تفسير سورة سورة ق من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة ق مكية
وهي خمس وأربعون آية وثلاث ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ ق ﴾، مثل ص، وقد مر وقيل : من أسماء الله تعالى، أو معناه : قضى الأمر، أو مفتاح أسماء الله تعالى التي في أوائلها " ق " كالقدير، وغيره،
﴿ والقرآن المجيد ﴾ : ذي المجد والشرف، وجواب القسم مثل ما مرّ في ص،
﴿ بل عجبوا ﴾ : الكافرون، ﴿ أن جاءهم منذر منهم ﴾ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإنهم قالوا : الرسول إما ملك، أو من معه ملك، أو بشر لا يحتاج إلى كسب المعاش، ﴿ فقال الكافرون هذا شيء عجيب ﴾، وضع الظاهر موضع المضمر للشهادة على أنهم في هذا القول مقدمون على الكفر، وهذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده، وهو قوله :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا ﴾
﴿ أئذا متنا وكنا ترابا ﴾ أي : أنرجع حين نموت ونملي ؟ ! ﴿ ذلك رجع بعيد ﴾ : عن العادة والإمكان،
﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ﴾ : ما تأكل الأرض من أجساد موتاهم، ومن كان كذلك فهو قادر على رجعهم، ﴿ وعندنا كتاب حفيظ ﴾ : حافظ لتفاصيل كل شيء، أو محفوظ من التغيير، وهو اللوح المحفوظ،
﴿ بل كذبوا بالحق ﴾ : القرآن، ﴿ لما جاءهم ﴾ كأنه قال، بل جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو إنكار القرآن من غير تأمل وتوقف، ﴿ فهم في أمر مريج ﴾ : مضطرب، فمرة قالوا : شعر ومرة : سحر،
﴿ أفلم ينظروا ﴾ : حين أنكروا البعث، ﴿ إلى السماء فوقهم ﴾ أي : كائنة فوقهم، ﴿ كيف بنيناها وزيناها ﴾ : بالكواكب، ﴿ وما لها من فروج ﴾ : من فتوق، بل ملساء لا فتق فيها ولا خلل،
﴿ والأرض ﴾، عطف على محل السماء، أو نصب بما أضمر عامله وتقديره، ومددنا الأرض فلينظروا إليها، ﴿ مددناها ﴾ : بسطناها، ووسعناها قيل : فيه إشعار بأنها غير كرّية، ﴿ وألقينا فيها رواسي ﴾ : جبالا ثوابت، ﴿ وأنبتنا فيها من كل زوج ﴾ : صنف، ﴿ بهيج ﴾ : حسن،
﴿ تبصرة وذكرى ﴾، مفعول له للأفعال المذكورة كأنه قال جمعت بين ذلك تبصرة، ﴿ لكل عبد منيب ﴾ : راجع إلى ربه متفكر في بدائعه،
﴿ ونزّلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات ﴾ : أشجارا، ﴿ وحب الحصيد ﴾ حب الزرع الذي يحصد كالحنطة والشعير،
﴿ والنخل باسقات ﴾ : طوال شاهقات، حال مقدرة، ﴿ لها طلع ﴾ هو أول ما يظهر قبل أن ينشق، ﴿ نضيد ﴾ : منضود بعضه على بعض في أكمامه، والمراد كثرة ما فيه من الثمر،
﴿ رزقا للعباد ﴾، مفعول له لأنبتنا، ﴿ وأحيينا به ﴾ : بالماء، ﴿ بلدة ميتا ﴾ : أرضا لا نماء فيها، ﴿ كذلك الخروج ﴾ : من القبور،
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون ﴾، أراد قومهم، ﴿ وإخوان لوط ﴾ أي : قومهم، وسماهم إخوانه لقرابته القريبة،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون ﴾، أراد قومهم، ﴿ وإخوان لوط ﴾ أي : قومهم، وسماهم إخوانه لقرابته القريبة،
﴿ وأصحاب الأيكة وقوم تبع ﴾، سبق في الدخان، ﴿ كل ﴾ أي : كل واحد من هؤلاء، ﴿ كذب الرسل ﴾ : من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل، ﴿ فحق وعيد ﴾ : وجب عليهم عذابي،
﴿ أفعيينا بالخلق الأول ﴾ أي : إنا لم نعجز كما علموا عن بدء الخلق حتى نعجز عن الإعادة، ﴿ بل هم في لبس من خلق جديد ﴾ أي : هم لا ينكرون قدرتنا، بل هم في شبهة من البعث.
﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾ : ما يخطر بضميره، " ما " موصولة والباء صلة لتوسوس أي : الذي تحدث نفسه به أو مصدرية، والباء للتعدية والضمير للإنسان، ﴿ ونحن أقرب إليه ﴾ المراد قرب علمه منه فتجوز بقرب الذات، لأنه سبب أو المراد قرب الملائكة منه، ﴿ من حبل ﴾ : عرق، ﴿ الوريد ﴾ : عرق العنق، والإضافة بيانية،
﴿ إذ يتلقى ﴾ : يتلقن بالحفظ، ﴿ المتلقيان ﴾ : الملكان الحفيظان، إذ ظرف لأقرب، وفيه إشعار بأنه تعالى غني عن استحفاظ الملكين لكن إقامتها لحكمة، أو إذ تعليل لقرب الملائكة، ﴿ عن اليمين ﴾ : قعيد، ﴿ وعن الشمال قعيد ﴾، حذف المبتدأ من الأول لدلالة الثاني عليه، وقيل : الفعيل للواحد والجمع،
﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه ﴾ : لدى القول، أو الإنسان، ﴿ رقيب ﴾ : ملك يرقبه، ﴿ عتيد ﴾ : حاضر، وهل يكتب كل شيء ؟ فيثبت في القيامة ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره، أو لا يكتب إلا الخير والشر ؟ فيه خلاف بين السلف، والقرآن يشعر بالأول، ولو قيل : المراد من قوله إلا لديه رقيب ملك يسمعه لا يحفظه، ويكتبه فقلنا : فالمناسب رقيبان، لأن السماع لا يختص بواحد،
﴿ وجاءت سكرة الموت ﴾ : شدته، ﴿ بالحق ﴾، بالباء للتعدية أي : أتت بحقيقة الأمر الذي كنت تمتري فيه، ﴿ ذلك ﴾ : الحق، ﴿ ما كنت منه تحيد ﴾ : تميل فلم تقربه، لما ذكر إنكارهم البعث، واحتج عليهم بشمول علمه وقدرته أعلمهم أن ما أنكروه يلاقون عن قريب فنبه على الاقتراب بلفظ الماضي، أو معناه جاءت سكرته متلبسة بالحكمة ذلك الموت ما كنت تفر منه،
﴿ ونفخ في الصور ﴾ أي : نفخة البعث، ﴿ ذلك ﴾ : النفخ أي : وقته، ﴿ يوم الوعيد ﴾
﴿ وجاءت كل نفس معها سائق ﴾ : من الملك يسوقه إلى الله تعالى، ﴿ وشهيد ﴾ : منه يشهد عليه بأعماله فمعه ملكان، وعن بعض المراد من الشهيد جوارحه، وكل نفس وإن كان نكرة صورة، لكن معرفة معنى، لأنه بمعنى النفوس فجاز أن يكون ذا الحال،
﴿ لقد كنت في غفلة من هذا ﴾ أي : يقال لكل نفس، فإن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا يقظة، ﴿ فكشفنا عنك غطاءك ﴾ : حتى عاينته، ﴿ فبصرك اليوم حديد ﴾ : نافذ لزوال الحاجب، وعن بعض الخطاب للكفار، والمراد من الغفلة الإنكار،
﴿ وقال قرينه هذا ما لدى عتيد ﴾ أي : قال الملك- الموكل عليه : هذا ما لدى من كتاب أعماله حاضرا، وقال ملك- يسوقه : هذا شخص لدي حاضر قيل : القرين الشيطان، ومعناه هذا شيء عندي، وفي ملكتي عتيد لجهنم هيأته بإغوائي لها، وعتيد خبر بعد خبر إن جعلت ما موصولة وصفة لما إن جعلتها موصوفة، قيل : هذا إشارة إلى مبهم يفسره جملة " ما لدي عتيد "
﴿ ألقيا ﴾ : يا أيها السائق، والشهيد، وقيل : الخطاب للملكين من خزنة النار، ومن قال : الشهيد جوارحه يقول : هو خطاب الواحد بلفظ التثنية على عادة العرب خليلي صاحبي، ﴿ في جهنم كل كفار عنيد ﴾ : معاند،
﴿ مناع للخير ﴾ : لما يجب عليه من الزكاة، أو لجنس الخير أن يصل إلى أهله، ﴿ معتد ﴾ : ظالم، ﴿ مريب ﴾ : شاك في التوحيد،
﴿ الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ﴾ " الذي " مبتدأ، أو " فألقياه " خبره أو بدل من " كل كفار " والعذاب الشديد نوع من عذاب جهنم، فكان من باب عطف الخاص على العام،
﴿ قال قرينه ﴾ : الشيطان الذي قيض له، ﴿ ربنا ما أطغيته ﴾ : ما أضللته، هذا جواب لقول الكافر، هو أطغاني، ﴿ ولكن كان في ضلال بعيد ﴾ : عن الحق يتبرأ منه شيطانه كما قال تعالى حكاية عنه :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]
﴿ قال ﴾ الله تعالى :﴿ لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ﴾، الواو للحال أي : لا تختصموا عالمين بأنى أوعدتكم على الطغيان بلسان رسلي، والباء مزيدة، أو للتعدية على أن قدم بمعنى تقدم،
﴿ ما يبدل القول لدي ﴾ : لا تبديل ولا خلف لقولي، وقيل : لا يغير القول على وجهه، ولا يمكن الكذب عندي وإني أعلم الغيب، ﴿ وما أنا بظلام للعبيد ﴾ : فأعذبهم بغير جرم، قيل : جملة " ما يبدل " مفعول قدمت، و " بالوعيد " حال أي : قدمت إليكم هذا موعدا لكم.
﴿ يوم نقول لجهنم ﴾، نصبه بتقدير نحو : اذكر، أو بظلام، ﴿ هل امتلأت وتقول ﴾ جهنم :﴿ هل من مزيد ﴾، تطلب المزيد، وفي الصحيح لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول : قط قط " ، أو تستبعد الزيادة لفرط كثرتهم فالاستفهام حينئذ للإنكار، أي : قد امتلأت، وعلى هذا إنما هو بعد ما يضع الرب فيها قدمه فينزوي، والسؤال والجواب على حقيقته،
﴿ وأزلفت ﴾ : قربت، ﴿ الجنة للمتقين غير بعيد ﴾، نصب على الظرف أي : مكانا غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم أو حال، ومعناه التوكيد كعزيز غير ذليل، والتذكير لأن البعيد على زلة المصدر، أو لأن الجنة بمعنى البستان،
﴿ هذا ﴾ أي : يقال لهم هذا، ﴿ ما توعدون لكل أواب ﴾ : رجاع إلى الله تعالى، ﴿ حفيظ ﴾ : حافظ لأمر الله تعالى ولكل بدل من للمتقين
﴿ من خشي الرحمن ﴾، بدل بعد بدل أو بتقدير أعني أو هم، ﴿ بالغيب ﴾ : غائبا عن الأعين أي : خاف الله تعالى في سره أو غائبا عن عقابه لم يراء أو حال من المفعول أي : خشي عقابه حال كون العقاب غائبا، ﴿ وجاء بقلب منيب ﴾ : راجع إلى الله تعالى خاشع،
﴿ ادخلوها ﴾ أي : يقال لهم ذلك، ﴿ بسلام ﴾ : سالمين من المكاره، أو مسلمين من الله تعالى وملائكته، ﴿ ذلك يوم الخلود ﴾ : يوم تقدير الخلود،
﴿ لهم ما يشاءون فيها ولدينا ﴾ : مما لم يخطر ببالهم، ﴿ مزيد ﴾
﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن ﴾ : جماعة من الناس، ﴿ هم أشد منهم بطشا ﴾ : قوة، ﴿ فنقبوا ﴾ : تصرفوا، ﴿ في البلاد هل من محيص ﴾ : مفر لهم من قضاء الله تعالى، وهل نفعتهم القوة فأنتم أيضا لا مفر لكم، أو معناه : فبحثوا وطلبوا، وفتشوا في البلاد هل من محيص من الموت، فلم يجدوا قيل : معناه فنقبوا وساروا أي : أهل مكة في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا لأنفسهم، وقراءة الشاذة " فنقبوا " بصيغة الأمر تدل على هذا الوجه
﴿ إن في ذلك ﴾ : المذكور في هذه السورة، ﴿ لذكرى ﴾ : تذكرة، ﴿ لمن كان له قلب ﴾ : واع متفكر فإن من لا يعي فكأنه لا قلب له، ﴿ أو ألقى السمع ﴾ : أصغى القرآن، ﴿ وهو شهيد ﴾ : حاضر بذهنه، فإن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب،
﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ﴾، مر تفسيره، ﴿ وما مسّنا من لغوب ﴾ : تعب وإعياء، وهذا رد قول اليهود : إن الله تعالى فرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت، ويسمونه يوم الراحة،
﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ : المكذبون، ﴿ وسبح ﴾ : نزهه، ﴿ بحمد ربك ﴾ : ملتبسا بحمده، ﴿ قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ﴾ يعني : الفجر والعصر فإنهما وقتان فاضلان،
﴿ ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ﴾ : أعقاب الصلاة، والمراد التسبيح دبر الصلوات، أو المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، وصلاة التهجد، وفي بدء الإسلام قبل الإسراء الفرائض هذه الثلاثة، ثم نسخت بخمس صلوات في ليلة الإسراء، والمراد من أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وعليه عمر، وعلي، والحسن، وابن عباس، وغيرهم- رضي الله عنهم
﴿ واستمع ﴾ : يا محمد لما أخبرك به من أحوال يوم القيامة، ﴿ يوم يناد المناد ﴾ : إسرافيل، ﴿ من مكان قريب ﴾ : من السماء، وهي صخرة بيت المقدس أقرب أجزاء الأرض من السماء ينادي : أيتها العظام البالية، واللحوم المتمزقة إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، ونصب يوم بمقدار، أي : يخرجون من القبور، والدال عليه ذلك يوم الخروج، ويمكن أن يكون " واستمع " عطفا على اصبر، أي : اصبر اليوم على مقالاتهم، واستمع يوم القيامة عجزهم وندامتهم،
﴿ يوم يسمعون ﴾، بدل من " يناد " ﴿ الصيحة ﴾ : نفخة البعث، ﴿ بالحق ﴾، متعلق بالصيحة، ﴿ ذلك يوم الخروج ﴾ : من القبور بدل بعد بدل
﴿ إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ﴾ : للجزاء،
﴿ يوم تشقق ﴾ أي : تتشقق بدل بعد بدل، أو ظرف للمصير، ﴿ الأرض عنهم سراعا ﴾ : مسرعين، ﴿ ذلك حشر علينا ﴾ : لا على غيرنا، ﴿ يسير ﴾ : فإنه لا يتيسر لغير من هو كامل القدرة،
﴿ نحن أعلم بما يقولون ﴾، تهديد للكفار، وتسلية له- عليه الصلاة والسلام ﴿ وما أنت عليهم بجبار ﴾ : فتجبرهم على الهداية إنما أنت منذر، ﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ : فإن من أصر على الكفر لا ينتفع به.
اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجوا موعودك.