.
هذا، ولم يره أحد من الأنبياء (١) على تلك الصورة إلا محمد -صلى الله عليه وسلم- (٢).
وقوله: ﴿الْأَعْلَى﴾ ليس المراد به الأعلى في السماء، وإنما المراد بالأعلى جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، فهو أعلى منه في صعيد الأرض لا في الهواء. وقد يقال لما استعلى من البلاد آفاق تشبيهًا بآفاق السماء ومنه قول امرئ القيس:
فقد طوفتُ بالآفاق حتى | رضيتُ من الغنيمةِ بالإياب (٣). |
٨ - ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ التدلي مطاوع التدلية (٤) يقال: دليت الشيء في مهواه فتدلى، فمعنى التدلي الامتداد إلى جهة السفل، يقال: تدلى العذق تدليًا. هذا هو الأصل، ثم يستعمل في القرب من العلو، وهذا قول الفراء (٥).
وقال صاحب النظم: هذا من التقديم والتأخير؛ لأن المعنى: ثم تدلى فدنا، لأن التدلي سبب الدنو (٦).
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٤ أ - ب، و"الوسيط" ٤/ ١٩٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٥، و"زاد المسير" ٨/ ٦٥.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٨٥، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٤٧، و"تفسير القاسمي" ١٥/ ٥٥٥٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٥.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ٢٨/ ٢٨٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٩.
تَدَلَّى عَلَينا وهْوَ زُرْقٌ جِمَامُهُ | له طِحْلِبٌ في مُنْتَهَى القَيْضِ هَامِدُ (٢) |
فَتَدَلَّيْتُ عليه قَافِلًا | وعلى الأرضِ غَيَايَاتُ الطَّفَل (٣) |
وقال الحسن، وقتادة: ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- (٦).
وقال أبو صالح: جبريل الذي دنا فتدلى (٧).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٧٣ (دال)، و"اللسان" ١/ ١٠٠٩ (دلا)، وروايتهما: زرق حمامةٍ، وكذا ذكرها المؤلف، وفي زيادات "ديوان الهذليين" ٣/ ١٣٥١: زرقٌ جمامهُ، وهو الصواب. ومعناه الماء الصافي الكثير.
(٣) انظر: "ديوان لبيد" ص ١٤٥، غيايات الطفل: هو ظل الشمس بالعشي. "اللسان"
٥٩٩/ ٢ (طفل)، ١/ ١٠٣٩ (غيا).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ١٧٣ (دال)، و"اللسان" ١/ ١٠٠٨ (دلا).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٢، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٥.
(٦) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٠، و"الوسيط" ٤/ ١٩٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٦.
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٨.
قال أبو بكر بن الأنباري: معنى الآية: ثم تدلى جبريل فدنا من محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقدم (دَنَا) على (تدلى) لأن الفعلين المصطحبين اللذين إذا وقع أحدهما موقع الآخر كان تقدم المتقدم كتأخره، كقولك: دنوت فقربت، وقربت فدنوت، لا فرق بينهما، وكذلك ظلمتني فأسأت، بمنزلة: أسأت فظلمتني، ومنه قوله: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: ١]. معناه انشق القمر واقتربت الساعة (٢).
٩ - ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ القاب من القوس ما بين المقبض والسية (٣). ولكل قوس قابان، والقاب في اللغة أيضًا القَدْر.
قال أبو عبيدة: قدر قوسين، ونحو ذلك قال الفراء والزجاج (٤).
وقال ابن السكيت: يقال: قاب قوس وقيب، وقال رمح، وقيد رمح. كله بمعنى القدر (٥). وهذا هو المعنى بما في الآية لا الأول وهو قول
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٩، و"فتح القدير" ٥/ ١٠٦، وهو قول الفراء أيضًا. انظر: "معاني القرآن" ٣/ ٩٥.
(٣) سية القوس: ما عطف من طرفيها، ولها سيتان، وقيل: رأسها، وقيل: ما اعوج من رأسها. "اللسان" ٢/ ٢٥٥ (سيا).
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٦، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧١، و"اللسان" ٣/ ١١ (قوب).
(٥) انظر: "إصلاح المنطق" ص ٨٩، ولفظه: قاب قوس وقيب قوس، وقيس رمح وقاس رمح.. ، و"تهذيب اللغة" ٩/ ٢٤٧ (قاد).
قال الكسائي: وهي لغة حجازية، يقال: كان مني قاب قوسين، وقال قوشن، وقيد قوسين (٢)، وانتصب قاب على خبر كان.
قال الزجاج: المعنى كان ما بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدار قوسين (٣).
وقال الكلبي: ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ قدر قوسين من القسط العربية، وهو قول مجاهد، ورواية عكرمة عن ابن عباس، وعطاء قالوا: قدر قوسين (٤).
وقال الكلبي، والحسن، وقتادة: قيد قوسين (٥).
والمراد بالقوس هي التي ترمى منها في قول هؤلاء وخصت بالذكر على عادتهم كما ذكره الكسائي (٦).
وقال عبد الله: قدر ذراع أو ذراعين (٧).
وروى عاصم عن أبي رزين قال: القاب: القيد، والقوس: الذراع. وهذا قول شقيق (٨) بن سلمة، وسعيد بن جبير، وأبي إسحاق الهمداني قالوا: قدر ذراعين (٩)، وعلى هذا معنى القوس: ما يقاس به الشيء، أي:
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٥ ب.
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧١.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٢، و"الوسيط" ٤/ ١٩٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٦، و"زاد المسير" ٨/ ٧٦.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٠، و"جامع البيان" ٢٧/ ٢٧.
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٤.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٢٧.
(٨) في (ك): (سفيان) والصواب ما أتبته.
(٩) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٢٧، و"الوسيط" ٤/ ١٩٤، "القرطبي" ١٧/ ٩٠. =
قال ابن السكيت: قاس الشيء يَقُوسُه قوسًا لغة في قاسه إذا قدرته، يقال قِسْتُه وقُسْتُه (١).
والقوس مصدر كالقيس، ثم سُمِّي ما يقاس به الشيء قوسًا، وهي لغة أهل الحجاز.
وروى الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها في قوله (٢): ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ قال: ذاك جبريل (٣)، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع (٤).
وقوله: (أَوْ أَدْنَى) أو أقرب بنصف القوس، وقال مقاتل: بل أقرب من ذلك (٥).
قال أبو إسحاق: خاطب الله تعالى العباد على لغتهم ومقدار فهمهم، والمعنى: أو أدنى فيما تقدرون أنتم كما تقول في الشيء تقدره: هذا قدر رمحين، أو نقص، أو أرجح، والله تعالى عالم بمقادير الأشياء من غير
(١) انظر: "إصلاح المنطق" ١٣٧، و"تهذيب اللغة" ٩/ ٢٢٥ (قاس).
(٢) في (ك): (في قوله) ساقطة.
(٣) انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الإيمان، باب قوله عز وجل ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ ١/ ١٥٩، و"جامع البيان" ٢٧/ ٢٧، و"الوسيط" ٤/ ١٩٤.
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥١، و"ابن كثير" ٤/ ٢٤٩، و"فتح الباري" ٨/ ٦٠٨.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ.
ومعنى الآية أن جبريل مع عظمه وكثرة أجزائه حتى سد الأفق بجناحه دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير تلك الصورة حتى قرب منه بعدما رآه على الصورة الأولى، وفي ذلك بيان قدرة الله تعالى.
١٠، ١١ - قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: أوحى جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أوحى الله إليه (٣).
وقال قتادة: يوحي الله إلى جبريل ويوحي جبريل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، هذا قول الحسن، وابن زيد (٤)، واختيار الفراء، والزجاج، وابن الأنباري (٥).
قوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ يقال: كذبني فلان بالتخفيف، أي: قال لي الكذب ولم يصدقني، وهذا فعل يتعدى إلى مفعول واحد، يدل
(٢) من آية (١٤٧) من سورة الصافات. قال: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ قال أبو عبيدة: أو هاهنا ليست شك، وقالوا هي في موضع الواو.. وهو قول قطرب واختيار ابن قتيبة، ومثله (أَوْ أَدْنَى) ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ وبعضهم يذهب إلى أنها بمعنى (بل)، وبه قال الفراء وهو قول مقاتل والكلبي... وقال الأخفش: كانوا كذلك عندكم.. وبه قال الزجاج.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٦.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٢٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٦ أ، و"الوسيط" ٤/ ١٩٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٦.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٥، و"معاني القرآن"، للزجاج ٥/ ٧١.
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أم رَأيتَ بواسِطٍ | غَلَسَ الظَّلامِ من الرَّبابِ خَيَالاَ (١) |
قال المفسرون: هذا إخبار عن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج.
قال ابن عباس في رواية عطاء: رأى ربه بقلبه (٢).
وقال في رواية باذان: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ﴾ يعني فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما رأى محمد ربه بفؤاده ولم يره بعينه (٣).
وقال في رواية عكرمة: رآه بقلبه (٤).
وقال في رواية أبي العالية: رآه بفؤاده (٥)، ونحو هذا روي عن أبي ذر (٦)، وإبراهيم التيمي. وعلى هذا القول: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه بفؤادهِ رؤية
(٢) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب قول الله -عز وجل- ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ ١/ ١٥٨، بلفظ (رآه بقلبه).
قال ابن حجر: وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء أيضًا عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعينه، إنما رآه بقلبه. "فتح الباري" ٨/ ٦٠٨.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٢، و"الدر" ٦/ ١٢٥، وزاد نسبة تخريجه لابن جرير وعبد بن حميد.
(٤) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة النجم، ٥/ ٣٦٩، وقال: هذا حديث حسن، وابن جرير في "جامعه" ٢٧/ ٢٨، وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٢٥١.
(٥) انظر: صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ ١/ ١٥٨ ولفظه: (رآه بفؤاده مرتين)، و"مسند الإمام أحمد" ٢/ ٢٢٣، و"الطبري" ٢٧/ ٢٩.
(٦) رواه ابن خزيمة بلفظ: (رآه بقلبه ولم يره بعينه)، و"فتح الباري" ٨/ ٦٠٨.
ومذهب جماعة من المفسرين أنه رآه بعينه، وهو قول أنس (٢)، وعكرمة، والحسن، وكان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه (٣)، ونحو ذلك قال الربيع (٤).
وروى عكرمة أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد -صلى الله عليه وسلم- (٥).
وروى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس أنه قال: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدًا رأى ربه مرتين (٦).
(٢) رواه ابن خزيمة بلفظ: (رأى محمدٌ ربه)، و"فتح الباري" ٨/ ٦٠٨.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٣.
(٤) صحيح مسلم بشرح النووي ٣/ ٧ - ٦، و"فتح الباري" ٨/ ٦٠٨، وزاد نسبة هذا القول لعروة بن الزبير وكعب الأحبار، والزهري، ومعمر، والأشعري، وغالب أتباعه، وسائر أصحاب ابن عباس، والإمام أحمد.
(٥) أخرجه الحاكم في "مستدركه"، كتاب التفسير، تفسير سورة النجم ٢/ ٤٦٩ وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. وانظر: "فتح الباري" ٨/ ٦٠٦.
(٦) أخرجه الترمذي في كتاب "التفسير" ٥/ ٣٦٨، من كلام كعب، حيث قال: فقال كعب: وإن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين.
وابن جرير في "تفسيره" ٢٧/ ٣١، وذكر عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٢٥٢ قول ابن عباس تم قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال.. وذكر كلام كعب.
قلت: وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن البغوي هو كلام الواحدي، وإنما نقله البغوي عنه.
والخلاف في هذه المسألة مشهور، وبقول كلِّ قال أناس من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والنصوص الواردة في هذا الباب لا تؤيد وجهة أحدهما، ولهذا نقل القاضي عياض عن بعض مشايخه التوقف ورجحه القرطبي.
انظر: "فتح القدير" ٨/ ٦٠٨، و"روح المعاني" ٢٧/ ٥٣.
وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس "أنه رآه" مناقضًا لهذا، ولا قوله (رآه بفؤاده) وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى) ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح.
وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين) وعائشة أنكرت الرؤيقى فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد... والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد تارة.. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد.. لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين. "مجموع الفتاوى" ٦/ ٥٠٧، ٥٠٩. قلت: وبهذا الكلام النفيس يتبين اتفاق الصحابة -رضوان الله عليهم- على أنه لم يره بعينه، والله أعلم. وانظر: "زاد المعاد" ٣/ ٣٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٠ - ٢٥١، و"شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٢٢٢ - ٢٦، و"تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" ٢/ ٨٣٥ - ٨٤١.
وقال أبو الهيثم: أي لم يكذب الفؤاد رؤيته و (مَا رَأَى) بمعنى الرؤية. يقال: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم (٢) ير، بل صدقه الفؤاد رؤيته (٣)، وعلي هذا (مَا رَأَى) مصدر في موضمع النصب؛ لأنه مفعول كذب.
وقرأ ابن عامر (مَا كَذَّبَ) بالتشديد (٤)، قال المبرد: ومعناه أنه رأى شيئًا بقلبه. قال: وفي هذه القراءة بعد؛ لأنه إذا رأى بقلبه فقد علمه أيضًا بقلبه، وإذا وقع العلم فلا تكذيب معه، لأن القلب يكذب ويصدق فإذا كان الشيء في القلب معلومًا فكيف يكون معه تكذيب، وهذا على ما قال المبرد إذا جعلت الرؤية للفؤاد، فإن جعلتها للعين زال هذا الإشكال وصح هذا المعنى، فيقال: ما كذب فؤاده ما رآه ببصره (٥).
(٢) في (ك): (أي لم) والصواب ما أثبته.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٠/ ١٧٠، و"اللسان" ٣/ ٢٣٣ (كذب).
(٤) قرأ أبو جعفر، وابن عامر في رواية هشام: (ما كَذَب) مشددة، وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكران وبقية العشرة (ما كَذَبَ) مخففة. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٥، و"النشر" ٢/ ٣٩، و"الإتحاف" ص ٤٠٢.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٥، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٦٤، قال ابن جرير في معنى قراءة التشديد: إن الفؤاد لم يكذب الذي رأى، ولكنه جعله حقًّا وصدقًا، وقد يحتمل أن يكون معناه إذا قرئ كذلك ما كذب صاحب الفؤاد ما رأى.. لذا هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ بالتخفيف لإجماع الحجة من القراء عليه، والأخرى غير مدفوعة صحتها لصحة معناها. "جامع البيان" ٢٧/ ٢٩. قلت: وإذا أمكن توجيه القراءة وحملها على وجه صحيح فلا مجال لردها، كيف وقد صحت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندها فلا قبول لقول أحد بعد صحتها عن أفصح العرب -صلى الله عليه وسلم- مهما بلغت درجته ومنزلته ونسأل الله له المغفرة.
ثم هذا الاختلاف من أدل دليل على أن البارئ جائز الرؤية؛ لأن ما لا تجوز رؤيته لا يختلف في رؤيته، وعائشة أنكرت الرؤية في الدنيا وقبل الموت، واحتجت بقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ (٣) [الأنعام: ١٠٣] الآية.
١٢ - قوله تعالى: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ قال الكلبي وغيره من المفسرين: لما نزل ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ الآيات، أتى عتبة بن أبي لهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، فنزلت هذه الآية (٤).
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٢.
(٣) قلت: تقدم الكلام على هذه المسألة. وفي قوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ وفي الأخبار الصحيحة المشهورة ما يثبت وقوعها للمؤمنين في الآخرة، وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي.
وقال الإمام مالك: إنما لم يُرَ سبحانه في الدنيا، لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارًا باقية رأوا الباقي بالباقي. انظر: "فتح الباري" ٨/ ٦٠٧ - ٦٠٨.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٨٣، و"تخريجات الكشاف" ١٦٠، وقال: أخرجه أبو نعيم في "الدلائل".. ورواه البيهقي في الدلائل، والطبراني من طريق سعيد. عن قتادة مطولًا نحوه، ورواه الحاكم في "الدلائل" أيضًا، وقال البيهقي: هكذا قال عباس بن الفضل الأزرق، وليس بالقوى، وأهل المغازى يقولونه عتبة أو عتيبة. وانظر: "دلائل النبوة" للبيهقي ٢/ ٣٣٩.
لئن هجرت أخا صِدقٍ ومَكْرُمَةٍ | لقد مَرَيْتَ أخًا ما كان يَمْرِيكا (٣) |
وقرأ الباقون: (أَفَتُمَارُونَهُ) بألف. انظر: "حجة القراءات" ٦٨٥، و"النشر" ٢/ ٣٧٩، و"الإتحاف" ٤٠٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٦، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٢، و"جامع البيان" ٢٧/ ٢٩، و"الوسيط" ٤/ ١٩٧.
(٣) ورد البيت غير منسوب في "الكشاف" ٤/ ٣٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٣، و"البحر المحيط" ٨/ ١٥٩، و"تخريجات الكشاف" ٤/ ٨٧.
ومعناه: لئن ذممت أخا صدق ومكرمة، فقد غلبته في الجدال وأنفدت ما عنده أو جحدت حقه كأنك أخذت منه أو تسببت في إخراجه ما عنده فيذمك كما ذمته.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٨٣ (مرى).
(٥) بيت المقدس. يطلق على الأرض المباركة وعلى الطور الذي كلم الله موسى عليه. والمراد به عند الإطلاق المسجد الأقصى.
انظر: "معجم البلدان" ٥/ ١٩٣.
واختار أبو عبيد (أفتمرونه) قال: وذلك أن المشركين إنما كان شأنهم الجحود لما كان يأتيهم من الوحي، فهذا أكثر من المماراة (٣).
قال أبو علي: من قال: (أَفَتُمَارُونَهُ) فمعناه: أفتجادلونه جدالًا ترومون به دفعه عما هو (٤) عليه وشاهده الوحي، ويقوي هذا الوجه قوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال: ٦]، ومن قال: (أفتمرونه) كان المعنى: أفتجحدونه، والمجادلة كأنه أشبه في هذا؛ لأن الجحود كان منهم في هذا وفي غيره، وقد جادله المشركون في الإسراء به فكان مما قالوا: صف لنا عيرنا في طريق الشام ونحو ذلك (٥).
وقد صح المعنيان عند (٦) المبرد، وأبي علي، على (٧) أن الوجه قراءة
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٧، و"القرطبي" ١٧/ ٩٣.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٣، و"فتح القدير" ٥/ ١٠٦.
قال النحاس: غير أن أبا حاتم حُكي أنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. قال وفي هذا طعن علي جماعة من القراء تقوم بقراءتهم الحجة... والقول في هذا أنهما قراءتان مستفيضتان قد قرأ بهما الجماعة، غير أن الأولى من ذكرنا من الصحابة، فاما أن يقال لم يماروه فعظيم؛ لأن الله جل وعز قد أخبر أنهم قد جادلوا، والجدال هو المراءَ ولا سيما في هذه القصة.. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٦٥.
(٤) (هو) ساقطة.
(٥) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٣٠.
(٦) (عند) ساقطة من (ك) وبها يستقيم الكلام.
(٧) (على) ساقطة من (ك) وبها يستقيم الكلام.
وأيضًا فإنه لا مجادل إلا وهو جاحد، وقد يجحد الشيء من لا يجادل فيه، فالجدال إذًا أعم.
١٣ - معنى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ أكثر العلماء على أن اههنى أشبه رأى جبريل في صورته مرتين على ما ذكرنا (٢).
وقال ابن عباس: رأى ربه على ما ذكرنا في قوله: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾.
وعلى هذا معنى قوله: (نَزْلَةً أُخْرَى) يعود إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد روي أنه كانت له عرجات في تلك الليلة لما استحط ربه من أعداد الصلوات المفروضة، فيكون لكل عرجة نزلة، فيحتمل أنه رأى ربه -عز وجل- في بعض تلك النزلات (٣).
(٢) وفي "صحيح مسلم" أن عائشة سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ فقال: إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض. كتاب: الإيمان، باب ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ ١/ ١٥٩.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٤. قال ابن حجر: وأبدى بعض الشيوخ حكمة لاختيار موسى تكرير ترداد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: لما كان موسى قد سأل الرؤية فمنع وعرف أنها حصلت لمحمد -صلى الله عليه وسلم- قصد بتكرير رجوعه تكرير رؤيته ليرى من رأى.
قال الشيخ ابن باز في تعليقه على هذه الحكمة: "ليست بشيء، والتحقيق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ير ربه.. " فتح الباري ١/ ٤٦٣.
١٤ - ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَ﴾، والسدر في اللغة: ضرب من شجر النبق (١).
قال عطاء عن ابن عباس: وإنما سميت سدرة المنتهى؛ لأن علم الملائكة ينتهي إليها (٢). ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين تدلى إليه الرفرف (٣).
وقال الكلبي، ومقاتل: هي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة إنتهى إليها علم كل ملك (٤).
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ١٣/ ١٥٠ عن ابن عباس قال: سألت كعبًا... ، وانظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٣، و"جامع البيان" ٢٧/ ٣١ عن كعب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٨ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٥ عن كعب أيضًا.
(٣) لم أجد من قال بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاوز سدرة المنتهى، وقد نقله النووي عن الواحدي في شرحه على مسلم ٢/ ٢١٤، ونسبه لابن عباس والمفسرين، والذي في الصحيح: (ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك).
والرفرف هو المذكور في الصحيح حيث قال: (رأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق). يوضحه ما أخرجه النسائي، والحاكم، عن ابن مسعود قال: (أبصر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل -عليه السلام- على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض).
انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء ١/ ٩، وكتاب التفسير، باب ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ ٦/ ١٧٦، و"فتح الباري" ٨/ ٦١١، و"المستدرك" ٢/ ٤٦٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ - ب، و"تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٣.
وقال أبو هريرة: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى السدرة فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد من أمتك على سنتك وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء إلى قوله: ﴿عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥] وهي شجرة يسير الراكب في ظلمها مائة عام لا يقطعها والورقة منها مغطية للأمة كلها (٢). وقال عبد الله: هي شجرة عليها فضول السندس والإستبرق (٣).
وروى قتادة عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما عرج بي إلى السماء السابعة رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة وإذا نبقها مثل قلال (٤) هجر (٥) وورقها مثل أذن الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل: ما هذا؟ قال: أما النهران الباطنان ففي الجنة -قال مقاتل: هما السلسبيل والكوثر (٦) - وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات" (٧).
(٢) أخرجه ابن جرير والثعلبي. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٢، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٨ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٥، ٩٦.
(٣) أخرجه ابن جرير والفريابي، وابن أبي شيبة، والطبراني. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٢، و"الدر" ٦/ ١٢٥.
(٤) القلال: جمع قلة، والقلة الحب العظيم، وقيل: الجرة العظيمة، وقيل: الكور المغير. انظر: النهاية ٣/ ٢٧٥.
(٥) هَجَر: قرية قريبة من المدينة وليست هجر البحرين، وكانت تعمل بها القلال. "النهاية" ٣/ ٢٧٥، و"معجم البلدان" ٥/ ٤٥٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ب.
(٧) لم أجده.
فهذا ما ذكره المفسرون ورووه في سدرة المنتهى (٢).
ومعنى المنتهى موضع الانتهاء، وهذه الشجرة هناك وعندها تنتهي الملاكة والنبيون، فلذلك أضيفت السدرة إلى المنتهى.
١٥ - قوله تعالى: ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة (٣).
وقال مقاتل، والكلبي: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء (٤).
وروى عكرمة عن ابن عباس عن كعب قال: جنة المأوى فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء. وهذا قول أكثر المفسرين (٥). وقالت عائشة رضي الله عنها هي جنة من الجنان (٦)، وهو قول زر بن حبيش.
١٦ - قوله تعالى: ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ إذ متعلق بقوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ واختلفوا في الذي كان يغشى السدرة في ذلك الوقت فروي
(٢) المنتهى: بمعنى الانتهاء -على اختيار ابن جرير- فكأنه قيل عند سدرة الانتهاء، وجوز العموم في كل ما روي عن المفسرين في هذا المعنى حيث لم يرد خبر يقطع العذر بأنه قيل ذلك لها لبعض ذلك دون بعض فلا قول فيه أصح من القول الذي قال ربنا جل جلاله، وهو أنها سدرة المنتهى. "جامع البيان" ٢٧/ ٣١.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٨.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ أ، "المصنف" لابن أبي شيبة ١٣/ ١٥٠، و"الحلية" ٥/ ٣٨١، و"تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٣.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٣، و"جامع البيان" ٢٧/ ٣٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٨.
(٦) لم أجده.
وروى الضحاك عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيتها حتى استثبتها ثم حال دونها فراش من ذهب" (٣) وهو قول مسروق وأبي العالية (٤).
وقال مقاتل: غشيتها الملائكة (٥)، وروي عن الحسن: غشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن علي الشجر (٦).
وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا قائمًا يسبح الله -عز وجل-" (٧).
وتقدم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (وغشيها ألوان لا أدري ما هي.). والأقوال المروية عن الأئمة إن صحت نسبتها إليهم في تفسير الآية اجتهادات منهم، ربما لم يبلغهم الحديث الصحيح، والله تعالى أعلم.
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٣، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٩ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٨، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٢.
(٣) أخرجه ابن جرير، انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٣.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٨.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٨، و"القرطبي" ١٧/ ٩٦، ولم أجده في "تفسير مقاتل".
(٦) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٨، وذكر غيره من المفسرين هذا القول منسوبًا للربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة. وذكروا قول الحسن بلفظ: (غشيها نور رب العالمين فاستنارت). انظر: "الكشف والبيان" ٩/ ١٢ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٨، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٦، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٢.
(٧) قال ابن حجر: أخرجه الطبري من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: قيل يا رسولى الله: أي شيء رأيت يغشى تلك الشجرة، فذكره وأتم منه. وعبد الرحمن ضعيف، وهذا معضل. "تخريجات الكشاف" ٤/ ٣٣٥، وأخرجه الثعلبي بلفظ: =
وقال السدي: غشيها طيور من فوقها (٢).
وروي مرفوعًا: "غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد ينظر إليها" (٣).
١٧ - قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى أعطاه من القوة ما قوي به على النظر إلى الآيات (٤).
فعلى هذا القول معنى الآية ما ملَّ بصره من رؤية الآيات خوفًا وجزعًا.
وروى مسلم عن ابن عباس: ما زاغ البصر يمينًا ولا شمالًا ولا جاوز ما أمر به (٥). ونحو ذلك روى الكلبي، وهو قول مجاهد، والمفسرين، قال الكلبي: ما قلب بصره يمينًا ولا شمالاً، وما جاوز ما رأى (٦).
وعلى هذا معنى الآية وصف أدب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبًا ولم يمد بصره إلى غير ما أري من الآيات واستقبله من
وانظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٢.
(١) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٧، و"فتح القدير" ٥/ ١٠٧.
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٨.
(٣) لعل مراد المؤلف رحمه الله ما ورد في الصحيح وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها.. " "صحيح مسلم"، كتاب: الإيمان" باب: الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. ١/ ١٤٦.
(٤) لم أقف عليه
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٧، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٤٦٩ عن مجاهد عن ابن عباس وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وزاد الذهبي وعلى شرط مسلم أيضًا.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٣، و"الوسيط" ٤/ ١٩٨، و"معالم التزيل" ٤/ ٢٤٩، و"تفسر القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٢.
١٨ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ يجوز أن تكون الكبرى من صفة الآيات وحدت لتوافق الفواصل، ويجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى الواحدة، كقوله: ﴿مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: ١٨] وهذا معنى قول عطاء، والكلبي (١)، يعني الآيات العظام التي رآها تلك الليلة، وقال مقاقل: يعني ما رأى تلك الليلة (٢). ويدل على صحة التأويل قوله: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [الإسر اء: ١].
ويجوز أن تكون ﴿الْكُبْرَى﴾ نعت محذوف على تقدير: لقد رأى من آيات ربه الكبرى (٣).
واختلفوا في تلك الآية فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: رأى جبريل قد طبق الأفق في صورته التي خلق فيها له ستمائة جناح (٤)، وهذا قول ابن زيد، وابن حيان، ومحمد بن كعب، قالوا: جبريل من آيات ربه الكبرى (٥).
قال عبد الله: رأى رفرفًا أخضر (٦).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٩. ولعل في العبارة سقط واستقامتها: لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى. والله أعلم.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٨، و"فتح القدير" ٥/ ١٠٧.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٤، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٨.
(٦) انظر: "صحيح البخاري"، كتاب: التفسير، باب ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ ٦/ ١٧٦، و"جامع البيان" ٢٧/ ٣٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، وروى النسائي =
١٩ - قال أبو إسحاق: لما قص الله هذه الأقاصيص قال للمشركين: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ كأن المعنى والله أعلم: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء (٢).
ومعنى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ﴾ على ما ذكر السؤال والاستفتاء كقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾ وقد مر (٣).
وتنتظم الآية بما قبلها على المعنى الذي ذكره.
قال صاحب النظم: معنى الآية أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونهن أأوحَين شيئًا إليكم كما أوحي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- (٤)؟ والتقديران اللذان ذكراهما
قلت: وبهذا تجتمع الأقوال في أن المراد بالآيات "الكبرى" هو جبريل -عليه السلام-، حين رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض. وانظر: "سنن الترمذي" ٥/ ٣٧٠، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(١) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٨، و"فتح القدير" ٥/ ١٠٧.
قلت: لعل ما ذكر عن السلف في تفسير هذه الآية هو من باب ذكر بعض ما رآه -صلى الله عليه وسلم-. قال القرطبي: وقيل: هو ما رأى تلك اليلة في مسراه في عوده وبدئه، وهو أحسن، دليله ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ "الجامع" ١٧/ ٩٨.
ونحوه ذكر ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٥٢ وحمل الآية على عموم ما رآه أولى.
قال ابن جرير: لقد رأى محمد هنالك من أعلام ربه وأدلته الأعلام والأدلة الكبرى."جامع البيان" ٢٧/ ٣٤.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧٢.
(٣) من آية (٥٠) من سورة يونس.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٩٩.
قال أبو علي الفارسي: أرأيتم هنا بمنزلة أخبروني لتعدي أرأيت إلى المفعول ووقوع الاستفهام في موضع المفعول الثاني، والمعنى: أرأيتم جعلكم اللات والعزى بنات الله، ألكم الذكر؟ وجاز الحذف لأن هذا قد تكرر في القرآن كقوله: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ [النحل: ٥٧] ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: ١٩] فكان الحذف بمنزلة الإثبات، ألا ترى أن سيبويه جعل كُلاًّ في قوله:
ونارٍ توقَّدُ بالليلِ نَارا (٢)
بمنزلة المذكور في اللفظ للعلم به وإن كان محذوفًا وقد دل قوله: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى﴾ على المحذوف، وادعوا هذا في هذه الآلهة كما ادعوه في الملائكة (٣).
فأما اللات فروى عطاء عن ابن عباس قال: هي صنم (٤).
قال قتادة: هي بالطائف (٥)، قال الكلبي: هي صخرة كانت بالطائف
(٢) البيت لأبي دواد الإيادي، وهو جارية بن الحجاج.
انظر: "ديوانه" ٣٥٣، و"الكتاب" ١/ ٦٦، و"الكامل" ١/ ٢٨٧، و"الإنصاف" ٧٤٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢١، و"الأصمعيات" ١٩١. وصدره:
أكل امرئ تحسبين أمرأً
(٣) انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٧٨ - ٧٩، و"الكتاب" ١/ ٦٦.
(٤) لم أقف على هذه الرواية، والجمبع على أن اللات اسم لصنم.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٣، "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ.
وقال ابن زيد: اللات بيت بنخلة (٣) كانت قريش تعبده (٤).
وقال أبو عبيدة: هي صنم في جوف الكعبة لقريش (٥).
واختلفوا في اشتقاق اللات، فأكثر المفسرين (٦) ذكروا أنه بتشديد التاء من اللَّت، وهو خلط السويق بالسمن ودلكه به.
روى أبو الجوزاء، عن ابن عباس قال: اللات رجل كان يلت السويق للمشركين فمات فعكفوا على قبره فعبدوه (٧)، ونحو ذلك روى
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٠.
(٣) نخلة: موضع بين مكة والطائف. قال البكري: على ليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة.
انظر: "معجم البلدان" ١/ ٤٤٩، و"فتح الباري" ٨/ ٦٧٤.
(٤) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٥.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٦، ولفظه (أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها). قال ابن حجر: (وكانت اللات بالطائف، وقيل بنخلة، وقيل بعكاظ، والأول أصح).
"فتح الباري " ٨/ ٦١٢.
(٦) ومنهم ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، وأبو صالح، والكلبي. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ١٠٠.
(٧) "صحيح البخاري"، كتاب التفسير، باب ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ ٦/ ١٧٦ ولفظه: (كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج).
قال ابن حجر: وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء =
وزاد الكلبي بيانًا فقال: كان رجل من ثقيف يقال له صِرمة بن غنم كان يسلأ (٢) السمن فيضعه على صخرة ثم تأتيه العرب فيلت به أسوقتهم فلما مات الرجل حولت ثقيف تلك الصخرة إلى منازلها فعبدتها (٣).
ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس، ومجاهد، وأبي صالح: (الَّلاتَّ) بتشديد التاء (٤).
ووجه قراءة العامة على هذا الاشتقاق ما ذكره الفراء قال: القراءة بالتخفيف، والأصل بالتشديد؛ لأن الصنم إنما سمي باسم اللاَّتِ الذي كان يلت السويق عنده، وجعل اسمًا للصنم، وعلى هذا الوقف على اللات يكون بالتاء (٥) وهو اختيار أبي إسحاق، قال: لاتباع المصحف فإنها كتبت
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٤، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ أ.
(٢) قال الأصمعي: سَلأتُ السَّمْنَ أسْلأُه سَلأً. قال: والسِّلاء الاسم وهو السَّمن. "تهذيب اللغة" ١٣/ ٧٠ (سلأ).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٠.
(٤) قرأ رويس (الَّلاتَّ) بتشديد التاء وبمدٍ للساكنين، وهي قراءة ابن عباس، ومجاهد، ومنصور ابن المعتمر، وطلحة، وأبي الجوزاء. والقراءة المتواترة (اللَّاتَ) بالتخفيف. انظر: "النشر" ٢/ ٣٧٩، و"الإتحاف" ٤٠٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٠، و"البحر المحيط" ٨/ ١٦٠.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٧، و"تهذيب اللغة" ١٤/ ٢٥٣ (لت)، و"اللسان" ٣/ ٣٤٠ (لتت).
وقال جماعة من المفسرين: اللات من الله، وكان المشركون يسمون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العزَّى (٢)، وهو اختيار الأزهري قال: كأن المشركين الذين عبدوها عارضوا باسمها اسم الله تعالى علوًا كبيرًا عن إفكهم ومعارضتهم والحادهم في اسمه العظيم، ويدل على صحة هذا التأويل أن الكسائي كان يختار الوقف عليها بالهاء، وهذا يدل على أنه لم يجعلها من اللَّت (٣).
قال أبو علي الفارسي: اشتقاق اللات من لويت على الشيء، أي: أقمت عليه، ولذلك أنهم كانوا يلوون على آلهتهم وبعكفون عليها عبادة لها وتقرئا إليها، ولذلك تواصوا فيما بينهم فيما أخبر الله به عنهم في قوله: ﴿وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ [ص: ٦] فاشتق اسمها من هذا المعنى الذي كانوا يعتقدون فيها ويتدينون به لها، فهو على هذا مثل شاه وذات، والتاء للتأنيث في قول من خفف، ومعنى التأنيث فيها تأنيث اللفظ، إذ التأنيث الحقيقي لا يصح فيهاة لأنها جماد، والدليل على صحة هذا أن سيبويه قال في النسبة إليها لاي (٤)، فحذف التاء، فدل على أنها للتأنيث، وذلك أن تاء التأنيث تحذف في النسبة، ولما حذف التاء شبه بقلة التصرف الحروف فزاد على الحرف حرفًا مثله كما فعل ذلك بـ (ذا) إذا سُمي به رجل فقال: ذآء، فلما
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٤، و"الوسيط" ٤/ ١٩٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٤/ ٢٥٣ (لت).
(٤) انظر: "الكتاب" ١/ ٣٧١.
وقول أبي إسحاق الأجود الوقف بالتاء لاتباع المصحف. فيجوز أن تكون كتبت فيه بالتاء على الوصل دون الوقف كما كتب ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ [الشورى: ٢٤] ونحوه بغير الواو، فلما كتب هذا ونحوه على الوصل كذلك يجوز أن يكون كتب في المصحف على الوصل، انتهى كلامه (١).
وأما الألف واللام في اللَّات والعزّى فذهب أبو الحسن (٢) إلى أن اللام فيهما زائدة.
والذي يدل على صحة مذهبه أن اللّات والعزَّى (٣) علمان بمنزلة يغوث (٤) ويعوق (٥) ونسر (٦) ومناة (٧) وغير ذلك من أسماء الأصنام. فهذه كلها أعلام وغير محتاجة في تعريفها (٨) إلى اللام، وليست من باب الحارث والعباس من الأوصاف التي نقلت فصارت أعلامًا وأقرت فيها لام
(٢) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٥٨.
(٣) (والعزى) ساقطة من (ب).
(٤) يغوث: صنم كان لمذحج. وهو اسم صنم كانن لقوم نوح كما هو في سورة نوح.
(٥) يعوق: اسم صنم لكنانة. وقيل: كان لقوم نوح.
(٦) نسر: صنم كان لذي الكلاع بأرض حمير. وهذه الأصنام ذكرها الله تعالى في سورة نوح فهي بلا شك لقومه. وأخذ المشركون منها أسماء آلهتهم.
(٧) مناة: صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة.
(٨) في (ك): (تعرفها).
وأما العُزّى قال عطاء: هي صنم (٢)، وقال مجاهد، والكلبي: هي سمرة من الشجر كانت بنخلة لغطفان (٣) يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد فقطعها ويقول:
يا عز كفرانك لا سبحانكِ | إني رأيت الله قد أهانكِ |
(٢) انظر: "فتح القدير" ٥/ ١٠٨، و"روح المعاني" ٢٧/ ٥٥، ولم ينسباه لقائل.
وقيل العزى: شجرة قديمة قدسها العرب في بلدة نخلة الثامية إلى الشمال من مكة، وكانت قريش وبعض قبائل الحجاز مثل غني، وباهلة تعظمها. انظر: "أطلس تاريخ الإسلام".
وقال ابن كثير: كانت بيتًا بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، و"البداية والنهاية" ٤/ ٣١٦.
(٣) غطفان: بطن عظيم متسع، كثير الشعوب والأفخاذ، من قيس عيلان من العدنانية، كانت لهم منازل بنجد مما يلي وادي القرى، وجبل طىء.
انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٨٨٨.
(٤) اقتصر البيهقي في "دلائل النبوة" ٥/ ٧٧ على قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تلك العزى". وفي "الطبقات" ٢/ ١٤٦ بلفظ: "نعم تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدًا"، وكذا الواقدي في "المغازي" ٣/ ٨٧٤.
وقال الضحاك: هي صنم من حجر لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني (٣).
وأما تفسير العزى فإنها تأنيث الأعز مثل الكبرى والأكبر، والأعز يكون بمعنى العزيز والعزى بمعنى العزيزة (٤).
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَنَاةَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: أصنام المشركين (٥). يعني هذه وما ذكر قبلها، وهو اختيار أبي عبيدة على ما ذكرنا.
وقال قتادة: وكاذت مناة للأنصار (٦)، وقال الضحاك والكلبي: مناة صنم كانت لهذيل وخزاعة (٧).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٦، و"روح المعاني" ٢٧/ ٥٥.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٤٩.
(٤) انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٦١ - ٣٦٣.
(٥) لم أقف على هذه الرواية. وانظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٠.
(٦) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٣، و"فتح الباري" ٨/ ٦١٣.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء، ٣/ ٩٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١١ ب، و"الوسيط" ٤/ ١٩٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٠.
وهذيل: ابن مدركة بطن من مدركة بن إلياس، من العدنانية، كانت ديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف، ثم تفرقوا بعد الإسلام. انظر: "معجم قبائل العرب" ٣/ ١٢١٣. =
قال أبو علي الفارسي: لعل (مناءة) بالمد لغة ولم أسمع بها من أحد من رواة اللغة، وقد سمّوا زيد مناة، وعبد مناة ولم أسمع بالمد، قال جرير:
أزيدَ مناةَ توعِدُ يَابْنَ تيم | تَبَيَّنْ أَيْنَ تَاهَ بكَ الوَعيدُ (٣) |
٢١ - قوله تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى﴾ مذهب جماعة من المفسرين أن هذه الآية وما بعدها معترضة بين قصة الأصنام، فإن هذه لا تعلق لها بما قبلها (٤)، ومعناها الإنكار عليهم حيث جعلوا الملائكة بنات الله.
قال عطاء عن ابن عباس: وذلك أن المشركين قالوا: الملائكة بنات
(١) وفي "الصحاح".. من قولك منوت الشيء. "اللسان" ٣/ ٥٤١ (مني).
وقال النحاس: من مَنَى الله -عز وجل- عليه الشيء: أي قدَّره. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٦. وقيل: من مني يمني: صب؛ لصب دماء النحائر عندها. "الإتحاف" ص ٤٠٣. وانظر: "الكشاف" ٤/ ٣٩، و"محاسن التأويل" ١٥/ ٥٥٧١.
(٢) قرأ ابن كثير (ومَنَاءَةَ) بهمزة مفتوحة بعد الألف فيمد مدًا متصلاً. وقرأ الباقون "مناة" انظر: "حجة القراءات" ص ٦٨٥، و"النشر" ٢/ ٣٧٩، و"الإتحاف" ص ٤٠٣.
(٣) انظر: "ديوان جرير" ١/ ٣٣٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٣٢، "البحر المحيط" ٨/ ١٦١، و"المُحرر" ١٥/ ٢٦٧.
(٤) قال النحاس: يجوز أن يكون مقدمًا ما ينوي به التآخير. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٦٨.
قال الكلبي: قال مشركو مكة: الأصنام والملائكة بنات الله فنحلوه البنات، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك، فقال الله تعالى منكرًا عليه ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ﴾ يعني البنين، ﴿وَلَهُ الْأُنثَى﴾ يعني ما نحلوه من الأصنام -وهي إناث في أسمائها- والملائكة (٢)، وهذا اختيار الزجاج والفراء وابن قتيبة (٣).
٢٢ - قوله تعالى: ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾. القراء على ترك الهمز من (ضِيزَى)، وقرأ ابن كثير (ضِئزى) بالهمز (٤).
قال ابن السكيت: يقال: ضِزْتُه حَقَّه أي نقصته.
وقال أبو زيد: (ضِيزى) جائرة، يقال: ضاز يضيز ضيزًا، قال: وضأز، يضأز مثله. وأنشد أبو زيد فقال:
إن تَنْأَ عنَّا نَنتَقِصْك، وإن تُقِم | فحظُّك مَضْؤزُ وأنفُكَ راغِمُ (٥) |
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ١٩٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٠.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٨، و"تفسير غريب القرآن" ٤٢٨، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٢ - ٧٣.
(٤) قراْ ابن كثير (ضئْزَىَ) بهمزة ساكنة، وقرأ الباقون (ضيزى) بياء مكان الهمزة. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٨٥، و"النشر" ٢/ ٣٧٩، و"الإتحاف" ص ٤٠٣.
(٥) البيت للقطامي كما في "جامع البيان" ٢٧/ ٣٦، و"المذكر والمؤنث" ص ١٧٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٢، و"تهذيب اللغة" ١٢/ ٥٣، (ضاز)، و"اللسان" ٢/ ٥٠٣ (ضأز).
وقال ابن الأعرابي: تقول العرب: قسمةٌ ضُؤْزَى بالضم والهمز وضُوزى بلا همزٍ وضِيئِزَى بالكسر والهمز (١).
قال الفراء: ضيزى فعلى وإن رأيت أولها مكسورًا وهي مثل بيض وعين، كان أولها مضمومًا فكرهوا أن يترك على ضمته فيقال: بوضٌ وعونٌ، والواحدة بيضاء وعيناء فكسروا أولها ليكون بالياء ويتألف الجمع والاثنان والواحد، كذلك كرهوا أن يقولوا ضُوزى فتصيرُ بالواو وهي من الياء وإنما قضيت على أولها بالضم لأن النعوت للمؤنث تأتي إما بفتح أو بضم نحو سَكْرى وعطشى وحُبْلى، والمكسور يكون اسما ولا يكون نعتًا كالذكرى والدِّفْلى (٢) والشِّعْرَى، انتهى كلامه (٣).
وقال أبو إسحاق: أجمع النحويون أن أجل ضيزى ضوزى فنقلت من فُعْلَى إلى فِعْلَى لتسلم الياء كما قالوا أبيض وبيضٌ، وأصله بُيْضُ فنقلت الضمة إلى الكسرة، وإنما لم يقل النحويون إنها على أصلها لأنهم لم يعرفوا الكلام فُعْلَى صفةً، ونظير ضيزى في الكلام قولهم: مِشْيِةً حيكى، وهي مشية يحيك فيها صاحبها. فحِيكى عندهم فُعْلَى أيضًا (٤).
وشرح أبو علي الفارسي هذا الفصل فقال: قولهم قسمة ضيزى
(٢) في (ك): (الدفري) والصواب ما أثبته. والدِّفْلىَ: شجر مر أخضر حسن المنظر يكون في الأودية. "اللسان" ١/ ٩٩٤ (دفل).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٨ - ٩٩، و"اللسان" ٢/ ٥٥٩ (ضيز).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٣، و"المذكر والمؤنث" ص ١٧٥. ومشية حيكىَ إذا كان فيها تبختر. "اللسان" ١/ ٧٧١ (حيك).
وأما التفسير فقال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، وقتادة:
(٢) انظر: "مجالس ثعلب" ٢/ ٣٢٣ - ٣٢٤، و"تهذيب اللغة" ١٠/ ٣٠٩، و"اللسان" ٣/ ٢٠ (كأص).
(٣) الهِجْرَعَ: من صنف الكلاب السلوقية الخفاف، والهِجْرَعَ، الطويل الممشوق. "اللسان" ٣/ ٧٧٤ (هجرع).
(٤) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٣٤، و"التكملة" لأبي علي ص ٣١٧ - ٣١٨.
وقال الحسن: غير معتدلة (٣)، وقال الضحاك: ناقصة (٤)، وقال سفيان: منقوصة (٥).
والمعنى: تلك القسمة التي قسمتم من نسبة البنات إلى الله وإيثاركم بالبنين قسمة غير عادلة.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ﴾ أخبر الله تعالى أن هذه الأصنام سموها بهذه الأسامي لا معاني تحتها، لأنه لا ضر عندها ولا نفع فهي تسميات ألقيت على جمادات.
قوله: ﴿إِنْ هِيَ﴾ يعني اللات والعُزّى ومناة. يقول: ما هي إلا أسماء، أي أنها لا تنبئ عن معنى ﴿سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ تسمية باطلة لم يقم بها حجة، وهو قوله: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾، ويجوز أن يكون المعنى: ما أنزل الله بعبادتها من سلطان، قال مقاتل: لم ينزل بذلك كتابًا لكم فيه حجة بما تقولون إنها آلهة (٦).
ثم رجع عن الخطاب إلى الخبر فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ يقول: ما لهم من علم أنها آلهة إلا ظنًا يتبعون في عبادتها الظن وهوى النفس،
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٣١، و"تفسير مقاتل" ١٣٠ ب.
(٣) انظر: الكشف والبيان" ١٢/ ١١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٠.
(٤) (ك): (ناقة) ولعل الصواب ما أثبته، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: جائزة. "الدر" ٦/ ١٢٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١١ ب.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٦، و"روح المعاني" ٢٧/ ٥٧.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٠ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥١.
وهذا تعجيب من حالهم حيث لم يتركوا عبادتها مع وضوح البيان.
ثم أنكر على الكفار تمنيتهم شفاعة الأصنام فقال:
٢٤ - ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ﴾ يعني الكافر (مَا تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام (١).
٢٥ - ﴿فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾ أي لا يملك فيهما ولا منهما أحد شيئًا إلا بإذنه؛ لأنهما (٢) له. وفي هذا إبطال ما يتمنى الكافر.
ثم أكد هذا بقوله تعالى:
٢٦ - ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ جمع الكناية لأن المراد بقوله: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَك﴾ الكثرة، وذلك أن كم يخبر بها عن العدد الكثير فدل ﴿كَمْ﴾ على أنه أراد جمعًا، قاله الفراء، والزجاج (٣).
قوله: ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ﴾ في الشفاعة ﴿لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ يعني أنهم لا يشفعون إلا لمن يرضي الله من أهل التوحيد.
قال الألوسي: ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي، والمعنى: لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكًا له مختصًا به يتصرف فيه حسب إرادته، ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصًا بهم كما قيل. "روح المعاني" ٢٧/ ٥٨.
وانظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٤، و"البحر المحيط" ٨/ ١٦٣.
(٢) في (ك): (كأنهما) والصواب ما أثبته.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٩٩، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٣ - ٧٤.
قال أبو علي: قوله: ﴿لِمَن يشَآءُ﴾ المعنى: لمن يشاء شفاعته على إضافة المصدر إلى المفعول به الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف فصار اللفظ لمن شاءه، أي: يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء من الصلة (٢).
ثم ذم الله تعالى صنيع الكفار.
٢٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ قال ابن عباس: لا يصدقون بالثواب والعقاب (٣).
﴿لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى﴾ حين زعموا أنهم بنات الله، والأنثى تسمى بنتًا فإذا وصفوا الملائكة بالبنات فقد سموها تسمية الإناث، وتسمية الأنثى من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
٢٨ - ﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ﴾ ذلك التسمية: ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ قال مقاتل: ما يستيقنون بأنها إناث (٤).
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ قال ابن عباس: يريد ظنًا ليس بيقين (٥).
﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ قال عطاء: يريد لا ينتفعون به (٦).
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٨/ ٣٠٧.
(٣) وفي "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٧، قال: (بالبعث بعد الموت، يعني كفار مكة) والمعنى متقارب.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ أ.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٧.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٥، وهو المعتمد عندهما ولم ينسباه لقائل.
وقال الكلبي: أي لا يدفع من عذاب الله شيئًا، وهو اختيار الفراء (٢). والحق على هذا القول معناه العذاب.
ثم أمره بالإعراض عنهم:
٢٩ - قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا﴾ قال ابن عباس: يريد القرآن (٣)، وهذا مما نسخته آية القتال (٤).
ثم صغر رأيهم وأزرى بهم.
٣٠ - فقال: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله وأنها تشفع لهم فاعتمدوا ذلك وأعرضوا عن القرآن. هذا معنى قول مقاتل (٥).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٧، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠٠.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥١، و"القرطبي" ١٧/ ١٠٥.
(٤) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٠١، و"نواسخ القرآن" ٢٣٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥١.
ومعنى الآية على ما ذكر ابن كثير ورجحه الشوكاني، والآلوسي: أن التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين. انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٥، و"فتح القدير" ٥/ ١١٢، و"روح المعاني" ٢٧/ ٦٠.
ثم عزّى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أي أنه عالم بهم فهو يجازيهم بما يستحقون ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾، قال ابن عباس: يريد قبل أن يخلق الخلائق (٣). والمعنى أنه أعلم بالفريقين لأنه علمهما قبل خلقهما فلا يذهب عليه جزاؤهما.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ قال صاحب النظم: هذا فصل معترض.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا﴾ متعلق بمعنى الآية وهو قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الآية. والمعنى أنه أعلم بهم فإذا كان أعلم بهم جازى كلاًّ بما يستحقه.
واللام في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ لام العاقبة (٤)، وهو أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم.
٣١ - وقوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ إخبار عن قدرته وسعة ملكه؛ وهذا فيما يؤكد الجزاء، لأنه إنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك واسع المقدرة، ثم أن هذه المعاني، وهي
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٧، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠٠.
(٣) لم أجده.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٥.
قال ابن عباس، ومقاتل: ليجزي في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ قالوا لا إله إلا الله (بِالْحُسْنَى) بالجنة (٢). ثم نعت المحسنين.
٣٢ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ وقد تقدم الكلام في تفسير الكبائر في سورة النساء (٣).
قال مقاتل: كبائر الإثم، يعني: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش يعني: كل ذنب فيه الحد (٤).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٨، و"تفسير مقاتل" ١٣١ أ.
(٣) عند تفسيره لآية (٣١) من سورة النساء.
ومما قال: اختلفوا في الكبائر ما هي... قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كل شئ عصي الله فيه فهو كبيرة.. وقال في رواية علي بن أبي طلحة: هي كل ذنب ختمه الله -عز وجل- بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير والضحاك. والصحيح أنه ليس لها حد يعرفه العباد وتتميز به الصغائر يتميز إشارة ولو عرف ذلك لكانت الصغائر مباحة ولكن الله تعالى يعلم ذلك وأخفاه عن العباد ليجتهد كل أحد في اجتناب ما نهى عنه رجاء أن يكون مجتنب الكبائر.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ أ. وفي "شرح العقيدة الطحاوية" ٢/ ٥٢٥ قال: واختلف العلماء في الكبائر على أقوال.. وقيل إنها ما يترتب عليها حد، أو تُوعِّد بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال.
قال الألوسي: والفواحش ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام. وقيل: الفواحش والكبائر مترادفان. "ررح المعاني" ٢٧/ ٦١. وانظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ١٨٨، و"اللسان" ٢/ ١٠٥٦ (فحش).
وفعيل قد جاء يعني به الكثرة كما أن فعولا كذلك في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ [النساء: ٩٢]، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: ١١٢].
ومن فعيل الذي أريدَ به الكثرة قوله تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠٠ - ١٠١]، وقوله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩]، وقوله: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧]، وقول الشاعر (٢):
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ...... البيت (٣)
فمن حيث كان لفظ الإفراد والمراد به الكثرة في هذا الموضع كذلك أفرد فعيل في قوله: (كبير الإثم) وإن كان المراد به الكبائر.
ويحسن الإفراد من وجه آخر، وهو أن المصدر المضاف فعيل إليه واحد في معنى الكثرة، ألا ترى أنه (٤) ليس يراد به إثم بعينه، إنما يراد به
انظر: "حجة القراءات" ص ٦٨٦، و"النشر" ٢/ ٣٦٧، و"الإتحاف" ص ٤٠٣.
(٢) الشاعر هو السموأل بن غريض بن عادياء اليهودي، وهو صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء.
انظر: مقدمة "ديوانه" ص ٦٧، و"الأعلام" ٣/ ١٤٠، و"الأصمعيات" ص ٨٢، و"معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين" ص ١٥٦.
(٣) والبيت ورد في "ديوانه" ٩٠، و"الحماسة" لأبي تمام ١/ ٨٠، و"شرح حماسة المرزوقي" ١/ ١١٢، و"الحجة" ٦/ ٢٣٥ والبيت بتمامه:
وما ضرنا أنا قليلٌ، وَجَارُنَا | عَزِيزٌ، وَجَارُ الأَكْثَرينَ ذَلِيلُ |
فإن قيل: فهلا أُفْردا في النساء كما أفردا في هذه السورة؟ قيل: إذا أتيا به على قياس ما جاء في التنزيل في غير هذا الموضع لم يكن لقائل مقال، ألا ترى أنه قد جاء ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ [النساء: ٩٢] وقال: ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُو﴾ [الكهف: ٥٠]، فأفرد، وجمع في قوله: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ﴾ [فصلت: ١٩]، و ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾ [الممتحنة: ٢] فلم صنع من إفراد ذلك جمعه في المواضع التي جمع فيها (١)، كذلك الإفراد هاهنا لا يمنع الجمع في سورة النساء، وأما من جمع فقال: ﴿كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾ فلأنه في المعنى جمعٌ، والإثم يراد به الكثرة إلا أنه أفرد كما تفرد المصادر وغيرها من الأسماء التي يراد بها الكثرة والأجناس (٢).
قوله تعالى: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ اختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أن اللمم صغار الذنوب، مثل النظرة والغمزة والقبلة.
قال عطاء، عن ابن عباس: إلا ما كان دون الزنا (٣). وقال الكلبي عنه: اللمم النظرة عن غير تعمد، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب (٤).
(٢) من قوله: "وفعيل قد جاء يعني به الكثرة.. " إلى هنا من كلام أبي علي.
انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٣٥ - ٢٣٧.
(٣) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٠١، و "معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠٠، و"تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٤٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٤ ب، و"معالم النزيل" ٤/ ٢٥٣، عن الحسين بن الفضل.
واحتجوا بما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (٢).
فإن تقدم فرجه كان زانٍ وإلا فهو اللمم.
وقال ابن الزبير، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ومقاتل: هو ما بين الحدين، حد الدنيا، وعذاب الآخرة، وكل ذنب ليس فيه حد في الدنيا ولم يتوعد عليه بعذاب في الآخرة فهو اللمم، وهي رواية العوفي، والحكم عن ابن عباس، وهؤلاء قالوا: اللمم تكفره الصلوات وهو مغفور لمن اجتنب الكبائر (٣).
القول الثاني في اللمم: أنه الذنب يلم به الرجل ثم يتوب، روى عمرو بن دينار عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: ﴿إِلَّا اللَّمَمَ﴾ قال: يلم
(٢) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج ٤/ ٦٧، ومسلم في كتاب القدر، باب: قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره ٤/ ٢٠٤٦، وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٢٥٣، والإمام أحمد في "المسند" ٢/ ٣١٧.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ أ، و"جامع البيان" ٢٧/ ٤٠، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٣ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٢.
"إنْ تَغْفِر اللَّهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا | وأَيُّ عَبْدٍ لك لا أَلَمَّا" (٢) |
وروى السدي عن أبي صالح، قال: سألني رجل عن اللمم، فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم (٤) لا يعاود، قال: فحدثت بذلك ابن عباس قال: لقد أعانك عليها ملك كريم (٥)، وهذا قول مجاهد والسدي (٦).
ومعنى اللمم على هذا القول ما تيب منه وإن عظم وكبر، وأصل معنى
(٢) رواه ابن جرير في "جامعه" ٢٧/ ٣٩، والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب (ومن سورة النجم) ٥/ ٣٧٠، وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. وقال ابن كثير في "تفسيره" ٤/ ٢٥٦، وكذا قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا من هذا الوجه، وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة المزمل، وفي صحته مرفوعًا نظر. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١١٥، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وقال القرطبي: قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادًا. "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٧.
والبيت لأمية بن أبي الصلت، كما في "تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٤٧، و"اللسان" ٣/ ٣٩٧ (لمم)، و"الخزانة" ٢/ ٢٩٥، و"المقتضب" ٤/ ٢٤٢، و"الأغاني" ٣/ ١٨٣، وليس في "ديوانه".
(٣) انظر: "حامع البيان" ٢٧/ ٣٩، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٦.
(٤) في (ك): (اللمم الخطيئة ثم) ولا معنى لها هنا.
(٥) أخرجه عبد بن حميد. انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٢، و"الدر" ٦/ ١١٨.
(٦) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٣١، و "الوسيط" ٤/ ٢٠٢.
وقال المبرد: يقال: أَلَمَّ فلان بكذا إذا قاربه ولم يخالطه (١)، وأَلَمَّ به إذا لم يمعن فيه ولكن نال منه حظًا، وهما من أجل واحدة لأنه يقال ذلك لمن لم يستحوذ على الشيء.
فعلى ما ذكر اللمم ما قارب به من الكبيرة كالنظر والقبلة واللمس، واللمم ما ألم به مرة من زنا وشرب خمر، ثم لم يمعن فيه وتاب منه والعرب تقول: ألممت بفلان إلمامًا، وما يزورنا إلا لمامًا.
قال جرير:
بنفسي من تجنبه عزيزٌ | عليَّ ومن زيارته لمام (٢) |
(٢) "ديوانه" ص ٥١٢، و"القطع والائتناف" ص ٦٩١، و"البحر المحيط" ٨/ ١٥٥.
(٣) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل النفقة في سبيل الله ٤/ ٣٢، وكتاب: الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والمتنافس فيها ٨/ ١١٣، ولفظه: ".. وإن كل ما أثبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمُّ" وفي لفظ: ".. وإنه كلُّ.. " ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا ٢/ ٧٢٧، وأحمد في "المسند" ٣/ ٧، ٢١. والحبط أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها.
وقال المبرد: فلان ميت أو ملم، أي قد قارب الموت، ونخل مُلِمُّ قد قارب الإطعام وأنشد:
وزَيْدٌ مَيّتٌ كَمَدَ الحُبَارَى | إِذَا بَانَتْ لَطِيفَةُ أَو مُلِمُّ (١) |
وقوله: أَلْمِم، معناه اجعل لنا من زيارتك أدنى حظ، ومنه قول الشاعر:
أَلْمِمْ بِسَلُّومَةَ أَلْمِمْ ألْمِمِ | خَلونَهَا مِن الخَليلِ والحَمِي (٣) |
قال أبو عبيدة: لم يؤذن لهم في اللمم وليس اللمم من الفواحش ولا من كبائر الإثم، وقد يستثنى الشيء من الشيء وليس منه، والتقدير: إلا أن يلم ملم بشيء من الفواحش (٤)، فهذا على القول الأول.
وقال المبرد: لم يبحهم اللمم، ومعناه استثناء ليس من الأول،
(٢) لم أقف على كلام المبرد.
(٣) لم أجده.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٧.
والمعنى، ولكنه يبتغي، قال: وقال ابن أحمر-وأراد أن يخدع من يخاطبه- فقال:
قد قلتُ في بعضِ مَا أَقولُ لَهَا | قَولةَ نَزْرِ الكَلامِ مُحْتَشِمِ |
قَد حَرَّمَ اللهُ كلَّ فَاحشةٍ | ورَخَّصَ اللهُ منكِ في اللَّمَمِ |
فأنكرت ذاك وهي صالحةٌ | مِنْ نِسوةٍ لا يَجُدْنَ بالتُّهَمِ |
وقال قوم: اللَّمَمُ على القول الثاني من جنس الفواحش والاستثناء وقع من الجنس، ومعنى الآية: إلا أن يلم بالفاحشة ثم يتوب، ويقع الوقعة ثم ينتهي، واسم اللممِ يدل على التوبة والانتهاء، لأنه إنما يسمى لمما إذا لم يمعن فيه، والصحيح هو الأول؛ لأن هذا يؤدي إلى إباحة اللمم (٢). وذكر في الآية قولان آخران:
(٢) قال ابن جرير: (وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إلا بمعنى الاستثناء المنقطع، ووجه معنى الكلام: إلا الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم بما دون كبائر الإثم، ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا والعذاب في الآخرة...) "جامع البيان" ٢٧/ ٤١. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٧١، و"فتح القدير" ٥/ ١١٣، ونسبه للجمهور.
القول الثاني: هو قول عبد الله بن عمرو قال: اللمم ما دون الشرك (٣)، وعلى هذا القول: الكبائر والفواحش موجبات الشرك.
والناس على القولين الأولين، واختار أبو إسحاق الثاني منهما، قال: اللمم هو أن يكون الإنسان قد ألم بالمعصية ولم يصر ولم يُقم على ذلك، والإلمام في اللغة يوجب أنك تأتي الشيء في الوقت ولا تقيم عليه. فهذا معنى اللمم في هذا الموضع (٤) يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ قال ابن عباس: لمن فعل ذلك وتاب (٥)، وتم الكلام هاهنا (٦).
ثم قال قوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس:
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٣٨، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٢ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٢.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٠٨.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧٥.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٢٩٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٣.
(٦) انظر: "القطع والائتناف" ص ٦٩٢ قال: والتمام عند يعقوب وجماعة معه بعد قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾، و"المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٥٤٣.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ أجنة جمع جنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينًا لأنه مستور، ومنه سمي المدفون جنينًا لأنه مستور بالتراب، قال عمرو:
وَلاَ شَمْطَاءُ لم يترك شقَاها | لَهَا من تسعةٍ إلا جَنينا (٢) |
قال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة (٣)، وقال الفراء: هو أعلم أولاً وآخرًا (٤).
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ قال الكلبي، ومقاتل: كان ناس يقولون: صلينا وصمنا وفعلنا وفعلنا، فأنزل الله ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (٥)، قال الفراء: لا يقولن أحدكم عملت كذا وفعلت كذا (٦)، فعلى هذا معناه النهي عن الاعتداد بالأعمال.
وقال آخرون: معناه لا تبرؤوها ولا تمدحوها، يدل على هذا ما روى أن زينب بنت أبي سلمة (٧) قالت: سميت برة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزكوا
(٢) ورد في "ديوانه" ٣٦٧، و"شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ٩٨.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١١٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٠٠.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ ب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٤ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٣.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ٣/ ١٠٠.
(٧) زينب بنت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومة، ربيبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت عمر، =
والمعنى: لا تزكوها بما ليس فيها. ويجوز أن يكون المعنى على العموم وذلك أنه أقرب إلى النسك والخشوع وأبعد من الرياء والعجب ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ أي بر وأطاع.
وقال الحسن: أخلص العمل (٢).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في الوليد بن المغيرة وهو قول مجاهد، ومقاتل، وابن زيد، قالوا: كان قد أَتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعيره بعض المشركين وعاتبه على الإسلام فقال: إني خشيت عذاب الله، فقال: إني أضمن لك أن أتحمل عنك عذاب الله إن أنت أعطيتني كذا وكذا من مالك، فأرجع إلى ما كنت عليه، فرجع إلى الشرك وأعطى الذي عاتبه بعض المال الذي شرط إذ هو أعطاه أن يتحمل عنه العذاب ومنعه تمام ذلك، فأنزل الله فيه (٣) ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: أدبر عن الحق والإسلام (٤).
انظر: "طبقات ابن سعد" ص ٤٦١، و"الإصابة" ٤/ ٣١٧، و"أسد الغابة" ٥/ ٤٦٨، و"تقريب التهذيب" ٢/ ٦٠٠، و"أعلام النساء" ٢/ ٦٧.
(١) "صحيح البخاري"، كتاب: الآداب، باب: تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه ٨/ ٥٣، و"صحيح مسلم" كتاب: الأدب، باب: استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن ٣/ ١٦٨٨.
(٢) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١١٠، و"فتح القدير" ٥/ ١١٣.
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٣١، و"تفسير مقاتل" ١٣١ ب، "جامع البيان" ٢٧/ ٤٢.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٠٣.
روى عمرو عن أبيه: أكْدى مَنَعَ وأكْدى قطع، وأكْدَى إذا انقطع، وأكْدى إذا حفر فبلغ الكُدى وهي الصخور (٢).
والمفسرون قالوا في (أَكْدَى) قطع وانقطع وأمسك، وذكر سعيد بن جبير الأصل فيه فقال: ألا ترى إلى القوم إذا حفروا الوهدة فأفضوا إلى الصخرة قالوا: أكدينا (٣).
قال أبو إسحاق: معنى (أَكْدَى) قطع، وأصله من الحفر في البئر، يقال للحافر إذا بلغ إلى حجر لا يمكنه الحفر معه قد بلغ إلى الكدية، وعند ذلك يقطع الحفر (٤).
وقال المبرد: (أَكْدَى) أي منع منعًا شديدًا (٥). وذكر مثل قول أبي إسحاق.
وقال ابن قتيبة: أكدى من كدية الركَّية وهي الصلابة فيها وإذا بلغها الحافر يئس من حفرها فقطع الحفر فقيل لكل من يطلب شيئًا فلم يبلغ آخره أو أعطى ولم يتم أكدى ومعنى أكدى هاهنا منع صاحبه تمام ما ضمن له؛ وقال عطاء ومقاتل إن الوليد بن المغيرة كان قد مدح القرآن ثم أمسك عنه
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٠/ ٣٢٤، و"اللسان" ٣/ ٢٣٢ (كذا).
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٢ عن أبي زيد. والوهدة الحفرة وهي النقرة المنتقرة في الأرض أشد دخولًا في الأرض من الغائط وليس لها حرف.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٥.
(٥) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٠٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٣.
٣٥ - ﴿أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ﴾ يعني ما غاب عنه من أمر العذاب ﴿فَهُوَ يَرَى﴾ أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.
قال الزجاج: (فهو يرى) معناه فهو يعلم، والرؤية تكون بمعنى العلم كالمكفوف، يقول: رأيت زيدًا عاقلاً، فلو كان من رؤية العين لم يجز ذلك (٢)، والمعنى فهو يعلم علم الغيب حتى علم أنه غير معذب بتحمل صاحبه عنه العذاب.
٣٦ - ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ﴾ لم يحدَّث ولم يخبر ﴿بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى﴾ يعني: أسفار التوراة.
٣٧ - ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ يعني: وفي صحف إبراهيم ﴿الَّذِي وَفَّى﴾ معنى التوفية في اللغة الإتمام والإكمال، يقال: وفيته أجره، قال الله تعالى: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ﴾ [فاطر: ٣٠].
واختلفوا في معنى (وفي) هاهنا. فقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: بلغ ما أُمر به قومه، وهو قول مقاتل، واختيار الفراء، وابن قتيبة، وهو قول سعيد بن جبير، وإبراهيم، ومجاهد، وأبي العالية، وعكرمة (٣) كل هؤلاء قالوا: بلغ قومه وأدى إليهم عن الله هؤلاء الكلمات، وهي قوله تعالى:
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ ب، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٤ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١١١.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٥.
وقال آخرون: معنى: (وفي) أكمل ما يجب لله تعالى عليه بالطاعة في كل ما أمر وامتحن به من ذبح الولد والإلقاء في النار والكلمات التي ابتلي بها في قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ [البقرة: ١٢٤] الآية، والاختتان، ومناسك الحج التي أمر بها، وفاها كلها وأتمها بالطاعة والصبر، فأثنى الله تعالى عليه لقيامه بجميع ذلك بقوله: (وفي)، وهذا قول جماعة من المفسرين (٢)، وهو اختيار أبي إسحاق، وعلى هذا موضع أَنْ في قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾ خفض على البدل من قوله: ﴿بِمَا في صُحُفِ﴾، والمعنى: ألم ينبأ بأن لا تزر، وقال: يجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار هو، كأنه لما قيل: بما في صحف موسى، قيل: ما هو؟ فقيل: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ومعناه: أن لا تؤخذ نفس بإثم غيرها (٣).
قال عكرمة عن ابن عباس: لا يؤخذ الرجل بذنب غيره (٤)، وفي هذا إبطال لقول من قال للوليد بن المغيرة: أعطني شيئًا وأحمل عنك ذنوبك. أخبر الله تعالى أنه لا يؤخذ أحد بجناية غيره، وأن هذا مما أنزل على
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠١.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٤/ ٤٣ عن ابن عباس، وإبراهيم النخعي والقرظي، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٥ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٤، و"الدر" ٦/ ١٢٩.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٥، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢٧٣، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٦٩٤.
وذكره (٢) المفسرون (٣) فقالوا: كان من لدن نوح إلى زمان إبراهيم يؤخذ الرجل بذنب أخيه وابنه حتى بلّغهم إبراهيم ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، وهذا عام في الدنيا والآخرة، وقد أخبر الله تعالى بذلك (٤)، وذكره رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه، وذلك في قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ [النحل: ٢٥].
قوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] وهذا في رؤساء الكفر والضلالة يزاد لهم الوزر بسبب إضلالهم، فأما أن تحمل نفس ذنب أخرى حتى يصير المحمول منها كأنها لم تأت بذنب، فليس ذلك في شريعة.
٣٩ - قوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ عطف على قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ﴾ وهذا أيضًا مما في صحف إبراهيم وموسى، والمعنى: ليس للإنسان في الآخرة إلا ما عمل في الدنيا، قاله مقاتل (٥).
قال أبو إسحاق: معناه: ليس له إلا جزاء سعيه، إن عمل خيرًا أُجزي
(٢) في (ك): (وذكر).
(٣) وهو المروي عن ابن عباس، وعمرو بن أوس، والنخعي. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٢، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٤.
(٤) (بذلك) ساقطة من (ك).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ ب.
ثم المفسرون مختلفون في حكم الآية، فروى الوالبي عن ابن عباس أن هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ﴾ [الطور: ٢١] الآية، أدخل الله تعالى الأبناء بصلاح الآباء الجنة (٢)، ورفع درجاتهم وإن لم يستحقوها بأعمالهم، ونحو هذا قال عكرمة: كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعى غيرهم نيابة عنهم (٣)، بدليل حديث المرأة التي قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أبي مات ولم يحج، قال: "فحجي عنه" (٤). وقال العلماء من أصحابنا: هذه الآية تدل على منع النيابة في الطاعات إلا ما قام عليه الدليل كالحج (٥)، وهذا إذا قلنا إنه غير منسوخ الحكم، وعلى ما ذكر الوالبي وعكرمة: الآية منسوخة الحكم في شرعنا.
وقال الحسين بن الفضل (٦): هذا من طريق العدل ليس للإنسان إلا ما سعى ولله أن يتفضل عليه بما يشاء من تضعيف الحسنات (٧).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٤، و"الكشف والبيان" ١٢/ ١٦ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٤.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٦ أ، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٤.
(٤) جزء من حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وباب: حج المرأة عن الرجل ٣/ ٢٣، ومسلم في كتاب: الحج، باب: الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت ٢/ ٩٧٤.
(٥) انظر: "الأم" ٢/ ١٠٤، و"الحاوي الكبير" ٤/ ١٧.
(٦) تقدمت ترجمه في سورة البقرة.
(٧) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٧ أ، و"البحر المحيط" ٨/ ١٦٨، و"روح المعاني" =
٤١ - ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ﴾ أي يجرْى الإنسان سعيه، والضمير للسعي يقال: جزيت فلانًا عمله وسعيه، أي قضيته.
قال الشاعر (٣):
إن أُزِ علقمة بن سعد سعيه | لا أجزه ببلاء يوم واحد |
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ أي إليه منتهى العباد ومرجعهم، هذا قول المفسرين. وروي تفسير آخر لهذه الآية مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا فكرة في الرب" (٥).
وانظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٢٣٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١١٤، و"فتح القدير" ٥/ ١١٤.
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣١ ب، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٦.
(٢) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٤٢٩.
(٣) لم أجده.
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧٦.
(٥) أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ١/ ٢١٨ عن سفيان الثوري في قوله -عز وجل-: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ قال: لا فكرة في الرب -عز وجل-، وأخرجه الدارقطني في الأفراد، =
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق" (٢).
والمنتهى معناه الانتهاء.
وأورده ابن كثير، وذكر رواية البغوي له ثم عقب عليه بقوله: وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟.. وذكر الحديث ثم قال: والحديث الآخر الذي في "السنن": (تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله..)، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٩، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" ٤/ ٣٩٦.
(١) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ١٧ ب، وذكره بعض المفسرين عن أنس بدون سند، وفي بعض الألفاظ: "إذا ذكر الله تعالى فاتته".
انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١١٥، و"البحر المحيط" ٨/ ١٦٨، و"روح المعاني" ٢٧/ ٦٨.
(٢) ذكره البغوي في "تفسيره" ٤/ ٢٥٥، وعقب عليه ابن كثير بما سبق ذكره.
وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" ١/ ٢١٦، وزاد فيه "فإنكم لا تقدرون قدره" وأخرجه أبو القاسم الأصفهاني في "الترغيب والترهيب" ٢/ ١٧٤، بسندين فيهما انقطاع، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" ١/ ١٣٢، وعزاه إلى أبي الشيخ ورمز له بالضعف، وفي تخريجات "إحياء علوم الدين" قال: أخرجه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع مه بإسناد ضعيف، ورواه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" من وجه آخر أصح منه، ورواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي "الشعب" من حديث ابن عمر وقال: هذا إسناد فيه نظر. قلت: فيه الوازع بن نافع متروك. انظر "الإحياء" ٤/ ٤٢٤، و"ضعيف الجامع" ٣/ ٣٨ (٢٤٦٩).
وهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان بقضائه وإرادته وخلقه حتى الضحك والبكاء، وكذلك ما روي عن جبار الطائي (٢) قال: شهدت جنازة أم مصعب (٣) وفيها ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن عباس يقاد على أتان له، فمرا وفي الجنازة صوارخَ فقلت: يا أبا عباس: تفعل هذا؟ قال: دعنا منك يا جبار فإن الله هو أضحك وأبكى (٤).
ومن المفسرين من خصَّ؛ وهو قول الكلبي. قال: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار (٥)، ومنهم من حمل الضحك والبكاء على المجاز، وهو قول عطاء بن أبي مسلم قال: معناه أفرح وأحزن؛ لأن الضحك يجلبه
(٢) جبار بن القاسم الطائي، روى عن ابن عباس، وعنه أبو إسحاق، ضعفه الأزدي وذكره ابن حبان في "الثقات" بروايته عن ابن عباس. انظر: "لسان الميزان" ٢/ ١٢٠.
(٣) هي الرباب بنت أنيف الكلبية انظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ١٨٢، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٤١.
(٤) لم أجده.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠١، و"جامع البيان" ٢٧/ ٤٤، و"البغوي" ٤/ ٢٥٥.
قال: المعنى أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر (٢).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ المتقدمون من المفسرين حملوا هذا (٣) على الإماتة في الدنيا والإحياء للبعث (٤)، والمتأخرون منهم ذكروا وجوهًا أخرى، منها: أنه أمات الآباء، وأحيا الأبناء، كما ذكرنا في قوله: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] ومنها أنه أمات النطفة وأحيا النسمة، وأمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان، والوجهان ذكرا في قوله: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [الروم: ١٩]. ويدل على الوجه الثاني قوله: ﴿أَوَ وَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢].
٤٦ - قوله تعالى: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الجماع، وقال في رواية الكلبي: تهراق في الرحم، وهو قول الضحاك، قال: تصب في الرحم، ويقال: مني الرجل، وأمنى من المني (٥)، وقيل في مني (٦) مكة سميت مني؛ لما يمنى من الدماء أي:
(٢) (بالمطر) ساقطة من (ك)، والتصحيح من "الوسيط".
انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ١٨ ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٠٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٥، قلت: وهذا التفسير يخالف ما يفهم من ظاهر الآية، وحمله على الضحك والبكاء المعروفين أولى، والله أعلم.
(٣) في (ك): (على هذا).
(٤) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٥، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١١٧.
(٥) انظر: المراجع السابقة.
(٦) مِنَى: المكان المعروف من مهبط العقبة إلى محسر. سميت بذلك لما يمنى من الدماء. وقيل لأن الكبش مُني بها أي ذبح. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٢٢٩.
وأنشد الفراء فقال:
ولا تقولنَّ لشيء سوف أفعله | حتى تبين ما يَمني لك الماني (٣) |
فمعنى قوله: ﴿إِذَا تُمْنَى﴾ إذا تُصَب وتلقى على تقدير ولد في الرحم، هذا هو الأصل، ثم يقال: أمنى ومنى بمعنى صب من غير تقدير (٤). قوله تعالى: ﴿يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ (٥).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ أي أغنى الناس بالأموال ومولهم (وأقنى) اختلفوا فيه، فقال أبو صالح: أعطى القنية وأصول الأموال التي تقتنى (٦).
وانظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٣٠ (منا).
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٨، و"تفسير غريب القرآن" ص ٤٢٩.
(٣) البيت لأبي قلابة الهذلي، وقيل: لأبي المثلم الهذلي، كما في "ديوان الهذليين" ٣/ ٣٩، ولم أجده عند الفراء.
وانظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٣٠، و"اللسان" ٣/ ٥٣٨ (مني).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٣١، و"اللسان" ٣/ ٥٣٨ (مني).
(٥) عند تفسيره لآية (٢٠) من سورة العكبوت. انظر: "البسيط" ٤/ ١٢١ أحيث قال: أي ثم الله الذي خلقها وبدأ خلقها ينشئها نشأة ثانية...
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٦.
وقال ابن الأعرابي: أقنى أعطاه ما يدخر بعد الكفاية (٣)، وأبو إساق ذكر القولين (٤)، وهما يرجعان إلى أصل واحد.
قال الليث: يقال: قنيت به، أي: رضيت، وأقنيت لنفسي مالاً، أي: جعلته قنية أرتضيه، وأنشد للمتلمس:
وألقيته بالثّني من جَنْبِ كافرٍ | كذلك أقْنُو كلَّ قِطّ مُضَلِّلِ (٥) |
أحدهما: الرضا، وذلك أن الإنسان لا يقتني إلا ما يرتضيه، فعلى هذا أصل القولين الرضا، والآخر: الحفظ واللزوم، ومنه يقال: قنا الحياء، إذا لزمه، ومنه قول الشاعر:
قال ابن حجر: وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، و"فتح الباري" ٨/ ٦٠٦.
(٢) في (ك): (مال) وانظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٨.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٣١٣، و"اللسان" ٣/ ١٧٧ (قنا).
(٤) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧٦.
(٥) البيت ورد في "تهذيب اللغة" ٩/ ٣١٢، و"اللسان" ٣/ ١٧٧ (قنا)، و"الخزانة" ٣/ ٢٣، و"المذكر والمؤنث" ص ٤١٦.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٣١٤ (قنا).
فأقْنَى حياءَك لا أبالَكِ إنني | في أرض فارس موثقٌ أحوالًا (١) |
وأما ما روي عن ابن زيد أنه قال: أغنى أكثر وأقنى أقل (٣)، ولا وجه لقوله أقنى أقل في اللغة، إلا أن يقال: معناه رضي بالفليل كما ذكره الأكثرون فترك ذلك الرضا واقتصر على القلة.
٤٩ - قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ قال جماعة المفسرين: هي كوكب خلف الجوزاء يقال لها مرزم الجوزاء، وهي الشعرى العبور، وكانت خزاعة تعبدها، فقال الله: أنا رب الشعرى فاعبدوني، وإنما سميت العبور لأنها عبرت المغيرة فقطعت عرضًا وهما الشعرتان، يقال لأحدهما: العبور وللأخرى الغميضاء، وسميت الغميضاء؛ لأن العرب تقول: إن سهيلًا والشعرتين كانت مجتمعة فانحدر سهيل فصار يمانيًا فتبعته الشعرى العبور فعبرت المغيرة وأقامت الغميضاء فبكت لفقد سهيل حتى غمضت عيناها فسميت الغميضاء (٤).
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٤، و"جامع البيان" ٢٧/ ٤٥.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٥، وفي "معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٦، و"الجامع" للقرطبي ١٧/ ١١٩، نسبه للأخفش وهو قول الحضرمي أيضًا.
وقال ابن كثير معقبًا على هذا القول: وهما بعيدان من حيث اللفظ، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٥٩. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" ٨/ ١٦٩: وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولًا كقولهم: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه، وكل قول منها لا دليل على تعيينه، فينبغي أن تجعل أمثلة.
(٤) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٣٤٢، و"الكفش والبيان" ١٢/ ١٩ أ - ب، قال الآلوسي في =
أحدها: (الأولى) بسكون لام المعرفة.
والثانية: (الُولَى) على تخفيف الهمزة ونقل حركتها إلى لام المعرفة.
الثالثة: الولى) بطرح همزة الوصل؛ لأن اللام تحركت فاستغني عنها (١).
ومثله الأحمر والحمر ولحمر، وقراءة العامة (عادًا الأولى) (٢) أجود اللغات الثلاثة، وذلك أن التنوين اجتمع مع لام المعرفة وهما ساكنان فحرك التنوين بالكسر.
وقرأ أبو عمرو (عادًا لولى)، قال أبو عثمان: أساء عندي أبو عمرو في قراءته (عادًا لولى)؛ لأنه أدغم النون في لام المعرفة، واللام إنما تحركت بحركة الهمزة، وليست بحركة لازمة، والدليل على ذلك أنك تقول: اَلَحْمَر. فلا تحذف ألف الوصل وإن حركت اللام؛ لأنها ليست بحركة لازمة، قال: ولكن كان أبو الحسن روى عن بعض العرب أنه يقول هذا لَحْمَر قد جاء، بحذف ألف الوصل لحركة اللام (٣).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٧.
(٢) قرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب (عادًا لولى) موصولة مدغمة، وذلك بإدغام التنوين في اللام بعد نقل حركة الهمزة إليها وصلًا. وقرأ الباقون (عادًا الأولى) بكسر التنوين وسكون اللام وتخفيف الهمزة من غير نقل. انظر: "حجة القراءات" ص ٦٨٧ و"النشر" ١/ ٤١١ - ٤١٢، و"الإتحاف" ص ٤٠٣ - ٤٠٤.
(٣) قلت: قول أبي عثمان -المازني: أساء أبو عمرو في قراءته.. إلى أن قال: ولكن =
أحدهما: أنه يقول: (لُوْلَى) قبل الإدغام على لغة من يقول لَحْمَرْ فيحذف همزة الوصل، وعلى هذا القول اللام في حكم المتحرك، وخرجت من حكم السكون بدلالة حذف همزة الوصل وإذا خرجت من حكم السكون حسن الإدغام كما حسن في مَنْ لك؟ ومَنْ لُوهُ؟ (١) فالإدغام في حرف متحرك غير ساكن.
والوجه الآخر: أن يكون أدغم على قول من يقول (الُولى) الحَمْرَ، فلم يحذف همزة الوصل مع إلقاء الحركة على لام المعرفة؛ لأنه في تقدير السكون فلا يمتنع أن يدغم فيه، وإن كان في حكم السكون كما لم يمتنع أن يدغم في نحو رُدَّ وفِرَّ وغَضَّ، وإن كانت لاماتهن سواكن، وتحركها للإدغام، وإذا جاز الإدغام في الوجهين جميعًا ثبتت صحته.
وروي عن نافع (عاد لوْلَى) بالإدغام والهمز، ووجه الإدغام ما ذكرنا، ووجه الهمز أن الضمة لقربها من الواو وأنه لم يحجز بينهما شيء صارت كأنها عليها فهمزها كما يهمز الواو إذا كانت مضمومة نحو أدؤُر والغؤور (٢)، وما أشبه ذلك، وهذه لغة قد رويت وحكيت وإن لم تكن بتلك
(١) (ك): (لزم) والتصويب من "الحجة".
(٢) أدؤر جمع دار، والهمز لكراهه الضمة على الواو. يقال: ثلاث أدؤر: همزت لأن الألف التي كانت في الدار صارت في أَفْعُل في مواضع تحرك فأُلقِي عليها =
قال أبو عثمان: ومن قرأ (عادًا لولى) فأظهر النون فقد أخطأ؛ لأن النون لا تظهر على اللسان إلا مع حروف الحلق (١).
قال المفسرون: عاد الأولى، قوم هود، وهم أولى عاد أهلكوا بريح صرصر، وكان لهم عقب، وكانوا عادًا الأخرى.
٥١ - قوله تعالى: ﴿وَثَمُودَ﴾ أهلك الله ثمود وهم قوم صالح بالصيحة ﴿فَمَا أَبْقَى﴾ منهم أحدًا.
٥٢ - ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ﴾ أهلك الله قوم نوح من قبل عاد وثمود.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾ قال ابن عباس وقتادة ومقاتل، وغيرهم: إنما وصف بأنهم كانوا أظلم وأطغى من غيرهم لطول دعوة نوح إياهم، وعتوهم على الله في المعصية والتكذيب، ولم يطل مقام أحد من الأنبياء في دعوة قومه كما طال مقامه (٢)، وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ [العنكبوت: ١٤] وكان الرجل منهم يأخذ ابنه فينطلق به إلى نوح فيقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وأنا مثلك فاحذره فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه (٣).
(١) من قوله: قال أبو عثمان. إلى هنا: نقله من كتاب "الحجة" لأبي علي مع تصرف يسير. انظر: "الحجة" ٦/ ٢٣٧ - ٢٤٠، و"البغداديات" ص ١٩٠ - ١٩٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٢ أ، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٤، و"جامع البيان" ٢٧/ ٤٦.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٢٠، و "الدر" ٦/ ١٣١.
وقال أبو عبيدة: المؤتفكة المخسوف بها ائتفكت بأهلها (٢)، وقد تقدم تفسير المؤتفكات (٣).
وهي قرى قوم لوط رفعها جبريل بجناحه إلى السماء حتى سمعت ملاكة سماء الدنيا أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم قلبها فهوت من السماء إلى الأرض مقلوبة (٤)، فذلك قوله: (أهوى) أي: أهلك، وتفسيره: أسقط، هوى إذا سقط، وأهواه أسقطه (٥)، وقد مر في قوله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾، والمعنى: أهواها جبريل إلى الأرض بعد أن رفعها، وقال المبرد: جعلها تهوي (٦).
وقال الفراء: رفعها إلى السماء، ثم أهواها وأتبعهم الله بالحجارة، فذلك قوله تعالى:
٥٤ - ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ (٧)، أي: فغشاها الله وألبسها ما غشى، يعني: الحجارة في قول جميع المفسرين.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٩.
(٣) عند تفسيره لآية (٧٠) من سورة التوبة. ومما قال: المؤتفكات، قال المفسرون: يعني قرى قوم لوط وهي جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب. وتلك القرى ائتفكت بأهلها أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها.
(٤) انظر: "تاريخ الأمم والملوك" ١/ ١٨٠، و"معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٢٠.
(٥) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص٤٣٠.
(٦) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٢٠، و"فتح القدير" ٥/ ١١٧.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠٣.
وقال ابن الأنباري (١): تأويله فغشى الله المؤتفكات الذي غشي غيرهم من الأمم السالفة؛ لأنه قد تقدم ذكر عاد وثمود، وقوم نوح ممن أهلك بالعذاب، وكأن التأويل ما غشى الأمم السالفة، فحذف الأمم لتقدمهم وبيان معناهم.
٥٥ - قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾ قال أبو إسحاق: هذا خطاب للإنسان، لما عدد الله عليه ما فعله مما يدل على وحدانيته قال: بأي نعم ربك التي تدلك على أنه واحد تتشك؛ لأن المرية الشك (٢).
قال أهل المعاني: وإنما قيل بعد تعديد النقم ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ﴾؛ لأن النقم التي تحدث نعم علينا لما لنا فيها من المزاجر، مع أنه نالهم بكفر النعم (٣)، والمعنى: فبأي نعم ربك أنت أيها المخاطب تتمارى حتى تكون مقارنًا لهم في سلوك بعض مسالكهم (٤)، وهذا معنى قول قتادة: بأي نعم ربك تتمارى (٥) يا ابن آدم (٦).
وقال ابن عباس: يريد تكذب يا وليد (٧)، يعني: الوليد بن المغيرة الذي نزل فيه قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى﴾ وهذه الآيات كلها نزلت في شأنه،
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٨.
(٣) انظر: "الكشاف" ٤/ ٤٣، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٥، و"فتح القدير" ٥/ ١١٧.
(٤) في (ك): (مسالكه) والصواب ما أثبته.
(٥) (تتمارى) ساقطة من (ك).
(٦) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ٤٧.
(٧) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٠٥.
٥٦ - ﴿هَذَا نَذِيرٌ﴾ يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ﴿مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ من الرسول قبله.
قال قتادة: يقول أنذر محمد -صلى الله عليه وسلم- كما أنذر الرسل من قبله (١).
قال أبو إسحاق: أي النبي -صلى الله عليه وسلم- مجراه في الإنذار مجرى من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام، وذكر قولًا آخر هو قول أبي مالك، ومقاتل، وهو أن يكون النذير مصدرًا بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار، والمعنى: هذا إنذار لكم كما أنذر من قبلكم وقد أعلمتم ما قص الله عليكم من حال من كذب بالرسل وما وقع بهم من الإهلاك (٢)، وهذا معنى قول مقاتل، يقول: هذا خبر من خبر هلاك الأمم الخالية (٣).
٥٧ - قوله تعالى: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ قال المفسرون: دنت القيامة واقتربت الساعة، وقد ذكرنا ما في هذا عند قوله: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ (٤) قال أبو إسحاق والمبرد: معناه: قربت القريبة (٥)، وهذا كما يقال: قتل القاتل، وضرب الضارب، والآزفة من أسماء القيامة، سميت بذلك لدنوها من الناس؛ لأن كل ما هو آت دان، وإن استبعدت.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٨.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٢ أ.
(٤) عند تفسيره لآية (١٨) من سورة غافر. ومما قال: يقال أزف الشيء يأزف أزفًا إذا دنا، ومنه يقال للقصير: متأزف؛ لتداني أعضائه بعضها من بعض... قال عامة المفرين الأزفة القيامة. قال ابن عباس: أزف أمرها. وقال مقاتل: يعني: اقتربت الساعة. وهذا معني قول الضحاك سميت آزفة لقربها. قال أبو إسحاق: قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائن قريب... انظر: "البسيط" ص ١٧٢ بتحقيق السحيباني.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ٧٨.
ومعنى الكشف في اللغة رفع الشيء عما يواريه، والمعنى على هذا القول أن القيامة إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها لم يكشفها أحد من آلهتهم، أي: أنها لا تنجيهم منها، ويدل على صحة هذا المعنى أن القيامة سميت غاشية فلما كانت في غاشية كان ردها كشفًا كما يقال في الدعاء: اللهم اكشف عنا الهموم والأحزان، والكاشفة على هذا القول نعت مؤنث محذوف على تقدير: نفس كاشفة، أو جماعة كاشفة، وهذا معنى قول قتادة: ليس لها من دون الله راد (٢).
ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرًا كالخائنة والعاقبة والعافية، فإذا قدرتها مصدرًا كان المعنى ليس لها من دون الله كشف، أي: لا يكشف عنها غيره. بمعنى لا يبديها ولا يظهرها ولا يزيل عنها ما يسترها، وهو معنى قول مقاتل: لا يكشفها أحد إلا الله، قال: يعني الساعة الله الذي يكشفها.
ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] وهذا القول اختيار الزجاج (٣) والفراء، وهو قول الكلبي، قال: ليس لها من يكشف عن علمها إلا الله (٤)، وإذا كشف عن علمها فقد كشف عنها.
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٢٠ أ، و "معالم التنريل" ٤/ ٢٥٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٢٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٨.
(٤) لم أجد هذا القول، وهو ظاهر المعنى.
٥٩ - قوله تعالى: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ﴾ قال جماعة المفسرين: يعني: القرآن.
قال أبو إسحاق: أي مما يتلى عليكم من كتاب الله تعجبون (٣).
قال مقاتل: تعجبون تكذيبًا به (٤)، والمعنى: تعجبون من إنزاله على محمد -صلى الله عليه وسلم- فتكذبون به كما قال: ﴿بَلْ عَجِبُوا...﴾ الآية [ق: ٢].
وقال أهل المعاني: يجوز أن يكون معنى الحديث هاهنا ما ذكر من حديث القيامة (٥)، والكفار كانوا يكذبون بها ويعجبون من وقوعها، أي: وقعت عندهم يدل على هذا قوله:
٦٠ - ﴿وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ﴾ أي: تستهزئون ولا تبكون خوفًا منها. وعلى قول المفسرين: ولا تبكون مما فيه من الوعيد.
روى أبو الخليل (٦) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رئي ضاحكًا إلا تبسمًا بعد نزول هذه الآية (٧).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٠٣.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٨.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٢ ب.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧.
(٦) هو صالح بن أبي مريم الضبي، أبو الخليل، وثقه ابن معين، والنسائي، وأغرب أبو عبد الله بن عد البر فقال: لا يحتج به. انظر: "تقريب التهذيب" ١/ ٣٦٣، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٧٩، و"طبقات ابن سعد" ٧/ ٢٣٧، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٢٠٤.
(٧) رواه الإمام أحمد في "الزهد"، وابن أبي شيبة في "المصنف" ١٣/ ٢٣٤، =
رَمى الحِدْثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ | بمقدارٍ سَمَدْنَ له سُمودا (١) |
وكأن العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءً | لِلنَدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودٍ (٤) |
(١) البيت لعبد الله بن الزبير بن الأشيم الأسدي، أو للكميت بن معروف. انظر: "الحماسة" لأبي تمام ١/ ٤٦٤، و"أمالي القالي" ٣/ ١١٥، و"الأضداد" ص ٣٦، و"مجالس ثعلب" ص ٤٣٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٧٧٢، و"اللسان" ٢/ ١٩٨ (سمد). ونسبه ابن كثير في "البداية والنهاية" ٨/ ١٤٤ لأيمن بن خزيم.
(٢) حمير: بطن عظيم من القحطانية ينسب إلى حمير بن سبأ، من بلادهم في اليمن شام، وذمار، ورفع.. قدم رسول ملوك حمير سنة تسع من الهجرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: انظر: "معجم قبائل العرب" ١/ ٣٠٤ - ٣٠٥.
(٣) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٥٥، و"جامع البيان" ٢٧/ ٤٨، و"المصنف" لابن أبي شيبة ١٠/ ٤٧١.
(٤) انظر. "الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٦، و"الأضداد" للسجستاني ص ١٤٤.
(٥) عاد بن عوص من العرب العاربة البائدة، يقال لهم عاد الأولى، وكانت منازلهم =
قَيْلُ قُم فَانْظُر إلَيْهِمْ | ثُمَّ دع عَنْكَ السُّمُودَا (١) |
قال أبو عبيدة: يعني: القيام، وكل رافع رأسه فهو سامد، قال ابن الأعرابي: السامد اللاهي، والسامد الغافل، والسامد الساهي، والسامد المتكبر، والسامد القائم، هذا كلام أهل اللغة في السمود (٣).
والمفسرون قالوا: لاهون غافلون معرضون، ونحو هذا روي عن ابن عباس في جميع الروايات (٤) إلا ما روى عكرمة أنه الغناء، قال: وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا.
وروى شمر بإسناد عن ابن عباس أنه قال: مستكبرون. قال: ويقال
(١) من شعر هزيلة بنت بكر، وهي تبكي قوم عاد. انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٦، و"الأضداد" للسجستاني ص ١٤٤، و"الدر" ٦/ ١٣٢، وعزاه للطستي في "مسائله"، و"روح المعاني" ٢٧/ ٧٢، و"تهذيب اللغة" ١٢/ ٣٧٨، و"اللسان" ٢/ ١٩٩ (سمد).
(٢) أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وعبد بن حميد، وذكره المهدوي. انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ١٢٣ و"الدر" ٦/ ١٣٢، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٦ - ٣٧.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٣٧٧، و"اللسان" ٢/ ١٩٧ (سمد).
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٠٣، و"معالم التزيل" ٤/ ٢٥٧، و"زاد المسير" ٨/ ٨٥، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٢٦٠.
٦٢ - قوله: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾، قال الكلبي ومقاتل: صلوا لله، يعني: الصلوات الخمس.
﴿وَاعْبُدُوا﴾ قال مقاتل: يعني وحدوا الرب، وقال الكلبي: أطيعوه فيما يأمركم به (٣).
وقال أبو إسحاق: معنى الآية: فاسجدوا للذي خلق السموات والأرض، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى؛ لأنه قد ذكر معبوداتهم في هذه السورة (٤).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ٤٩، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٥٧.
والبرطمة هي: الانتفاخ من الغيظ والغضب.
قال ابن القيم بعد ذكره لما تقدم في معنى الغناء: فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه. فهذه أربعة عشر اسمًا سوى اسم الغناء.
انظر: "إغاثة اللهفان" ١/ ٢٥٨.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٢ ب.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٧٩.