تفسير سورة النجم

اللباب
تفسير سورة سورة النجم من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة النجم مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية وهي قوله تعالى :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ الآية. وهي إحدى وستون آية. وقيل : إن السورة مدنية. والصحيح أنها مكية لقول ابن مسعود : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وقيل : اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف١.
١ وانظر هذا كله في تفسيري البغوي والخازن ٦/٢٥٥، والقرطبي في الجامع ١٧/٨١..

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله تعالى: ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش﴾ الآية. وهي إحدى وستون آية. وقيل: إن السورة مدنية. والصحيح أنها مكية لقول ابن مسعود: هي أول سورة أعلنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة. وقيل: اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والنجم إِذَا هوى﴾ قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) في رواية الوالبيِّ العَوْفِيِّ يعني الثُّرَيَّا إذَا سقطت وغابت. وهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ. والعرب تسمي «الثُّرَيَّا» نَجْماً قال قائلهم:
٤٥٣٨ - إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءَا ابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءَا
وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً: مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطّ وَفِي الأَرْضِ مِنَ العَاهَةِ شَيْءٌ إِلاَّ رُفِعَ.
وأراد بالنجم الثريا. قال شهاب الدين: وهذا هو الصحيح لأن هذا صار علماً بالغلبة ومنه قول العرب:
152
٤٥٣٩ - طَلَعَ النَّجْم غُدَيَّهْ فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسَيَّهْ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
٤٥٤٠ - أحْسَنُ النَّجْم فِي السَّمَاءِ الثُّرَيَّا وَالثُّرَيَّا فِي الأَرْضِ زَيْنُ النِّسَاءِ
يقال: إنها سبعة أنجم ستةٌ منها ظاهرة وواحدٌ خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وروى القاضي عِياضٌ في «الشِّفا» أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يرى الثريا أحد عشر نجماً. وقال مجاهد: هي نجوم السماء كلها حين تغرب. لفظه واحد ومعناه الجمع. سمي الكوكب نجماً لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نَجَم السِّنُّ والقَرْن والنَّبْتُ إذا طَلَعَ. وروى عكرمة عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - أنها ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع. وقال أبو حمزة الثُّماليُّ: هي النجوم إِذا اسْتَتَرَتْ يوم القيامة. وقيل المراد بالنجم هنا الجِنْس.
قال الشاعر - (رحمة الله عليه -) :
٤٥٤١ - فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْم فِي مُسْتَحِيرَةٍ سِرِيع بِأَيْدِي الآكِلينَ جُمُودُهَا
أي تَعُدُّ النجوم. وهذا هو معنى قول مجاهد المتقدم. وقيل: المراد بالنجم الشِّعْرَى؛ لقوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩]. وقيل: الزهرة؛ لأنها كانت تُعْبَدُ. وقيل: أراد بالنجم القرآن، لأنه نزل نجوماً متفرقاً في عشرين سنة. وسمي التفريق تنجيماً والمفرق منجماً. قاله الكلبي ورواه عطاء عن ابن عباس. والهويُّ النزول من أعلى إلى أسفل. وقال الأخفش: النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله - عَزَّ وجَلَ - ﴿والنجم والشجر يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦]. وهُوِيُّهُ سقوطه على الأرض. وقال جعفر الصادق: يعني محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
153
إِذ نزل من السماء ليلة المعراج. والهويُّ النزول، يقال هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا. والكلام في قوله: «والنجم» كالكلام في قوله: «والطُّورِ» حيث لم يقل: وَالنُّجُوم ولا الأَطْوَار وقال: ﴿والذاريات﴾ [الذاريات: ١] ﴿والمرسلات﴾ [المرسلات: ١] كما تقدم.

فصل


السور التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأشياء دون الحروف هي «الصَّافَّات»، و «الذَّارِيَات» و «الطُّور» وهذه السورة بعدها فالأولى أن يقسم لإثبات الوحدانية كما قال: ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾ [الصافات: ٤] وفي الثانية أقسم لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: ٥ و٦] وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾
[الطور: ٧ و٨] وفي هذه أقسم لإثبات النبوة لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية، والحشر، والنبوة.
واعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة واحدة وهي «وَالصَّافَّاتِ»، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة (وَالضُّحَى) وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فقال: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ [الليل: ١] ﴿والشمس وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: ١] ﴿والسمآء ذَاتِ البروج﴾ [البروج: ١] إلى غير ذلك وكلها في الحشر أو ما يتعلق به، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل:
٤٥٤٢ - وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ الوَاحِدُ
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة وأما الحشر ووقوعه فلا يمكن إثباته إلاَّ بالسمع فأكثر فيه القسم ليقطع بها المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً.

فصل


قال ابن الخطيب: والفائدة في تقييد القسم به بوقت هويه إذا كان في وسط السماء بعيداً عن الأرض لا يهتدي إليه السَّارِي لأنه لا يعلم به المَشْرِق من المَغْرِب ولا الجنوب من الشّمال. فإِذا زال عن وسط السماء تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب عن الشمال. وخص الهويَّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا كما قال الخليل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿لا أُحِبُّ الآفلين﴾ [الأنعام: ٧٦]. وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه وقد كان منهم من يعبده فنبه بهُوِيِّه على عدم صلاحيته للإِلهيَّة بأُفُولِهِ.
154

فصل


أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى، أما لفظاً فقوله: «وَإِدْبَارَ النُّجُومِ» وافتتح هذه بالنجم مع واو القسم، وأما معنًى فلأنه تعالى لما قال لنبيه: ﴿وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النجوم﴾ [الطور: ٤٩] بين له أنه (جزأه في أجزاء مكابدة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالنجم) وبعده (عما لا يجوز له) فقال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى﴾.
قوله: «إذَا هَوَى» في العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كل منها إِشْكَال.
أحدها: أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره: أُقْسِمُ بالنجم وقْتَ هُويه. قاله أبو البقاء. وهو مشكِل؛ فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال و «إذا» لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ ﴿.
الثاني: أن العامل فيه مقدر على أنه حال من (النَّجْمِ) أقْسَمَ به حال كونه مستقراً في زمان هُوِيِّهِ. وهو مشكلٌ من وجهين:
أحدهما: أن النجم جثّة والزمان لا يكون حالاً كما لا يكون خبراً.
والثاني: أن (إِذَا) للمستقبل فيكف يكون حالاً؟﴾
.
وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنَّجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجماً في عشرين سنة. وهذا تفسير عن ابن عباس وعن غيره.
وعن الثاني بأنها حال مقدرة.
الثالث: أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن. قاله أبو البقاء.
وفيه نَظَرٌ؛ لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص. وقد يقال: إِنَّ النجم بمعنى المنجَّمِ كأنه قيل والقرآن المُنَجَّم في هَذَا الوَقْتِ.
وهذا البحث وارد في مواضع منها: ﴿والشمس وَضُحَاهَا﴾ وما بعده [الشمس: ١ - ٥] وقوله: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ [الليل: ١] ﴿والضحى والليل إِذَا سجى﴾ [الضحى: ١ و٢] وسيأتي في الشمس بحث أخص من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. والهوِيُّ قال الراغب: سقوطٌ
155
من عُلوٍّ ثم قال: «والهَوِيُّ ذهاب في انحدار والهُوِيّ ذهاب في ارْتفاع»، وأنشد:
٤٥٤٣ -............................ يَهْوِي مَخَارِمُهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ
وقيل: هَوَى في اللغة خرق الهواء، ومقصده السّفْل أو مصيره إليه وإن لم يقْصِدْه قال - (رحمةُ اللَّهِ عليه -) :
٤٥٤٤ -............................ هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ
وقال أهل اللغة: هَوَى يَهْوِي هُويًّا أي سقط من علُوٍّ، وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى أي صَبَا. وقد تقدم الكلام في هذا مُشبعاً.
قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ هذا جواب القسم، والمعنى: ما ضل صاحبكم يعني محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما ضل عن طريق الهدى «وَمَا غَوَى» ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضلال والغي بمعنى واحد. وفرق بعضهم بينهما قال: الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد، قال تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ [الأعراف: ١٤٦] وقال تعالى: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي﴾ [البقرة: ٢٥٦].
قال ابن الخطيب: وتحقيق القول فيه أن الضلال أعمّ استعمالاً في الوضع، تقول: ضَلَّ بَعِيرِي ورَحْلِي ولا تقول غيَّ؛ فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً، والغواية أن لا يكون له طريق إِلَى القصد مسقيم، ومما يدل على هذا قولك للمؤمن الذي ليس على طريق السداد: إنَّه سَفِيهٌ غير رشيدٍ ولا تقول: إنه ضال فالضال كالكافر والغَاوي كالفاسق كأنه تعالى قال: ما ضَلَّ أي ما كفر ولا أقلّ من ذلك فما فسق أو يقال: الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.
156
قال: ويحتمل أن يكون المراد معنى قوله «مَا ضلَّ» أي ما جُنَّ فإنَّ المجنون ضالٌّ وعلى هذا فهو كقوله: ﴿والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: ١ و٢]. ومعنى صاحبكم إما سيدكم أو وصاحبكم (مَا غَوَى) أي ما تكلم بالباطل. وقيل: ما خاب والغَيّ الخيبة.
قوله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ أي ما يصدر عن الهوى نُطْقُهُ (فعن) على بابها. وقيل: بمعنى الباء، أي ما ينطق بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إنَّ محمداً يقول القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وفي فاعل (يَنْطِقُ) وجهان:
أحدهما: هو ضمير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو الظاهر.
والثاني: أنه ضمير القرآن كقوله تعالى: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾
[الجاثية: ٢٩].
واعلم أن في قوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى﴾ بصيغة الماضية وفي قوله: «وَمَا يَنْطِقُ» بصيغة المستقبل ترتيب في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تبعدون في صِغَرِهِ «وَمَا غَوَى» حين اختلى بنفسه ورأى في منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن يحث أُرْسِلَ إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً وصار الآن منقذاً من الضلالة مرشداً وهادياً.
قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ إن هو أي إن الذي ينطق به. وقيل: إن القرآن إلا وحي من الله. وقوله: «يُوحَى» صفة لوحي. وفائدة المجيء بهذا الوصف أنه ينفي المجاز أي هو وحي حقيقة لا بمجرد تسمية كقولك: هَذَا قَوْلٌ يُقَالُ. وقيل: تقديره يُوحَى إليه. ففيه مزيدُ فَائدةٍ.
نقل القُرْطُبِيُّ عن السِّجِسْتَانِيِّ أنه قال: إن شئت أبدلت ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ من ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾. قال ابن الأنباريّ: وهذا غلط، لأن «إنْ» الحقيقية لا تكون مبدلة من «ما» ؛ بدليل أنك لا تقول وَاللَّهِ مَا قُمْتُ إِنْ أنا لَقَاعِدٌ.
157

فصل


والوحي قد يكون اسماً ومعناه الكتاب، وقد يكون مصدراً وله معان منها الإِرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارَة والإفهام، وهذه الآية تدل على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يجتهد، وهو خلافُ الظَّاهر فإِنَّه اجتهد في الحروب وأيضاً حرم في قوله تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ﴾ [التحريم: ١] وأذن قال تعالى: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]. قوله «عَلَّمَهُ» يجوز أن تكون هذه الهاء للرسول وهو الظاهر فيكون المفعول الثاني محذوفاً أي عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي الموحَى، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي فيكون المفعول الأول محذوفاً أي علمه الرسولَ، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإِلهام فهو كقوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٣ و١٩٤].
وقوله: «شَدِيدُ القُوَى» قيل: هو جبريل: وهو الظاهر. وقيل: الباري تعالى لقوله: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن﴾ [الرحمن: ١ و٢] و «شَدِيدُ القُوَى» من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية. والقُوَى جمع القُوَّة.
قوله: «ذُو مِرَّة» المرة القوة والشدة. ومنه: أَمْرَرْتُ الحَبْلَ أي أحكمت فَتْلَهُ. والمَرِيرُ: الحَبْلُ، وكذلك المَمَرُّ كأنه كرّر فَتْلَهُ مرةً بعد أُخْرَى.
وقال قطرب - (رَحِمَهُ اللَّهُ) -: «العرب تقول لكل جزل الرأي حَصِيف العَقْلِ: ذُو مِرَّةٍ» وأنشد - (رَحِمَهُ اللَّهُ) -:
٤٥٤٥ - وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا
وقال:
158
وقال الجوهري: والمِّرة أحد الطبائع الأربع. والمرة: القوة وشدة العقل أيضاً. ورجل مرير أي قريب ذو مرة قال:
٤٥٤٦ - قَدْ كُنْتَ قَبْلَ لِقَائِكمْ ذُو مِرَّةٍ عندي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزانُهُ
٤٥٤٧ - تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ وَحَشْوُ ثِيَابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ
وقال لقيط:
٤٥٤٨ - حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ مُرَّ العَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرعَا

فصل


ذو مرة ذو قوة وشدة في خلقه يعني جبريل قال ابن عباس: ذو مِرّة أي ذو منظر حسن. وقال مقاتل: وقيل: ذو كمال في العقل والدين ذو خلق طويل حسن. وقيل: ذو كمال في العقل والدين جميعاً. وقيل: ذو منظر وهيئة عظيمة. فإن قيل: قد تبين كونه ذا قوة بقوله: «شَدِيدُ القُوَى» فكيف قال بعده: ذو مرة إذا فسرنا المرَّة بالقوة؟!.
قال ابن الخطيب: وقوله هنا: ذُو قُوة بدل من «شَدِيدُ القُوَى» وليس وصفاً له تقديره: ذو قوة عظيمة. ووجه آخر وهو أن إفراد «قُوَى» بالذكر ربّما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خَصَّه الله بها، يقال فلانٌ كثيرُ المال وله مال لا يعرفه أحدٌ أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن. ثم قال: على أنَّا نَقُول: المراد ذو شدة وهي غير القوة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان رُبَّمَا تكون قواه شديدةً وفي جسمه حقارةٌ. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «شديد القوى» قوته في العلم وبقوله: «ذو مرة» أي شدة في جسمه فقدم العِلْميَّة على الجِسْمِيَّة كقوله تعالى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم﴾ [البقرة: ٢٤٧].
وقوله: «فَاسْتَوَى» يعني جبريل في خلقه. قال مكي: اسْتَوَى يقع للواحد وأكثر ما يقع من اثنين ولذلك جعل الفَرَّاءُ الضمير لاثنين.
قوله: ﴿وَهُوَ بالأفق الأعلى﴾ في الضمير وجهان:
159
أظهرهما: أنه مبتدأ و «بِالأُفُقِ» خبره. والضمير لجبريل أو للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. ثم في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أن هذه الجملة حال من فاعل «استوى». قاله مكي.
والثاني: أنها مستأنفة. أخبر الله تعالى بذلك.
والثالث: أن «وَهُوَ» معطوف على الضمير المستتر في «اسْتَوَى» وضمير «اسْتَوَى» و «هُوَ» لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قال البغوي في توجيه هذا القول: أكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف فيه فيقولون: اسْتَوَى هُوَ وَفُلانٌ وقَلَّ ما يقولون: اسْتَوَى وفُلاَنٌ. ونظير هذا قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ﴾ [النمل: ٦٧] عطف «الآباء» على المكنيّ في «كُنَّا» من غير إظهار «نَحْنُ». ومعنى الآية استوى جبريل ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليلة المعراج «بالأُفُقِ الأَعْلَى»، وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس.
وقيل: ضمير «استوى» لمحمد و «هو» لجبريل. وهذا الوجه الثاني يتمشى على قول الكوفيين لأن فيه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد، ولا فاصل.
وهذا الوجه منقول عن الفراء والطبري.
وإذَا قِيلَ: بأن الضميرين أعني «اسْتَوَى» و «هُوَ» لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها ﴿وهو بالأفق الأعلى﴾، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُرِيهُ نفسه في صورته التي جُبِلَ عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان بِحرَاءَ فطلع له جبريلُ من المَشْرِق فسدَّ الأرض من المَغْرِب، فخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَغْشِيًّا عليه فنزل جبريل في
160
صورة الآدميين فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فتدلى﴾.
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وقيل: معنى: «فَاسْتَوَى» أي استوى القرآن في صدره. وعلى هذا فيه وجهان:
أحدهما: فاستوى أي فاعتدل في قوته.
الثاني: في رسالته. نقله القرطبي عن المَاوَرْدِي. قال: وعلى هذا يكون تمام الكلام ذو مرة، وعلى الثاني شَدِيد القوى.
وقيل: اسْتَوَى أي ارتفع. وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: أنه جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي ارتفع إلى مكانه.
الثاني: أنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي ارتفع بالمعراج.
وقيل: معناه استوى أي الله عَزَّ وَجَلَّ استوى على العرش. قاله الحسن.
قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فتدلى﴾ التدلي: الامتداد من علو إلى سفل، فيستعمل في القرب من العلو قاله الفراء، وابن الأعرابي.
وقال الهذلي:
٤٥٤٩ - تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زَرْقُ حَمَامَةٍ لَه طِحْلِبٌ فِي مُنْتَهَى القَيْظِ هَامِدُ
وقال الشاعر:
٤٥٥٠ -.......................... تَدَلَّى عَلَيْنَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَبْطَةٍ
161
ويقال: هُوَ كَالقِرِلَّى إنْ رأى خيراً تدلَّى وإن لم يَرَه تَوَلَّى.

فصل


في قوله: «دَنَا فَتَدَلَّى» وجوه:
أشهرها: أن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دنا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي بعد ما مد جَنَاحَهُ «وهو بالأفق» عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقَرُب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعلى هذا ففي «تَدَلَّى» وجوه:
الأول: فيه تقديم وتأخير أي تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
الثاني: أن الدُّنُوَّ والتَّدلِّي بمعنًى واحد فكأنه قال: دَنَا فَقَرُبَ.
وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: (فَ) تدلى بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ودنا ولكنه جائزٌ إذا كان معنى الفعلين واحداً قدمتَ أيَّهُمَا شئتَ، فقلت: فَدَنَا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأَسَاءَ فَشَتَمَنِي؛ لأن الإساءة والشتم شيءٌ واحد وكذلك قوله:
﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾ [القمر: ١] أي انشق القمر واقْتَرَبَت الساعة.
الثالث: دنا أي قصد القرب من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وتحول عن المكان الذي كان فيه فتدلّى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
الوجه الثاني: أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دنا من الخلق والأمة وَلان لهم وصار كواحد منهم فتدلى أي تدلى إِليهم بالقول اللّين والدعاء بالرفق فقال: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ﴾ [الكهف: ١١٠].
الوجه الثالث: دَنَا منه ربه فقرب منه منزلته كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حكاية عن ربه تعالى: «مَنْ تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْراً تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ مَشَى إِلَيَّ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» وهذا إشارة إلى المنع المجازي.
قوله: «فَكان قَابَ» ها هنا مضافان محذوفان يُضْطَرُّ لتقديرهما أي فكان مقدارُ مسافةِ قربه منه مقدارَ مسافةِ قَاب.
وقد فعل أبو علي هذا في قول الشاعر:
٤٥٥١ -..........................
162
وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ خَزِيمَةَ إصْبَعَا
أي ذا مقدار مسافة إصبع.
والقابُ القَدْرُ؛ يقول: هذا قاب هذا أي قَدْرُهُ. ومثله القِيبُ والقَادُ والقِيدُ والقِيسُ. قال الزمخشري: وقد جاء التقدير بالقوْس والرّمح والسَّوْط والذّراع والباع والخُطْوة، والشّبر، والفَتْر، والإصبع ومنه: «لاَ صَلاةَ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ مِقْدَارَ رُمْحَيْنِ» وفي الحديث: «مِقْدَارُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَمَوْضِع قِدِّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، والقِدُّ السَّوْط. وألف «قاب» عن واو. نص عليه أبو البقاء. وأما قِيبٌ فلا دلالة فيه على كونها ياء لأن الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء كدِيمَةٍ وقِيمَةٍ.
وذكره الراغب أيضاً في مادة «قوب» إلا أنه قال في تفسيره: هو ما بين المِقْبض والسِّيَة من القَوس. فعلى هذا يكون مقدار نصف القوس، لأن المقبض في نصفه والسّية هي العَرضة التي يحط فيها الوَتَر. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى.
ويروى عن مجاهد أنه من الوتر إلى مقبض القوس في وسطه. وقيل: إن القوس ذراعٌ يقاس به. نُقل ذلك عن ابن عباس (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) وأنه لغة للحجازيين (والشَّنُوئيّينَ)
163
والقوس معروفةٌ وهي مؤنثة وشذوا في تصغيرها فقالوا: قُوَيْسٌ من غير تأنيث كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ويجمع على قِسِيٍّ. وهو مقلوب من قُوُوس.
والقَوْسُ برج في السماء، فأما القُوسُ - بالضم - فصَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ قال الشاعر:
٤٥٥٢ - لاسْتَفْتَنَتْنِي وَذَا المِسْحَيْنِ فِي القُوسِ... قوله: «أَوْ أَدْنَى» هي كقوله: «أَوْ يَزِيدُونَ» ؛ لأن المعنى فكان يأخذ هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك.
و «أَدْنَى» أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي أو أَدْنَى مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ.

فصل


روى الشيبانيّ قال: سألت زِرًّا عن قوله تعالى: ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى﴾ قال: أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود أن محمداً رأى جبريل له ستمائة جَناح. فمعنى الآية: ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل إلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان منه قابَ قَوْسَيْن أو أدنى بل أدنى؛ وبهذا قال ابن عباس، والحسنُ، وقتادة. وقال آخرون: دَنَا الربُّ من محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى.
قال البغوي: وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس: ودنا الجبَّار ربُّ العزة فتدلى حتى كان قاب قوسي أن أدنى. وهذه رواية ابن سلمة عن ابن عباس.
وقال مجاهد: دنا جبريل من ربه. وقال الضحاك: دنا محمد من ربه. فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى. وتقدم الكلام على القاب. والقوس ما يرمى به في قول مجاهد، وعكرمة، وعطاء عن ابن عباس فأخبر أنه كان بين جبريل وبين
164
محمد - عليهما الصلاة والسلام - مقدارُ قَوْسَيْن. وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب، والأصل فيه أن الخَلِيفَتَيْن من العرب كانا إذا تعاقدا على الصفاء والعهد خرجا بقوسهما فألصقاهُ بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يُحَامِي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قَدْرَ ذراعين. وهو قول سعيدِ بنِ جبير، وشقيقِ بنِ سلمة، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء «أو أدنى» بل أقْرَبُ.
وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.
قوله: «فَاَوْحَى» أي أوحى الله وإن لم يَجْرِ له ذكر لعدم اللبس «إلى عبده» محمد. وقوله «مَا أَوْحَى» أبهمَ تعظيماً له ورفعاً من شأنه. وبهذه الآية استدل ابن مالك على أنه لا يشترط في الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب.
ومثله: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨] إلا أن هذا الشرط هو المشهور عند النحويين. والوحي هو إِلقاء الشيء بسرعة ومنه: الوحاء الوحاء.

فصل


في فاعل (أوحى) الأول وجهان:
أحدهما: أن الله تعالى أوحى. وعلى هذا ففي «عبده» وجهان:
أحدهما: أنه جبريل أي أوحى الله إلى جبريلَ، وعلى هذا (أيضاً) ففي فاعل أوحى «الأخير» وجهان:
أحدهما: أنه الله تعالى أيضاً. والمعنى حينئذ فأوحى الله تعالى إلى جبريل الذي أوحاه (الله) أبهمه تفخيماً وتعظيماً للموحِي.
ثانيهما: فاعل (أوحى) الثاني جبريل أي أوحى إلى جبريل ما أوحى جبريلُ. وعلى هذا فالمراد من الذي أوحى جبريل - عليه (الصلاة) والسلام - يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مبنياً وهو الذي أوحى جبريل إلى محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ).
165
وثانيهما: أن يكون عاماً أي أوحى الله إلى جبريل ما أوحى إلى كل رسول.
الوجه الثاني في (عبده) على قولنا: الموحِي هو الله: أنه محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه (للتفخيم والتعظيم.
الوجه الثاني في فاعل أوحى الأول: هو أنه جبريل أوحى إلى عبده أي عبد الله يعني محمداً ما أوحى إليه) ربه عَزَّ وَجَلَّ؛ قاله ابن عباس في رواية عطاء والكلبي والحسن والربيع وابن زيد. وعلى هذا ففي فاعل «أوحى» الثاني وجهان:
أحدهما: أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى جبريل للتفخيم.
وثانيهما: أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إِلى محمد ما أوحى الله إليه.

فصل


وفي الذي أوحى وجوه:
الأول: قال سعيد بن جبير أوحى الله إليه: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى﴾ [الضحى: ٦] إلى قوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤].
الثاني: أوحى إليه الصلاة.
الثالث: أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنَّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك.
الرابع: أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة.
الخامس: أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.
قوله: «مَا كَذَبَ» قرأ هشامٌ وأبو جَعْفَر بتشديد الذال والباقون بتخفيفها.
فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد بعينه صدَّقه قلبهُ ولم ينكره أي لم يقل: لم أعرفْكَ و (ما) مفعول به موصولة والعائد محذوف ففاعل (رأى) ضمير يعود على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وأما قراءة التخفيف فقيل كذلك. و «كَذَبَ» يتعدى بنفسه وقيل: هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه قاله مكي وغيره فأسقط حرف الصفة، قال حسان:
166
٤٥٥٣ - لَوْ كُنْتِ صَادِقَة الَّذِي حَدَّثْتِنِي لَنَجوْتُ مَنْجَى الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
أي في الذي حدثتني.
وجوز في (ما) وجهين آخرين:
أحدهما: أن يكون بمعنى الذي.
والثاني: أن تكون مصدرية ويجوز أن يكون فاعل (رأى) ضميراً يعود على الفؤاد أي لم يشك قلبه فيما رآه بعَيْنِهِ.

فصل


قال الزمخشري معناه: أن قلبه لم يكذب وما قال إن من يراه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباٌ فيما قاله فما كذب الفؤاد. هذا على قراءة التخفيف، يقال: كَذَبَهُ إِذَا قال له الكَذِبَ.
وأما قراءة التشديد فمعناه ما قال: إن المرئيَّ خيالٌ لا حقيقةٌ.
وأما الرائي فقيل: هو الفؤاد كأنه تعالى قال: ما كذب الفؤادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل: إنه هاجس شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح. وقيل: الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر خيال. وقيل: ما كذب الفؤاد وما رأى محمد - عليه الصلاةُ والسلامُ - وعلى هذا فالمراد بالفؤاد الجنس؛ أي القلوب شهدت بصحة ما رآه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وأمَّا المرئي فقيل: هو الرب تعالى. وقيل: جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: الآيات العجيبةُ الإلهيَّة. فالقائل بأن المرئي جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - هو ابنُ مسعودٍ وعائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومن قال بأن المرئيَّ هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده. وهو قول ابن عباس، قال: رآه بفؤاده مرتين ﴿مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى﴾ ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى﴾ [النجم: ١٣]. وقال أنس والحسن وعكرمة: رأى محمدٌ ربَّه بعينيه. وروى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: «إنَّ اللَّهَ
167
اصْطَفَى إبْرَاهيمَ بالخلَّةِ، واصْطَفَى مُوسَى بالكَلاَم، واصْطَفَى مُحَمَّداً بالرُّؤْيَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ». وكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - تقول: لم ير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ربه. وتحمل الرؤية على رؤية جبريل. وقال مسروق: قلت لعائشة: يا أمَّتاه هل رأى محمدٌ رَبَّه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ، من حَدَّثَكَ أنَّ محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأتْ: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الأنعام: ١٠٣] ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: ٥١] ومن حَدَّثَك أنه يَعْلم مَا في غَدٍ فقد كَذَب ثم قرأت: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ [لقمان: ٣٤] ومن حدّثك أنه كَتَم شيئاً مما أنْزل الله فقد كذب ثم قرأت: ﴿يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ الآية [المائدة: ٦٧] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. وروى أبو ذر قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هل رأيت ربك قط؟ قال: نُورٌ أنَّى أَرَاهُ».
قوله: «أَفَتُمَارُونه» قرأ الأخوان أَفَتَمْرُونَهُ بفتح التاء وسكون الميم، والباقون تُمَارُونَهُ. وعبد الله الشعبي أَفَتُمْرون بضم التاء وسكون الميم. فأما الأولى ففيها وجهان:
أحدهما: أنها من مَرَيْتُهُ حَقَّه إذا علمته وجَحَدتَهُ إياه، وعدي بعلى لتضمنه معنى الغلبة. وأنشد:
٤٥٥٤ - لَئِنْ هَجَوْتَ أَخَا صِدْقٍ ومَكْرُمَةٍ لَقَدْ مَرَيْتَ أَخاً مَا كَانَ يَمْرِيكَا
لأنه إذا جحده حقه فقد غلبه عليه.
وقال المبردُ يقال: مَرَاهُ عَنْ حَقِّه وعَلَى حَقِّه إذا مَنَعَهُ منه، قال: ومثلُ «على» بمعنى «عن» قول بني كعب بن ربيعة: «رَضِيَ اللَّه عَليكَ» ؛ أي: عَنْكَ.
والثاني: أنها من مَرَأَهُ على كذا أي غلبه عليه، فهو من المِرَاءِ وهو الجِدَالُ.
وأما الثانية: فهي من مَارَاه يُمَارِيه مراءً أي جَادَلَهُ.
واشتقاقه من مَرْي الناقة لأن كل واحد من المُتَجادِلَيْنِ يَمْرِي ما عند صاحبه. وكان من حقه أن يتعدى بفي كقولك: جَادَلْتهُ فِي كذا. وإنّما ضُمِّن معنى الغلبة. وأما قراءة عبد الله فمن أَمْراهُ رباعيًّا.
168

فصل


المعنى أفتجادلونه أي كيف تجادلونه على ما يرى، وذلك أنهم جادلوه حين أُسْرِيَ به فقالوا: صِفْ لنا بيتَ المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه والمعنى أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وتيقَّنه.
فإن قيل: هلا قيل: أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به كما تقدم وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع؟ فالجواب: أن التقدير أفتُمَارُونَه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه؟.
169
قوله :﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾ هذا جواب القسم، والمعنى : ما ضل صاحبكم يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما ضل عن طريق الهدى «وَمَا غَوَى » ذهب أكثر المفسرين إلى أن الضلال والغي بمعنى واحد. وفرق بعضهم بينهما قال : الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد، قال تعالى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرّشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغيّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ] وقال تعالى :﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرّشد مِنَ الغيّ ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ].
قال ابن الخطيب : وتحقيق القول فيه أن الضلال أعمّ استعمالاً في الوضع، تقول : ضَلَّ بَعِيرِي ورَحْلِي ولا تقول غيَّ١ ؛ فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً، والغواية أن لا يكون له طريق إِلَى القصد مستقيم، ومما يدل على هذا قولك للمؤمن الذي ليس على طريق السداد : إنَّه سَفِيهٌ غير رشيدٍ ولا تقول : إنه ضال فالضال كالكافر والغَاوي كالفاسق كأنه تعالى قال : ما ضَلَّ أي ما كفر ولا أقلّ من ذلك فما فسق أو يقال : الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.
قال : ويحتمل أن يكون المراد معنى قوله «مَا ضلَّ » أي ما جُنَّ فإنَّ المجنون ضالٌّ وعلى هذا فهو كقوله :﴿ والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ [ القلم : ١ و٢ ]. ومعنى صاحبكم إما سيدكم أو وصاحبكم ( مَا غَوَى ) أي ما تكلم بالباطل٢. وقيل : ما خاب والغَيّ الخيبة٣.
١ كذا في النسختين وفي الرازي: "غوى"..
٢ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٢٨٠..
٣ نقله إمام قرطبة في الجامع له ولم يحدده. انظر الجامع للقرطبي ١٧/٨٤..
قوله :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ﴾ أي ما يصدر عن الهوى نُطْقُهُ ( فعن ) على بابها. وقيل : بمعنى الباء١، أي ما ينطق بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا : إنَّ محمداً يقول القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
وفي فاعل ( يَنْطِقُ ) وجهان :
أحدهما : هو ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الظاهر.
والثاني : أنه ضمير القرآن كقوله تعالى :﴿ هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق ﴾ [ الجاثية : ٢٩ ].
واعلم أن في قوله تعالى :﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى ﴾ بصيغة الماضية وفي قوله :«وَمَا يَنْطِقُ » بصيغة المستقبل ترتيب في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تبعدون في صِغَرِهِ «وَمَا غَوَى » حين اختلى بنفسه ورأى في منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن يحث أُرْسِلَ إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً وصار الآن منقذاً من الضلالة مرشداً وهادياً٢.
١ ونسبه القرطبي لأبي عبيدة وهو له كما في المجاز ٢/٣٤٦. ومعظم المفسرين على أن (عن) على بابها..
٢ الرازي السابق ٢٨/٢٨٠ و٢٨١..
قوله تعالى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ﴾ إن هو أي إن الذي ينطق به. وقيل : إن القرآن إلا وحي من الله. وقوله :«يُوحَى » صفة لوحي. وفائدة المجيء بهذا الوصف أنه ينفي المجاز أي هو وحي حقيقة لا بمجرد تسمية كقولك : هَذَا قَوْلٌ يُقَالُ. وقيل : تقديره يُوحَى إليه. ففيه مزيدُ فَائدةٍ١.
نقل القُرْطُبِيُّ٢ عن السِّجِسْتَانِيِّ٣ أنه قال : إن شئت أبدلت ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى ﴾ من ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾. قال ابن الأنباريّ٤ : وهذا غلط، لأن «إنْ » الحقيقية لا تكون مبدلة من «ما » ؛ بدليل أنك لا تقول وَاللَّهِ مَا قُمْتُ إِنْ أنا لَقَاعِدٌ٥.

فصل


والوحي قد يكون اسماً ومعناه الكتاب، وقد يكون مصدراً وله معان منها الإِرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارَة والإفهام، وهذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجتهد، وهو خلافُ الظَّاهر فإِنَّه اجتهد في الحروب وأيضاً حرم في قوله تعالى :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ ﴾٦ وأذن قال تعالى :﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ]. قوله «عَلَّمَهُ » يجوز أن تكون هذه الهاء للرسول وهو الظاهر فيكون المفعول الثاني محذوفاً أي عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي الموحَى، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي فيكون المفعول الأول محذوفاً أي علمه الرسولَ، والوحي إن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإِلهام فهو كقوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ ﴾٧ [ الشعراء : ١٩٣ و١٩٤ ].
١ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٨٤..
٢ الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن التفسير الشهير والمعتمد عليه في بحثنا هذا وصاحب كتاب التذكرة والمتوفى سنة ٦٧١ هـ..
٣ هو أبو حاتم وقد مر ترجمته وذكره مرارا..
٤ الإمام أبو بكر الكوفي الشهير. وقد مرّ أيضا ترجمته..
٥ نقل تلك العبارات في الجامع القرطبي ١٧/٨٥..
٦ عبارة الرازي: وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى: ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ نقول: على ما ثبت لا تدل عليه الآية..
٧ قال بهذه الإعرابات الرازي في تفسيره ٢٨/٢٨٤..
وقوله :«شَدِيدُ القُوَى » قيل : هو جبريل : وهو الظاهر. وقيل : الباري تعالى لقوله :﴿ الرحمان عَلَّمَ القرآن ﴾ [ الرحمان : ١ و٢ ] و«شَدِيدُ القُوَى » من إضافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية١. والقُوَى جمع القُوَّة.
قوله :«ذُو مِرَّة » المرة القوة والشدة. ومنه : أَمْرَرْتُ الحَبْلَ أي أحكمت فَتْلَهُ. والمَرِيرُ : الحَبْلُ، وكذلك المَمَرُّ كأنه كرّر فَتْلَهُ مرةً بعد أُخْرَى.
وقال قطرب - ( رحمه الله ) ٢ - :«العرب تقول لكل جزل الرأي حَصِيف العَقْلِ : ذُو مِرَّةٍ » وأنشد - ( رحمه الله ) ٣ - :
وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا٤
وقال :
قَدْ كُنْتَ قَبْلَ لِقَائِكمْ ذُو مِرَّةٍ عندي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزانُهُ٥
وقال الجوهري : والمِّرة أحد الطبائع الأربع. والمرة : القوة وشدة العقل أيضاً. ورجل مرير أي قريب ذو مرة قال :
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ وَحَشْوُ ثِيَابِهِ أَسَدٌ مَرِيرُ٦
وقال لقيط :
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ مُرَّ العَزِيمَةِ لاَ رَتًّا وَلاَ ضَرعَا٧

فصل


ذو مرة ذو قوة وشدة في خلقه يعني جبريل قال ابن عباس : ذو مِرّة أي ذو منظر حسن. وقال مقاتل : وقيل : ذو كمال في العقل والدين ذو خلق طويل حسن. وقيل : ذو كمال في العقل والدين جميعاً. وقيل : ذو منظر وهيئة عظيمة. فإن قيل : قد تبين كونه ذا قوة بقوله :«شَدِيدُ القُوَى » فكيف قال بعده : ذو مرة إذا فسرنا المرَّة بالقوة ؟ !.
قال ابن الخطيب : وقوله هنا : ذُو قُوة بدل من «شَدِيدُ القُوَى » وليس وصفاً له تقديره : ذو قوة عظيمة. ووجه آخر وهو أن إفراد «قُوَى » بالذكر ربّما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خَصَّه الله بها، يقال فلانٌ كثيرُ المال وله مال لا يعرفه أحدٌ أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن. ثم قال : على أنَّا نَقُول : المراد ذو شدة وهي غير القوة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان رُبَّمَا تكون قواه شديدةً وفي جسمه حقارةٌ. ويحتمل أن يكون المراد بقوله :«شديد القوى » قوته في العلم وبقوله :«ذو مرة » أي شدة في جسمه فقدم العِلْميَّة على الجِسْمِيَّة كقوله تعالى :﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم ﴾٨ [ البقرة : ٢٤٧ ].
وقوله :«فَاسْتَوَى » يعني جبريل في خلقه. قال مكي٩ : اسْتَوَى يقع للواحد وأكثر ما يقع من اثنين ولذلك جعل الفَرَّاءُ الضمير لاثنين١٠.
قوله :﴿ وَهُوَ بالأفق الأعلى ﴾ في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ و«بِالأُفُقِ » خبره١١. والضمير لجبريل أو للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أن هذه الجملة حال من فاعل «استوى »١٢. قاله مكي١٣.
والثاني : أنها مستأنفة. أخبر الله تعالى بذلك.
والثالث : أن «وَهُوَ » معطوف على الضمير المستتر في «اسْتَوَى »١٤ وضمير «اسْتَوَى » و«هُوَ » إما أن يكونا لله تعالى. وهو قول الحسن١٥ وقيل : ضمير استوى لجبريل و " هو " لمحمد - صلى الله عليه وسلم -١٦. قال البغوي في توجيه هذا القول : أكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف فيه فيقولون : اسْتَوَى هُوَ وَفُلانٌ وقَلَّ ما يقولون : اسْتَوَى وفُلاَنٌ. ونظير هذا قوله عز وجل :﴿ أَئذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَا ﴾ [ النمل : ٦٧ ] عطف «الآباء » على المكنيّ في «كُنَّا » من غير إظهار «نَحْنُ ». ومعنى الآية استوى جبريل ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ليلة المعراج «بالأُفُقِ الأَعْلَى »، وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس١٧.
وقيل : ضمير «استوى » لمحمد و «هو » لجبريل١٨. وهذا الوجه الثاني يتمشى على قول الكوفيين١٩ لأن فيه العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير تأكيد، ولا فاصل. وهذا الوجه منقول عن الفراء٢٠ والطبري٢١.
وإذَا قِيلَ : بأن الضميرين أعني «اسْتَوَى » و«هُوَ » لجبريل فمعناه قام في صورته التي خلقه الله فيها ﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرِيهُ نفسه في صورته التي جُبِلَ عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى وهو جانب المشرق وذلك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان بِحرَاءَ فطلع له جبريلُ من المَشْرِق فسدَّ الأرض من المَغْرِب، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَغْشِيًّا عليه فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح التراب عن وجهه وهو قوله :﴿ ثُمَّ دَنَا فتدلى ﴾.
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلاَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم -٢٢.
وقيل : معنى :«فَاسْتَوَى » أي استوى القرآن في صدره. وعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : فاستوى أي فاعتدل في قوته.
الثاني : في رسالته. نقله القرطبي عن المَاوَرْدِي. قال : وعلى هذا يكون تمام الكلام ذو مرة، وعلى الثاني شَدِيد القوى.
وقيل : اسْتَوَى أي ارتفع. وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام - أي ارتفع إلى مكانه.
الثاني : أنه النبي - عليه الصلاة والسلام - أي ارتفع بالمعراج.
وقيل : معناه استوى أي الله عز وجل استوى على العرش. قاله الحسن٢٣.
١ أي ليست محضة فهي في تقدير الانفصال، كما تسمى إضافة لفظية والإضافة تلك المضاف فيها صفة تشبه المضارع في كونها مرادا بها الحال أو الاستقبال. وهذه الإضافة لا تفيد المضاف تعريفا وتسمى تلك الإضافة لفظية لأنها أفادت أمرا لفظيا وهو التخفيف بحذف التنوين وغير محضة كما سبق لأنها في تقدير الانفصال فإن المضاف فيها لا بد أن يكون وصفا عاملا وكثيرا ما يرفع ضميرا مستترا. بتصرف من "ضياء السّالك إلى أوضح المسالك" ٢/٣٢٤ إلى ٣٢٨..
٢ زيادة من (أ) الأصل..
٣ كذلك..
٤ هذا البيت من المتقارب وأنشده قطرب فما نقله أبو حيان في البحر ٨/١٥٤. والشاهد في "مُرّة" حيث معناها العقل الممتاز والقطع بالرأي القوي كما أوضح..
٥ من الكامل، ولم أعرف قائله، وشاهده: في "مِرّة" معناها حصافة العقل ورجاحته. انظر القرطبي ١٧/٨٦، وفتح القدير ٥/١٠٥..
٦ من الوافر للعباس بن مرادس وفي تاج العروس: وفي أثوابه رجل مزير. ويروى: أسد مزير.
والمزير: شديد القلب القوي النافذ في الأمور. وعلى الروايتين الأخيرتين لا شاهد، فالشاهد على الرواية الأولى حيث يراد بالمرير القوي، وانظر التاج "مرر" والقرطبي ١٧/٨٦، والصّحاح (م ر ر)..

٧ من البسيط للقيط بن زرارة. والرّتة ردة قبيحة في اللسان من العيب وما في الديوان: "لا قحما" والقحم الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف، والضّرع اللين الذليل والبيت بعد واضح. وانظر اللغة في اللسان والصحاح "مرر" والشاهد كسابقه في المريرة حيث أن معناها القوة وانظر القرطبي ١٧/٨٦..
٨ انظر تفسير الرازي ٢٨/٢٨٥..
٩ مشكل الإعراب له ٢/٣٣٠..
١٠ من بقية كلامه وانظر معاني القرآن للفراء ٣/٩٥ والقرطبي ١٧/٨٥..
١١ والجملة حال من فاعل "استوى". وانظر التبيان ١١٨٦ والمشكل ٢/٣٣٠..
١٢ وهو قول أبي البقاء السابق أيضا..
١٣ مشكل الإعراب ٢/٣٣٠..
١٤ وضعف هذا أبو البقاء في التبيان السابق قال: إذ لو كان كذلك لقال تعالى: فاستوى هو وهو..
١٥ البحر المحيط ٨/١٥٧..
١٦ وهو مذهب الجمهور. وانظر البحر والكشف والتبيان المراجع السابقة..
١٧ معالم التنزيل للبغوي ٦/٢٥٦. وهذا الوجه جائز ولكنه قليل، وانظر معاني القرآن للفراء ٣/٩٥..
١٨ نقله في البحر ٨/١٥٨..
١٩ رجح الفراء في المعاني القول الأكثر مجيئا حيث يقول: "وأكثر كلام العرب أن يقولوا: استوى هو وأبوه ولا يكادون يقولون: استوى وأبوه. وهو جائز لأن الفعل مضمرا". انظر المعاني ٣/٩٥..
٢٠ معاني القرآن له ٣/٩٥..
٢١ جامع البيان له سورة النجم..
٢٢ نقل هذا الوجه بتفصيلاته وتقييداته الإمام البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٥٦، وكذلك الخازن في لباب التأويل ٦/٢٥٦..
٢٣ ذكر كل هذه الأقوال في الجامع الإمام القرطبي. انظر تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن ١٧/٨٧ و٨٨.
قوله :﴿ ثُمَّ دَنَا فتدلى ﴾ التدلي : الامتداد من علو إلى سفل، فيستعمل في القرب من العلو قاله الفراء١، وابن الأعرابي٢.
وقال الهذلي :
تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زَرْقُ حَمَامَةٍ لَه طِحْلِبٌ فِي مُنْتَهَى القَيْظِ هَامِدُ٣
وقال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَدَلَّى عَلَيْنَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَبْطَةٍ٤
ويقال : هُوَ كَالقِرِلَّى٥ إنْ رأى خيراً تدلَّى وإن لم يَرَه تَوَلَّى٦.

فصل


في قوله :«دَنَا فَتَدَلَّى » وجوه :
أشهرها : أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أي بعد ما مد جَنَاحَهُ «وهو بالأفق » عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقَرُب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا ففي «تَدَلَّى » وجوه :
الأول : فيه تقديم وتأخير أي تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني : أن الدُّنُوَّ والتَّدلِّي بمعنًى واحد فكأنه قال : دَنَا فَقَرُبَ٧.
وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله :( فَ ) تدلى بمعنى الواو٨، والتقدير : ثم تدلى جبريل - عليه الصلاة والسلام - ودنا ولكنه جائزٌ إذا كان معنى الفعلين واحداً قدمتَ أيَّهُمَا شئتَ، فقلت : فَدَنَا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأَسَاءَ فَشَتَمَنِي ؛ لأن الإساءة والشتم شيءٌ واحد٩ وكذلك قوله :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ [ القمر : ١ ] أي انشق القمر واقْتَرَبَت الساعة.
الثالث : دنا أي قصد القرب من محمد - عليه الصلاة والسلام - وتحول عن المكان الذي كان فيه فتدلّى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - دنا من الخلق والأمة وَلان لهم وصار كواحد منهم فتدلى أي تدلى إِليهم بالقول اللّين والدعاء بالرفق فقال :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ ﴾ [ الكهف : ١١٠ ].
الوجه الثالث : دَنَا منه ربه فقرب منه منزلته كقوله - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن ربه تعالى :«مَنْ تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْراً تَقَرَّبْتَ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَمَنْ مَشَى إِلَيَّ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » وهذا إشارة إلى المنع المجازي.
١ قال في المعاني ٣/٩٥: "كأن المعنى ثم تدلى فدنا" ولم أجد ما قاله المؤلف بلفظه في المعاني له بينما قال في اللسان "دَلاَ": ولا يكون التدلي إلا من علوّ إلى استفال..
٢ المرجع السابق..
٣ من الطويل وهو لأسامة الهذلي كما في اللسان ولم ينسب في البحر. ورواية المؤلف كرواية البحر وفي اللسان "عليه" بدل "علينا" و"القيض" بدل القيظ. والشاهد في "تدلى" فمعناه أتى علينا من مكان. وانظر البيت في اللسان دلا ١٤١٨، والبحر ٨/١٥٤ وروح المعاني للآلوسي٢٧/٤٨..
٤ صدر بيت من الطويل عجزه:
بجرداء مثل الوكف يكبو غُرابها ..........................
وهو لأبي ذؤيب يصف مشتار العسل. والسّب الحبل. وقيل: الوتد. والخبطة رأس الجبل. يقول: إنه تدلى من رأس جبل على خلية عسل ليشتارها بحبل شده في وتد أثبته في رأس الجبل. وانظر البيت عجزا في الكشاف ٤/٢٨، واللسان "سبب"..

٥ طائر صغير..
٦ وانظر الكشاف ٤/٢٨..
٧ انظر الرازي ٢٨/٢٨٥ و ٢٨٦..
٨ الظاهر أنه يقصد (ثم)..
٩ بالمعنى من معاني الفراء ٣/٩٥..
قوله :«فَكان قَابَ » ها هنا مضافان محذوفان يُضْطَرُّ لتقديرهما أي فكان مقدارُ مسافةِ قربه منه مقدارَ مسافةِ قَاب.
وقد فعل أبو علي هذا في قول الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِنْ خَزِيمَةَ١ إصْبَعَا٢
أي ذا مقدار مسافة إصبع.
والقابُ القَدْرُ ؛ يقول : هذا قاب هذا أي قَدْرُهُ. ومثله القِيبُ والقَادُ والقِيدُ والقِيسُ. قال الزمخشري : وقد جاء التقدير بالقوْس والرّمح والسَّوْط والذّراع والباع والخُطْوة، والشّبر، والفَتْر، والإصبع ومنه :«لاَ صَلاةَ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ مِقْدَارَ رُمْحَيْنِ » وفي الحديث :«مِقْدَارُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ وَمَوْضِع قِدِّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا »، والقِدُّ السَّوْط٣. وألف «قاب » عن واو. نص عليه أبو البقاء. وأما قِيبٌ٤ فلا دلالة فيه على كونها ياء لأن الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء كدِيمَةٍ وقِيمَةٍ.
وذكره الراغب أيضاً في مادة «قوب » إلا أنه قال في تفسيره : هو ما بين المِقْبض والسِّيَة٥ من القَوس٦. فعلى هذا يكون مقدار نصف القوس، لأن المقبض في نصفه والسّية٧ هي العَرضة التي يحط فيها الوَتَر. وفيما قاله نظرٌ لا يخفى.
ويروى عن مجاهد أنه من الوتر إلى مقبض القوس في وسطه. وقيل : إن القوس ذراعٌ يقاس به. نُقل ذلك عن ابن عباس ( - رضي الله عنهما٨ - ) وأنه لغة للحجازيين ( والشَّنُوئيّينَ )٩ والقوس معروفةٌ١٠ وهي مؤنثة وشذوا في تصغيرها فقالوا : قُوَيْسٌ من غير تأنيث كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ويجمع على قِسِيٍّ. وهو مقلوب١١ من قُوُوس١٢.
والقَوْسُ برج في السماء١٣، فأما القُوسُ - بالضم - فصَوْمَعَةُ الرَّاهِبِ١٤ قال الشاعر :
لاسْتَفْتَنَتْنِي وَذَا المِسْحَيْنِ فِي القُوسِ١٥ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله :«أَوْ أَدْنَى » هي كقوله :«أَوْ يَزِيدُونَ » ؛ لأن المعنى فكان يأخذ هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك.
و«أَدْنَى » أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف أي أو أَدْنَى مِنْ قَابِ قَوْسَيْنِ.

فصل


روى الشيبانيّ قال : سألت زِرًّا عن قوله تعالى :﴿ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ﴾ قال : أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود أن محمداً رأى جبريل له ستمائة جَناح. فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان منه قابَ قَوْسَيْن أو أدنى١٦ بل أدنى ؛ وبهذا قال ابن عباس، والحسنُ، وقتادة. وقال آخرون : دَنَا الربُّ من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى.
قال البغوي : وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبَّار ربُّ العزة فتدلى حتى كان قاب قوسي أن أدنى. وهذه رواية ابن سلمة عن ابن عباس.
وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه. وقال الضحاك : دنا محمد من ربه. فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى. وتقدم الكلام على القاب. والقوس ما يرمى به في قول مجاهد، وعكرمة، وعطاء عن ابن عباس فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - مقدارُ قَوْسَيْن. وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب، والأصل فيه أن الخَلِيفَتَيْن١٧ من العرب كانا إذا تعاقدا على الصفاء والعهد خرجا بقوسهما فألصقاهُ بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يُحَامِي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قَدْرَ ذراعين. وهو قول سعيدِ بنِ جبير، وشقيقِ بنِ سلمة، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء «أو أدنى » بل أقْرَبُ١٨.
وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب١٩.
١ كذا في القرطبي والكشاف والبحر وفي (ب)، بينما في (أ) مسافة. وهو تحريف..
٢ عجز بيت من الطويل صدره:
فأدرك إبقاء العرادة ظلعُها ***....................
وهو مختلف في قائله. ونسبه في شرح شواهد الكشاف لحسان "رضي الله عنه" وإبقاء الفرس ما تبقيه من العدو إلى أن تقرب من المقصد. والعَرَادة اسم فرس القائل. والظلع –بتسكين اللام- الغمز في المشي. والمعنى أنها لما وصلتني إلى العدو والذي هو خزيمة وبقي بيني وبينه قدر مسافة إصبع عرض لها طلع وهو داء في الرجل ففات مني وهرب. والشاهد: إصبعا فهنا مضاف محذوف أي مقدار مسافة إصبع فحذف. وانظر القرطبي ١٧/٨٩ والكشاف ٤/٢٩ وشرح شواهده ٤٥٣، وروح المعاني ٢٧/٤٨ والبحر ٨/١٥٨..

٣ وانظر الكشاف ٤/٢٨ وانظر اللسان قيب وقوب وقيس وقوس..
٤ قال في اللسان: والقِيب بمعنى القدر وعينها واو من قولهم: قوبوا في الأرض أي أثروا فيها بوطئهم ثم قال: "وقوّب الشيء قلعه من أصله وتقوّب الشيء إذا انقلع من أصله". وانظر اللسان قوب ٣٧٦٨..
٥ سِيَة القوس طرف قابِها، وقيل: رأسها. وقيل: ما اعوجّ من رأسها والنسب إليه سيويّ. وانظر اللسان سيا ٢١٧٣..
٦ مفردات الراغب قوب ٤١٤..
٧ في النسختين الشّية وهو تحريف. ولعل الناسخ ظن أن الشدة شين..
٨ زيادة من (أ) وانظر البحر ٨/١٥٨..
٩ ما بين القوسين سقط من (ب) وانظر القرطبي ١٧/٩١ قال: وهي لغة لبعض الحاجزيين. وقيل هي لغة أزد شنوءة..
١٠ في (ب) معروف..
١١ قلبا مكانيا..
١٢ على فُعول. وبعد القلب أصبح على "فُلوعٍ" بتقديم اللام على العين..
١٣ اللسان "قوس" ٣٧٧٤..
١٤ وقيل: رأس الصومعة. وقيل: موضع الراهب. وقيل: هو الراهب بعينه. وانظر المرجع السابق..
١٥ عجز بيت من البسيط لجرير وصدره:
لا وصل إذ صرفت هند ولو وقفت ***.........................
والشاهد: في كلمة القوس فمعناها صاحب الصومعة أو الراهب أو رأس الصومعة، وانظر البيت في الديوان ٣٩١، والقرطبي ١٧/٩١، واللسان قوس وبعد البيت:
قد كنت تربا لنا يا هند فاعتبري *** ماذا يريبك من شيبي وتقويسي
أي قد كنت تربا من أترابي، وشبت كما شبت فما بالك يريبك سيبي ولا يريبني شيبك؟!.

١٦ معالم التنزيل ٦/٢٥٦..
١٧ كذا في النسختين وفي البغوي: الحليفتين. وهو الأقرب والمراد..
١٨ وانظر في هذا تفسير العلامتين البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦/٢٥٧..
١٩ قاله القرطبي في الجامع ١٧/٩٠..
قوله :«فَأوْحَى » أي أوحى الله وإن لم يَجْرِ له ذكر لعدم اللبس «إلى عبده » محمد. وقوله «مَا أَوْحَى » أبهمَ تعظيماً له ورفعاً من شأنه. وبهذه الآية استدل ابن مالك على أنه لا يشترط في الصلة أن تكون معهودة١ عند المخاطب.
ومثله :﴿ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [ طه : ٧٨ ] إلا أن هذا الشرط هو المشهور عند النحويين٢. والوحي هو إِلقاء الشيء بسرعة ومنه : الوحاء الوحاء٣.

فصل


في فاعل ( أوحى ) الأول وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى أوحى. وعلى هذا ففي «عبده » وجهان :
أحدهما : أنه جبريل أي أوحى الله إلى جبريلَ، وعلى هذا ( أيضاً ) ٤ ففي فاعل أوحى «الأخير » وجهان :
أحدهما : أنه الله تعالى أيضاً. والمعنى حينئذ فأوحى الله تعالى إلى جبريل الذي أوحاه ( الله ) ٥ أبهمه تفخيماً وتعظيماً للموحِي.
ثانيهما : فاعل ( أوحى ) الثاني جبريل أي أوحى إلى جبريل ما أوحى جبريلُ. وعلى هذا فالمراد من الذي أوحى جبريل - عليه ( الصلاة ) ٦ والسلام - يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مبنياً وهو الذي أوحى جبريل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ٧.
وثانيهما : أن يكون عاماً أي أوحى الله إلى جبريل ما أوحى إلى كل رسول.
الوجه الثاني في ( عبده ) على قولنا : الموحِي هو الله : أنه محمد عليه الصلاة والسلام أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه ( للتفخيم٨ والتعظيم.
الوجه الثاني في فاعل أوحى الأول : هو أنه جبريل أوحى إلى عبده أي عبد الله يعني محمداً ما أوحى إليه ) ربه عز وجل ؛ قاله ابن عباس في رواية عطاء والكلبي والحسن والربيع وابن زيد. وعلى هذا ففي فاعل «أوحى » الثاني وجهان :
أحدهما : أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى جبريل للتفخيم.
وثانيهما : أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إِلى محمد ما أوحى الله إليه٩.

فصل


وفي الذي أوحى وجوه :
الأول : قال سعيد بن جبير أوحى الله إليه :﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى ﴾ [ الضحى : ٦ ] إلى قوله :﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [ الشرح : ٤ ].
الثاني : أوحى إليه الصلاة.
الثالث : أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنَّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك.
الرابع : أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة.
الخامس : أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل١٠.
١ إلا أن هذا غير لازم؛ لأن الموصول قد يراد به معهود فتكون صلته معهودة كقوله تعالى: ﴿وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه﴾..
٢ وانظر همع الهوامع للعلامة السيوطي ١/٨٥..
٣ يمد، ويقصر، ومعناه البدار البدار..
٤ زيادة للسياق..
٥ سقط من (ب)..
٦ زيادة من (أ)..
٧ زيادة من (أ)..
٨ ما بين القوسين كله ساقط من (أ) الأصل..
٩ وانظر هذه الأوجه في تفسير الرازي ٢٨/٢٨٨ والبغوي ٦/٢٧٥ والقرطبي في الجامع ١٧/٩١ وأبي حيان في البحر ٨/١٥٨..
١٠ ذكر هذه الأوجه مجتمعة، ونقلها المؤلف عنه معنى، الفخر الرازي في تفسيره السابق ٢٨/٢٨٧، ٢٨٨..
قوله :«مَا كَذَبَ » قرأ هشامٌ وأبو جَعْفَر بتشديد الذال والباقون بتخفيفها١.
فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد بعينه صدَّقه قلبهُ ولم ينكره أي لم يقل : لم أعرفْكَ و( ما ) مفعول به موصولة والعائد محذوف ففاعل ( رأى ) ضمير يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما قراءة التخفيف فقيل كذلك. و«كَذَبَ » يتعدى بنفسه وقيل : هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه قاله مكي٢ وغيره٣ فأسقط حرف الصفة، قال حسان :
لَوْ كُنْتِ صَادِقَة الَّذِي حَدَّثْتِنِي لَنَجوْتُ مَنْجَى الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ٤
أي في الذي حدثتني.
وجوز في ( ما ) وجهين٥ آخرين :
أحدهما : أن يكون بمعنى الذي.
والثاني : أن تكون مصدرية ويجوز أن يكون فاعل ( رأى ) ضميراً يعود على الفؤاد أي لم يشك قلبه فيما رآه بعَيْنِهِ٦.

فصل


قال الزمخشري معناه : أن قلبه لم يكذب وما قال إن من يراه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباٌ فيما قاله٧ فما كذب الفؤاد. هذا على قراءة التخفيف، يقال : كَذَبَهُ إِذَا قال له الكَذِبَ.
وأما قراءة التشديد فمعناه ما قال : إن المرئيَّ خيالٌ لا حقيقةٌ٨.
وأما الرائي فقيل : هو الفؤاد كأنه تعالى قال : ما كذب الفؤادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل : إنه هاجس شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح. وقيل : الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر خيال. وقيل : ما كذب الفؤاد وما رأى محمد - عليه الصلاةُ والسلامُ - وعلى هذا فالمراد بالفؤاد الجنس ؛ أي القلوب شهدت بصحة ما رآه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأمَّا المرئي فقيل : هو الرب تعالى. وقيل : جبريل - عليه الصلاة والسلام - وقيل : الآيات العجيبةُ الإلهيَّة. فالقائل بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - هو ابنُ مسعودٍ وعائشةُ - رضي الله عنهما - ومن قال بأن المرئيَّ هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده. وهو قول ابن عباس، قال : رآه بفؤاده مرتين ﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ﴾ ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾. وقال أنس والحسن وعكرمة : رأى محمدٌ ربَّه بعينيه. وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله٩ عنهما ) قال :«إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إبْرَاهيمَ بالخلَّةِ، واصْطَفَى مُوسَى بالكَلاَم، واصْطَفَى مُحَمَّداً بالرُّؤْيَةِ - صلى الله عليه وسلم ». وكانت عائشة - رضي الله عنها - تقول : لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم - ربه. وتحمل الرؤية على رؤية جبريل. وقال مسروق : قلت لعائشة : يا أمَّتاه هل رأى محمدٌ رَبَّه ؟ فقالت : لقد قفَّ شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ، من حَدَّثَكَ أنَّ محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأتْ :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ [ الشورى : ٥١ ] ومن حَدَّثَك أنه يَعْلم مَا في غَدٍ فقد كَذَب ثم قرأت :﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] ومن حدّثك أنه كَتَم شيئاً مما أنْزل الله فقد كذب ثم قرأت :﴿ يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ الآية [ المائدة : ٦٧ ] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. وروى أبو ذر قال :«سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك قط ؟ قال : نُورٌ أنَّى أَرَاهُ »١٠.
١ وهي سبعية متواترة. وانظر الكشف ٢/٢٩٤..
٢ المشكل له ٢/٣٣١..
٣ كأبي حيان في البحر ٨/١٥٨، والقرطبي في الجامع ١٧/٩٣..
٤ من الكامل له –رضي الله عنه- وهو في القرطبي ١٧/٩٣ وإعجاز القرآن للباقلاني ١٨٠. وشاهده: أن ما موصولة قد حذف حرف الجر الداخل عليها كما أخبر هو أعلى في التقدير، و"ما" هنا قبل التقدير في موضع نصب على نزع الخافض..
٥ كذا في النسختين بالنصب فإن كان يقصد مكيًّا فهو كذب أو تكرير حيث تحدث قبل عن موصولية "ما"، وإن كان يقصد الرفع على نائب الفاعل فإن الكلمة تصبح خطأ..
٦ وانظر المشكل لمكي السابق ٢/٣٣١ والتبيان ١١٨٧..
٧ باللفظ من الرازي ٢٨/٢٨٩ وبالمعنى من الكشاف ٤/٢٩..
٨ وهو قول الرازي في مرجعه السابق..
٩ زيادة من (أ)..
١٠ وانظر في هذه الآثار تفسيري البغوي والخازن لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦/٢٥٧ إلى ٢٥٩..
قوله :«أَفَتُمَارُونه » قرأ الأخوان أَفَتَمْرُونَهُ بفتح التاء وسكون الميم، والباقون تُمَارُونَهُ. وعبد الله الشعبي أَفَتُمْرون بضم التاء وسكون الميم. فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : أنها من مَرَيْتُهُ حَقَّه إذا علمته وجَحَدتَهُ إياه، وعدي بعلى لتضمنه معنى الغلبة. وأنشد :
لَئِنْ هَجَوْتَ١ أَخَا صِدْقٍ ومَكْرُمَةٍ لَقَدْ مَرَيْتَ أَخاً مَا كَانَ يَمْرِيكَا٢
لأنه إذا جحده حقه فقد غلبه عليه.
وقال المبردُ يقال : مَرَاهُ عَنْ حَقِّه وعَلَى حَقِّه إذا مَنَعَهُ منه، قال : ومثلُ «على » بمعنى «عن » قول بني كعب بن ربيعة :«رَضِيَ اللَّه عَليكَ » ؛ أي : عَنْكَ٣.
والثاني : أنها من مَرَأَهُ على كذا أي غلبه عليه، فهو من المِرَاءِ وهو الجِدَالُ.
وأما الثانية : فهي من مَارَاه يُمَارِيه مراءً أي جَادَلَهُ. واشتقاقه من مَرْي٤ الناقة لأن كل واحد من المُتَجادِلَيْنِ يَمْرِي ما عند صاحبه. وكان من حقه أن يتعدى بفي كقولك : جَادَلْتهُ فِي كذا. وإنّما ضُمِّن معنى الغلبة. وأما قراءة عبد الله فمن أَمْراهُ رباعيًّا٥.

فصل


المعنى أفتجادلونه أي كيف تجادلونه على ما يرى، وذلك أنهم جادلوه حين أُسْرِيَ به فقالوا : صِفْ لنا بيتَ المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه والمعنى أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وتيقَّنه. ٦
فإن قيل : هلا قيل : أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به كما تقدم وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع ؟ فالجواب : أن التقدير أفتُمَارُونَه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه ؟٧.
١ روي هجرت كما في القرطبي..
٢ من البسيط ولم أعرف قائله: وجيء به على أن المري معناه الجحد. وانظر الكشاف ٤/٢٩ والقرطبي ١٧/٩٣ والبحر ٨/١٥٩ بلفظ "سخرت" وروح المعاني ٢٧/٤٩ وفتح القدير ٥/١٠٦..
٣ نقله في القرطبي ١٧/٩٣..
٤ والمري مسح ضرع الناقة لتدرّ..
٥ القراءتان الأوليان متواتران ذكرتا في الكشف ٢٣/٢٩٤، ٢٩٥ والبحر ٨/١٥٩ والقرطبي ١٧/٩٣ والسبعة ٦١٤ و٦١٥ والكشاف ٤/٢٩. وأما قراة عبد الله وأمثاله كالشعبي فهي شاذة وانظر البحر والكشاف في المرجعين السابقين ومختصر ابن خالويه ١٤٦. وقد نقل أبو حيان عن أبي حاتم تغليط تلك القراءة ولم يبين كل منهما وجه الغلط، وانظر تلك الاشتقاقات في اللسان (مرا) والكشف ٢/٢٩٤ و٢٩٥..
٦ قال بذلك البغوي والخازن والقرطبي في تفاسيرهم السابقة..
٧ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٩٠ و٢٩١..
قوله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى﴾ في نصب نزلة ثلاثة أوجه:
أحدها أنها منصوبة على الظرف؛ قال الزمخشري: نصب الظرف الذي هو «مَرَّةً» ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها. قال شهاب الدين: وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء نقله عنه مكي.
الثاني: أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال، قال مكي: أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى. وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ.
الثالث: أنه منصوب على المصدر المؤكد، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى.
قال شهاب الدين: وفي تأويل نزلة «برؤية» نظر، و «أخرى» تدل على سبق رؤية
169
قبلها و «عِنْدَ سِدْرَةِ» ظرف ل «رَآهُ» و «عِنْدَهَا جَنَّةُ» جملة ابتدائية في موضع الحال، والأحسن أن يكون الحال الظرف و «جنة المأوى» فاعل به. والعامة على (جَنَّة) اسم مرفوع. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب (جَنَّةُ) فعلاً ماضياً. والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى. وقيل: المعنى ضمَّه المبيت والليل، وقيل: جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه. قال ابن الخطيب: والضمير في قوله (عندها) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى.
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة. وقد ردت عائشة - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها. وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل﴾ [الأنعام: ٧٦].
وقال أبو البقاء: وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ.

فصل


والواو في (وَلَقَدْ) يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف
170
تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه؟
واعلم أن قوله: (نَزْلَةً) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ. واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه:
الأول: أن الضمير في (رآه) عائد إلى الله تعالى، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى. وهذا قول من قال في قوله ﴿مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى﴾ [النجم: ١١] هو الله تعالى. وقد قيل: بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى ربه بقلبه مرتين. وعلى هذا ففي النزول وجهان:
أحدهما: قول من يجوز على الله الحركة.
وثانيهما: أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ.
الثاني: أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى الله نزله أخرى، والمراد من النزلة ضدها، وهي العَرْجة كأنه قال: رآه عَرْجَةً أخرى قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -) نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ.
القول الثاني: أن الضمير في (رآه) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق (عليها) نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ﴿عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ قال ابن الخطيب: ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كما تقدم في العَرْجَانِ.

فصل


وقوله ﴿عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة. وقيل: في السماء السادسة، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال: «نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ».
وقيل: سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة. والسدرة كالركبة من الراكب. يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها، وما حار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى.
171
وهل قوله: ﴿عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع؟
قال ابن الخطيب: المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى. وقيل: ظرف زمان كما يقال: صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء. فهو عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه.
فإن قيل: هذا التأويل يبطل بقوله: ﴿يغشى السدرة ما يغشى﴾ فالجواب: أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته.
والصحيح الأول

فصل


إذا قِيلَ بأنَّ محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى. والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل: رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال (له) أينَ رأيتَهُ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية. وأما قول من قال: بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل. وإن قيل: بأن المرئي جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فظاهرٌ.

فصل


إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً:
أحدها: إضافة الشيء إلى مكانه كقولك: أشجار بلدةِ كَذَا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ قال هلال بْنُ يَسَار: سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله.
وقيل: ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. وقال كعب: ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ. وقال الربيع: ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقال قتادة: ينتهي إليها أرواح المؤمنين.
172
ثانيها: إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك: كتابُ الْفِقهِ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها مُنْتَهَى العلوم.
ثالثها: إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك: دَارُ زَيْدٍ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى﴾ [النجم: ٤٢] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح: يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ.

فصل


وجنة المأوى قيل: هي الجنة التي وعد بها المتقون، كقوله: ﴿دَارَ المقامة﴾ [فاطر: ٣٥]. وقيل: هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل: هي جنة الملائكة.
قوله: (إذْ يَغْشَى) منصوب ب (رَآهُ) وقوله: «مَا يَغْشَى» كقوله: ﴿مَآ أوحى﴾ [النجم: ١٠]. وقال ابن الخطيب العامل في (إذْ) ما قبلها أو ما بعدها؟ فيه وجهان:
فإنْ قلنا: ما قبلها ففيه احتمالان:
أظهرهما: «رآه» أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى.
والثاني: العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة، وغَشِيهَا مَا غشي.
وإن قلنا: العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه ﴿مَا زَاغَ البصر﴾ أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا.

فصل


اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل: فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والضحاك. قال القرطبي: وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح» ؛ وذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى﴾. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر وإلاَّ فلا وجه له.
وقيل: ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة.
173
وقيل: يغشاها أنوار الله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد. وقيل: أبهمه تعظيماً له. والْغشَيَانُ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي، ويكون بمعنى الإتيان، يقال: فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني.

فصل


قال المارودي في معاني القرآن: قيل: لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قال: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظلٍّ مديدٍ، وطعمٍ لذيذٍ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره.
وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال: هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار.
قوله: ﴿مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى﴾ اللام في البصر يحتمل وجهين:
أحدهما: المعروف أي ما زاغ بصرُ محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وعلى هذا فقدم الزيغ لوجوه إن قيل: بأن الغَاشِيَ للسدرة هو الجرادُ والفَرَاشُ فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غَشَيَانُ الجراد والفراش ابتلاءً وامتحاناً لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنْ قِيلَ إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان:
أحدهما: معناه لم يلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً بل اشتغل بمطالعتها.
والثاني: ما زاغ البصر بصَعْقَة، بخلاف موسى - «عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأول بيان أدبِ محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي الثاني بيان قُوَّتِهِ.
الوجه الثاني: لتعريف الجنس أي ما زاغ بَصَرُهُ أصلاً في ذلك الوضع لِعظمِ هَيْبَتِهِ.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ما زاغ بصرٌ، فإنه أدل على العموم، لأن النكرة في مَعْرِضِ النفي تَعُمُّ.
174
فالجواب: هو كقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار﴾ [الأنعام: ١٠٣] ولم يقل: ولم يدرك له بَصَر.
قوله: (وَمَا طَغَى) فيه وجهان:
الأول: أنه عطفُ جملةٍ مستقلة على جملةٍ أخرى.
والثاني: أنه عطف جملة مقدرة على جملة. فمثال المستقلة: خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ عَمْرو. ومثال المقدرة خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ. والوجهان جائزانِ هنا.
أما الأول: فكأنه تعالى قال عند ظهور النور: مَا زَاغَ بصرُ محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما طغى مُحَمَّد بسبب الالتفات ولو التفت لكان طاغياً.
وأما الثاني: فظاهر. فإن قيل: بأن الغاشي للسِّدْرة جرادٌ فالمعنى لم يلتفت إليه وما طغى أي لم يلتفت إلى غير الله ولم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد بل إلى اللَّه تَعَالَى.
وإن قيل: غَشِيَها نُورٌ فقوله: «ما زاغ» أي ما مال عن الأنوار «وما طغى» أي ما طلب شيئاً وراءه. وفيه لطيفة وهي أن تكون ذَانِك بياناً لوصول محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه وذلك أن بصر محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما زاغ أي ما مال عن الطريق فلم يَرَ الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ثم ينظر إلى شيءٍ أبيضَ فإنه يراه أصفَر أو أخْضَرَ يزيغ بصره عن جَادَّة الإبصار، وقوله: «وَمَا طَغَى» أي ما تخيل المعدوم موجوداً.
وقيل: «وما طغى» أي ما جاوز ما أُمِرَ بِهِ.
قوله: ﴿لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى﴾ في «الكبرى» وجهان:
أظهرهما: أنها مفعول (رأى) و (من آياتِ ربه) حال مقدرة، والتقدير لقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه.
والثاني: أن ﴿مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ﴾ هو مفعول الرؤية و «الكُبْرَى» صفة «لآيات ربه». وهذا الجمع يجوز وصفه بوصف المؤنثة الواحدة، وحسَّنَهُ هنا كونها فاصلة. وقد تقدم مثله في «طه» عند قوله ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى﴾ [طه: ٢٣].
175
قال ابن الخطيب: في «الكُبْرَى» وجهان:
أحدهما: أنها صفة لمحذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه الآيَة الكُبْرَى.
ثانيهما: صفة لآيات ربه فيكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من آيات ربّه الكبرى آيةً أو شيئاً.

فصل


قال بعض المفسرين: آيات ربه الكبرى هي أنه رأى جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في صورته. قال ابن الخطيب: والظاهر أن هذه الآيات غير تِيكَ، لأن جبريلَ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسلامُ - وإن كان عظيماً، لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكةً أعظمَ منه. و «الكُبْرَى» تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال: رأى من آيات ربِّه آياتٍ هي أكبر الآيَاتِ.

فصل


قال المفسرون: رأى رَفْرَفاً أخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السماء. قال البيهقيُّ: الرفرف جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في صورته على رفرف، والرَّفْرَفُ البسَاط. وقيل: ثوبٌ كان يَلْبَسُهُ. وقال القرطبي: وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله تعالى: ﴿دَنَا فتدلى﴾ [النجم: ٨] أنه على التقديم والتأخير، أي تدلى الرفرف لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه قال: فَارَقَنِي جبريلُ وانْقَطَعت عَنّي الأَصْوَاتُ وسَمِعْتُ كَلاَمَ رَبِّي. فعلى هذا الرفرف ما يجلس عليه كالبسَاط ونَحْوِهِ.

فصل


قال ابن الخطيب (هذه الآية) تدل على أن محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات الله. وفيه خلاف. ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [الإسراء: ١] إلى أن قال: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ﴾ [الإسراء: ١] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظمَ ما يمكن فكان أكبر شيء هو الرؤية، فكان الأمر للرؤية.
176
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله :﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾ في نصب نزلة ثلاثة أوجه :
أحدها أنها منصوبة على الظرف ؛ قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو «مَرَّةً » ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها١. قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء٢ نقله عنه مكي٣.
الثاني : أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال٤، قال مكي : أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى. وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ٥.
الثالث : أنه منصوب على المصدر المؤكد، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى٦.
قال شهاب الدين : وفي تأويل نزلة «برؤية » نظر، و«أخرى » تدل على سبق رؤية قبلها٧ و«عِنْدَ سِدْرَةِ » ظرف ل «رَآهُ » و«عِنْدَهَا جَنَّةُ » جملة ابتدائية في موضع الحال٨، والأحسن أن يكون الحال الظرف و«جنة المأوى » فاعل به. والعامة على ( جَنَّة ) اسم مرفوع. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب ( جَنَّةُ ) فعلاً ماضياً٩. والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم.
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى. وقيل : المعنى ضمَّه المبيت والليل، وقيل : جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه. قال ابن الخطيب : والضمير في قوله ( عندها ) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى.
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة١٠. وقد ردت عائشة - ( رضي الله عنها ) ١١ هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها١٢. وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل١٣ إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾.
وقال أبو البقاء : وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ١٤. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ١٥.

فصل


والواو في ( وَلَقَدْ ) يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه١٦ ؟
واعلم أن قوله :( نَزْلَةً ) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ. واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه :
الأول : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى الله تعالى، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى. وهذا قول من قال في قوله ﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ﴾ هو الله تعالى. وقد قيل : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه مرتين. وعلى هذا ففي النزول وجهان :
أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة١٧.
وثانيهما : أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ.
الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى الله نزله أخرى، والمراد من النزلة ضدها، وهي العَرْجة كأنه قال : رآه عَرْجَةً أخرى١٨ قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )١٩ نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها. وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم٢٠ - رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ٢١.
القول الثاني : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق ( عليها ) ٢٢ نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ قال ابن الخطيب : ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم٢٣ - كما تقدم في العَرْجَانِ٢٤.

فصل


وقوله ﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة. وقيل : في السماء السادسة، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال :«نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ ».
وقيل : سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة. والسدرة كالركبة من الراكب. يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها، وما حار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى.
وهل قوله :﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع ؟
قال ابن الخطيب : المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى. وقيل : ظرف زمان كما يقال : صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء. فهو عليه الصلاة والسلام ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه.
فإن قيل : هذا التأويل يبطل بقوله :﴿ يغشى السّدرة ما يغشى ﴾ فالجواب : أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته.
والصحيح الأول٢٥

فصل


إذا قِيلَ بأنَّ٢٦ محمداً - عليه الصلاة والسلام - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى. والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل : رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال ( له )٢٧ أينَ٢٨ رأيتَهُ ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية. وأما قول من قال : بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل. وإن قيل : بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - فظاهرٌ٢٩.

فصل


إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك : أشجار بلدةِ كَذَا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ٣٠ قال هلال بْنُ يَسَار : سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله٣١. وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. وقال كعب : ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ. وقال الربيع : ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقال قتادة٣٢ : ينتهي إليها أرواح المؤمنين٣٣.
ثانيها : إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك : كتابُ الْفِقهِ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها٣٤ مُنْتَهَى العلوم.
ثالثها : إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك : دَارُ زَيْدٍ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال تعالى :﴿ وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح : يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ٣٥.

فصل


وجنة المأوى قيل : هي الجنة التي وعد بها المتقون، كقوله :﴿ دَارَ المقامة ﴾ [ فاطر : ٣٥ ]. وقيل : هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل : هي جنة الملائكة٣٦.
قوله :( إذْ يَغْشَى ) منصوب ب ( رَآهُ ) وقوله :«مَا يَغْشَى » كقوله :﴿ مَا أوحى ﴾ [ النجم : ١٠ ]. وقال ابن الخطيب العامل في ( إذْ ) ما قبلها أو ما بعدها ؟ فيه وجهان :

فإنْ قلنا : ما قبلها ففيه احتمالان :

أظهرهما :«رآه » أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى.
والثاني : العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة، وغَشِيهَا مَا غشي.
وإن قلنا : العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه ﴿ مَا زَاغَ البصر ﴾ أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا٣٧.

فصل


اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل : فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب٣٨. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والضحاك. قال القرطبي : وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح » ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ إِذْ يغشى السّدرة مَا يغشى ﴾٣٩. قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر٤٠ وإلاَّ فلا وجه له.
وقيل : ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ٤١ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة.
وقيل : يغشاها أنوار الله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد. وقيل : أبهمه تعظيماً له٤٢. والْغشَيَانُ٤٣ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي٤٤، ويكون بمعنى الإتيان، يقال : فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني.

فصل


قال المارودي في معاني القرآن : قيل : لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قال : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلٍّ مديدٍ، وطعمٍ لذيذٍ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال :«مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ » وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار٤٥.
١ قال: أي نزل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج. وانظر الكشاف ٤/٢٩..
٢ معاني القرآن له ٣/٩٧..
٣ قال في المشكل ٢/٣٣١: وهو عند الفراء نصب لأنه في موضع الظرف إذ معناه مرة أخرى..
٤ قال بذلك صاحب التبيان ١١٨٧ والقرطبي ١٧/٩٤..
٥ البحر ٨/١٥٩ ولكن أبا البقاء قال بالمصدر وأطلق..
٦ المرجع السابق..
٧ الدر المصون له مكتبة البلدية بالإسكندرية تحت رقم ١٣١٢ لوحة رقم ١١٢ و١١٣..
٨ قال بتلك الإعرابات صاحب التبيان في مرجعه السابق..
٩ قراءة شاذة ذكرها الإمام أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٩٣، وابن خالويه في المختصر ١٤٦، وإن كان الناسخ قد ضبطها خطأ حيث جعلها تاء لا هاءً. وهو خلاف المراد. انظر المختصر ١٤٦. وقد وردت تلك القراءة فيما نقله أبو الفتح عن أبي حاتم فيما نقله هو عن عائشة كما سيجيء الآن. انظر المحتسب ٢/٢٩٣..
١٠ وهو ترجيح الرازي فيما نقله في التفسير الكبير ٢٨/٢٩٢..
١١ زيادة من (أ)..
١٢ انظر المحتسب السابق فيما رواه أبو حاتم عن ابن عباس وآخرين..
١٣ فقد روى أبو حاتم فيما نقله ابن جني في المحتسب أن عبد الله بن قيس قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرؤها جنّهُ المأوى. المحتسب ٢/٢٩٣..
١٤ وانظر التبيان ١١٨٧..
١٥ عند الآية سالفة الذكر. أقول: والذي عليه أهل اللغة أن جنّه الليل. أدركه الليل وجن عليه الليل وأجنه ألبسه سوادَهُ، جنّ عليه الليل جنونا وجنانا وأجنّه إجناناً، والمعنى الجامع لتصريف (ج ن ن) أين وقعت إنما هو الاستخفاء والستر ومنه الجِنّ والجِنّة، والجانّ والجِنّان لاستتار الجن، ومنه المِجَنّ للتّرس لستره ومنه الجنين لاستتاره في الرحم ومنه الجنّذة لأنها لا تكون جنة حتى يكون الشجر فيها وذلك ستر لها والجَنَان روح القلب لاستتار ذلك. والجَنَن القبر وعليه بقية الباب، وانظر اللسان جَنَن والمحتسب ٢٠/٢٩٣ و٢٩٤..
١٦ وهو قول الرازي..
١٧ وهذا باطل..
١٨ الرازي ٢٨/٢٩١ معنى..
١٩ زيادة من (أ)..
٢٠ في (ب)-عليه الصلاة والسلام-..
٢١ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٥٩، ٢٥٨..
٢٢ في (أ) تلك اللفظ وقد سقطت من (ب)..
٢٣ في (ب) عليه السلام..
٢٤ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٢٩١ معنى..
٢٥ المرجع السابق بالمعنى أيضا..
٢٦ في (ب) إن، دون الباء..
٢٧ سقط من (ب)..
٢٨ في (ب) والرازي: أين ما كتب أعلى وفي (أ) أنت والتصحيح من (ب) والرازي..
٢٩ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٢٩٢..
٣٠ المرجع السابق..
٣١ البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٥٩..
٣٢ في (أ) بدل قتادة: تعالى. وهو لحن وتحريف..
٣٣ انظر هذه الأقوال في القرطبي ١٧/٩٥..
٣٤ في (ب) عندها كذلك وفي الرازي: عند سدرة بدون (ها)..
٣٥ قال بهذه الأوجه والاحتمالات الإمام الفخر في تفسيره ٢٨/٢٩٢..
٣٦ وانظر القرطبي ١٧/٩٦..
٣٧ تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/٢٩٣..
٣٨ وهو ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي كما سيجيء الآن..
٣٩ انظر القرطبي ١٧/٩٦..
٤٠ فلا يبعد من جواز التأويل..
٤١ وهو قريب لأن المكان مكان لا يتعداه الملك. وانظر الرازي ٢٨/٢٩٣..
٤٢ وانظر الرازي المرجع السابق..
٤٣ ضبطت غَشَيان وغِشْيَان بفتح الأول والثاني وكسره وسكون الثاني..
٤٤ للغواشي –جمع غاش- معان كثيرة، فهم السؤال الذين يغشون يرجون الفضل والثواب ومعناهم الأصدقاء والزوار ولها معان أخر ذكرها صاحب اللسان. وانظر اللسان غشا ٣٢٦١..
٤٥ انظر القرطبي ١٧/٩٧..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله :﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾ في نصب نزلة ثلاثة أوجه :
أحدها أنها منصوبة على الظرف ؛ قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو «مَرَّةً » ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها١. قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء٢ نقله عنه مكي٣.
الثاني : أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال٤، قال مكي : أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى. وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ٥.
الثالث : أنه منصوب على المصدر المؤكد، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى٦.
قال شهاب الدين : وفي تأويل نزلة «برؤية » نظر، و«أخرى » تدل على سبق رؤية قبلها٧ و«عِنْدَ سِدْرَةِ » ظرف ل «رَآهُ » و«عِنْدَهَا جَنَّةُ » جملة ابتدائية في موضع الحال٨، والأحسن أن يكون الحال الظرف و«جنة المأوى » فاعل به. والعامة على ( جَنَّة ) اسم مرفوع. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب ( جَنَّةُ ) فعلاً ماضياً٩. والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم.
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى. وقيل : المعنى ضمَّه المبيت والليل، وقيل : جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه. قال ابن الخطيب : والضمير في قوله ( عندها ) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى.
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة١٠. وقد ردت عائشة - ( رضي الله عنها ) ١١ هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها١٢. وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل١٣ إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾.
وقال أبو البقاء : وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ١٤. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ١٥.

فصل


والواو في ( وَلَقَدْ ) يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه١٦ ؟
واعلم أن قوله :( نَزْلَةً ) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ. واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه :
الأول : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى الله تعالى، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى. وهذا قول من قال في قوله ﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ﴾ هو الله تعالى. وقد قيل : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه مرتين. وعلى هذا ففي النزول وجهان :
أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة١٧.
وثانيهما : أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ.
الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى الله نزله أخرى، والمراد من النزلة ضدها، وهي العَرْجة كأنه قال : رآه عَرْجَةً أخرى١٨ قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )١٩ نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها. وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم٢٠ - رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ٢١.
القول الثاني : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق ( عليها ) ٢٢ نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ قال ابن الخطيب : ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم٢٣ - كما تقدم في العَرْجَانِ٢٤.

فصل


وقوله ﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة. وقيل : في السماء السادسة، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال :«نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ ».
وقيل : سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة. والسدرة كالركبة من الراكب. يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها، وما حار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى.
وهل قوله :﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع ؟
قال ابن الخطيب : المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى. وقيل : ظرف زمان كما يقال : صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء. فهو عليه الصلاة والسلام ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه.
فإن قيل : هذا التأويل يبطل بقوله :﴿ يغشى السّدرة ما يغشى ﴾ فالجواب : أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته.
والصحيح الأول٢٥

فصل


إذا قِيلَ بأنَّ٢٦ محمداً - عليه الصلاة والسلام - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى. والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل : رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال ( له )٢٧ أينَ٢٨ رأيتَهُ ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية. وأما قول من قال : بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل. وإن قيل : بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - فظاهرٌ٢٩.

فصل


إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك : أشجار بلدةِ كَذَا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ٣٠ قال هلال بْنُ يَسَار : سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله٣١. وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. وقال كعب : ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ. وقال الربيع : ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقال قتادة٣٢ : ينتهي إليها أرواح المؤمنين٣٣.
ثانيها : إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك : كتابُ الْفِقهِ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها٣٤ مُنْتَهَى العلوم.
ثالثها : إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك : دَارُ زَيْدٍ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال تعالى :﴿ وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح : يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ٣٥.

فصل


وجنة المأوى قيل : هي الجنة التي وعد بها المتقون، كقوله :﴿ دَارَ المقامة ﴾ [ فاطر : ٣٥ ]. وقيل : هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل : هي جنة الملائكة٣٦.
قوله :( إذْ يَغْشَى ) منصوب ب ( رَآهُ ) وقوله :«مَا يَغْشَى » كقوله :﴿ مَا أوحى ﴾ [ النجم : ١٠ ]. وقال ابن الخطيب العامل في ( إذْ ) ما قبلها أو ما بعدها ؟ فيه وجهان :

فإنْ قلنا : ما قبلها ففيه احتمالان :

أظهرهما :«رآه » أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى.
والثاني : العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة، وغَشِيهَا مَا غشي.
وإن قلنا : العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه ﴿ مَا زَاغَ البصر ﴾ أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا٣٧.

فصل


اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل : فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب٣٨. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والضحاك. قال القرطبي : وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح » ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ إِذْ يغشى السّدرة مَا يغشى ﴾٣٩. قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر٤٠ وإلاَّ فلا وجه له.
وقيل : ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ٤١ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة.
وقيل : يغشاها أنوار الله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد. وقيل : أبهمه تعظيماً له٤٢. والْغشَيَانُ٤٣ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي٤٤، ويكون بمعنى الإتيان، يقال : فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني.

فصل


قال المارودي في معاني القرآن : قيل : لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قال : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلٍّ مديدٍ، وطعمٍ لذيذٍ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال :«مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ » وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار٤٥.
١ قال: أي نزل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج. وانظر الكشاف ٤/٢٩..
٢ معاني القرآن له ٣/٩٧..
٣ قال في المشكل ٢/٣٣١: وهو عند الفراء نصب لأنه في موضع الظرف إذ معناه مرة أخرى..
٤ قال بذلك صاحب التبيان ١١٨٧ والقرطبي ١٧/٩٤..
٥ البحر ٨/١٥٩ ولكن أبا البقاء قال بالمصدر وأطلق..
٦ المرجع السابق..
٧ الدر المصون له مكتبة البلدية بالإسكندرية تحت رقم ١٣١٢ لوحة رقم ١١٢ و١١٣..
٨ قال بتلك الإعرابات صاحب التبيان في مرجعه السابق..
٩ قراءة شاذة ذكرها الإمام أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٩٣، وابن خالويه في المختصر ١٤٦، وإن كان الناسخ قد ضبطها خطأ حيث جعلها تاء لا هاءً. وهو خلاف المراد. انظر المختصر ١٤٦. وقد وردت تلك القراءة فيما نقله أبو الفتح عن أبي حاتم فيما نقله هو عن عائشة كما سيجيء الآن. انظر المحتسب ٢/٢٩٣..
١٠ وهو ترجيح الرازي فيما نقله في التفسير الكبير ٢٨/٢٩٢..
١١ زيادة من (أ)..
١٢ انظر المحتسب السابق فيما رواه أبو حاتم عن ابن عباس وآخرين..
١٣ فقد روى أبو حاتم فيما نقله ابن جني في المحتسب أن عبد الله بن قيس قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرؤها جنّهُ المأوى. المحتسب ٢/٢٩٣..
١٤ وانظر التبيان ١١٨٧..
١٥ عند الآية سالفة الذكر. أقول: والذي عليه أهل اللغة أن جنّه الليل. أدركه الليل وجن عليه الليل وأجنه ألبسه سوادَهُ، جنّ عليه الليل جنونا وجنانا وأجنّه إجناناً، والمعنى الجامع لتصريف (ج ن ن) أين وقعت إنما هو الاستخفاء والستر ومنه الجِنّ والجِنّة، والجانّ والجِنّان لاستتار الجن، ومنه المِجَنّ للتّرس لستره ومنه الجنين لاستتاره في الرحم ومنه الجنّذة لأنها لا تكون جنة حتى يكون الشجر فيها وذلك ستر لها والجَنَان روح القلب لاستتار ذلك. والجَنَن القبر وعليه بقية الباب، وانظر اللسان جَنَن والمحتسب ٢٠/٢٩٣ و٢٩٤..
١٦ وهو قول الرازي..
١٧ وهذا باطل..
١٨ الرازي ٢٨/٢٩١ معنى..
١٩ زيادة من (أ)..
٢٠ في (ب)-عليه الصلاة والسلام-..
٢١ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٥٩، ٢٥٨..
٢٢ في (أ) تلك اللفظ وقد سقطت من (ب)..
٢٣ في (ب) عليه السلام..
٢٤ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٢٩١ معنى..
٢٥ المرجع السابق بالمعنى أيضا..
٢٦ في (ب) إن، دون الباء..
٢٧ سقط من (ب)..
٢٨ في (ب) والرازي: أين ما كتب أعلى وفي (أ) أنت والتصحيح من (ب) والرازي..
٢٩ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٢٩٢..
٣٠ المرجع السابق..
٣١ البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٥٩..
٣٢ في (أ) بدل قتادة: تعالى. وهو لحن وتحريف..
٣٣ انظر هذه الأقوال في القرطبي ١٧/٩٥..
٣٤ في (ب) عندها كذلك وفي الرازي: عند سدرة بدون (ها)..
٣٥ قال بهذه الأوجه والاحتمالات الإمام الفخر في تفسيره ٢٨/٢٩٢..
٣٦ وانظر القرطبي ١٧/٩٦..
٣٧ تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/٢٩٣..
٣٨ وهو ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي كما سيجيء الآن..
٣٩ انظر القرطبي ١٧/٩٦..
٤٠ فلا يبعد من جواز التأويل..
٤١ وهو قريب لأن المكان مكان لا يتعداه الملك. وانظر الرازي ٢٨/٢٩٣..
٤٢ وانظر الرازي المرجع السابق..
٤٣ ضبطت غَشَيان وغِشْيَان بفتح الأول والثاني وكسره وسكون الثاني..
٤٤ للغواشي –جمع غاش- معان كثيرة، فهم السؤال الذين يغشون يرجون الفضل والثواب ومعناهم الأصدقاء والزوار ولها معان أخر ذكرها صاحب اللسان. وانظر اللسان غشا ٣٢٦١..
٤٥ انظر القرطبي ١٧/٩٧..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله :﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾ في نصب نزلة ثلاثة أوجه :
أحدها أنها منصوبة على الظرف ؛ قال الزمخشري : نصب الظرف الذي هو «مَرَّةً » ؛ لأن الفَعْلَةَ اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها١. قال شهاب الدين : وهذا ليس مذهب البصريين وإنما هو مذهب الفَرَّاء٢ نقله عنه مكي٣.
الثاني : أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال٤، قال مكي : أي رَآهُ نازلاً نَزْلَةً أُخْرَى. وإليه ذهب الحَوْفيُّ وابنُ عَطِيَّةَ٥.
الثالث : أنه منصوب على المصدر المؤكد، فقدره أبو البقاء مَرَّة أخرى أو رُؤْيةً أُخْرَى٦.
قال شهاب الدين : وفي تأويل نزلة «برؤية » نظر، و«أخرى » تدل على سبق رؤية قبلها٧ و«عِنْدَ سِدْرَةِ » ظرف ل «رَآهُ » و«عِنْدَهَا جَنَّةُ » جملة ابتدائية في موضع الحال٨، والأحسن أن يكون الحال الظرف و«جنة المأوى » فاعل به. والعامة على ( جَنَّة ) اسم مرفوع. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو الدَّرْدَاءِ وأبو هُرَيْرَة وابنُ الزبير وأنس وزِرّ بنُ حبيش ومحمد بن كعب ( جَنَّةُ ) فعلاً ماضياً٩. والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم.
والْمَأوَى فاعل بمعنى سَتَرَهُ إيواء الله تعالى. وقيل : المعنى ضمَّه المبيت والليل، وقيل : جنَّهُ بِظِلاَلِهِ ودخل فيه. قال ابن الخطيب : والضمير في قوله ( عندها ) على هذه القراءة عائد إلى النزلة أي عند النزلة جَنَّ محمداً المأوى.
والصحيح أنه عائد إلى السِّدرة١٠. وقد ردت عائشة - ( رضي الله عنها ) ١١ هذه القراءة وتبعها جماعةٌ وقالوا أجنَّ الله من قرأها١٢. وإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل١٣ إلى ردِّها ولكن المستعمل إنما هو أجنَّهُ رباعياً فإن استعمل ثلاثياً تعدى بعلى كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل ﴾.
وقال أبو البقاء : وهو شاذ والمستعمل أَجَنَّهُ١٤. وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الأَنْعَامِ١٥.

فصل


والواو في ( وَلَقَدْ ) يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال أي كيف تجادلونه فيما رآه وقد رآه على وجهٍ لا شك فيه١٦ ؟
واعلم أن قوله :( نَزْلَةً ) هي فَعْلَةٌ من النزول كجَلْسَةٍ من الجُلُوس فلا بدّ من نُزُولٍ. واختلفوا في ذلك النزول وفيه وجوه :
الأول : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى الله تعالى، أي رأى اللَّهَ نزلةً أخرى. وهذا قول من قال في قوله ﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ﴾ هو الله تعالى. وقد قيل : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بقلبه مرتين. وعلى هذا ففي النزول وجهان :
أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة١٧.
وثانيهما : أن النزول بمعنى القُرْبِ بالرَّحْمَةِ والفَضْلِ.
الثاني : أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى الله نزله أخرى، والمراد من النزلة ضدها، وهي العَرْجة كأنه قال : رآه عَرْجَةً أخرى١٨ قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - )١٩ نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَجَاتٌ في تلك الليلة لمسألة التخفيف من الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها. وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم٢٠ - رأى ربه بفؤاده مرتين. وعنه أنه رأى ربَّه بعيْنَيْهِ٢١.
القول الثاني : أن الضمير في ( رآه ) عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلةً أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق ( عليها ) ٢٢ نازلاً من السَّمَاء مرةً أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء ﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ قال ابن الخطيب : ويحتمل أن تكون النَّزْلَةُ لمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم٢٣ - كما تقدم في العَرْجَانِ٢٤.

فصل


وقوله ﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ المشهور أن السدرة شجرةٌ في السماء السابعة. وقيل : في السماء السادسة، كما ورد عنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه قال :«نَبْقُهَا كَقِلاَل هَجَرَ، وَوَرَقَهُا كَآذَان الفِيَلَةِ ».
وقيل : سدرة المنتهى الحيرة القصوى من السدرة. والسدرة كالركبة من الراكب. يعني عندها يَحَار العقل حيرةً لا حيرة فوقها، وما حار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما غاب ورَأَى مَا رَأَى.
وهل قوله :﴿ عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع ؟
قال ابن الخطيب : المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى. وقيل : ظرف زمان كما يقال : صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء. فهو عليه الصلاة والسلام ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه.
فإن قيل : هذا التأويل يبطل بقوله :﴿ يغشى السّدرة ما يغشى ﴾ فالجواب : أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته.
والصحيح الأول٢٥

فصل


إذا قِيلَ بأنَّ٢٦ محمداً - عليه الصلاة والسلام - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى. والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل : رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال ( له )٢٧ أينَ٢٨ رأيتَهُ ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية. وأما قول من قال : بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل. وإن قيل : بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - فظاهرٌ٢٩.

فصل


إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك : أشجار بلدةِ كَذَا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ٣٠ قال هلال بْنُ يَسَار : سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله٣١. وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. وقال كعب : ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ. وقال الربيع : ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقال قتادة٣٢ : ينتهي إليها أرواح المؤمنين٣٣.
ثانيها : إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك : كتابُ الْفِقهِ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها٣٤ مُنْتَهَى العلوم.
ثالثها : إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك : دَارُ زَيْدٍ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال تعالى :﴿ وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح : يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ٣٥.

فصل


وجنة المأوى قيل : هي الجنة التي وعد بها المتقون، كقوله :﴿ دَارَ المقامة ﴾ [ فاطر : ٣٥ ]. وقيل : هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل : هي جنة الملائكة٣٦.
قوله :( إذْ يَغْشَى ) منصوب ب ( رَآهُ ) وقوله :«مَا يَغْشَى » كقوله :﴿ مَا أوحى ﴾ [ النجم : ١٠ ]. وقال ابن الخطيب العامل في ( إذْ ) ما قبلها أو ما بعدها ؟ فيه وجهان :

فإنْ قلنا : ما قبلها ففيه احتمالان :

أظهرهما :«رآه » أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى.
والثاني : العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة، وغَشِيهَا مَا غشي.
وإن قلنا : العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه ﴿ مَا زَاغَ البصر ﴾ أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا٣٧.

فصل


اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل : فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب٣٨. وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والضحاك. قال القرطبي : وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :«رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح » ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ إِذْ يغشى السّدرة مَا يغشى ﴾٣٩. قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر٤٠ وإلاَّ فلا وجه له.
وقيل : ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ٤١ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة.
وقيل : يغشاها أنوار الله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصل إليها تجلّى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكًّا ولم تتحرك الشجرة، وخَرَّ موسى صَعِقاً ولم يتزلزل محمد. وقيل : أبهمه تعظيماً له٤٢. والْغشَيَانُ٤٣ يكون بمعنى التغطية والسَّتْر ومنه الغَوَاشِي٤٤، ويكون بمعنى الإتيان، يقال : فُلاَنٌ يَغْشَانِي كُلَّ وقت أي يأتِيني.

فصل


قال المارودي في معاني القرآن : قيل : لما اختيرت السدرةُ لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ؟ قال : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلٍّ مديدٍ، وطعمٍ لذيذٍ، ورائحة زكيةٍ فشابهت الإيمانَ الذي يجمع قولاً وعملاً ونيةً، فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو الدرداء عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال :«مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ » وسئل أبو الدرداء عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر بمعنى من قطع سدرة في فَلاَةٍ يستظل بها ابن السَّبيل والبهائم عبثاً وظُلْماً بغير حق يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار٤٥.
١ قال: أي نزل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج. وانظر الكشاف ٤/٢٩..
٢ معاني القرآن له ٣/٩٧..
٣ قال في المشكل ٢/٣٣١: وهو عند الفراء نصب لأنه في موضع الظرف إذ معناه مرة أخرى..
٤ قال بذلك صاحب التبيان ١١٨٧ والقرطبي ١٧/٩٤..
٥ البحر ٨/١٥٩ ولكن أبا البقاء قال بالمصدر وأطلق..
٦ المرجع السابق..
٧ الدر المصون له مكتبة البلدية بالإسكندرية تحت رقم ١٣١٢ لوحة رقم ١١٢ و١١٣..
٨ قال بتلك الإعرابات صاحب التبيان في مرجعه السابق..
٩ قراءة شاذة ذكرها الإمام أبو الفتح في المحتسب ٢/٢٩٣، وابن خالويه في المختصر ١٤٦، وإن كان الناسخ قد ضبطها خطأ حيث جعلها تاء لا هاءً. وهو خلاف المراد. انظر المختصر ١٤٦. وقد وردت تلك القراءة فيما نقله أبو الفتح عن أبي حاتم فيما نقله هو عن عائشة كما سيجيء الآن. انظر المحتسب ٢/٢٩٣..
١٠ وهو ترجيح الرازي فيما نقله في التفسير الكبير ٢٨/٢٩٢..
١١ زيادة من (أ)..
١٢ انظر المحتسب السابق فيما رواه أبو حاتم عن ابن عباس وآخرين..
١٣ فقد روى أبو حاتم فيما نقله ابن جني في المحتسب أن عبد الله بن قيس قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقرؤها جنّهُ المأوى. المحتسب ٢/٢٩٣..
١٤ وانظر التبيان ١١٨٧..
١٥ عند الآية سالفة الذكر. أقول: والذي عليه أهل اللغة أن جنّه الليل. أدركه الليل وجن عليه الليل وأجنه ألبسه سوادَهُ، جنّ عليه الليل جنونا وجنانا وأجنّه إجناناً، والمعنى الجامع لتصريف (ج ن ن) أين وقعت إنما هو الاستخفاء والستر ومنه الجِنّ والجِنّة، والجانّ والجِنّان لاستتار الجن، ومنه المِجَنّ للتّرس لستره ومنه الجنين لاستتاره في الرحم ومنه الجنّذة لأنها لا تكون جنة حتى يكون الشجر فيها وذلك ستر لها والجَنَان روح القلب لاستتار ذلك. والجَنَن القبر وعليه بقية الباب، وانظر اللسان جَنَن والمحتسب ٢٠/٢٩٣ و٢٩٤..
١٦ وهو قول الرازي..
١٧ وهذا باطل..
١٨ الرازي ٢٨/٢٩١ معنى..
١٩ زيادة من (أ)..
٢٠ في (ب)-عليه الصلاة والسلام-..
٢١ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٥٩، ٢٥٨..
٢٢ في (أ) تلك اللفظ وقد سقطت من (ب)..
٢٣ في (ب) عليه السلام..
٢٤ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٢٩١ معنى..
٢٥ المرجع السابق بالمعنى أيضا..
٢٦ في (ب) إن، دون الباء..
٢٧ سقط من (ب)..
٢٨ في (ب) والرازي: أين ما كتب أعلى وفي (أ) أنت والتصحيح من (ب) والرازي..
٢٩ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٢٩٢..
٣٠ المرجع السابق..
٣١ البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٥٩..
٣٢ في (أ) بدل قتادة: تعالى. وهو لحن وتحريف..
٣٣ انظر هذه الأقوال في القرطبي ١٧/٩٥..
٣٤ في (ب) عندها كذلك وفي الرازي: عند سدرة بدون (ها)..
٣٥ قال بهذه الأوجه والاحتمالات الإمام الفخر في تفسيره ٢٨/٢٩٢..
٣٦ وانظر القرطبي ١٧/٩٦..
٣٧ تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨/٢٩٣..
٣٨ وهو ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي كما سيجيء الآن..
٣٩ انظر القرطبي ١٧/٩٦..
٤٠ فلا يبعد من جواز التأويل..
٤١ وهو قريب لأن المكان مكان لا يتعداه الملك. وانظر الرازي ٢٨/٢٩٣..
٤٢ وانظر الرازي المرجع السابق..
٤٣ ضبطت غَشَيان وغِشْيَان بفتح الأول والثاني وكسره وسكون الثاني..
٤٤ للغواشي –جمع غاش- معان كثيرة، فهم السؤال الذين يغشون يرجون الفضل والثواب ومعناهم الأصدقاء والزوار ولها معان أخر ذكرها صاحب اللسان. وانظر اللسان غشا ٣٢٦١..
٤٥ انظر القرطبي ١٧/٩٧..

قوله :﴿ مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى ﴾ اللام في البصر يحتمل وجهين :
أحدهما : المعروف أي ما زاغ بصرُ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - وعلى هذا فقدم الزيغ لوجوه إن قيل : بأن الغَاشِيَ للسدرة هو الجرادُ والفَرَاشُ فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غَشَيَانُ الجراد والفراش ابتلاءً وامتحاناً لمحمد - عليه الصلاة والسلام - وإنْ قِيلَ إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان :
أحدهما : معناه لم يلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً بل اشتغل بمطالعتها.
والثاني : ما زاغ البصر بصَعْقَة، بخلاف موسى - «عليه الصلاة والسلام - » فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأول بيان أدبِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني بيان قُوَّتِهِ.
الوجه الثاني : لتعريف الجنس أي ما زاغ بَصَرُهُ أصلاً في ذلك الوضع لِعظمِ هَيْبَتِهِ.
فإن قيل : لو كان كذلك١ لقال : ما زاغ بصرٌ، فإنه أدل على العموم، لأن النكرة في مَعْرِضِ النفي تَعُمُّ.
فالجواب : هو كقوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ولم يقل : ولم يدرك له بَصَر٢.
قوله :( وَمَا طَغَى ) فيه وجهان :
الأول : أنه عطفُ جملةٍ٣ مستقلة على جملةٍ أخرى٤.
والثاني : أنه عطف جملة مقدرة على جملة. فمثال المستقلة : خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ عَمْرو. ومثال المقدرة خَرَجَ زَيْدٌ ودَخَلَ. والوجهان جائزانِ هنا.
أما الأول : فكأنه تعالى قال عند ظهور النور : مَا زَاغَ بصرُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وما طغى مُحَمَّد بسبب الالتفات ولو التفت لكان طاغياً.
وأما الثاني : فظاهر. فإن قيل : بأن الغاشي للسِّدْرة جرادٌ فالمعنى لم يلتفت إليه وما طغى أي لم يلتفت إلى غير الله ولم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد بل إلى اللَّه تَعَالَى.
وإن قيل : غَشِيَها نُورٌ فقوله :«ما زاغ » أي ما مال عن الأنوار «وما طغى » أي ما طلب شيئاً وراءه. وفيه لطيفة وهي أن تكون ذَانِك٥ بياناً لوصول محمد - عليه الصلاة والسلام - إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه وذلك أن بصر محمد - عليه الصلاة والسلام - ما زاغ أي ما مال عن الطريق فلم يَرَ الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ثم ينظر إلى شيءٍ أبيضَ فإنه يراه أصفَر أو أخْضَرَ يزيغ بصره عن جَادَّة الإبصار، وقوله :«وَمَا طَغَى » أي ما تخيل المعدوم موجوداً٦. وقيل :«وما طغى » أي ما جاوز ما أُمِرَ بِهِ٧.
١ أي لتعريف الجنس..
٢ أي فعرف أن المراد به الجنس. وانظر تفسير الرازي ٢٨/٢٩٣ و٢٩٤..
٣ وهي "وما طغى"..
٤ وهي "ما زاغ البصر"..
٥ في "ب" ذلك وكذا في الرازي..
٦ وانظر هذه كله في تفسير العلامة الرازي ٢٨/٢٩٤..
٧ نقله القرطبي دون نسبة لقائله وانظر الجامع له ١٧/٩٧..
قوله :﴿ لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ في «الكبرى » وجهان :
أظهرهما : أنها مفعول ( رأى ) و( من آياتِ ربه ) حال مقدرة، والتقدير لقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه.
والثاني : أن ﴿ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ﴾ هو مفعول الرؤية و«الكُبْرَى » صفة «لآيات ربه »١. وهذا الجمع يجوز وصفه بوصف المؤنثة الواحدة، وحسَّنَهُ هنا كونها فاصلة٢. وقد تقدم مثله في «طه » عند قوله ﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى ﴾ [ طه : ٢٣ ].
قال ابن الخطيب : في «الكُبْرَى » وجهان :
أحدهما : أنها صفة لمحذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه الآيَة الكُبْرَى.
ثانيهما : صفة لآيات ربه فيكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من آيات ربّه الكبرى آيةً أو شيئاً٣.

فصل


قال بعض المفسرين : آيات ربه الكبرى هي أنه رأى جبريل - عليه الصلاة والسلام - في صورته. قال ابن الخطيب : والظاهر أن هذه الآيات غير تِيكَ٤، لأن جبريلَ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسلامُ - وإن كان عظيماً، لكن ورد في الأخبار أن لله٥ ملائكةً أعظمَ منه. و«الكُبْرَى » تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال : رأى من آيات ربِّه آياتٍ هي أكبر الآيَاتِ٦.

فصل


قال المفسرون : رأى رَفْرَفاً أخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السماء. قال البيهقيُّ٧ : الرفرف جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - في صورته على رفرف، والرَّفْرَفُ البسَاط. وقيل : ثوبٌ كان يَلْبَسُهُ. وقال القرطبي : وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى :﴿ دَنَا فتدلى ﴾ أنه على التقديم والتأخير، أي تدلى الرفرف لمحمد - عليه الصلاة والسلام - ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه قال : فَارَقَنِي جبريلُ وانْقَطَعت عَنّي الأَصْوَاتُ وسَمِعْتُ كَلاَمَ رَبِّي. فعلى هذا الرفرف ما يجلس٨ عليه كالبسَاط ونَحْوِهِ.

فصل


قال ابن الخطيب ( هذه الآية ) ٩ تدل على أن محمداً - عليه الصلاة والسلام - لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات الله. وفيه خلاف. ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ إلى أن قال :﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ [ الإسراء : ١ ] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظمَ ما يمكن فكان أكبر شيء هو الرؤية، فكان الأمر للرؤية١٠.
١ أخذه الإمام أبو حيان نقلا عن الإمام الفخر في تفسيره كما سيجيء الآن، وانظر البحر ٨/١٦٠..
٢ أي كون الصفة "كبرى" فاصلة وآخر آية وتبتدئ بعدها آية أخرى..
٣ التفسير الكبير ٢٨/٢٩٥..
٤ كذا في النسختين وفي تفسيره: تلك..
٥ في (ب) الله ملكه..
٦ وانظر الرازي ٢٨/٢٩٥ السابق..
٧ سبق التعريف به..
٨ في القرطبي: ما يقعد ويجلس عليه. وانظر القرطبي ١٧/٩٨..
٩ ما بين القوسين تكملة من (ب)..
١٠ والمعنى من تفسير الرازي ٢٨/٢٩٥..
قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى﴾ لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك، فقوله: «أَفَرَاَيْتُمْ» إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما إذا ادعى ضعيفٌ الملكَ ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون: انْظُرُوا إلى هذا الذي يدعي المُلْكَ منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره فكذلك قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى﴾ أي كما هما فكيف تشركونهما بالله؟

فصل


والألف واللام في (اللات) زائدة لازمة، فأما قوله:
٤٥٥٥ -.......................... إلَى لاَتِهَا.....................
فحذفت للإضافة.
وقيل: هي والعزى علمان بالوَضْع، أو صفتان غَالِبَتَانِ؟ خلاف. ويترتب على ذلك جواز صدق «أَل» وعدمه.
فإن قلنا: إنهما ليسا وصفين في الأصل فلا تحذف منهما «أل». وإن قلنا: إنهما صفتان وإنّ «أَلْ» لِلَمْحِ الصفة جاز، وبالتقديرين «فأل» زائدة. وقال أبو البقاء: وقيل: هما صفتان غالبتان مثل الْحَارِث والْعَبَّاس فلا تكون أل زائدة. انتهى.
قال شهاب الدين: وهو غلط، لأن التي للمح الصفة منصوص على زيادتها بمعنى أنها لم تُؤْثِر تَعْريفاً. واختلف في تاء اللات، فقيل: أصل وأصله من لاَتَ يَلِيتُ فألفها عن ياء، فإن مادة «ل ي ت» موجودة. وقيل: زائدة وهي من لَوَى يَلْوِي، لأنهم
177
كانوا يلوون أعْنَاقَهُمْ إليها، أو يلتوون أي يَعْتَكِفُونَ عليها. وأصلها لَوْيَةٌ فحذفت لامها، فألفها على هذا (بدلٌ) من واو.
قال الزمخشري: هي فَعْلَة من لَوَى يَلْوِي، وعلى هذا فأصلها لوية فسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين، بقيت لَوْة فقلبت الواو ألفاً لفتح ما قبلها فصارت «لاَت». واخْتَلَف القُرَّاءُ في الوقف على تائها فوقف الكسائي عليها بالهاء. والباقون بالتاء. وهو مبني على القولين المتقدمين.
فمن اعتقد تاءها أصلية أَقرها في الوقت كتَاء بِنْتٍ، ومن اعتقد زيادتها وقف عليها هاءً.
قال ابن الخطيب: والتاء في اللات تاء تأنيث كما في المَنَاة لكنها تكتب ممطوطةً لئلا يوقف عليها فتصير هاءً فتشبه باسم (الله) فإن الهاء في (الله) أصلية ليست تاءَ تأنيث ووقف عليها فانقلبت هاءً.
واللاَّتُ اسمُ صنم. وقيل: كان لثقيف بالطائف. قاله قتادة. وقيل: بعُكَاظ. وقال زيد: بيت بنخلة. وقيل: صنم. ورجح ابن عطية الأول لقول الشاعر:
٤٥٥٦ - وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إلى لاَتِهَا بمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
والعامة على تخفيف تائها.
وقرأ ابن عباس، ومجاهدٌ، ومنصورُ بن المُعْتَمِر، وأبو الجَوْزَاء، وأبو صالح وابنُ كثير - في رواية - بتشديد التاء.
فقيل: هو رجل كان يَلِتُّ السَّوِيقَ، ويُطْعِمهُ الْحَاجَّ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل وكان يجلس عند حجر، فلما
178
مات سمي الحجر باسمه وعُبِدَ من دون الله.
وقال مجاهد: كان في رأس جبل له غنيمة يَسْلأُ منها السَّمْنَ ويأخذ منها الأَقطَ ويجمع رسلها ويتخذ منه حيساً فيطعم الحاج وكان ببطن النخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي: كان رجلاً من ثقيف يقال له: صَرْمَة بن غَنْم وكان يَسْلأُ السَّمن فيضعه على صخْرة، ثم تأتيه العرب فتلتُّ به أَسْوِقَتَهُمْ، فلما مات الرجل حَوَّلَتْهَا ثَقيفٌ إلى منازلها فعبدتها. وقال القرطبي: كانت صخرة مربَّعة وكان سَدَنَتُها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناءً، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها وبها كانت العربُ تسمّي زيدَ اللاتِ وتَيْمَ اللات، وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيفٌ. فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلِيًّا فَهَدَمَهَا وحَرَقَها بالنار، ثم اتخذ العرب العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالمُ بن سَعِيد.
والعزى: فعلى من العز وهي تأنيث الأعَزّ كالفُضْلَى والأَفْضَل. وهي اسم صنم. وقيل: شجرة كانت تُعبد.
قال مجاهد: هي شجرة كانت بغَطَفَان كانوا يعبدونها، فبعث النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالدَ بن الوليد فقطعها فجعل خالدٌ يضربُها بالفَأس ويقول:
٤٥٥٧ - يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَك إنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكَ
فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس، ناشرةً شعرها، تضرب رأسَها وتدعو بالوَيْل والثُّبُور فقتلها خالد.
وروي أَنَّ خالداً لما قطع الشجرة رجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: قد قَطَعْتُها، فقال: ما رأيت؟ قال: ما رأيت شيئاً. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ما بلغت. فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثَّ أصلها فخرجت منها امرأة عُرْيَانة فقتلَها، ثم رَجَعَ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: تلك العُزَّى، ولن تُعْبَدَ أبداً.
وقال الضحاك: هو صنم لغَطَفَان وضعها لهم سعدُ بن ظالم الغَطَفَانِيّ. وذلك أنه قَدِمَ مكة فرأى الصَّفَا والمَرْوَة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما فعاد إلى بطن نخلة وقال
179
لقومه: إن لأهلِ مكة الصَّفَا والمَرْوَةَ وليستَا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم ذلك، فأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذ من الصَّفا فقالَ: هذا الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة فقال: هذا المروة ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة وقال: هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحَجَريْن ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العُزَّى فقَطَعَها. وقال قتادة وابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف. وقال ابن جبير العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه.
قوله: (وَمَنَاةَ) قرأ ابن كثير: مَنَأَةَ بهمزة مفتوحة بعد الألف، والباقون بألف وحدها، وهي صخرة كانت تعبد من دون الله.
فأما قراءة ابن كثير فاشتقاقها من النَّوْءِ، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ووزنها حينئذ «مَفْعَلَة» فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة وأنشدوا على ذلك:
٤٥٥٨ - أَلا هَلْ أَتَى تَيْم بْنَ عَبْدِ مَنَاءَةٍ عَلَى النَّأيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ
وقد أنكر أبو عبيدة قراءة ابْنِ كثير، وقال: لم أسمع الْهَمْز.
قال شهاب الدين: قد سمعه غيرهُ، والبيت حجَّةٌ عليه. وأما قراءة العامة فاشتقاقها من مَنَى يَمْنِي أي صَبَّ لأن دِمَاءَ النَّسائك كانت تُصَبُّ عندَها، وأنشدوا لجرير:
٤٥٥٩ - أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الوَعِيدُ
وقال أبو البقاء: وألفه عن ياء كقولك: مَنَى يَمْنِي إذا قدر، ويجوز أن تكون من الواو، ومنه مَنَوَانِ فوزنها على قراءة القصر فَعَلَةٌ.
180

فصل


قال قتادة: مناة صخرة كانت لخُزَاعةَ بقَدِيد. وقالت عائشة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) في الأنصار كانوا يصلون لمناةَ فكانت حذو قَديدٍ. وقال ابن زيد: بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب. وقال الضحاك مناة صنم لهُذَيْل وخُزَاعَة تعبده أهل مكة. وقيل: اللاَّتُ والعُزَّى ومناة أصنامٌ مِنْ حجارةٍ كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
قوله: (الأُخْرَى) صفة لمَنَاةَ. قال أبو البقاء: و «الأُخْرَى» توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أُخْرَى.
وقال الزمخشري: والأخرى ذم وهي المتأخِّرة الوضيعة المقدار، كقوله: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٨] أي وُضَعاؤهم لأَشْرَافِهمْ. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لِلاَّتِ والْعُزَّى. انتهى.
وفيه نظر، لأن «الأخرى» إنما تدل على الغيرية، وليس فيها تعريض لمدح ولا ذمٍّ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيَّةٍ.
وقيل: الأخرى صفة للعُزَّى؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى. وقال الحُسَيْنُ بن الفَضْلِ: فيه تقديم وتأخير أي العزَّى الأُخْرَى، ومناة الثالثة. ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن الأصل عَدَمُهُ.

فصل


قال ابن الخطيب: فإنْ قِيلَ: إنما يقال: أَخَّرُوا «أُخْرى» إذا (تقدم) أول مشاركٌ للثاني فلا يقال جَاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ أُخْرَى فيلزم أن تكون العُزَّى ثالثةً!
فالجواب: قد يستعمل الآخر والأُخرى للذَّمِّ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة. واللات على صورة آدمّي. والعُزَّى شجرة وهي نبات. وقيل: صخرة جَمَاد وهي متأخرة عنهما. أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى. أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير. ومعنى الآية هل
181
رأيتم هذه الأصنام حقَّ الرؤية فَإنْ رأيتموها علمتم أنها لا تَصْلُحُ للإلهيَّةِ. والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد.

فصل


«أرأيت» بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه، والثاني: الجملة الاستفهامية من قوله: «ألَكُمُ الذَّكَرُ».
فإن قيل: لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول.
فالجواب: أن قوله «وَلَهُ الأُنْثَى» في قوة: له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هُنَّ أي تلك الأصنام.
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأسَ فاصلةٍ.
وقد جعل الزجاج المفعولَ الثَّانِي محذوفاً، فإنَّه قال: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالِفةِ. انتهى.
فعلى هذا يكون قوله (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) مُتعلِّقاً بما قبله من حيثُ المَعْنى لا من حيثُ الإعراب.
وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال: وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئيَّة، ولو كانت «أرأيت» التي هي استفتاء لم يتعد. وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها.
فإن قيل: ما فائدة الفاء في قوله: «أَفَرَأَيْتُمْ» وقد وردت في مواضعَ بغير فاء، كقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [الزمر: ٣٨] (و) ﴿أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ﴾ [فاطر: ٤٠].
فالجواب: لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال: أَفَرَأَيْتُمْ هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء
182
أي عقيب ما سمعتم من عَظَمَةِ آياتِ الله الكبرى ونفادِ أمْرِهِ في الملأ الأعلى وما تحت الثَّرى انظروا إلى اللات والعزى تَعْلَمُوا فَسَادَ ما ذهبتم إليه.
قوله تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى﴾ قال الكلبي: كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بناتِ الله.
قال ابن الخطيب: معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البناتِ ناقصاتٌ والبنون كاملونَ والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمةٌ جائرةٌ على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة؟
قوله: ﴿تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى﴾، «تلك» إشارة إلى محذوف تقديره تلكَ القِسْمَةُ قسمةٌ غير عادلةٍ. ويحتمل أن يقال: تلك النسبة؛ أي التي نسبوها إلى الله بأَنَّ له البناتِ. وقوله (إذَنْ) جواب نسبتهم البنات إلى الله.
وقوله: «ضيزَى» قرأ ابن كثير ضِئْزَى بهمزة ساكنة والباقون بياء ساكنة. وزيد بن عليّ ضَيْزَى بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فيحتمل أن تكون من ضَازَهُ يَضِيزُهُ إذا ضَامَهُ وجار عليه فمعنى ضِيزَى أي جائرة. وقال مجاهد ومقاتل: قِسْمَةٌ عَوْجَاءُ.
وقال الحسن: غير معتدلة، قال الشاعر:
٤٥٦٠ - ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمُ إذْ يَجْعَلُونَ الرَّأسَ كَالذَّنَبِ
وعلى هذا فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون صفة على «فُعْلَى» - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصحَّ الياء «كَبِيضٍ».
فإن قيل: وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضمّ الفاء؟ ولم لا قيل: إنَّها فِعْلَى بالكسر؟.
183
فالجواب: أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فِعْلَى - بكسر الفاء - إنما ورد بضَمِّها، نحو: حُبْلَى وأُنْثَى ورُبَّى وما أشبهه إلا أنه قد حكى غيره في الصِّفات ذلك؛ حكى ثعلب: مِشْيَةٌ حِيكَى. وَرُجلٌ كِيصَى، وحكى غيره: امرأةٌ عِزْهَى، وامرأة سِعْلَى. وهذا لا ينقض، لأن سيبويه يقول في حِيكَى وكِيصَى كقوله في ضِيزَى: لتصحَّ الياء.
وأما عِزْهَى وسِعْلَى فالمشهور فهيما عِزْهَاةٌ وسِعْلاَةٌ. وقال البغوي: ليس في كلام العرب فِعْلَى بكسر الفاء في النعوت إنما يكون في الإسماء مثل ذِكْرَى، وشِعْرَى.
والوجه الثاني: أن تكون مصدراً كَذِكْرَى.
قال الكسائي: يقال ضَازَ يَضِيزُ كَذكَرَ يَذْكُرُ، ويحتمل أن يكون من ضَأَزَهُ بالهمز - كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدالُ مثل هذه الهمزة ياء لكنها لغة التزمت فقرأوا بها.
ومعنى ضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ نَقَصَهُ ظلماً وجوراً.
وممن جوز أن تكون الياء بدلاً من همزة أبو عُبَيْدٍ وأن يكون أصلها ضُوزَى بالواو، لأنه سمع ضَازَه يَضُوزهُ ضُوزَى وَضَازهُ يَضِيزُهُ ضِيزَى وَضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ ضَأزاً، حكى ذلك كله الكسائي. وحكى أبو عبيد: ضِزْتُهُ وضُزْتُهُ بكسر الفاء وضمها فكسرت
184
الضاد من ضُوزَى، لأن الضمة ثقيلةٌ مع الواو. وفعلوا ذلك ليَتَوصَّلوا به إلى قلبِ الواو ياءً وأنشد الأخضر على لغة الهمزة:
٤٥٦١ - فَإنْ تَنْأَ عَنْهَا تَنْتَقِصْكَ وإنْ تَغِبْ فَسَهْمُكَ مَضْئُوزٌ وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
وضيزَى في قراءة ابن كثير مصدر وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لما تقدم عن سيبويه. فإن قيلَ: لِمَ لا قيلَ في ضيزى بالكسر والهمز إنّ أصله ضُيْزى بالضم فكسرت الفاء كما قيل فيها مع ألفها؟
فالجواب: أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنةِ.
وسمع منهم: ضُؤْزَى بضمِّ الضاد مع الواو والْهَمْزِ.
وأمَّا قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدراً وُصِفَ بِهِ كَدعوى وأن تكون صفة كسَكْرَى وعَطْشَى وغَضْبَى.
قوله: (إنْ هِيَ) في (هي) وجهان:
أحدهما: أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمياتٌ لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها، وأشد منافاة لها. وهذا على سبيل المبالغة والتجوز، كما يقال لتحقير إنسان: ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة كقوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ﴾ [يوسف: ٤٠].
الثاني: أن يكون ضمير الأسماء وهي اللاَّت والعُزَّى ومَنَاة، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سَمَّيْتُمُوها بهواكم وشهْوتكم ليس لكم على صحة تسميتها بُرهانٌ تتعلقون به.
قال أبو البقاء: «أَسْمَاءٌ» يجب أن يكون المعنى ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ، لقوله: «سَمَّيْتُمُوهَا» ؛ لأن الاسم لا يسمى.
185
فإن قيل: كيف قال: سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا؟
فالجواب: أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمُبْتَدِئ الواضع؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدئ؛ إذ لا مُقْتدى لَهُ.
فإن قيل: الأسماء لا تسمَّى وإنما يسمى بها فكيف قال: أسماء سميتموها؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال: أسماء وضعتموها، فاستعمل سَمَّيْتُمُوهَا استعمال وضَعْتُمُوهَا.
الثاني: لو قال: أسماءٌ سمَّيْتُم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها؛ لأن قول القائل: سميت به يستدعي دخُولاً آخر، تقول: سميتُ بزيدٍ ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً.
فإن قيل: هذا باطل بقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٣٦] حيث لم يقل: وَإنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام.
فالجواب: بَيْنَهما بونٌ عظيم؛ لأن هناك قال: سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله: سميتها واسمها بقوله: مريم، وأما ههنا فقال: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ﴾ موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم.
قوله: ﴿مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ أي حجة بما يقولون: إنها آلهة. واستعملت الباء في قوله (بِهَا) كقولك: ارْتَحَلَ فلاَنٌ بأهله ومَتَاعِهِ أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. كذلك ههنا قوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال: إن يتَّبعون إلاّ الظَّنَّ في قولهم: إنها آلهة.
قرأها العامة على الغيبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيِّه: إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا يلتفت إلى قولهم.
ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وفيه وجهان:
الأول: أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال: سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا: هذه الأسماء لم نضعها نحن، وإنَّما تلقيناها من آبائنا فقال: وسمَّاها آباؤكم وما يتبعون إلاَّ الظَّنَّ.
186
فإن قيل: كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي.
فالجواب: وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان (بعد) زمان الكلام كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ [الكهف: ١٨].
الثاني: أن يكون المراد عامة الكفار.
وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وعيسى بن عُمَر وابنُ وثاب: بالخطاب. وهو حسن موافقٌ.
فإن قيل: كيف ذمهم على اتِّباع الظَّنِّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حكاية عن الله تعالى أنه قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي؟»
فالجواب: أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العَالِم. وحروف العلم في تَقَالِيبِها فيها معنى الظهور منها لَمَعَ البَرْقُ إذا ظَهَرَ، ولَمَعَ الغَزَالُ إذا عَدا، وكذلك عَلِمت.
والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئرٌ ظنونٌ لا يدري أفيه ماءٌ أم لا؛ لخفاء الأمر فيه ودينٌ ظَنُونٌ. يخفى الأمر فيه فنقول: يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين، وأما الاعتقاد فليس كذلك، لأن اليقين لم يتعذّر علينا. وإلى هذا أشار بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى﴾ أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين. وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً. والله أعلم.
قوله: ﴿وَمَا تَهْوَى الأنفس﴾ نسق على (الظّن) و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي. والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان.
قوله: ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى﴾ يجوز أن يكون حالاً من فاعل (يَتَّبِعُونَ) أي يَتَّبَعُون الظنَّ وهوى النفس في حالٍ تُنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم. ويجوز أن يكون اعتراضاً فإن قوله: «أمْ للإِنْسَانِ» متصل بقوله: ﴿وَمَا تَهْوَى الأنفس﴾، وهي أم المنقطعة، فتقدر ببل والهَمْزَة على الصَّحِيح.
قال الزمخشري: ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان ما تمنى.
187

فصل


المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاَّ للَّهِ الواحد القهار.
﴿أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى﴾ أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام. ويحتمل أن يكون معناه: هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نَفْسُهُ.
قوله ﴿فَلِلَّهِ الآخرة والأولى﴾ أي ليس كما ظن وتمنى بل لله الآخرة والأولى لا يملك فيها أحدٌ شَيْئاً إلاَّ بإذنه.
188
قوله :( وَمَنَاةَ ) قرأ ابن كثير١ : مَنَأَةَ بهمزة مفتوحة بعد الألف، والباقون بألف٢ وحدها، وهي صخرة كانت تعبد من دون الله. فأما قراءة ابن كثير فاشتقاقها من النَّوْءِ، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ووزنها حينئذ «مَفْعَلَة » فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة وأنشدوا على ذلك :
أَلا هَلْ أَتَى تَيْم بْنَ عَبْدِ مَنَاءَةٍ عَلَى النَّأيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ٣
وقد أنكر أبو عبيدة قراءة ابْنِ كثير، وقال : لم أسمع الْهَمْز٤.
قال شهاب الدين : قد سمعه غيرهُ، والبيت حجَّةٌ عليه٥. وأما قراءة العامة فاشتقاقها من مَنَى يَمْنِي أي صَبَّ لأن دِمَاءَ النَّسائك كانت تُصَبُّ عندَها٦، وأنشدوا لجرير :
أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الوَعِيدُ٧
وقال أبو البقاء : وألفه عن ياء كقولك : مَنَى يَمْنِي إذا قدر، ويجوز أن تكون من الواو، ومنه مَنَوَانِ٨ فوزنها على قراءة القصر فَعَلَةٌ.

فصل


قال قتادة : مناة صخرة كانت لخُزَاعةَ بقَدِيد. وقالت عائشة ( رضي الله عنها )٩ في الأنصار كانوا يصلون لمناةَ فكانت حذو قَديدٍ. وقال ابن زيد : بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب. وقال الضحاك مناة صنم لهُذَيْل وخُزَاعَة تعبده أهل مكة. وقيل : اللاَّتُ والعُزَّى ومناة أصنامٌ مِنْ حجارةٍ كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
قوله :( الأُخْرَى ) صفة لمَنَاةَ١٠. قال أبو البقاء : و«الأُخْرَى » توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أُخْرَى١١.
وقال الزمخشري : والأخرى ذم وهي المتأخِّرة الوضيعة المقدار، كقوله١٢ :﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] أي وُضَعاؤهم لأَشْرَافِهمْ١٣. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لِلاَّتِ والْعُزَّى١٤. انتهى.
وفيه نظر، لأن «الأخرى » إنما تدل على الغيرية، وليس فيها تعريض لمدح ولا ذمٍّ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيَّةٍ.
وقيل : الأخرى صفة للعُزَّى ؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى١٥. وقال الحُسَيْنُ بن الفَضْلِ : فيه تقديم وتأخير أي العزَّى الأُخْرَى، ومناة الثالثة. ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن الأصل عَدَمُهُ١٦.

فصل


قال ابن الخطيب : فإنْ قِيلَ : إنما يقال : أَخَّرُوا «أُخْرى » إذا ( تقدم ) ١٧ أول مشاركٌ للثاني فلا يقال جَاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ أُخْرَى فيلزم أن تكون العُزَّى ثالثةً !
فالجواب : قد يستعمل الآخر والأُخرى للذَّمِّ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة. واللات على صورة آدمّي١٨. والعُزَّى شجرة وهي نبات. وقيل : صخرة جَمَاد وهي متأخرة عنهما. أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى. أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير١٩. ومعنى الآية هل رأيتم هذه الأصنام حقَّ الرؤية فَإنْ رأيتموها علمتم أنها لا تَصْلُحُ للإلهيَّةِ. والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد.

فصل


«أرأيت » بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه، والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله :«ألَكُمُ الذَّكَرُ ».
فإن قيل : لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول.
فالجواب : أن قوله «وَلَهُ الأُنْثَى » في قوة : له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هُنَّ أي تلك الأصنام. وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأسَ فاصلةٍ٢٠.
وقد جعل الزجاج المفعولَ الثَّانِي محذوفاً، فإنَّه قال : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالِفةِ. انتهى٢١.
فعلى هذا يكون قوله ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ ) مُتعلِّقاً بما قبله من حيثُ المَعْنى لا من حيثُ الإعراب٢٢.
وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال : وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئيَّة، ولو كانت «أرأيت » التي هي استفتاء لم يتعد٢٣. وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها.
فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله :«أَفَرَأَيْتُمْ » وقد وردت في مواضعَ بغير فاء، كقوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] ( و ) ﴿ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ ﴾ [ فاطر : ٤٠ ].
فالجواب : لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أَفَرَأَيْتُمْ هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عَظَمَةِ آياتِ الله الكبرى ونفادِ أمْرِهِ في الملأ الأعلى وما تحت الثَّرى انظروا إلى اللات والعزى تَعْلَمُوا فَسَادَ ما ذهبتم إليه٢٤.
قوله تعالى :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ﴾ قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بناتِ الله.
قال ابن الخطيب : معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البناتِ ناقصاتٌ والبنون كاملونَ والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمةٌ جائرةٌ على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة ؟٢٥
١ وهي قراءة ابن مُحيصِن أيضا وحُميد ومجاهد والسُّلمي والأعمش عن أبي بكر..
٢ وهما لغتان وانظر الإتحاف ٤٠٣ والقرطبي ١٧/١٠١..
٣ نسبه القرطبي لهَوبَر الحارثي بلفظ: "التّيم" بدل "تيم" و"الشيء" بدل "النأي". وشاهده: مدّ "مناة" هو جائز القصر والمد. وانظر البحر ٨/١٦١ وروح المعاني للألوسي ٢٧/٥٥، والقرطبي ١٧/١٠٢..
٤ لم أجده في المجاز له ٢/٢٣٦..
٥ وانظر الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٦..
٦ القرطبي ١٧/١٠١..
٧ من الوافر له وفي البحر: بأس تيم وفي الديوان تبيّن بدل تأمّل. والشاهد: في مناة فإن الهمز أصل ولكنهم قصروا لأن القصر أشهر. وانظر البحر ٨/١٦١ والديوان دار صادر ص ١٢٩، وفتح القدير ٥/١٠٨..
٨ التبيان ١١٨٨. رغم أنه يجوز: منيان وهو تثتية "من" وهو الكيل أو الميزان الذي يوزن به ولكن مَنَوان أعلى من مَنَيان. وانظر اللسان مني ٤٢٨٥..
٩ زيادة من (أ)..
١٠ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٦٣..
١١ التبيان ١١٨٨..
١٢ في (أ) كقولك. وفي الكشاف: كقوله تعالى..
١٣ وفيه لرؤسائهم وأشرافهم..
١٤ وانظر الكشاف ٤/٣٠..
١٥ نقله القرطبي في تفسيره ولم يحدد من قال به، انظر القرطبي ١٧/١٠٢.
١٦ وانظر المرجع السابق..
١٧ سقط من (ب) وقال الناسخ: كذا بياض من الأصل..
١٨ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٩٦..
١٩ الرازي والقرطبي السابقين..
٢٠ بالمعنى من البحر ٨/١٦١..
٢١ اللفظ لفظ أبي حيان في البحر ٨/١٦١ فقد قال في إعراب القرآن ٥/٧٢: كأن المعنى –والله أعلم –أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من دون الله عز وجل، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة –جل وعزّ- شيء؟..
٢٢ البحر السابق..
٢٣ البحر المحيط السابق أيضا وقد هاجم أبو حيان ابن عطية قائلا: "ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في "أرأيت إذا كان استفتاء" على اصطلاحه وهي التي بمعنى أخبرني". ويقصد بآية الأنعام قوله: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون﴾ من الآية ٤٠ منها..
٢٤ الرازي ٢٨/٢٩٦ و٢٩٧..
٢٥ بالمعنى من التفسير الكبير للرازي ٢٨/٢٩٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠:قوله :( وَمَنَاةَ ) قرأ ابن كثير١ : مَنَأَةَ بهمزة مفتوحة بعد الألف، والباقون بألف٢ وحدها، وهي صخرة كانت تعبد من دون الله. فأما قراءة ابن كثير فاشتقاقها من النَّوْءِ، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ووزنها حينئذ «مَفْعَلَة » فألفها عن واو وهمزتها أصلية وميمها زائدة وأنشدوا على ذلك :
أَلا هَلْ أَتَى تَيْم بْنَ عَبْدِ مَنَاءَةٍ عَلَى النَّأيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ٣
وقد أنكر أبو عبيدة قراءة ابْنِ كثير، وقال : لم أسمع الْهَمْز٤.
قال شهاب الدين : قد سمعه غيرهُ، والبيت حجَّةٌ عليه٥. وأما قراءة العامة فاشتقاقها من مَنَى يَمْنِي أي صَبَّ لأن دِمَاءَ النَّسائك كانت تُصَبُّ عندَها٦، وأنشدوا لجرير :
أَزَيْدَ مَنَاةَ تُوعِدُ يَا ابْنَ تَيْمٍ تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الوَعِيدُ٧
وقال أبو البقاء : وألفه عن ياء كقولك : مَنَى يَمْنِي إذا قدر، ويجوز أن تكون من الواو، ومنه مَنَوَانِ٨ فوزنها على قراءة القصر فَعَلَةٌ.

فصل


قال قتادة : مناة صخرة كانت لخُزَاعةَ بقَدِيد. وقالت عائشة ( رضي الله عنها )٩ في الأنصار كانوا يصلون لمناةَ فكانت حذو قَديدٍ. وقال ابن زيد : بيت كان بالمشلل تعبده بنو كعب. وقال الضحاك مناة صنم لهُذَيْل وخُزَاعَة تعبده أهل مكة. وقيل : اللاَّتُ والعُزَّى ومناة أصنامٌ مِنْ حجارةٍ كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
قوله :( الأُخْرَى ) صفة لمَنَاةَ١٠. قال أبو البقاء : و«الأُخْرَى » توكيد لأن الثالثة لا تكون إلا أُخْرَى١١.
وقال الزمخشري : والأخرى ذم وهي المتأخِّرة الوضيعة المقدار، كقوله١٢ :﴿ قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] أي وُضَعاؤهم لأَشْرَافِهمْ١٣. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم لِلاَّتِ والْعُزَّى١٤. انتهى.
وفيه نظر، لأن «الأخرى » إنما تدل على الغيرية، وليس فيها تعريض لمدح ولا ذمٍّ، فإن جاء شيء فلقرينة خارجيَّةٍ.
وقيل : الأخرى صفة للعُزَّى ؛ لأن الثانية أخرى بالنسبة إلى الأولى١٥. وقال الحُسَيْنُ بن الفَضْلِ : فيه تقديم وتأخير أي العزَّى الأُخْرَى، ومناة الثالثة. ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن الأصل عَدَمُهُ١٦.

فصل


قال ابن الخطيب : فإنْ قِيلَ : إنما يقال : أَخَّرُوا «أُخْرى » إذا ( تقدم ) ١٧ أول مشاركٌ للثاني فلا يقال جَاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ أُخْرَى فيلزم أن تكون العُزَّى ثالثةً !
فالجواب : قد يستعمل الآخر والأُخرى للذَّمِّ، فالمراد بالأخرى المتأخرة الذليلة. واللات على صورة آدمّي١٨. والعُزَّى شجرة وهي نبات. وقيل : صخرة جَمَاد وهي متأخرة عنهما. أو في الكلام حذف أي اللات والعزى المعبودين بالباطل ومناة الثالثة الأخرى. أو المعنى ومناة الأخرى الثالثة على التقديم والتأخير١٩. ومعنى الآية هل رأيتم هذه الأصنام حقَّ الرؤية فَإنْ رأيتموها علمتم أنها لا تَصْلُحُ للإلهيَّةِ. والمقصود إبطال الشركاء وإثبات التوحيد.

فصل


«أرأيت » بمعنى أخبرني فيتعدى لاثنين أولهما اللات وما عطف عليه، والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله :«ألَكُمُ الذَّكَرُ ».
فإن قيل : لم يعد من هذه الجملة ضمير على المفعول الأول.
فالجواب : أن قوله «وَلَهُ الأُنْثَى » في قوة : له هذه الأصنام وإن كان أصل التركيب ألكم الذكر وله هُنَّ أي تلك الأصنام. وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأسَ فاصلةٍ٢٠.
وقد جعل الزجاج المفعولَ الثَّانِي محذوفاً، فإنَّه قال : وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها فيقول أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها ربّ العزة في الآي السالِفةِ. انتهى٢١.
فعلى هذا يكون قوله ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ ) مُتعلِّقاً بما قبله من حيثُ المَعْنى لا من حيثُ الإعراب٢٢.
وجعل ابن عطية الرؤية هنا بصرية فقال : وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئيَّة، ولو كانت «أرأيت » التي هي استفتاء لم يتعد٢٣. وقد تقدم الكلام على ذلك في الأنعام وغيرها.
فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله :«أَفَرَأَيْتُمْ » وقد وردت في مواضعَ بغير فاء، كقوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ الزمر : ٣٨ ] ( و ) ﴿ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ ﴾ [ فاطر : ٤٠ ].
فالجواب : لما تقدم عظمة الله في ملكوته وأن رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أَفَرَأَيْتُمْ هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء لله مع ما تقدم فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عَظَمَةِ آياتِ الله الكبرى ونفادِ أمْرِهِ في الملأ الأعلى وما تحت الثَّرى انظروا إلى اللات والعزى تَعْلَمُوا فَسَادَ ما ذهبتم إليه٢٤.
قوله تعالى :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ﴾ قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون للأصنام والملائكة بناتِ الله.
قال ابن الخطيب : معناه كيف جعلتم لله البنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البناتِ ناقصاتٌ والبنون كاملونَ والله كامل العظمة فكيف نسبتم إليه الناقص وهو في غاية الذلة والحقارة حيث عبدتم الجماد من الحجارة والشجر ثم نسبتم إليكم الكامل فهذه قسمةٌ جائرةٌ على زعمكم وعادتكم لأنه كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم النقل والعقل والعادة ؟٢٥
١ وهي قراءة ابن مُحيصِن أيضا وحُميد ومجاهد والسُّلمي والأعمش عن أبي بكر..
٢ وهما لغتان وانظر الإتحاف ٤٠٣ والقرطبي ١٧/١٠١..
٣ نسبه القرطبي لهَوبَر الحارثي بلفظ: "التّيم" بدل "تيم" و"الشيء" بدل "النأي". وشاهده: مدّ "مناة" هو جائز القصر والمد. وانظر البحر ٨/١٦١ وروح المعاني للألوسي ٢٧/٥٥، والقرطبي ١٧/١٠٢..
٤ لم أجده في المجاز له ٢/٢٣٦..
٥ وانظر الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٦..
٦ القرطبي ١٧/١٠١..
٧ من الوافر له وفي البحر: بأس تيم وفي الديوان تبيّن بدل تأمّل. والشاهد: في مناة فإن الهمز أصل ولكنهم قصروا لأن القصر أشهر. وانظر البحر ٨/١٦١ والديوان دار صادر ص ١٢٩، وفتح القدير ٥/١٠٨..
٨ التبيان ١١٨٨. رغم أنه يجوز: منيان وهو تثتية "من" وهو الكيل أو الميزان الذي يوزن به ولكن مَنَوان أعلى من مَنَيان. وانظر اللسان مني ٤٢٨٥..
٩ زيادة من (أ)..
١٠ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٦٣..
١١ التبيان ١١٨٨..
١٢ في (أ) كقولك. وفي الكشاف: كقوله تعالى..
١٣ وفيه لرؤسائهم وأشرافهم..
١٤ وانظر الكشاف ٤/٣٠..
١٥ نقله القرطبي في تفسيره ولم يحدد من قال به، انظر القرطبي ١٧/١٠٢.
١٦ وانظر المرجع السابق..
١٧ سقط من (ب) وقال الناسخ: كذا بياض من الأصل..
١٨ بالمعنى من الرازي ٢٨/٢٩٦..
١٩ الرازي والقرطبي السابقين..
٢٠ بالمعنى من البحر ٨/١٦١..
٢١ اللفظ لفظ أبي حيان في البحر ٨/١٦١ فقد قال في إعراب القرآن ٥/٧٢: كأن المعنى –والله أعلم –أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من دون الله عز وجل، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة –جل وعزّ- شيء؟..
٢٢ البحر السابق..
٢٣ البحر المحيط السابق أيضا وقد هاجم أبو حيان ابن عطية قائلا: "ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في "أرأيت إذا كان استفتاء" على اصطلاحه وهي التي بمعنى أخبرني". ويقصد بآية الأنعام قوله: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون﴾ من الآية ٤٠ منها..
٢٤ الرازي ٢٨/٢٩٦ و٢٩٧..
٢٥ بالمعنى من التفسير الكبير للرازي ٢٨/٢٩٧..

قوله :﴿ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾، «تلك » إشارة إلى محذوف تقديره تلكَ القِسْمَةُ قسمةٌ غير عادلةٍ. ويحتمل أن يقال : تلك النسبة ؛ أي التي نسبوها إلى الله بأَنَّ له البناتِ. وقوله ( إذَنْ ) جواب نسبتهم البنات إلى الله١.
وقوله :«ضيزَى » قرأ ابن كثير ضِئْزَى بهمزة ساكنة والباقون بياء ساكنة٢. وزيد بن عليّ ضَيْزَى بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فيحتمل أن تكون من ضَازَهُ يَضِيزُهُ إذا ضَامَهُ وجار عليه فمعنى ضِيزَى أي جائرة٣. وقال مجاهد ومقاتل : قِسْمَةٌ عَوْجَاءُ.
وقال الحسن : غير معتدلة، قال الشاعر :
ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمُ إذْ يَجْعَلُونَ الرَّأسَ كَالذَّنَبِ٤
وعلى هذا فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون صفة على «فُعْلَى » - بضم الفاء - وإنما كسرت الفاء لتصحَّ الياء «كَبِيضٍ ». فإن قيل : وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضمّ الفاء ؟ ولم لا قيل : إنَّها فِعْلَى بالكسر ؟.
فالجواب : أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فِعْلَى - بكسر الفاء - إنما ورد بضَمِّها، نحو : حُبْلَى وأُنْثَى ورُبَّى وما أشبهه إلا أنه قد حكى غيره في الصِّفات ذلك٥ ؛ حكى ثعلب : مِشْيَةٌ حِيكَى٦. وَرُجلٌ كِيصَى٧، وحكى غيره : امرأةٌ عِزْهَى٨، وامرأة سِعْلَى٩. وهذا لا ينقض، لأن سيبويه يقول في حِيكَى وكِيصَى كقوله في ضِيزَى : لتصحَّ الياء.
وأما عِزْهَى وسِعْلَى فالمشهور فهيما عِزْهَاةٌ وسِعْلاَةٌ. وقال البغوي : ليس في كلام العرب فِعْلَى بكسر الفاء في النعوت إنما يكون في الأسماء مثل ذِكْرَى، وشِعْرَى١٠.
والوجه الثاني : أن تكون مصدراً كَذِكْرَى.
قال الكسائي : يقال ضَازَ يَضِيزُ كَذكَرَ يَذْكُرُ، ويحتمل أن يكون من ضَأَزَهُ بالهمز - كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدالُ مثل هذه الهمزة ياء لكنها لغة التزمت فقرأوا بها١١.
ومعنى ضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ نَقَصَهُ ظلماً وجوراً.
وممن جوز أن تكون الياء بدلاً من همزة أبو عُبَيْدٍ وأن يكون أصلها ضُوزَى بالواو، لأنه سمع ضَازَه يَضُوزهُ ضُوزَى وَضَازهُ يَضِيزُهُ ضِيزَى وَضَأَزَهُ يَضْأَزُهُ ضَأزاً، حكى ذلك كله الكسائي١٢. وحكى أبو عبيد : ضِزْتُهُ١٣ وضُزْتُهُ١٤ بكسر الفاء وضمها فكسرت الضاد من ضُوزَى، لأن الضمة ثقيلةٌ مع الواو. وفعلوا ذلك ليَتَوصَّلوا به إلى قلبِ الواو ياءً١٥ وأنشد الأخضر على لغة الهمزة :
فَإنْ تَنْأَ عَنْهَا تَنْتَقِصْكَ وإنْ تَغِبْ فَسَهْمُكَ مَضْئُوزٌ وَأَنْفُكَ رَاغِمُ١٦
وضيزَى في قراءة ابن كثير مصدر وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لما تقدم عن سيبويه. فإن قيلَ : لِمَ لا قيلَ في ضيزى بالكسر والهمز إنّ أصله ضُيْزى بالضم فكسرت الفاء كما قيل فيها مع ألفها ؟
فالجواب : أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنةِ.
وسمع منهم : ضُؤْزَى بضمِّ الضاد مع الواو والْهَمْزِ١٧.
وأمَّا قراءة زيد١٨ فيحتمل أن تكون مصدراً وُصِفَ بِهِ كَدعوى وأن تكون صفة كسَكْرَى وعَطْشَى وغَضْبَى١٩.
١ المرجع السابق أيضا..
٢ قال مكي في الكشف: وهما لغتان وهي قراءة متواترة. وانظر الكشف ٢/٢٩٥ والسبعة ٦١٥ والإتحاف ٤٠٣..
٣ البغوي ٦/٢٦٣..
٤ نسب لامرئ القيس وهو من الكامل ولم أجده في الديوان. وشاهده أن ضازَ بمعنى ظلم واعوجّ.
وانظر القرطبي ١٧/١٠٢، والبحر ٨/٥٤ وفتح القدير ٥/١٠٩، والدر المنثور ٧/١٥٤، وروح المعاني ٢٧/٥٧..

٥ قال في الكتاب ٤/٣٦٤: "وهذا باب ما تقلب فيه الياء واوا، وذلك فُعلَى إذا كانت اسما، وذلك الطّوبى والكُوسَى لأنها لا تكون وصفا بغير ألف ولام فأجريت مُجرى الأسماء التي لا تكون وصفا".
انظر الكتاب السابق والمزهر ٢/٥٣..

٦ مدح في النساء ذم في الرجال، لأن المرأة تمشي هذه المشية من عظم فخذيها والرجل يمشي هذه المشية إذا كان أفحج. وانظر اللسان "حَيَك" ١٠٧٢..
٧ رجل كيصى وكيصٌ (عن ابن الأعرابي) متفرد في طعامه لا يؤاكل أحدا. وانظر اللسان السابق كيص ٣٩٦٧..
٨ رجل عِزهَاة وعِنزَهْوَةٌ وعِزْهاءَةٌ وعزهًى لئيم اللسان عزه ٢٩٣٣..
٩ استسعلت المرأة صارت كالسّعلاة خُبثاً وسلاطة؛ يقال ذلك للمرأة الصخابة البذيّة. وانظر اللسان سعل ٢٠١٨..
١٠ معالم التنزيل ٦/٢٦٣..
١١ البحر المحيط ٨/١٦٢ والقرطبي ١٧/١٠٣ ومعاني الفراء ٣/٩٨ و٩٩..
١٢ نقله عنه صاحب "الجامع" الإمام القرطبي في تفسيره١٧/١٠٢، كما نقل هذا صاحب اللسان والصّحاح (ضَوَزَ وضَأَزَ وضَيَزَ)..
١٣ نقلها ابن منظور في اللسان ضيز، قال: "وضِزْتُ فلانا أضِيزُه ضَيْزاً جُرْتُ عليه"..
١٤ قال أيضا في اللسان ضوز: ويقال ضزته حقه أي نقصته وضازني يضوزُني (عن كُراعٍ). إلا أن صاحب اللسان ضبطها بالكسر. ولعل ذلك من المحقق..
١٥ اللسان ضَيَزَ ٢٦٢٤، والقرطبي ١٧/١٠٣، ومعاني الفراء ٣/٩٨..
١٦ من الطويل وهو مجهول القائل وفي اللسان والصّحاح: وإن تغِب وفي القرطبي: وإن تقُم. وروي البيت فحظّك وقسمك بدل "فسهمك". والشاهد مضئوز فهو مفعول من ضأز مهموزا. وانظر القرطبي ١٧/١٠٠٢ وفتح القدير ٥/١٠٩ واللسان والصحاح ضأز، وروح المعاني ٢٧/٨٧، والبحر المحيط ٨/١٦٢..
١٧ نقلها صاحب اللسان عن ابن الأعرابي ضأز ٢٥٤٠..
١٨ وهي شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨/١٦٢..
١٩ قال بهذين التخريجين صاحب البحر في المرجع السابق..
قوله :( إنْ هِيَ ) في ( هي ) وجهان :
أحدهما : أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمياتٌ لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها، وأشد منافاة لها. وهذا على سبيل المبالغة والتجوز، كما يقال لتحقير إنسان : ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة كقوله :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ﴾.
الثاني : أن يكون ضمير الأسماء وهي اللاَّت والعُزَّى ومَنَاة، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سَمَّيْتُمُوها بهواكم وشهْوتكم ليس لكم على صحة تسميتها بُرهانٌ تتعلقون به١.
قال أبو البقاء :«أَسْمَاءٌ » يجب أن يكون المعنى ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ، لقوله :«سَمَّيْتُمُوهَا » ؛ لأن الاسم لا يسمى٢.
فإن قيل : كيف قال : سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا ؟
فالجواب : أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمُبْتَدِئ الواضع ؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدئ ؛ إذ لا مُقْتدى لَهُ.
فإن قيل : الأسماء لا تسمَّى وإنما يسمى بها فكيف قال : أسماء سميتموها ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال : أسماء وضعتموها، فاستعمل سَمَّيْتُمُوهَا استعمال وضَعْتُمُوهَا.
الثاني : لو قال : أسماءٌ سمَّيْتُم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها ؛ لأن قول القائل : سميت به يستدعي دخُولاً آخر، تقول : سميتُ بزيدٍ ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً.
فإن قيل : هذا باطل بقوله تعالى :﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ [ آل عمران : ٣٦ ] حيث لم يقل : وَإنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام.
فالجواب : بَيْنَهما بونٌ عظيم ؛ لأن هناك قال : سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله : سميتها واسمها بقوله : مريم، وأما ههنا فقال :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ ﴾ موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم٣.
قوله :﴿ مَا أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي حجة بما يقولون : إنها آلهة. واستعملت الباء في قوله ( بِهَا ) كقولك : ارْتَحَلَ فلاَنٌ بأهله ومَتَاعِهِ أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. كذلك ههنا٤ قوله :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : إن يتَّبعون إلاّ الظَّنَّ في قولهم : إنها آلهة.
قرأها العامة على الغيبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيِّه : إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا يلتفت إلى قولهم.
ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وفيه وجهان :
الأول : أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال : سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا : هذه الأسماء لم نضعها نحن، وإنَّما تلقيناها من آبائنا فقال : وسمَّاها آباؤكم وما يتبعون إلاَّ الظَّنَّ٥.
فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي.
فالجواب : وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان ( بعد ) ٦ زمان الكلام كقوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ﴾ [ الكهف : ١٨ ].
الثاني : أن يكون المراد عامة الكفار.
وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وعيسى بن عُمَر وابنُ وثاب : بالخطاب٧. وهو حسن موافقٌ.
فإن قيل : كيف ذمهم على اتِّباع الظَّنِّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه، وقال - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن الله تعالى أنه قال :«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي ؟ »
فالجواب : أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العَالِم. وحروف العلم في تَقَالِيبِها فيها معنى الظهور منها لَمَعَ البَرْقُ إذا ظَهَرَ، ولَمَعَ الغَزَالُ إذا عَدا، وكذلك عَلِمت.
والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئرٌ ظنونٌ لا يدري أفيه٨ ماءٌ أم لا ؛ لخفاء الأمر فيه ودينٌ ظَنُونٌ٩. يخفى الأمر فيه فنقول : يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين، وأما الاعتقاد فليس كذلك، لأن اليقين لم يتعذّر علينا. وإلى هذا أشار بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى ﴾ أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين. وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً. والله أعلم١٠.
قوله :﴿ وَمَا تَهْوَى الأنفس ﴾ نسق على ( الظّن ) و«ما » مصدرية، أو بمعنى الذي. والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان.
قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَبِّهِمُ الهدى ﴾ يجوز أن يكون حالاً من فاعل ( يَتَّبِعُونَ ) أي يَتَّبَعُون الظنَّ وهوى النفس في حالٍ تُنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم.
ويجوز أن يكون اعتراضاً فإن قوله :«أمْ للإِنْسَانِ » متصل بقوله :﴿ وَمَا تَهْوَى الأنفس ﴾، وهي أم المنقطعة، فتقدر ببل والهَمْزَة على الصَّحِيح١١.
قال الزمخشري : ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان١٢ ما تمنى.

فصل


المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاَّ للَّهِ الواحد القهار.
﴿ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنّى ﴾ أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام. ويحتمل أن يكون معناه : هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نَفْسُهُ.
١ بالمعنى من الكشاف له ٤/٣١..
٢ التبيان ١١٨٨..
٣ وانظر تفسير الإمام ٢٨/٢٩٩ و٣٠٠..
٤ المرجع السابق..
٥ ذكر هذه التحليلات والتوجيهات الإمام فخر الدين في مرجعه السابق أيضا..
٦ زيادة من الرازي وساقطة من النسختين..
٧ هذه القراءات شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في البحر ٨/١٦٢ و١٦٣ والزمخشري في الكشاف دون نسبة ٤/٣١ والقرطبي في الجامع ١٧/١٠٣ و١٠٤ ونسبها لأيوب وابن السميقع أيضا ١٧/١٠٣ و١٠٤..
٨ كذا في النسختين وفي الرازي: أفيها بتأنيث البئر..
٩ وانظر اللسان ظنن وكذلك المحكم. اللسان ٢٧٦٤..
١٠ وانظر الرازي ٢٨/٣٠١..
١١ بالمعنى من الرازي ٢٨/٣٠١ و٣٠٢..
١٢ الكشاف ٤/٣١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:قوله :( إنْ هِيَ ) في ( هي ) وجهان :
أحدهما : أنها ضمير الأصنام أي وما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمياتٌ لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها، وأشد منافاة لها. وهذا على سبيل المبالغة والتجوز، كما يقال لتحقير إنسان : ما زيد إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة كقوله :﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ﴾.
الثاني : أن يكون ضمير الأسماء وهي اللاَّت والعُزَّى ومَنَاة، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة يعني وما هذه الأسماء إلا سَمَّيْتُمُوها بهواكم وشهْوتكم ليس لكم على صحة تسميتها بُرهانٌ تتعلقون به١.
قال أبو البقاء :«أَسْمَاءٌ » يجب أن يكون المعنى ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ، لقوله :«سَمَّيْتُمُوهَا » ؛ لأن الاسم لا يسمى٢.
فإن قيل : كيف قال : سميتموها أنتم مع أن هذه الأسماء موضوعة قبلنا ؟
فالجواب : أن كل من نطق بهذه الألفاظ فهو كالمُبْتَدِئ الواضع ؛ لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل نقلي أو عقلي لم يجب اتباعه ولا يجوز فصار هو كالمبتدئ ؛ إذ لا مُقْتدى لَهُ.
فإن قيل : الأسماء لا تسمَّى وإنما يسمى بها فكيف قال : أسماء سميتموها ؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال : أسماء وضعتموها، فاستعمل سَمَّيْتُمُوهَا استعمال وضَعْتُمُوهَا.
الثاني : لو قال : أسماءٌ سمَّيْتُم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلّق به الباء في قولك بها ؛ لأن قول القائل : سميت به يستدعي دخُولاً آخر، تقول : سميتُ بزيدٍ ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً.
فإن قيل : هذا باطل بقوله تعالى :﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ [ آل عمران : ٣٦ ] حيث لم يقل : وَإنِّي سَمَّيْتُهَا بِمَرْيَمَ ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام.
فالجواب : بَيْنَهما بونٌ عظيم ؛ لأن هناك قال : سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله : سميتها واسمها بقوله : مريم، وأما ههنا فقال :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ ﴾ موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرها في مريم٣.
قوله :﴿ مَا أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي حجة بما يقولون : إنها آلهة. واستعملت الباء في قوله ( بِهَا ) كقولك : ارْتَحَلَ فلاَنٌ بأهله ومَتَاعِهِ أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. كذلك ههنا٤ قوله :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ هذا رجوع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : إن يتَّبعون إلاّ الظَّنَّ في قولهم : إنها آلهة.
قرأها العامة على الغيبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم، كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيِّه : إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا يلتفت إلى قولهم.
ويحتمل أن يكون المراد غيرهم، وفيه وجهان :
الأول : أن يكون المراد آباءهم كأنه تعالى قال : سَمَّيْتُمُوهَا أنتم وآباؤكم فكأنهم قالوا : هذه الأسماء لم نضعها نحن، وإنَّما تلقيناها من آبائنا فقال : وسمَّاها آباؤكم وما يتبعون إلاَّ الظَّنَّ٥.
فإن قيل : كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي.
فالجواب : وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان ( بعد ) ٦ زمان الكلام كقوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ﴾ [ الكهف : ١٨ ].
الثاني : أن يكون المراد عامة الكفار.
وقرأ عبدُ الله وابنُ عباس وطلحةُ وعيسى بن عُمَر وابنُ وثاب : بالخطاب٧. وهو حسن موافقٌ.
فإن قيل : كيف ذمهم على اتِّباع الظَّنِّ ونحن مأمورون باتباعه في الفقه، وقال - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن الله تعالى أنه قال :«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي ؟ »
فالجواب : أن الظن خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العَالِم. وحروف العلم في تَقَالِيبِها فيها معنى الظهور منها لَمَعَ البَرْقُ إذا ظَهَرَ، ولَمَعَ الغَزَالُ إذا عَدا، وكذلك عَلِمت.
والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئرٌ ظنونٌ لا يدري أفيه٨ ماءٌ أم لا ؛ لخفاء الأمر فيه ودينٌ ظَنُونٌ٩. يخفى الأمر فيه فنقول : يجوز بناء الأمر على الظن عند العجز عن درك اليقين، وأما الاعتقاد فليس كذلك، لأن اليقين لم يتعذّر علينا. وإلى هذا أشار بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى ﴾ أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين. وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً. والله أعلم١٠.
قوله :﴿ وَمَا تَهْوَى الأنفس ﴾ نسق على ( الظّن ) و«ما » مصدرية، أو بمعنى الذي. والمراد بما تهوى الأنفس هو ما زين لهم الشيطان.
قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَبِّهِمُ الهدى ﴾ يجوز أن يكون حالاً من فاعل ( يَتَّبِعُونَ ) أي يَتَّبَعُون الظنَّ وهوى النفس في حالٍ تُنافي ذلك وهي مجيء الهدى من عند ربهم.
ويجوز أن يكون اعتراضاً فإن قوله :«أمْ للإِنْسَانِ » متصل بقوله :﴿ وَمَا تَهْوَى الأنفس ﴾، وهي أم المنقطعة، فتقدر ببل والهَمْزَة على الصَّحِيح١١.
قال الزمخشري : ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان١٢ ما تمنى.

فصل


المعنى ولقد جاءهم من ربهم البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلاَّ للَّهِ الواحد القهار.
﴿ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنّى ﴾ أيظن أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام. ويحتمل أن يكون معناه : هل للإنسان أن يعبد بالتمني والاشتهاء ما تهوى نَفْسُهُ.
١ بالمعنى من الكشاف له ٤/٣١..
٢ التبيان ١١٨٨..
٣ وانظر تفسير الإمام ٢٨/٢٩٩ و٣٠٠..
٤ المرجع السابق..
٥ ذكر هذه التحليلات والتوجيهات الإمام فخر الدين في مرجعه السابق أيضا..
٦ زيادة من الرازي وساقطة من النسختين..
٧ هذه القراءات شاذة غير متواترة ذكرها أبو حيان في البحر ٨/١٦٢ و١٦٣ والزمخشري في الكشاف دون نسبة ٤/٣١ والقرطبي في الجامع ١٧/١٠٣ و١٠٤ ونسبها لأيوب وابن السميقع أيضا ١٧/١٠٣ و١٠٤..
٨ كذا في النسختين وفي الرازي: أفيها بتأنيث البئر..
٩ وانظر اللسان ظنن وكذلك المحكم. اللسان ٢٧٦٤..
١٠ وانظر الرازي ٢٨/٣٠١..
١١ بالمعنى من الرازي ٢٨/٣٠١ و٣٠٢..
١٢ الكشاف ٤/٣١..

قوله ﴿ فَلِلَّهِ الآخرة والأولى ﴾ أي ليس كما ظن وتمنى بل لله الآخرة والأولى لا يملك فيها أحدٌ شَيْئاً إلاَّ بإذنه.
قوله: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ﴾ «كم» هنا خبرية تفيد التكثير، ومحلها الرفع على الابتداء. و ﴿لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ هو الخبر. والعامة على إفراد الشفاعة. وجُمعَ الضمير اعتباراً بمعنى «ملك» وبمعنى «كم». وزيد بن عليّ شَفَاعَتُهُ بإفرادها اعتبر لفظ «كم وملك». وابن مِقْسِم شَفَاعَاتُهُم بجمعِهَا. و «شَيْئاً» مصدر أي شيئاً من الإغْنَاء.

فصل


المعنى وكم من ملك في السموات ممن يعبدهُمْ هؤلاء الكفار ويرجون شفاعَتَهم عند الله لا تغني شفاعَتُهُمْ شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله في الشفاعة ﴿لِمَن يَشَآءُ ويرضى﴾ أي من أهل التوحيد.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وجمع الكناية في قوله: «شفاعتهم» والملك واحد؛ لأن المراد من قوله: ﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ﴾ الكثرة، فهو كقوله تعالى: ﴿فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧].
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى﴾ اعلم أن المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالرسل، لأن كل من آمن بالرسل
188
اعترف بالحشر، وذلك أنهم كانوا يقولون: الملائكة وجدوا من الله فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم رأوا في الملائكة تاء التأنيث، وصحَّ عندهم أن يقال: سَجَدَت الملائكة، فقالوا: بنات الله فسمَّوهُمْ تسميةَ الإناث.
فإن قيل: كيف يصح أن يقال: إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤُنَا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر مَنْ يموت، ويعتقدون أنه يحشر عليه؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم ما كانوا يجزمون به، بل كانوا يقولون: إنه لا حشر، فإن كان فلنا شفعاءُ بدليلِ ما حكى الله عنهم ﴿وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى﴾ [فصلت: ٥٠].
الثاني: أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي ورد به الرسل.

فصل


وأما مناسبة هذه الآية لما قبلها فهي أنهم لما قيل لهم: إنَّ الصَّنَمَ جمادٌ لا يشفع، وبين لهم أن أعظمَ أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا: نَحْنُ لا نَعْبُدُ الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ونضعها بين أيدينا لنذكر بالشاهد الغائب فنعظم الملك المقرب فرد الله عليهم بهذه الآية أي كيف تعظموهم وأنتم تسموهم تسمية الإناث؟
فإن قيل: كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل: تسمية الإناث؟
فالجواب: أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآية. أو يقال: إنه لو قال الإناث لأوهم أعلام إناث، كعائشةَ وفاطمةَ. والمراد إنما هو البنات. وقد تقدمت شبهتهم.
قوله: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ قال الزمخشري: الضمير في (به) يعود إلى ما كانوا يقولون.
وقيل يعود إلى ما تقدم من عدم قَبُول الشفاعة.
وقيل: يعود إلى الله أي ما لهم بالله من علم فيُشْرِكُونَ. وقال مكي: الهاء تعود على الاسم لأن التسمية والاسم بمعنًى. وقرأ أبيّ: بِهَا أي بالآخرة أي ما لهم بالآخرة مِنْ علمٍ.
189
وقيل: بالملائكة. وقيل: بالتسمية. وهذا يقوِّي قول مَكِّيٍّ. فإن قلنا: ما لهم بالآخرة فهو جواب كما قلنا: إنهم وإن كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عَنْ عِلْمٍ.
وإنْ قُلْنا بالتسمية ففيه إشكال، وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنَّهم «لَيْسُوا في شكٍّ».
والجواب: أن التسمية قد يكون واضعها الأول عالماً بأنه وضع، وقد يكون استعمالاً معنوياً يتطرق إليه الصدق والكذب والعِلْم. فمثال الصدق مَنْ وَضَعَ أولاً اسم السماء لموضوعها وقال: هذا سماءٌ، ومثال الكذب إذا قلنا بعد ذلك للماء والحَجَر: هذا سماء، فإنه كذب ومن اعتقد فهو جَاهِل وكذلك قولهم في الملائكة: إنَّهم بنات الله لم تكن تسميةً وضعيةً، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون باسم يجب به استعمال لفظ البنات فيهم، وذلك كذب ومعتَقده جاهلٌ، فالمراد التسمية التي هي عن وصفٍ حقيقي لا التسمية الوضْعيَّة؛ لأنهم عالمون بها فهذا هو المراد. قاله ابن الخطيب.
وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ تقدم الكلام عليه.
وقوله: ﴿إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ قيل: الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظنّ مَقَام العلم. وقيل: الحق بمعنى العذاب، أي إنّ ظنهم لا يُنْقِذُهُمْ من الْعَذَابِ.
قال ابن الخطيب: المراد منه أن الظن لا يُغْني في الاعتقادات شيئاً وأما الأفعال العُرْفية أو الشرعية فإنه يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين. ويحتمل أن يقال: المراد من الحق هو الله والمعنى أن الظن لا يفيد شيئاً من الله أي أن الأوصافَ الإلهيَّة لا تستخرج بالظنون بدليل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ [لقمان: ٣٠].
فإن قيل: أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً؟
فالجواب: أن المكلف لا يحتاج إلى مميز يُمَيّز الحقَّ من الباطل؛ ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مُطَابَقَتِهِ، والظَّانّ لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مَواضِعَ.

فصل


اعلم أن الله تعالى منع من الظن في ثلاثة مواضع:
أحدها: قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ [النجم: ٢٣].
190
وثانيها: هذه الآية.
ثالثها: في الحجرات وهي قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾
[الحجرات: ١١] إلى قوله: ﴿اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن﴾ [الحجرات: ١٢] فالأول: كان المنع عقيب التسمية، والثاني: عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل. فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذمومٌ أحدها: مدح ما لا يستحق المدح كاللاَّتِ والعُزَّى من العزة، وثانيها: ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عِبَاد الرَّحْمَن يُسَمُّونَهُمْ تسمية الأنثى، وثالثها: ذمّ من لم يعلم حاله، وأما مدح من يُعْلَمُ حاله فلم يقَلْ فيه: لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب.
قوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا﴾ يعني القرآن. وقيل: الإيمان؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلَّغت وأتيت بما عليك.
قال ابن الخطيب: وأكثر المفسرين يقولون: كل ما في القرآن من قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ﴾ منسوخ بآية القتال، وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به؟ وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أُمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم، وقيل له: ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] ثم لَمّا لم ينفع قال له ربه: أعْرِضْ عنْهُمْ ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المُقَاتَلَةِ فكيف يكون منسوخاً بها؟
قوله: ﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا﴾ إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ [الأنعام: ٢٩] وقوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا﴾ [التوبة: ٣٨] وذلك أنه إذا تَرَكَ النظر في آلاء الله لا يعرفُهُ فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة.
واعلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان كالطبيب للقلوب، فأتى على ترتيب الأَطِبَّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحُهُ بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي، ثم إذا عجز عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحَدِيد والكَيّ كما قيل: «آخِرُ الدَّوَاءِ الكَيُّ»، فالنبي -
191
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أولاً أمر القلوب بذكر الله حَسْب، فإن بذكْرِ الله تطمئن القلوب، كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أولاً: «قُولُوا لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ» أمر بالذكر، فانتفع مثلُ أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليلَ وقال ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾ [الأعراف: ١٨٤] ﴿قُلِ انظروا﴾ [يونس: ١٠١] ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ﴾ [الغاشية: ١٧] إلى غير ذلك فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينتفعوا قال: أعْرِضْ عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصَّالح.
قوله: «ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ» قال الزمخشري: هو اعتراض (أي فأعرض عنه ولا تُعَامِلْهُ إنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ.
قال أبو حيَّان: كأنه يقول: هو اعتراض) بين «فَأَعْرِضْ» وبين: «إِنَّ رَبَّكَ» ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض.
قال شهاب الدين: كيف يقول: كأنه يقول: هو اعتراض وما معنى الشبيه وهو قد نصَّ عليه وصرح به فقال: أي فأعرض عنه ولا تعامله إنَّ رَبَّكَ. وقوله «وَلاَ يَظْهَرْ» ما أدري عدم الظهر مع ظهور أن هذا علة لذاك أي قوله: «إنَّ رَبَّكَ» علة لقوله «فَأَعْرِضْ» والاعتراض بين العلَّة والمعلول ظاهر وإذا كانوا يقولون: هذا معترض فيما يجيء في أثناء قصَّة فكيف بما بين علة ومعلول؟

فصل


«ذَلِكَ» إشارة إلى نهاية عِلْمهم وقدر عقولهم إن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: إشارة إلى الظن أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكةَ بناتُ الله وأنها تشفع لهم، واعتمدوا على ذلك وأعرضُوا عن القرآن. وقيل: إشارة إلى الإعراض أي فأعرضْ عمَّن تولى؛ وذلك لأن الإعراض غاية ما بلغوه من العلم وعلى هذا يكون المراد من العِلْم المَعْلُوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم المعلوم هو ما في القرآن.
فإن قيل: إنَّ الله تعالى بين أن غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله؟
فالجواب: أنه ذكر قبل ذلك أنهم تَوَلَّوْا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم
192
العلم وإنما قدر الله توليهم ليُضَاف الجَهْلُ إلى ذلك فيتحقق العِقَابُ.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ جوز مَكِّيٌّ أن يكون على بابه من التفضيل أي هو أعلم من كل أحدٍ بهذين الوصفين وبغيرهما، وأن يكون بمعنى عالِمٍ، وتقدم ذلك مراراً.

فصل


المعنى أن الله عالم بالفريقين فيجازيهم. ووجه المناسبة أن الله تعالى لَمَّا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعرض وكان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شديد الميل إلى إيمان قومه كأنه هجس في خَاطِرِه أن في ذكراهم منفعة، وربما يؤمن من الكفار قومٌ آخرون من غير قتال، فقال له: «ربك أعلم بمن ضل عن سبيله» أي لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد المتخلفين وإنما ينفع فيهم وَقْع السيف والقتال فأعرض عن الجدال، وأقبل على القتال. وعلى هذا فقوله: «بِمَنِ اهْتَدَى» أي علم في الأزل من ضل ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمر، ولا بأسَ في الإعراض.
فإن قيل: قال في الضلال عن سبيله ولم يقل في الاهتداء إلى سبيله.
فالجواب: أنَّ الضلال عن السبيل هو الضلال وهو كافٍ في الضَّلال، لأن الضّلال لا يكون إلاَّ في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلالَ، أو لأن من ضلَّ عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو لم يَسْلُكْهُ وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول له إن لم يسلكه فقال من اهتدى إلى السبيل وسلوكه.
193
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى ﴾ اعلم أن المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون بالرسل، لأن كل من آمن بالرسل اعترف بالحشر، وذلك أنهم كانوا يقولون : الملائكة وجدوا من الله فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم رأوا في الملائكة تاء التأنيث، وصحَّ عندهم أن يقال : سَجَدَت الملائكة، فقالوا : بنات الله فسمَّوهُمْ تسميةَ الإناث.
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤُنَا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر مَنْ يموت، ويعتقدون أنه يحشر عليه ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنهم ما كانوا يجزمون به، بل كانوا يقولون : إنه لا حشر، فإن كان فلنا شفعاءُ بدليلِ ما حكى الله عنهم ﴿ وَمَا أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ].
الثاني : أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي ورد به الرسل.

فصل


وأما مناسبة هذه الآية لما قبلها فهي أنهم لما قيل لهم : إنَّ الصَّنَمَ جمادٌ لا يشفع، وبين لهم أن أعظمَ أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا : نَحْنُ لا نَعْبُدُ الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ونضعها١ بين أيدينا لنذكر بالشاهد الغائب فنعظم الملك المقرب فرد الله عليهم بهذه الآية أي كيف تعظموهم وأنتم تسموهم تسمية الإناث٢ ؟
فإن قيل : كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل : تسمية الإناث ؟
فالجواب : أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي. أو يقال : إنه لو قال الإناث لأوهم أعلام إناث، كعائشةَ وفاطمةَ. والمراد إنما هو البنات٣. وقد تقدمت شبهتهم.
١ في الرازي: وتنصبها..
٢ وانظر الرازي ٢٨/٣٠٨ بالمعنى..
٣ المرجع السابق..
قوله :﴿ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾ قال الزمخشري : الضمير في ( به ) يعود إلى ما كانوا يقولون١. وقيل يعود إلى ما تقدم من عدم قَبُول الشفاعة.
وقيل : يعود إلى الله أي ما لهم بالله من علم فيُشْرِكُونَ٢. وقال مكي : الهاء تعود على الاسم لأن التسمية والاسم بمعنًى٣. وقرأ أبيّ : بِهَا٤ أي بالآخرة أي ما لهم بالآخرة مِنْ علمٍ.
وقيل : بالملائكة. وقيل : بالتسمية. وهذا يقوِّي قول مَكِّيٍّ. فإن قلنا : ما لهم بالآخرة فهو جواب كما قلنا : إنهم وإن كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله، وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عَنْ عِلْمٍ.
وإنْ قُلْنا بالتسمية ففيه إشكال، وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنَّهم «لَيْسُوا٥ في شكٍّ ».
والجواب : أن التسمية قد يكون واضعها الأول عالماً بأنه وضع، وقد يكون استعمالاً معنوياً يتطرق إليه الصدق والكذب والعِلْم. فمثال الصدق مَنْ وَضَعَ أولاً اسم السماء لموضوعها وقال : هذا سماءٌ، ومثال الكذب إذا قلنا بعد ذلك للماء والحَجَر : هذا سماء، فإنه كذب ومن اعتقد فهو جَاهِل وكذلك قولهم في الملائكة : إنَّهم بنات الله لم تكن تسميةً وضعيةً، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون باسم يجب به استعمال لفظ البنات فيهم، وذلك كذب ومعتَقده جاهلٌ، فالمراد التسمية التي هي عن وصفٍ حقيقي لا التسمية الوضْعيَّة ؛ لأنهم عالمون بها فهذا هو المراد. قاله ابن الخطيب٦.
وقوله :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾ تقدم الكلام عليه.
وقوله :﴿ إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً ﴾ قيل : الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظنّ مَقَام العلم. وقيل : الحق بمعنى العذاب، أي إنّ ظنهم لا يُنْقِذُهُمْ من الْعَذَابِ.
قال ابن الخطيب : المراد منه أن الظن لا يُغْني في الاعتقادات شيئاً وأما الأفعال العُرْفية أو الشرعية فإنه يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين. ويحتمل أن يقال : المراد من الحق هو الله والمعنى أن الظن لا يفيد شيئاً من الله أي أن الأوصافَ الإلهيَّة لا تستخرج بالظنون بدليل قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق ﴾.
فإن قيل : أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً ؟
فالجواب : أن المكلف لا يحتاج إلى مميز يُمَيّز الحقَّ من الباطل ؛ ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مُطَابَقَتِهِ، والظَّانّ لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مَواضِعَ.

فصل


اعلم أن الله تعالى منع من الظن في ثلاثة مواضع :
أحدها : قوله تعالى :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَا أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن ﴾.
وثانيها : هذه الآية.
ثالثها : في الحجرات وهي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ إلى قوله :﴿ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن ﴾ [ الحجرات : ١٢ ] فالأول : كان المنع عقيب التسمية، والثاني : عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل. فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذمومٌ أحدها : مدح ما لا يستحق المدح كاللاَّتِ والعُزَّى من العزة، وثانيها : ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عِبَاد الرحمان يُسَمُّونَهُمْ تسمية الأنثى، وثالثها : ذمّ من لم يعلم حاله، وأما مدح من يُعْلَمُ حاله فلم يقَلْ فيه : لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب٧.
١ الكشاف ٤/٣٢..
٢ الرازي ٢٨/٣١٠..
٣ قال في المشكل: "الهاء تعود على الأسماء؛ لأن التسمية والأسماء بمعنى واحد". وانظر المشكل ٢/٣٣١..
٤ شاذة غير متواترة انظر الرازي السابق والكشاف ٤/٣٢..
٥ زيادة من الرازي..
٦ بالمعنى ٢٨/٣١٠..
٧ وانظر تفسير الإمام ٢٨/٣١٠، ٣١١..
قوله :﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا ﴾ يعني القرآن. وقيل : الإيمان ؛ أي اترك مجادلتهم فقد بلَّغت وأتيت بما عليك.
قال ابن الخطيب : وأكثر المفسرين يقولون : كل ما في القرآن من قوله تعالى :﴿ فَأَعْرِضْ ﴾ منسوخ بآية القتال، وهو باطل ؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به ؟ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أُمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم، وقيل له :﴿ وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ ثم لَمّا لم ينفع قال له ربه : أعْرِضْ عنْهُمْ ولا تقل لهم١ بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق وقاتلهم، فالإعراض عن المناظرة شرط لجواز المُقَاتَلَةِ فكيف يكون منسوخاً بها٢ ؟
قوله :﴿ وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ﴾ إشارة إلى إنكارهم الحشر كقوله تعالى عنهم :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] وقوله :﴿ أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا ﴾ [ التوبة : ٣٨ ] وذلك أنه إذا تَرَكَ النظر في آلاء الله لا يعرفُهُ فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه، وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى في الدعاء فائدة.
واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كالطبيب للقلوب، فأتى على ترتيب الأَطِبَّاء في أن المرض إذا أمكن إصلاحُهُ بالغذاء لا يستعملون الدواء القوي، ثم إذا عجز٣ عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحَدِيد والكَيّ كما قيل :«آخِرُ الدَّوَاءِ الكَيُّ »، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - أولاً أمر القلوب بذكر الله حَسْب، فإن بذكْرِ الله تطمئن القلوب، كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - أولاً :«قُولُوا لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ » أمر بالذكر، فانتفع مثلُ أبي بكر - رضي الله عنه - ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليلَ وقال ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ﴾ [ الأعراف : ١٨٤ ] ﴿ قُلِ انظروا ﴾ [ يونس : ١٠١ ] ﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] إلى غير ذلك فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينتفعوا قال : أعْرِضْ عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصَّالح٤.
١ كذا في النسختين وفي الرازي: ولا تقاتلهم..
٢ المرجع السابق..
٣ في الرازي: عجزوا. وفيه إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعلمون الدواء القوي..
٤ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٣١٢..
قوله :«ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ » قال الزمخشري : هو اعتراض ( أي١ فأعرض عنه ولا تُعَامِلْهُ٢ إنَّ رَبَّكَ هُو أَعْلَمُ.
قال أبو حيَّان : كأنه يقول : هو اعتراض ) بين «فَأَعْرِضْ » وبين :«إِنَّ رَبَّكَ » ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض٣.
قال شهاب الدين : كيف يقول : كأنه يقول : هو اعتراض وما معنى الشبيه وهو قد نصَّ عليه وصرح به فقال : أي فأعرض عنه ولا تعامله٤ إنَّ رَبَّكَ. وقوله «وَلاَ يَظْهَرْ » ما أدري عدم الظهر مع ظهور أن هذا علة لذاك أي قوله :«إنَّ رَبَّكَ » علة لقوله «فَأَعْرِضْ » والاعتراض بين العلَّة والمعلول ظاهر وإذا كانوا يقولون : هذا معترض فيما يجيء في أثناء قصَّة فكيف بما بين علة ومعلول٥ ؟

فصل


«ذَلِكَ » إشارة إلى نهاية عِلْمهم وقدر عقولهم إن آثروا الدنيا على الآخرة٦. وقيل : إشارة إلى الظن أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكةَ بناتُ الله وأنها تشفع لهم، واعتمدوا على ذلك وأعرضُوا عن القرآن. وقيل : إشارة إلى الإعراض أي فأعرضْ عمَّن تولى ؛ وذلك لأن الإعراض غاية ما بلغوه من العلم وعلى هذا يكون المراد من العِلْم المَعْلُوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم المعلوم هو ما في القرآن٧.
فإن قيل : إنَّ الله تعالى بين أن غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله ؟
فالجواب : أنه ذكر قبل ذلك أنهم تَوَلَّوْا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم وإنما قدر الله توليهم ليُضَاف الجَهْلُ إلى ذلك فيتحقق العِقَابُ.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ ﴾ جوز مَكِّيٌّ أن يكون على بابه من التفضيل أي هو أعلم من كل أحدٍ بهذين الوصفين وبغيرهما، وأن يكون٨ بمعنى عالِمٍ، وتقدم ذلك مراراً.

فصل


المعنى أن الله عالم بالفريقين فيجازيهم. ووجه المناسبة أن الله تعالى لَمَّا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - شديد الميل إلى إيمان قومه كأنه هجس في خَاطِرِه أن في ذكراهم منفعة، وربما يؤمن من الكفار قومٌ آخرون من غير قتال، فقال له :«ربك أعلم بمن ضل عن سبيله » أي لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد المتخلفين وإنما ينفع فيهم وَقْع السيف والقتال فأعرض عن الجدال، وأقبل على القتال. وعلى هذا فقوله :«بِمَنِ اهْتَدَى » أي علم في الأزل من ضل ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمر، ولا بأسَ في الإعراض.
فإن قيل : قال في الضلال عن سبيله ولم يقل في الاهتداء إلى سبيله.
فالجواب : أنَّ الضلال عن السبيل هو الضلال وهو كافٍ في الضَّلال، لأن الضّلال لا يكون إلاَّ في السبيل وأما بعد الوصول فلا ضلالَ، أو لأن من ضلَّ عن سبيله لا يصل إلى المقصود سواء سلك سبيلاً أو لم يَسْلُكْهُ وأما من اهتدى إلى سبيل فلا وصول له إن لم يسلكه فقال من اهتدى إلى السبيل وسلوكه.
١ ما بين القوسين سقط من (ب)..
٢ في الكشاف: ولا تقابله..
٣ البحر المحيط ٨/١٦٤..
٤ كذا في (أ) وفي (ب) تقاتله وفي الدر تقابله..
٥ وهو يؤيد تماما ما ذهب إليه جار الله الزمخشري في رأيه هذا، وانظر الدر المصون مخطوط بلدية إسكندرية..
٦ قال بذلك الفراء في المعاني ٣/١٠٠ والقرطبي في الجامع ١٧/١٠٥ وأبو حيان في البحر ٨/١٦٤..
٧ انظر المرجع الأخير السابق..
٨ في المشكل ٢/٣٣١ و٣٣٢: ويجوز أن يكونا بألف التشبيه فهو يقصد أعلم مكررة من قوله: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى"..
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾.
واللام في قوله: «لِيَجْزِي» فيها أوجه:
أحدها: أن يتعلق بقوله: ﴿لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ﴾ [النجم: ٢٦] ذكره مكّي. وهو بعيد من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى.
193
الثاني: أن يتعلق بما دل عليه قوله: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات﴾ أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء ليجزي المُحْسِنَ والْمُسِيءَ.
الثالث: أن يتعلق بقوله: «بِمَنْ ضَلَّ، وَبِمَن اهْتَدَى» واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا. قال معناه الزمخشري.
الرابع: أن يتعلق بما دل عليه قوله: ﴿أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ﴾ [النجم: ٣٠] أي حفظ ذلك لِيَجْزِيَ. قاله أبو البقاء.
وقرأ زيد بن علي: لِنَجْزِي بنون العظمة والباقون بياء الغيبة. وقوله: «الَّذِينَ أحْسَنُوا» وحَّدُوا ربهم «بالْحُسْنَى» بالْجَنَّة. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكاً فلذلك قال تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾.
قوله: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ» يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً «لِلَّذِينَ [ (أحْسَنُوا).
فإن قيل: إذا كان بدلاً عن»
الَّذِينَ] أحْسَنُوا «فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال» الَّذِين أحْسَنُوا «وقال:» الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ «ولم يقل: اجْتَنَبُوا؟
فالجواب: هو كقول القائل: الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة. ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار»
أَعْنِي «، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين، وهذا نعت للمحسنين.
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير الإثْم.
قوله:»
إلاَّ اللَّمَمَ «فيه أوجه:
194
أحدها: أنه استثناء منقطع؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها. وهذا هو المشهور.
الثاني: أنه صفة، و» إلاَّ «بمنزلة غير كقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم.
الثالث: أنه متصل. وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر، قالوا: إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا: معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي. وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللَّمم ما دون الشرك.
قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عزّ وجلّ: إلاَّ اللَّمم فقلت: هو الرجل يلم الذنب ثم لا يُعَاودُه، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أعانك عليها ملكٌ كريمٌ.
وروى ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) في قوله: إلاَّ اللمم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
٤٥٦٢ - إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا؟
وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه.
وقال أبو العباس: أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال: أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه، ولم يخالطه. وقال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ
195
والقرب، وقال جرير: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرْضَاهُ) :
٤٥٦٣ - بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ
وقال آخر:
٤٥٦٤ - مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وقال آخر:
٤٥٦٥ - لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ..........................
ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة.

فصل


قال ابن الخطيب: الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة.
والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه، فإنك إذا قلبتها وقلت: حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر، وكذلك فَشَحَ يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ، يُقَال: فَشَحَت النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم، وقال في الكبائر من الإثم؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله: كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش.
واختلفوا في الكبائر والفواحش؟ فقيل: الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً
196
وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا. وقيل: الكبائر: ما يُكَفَّرُ مستحلُّها. وقيل: الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة.
قال ابن الخطيب: كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه. وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية.

فصل


اختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم: ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم.
وقيل: هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة، والقُبْلَة وما كان دون الزنا. وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ، والشَّعْبي ورواية طاوس عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ» وفي رواية: «والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى».
وقال الكلبي: اللمم على وجهين:
[الأوّل] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ.
والوجه الآخر: هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه.
وقال سعيد بن المسيب: هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة﴾، قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - لمن يفعل ذلك وتاب. وههنا تَمَّ الكلام.
قوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض﴾ في تعلق الآية وجوه:
197
أحدها: هو تصوير لما قال من قبل، فإنه لو قال: هو أعلم بمن فعل كان القائل من الكفار يقول: نحن نعلم أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله؟ قال: ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال.
الثاني: أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال، وكتب على البعض أنه مُهْتَد.
الثالث: أنه تأكيد لبيان الجزاء، لأنه لما قال: ﴿لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم.

فصل


العامل في (قوله) :«إذْ» يحتمل أن يكون «اذْكُرْ» فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم. وقد تم الكلام ثم يقول: إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب. وقد تقدم الكلام على قوله: ﴿خلقكم من تراب﴾ بأن كل أحد أصله من التراب، فإنَّه يصير غذاء، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة.
فإن قيل: لا بدّ من صرف قوله ﴿إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض﴾ إلى آدم، لأن قوله: ﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ عائد إلى غيره، فإنه لم يكنْ جنيناً. وإن قلت بأن قوله تعالى: ﴿إِذْ أَنشَأَكُمْ﴾ عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة؟
فالجواب: ليس كذلك، لأنا نقول: الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب، فقوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ خطاب مع من حَضَر (وقت) الإنزال وهم كانوا أجنَّةً، وخلقوا من الأرض على ما قررناه.
قوله: «أجنة» جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره. و «جَنِينٌ، وأَجِنَّة» كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ.
198
فإن قيل: الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً، فما فائدة قوله تعالى: ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ ؟
فالجواب: أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ.
قوله: ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ﴾ قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) -: لا تمدحوها. وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة ﴿فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ﴾ تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها. وقال الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون: صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية. ثم قال: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى﴾ أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ.

فصل


يحتمل أن يكون هذا خطاباً مع الكفار، فإنهم قالوا: كيف يعلمنا الله؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قد علم كونك ومن تَبِعَك على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى.
وعلى هذا قول من قال: «فأعرض» منسوخٌ أظهر، وهو كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] يعني الله أعلم بجملة الأمر.
199
قوله :«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ » يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً «لِلَّذِينَ [ ( أحْسَنُوا ) ١.
فإن قيل : إذا كان بدلاً عن «الَّذِينَ ]٢ أحْسَنُوا » فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال «الَّذِين أحْسَنُوا » وقال :«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ » ولم يقل : اجْتَنَبُوا ؟
فالجواب : هو كقول القائل : الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد٣ للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة٤. ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار «أَعْنِي »، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين٥، وهذا نعت للمحسنين٦.
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير٧ الإثْم.
قوله :«إلاَّ اللَّمَمَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء٨ منقطع ؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها. وهذا هو المشهور.
الثاني : أنه صفة، و «إلاَّ » بمنزلة غير كقوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم٩.
الثالث : أنه متصل١٠. وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر، قالوا : إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا : معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي. وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللَّمم ما دون الشرك.
قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عزّ وجلّ : إلاَّ اللَّمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يُعَاودُه، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملكٌ كريمٌ.
وروى ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) ١١ في قوله : إلاَّ اللمم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا١٢ ؟
وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه.
وقال أبو العباس١٣ : أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال : أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه، ولم يخالطه. وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ والقرب١٤، وقال جرير :( رضي الله عنه وأرْضَاهُ ) ١٥ :
بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ *** عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ١٦
وقال آخر :
مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا١٧
وقال آخر :
لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٨
ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة.

فصل


قال ابن الخطيب : الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة.
والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه، فإنك إذا قلبتها وقلت : حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر١٩، وكذلك فَشَحَ٢٠ يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ، يُقَال : فَشَحَت٢١ النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم، وقال في الكبائر من الإثم ؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله : كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش.
واختلفوا في الكبائر والفواحش ؟ فقيل : الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا. وقيل : الكبائر : ما يُكَفَّرُ مستحلُّها. وقيل : الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة.
قال ابن الخطيب : كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه. وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية٢٢.

فصل


اختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم : ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم.
وقيل : هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة، والقُبْلَة وما كان دون الزنا. وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ، والشَّعْبي٢٣ ورواية طاوس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ » وفي رواية :«والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ٢٤، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى ».
وقال الكلبي : اللمم على وجهين :
[ الأوّل ] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ.
والوجه الآخر : هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه.
وقال سعيد بن المسيب : هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة ﴾، قال ابن عباس - ( رضي الله عنه ) ٢٥ - لمن يفعل ذلك وتاب. وههنا تَمَّ الكلام٢٦.
قوله :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض ﴾ في تعلق الآية وجوه :
أحدها : هو تصوير٢٧ لما قال من قبل، فإنه لو قال : هو أعلم بمن فعل٢٨ كان القائل٢٩ من الكفار يقول : نحن نعلم٣٠ أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله ؟ قال : ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال.
الثاني : أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال، وكتب على البعض أنه مُهْتَد.
الثالث : أنه تأكيد لبيان الجزاء، لأنه لما قال :﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا٣١ أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم.

فصل


العامل في ( قوله ) ٣٢ :«إذْ » يحتمل أن يكون «اذْكُرْ » فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم. وقد تم الكلام ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب. وقد تقدم الكلام على قوله :﴿ خلقكم من تراب ﴾ بأن كل أحد أصله من التراب، فإنَّه يصير غذاء، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة.
فإن قيل : لا بدّ من صرف قوله ﴿ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض ﴾ إلى آدم، لأن قوله :﴿ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ عائد إلى غيره، فإنه لم يكنْ جنيناً. وإن قلت بأن قوله تعالى :﴿ إِذْ أَنشَأَكُمْ ﴾ عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة ؟
فالجواب : ليس كذلك، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب، فقوله :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ﴾ خطاب مع من حَضَر ( وقت ) ٣٣ الإنزال وهم كانوا أجنَّةً، وخلقوا من الأرض على ما قررناه.
قوله :«أجنة » جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره. و«جَنِينٌ، وأَجِنَّة » كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ.
فإن قيل : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً، فما فائدة قوله تعالى :﴿ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ ؟
فالجواب : أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ٣٤.
قوله :﴿ فَلاَ تُزكّذوا أَنفُسَكُمْ ﴾ قال ابن عباس - ( رضي٣٥ الله عنهما ) - : لا تمدحوها. وقال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة ﴿ فَلاَ تُزكّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها. وقال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية. ثم قال :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ﴾ أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ٣٦.

فصل


يحتمل أن يكون هذا خطاباً٣٧ مع الكفار، فإنهم قالوا : كيف يعلمنا٣٨ الله ؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره٣٩ أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - قد علم كونك ومن تَبِعَك٤٠ على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا٤١ نحن على الحق وأنتم على الضلال ؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى.
وعلى هذا قول من قال :«فأعرض » منسوخٌ أظهر، وهو كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [ سبأ : ٢٤ ] يعني الله أعلم بجملة الأمر.
١ وهو رأي التبيان والجامع الأول ١١٨٩ والثاني ١٧/١٠٦..
٢ ما بين القوسين سقط من (ب) بسبب انتقال النظر..
٣ في (ب) التردّد..
٤ وقد قال بالبلدية مكي في المشكل ٢/٣٣٢..
٥ قال بذلك أبو البقاء في التبيان ١١٨٩..
٦ أي الذين أحسنوا والجملة في محل نصب صفة لهؤلاء..
٧ تقدم ذلك في سورة الشورى من الآية ٣٧ وقبل في سورة النساء من الآية ٣١..
٨ مشكل الإعراب ٢/٣٣٢ والقرطبي ١٧/١٠٦ والكشاف ٤/٣٢ والبحر ٨/١٦٤ وبالمعنى من معاني الفراء ٣/١٠٠ ومعاني الزجاج ٥/٧٤..
٩ وهو رأي الزمخشري في الكشاف ٤/٣٢ وأبي حيان في البحر ٨/١٦٤. والآية ٢٣ من الأنبياء..
١٠ البحر المحيط السابق..
١١ زيادة من (أ)..
١٢ كذا في النسختين كما في البغوي والخازن ٦/٢٦٥ وفي القرطبي:
إن يغفر الله يغفر جما ***.................
والبيت الأعلى نسبه القرطبي لأمية بن أبي الصلت وانظر القرطبي ١٧/١٠٧ ورواية القرطبي: وقال ابن عباس أيضا: هو الرجل يلمّ بذنب ثم يتوب. قال: تسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول:
إن يغفر الله يعفر جمّذًا *** وأي عبد لك لا ألمّا
ثم قال: رواه عمرة بن دينار عن عطاء عن ابن عباس. ثم قال أيضا: وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ﴿إلا اللّمم﴾ قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده قال الشاعر؛ وأنشد البيت. وكذلك نسبه صاحب اللسان لأمية وهو من مشطور الرجز كما كتبه صاحب اللسان..

١٣ هو المبرد وقد ترجم له. وانظر الكامل..
١٤ نقله في التهذيب "لمم"..
١٥ تلك العبارة زيادة من (أ)..
١٦ من الوافر له في هجو الأخطل وبني التغلب. والشاهد على أن اللمام بمعنى القرب. والبيت بديوانه ٦١٣ دار الكتب اللبنانية إيليا الحاوي، والبحر ٨/١٥٥، وفتح القدير ٥/١١٣..
١٧ من الطويل لعبيد الله بن الحر أو الحطيئة، وليس في ديوانه. والشاهد في تلمم فإنه بمعنى المقاربة والدنو، وانظر الإنصاف ٥٨٣ وابن يعيش ٧/٥٣ و١٠/٢٠ والهمع ٢/١٢٨ والأشموني ٣/١٣١، وليس ٢/١٦٢ والكتاب ٣/٨٦..
١٨ صدر بيت من الطويل عجزه:
وكلّ وصال الغانيات ذمام ***.....................
والشاهد فيه إن اللمام بمعنى القلة فهو يقول: إن لقاء أخلاء الصفا وإن تواتر قليل، والإلمام زيارة لا لبث فيها ووصال الغانيات وإن دام شرب غير مُروٍ لأن أيام السرور قصارٌ وإن طالت. وانظر الكشاف٤/٣٢ وشرح شواهده ٥٤٠، والبحر المحيط ٣٨/١٤٥ و١٥٥، وانظر اللسان لمم ٤٠٧٧ و٤٠٧٩ ومعاني القرآن للفراء ٣/١٠٠ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥/٧٤..

١٩ اللسان حشف ٨٨٧..
٢٠ وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: فَشَحَ وفَشَجَ وفشَّح وفشَّج إذا فرج ما بين رجليه بالحاء والجيم.
انظر السابق فشح وفشج ٣٤١٦..

٢١ وفشجت –بالجيم –أيضا- كما في اللسان..
٢٢ وانظر الرازي ج ١٥ دار الفكر ص ٨ و٩..
٢٣ وانظر تفسير العلامة القرطبي ١٧/١٠٦ و١٠٧ والبغوي والخازن ٦/٢٦٥ و٢٦٦..
٢٤ في البغوي: والعينان زناهما النظر والأذنان....
٢٥ زيادة من (أ)..
٢٦ في (أ) الكتاب بدل الكلام. تحريف. وانظر البغوي والخازن السابقين..
٢٧ في (ب) والرازي: تقرير وليس تصوير..
٢٨ في (ب) ضل..
٢٩ وفيهما: فإن القائل. وفي الرازي: العامل..
٣٠ في (ب) لا نعلم في الرازي: نعمل..
٣١ في (ب) عالم ماذا أنشأكم وفي الرازي: "هو أعلم بكم إذ أنشأكم" وانظر الرازي بالمعنى ١٥/١٠..
٣٢ كلمة قوله سقطت من (أ)..
٣٣ زيادة للسياق..
٣٤ وانظر تفسير الإمام الرازي المرجع السابق..
٣٥ زيادة من (أ)..
٣٦ البغوي والخازن ٦/٢٦٧ والقرطبي ١٧/١١٠..
٣٧ في النسختين خطاب. وهو تحريف نحوي..
٣٨ كذا في النسختين وفي الرازي: يعلمه –عائد على محمد صلى الله عليه وسلم..
٣٩ كذا في الرازي وفي النسختين تقديره..
٤٠ كذا في (أ) وفي (ب) والرازي معك..
٤١ في (ب) يقولون..
قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي تولى﴾ لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحداً منهم معيناً بسوء فعله.
قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على دينه فعيَّره بعض المشركين وقالوا له: تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال: إنِّي خَشِيتُ عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذابَ الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله ﴿أَفَرَأَيْتَ الذي تولى﴾ أي أدبر عن الإيمان «وأعطى» صاحبه «قَلِيلاً وأَكْدَى» بخل بالباقي. وقال السدي: نزلت في العاصِ بن وائل السّهمّي، وذلك أنه ربما وافق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمدٌ إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله ﴿وأعطى قَلِيلاً وأكدى﴾ أي لم يؤمن به. ومعنى «أَكْدَى» أي قطع.
قوله: «وَأَكْدَى» أصله من أَكْدَى الحَافِر إذا حَفَرَ شيئاً فصادف كُدْيَةً منعته من الحفر، ومثله: أَجْبَلَ أي صادف جَبَلاً مَنَعَهُ من الحَفْرِ، وكَدِيَتْ أَصَابِعُهُ كَلَّتْ من الحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتمِّمه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخِرَه. قال الحطيئة:
٤٥٦٠ - فَأَعْطَى قَلِيلاً ثُمَّ أَكْدَى عَطَاؤُهُ وَمَنْ يَبْذُلِ المَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ
ويقال: كَدَى النبتُ إِذا قلّ ريعُهُ، وكَدَتِ الأَرْضُ تَكْدُو كُدُّوا فهي كَادِيَةٌ إذا أبطأ نباتها. عن أبِي زَيْدٍ.
200
وأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عن الشيء رَدَدْتُهُ. وأَكْدَى الرَّجُلُ إذَا قَلَّ خَيْرُهُ، فقوله: ﴿وأعطى قَلِيلاً وأكدى﴾ أي قطع القليل.
و «أَرَأَيْتَ» بمعنى أخبرني. وقوله: «الَّذِي» يعود إلى الوليد (بنِ المُغِيرة) قال ابن الخطيب: والظاهر أنه يعود إلى المتولّي في قوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى﴾ [النجم: ٢٩].
فإن قيل: كان ينبغي أن يقول: الذين تولوا لأن (مَنْ) للعموم؟.
فالجواب: إن العود إلى اللفظ كقوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ﴾ [الأنعام: ١٦٠] ولم يقل: فلهم.
قوله: «فَهُوَ يَرَى» هذه الجملة مترتبة على ما قبلها ترتّباً ظاهراً. وقال أبو البقاء: «فَهُوَ يَرَى» جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، والأصل: أعِنْده علمُ الغيب فَيَرَى، ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جواب الاستفهام، انتهى. وهذا لا حاجة إليه مع ظهور الترتيب بالجملة الاسمية. وقد تقدم له نظير هذا الكلام والردّ عليه.
ومعنى الآية أعند هذا المُكْدِي علمُ الغيب - أي علم ما غابَ عنه - من العذاب فهو يرى أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وما يكون من أمره حتى يضمن حَمْلَ العذاب عن غيره وكفى بهذا جهلاً بأنه يرى ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.
قوله: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ﴾ أي لم يخبر ﴿بِمَا فِي صُحُفِ موسى﴾ يعني أسفار التوراة و «أم» منقطعة أي بل ألم ينبأ و «ما» في قوله «بِمَا» يحتمل أن يكون المراد جنس ما قبلها أي لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغيره. ويحتمل أن يكون عين ما في التوراة لا جنسه. وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب.
قوله: «وَإِبْرَاهِيمَ» عطف على «موسى»، أي وصحف إبراهيم، لقوله في سورة الأعلى: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى﴾ [الأعلى: ١٩].
وإنما خص هذين النبيين بالذكر، لأنه كان بين إبراهيم وموسى يؤخذ الرجلُ بجريرة غيره فأول من خالفهم إبراهيم قاله الهذيل بن شُرَحْبِيل. والعامة على وَفَّى بالتشديد. وقرأ أبو أُمامة الباهلي وسعيدُ بن جبير وابن السَّمَيْقَع: وَفَى مخففاً. وقد تقدم أن فيه ثلاثَ لغات. وأطلق التوفية والوفاء ليتناولا كل ما وفى به والمعنى تَمَّ وأكمل ما أُمِرَ به.
201
قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة: عمل ما أمر به، وبلغ رسالةَ ربه إلى خلقه. وقال مجاهد: وفى بما فرض عليه. وقال الربيع: وفى رُؤْياه وقام بذبح ابْنه. وقال عطاء الخراساني: استكمل الطاعة. وقال أبو العالية: هو الإتمام في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤] والتوفية الإتمام. وقال الضحاك: وفَّى المناسك. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إبرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ».
قوله: ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ «أن» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف هو ضمير الشأن و «لاَ تَزِرُ» هو الخبر. وجيء بالنفي لكون الخبر جملة فعلية متصرفة غير مقرونة كما تقدم تحريره في المائدة. و «أن» وما في حيّزها فيها قولان:
أظهرهما: الجر بدلاً من «ما» في قوله ﴿بما في صحف﴾.
والثاني: الرفع خبراً لمبتدأ مضمر أي ذَلِك أن لا تزرُ أو هو أن لا تزرُ. وهو جواب لسؤال مقدر؛ كأن قائلاً قال: وما في صحفهما؟ فأجيبَ بذلك.
قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون نصباً بإضمار «أعني» جواباً لذلك السائل وكل موضع أضمر فيه هذا المبتدأ لهذا المعنى أضمر فيه هذا الفِعل.

فصل


معنى الآية: أنه لا تحمل نفسٌ حِمْلَ أخرى أي لا تُؤخَذُ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإِثم.
وروى عكرمة عن ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) قال: كانوا قبل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يأخذون الرجل بذنب غيره وكان الرجل يُقْتَلُ بقَتْل أبيه وابنه وأخواته حتى جاءهم إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عَزَّ وَجَلَّ أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى.
فإن قيل: الآية مذكورة لبيان أن وِزْرَ الرجل لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة، لأن الوَازِرَةَ تكون مثقلةً بوِزْرِها وكل أحد يعلم أنها لا تحمل شيئاً فلو قال: لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ.
202
فالجواب: أن المراد من الوَازِرَةِ هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وَزَرت وحَمَلَتْ.
ونقل القرطبي عن أبي مالك الغِفاريّ قال: قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ إلى قوله: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى﴾ في صحف إبراهيم وموسى.
قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ أن هي المخففة أيضاً ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف. ومحلها الجر أو الرفع، أو النصب لعطفها على (أن) قبلها، وكذلك محل: «وَأَنَّ سَعْيَهُ». و «يُرَى» مبني للمجهول، فيجوز أن تكون من البَصَرِية أي يُبْصَر، وأن تكون من العِلْميَّة فيكون الثاني محذوفاً أي يرى حاضراً. والأول أوضح.
وقال مكي: وأجاز الزجاج: يَرَى بفتح الياء على إضمار الهاء؛ أي سَوْفَ يَرَاهُ ولم يُجِزْهُ الكوفيُّونَ لأن «سعيه» يصير قد عمل فيه أنّ، و «يَرَى». وهو جائز عند المبرِّد وغيرِهِ؛ لأنَّ دخولَ «أنّ» على «سَعْيَهُ» وعملها فيه، يدل على الهاء المحذوفة مِنْ «يُرَى» ؛ وعلى هذا جوز البصريون: إنَّ زيداً ضَرَبْتَ بغير هاء.
قال شهاب الدين: وهو خلاف ضعيف توهموا أن الاسم توجه عليه عاملانِ مختلفان في الجنسية، لأن رأي بعضهم أن يعمل فِعْلاَنِ في معمول واحد، ومنه باب التنازع في بعض صوره، نحو: قَامَ وقَعَدَ زَيْدٌ وضَرَبْتُ وأكرمْتُ عَمْراً وأن يعمل عامل واحد في اسم وفي ضميره معاً نحو: زَيْداً ضَرَبْتُهُ في باب الاشتغال. وهذا توهم باطل؛ لأنا نقول: سَعْيَهُ منصوب «بأَنَّ» و «يُرَى» متسلط على ضميره المقدر فظاهر هذا أنه لم يقرأ به.
وقد حكى أبو البقاء أنه قرىء به شاذًّا، ولكه ضعفه من جهة أخرى فقال:
203
وقرئ بفتح الياء، وهو ضعيف؛ لأنه ليس فيه ضمير يعودُ على اسم أنَّ وهو السَّعْي والضمير الذي فيه الهاء فيبقى الاسم بغير خبر وهو كقولك: إنَّ غُلاَمَ زَيْدٍ قَامَ وأنت تعني قام زيد، فلا خبر «لغُلاَمٍ».
وقد وُجِّه على أن التقدير سوف يَرَاهُ فتعود الهاء على السَّعي. وفيه بعد. انتهى.
قال شهاب الدين: وليت شعري كيف توهم المانع المذكور وكيف نظّره بما ذكر؟ ﴿ثم أي بعد في تقدير سوف يَرَى سَعْي نَفْسِهِ؟﴾ وكأنه اطلع على مذهب الكوفيين في المنع إلا أن المُدْرَكَ غير المُدْركِ.
قوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ أي عَمِل، كقوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى﴾ [الليل: ٤]. وهذا أيضاً في صُحُف إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. قال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: ٢١] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.
وقال عكرمة: كان ذلك لقَوم إبراهيم وموسى أما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لِمَا «رُوِيَ أن امرأةً رَفَعَتْ صبيًّا لها فقالت يا رسول الله: ألهذا حَجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أجرٌ».
«وقال رجل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إن أمّي قَتَلَتْ نفسها فهل لها أجر إن تصدّقت عنها؟ قال: نعم».
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيةَ: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
الثالث: أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.
الرابع: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير.
الخامس: أن الله يُخْرج من النار من لم يعمل خيراً قطّ بمَحْض رحمته. وهذا انتفاع بغير عملهم.
204
السادس: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمَحْضِ عَمَل الغَيْرِ.
السابع: قال تعالى في قصة الغلامين اليتمين: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ [الكهف: ٨٢]. فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما.
الثامن: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعِتْق بنصِّ السّنة والإجماع، وهو من عمل غيره.
التاسع: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وَلِيِّه بِنَصِّ السُّنَّة وهو انتفاع بعمل الغير.
العاشر: أن الصوم المنذور والحجَّ المنذور يسقط عن الميت بعَمَلِ غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير الذي امتنع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الصلاة عليه حتى قضى دينَهُ أبو قَتَادَةَ، وقضى دَيْنَ الآخر عليُّ بن أبي طالب قد انتفع بصلاة النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير.
الحادي عشر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «قال لمن صلَّى وحده: ألا رجل يتصدق على هذا الرجل فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفضل الغير».
الثاني عشر: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديوان الخَلْق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل غيره.
الثالث عشر: أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره.
الثالث عشر: أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره.
الرابع عشر: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير.
الخامس عشر: أن جليسَ أهلِ الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجةٍ عَرَضَتْ له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره.
السادس عشر: الصَّلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.
السابع عشر: أن الجُمعَة تحصل باجتماع العدد، وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعْضِ بالبَعْضِ.
الثامن عشر: أن الله قال لنبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] وقال: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ﴾ [الفتح: ٢٥] وقال ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [الحج: ٤٠] فقد دفع الله العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير.
205
التاسع عشر: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن الرجل ينفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له.
العشرون: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فكيف يجوز أن يتناول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ ﴿.
والمراد بالإنسان العُمُوم.
وقال الربيع بن أنس: ليس للإنسان - يعني الكافر - وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له. وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير.
ويروى: أن عبد الله بن أبي (ابن سلول) كان أعطى العَبَّاس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قميصه ليكفن فيه فلم يبق له حسنةٌ في الآخرة يُثَابُ عَلَيْهَا.
وقوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى﴾
أي يرى في ميزانه يوم القيامة من أَرَيْتُهُ الشيءَ أي يعرض عليه ويكشف له.
فإن قيل: العمل كيف يرى بعد وُجوده ومُضِيِّه؟}.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: يرى على صورة جميلة إن كان العملُ صالحاً.
الثاني: قال ابن الخطيب: وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كلّ موجود يَرَى الله والله قادر على إعادة كل ما عُدِمَ فبعد الفعل فيرى. ووجه آخر وهو أن ذلك مجاز عن الثواب كقولك: «سترى إحسانك» أي جزاءه. وفيه نظر؛ لقوله بعد ذلك: ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى﴾.
قوله: «ثُمَّ يُجْزَاهُ» يجوز في الضمير وجهان:
أظهرهما: أن الضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود على «سَعْيهُ» والجزاء مصدر مبيِّن للنوع.
والثاني: قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله: «الجَزَاءَ»، أو أبدله منه كقوله: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣].
قال أبو حيان: وإذا كان تفسيراً للضمير المنصوب في «يُجْزَاهُ» فعلى ماذا
206
يَنْتَصِبُ؟ وأما إذا كان بدلاً فهو من بدل الظاهر من المُضْمَر.
وهو مسألة خلاف. والصحيح المنعُ.
قال شهاب الدين: العجب كيف يقول: فعلى ماذا ينتصب؟ وانتصابه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون عطف بيان وعطف البَيَان يصدق عليه أنه مفسِّر. وهي عبارة شائعة.
الثاني: أن ينتصب بإضمار «أعْني» وهي عبارة شائعة أيضاً يسمون مثل ذلك تفسيراً.
وقد منع أبو البقاء أن ينتصب «الجَزَاءَ الأَوْفَى» على المصدر فقال: «الجَزَاءَ الأَوْفَى» هو مفعول «يُجْزَاهُ» وليس بمصدر؛ لأنه وصفه بالأَوْفَى وذلك من صفة المجزيّ به لا من صفة الفِعْلِ.
قال شهاب الدين: وهذا لا يبعد عن الغَلَط؛ لأنه يلزم أن يتعدى «يُجْزَى» إلى ثلاثة مفاعيل؛ لأن الأول قام مقام الفاعل والثاني «الهاء» التي هي ضمير السعي، والثالث «الجزاء الأوفى». وأيضاً فكيف ينتظم المعنى؟ وقد يجاب عنه بأنّه أراد أنه بدل من الهاء، كما تقدَّم عن الزمخشَريِّ.
ويصح أن يقال: هو مفعول «يُجْزَاه» فلا يتعدى لثلاثة حينئذ إلا أنه بعيدٌ عن غرضِهِ. ومثل هذا إلْغَازٌ.
207
وأما قوله: «وَالأَوْفَى ليس من صفات الفعل» ممنوعٌ، بل هو من صفاته مجازاً، كما يوصف المجزيّ به مجازاً فإن الحقيقة في كليها منتفيةٌ وإنما المتصف به حقيقة المجازى.
وقال ابن الخطيب: والجزاء يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ [الإنسان: ١٢] ويقال جزاك الله خيراً، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف الجر، فيقال: جَزَاهُ الخَيْرَ عَلَى عَمَله الجَنَّة، وقد يحذف الجار ويوصل الفعل، فيقال: جَزَاهُ الخَيْرَ عَمَلَه الجَنَّة.

فصل


والمُرَادُ بالجَزَاء الأوفى: الأكمل والأتمَّ أي يُجْزَى الإِنسانُ سَعْيَهُ؛ يقال: جَزَيْتُ فلاناً سَعْيَهُ وبِسَعْيِهِ قال الشاعر:
٤٥٦٧ - إنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ لَمْ أَجْزِهِ بِبَلاَءِ يَوْمٍ وَاحِدِ
فجمع بين اللغتين.
قال ابن الخطيب: والجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين؛ لأن جزاء الصالح وافرٌ، قال تعالى: ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ [الإسراء: ٦٣] وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام، فهي في نفسها أوفى. فإن قيل: «ثُمَّ» لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يُجْزَاهُ؟ فإن تكان لتراخي الجزاء فكيف يُؤَخَّر الجزاء عن الصالح وقد قلت: إن الظاهر أن المراد منه الصالحون؟!.
نقول: الوجهان محتملان وجواب السؤال أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت؛ لأن الله تعالى من أوّل زمان يتوبُ الصالح يجزيه خيراً ويؤخِّر له الجزاء الأوفى وهي الجنَّة.
أو نقول: الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ [يونس: ٢٦] وهي الجنة ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] وهي الرؤية، فكأنه تعالى قال: وأنَّ سعيه سوف يرى ثم
208
يرزقُ الرؤيةَ. وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ، فإن الأوفى مطلقٌ غير مبيّن، فلم يقل: أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل وافٍ ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى.

فصل


قال في حق المسيء: لاَ تزِرُ وَازِرَةٌ (وِزْرَ أُخْرَى) وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوَازرة، ولا يلزم من ذلك بقاء الوِزر عليها من ضَرُورة اللفظ؛ لجواز أن يسقط عنها، ويمحو الله ذلك الوِزر، فلا يبقى عليها ولا يحمل عنها غيرُها، ولو قال: لا تَزِرُ (وَازِرَةٌ) إلا وزر نفسها لكان من ضرورة الاستثناء أنها تزر. وقال في حق المحسن: ﴿لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ ولم يقل: ليس له ما لم يَسْعَ؛ لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء فقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءَه، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه، وكل ذلك إشارةٌ إلى سَبْق الرحمةِ الغَضَبَ.
قوله [تَعَالَى:] ﴿وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى﴾ العامة على فتح همزة «أَنَّ» وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ.
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء ومعنى الآية: إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم. وقيل: منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال. وروى أو هريرةَ مرفوعاً: تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ.
قال القرطبيُّ: ومن هذا المعنى قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ» ولهذا أحسن من قال (رحمة الله عليه ورضاه) (شعْراً) :
209
وقيل: المراد من هذه الآية التوحيد.
وفي المخاطب وجهان:
أحدهما: أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل.
والثاني: أنه خطاب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في «المُنْتَهَى» للعهد الموعود في القرآنِ.
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى، وعلى الأول يكون «مُبْتدًى».
فالجواب: منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده.
قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى﴾ (أضحك وأبكى) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه.
و «أَضْحَك وَأَبْكَى» (أضحك وأبكى) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه. و" أَضْحَك وَأَبْكَى " لا مفعول لهما في هذا الموضع؛ لأنها مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل: فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى.

فصل


اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم، فإِنهم يقولون: سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال.
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا: لقوة التعجب وهو باطل، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك. وقيل: لقوة الفرح؛ وليس كذلك؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم (شعراً)
٤٥٦٨ - وَلاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ
210
وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ.
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب.

فصل


إِذا قيل: بأن المراد بقوله تعالى: ﴿إلى رَبِّكَ المنتهى﴾ إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يقول: بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول: بأنه موجب لا قادر فقال تعالى: هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي، والموت والحياة، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل.
وإن قيل: بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة.

فصل


هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرضَ بالنبات، وأبكى السماءَ بالمَطَر، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء.

فصل


«روى مسلمٌ عن عائشةَ - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْها) - قالت: والله ما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله، ولكنه قال: إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً، وإن الله لهو أضحك وبكى، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى».
وعنها قالت: «مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، فنزل جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال يا محمد: إن الله يقول لك: إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال: إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول: هُوَ أضحك وأبكى»
أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء.
211
وقال بَسَّامُ بن عبد الله: أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [رَحِمَهُ اللَّهُ] :
٤٥٦٩ - هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي
٤٥٧٠ - السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ
قيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات. وقيل: إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المَقْدِسيُّ: أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ؟ فقال: ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ أي أمات في الدُّنْيَا، وأحيا للبعث. وقال القرطبي: قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خَلَقَ الموت والحياة. قاله ابن بحر. وقيل: أمات النُّطْفَة وأحيا النَّسمة، وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالكفر، وأحيا المؤمن بالإيمان.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: معنى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت؟.
نقول: فيه وجوه:
أحدها: أنه على التقديم والتأخير كأنه قال: أَحْيَا وَأَمَاتَ.
ثانيها: هو بمعنى المستقبل، فإن الأمرَ قريبُ المُسْتَقْبل، يقال: كَأنّ فلاناً وصل والليلُ دَخَلَ، إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة.
ثالثها: أنه خلق الموت والجمود في العَنَاصر ثم ركَّبها و «أَحْيَا» أي خلق الحِسَّ والحركة فيها.
قوله: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى﴾ أي من كل حيوان. ولم يرد آدمَ وحوّاء؛ لأنهما ما خُلقا من نطفة. وهذا أيضاً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم الطَّبِيعِيّ، والذي يقولونه من البرد والرطوبة في الأنثى فرُبَّ امرأةٍ أحر وأَيْبَسُ مزاجاً من الرّجُل.
212
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ﴾ ولم يقل: «وأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ» كما قال: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى﴾ ؟
فالجواب: أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنه بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد لكن ربما يقول به جَاهلٌ كما قال من حَاجَّ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ﴿قَالَ أَنَاْ أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فأكد ذلك بالفصل. وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحدٌ أنه بفعل واحدٍ من الناس، فلم يؤكد بالفصل، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى﴾ حيث كان الإغناء عندهم غيرَ مسند إلى الله، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ [القصص: ٧٨] وكذلك قال: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
واختلفوا في الذكر والأنثى هل هما اسمان وهما صفةٌ؟ أو اسمان ليسا بصفة؟ فالمشهور عند أهل اللغة أنهما اسمان ليسا بصفةٍ.
قال ابن الخطيب: والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحَسَنِ، والأنثى كالحُبْلَى والكُبْرَى.
قوله: ﴿مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى﴾ أي تُصَبُّ في الرَّحِمِ؛ يُقَالُ: مَنَى الرَّجُلُ وأمْنَى. قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح.
وقيل: تقدر، يقال: مَنَيْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتهُ. وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة، لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء يخلق اللَّهُ منها أعضاء مختلفةً، وطباعاً متباينةً، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون، ولهذا لم يَقْدِرِ أحد على أن يَدَّعِيَهُ كما لم يَقْدِر على أن يَدَّعِيَ خلق السموات، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥].
قوله: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى﴾ أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد من قوله: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى﴾ هو نفخ الروح الإنسانية فيه كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٣ و١٤] أي غير خلق النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً. وبهذا الخلق الآخر وهو نفخ الروح تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات فكما قال هناك: ﴿أنشأناه خلقاً آخر﴾
213
بعد خلق النطفة قال ههنا: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى﴾ فجعل خلق الروح نشأةً أخرى كما جَعَلَه هناك إِنشاءً آخَرَ.
فإن قيل: الإعادة لا تجب على الله، فما معنى قوله تعالى: «وأنَّ عَلَيْهِ» ؟
فالجواب على مذهب المعتزلة يجب عليه عقلاً، فإن الجزاء واجب، وذلك لا يتم إلا بالحشر فتجب الإعادة عليه عقلاً، وأما على مذهب أهب السنة ففيه وجهان:
الأول: «عَلَيْهِ» بحكم الوعد، فإنه قال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى﴾ [يس: ١٢] «فَعَلَيْهِ» بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشَّرْع.
الثاني: «عليه» بحكم التعيين، فإن من حَضَرَ بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه، يقال له: وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أنْ تَفْعَلَه أي تَعَيَّنْتَ لَهُ.

فصل


قرىء النَّشْأَةَ على أنه مصدر كالضَّرْبَةِ على وزن فَعْلَةٍ وهي المَرَّة يقال: ضَرْبَةٌ وضَرْبَتَانِ يعني النشأة مرة أخرى عليه. وقرىء النَّشاءة - بالمد - على أنه مصدر على وزن فَعَالَةٍ، كالكَفَالَةِ. وكيفما قُرِىءَ فهي من «نَشَأَ»، وهو لازمٌ.
قوله: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى﴾ قال أبو صالح: «أغنى» الناسَ بالأَمْوَالِ «وأقنى» أعطى القُنيَةَ وأصول الأموال وما يَدَّخِرُونَه بعد الكِفاية.
وقال الضحاك: «أغنى» بالذهب والفضة، وصنوف الأموال، «وأقنى» بالإبل والبَقَر والغنم، وقال الحسن وقتادة: أخْدَمَ. وقال ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أغْنَى وأَقْنَى أَعْطَى فَأَرْضَى. وقال مجاهد ومقاتل: أرضى بما أعطى وقنع. وقال الراغب: وتحقيقه أنه جعل له قنيةً من الرِّضا.
وقال سُلَيْمَان التَّيْميّ: أغنى نفسه وأفقر خلقه إِليه. وقال ابن زيد: «أغنى» أكثر «وأقنى» أقلَّ، وقرأ: ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الإسراء: ٣٠].
وقال الأخفش: «أقنى» : أفقر. وقال ابن كيسان: أوْلَدَ. قال الزمخشري: «أقنى» أعطى القُنْيَةَ، وهي المال الذي تأثَّلْته وعزمت أن لا يخرج من يدك. وقال
214
الجَوْهَرِيُّ: «قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنًى» مثل «غَنِيَ يَغْنَى غِنًى»، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال: قَنيتُ مالاً أي كَسَبْتُهُ، وهو نظير: شَتِرَتْ عَيْنُه - بالكسر - وشَتَرَها اللَّهُ - بالفتح - فإذا أدخلت عليه الهمزة أو التضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أَقْنَاهُ اللَّهُ مالاً، وقناه إياه أي أكْسَبَهُ إيَّاه، قال الشاعر:
٤٥٧١ - كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ إِقْلاَلِ
أي تقنى مالاً، فحذف (المفعول الثاني). وحذف مفعولا «أغنى وأقنى» ؛ لأن المراد نسبةُ هذيْنِ الفعلين إليه وحْدَهُ، وكذلك في باقيها، وألف «أقنى» عن ياءٍ، لأنه من القِنْية؛ قال:
٤٥٧٢ - ألاَ إنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْيَةً... ويقال: قَنِيتُ كَذَا وأَقْنَيْتُهُ، قال:
٤٥٧٣ -................................. قَنِيتُ حَيَائِي عِفَّةً وتَكَرُّمَا
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ والشِّعْرَى في لسان العرب كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة، فإِنَّ خُزَاعَةَ كانت تعبدها، وسن عبادتها أبو كبشة رجلٌ من سادتهم فعبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عَرْضاً والشِّعْرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدتها خُزَاعَةُ وحِميرُ وأبو كبشة أحد أجداد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قِبَل أمهاته، وبذلك كان مشركو قريش يُسمونَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله، وخالف أدْيَانَهُمْ، فكانت قريشٌ تقولُ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ابْنَ أبي كبشة تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحْدَثَ ديناً غيرَ دِينهِمْ.
والشِّعرى العبور تطلع بعد الجوْزَاء في شدة الحر ويقال لها: مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار، ويسمى الشعرى اليمانية والثاني الشعرى الغُمَيْصَاء، وهي التي في الذّراع
215
والمجرة بينهما وتسمى الشامية، وسبب تسميها بالغميصاء - على ما زعمت العرب في بعض خرافاتها - أنهما كانتا أختين لسُهَيْل فانحدر سُهَيْلٌ إلى اليمن فاتبعته الشّعرى العَبُور فعبرت المجرة فسُمِّيَت العبور، وأقامت الغميصاءُ تبكي لفَقْدِهِ، حتى غمصت عينها، ولذلك كانت أخفى من العبور. وقد كان من لا يعبد الشِّعرى من العرب يعلمها ويعتقد تأثيرها في العالم قال:
٤٥٧٤ - مَضَى أَيْلُولُ وَارْتَفَعَ الحَرُورُ وَأَخْبَتْ نَارَها الشِّعْرَى العَبُورُ

فصل


وهذا الآية إشارة إلى فساده قولِ قوم آخرين؛ لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده، فمن كسب استغنَى، ومن كسل افْتَقَرَ، وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بسبب الطالع وذلك بالنجوم فقال: هو أغنى وأقنى وإن قال قائل: إن الغنى بالنجوم فيقال: هو رَبّ النجوم ومُحَرِّكُها لقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ لإنكارهم ذلك أُكِّد بالفصل.
قوله: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى﴾ اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلاً وتوجيهاً.
قال شهاب الدين (رَحِمَهُ اللَّهُ) : وَقَد يَسَّرَ الله تعالى تحرير ذلك بحَوْله وقوّته فأقول: إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب:
إِحْدَاها: قرأ ابن كثير وابنُ عامر والكوفيون «عَادٍ الأُولَى» بالتنوين مكسوراً وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها. هذا كله في الوصل، فإِذا وقفوا على «عَادٍ» ابتدأوا ب «الأولى» فقياسهم أن يقولوا الأولى بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة.
الثانية: قرأ قالون: عَاداً لُّؤْلَى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وهمز الواو هذا في الوصل، وأما في الابتداء ب «الأولى» فله ثلاثة أوجه:
الأول: الُؤْلَى - بهزة وصل ثم بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة.
216
الثاني: لُؤْلَى - بلام مضمومة، ثم بهمزة ساكنة.
الثالث: كابتداء ابن كثير ومن معه.
الثالثة: قرأ ورشٌ عاداً لُّولى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلةٍ همزةً. هذا (كله) في الوصل وأما في الابتداء فله وجهان الُؤْلَى بالهمزة والنقل، ولُولَى بالنقل دون همزة وصل. والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين.
الرابعة: قرأ أبو عمرو كورشٍ وصلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ إلاّ أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث وهو وجه ابن كثير وَمَنْ مَعَهُ.
فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ وأن لورشٍ وَجْهَيْنِ؛ فتأمل ذلك، فإنَّ تحريره ضعيفُ المأخذ من كتب القراءات.
وأما توجيهها فيتوقف على معرفة ثلاثة أصول:
الأول: حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن.
الثاني: حكم حركة النقل.
الثالث: أصل «أولى» ما هو.
أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ اللَّهُ﴾ [الإخلاص: ١ - ٢] أو يحذف تشبيهاً بحرف العلة كقراءة: ﴿أَحدُ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ وكَقَوْلِهِ:
٤٥٧٤ - وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ وهو قليل جداً. وقد مضى تحقيقه.
وأما الثاني: فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين الاعتداد بالحركة، وعدم الاعتداد بها وهي اللغة الغالبة.
وأما الثالث: فأُولَى تأنيث «أَوَّل». وقد تقدم الخلاف في أصله في: «أَوَّل» فليُلْتَفَتْ إليه.
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول:
217
أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا «عاداً» إمّا لأنه اسم للحيّ أو الأب فليس فيه ما يمنعه، وإمَّا لأنه وإن كان مؤنثاً اسماً للقبيلة أو الأم إلا أنه مثل هنْد ودَعْد، فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله:
٤٥٧٦ - لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزرِهَا دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ فِي العُلَبِ
فصرفها أولاً ومنعها ثانياً.
ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان فكسروا التنوينَ لالتقائهما على ما هو المعروف من اللّغتين. وحذفوا همزة الوصل من الأولى للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلاً، فإذا ابتدأوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها، فقالوا «الاولى» كنظيرها من همزات الوصل، وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الْغَفيرُ.
وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف - وهما نافع وأبو عمرو - مع اختلافهما في أشياء كما تقدم فوجهه الاعتدادُ بحركة النقل، وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كَلاَم التعريف عَامَلَها مُعَامَلَتَها ساكنةً، ولا يعتدُّ بحركة النقل فيكسر الساكن الواقع قبلها، ولا يُدْغِم فيها التنوين ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول: لَمْ يَذْهَب الْحَمَرُ، ورأيت زياداً الْعَجَمَ من غير إدغام التنوين، والحمر والعجم بهمزة الوصل؛ لأن اللام في حكم السكون، وهذه هي اللغة المشهورة. ومنهم من يعتدّ بها فلا يكسر الساكن الأول ولا يأتي بهمزة الوصل ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقول: لم يذهبْ لحمرُ - بسكون الباء - «ولحمر ولعجم» من غير همز، وزياد لَّعْجعم بتشديد اللام وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءةُ.
هذا من حيث الإجمال وأما من حيث التفصيل فأقول:
أما قالونُ فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدْغَام ولما نقل الحركة اعتدَّ بها؛ إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه.
218
وأما همزة الواو ففيها وجهان منقولان:
أحدهما: أن يكون «أولى» أصلها عنده وُؤْلَى من وَأَلَ أي نَجَا كما هو قول الكوفيين، ثم أبدل الواو الأولى همزة، لأنها واو مضمومة وقد تقدم أنها لغة مُطَّرِدَة. فاجتمع همزتان ثانيهما ساكنة فوجب قلبها واواً نحو: أومِنُ، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمز؛ لأنها إنما قلبت واواً من أجل الأولى وقد زالت. وهذا تكلف لا دليل عليه.
والثاني: أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضّمة قبل الواو كأنها عليهما؛ لأن حركة الحرف بين يديه فأبدل الواو همزة كقوله:
٤٥٧٧ - أَحَبُّ المُؤقِدَيْنِ إلَيَّ مُؤْسَى... وكقراءة «يُؤقِنُونَ» وهمزة ﴿السُّؤْقِ﴾ [ص: ٣٣] و ﴿سُؤْقِهِ﴾ [الفتح: ٢٩] كما تقدم تحريره. وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضاً. وليس في هذا الوجه دليلٌ على أصل «أولى» عنده ما هو فيحتمل الخلاف المذكور جميعه.
وأما ابتداؤه الكلمة من غير نَقْل، فإنه الأصل، ولأنه إنما ثقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل، ولأنه إنما ثقل في الوصل وأما الابتداء بالنقل فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سَنَنٍ واحد.
وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحدِ وَجْهَيْنِ:
ترك الاعتداد بحركة اللام على ما هي عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل؛ إذ الغرض إنما هو جَرْي اللفظ في الابتداء والوصل على سَنَنٍ واحد وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه. وعلة ترك الإتيان بألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعاً ويقوِّي هذا الوجه رسمُ (الأولى) في هذا الموضع بغير ألف. والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم.
وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده من التخفيف بالإدغام وليس من أصله الاعتداد
219
بالحركة في نحو ذلك، ألا ترى أنه يحذف الألف في (سِيرَتِهَا الأولَى) [و] ﴿وَيَتَجنُبهَا الأَشْقَى﴾ [الأعلى: ١١] ولو اعتد بالحركة لم يحْذِفْهَا.
وأما ما جاز عنه في بعض الروايات: ﴿قالوا لاَنَ جِئْتَ﴾ [البقرة: ٧١] ؛ فإنه وجه نادرٌ ومُعَلَّل باتِّباع الأثر والجمع بين اللغتين والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضاً والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة إذْ لا حاجةَ إلى قصد ذلك في الابتداء وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملاً للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضاً ولا يبتدأ له بالأصل؛ إذ ليس من أصله ذلك، و «الأولى» في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها.
وأما قراءة أبي عمرو فالعلة له في قوله في الوصل والابتداء كالعلة المتقدمة لقالونَ، إلا أنه يخالفه في همز الواو؛ لأنه لم يعطِها حكم ما جاورها، فليست عنده من «وَأَلَ» بل من غير هذا الوجه كما تقدم الخلاف في أول هذا الكتاب، ويجوز أن يكون أصلها عنده من «وَأَلَ» أيضاً، إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغةً في التخفيف أو موافقة لحال ترك النقل.
وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءةَ الإدْغَام - أبو عثمانَ وأبو العباس ذهاباً منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض، ولكن لا التفات إلى ردِّها لثُبُوت ذلك لغةً وقراءةً وإن كان غيرها أفصح منها وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون الَحْمَرَ ولَحْمَر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل والله أعلم.
وقرأ أبيّ - وهِيَ في حَرْفِهِ - «عَادَ الأُولى» غير مصروف ذهاباً به إلى القبيلة أو الأم كما تقدم؛ ففيه العلمية والتأنيث، ويدل على التأنيث قوله «الأُولى» فوصفها بوصف المؤنث.

فصل


عاد الأولى هم قوم هود أهلكوا بريح صَرْصَر، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى. قال القرطبي: سماها الأولى، لأنهم كانوا قبل ثمود.
وقيل: إنّ ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة
220
وَالسَّلَام ُ -. وقال ابن إسحاق: هما عَادانِ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة. وقيل: عاد الأولى هي عاد بن إرَم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى، والمعنى متقارب. وقيل: إن عاداً الآخرة هم الجبَّارون. وهم قوم هود.
قوله: ﴿وَثَمُودَ فَمَآ أبقى﴾ قد تقدم الخلاف في «ثَمُود» بالنسبة إلى الصرف وعدمه في سورة «هود». وفي انتصابه هنا وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على «عَاداً».
والثاني: أنه منصوب بالفعل المقدر أي «وَأَهْلَكَ». قاله أبو البقاء، وبه بدأ. ولا يجوز أن ينتصب ب «أَبْقَى» لأن ما بعد «ما» الثانية لا يعمل فيها قَبْلَهَا، والظاهر أنّ متعلق «أبقى» عائد على من تقدم من عادٍ وثمود أي فما أبقى عليهم - أي على عادٍ وثمود - أو يكون التقدير: فما أبقى منهم أحداً، ولا عيناً تَطْرِفُ. ويؤيد هذا قوله: ﴿فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٨].
قوله: «وَقَوْمَ نُوحٍ» كالذي قبله و «مِنْ قَبْلُ» أي من قبل عادٍ وثمودَ.
وقوله: «إنَّهُمْ» يحتمل أن يكون الضمير لقوم نوح خاصةً، وأن يكون لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة.
قوله: «كانوا هم» يجوز في «هم» أن يكون تأكيداً، وأن يكون فصلاً. ويضعف أن يكون بدلاً. والمفضل عليه محذوف تقديره: من عادٍ وثمودَ على قولنا: إن الضمير لقوم نوح خاصةً، وعلى القول بأن الضمير للكل يكون التقدير: من غَيْرِهم من مُشْرِكي العَرَب، وإن قلنا: إن الضمير لقوم نوح خاصة والمعنى أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأطْغَى لطول دعوة نوح إياهم وعُتُوِّهِمْ على الله بالمعصية والتكذيب وهم الباقون بالظلم والمتقدمون فيه ومن سن سنة سيئة فعليه وِزْرها ووزرُ من عمل بها والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بَعْدَ الإصرار العظيم والظالم
221
واضع الشيء في غير موضعه، والطَّاغِي المجاوز للْحَدِّ.
فإن قيل: المراد من الآية تخويف الظالم بالهلاك، فإذا قيل: إنهم كانوا في غايةِ الظلم والطُّغْيَان فأهلكوا (ويقول الظالم: هم كانوا أظلم فأهلكوا) لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا، فلا نهلك، فلو قال: أهلكوا لظلمهم لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله: أظلم؟
فالجواب: أن المقصود بيان (شِدَّتِهِمْ) وقوة أجسامهم، فإنهم لم يقدموا على الظلم والطُّغْيَان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحدٌ منهم فما حال من هو دونهم في العمر.
رُوِيَ أن الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه ينطلق به إلى قوم نوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه.
قوله: «وَالمُؤْتَفِكَةَ» منصوب ب «أَهْوَى» ؛ وقدم لأجل الفواصل. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط «أَهْوَى» أسقط، أي أهواها جبريلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد ما رفعها إلى السماء.
قوله: «فَغَشَّاهَا» أي ألْبَسَهَا الله «ما غشى» يعني الحجارة المصورة المسوَّمة. وقوله «مَا غَشَّى» كقوله «مَا أَوْحَى» في الإبهام وهو المفعول الثاني إن قلنا: إن التضعيف للتعدية، وإن قلنا: إنه للمبالغة والتكثير فتكون «ما» فاعله كقوله: ﴿فَغَشِيَهُم مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه: ٧٨] والمؤتفكة المنقلبة. وقرىء: والْمُؤْتَفِكَاتُ.
فإن قيل: إذا كان معنى «المؤتفكة» المنقلبة ومعنى «أهوى» قلبها فيكون المعنى والمنقلبة قلبها وقلب المنقلبة تحصيل حاصل.
فالجواب: أن معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قَلَبَها فانْقَلَبَتْ.
قوله: «فبأي» متعلق ب «تتمارَى» والباء ظرفية بمعنى «فِي» والآلاء النعم واحدها إلْي وإلى وأَلاً.
والمعنى فبأي نعم ربك تشك، وقرأ ابن مُحَيْصِن ويعقوب: «تَمَارَى» بالحذف كقوله: «تَذَكَّرُونَ».
222

فصل


قيل: هذا أيضاً مما في الصحف. وقيل: هو ابتداء لكلام، والخطاب عام، والمعنى فبأي آلاء أي نعم ربك أيها الإنسان تتمارى تشك وتجادل. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) : تكذب. وقيل: هذا خطاب مع الكافر.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: خطاب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يقال: كيف يجوز أن يقول للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تتمارى؟ لأنا نقول: هو من باب: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أنّ فارضاً لو فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراءُ في نعم الله تعالى. والصحيح العموم كقوله تعالى: ﴿يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم﴾ [الانفطار: ٦] وقوله: ﴿وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ [الكهف: ٥٤].
223
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي تولى ﴾ لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحداً منهم معيناً بسوء فعله١.
قال مجاهد وابن زيد ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه فعيَّره بعض المشركين وقالوا له : تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال : إنِّي خَشِيتُ عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذابَ الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله ﴿ أَفَرَأَيْتَ الذي تولى ﴾ أي أدبر عن الإيمان «وأعطى » صاحبه «قَلِيلاً وأَكْدَى » بخل بالباقي. وقال السدي : نزلت في العاصِ بن وائل السّهمّي، وذلك أنه ربما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمدٌ إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله ﴿ وأعطى قَلِيلاً وأكدى ﴾ أي لم يؤمن به٢. ومعنى «أَكْدَى » أي قطع.
قوله :«وَأَكْدَى » أصله من أَكْدَى الحَافِر إذا حَفَرَ٣ شيئاً فصادف كُدْيَةً منعته من الحفر، ومثله : أَجْبَلَ أي صادف جَبَلاً مَنَعَهُ من الحَفْرِ، وكَدِيَتْ أَصَابِعُهُ كَلَّتْ من الحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتمِّمه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخِرَه٤. قال الحطيئة :
فَأَعْطَى قَلِيلاً ثُمَّ أَكْدَى عَطَاؤُهُ وَمَنْ يَبْذُلِ المَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ٥
ويقال : كَدَى٦ النبتُ إِذا قلّ ريعُهُ، وكَدَتِ الأَرْضُ تَكْدُو كُدُّوا فهي كَادِيَةٌ إذا أبطأ نباتها. عن أبِي زَيْدٍ٧.
وأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عن الشيء رَدَدْتُهُ. وأَكْدَى الرَّجُلُ إذَا قَلَّ خَيْرُهُ، فقوله :﴿ وأعطى قَلِيلاً وأكدى ﴾ أي قطع القليل.
و«أَرَأَيْتَ » بمعنى أخبرني. وقوله :«الَّذِي » يعود إلى الوليد ( بنِ المُغِيرة ) قال ابن الخطيب : والظاهر أنه يعود إلى المتولّي في قوله :﴿ فَأَعْرِضْ عَمَّن تولى ﴾.
فإن قيل : كان ينبغي أن يقول : الذين تولوا لأن ( مَنْ ) للعموم ؟.
فالجواب : إن العود إلى اللفظ كقوله تعالى :﴿ مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] ولم يقل : فلهم٨.
١ الرازي المرجع السابق..
٢ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٦٧..
٣ قال في اللسان: إذا حفر فبلغ الكُدَى..
٤ وانظر اللسان "كدا" ٣٨٣٩ وانظر القرآن ٤٢٩ والمجاز لأبي عبيدة ٢/٢٣٨..
٥ من الطويل له ولم أجده بديوانه. والشاهد في "أكدى" أي قطع القليل. وانظر القرطبي ١٧/١١٢ وفتح القدير ٥/١١٤ والبحر ٨/١٥٥ والدر المنثور ٧/٦٥٩ والإتقان للإمام السيوطي ١/١٦٥، والسراج المنير ٤/١٣٤..
٦ في اللسان: أكدى..
٧ وأنشد:
عقر العقيلة من مالي إذا أمنت عقائل المال عقل المصرخ الكادي
وانظر النوادر له..

٨ تفسير الرازي ١٥/١٢..

قوله :«فَهُوَ يَرَى » هذه الجملة مترتبة على ما قبلها ترتّباً ظاهراً. وقال أبو البقاء :«فَهُوَ يَرَى » جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، والأصل : أعِنْده علمُ الغيب فَيَرَى، ولو جاء على ذلك لكان نصباً١ ٢ على جواب الاستفهام، انتهى. وهذا لا حاجة إليه مع ظهور الترتيب بالجملة الاسمية. وقد تقدم له نظير هذا الكلام والردّ عليه.
ومعنى الآية أعند هذا المُكْدِي علمُ الغيب - أي علم ما غابَ عنه - من العذاب فهو يرى أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وما يكون من أمره حتى يضمن حَمْلَ العذاب عن غيره وكفى بهذا جهلاً بأنه يرى ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.
١ بأن مضمرة وجوبا..
٢ التبيان ١١٨٩..
قوله :﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ﴾ أي لم يخبر ﴿ بِمَا فِي صُحُفِ موسى ﴾ يعني أسفار التوراة و«أم » منقطعة أي بل ألم ينبأ و«ما » في قوله «بِمَا » يحتمل أن يكون المراد جنس ما قبلها أي لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغيره. ويحتمل أن يكون عين ما في التوراة لا جنسه. وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب١.
١ بالمعنى من الرازي ١٥/١٤..
قوله :«وَإِبْرَاهِيمَ » عطف على «موسى »، أي وصحف إبراهيم، لقوله في سورة الأعلى :﴿ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ﴾ [ الأعلى : ١٩ ].
وإنما خص هذين النبيين بالذكر، لأنه كان بين إبراهيم وموسى يؤخذ الرجلُ بجريرة غيره فأول من خالفهم إبراهيم١ قاله الهذيل بن شُرَحْبِيل. والعامة على وَفَّى بالتشديد. وقرأ أبو أُمامة الباهلي وسعيدُ بن جبير وابن السَّمَيْقَع : وَفَى مخففاً٢. وقد تقدم أن فيه ثلاثَ لغات٣. وأطلق التوفية والوفاء ليتناولا كل ما وفى به والمعنى تَمَّ وأكمل ما أُمِرَ به.
قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة : عمل ما أمر به، وبلغ رسالةَ ربه إلى خلقه. وقال مجاهد : وفى بما فرض عليه. وقال الربيع : وفى رُؤْياه وقام بذبح ابْنه. وقال عطاء الخراساني : استكمل الطاعة. وقال أبو العالية : هو الإتمام في قوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] والتوفية الإتمام. وقال الضحاك : وفَّى المناسك. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«إبرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ »٤.
١ حكاه القرطبي في الجامع ١٧/١١٣..
٢ القرطبي ١٧/١١٣ السابق والإتحاف ٤٠٣..
٣ وفَى ووفّى وأوفى فمن قال: وفى فإنه يقول: تم كقولك: وفي لنا فلان ومن قال أوفى معناه أوفاني حقي أي أتمه ولم ينقص منه شيئا ووفى أبلغ من وفى، فالذي اختُبر به إبراهيم من أعظم المحن. بتصرف من اللسان وفي ٤٨٨٥..
٤ أسنده البغوي إلى أبي أمامة وانظر البغوي ٦/٢٦٨..
قوله :﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ «أن » مخففة من الثقيلة واسمها محذوف هو ضمير الشأن و«لاَ تَزِرُ » هو الخبر. وجيء بالنفي لكون الخبر جملة فعلية متصرفة غير مقرونة كما تقدم تحريره في المائدة. و«أن » وما في حيّزها فيها قولان :
أظهرهما : الجر بدلاً من «ما » في قوله ﴿ بما في صحف ﴾.
والثاني : الرفع خبراً لمبتدأ مضمر أي ذَلِك أن لا تزرُ أو هو أن لا تزرُ. وهو جواب لسؤال مقدر ؛ كأن قائلاً قال : وما في صحفهما ؟ فأجيبَ بذلك١.
قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون نصباً بإضمار «أعني » جواباً لذلك السائل وكل موضع أضمر فيه هذا المبتدأ لهذا المعنى أضمر فيه هذا الفِعل٢.

فصل


معنى الآية : أنه لا تحمل نفسٌ حِمْلَ أخرى أي لا تُؤخَذُ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإِثم.
وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما )٣ قال : كانوا قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأخذون الرجل بذنب غيره وكان الرجل يُقْتَلُ بقَتْل أبيه وابنه وأخواته حتى جاءهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى٤.
فإن قيل : الآية مذكورة لبيان أن وِزْرَ الرجل لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة، لأن الوَازِرَةَ تكون مثقلةً بوِزْرِها وكل أحد يعلم أنها لا تحمل شيئاً فلو قال : لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ.
فالجواب : أن المراد من الوَازِرَةِ هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وَزَرت وحَمَلَتْ٥.
ونقل القرطبي عن أبي مالك الغِفاريّ قال : قوله تعالى :﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ إلى قوله :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى ﴾ في صحف إبراهيم٦ وموسى.
١ بتوضيح لما في التبيان ١١٨٩..
٢ الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٧..
٣ زيادة من أ الأصل..
٤ البغوي في معالم التنزيل ٦/٢٦٨ والخازن في لباب التأويل ٦/٢٦٨ وما بين القوسين زيادة من أ..
٥ نقله الرازي في تفسيره ١٥/١٥..
٦ الجامع في أحكام القرآن للإمام القرطبي ١٧/١١٣ و١١٤..
قوله تعالى :﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ أن هي المخففة أيضاً ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف. ومحلها الجر١ أو الرفع٢، أو النصب٣ لعطفها على ( أن ) قبلها، وكذلك محل :«وَأَنَّ سَعْيَهُ ». و«يُرَى » مبني للمجهول، فيجوز أن تكون من البَصَرِية أي يُبْصَر، وأن تكون من العِلْميَّة فيكون الثاني محذوفاً٤ أي يرى حاضراً. والأول أوضح.
وقال مكي٥ : وأجاز الزجاج : يَرَى بفتح الياء على إضمار الهاء ؛ أي سَوْفَ يَرَاهُ٦ ولم يُجِزْهُ الكوفيُّونَ لأن «سعيه » يصير قد عمل فيه أنّ، و«يَرَى ». وهو جائز عند المبرِّد وغيرِهِ ؛ لأنَّ دخولَ «أنّ » على «سَعْيَهُ » وعملها فيه، يدل على الهاء المحذوفة مِنْ «يُرَى » ؛ وعلى هذا جوز البصريون : إنَّ زيداً ضَرَبْتَ بغير هاء٧.
قال شهاب الدين : وهو خلاف ضعيف توهموا أن الاسم توجه عليه عاملانِ مختلفان في الجنسية، لأن رأي بعضهم أن يعمل فِعْلاَنِ في معمول واحد، ومنه باب التنازع في بعض صوره، نحو : قَامَ وقَعَدَ زَيْدٌ وضَرَبْتُ وأكرمْتُ عَمْراً وأن يعمل عامل واحد في اسم وفي ضميره معاً نحو : زَيْداً ضَرَبْتُهُ في باب الاشتغال. وهذا توهم باطل ؛ لأنا نقول : سَعْيَهُ منصوب «بأَنَّ » و«يُرَى » متسلط على ضميره المقدر فظاهر هذا أنه لم يقرأ به٨.
وقد حكى أبو البقاء أنه قرئ به٩ شاذًّا، ولكه ضعفه من جهة أخرى فقال : وقرئ بفتح الياء، وهو ضعيف ؛ لأنه ليس فيه ضمير يعودُ على اسم أنَّ وهو السَّعْي والضمير الذي فيه الهاء فيبقى الاسم بغير خبر وهو كقولك : إنَّ غُلاَمَ زَيْدٍ قَامَ وأنت تعني قام زيد، فلا خبر «لغُلاَمٍ ».
وقد وُجِّه على أن التقدير سوف يَرَاهُ فتعود الهاء على السَّعي١٠. وفيه بعد. انتهى١١.
قال شهاب الدين : وليت شعري كيف توهم المانع المذكور وكيف نظّره بما ذكر ؟ ! ثم أي بعد في تقدير سوف يَرَى سَعْي نَفْسِهِ ؟ ! وكأنه اطلع على مذهب الكوفيين في المنع إلا أن المُدْرَكَ غير المُدْركِ١٢.
قوله :﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ أي عَمِل، كقوله :﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتّى ﴾ [ الليل : ٤ ]. وهذا أيضاً في صُحُف إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. قال ابن عباس - ( رضي الله١٣ عنهما ) - هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله :﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [ الطور : ٢١ ] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.
وقال عكرمة : كان ذلك لقَوم إبراهيم وموسى أما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لِمَا «رُوِيَ أن امرأةً رَفَعَتْ صبيًّا لها فقالت يا رسول الله : ألهذا حَجٌّ ؟ قال : نعم، ولكِ أجرٌ ».
«وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمّي قَتَلَتْ نفسها فهل لها أجر إن تصدّقت عنها ؟ قال : نعم »١٤.
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيةَ : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة :
أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
الثالث : أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.
الرابع : أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير.
الخامس : أن الله يُخْرج من النار من لم يعمل خيراً قطّ بمَحْض رحمته. وهذا انتفاع بغير عملهم.
السادس : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمَحْضِ عَمَل الغَيْرِ.
السابع : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين :﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾. فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما.
الثامن : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعِتْق بنصِّ السّنة والإجماع، وهو من عمل غيره.
التاسع : أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وَلِيِّه بِنَصِّ السُّنَّة وهو انتفاع بعمل الغير.
العاشر : أن الصوم المنذور والحجَّ المنذور يسقط عن الميت بعَمَلِ غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير الذي امتنع عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه حتى قضى دينَهُ أبو قَتَادَةَ، وقضى دَيْنَ الآخر عليُّ بن أبي طالب قد انتفع بصلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير.
الحادي عشر : أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلَّى وحده :«ألا رجل يتصدق على هذا الرجل فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفضل الغير ».
الثاني عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديوان الخَلْق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل غيره.
الثالث عشر : أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره.
الرابع عشر : أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير.
الخامس عشر : أن جليسَ أهلِ الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجةٍ عَرَضَتْ له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره.
السادس عشر : الصَّلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.
السابع عشر : أن الجُمعَة تحصل باجتماع العدد، وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعْضِ بالبَعْضِ.
الثامن عشر : أن الله قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ وقال :﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ ﴾ وقال ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ فقد دفع الله العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير.
التاسع عشر : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن الرجل ينفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له.
العشرون : أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فكيف يجوز أن يتناول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ؟ !.
والمراد بالإنسان العُمُوم.
وقال الربيع بن أنس : ليس للإنسان - يعني الكافر - وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له. وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير.
ويروى : أن عبد الله بن أبي ( ابن سلول ) كان أعطى العَبَّاس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ليكفن فيه فلم يبق له حسنةٌ في الآخرة يُثَابُ عَلَيْهَا.
وقوله :﴿ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ﴾ أي يرى في ميزانه يوم القيامة من أَرَيْتُهُ الشيءَ أي يعرض عليه ويكشف له١٥.
فإن قيل : العمل كيف يرى بعد وُجوده ومُضِيِّه ؟ !.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : يرى على صورة جميلة إن كان العملُ صالحاً.
الثاني : قال ابن الخطيب : وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كلّ موجود يَرَى الله والله قادر على إعادة كل ما عُدِمَ فبعد الفعل فيرى. ووجه آخر وهو أن ذلك مجاز عن الثواب كقولك :«سترى إحسانك » أي جزاءه. وفيه نظر ؛ لقوله بعد ذلك :﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى ﴾١٦.
١ لأن "أن لا تزر" جملة في محل جر بدلا من "ما في صحف إبراهيم وموسى"..
٢ فـ "أن لا تزر" يجوز فيها أن تكون خبر مبتدأ محذوف..
٣ فجملة "أن لا تزر" يجوز أن تكون منصوبة بأعني مقدرا. وقد سبق كل هذا عن قرب والبدل المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه جرا ونصبا ورفعا مفردا أو جملة محلا..
٤ والأول هو نائب الفاعل. وقد قال بالإعراب مكي في مشكل إعراب القرآن ٢/٣٣٣..
٥ المرجع السابق..
٦ قال: معناه فهو يعلم. والرؤية على ضربين؛ أحدهما: (رأيت) أبصرت والآخر علمت كما تقول: "... رأيت زيدا أخاك..... " معاني القرآن ٥/٧٥..
٧ انظر مشكل الإعراب السابق ٢/٣٣٣..
٨ ولم أعثر عليه قراءة في كتب القراءات الشاذة أو المتواترة..
٩ ولم يحدد من قرأ بذلك. فلم أجد من قرأ به كما قلت..
١٠ وهو رأي السمين السابق..
١١ قاله في التبيان به ١١٩٠..
١٢ الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١١..
١٣ زيادة من أ..
١٤ وانظر البغوي والخازن ٦/٢٦٨ و٢٦٩..
١٥ وانظر تفسير العلامتين البغوي والخازن في لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦/٢٦٨ و٢٦٩..
١٦ بالمعنى من الرازي ١٥/١٧..
قوله :«ثُمَّ يُجْزَاهُ » يجوز في الضمير وجهان :
أظهرهما : أن الضمير المرفوع يعود على الإنسان١ والمنصوب يعود على «سَعْيهُ » والجزاء مصدر مبيِّن للنوع٢.
والثاني : قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله :«الجَزَاءَ »، أو أبدله منه كقوله :﴿ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ ﴾٣ [ الأنبياء : ٣ ].
قال أبو حيان : وإذا كان تفسيراً للضمير المنصوب في «يُجْزَاهُ » فعلى ماذا يَنْتَصِبُ٤ ؟ وأما إذا كان بدلاً فهو من بدل الظاهر من المُضْمَر. وهو مسألة خلاف٥. والصحيح المنعُ.
قال شهاب الدين : العجب كيف يقول : فعلى ماذا ينتصب ؟ وانتصابه من وجهين :
أظهرهما : أن يكون عطف بيان وعطف البَيَان يصدق عليه أنه مفسِّر. وهي عبارة شائعة.
الثاني : أن ينتصب بإضمار «أعْني » وهي عبارة شائعة أيضاً يسمون مثل ذلك تفسيراً٦.
وقد منع أبو البقاء أن ينتصب «الجَزَاءَ الأَوْفَى » على المصدر فقال :«الجَزَاءَ الأَوْفَى » هو مفعول «يُجْزَاهُ »٧ وليس بمصدر ؛ لأنه وصفه بالأَوْفَى وذلك من صفة المجزيّ به لا من صفة الفِعْلِ٨.
قال شهاب الدين : وهذا لا يبعد عن الغَلَط ؛ لأنه يلزم أن يتعدى «يُجْزَى » إلى ثلاثة مفاعيل ؛ لأن الأول قام مقام الفاعل٩ والثاني «الهاء » التي هي ضمير السعي، والثالث «الجزاء الأوفى ». وأيضاً فكيف ينتظم المعنى ؟ وقد يجاب عنه بأنّه أراد أنه بدل من الهاء، كما تقدَّم عن الزمخشَريِّ.
ويصح أن يقال : هو مفعول «يُجْزَاه » فلا يتعدى لثلاثة حينئذ إلا أنه بعيدٌ عن غرضِهِ. ومثل هذا إلْغَازٌ.
وأما قوله :«وَالأَوْفَى ليس من صفات الفعل » ممنوعٌ، بل هو من صفاته مجازاً، كما يوصف المجزيّ به مجازاً فإن الحقيقة في كليها منتفيةٌ وإنما المتصف به حقيقة المجازى١٠.
وقال ابن الخطيب : والجزاء يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى :﴿ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾ [ الإنسان : ١٢ ] ويقال جزاك الله خيراً، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف الجر، فيقال : جَزَاهُ الخَيْرَ عَلَى عَمَله الجَنَّة١١، وقد يحذف الجار ويوصل الفعل، فيقال : جَزَاهُ الخَيْرَ عَمَلَه الجَنَّة١٢.

فصل


والمُرَادُ بالجَزَاء الأوفى : الأكمل والأتمَّ أي يُجْزَى الإِنسانُ سَعْيَهُ ؛ يقال : جَزَيْتُ فلاناً سَعْيَهُ وبِسَعْيِهِ قال الشاعر :
إنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ لَمْ أَجْزِهِ بِبَلاَءِ يَوْمٍ وَاحِدِ١٣
فجمع بين اللغتين١٤.
قال ابن الخطيب : والجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين ؛ لأن١٥ جزاء الصالح وافرٌ، قال تعالى :﴿ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً ﴾ [ الإسراء : ٦٣ ] وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام، فهي في نفسها أوفى. فإن قيل :«ثُمَّ » لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يُجْزَاهُ ؟ فإن تكان لتراخي الجزاء فكيف يُؤَخَّر الجزاء عن الصالح وقد قلت١٦ : إن الظاهر أن المراد منه الصالحون ؟ !.
نقول : الوجهان محتملان وجواب السؤال أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت ؛ لأن الله تعالى من أوّل زمان يتوبُ١٧ الصالح يجزيه خيراً ويؤخِّر له الجزاء الأوفى وهي الجنَّة.
أو نقول : الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى ﴾ وهي الجنة ﴿ وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] وهي الرؤية، فكأنه تعالى قال : وأنَّ سعيه سوف يرى ثم يرزقُ الرؤيةَ. وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ، فإن الأوفى مطلقٌ غير مبيّن، فلم يقل : أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل وافٍ ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى.

فصل


قال في حق المسيء : لاَ تزِرُ وَازِرَةٌ ( وِزْرَ أُخْرَى ) وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن١٨ الوَازرة، ولا يلزم من ذلك بقاء الوِزر عليها من ضَرُورة اللفظ ؛ لجواز أن يسقط عنها، ويمحو الله ذلك الوِزر، فلا يبقى عليها ولا يحمل عنها غيرُها، ولو قال : لا تَزِرُ ( وَازِرَةٌ ) ١٩ إلا وزر نفسها لكان من ضرورة الاستثناء أنها تزر. وقال في حق المحسن :﴿ لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ ولم يقل : ليس له ما لم يَسْعَ ؛ لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء فقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءَه، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه، وكل ذلك إشارةٌ إلى سَبْق الرحمةِ الغَضَبَ٢٠.
١ وبه قال الرازي في مرجعه السابق وأبو حيان في البحر ٨/١٦٨..
٢ المرجع الأخير السابق..
٣ وانظر الكشاف ٤/٣٣ و٣٤..
٤ في البحر: فعلى ماذا انتصابه؟.
٥ مع ابن مالك إبدال المضمر من الظاهر بدل كل، قال: لأنه لم يسمع من العرب لا نثرا ولا نظما ولو سمع لكان توكيدا لا بدلا، وأجازه الأصحاب نحو: رأيت زيدا أباه وفي جواز بدل البعض والاشتمال خلف قيل: يجوز نحو ثلث التفاحة أكلت التفاحة إياه وحسن الجارية أعجبني الجارية هو. وقيل: يمنع قال أبو حيان: وهو كالخلاف في إبدالهما مضمرا من مضمر ومقتضاه ترجيح المنع على رأيه. وقد نقل الأشموني في باب البدل ما معناة يجوز إبدال الظاهر من الظاهر ومن ضمير الغائب ولا يجوز أن يبدل الظاهر من ضمير المتكلم أو المخاطب "إلا ما إحاطة جلا" أي إلا إذا كان البدل بدل كل فيه الإحاطة نحو: "تكون لنا عيدا لأوّلنا وآخرنا" فإن لم يكن فيه معنى الإحاطة ففيه ثلاثة مذاهب أولها: المنع وهو مذهب البصرة، والثاني: الجواز وهو قول الأخفش والثالث: أنه يجوز في الاستثناء نحو: ما ضربتكم إلا زيدا وهو قول قطرب. ولا يبدل الظاهر من المضمر كذلك إلا إذا اقتضى بعضا أو اشتمالا أي كان بدل بعض أو اشتمال نحو: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وقوله:
بلغنا السماء مجدُنا وسناؤُنا .......................
وانظر بتصرف الهمع ٢/١٢٨ وحاشية الصبان على الأشموني ٣/١٢٨ و١٢٩ و١٣٠ والتسهيل ١٧٢..

٦ انظر الدر المصون للسمين مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٧..
٧ فيكون مفعولا ثانيا والأول الهاء..
٨ التبيان ١١٩٠..
٩ وهو نائب الفاعل..
١٠ الدر المصون المرجع السابق لوحة رقم ١١٧..
١١ في الرازي: على عمله الخير الجنة..
١٢ وفيه: جزاه الله عمله الخير الجنة، وانظر تفسير الإمام ١٥/١٧..
١٣ من الكامل ولم أعرف قائله، فهو مجهول. والشاهد: "أجزِ علقمة" و"أجزه ببلاء" حيث عدى الفعل "جزى" بنفسه وبحرف الجر وهو ممكن فيهما. فقد جمع بين القولين. وانظر تفسير القرطبي في الجامع ١٧/١١٥..
١٤ القرطبي السابق..
١٥ وفي ب لأن جزاء الصالح وافر، وفي الرازي: لأنه جزاء الصالح..
١٦ كذا في النسختين وفي الرازي: ثبت..
١٧ في الرازي: يتوب كذلك..
١٨ في ب على..
١٩ سقط من ب..
٢٠ وانظر تفسير الإمام ١٥/١٧ و١٨ معنى..
قوله [ تَعَالَى١ :] ﴿ وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ العامة على فتح همزة «أَنَّ » وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ.
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء٢ ومعنى الآية : إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم. وقيل : منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال٣. وروى أبو هريرةَ مرفوعاً : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ٤.
قال القرطبيُّ : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام :«يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ »٥. ولهذا أحسن من قال ( رحمة الله عليه٦ ورضاه ) ( شعْراً )٧ :
لاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ٨
وقيل : المراد من هذه الآية التوحيد.
وفي المخاطب وجهان :
أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل.
والثاني : أنه خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في «المُنْتَهَى » للعهد الموعود في القرآنِ.
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى، وعلى الأول يكون «مُبْتدًى ».
فالجواب : منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده٩.
قوله :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ ( أضحك وأبكى )١٠ ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه.
و«أَضْحَك وَأَبْكَى » لا مفعول لهما في هذا الموضع ؛ لأنها١١ مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى١٢.

فصل


اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ١٣ أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم، فإِنهم يقولون : سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال.
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا : لقوة التعجب وهو باطل، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك. وقيل : لقوة الفرح ؛ وليس كذلك ؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم ( شعراً )
هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي١٤
وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ.
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب.

فصل


إِذا قيل : بأن المراد بقوله تعالى :﴿ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يقول : بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : بأنه موجب لا قادر فقال تعالى : هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي، والموت والحياة، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل.
وإن قيل : بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة١٥.

فصل


هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك : أضحك الأرضَ بالنبات، وأبكى السماءَ بالمَطَر، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم١٦ : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء١٧.

فصل


«روى مسلمٌ عن عائشةَ - ( رضي الله عنها ) ١٨ - قالت :«والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله، ولكنه قال : إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً، وإن الله لهو أضحك وبكى، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى »١٩.
وعنها قالت :«مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد : إن الله يقول لك : إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول : هُوَ أضحك وأبكى أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء٢٠ ».
وقال بَسَّامُ بن عبد الله٢١ : أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [ رحمه الله ] ٢٢ :
السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ٢٣
قيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات. وقيل : إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المَقْدِسيُّ٢٤ : أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ ؟ فقال : ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ.
١ سقط من أ الأصل..
٢ وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر ٨/١٢٨..
٣ في القرطبي: الأمان..
٤ البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٢٦٩ و٢٧٠..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٧/١١٦..
٦ زيادة من أ..
٧ زيادة من ب فقط..
٨ من الطويل ومجهول قائلهما. وجاء بهما المؤلف استئناسا على أن الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وانظر القرطبي ١٧/١١٦ والسراج المنير ٣/١٣٧..
٩ بالمعنى من تفسير الإمام ١٥/١٩..
١٠ زيادة للسياق..
١١ كذا في النسختين والأحسن: لأنهما مسبوقتان..
١٢ الرازي ١٥/٨١٩..
١٣ كذا في الرازي وفي ب الطبائعيين..
١٤ من تام الكامل. لوم أعرف قائله. وانظر السراج المنير ٤/١٣٨..
١٥ بالمعنى كل هذا من تفسير الإمام ١٥/١٩ و٢٠..
١٦ سبق التعريف به..
١٧ البغوي والخازن في تفسيرهما ٦/٢٧٠..
١٨ زيادة من أ..
١٩ روي: "لا والله ما قال رسول الله قط"..
٢٠ وانظر القرطبي ١٧/١١ وصحيح مسلم..
٢١ القرطبي المرجع السابق..
٢٢ زيادة من أ..
٢٣ بيتان من البسيط لم أعرف منشدهما وجاء بهما المؤلف للمعنى المسوق وهي ضحك الأسنان وبكاء القلوب وانظر القرطبي ١٧/١١٧ والسراج المنير ٤/١٣٧..
٢٤ طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، سمع من المقومي ثم رحل إلى همذان وتوفي سنة ٥٦٦، وانظر شذرات الذهب ٤/٢١٧..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:قوله [ تَعَالَى١ :] ﴿ وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ العامة على فتح همزة «أَنَّ » وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ.
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء٢ ومعنى الآية : إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم. وقيل : منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال٣. وروى أبو هريرةَ مرفوعاً : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ٤.
قال القرطبيُّ : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام :«يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ »٥. ولهذا أحسن من قال ( رحمة الله عليه٦ ورضاه ) ( شعْراً )٧ :
لاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ٨
وقيل : المراد من هذه الآية التوحيد.

وفي المخاطب وجهان :

أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل.
والثاني : أنه خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في «المُنْتَهَى » للعهد الموعود في القرآنِ.
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى، وعلى الأول يكون «مُبْتدًى ».
فالجواب : منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده٩.
قوله :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ ( أضحك وأبكى )١٠ ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه.
و«أَضْحَك وَأَبْكَى » لا مفعول لهما في هذا الموضع ؛ لأنها١١ مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى١٢.

فصل


اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ١٣ أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم، فإِنهم يقولون : سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال.
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا : لقوة التعجب وهو باطل، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك. وقيل : لقوة الفرح ؛ وليس كذلك ؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم ( شعراً )
هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي١٤
وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ.
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب.

فصل


إِذا قيل : بأن المراد بقوله تعالى :﴿ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يقول : بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : بأنه موجب لا قادر فقال تعالى : هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي، والموت والحياة، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل.
وإن قيل : بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة١٥.

فصل


هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك : أضحك الأرضَ بالنبات، وأبكى السماءَ بالمَطَر، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم١٦ : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء١٧.

فصل


«روى مسلمٌ عن عائشةَ - ( رضي الله عنها ) ١٨ - قالت :«والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله، ولكنه قال : إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً، وإن الله لهو أضحك وبكى، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى »١٩.
وعنها قالت :«مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد : إن الله يقول لك : إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول : هُوَ أضحك وأبكى أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء٢٠ ».
وقال بَسَّامُ بن عبد الله٢١ : أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [ رحمه الله ] ٢٢ :
السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ٢٣
قيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات. وقيل : إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المَقْدِسيُّ٢٤ : أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ ؟ فقال : ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ.
١ سقط من أ الأصل..
٢ وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر ٨/١٢٨..
٣ في القرطبي: الأمان..
٤ البغوي والخازن في تفسيريهما ٦/٢٦٩ و٢٧٠..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٧/١١٦..
٦ زيادة من أ..
٧ زيادة من ب فقط..
٨ من الطويل ومجهول قائلهما. وجاء بهما المؤلف استئناسا على أن الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وانظر القرطبي ١٧/١١٦ والسراج المنير ٣/١٣٧..
٩ بالمعنى من تفسير الإمام ١٥/١٩..
١٠ زيادة للسياق..
١١ كذا في النسختين والأحسن: لأنهما مسبوقتان..
١٢ الرازي ١٥/٨١٩..
١٣ كذا في الرازي وفي ب الطبائعيين..
١٤ من تام الكامل. لوم أعرف قائله. وانظر السراج المنير ٤/١٣٨..
١٥ بالمعنى كل هذا من تفسير الإمام ١٥/١٩ و٢٠..
١٦ سبق التعريف به..
١٧ البغوي والخازن في تفسيرهما ٦/٢٧٠..
١٨ زيادة من أ..
١٩ روي: "لا والله ما قال رسول الله قط"..
٢٠ وانظر القرطبي ١٧/١١ وصحيح مسلم..
٢١ القرطبي المرجع السابق..
٢٢ زيادة من أ..
٢٣ بيتان من البسيط لم أعرف منشدهما وجاء بهما المؤلف للمعنى المسوق وهي ضحك الأسنان وبكاء القلوب وانظر القرطبي ١٧/١١٧ والسراج المنير ٤/١٣٧..
٢٤ طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، سمع من المقومي ثم رحل إلى همذان وتوفي سنة ٥٦٦، وانظر شذرات الذهب ٤/٢١٧..

قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ أي أمات في الدُّنْيَا، وأحيا للبعث. وقال القرطبي : قضى أسباب الموت والحياة. وقيل : خَلَقَ الموت والحياة. قاله ابن بحر. وقيل : أمات النُّطْفَة وأحيا النَّسمة، وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل : أمات الكافر بالكفر، وأحيا المؤمن بالإيمان١.
قال ابن الخطيب : فإن قيل : معنى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت ؟.
نقول : فيه وجوه :
أحدها : أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : أَحْيَا وَأَمَاتَ.
ثانيها : هو بمعنى المستقبل، فإن الأمرَ قريبُ المُسْتَقْبل، يقال : كَأنّ فلاناً وصل والليلُ دَخَلَ، إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة.
ثالثها : أنه خلق الموت والجمود في العَنَاصر ثم ركَّبها و«أَحْيَا » أي خلق الحِسَّ والحركة فيها٢.
١ ذكر هذه الأقوال القرطبي في الجامع ١٧/١١٧..
٢ الرازي ١٥/٢٠..
قوله :﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى ﴾ أي من كل حيوان. ولم يرد آدمَ وحوّاء ؛ لأنهما ما خُلقا من نطفة. وهذا أيضاً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم الطَّبِيعِيّ، والذي يقولونه من البرد والرطوبة في الأنثى فرُبَّ امرأةٍ أحر وأَيْبَسُ مزاجاً من الرّجُل.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ ﴾ ولم يقل :«وأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ » كما قال :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ ؟
فالجواب : أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنه بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد لكن ربما يقول به جَاهلٌ كما قال من حَاجَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿ قَالَ أَنَاْ أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] فأكد ذلك بالفصل. وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحدٌ أنه بفعل واحدٍ من الناس، فلم يؤكد بالفصل، ألا ترى إلى قوله :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى ﴾ حيث كان الإغناء عندهم غيرَ مسند إلى الله، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون :﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ﴾ [ القصص : ٧٨ ] وكذلك قال :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعرى ﴾ فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
واختلفوا في الذكر والأنثى هل هما اسمان وهما صفةٌ ؟ أو اسمان ليسا بصفة ؟ فالمشهور عند أهل اللغة أنهما اسمان ليسا بصفةٍ.
قال ابن الخطيب : والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحَسَنِ، والأنثى كالحُبْلَى والكُبْرَى١.
١ وانظر في هذا كله تفسير العلامة الإمام الفخر الرازي ١٥/٢٠ و٢١..
قوله :﴿ مِن نُطْفَةٍ إِذَا تُمنى ﴾ أي تُصَبُّ في الرَّحِمِ ؛ يُقَالُ : مَنَى الرَّجُلُ وأمْنَى. قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح.
وقيل : تقدر، يقال : مَنَيْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتهُ١. وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة، لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء يخلق اللَّهُ منها أعضاء مختلفةً، وطباعاً متباينةً، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون، ولهذا لم يَقْدِرِ أحد على أن يَدَّعِيَهُ كما لم يَقْدِر على أن يَدَّعِيَ خلق السماوات، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾٢ [ لقمان : ٢٥ ].
١ البغوي والخازن ٦/٢٧٠..
٢ انظر الرازي السابق..
قوله :﴿ وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى ﴾ أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد من قوله :﴿ وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى ﴾ هو نفخ الروح الإنسانية فيه كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ [ المؤمنون : ١٣ و١٤ ] أي غير خلق النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً. وبهذا الخلق الآخر وهو نفخ الروح تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات فكما قال هناك :﴿ أنشأناه خلقاً آخر ﴾ بعد خلق النطفة قال ههنا :﴿ وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى ﴾ فجعل خلق الروح نشأةً أخرى كما جَعَلَه هناك إِنشاءً آخَرَ.
فإن قيل : الإعادة لا تجب على الله، فما معنى قوله تعالى :«وأنَّ عَلَيْهِ » ؟
فالجواب على مذهب المعتزلة يجب عليه عقلاً، فإن الجزاء واجب، وذلك لا يتم إلا بالحشر فتجب الإعادة عليه عقلاً، وأما على مذهب أهب السنة ففيه وجهان :
الأول :«عَلَيْهِ » بحكم الوعد، فإنه قال :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى ﴾ «فَعَلَيْهِ » بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشَّرْع.
الثاني :«عليه » بحكم التعيين، فإن من حَضَرَ بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه، يقال له : وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أنْ تَفْعَلَه أي تَعَيَّنْتَ لَهُ١.

فصل


قرئ النَّشْأَةَ على أنه مصدر كالضَّرْبَةِ على وزن فَعْلَةٍ وهي المَرَّة يقال : ضَرْبَةٌ وضَرْبَتَانِ يعني النشأة مرة أخرى عليه. وقرئ النَّشاءة - بالمد - على أنه مصدر على وزن فَعَالَةٍ٢، كالكَفَالَةِ. وكيفما قرئ فهي من «نَشَأَ »، وهو لازمٌ.
١ بالمعنى كل هذا من تفسير العلامة الرازي ١٥/٢٢..
٢ ونسبها صاحب الإتحاف إلى ابن كثير وأبي عمرو، وقد مرت في العنكبوت، وانظر الإتحاف ٤٠٣ وقد نقلها صاحب التفسير الكبير الإمام الرازي دون نسبة كما نقلها صاحب الكشاف الزمخشري ٤/٣٤ دون نسبة أيضا وقد نسبها القرطبي ١٧/١١٨..
قوله :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى ﴾ قال أبو صالح :«أغنى » الناسَ بالأَمْوَالِ «وأقنى » أعطى القُنيَةَ وأصول الأموال وما يَدَّخِرُونَه بعد الكِفاية.
وقال الضحاك :«أغنى » بالذهب والفضة، وصنوف الأموال، «وأقنى » بالإبل والبَقَر والغنم، وقال الحسن وقتادة : أخْدَمَ. وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما )١ أغْنَى وأَقْنَى أَعْطَى فَأَرْضَى. وقال مجاهد ومقاتل : أرضى بما أعطى وقنع. وقال الراغب : وتحقيقه أنه جعل له قنيةً من الرِّضا. وقال سُلَيْمَان التَّيْميّ : أغنى نفسه وأفقر خلقه إِليه. وقال ابن زيد :«أغنى » أكثر «وأقنى » أقلَّ، وقرأ :﴿ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾٢.
وقال الأخفش :«أقنى » : أفقر٣. وقال ابن كيسان : أوْلَدَ٤. قال الزمخشري :«أقنى » أعطى القُنْيَةَ، وهي المال الذي تأثَّلْته٥ وعزمت أن لا يخرج من يدك. وقال الجَوْهَرِيُّ :«قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنًى » مثل «غَنِيَ يَغْنَى غِنًى »٦، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال : قَنيتُ مالاً أي كَسَبْتُهُ، وهو نظير : شَتِرَتْ عَيْنُه ٧- بالكسر - وشَتَرَها اللَّهُ - بالفتح - فإذا أدخلت عليه الهمزة أو التضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال : أَقْنَاهُ اللَّهُ مالاً، وقناه إياه أي أكْسَبَهُ إيَّاه، قال الشاعر :
كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ *** وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ إِقْلاَلِ٨
أي تقنى مالاً، فحذف ( المفعول الثاني ). وحذف مفعولا «أغنى وأقنى » ؛ لأن المراد نسبةُ هذيْنِ الفعلين إليه وحْدَهُ، وكذلك في باقيها، وألف «أقنى » عن ياءٍ، لأنه من القِنْية ؛ قال :
ألاَ إنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْيَةً٩ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال : قَنِيتُ كَذَا وأَقْنَيْتُهُ، قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قَنِيتُ حَيَائِي عِفَّةً وتَكَرُّمَا١٠
١ زيادة من أ..
٢ ذكرت هذه الأقوال في البغوي والخازن ٦/٢٧٠ والقرطبي ١٧/١١٨ و١١٩ والمفردات للراغب قنا..
٣ لم أجدها في المعاني له فقد نقلها عنه البغوي السابق..
٤ السابق أيضا..
٥ تأثّل المال اكتسبه وثمّره واتخذه. عن اللسان "أَثَلَ"..
٦ صحاح الجوهري قنا..
٧ والشتر انتقال في جفن العين أعلى وأسفل. وانظر اللسان شتر ٢١٩٢..
٨ من البسيط ولم أعرف قائله فهو مجهول. والشاهد تعدية "تقنّى" من قني ماضيا إلى المفعول الثاني، والأول هو النائب عن الفاعل والأصل: قنّاه الله مالا، فالأول هو الهاء..
٩ نصف بيت من الطويل، لا أعرف أصدر هو أو عجز، وبالتالي لم أعرف قائله، فقد بحثت عنه كثيرا فلم أهتد إليه والشاهد: في قنية فهي عن ياء كما يقتضيه كلام أهل الكوفة..
١٠ عجز بيت من الطويل لحاتم الطائي صدره:
إذا قلّ مالي أو نكبت بنكبة ***...................
وشاهده كسابقه من أن أصل ألف "أقنى" ياء من قنيت الحياء أي لزمته. والبيت بعد واضح، وانظر اللسان: قنا ٣٧٦٠ والكتاب ١/٣٦٨ و٣/١٢٦ والمقتضب ٢/٣٤٨ وابن يعيش ٢/٥٤ والتصريح ١/٣٩٢، والأشموني ٢/١٨٩ وديوان الوهبية ١٢٩٣ من مجموع خمسة دواوين ص ١٠٨..

قوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعرى ﴾ والشِّعْرَى في لسان العرب كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة، فإِنَّ خُزَاعَةَ كانت تعبدها، وسن عبادتها أبو كبشة رجلٌ من سادتهم فعبدها وقال : لأن النجوم تقطع السماء عَرْضاً والشِّعْرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدتها خُزَاعَةُ وحِميرُ وأبو كبشة أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبَل أمهاته، وبذلك كان مشركو قريش يُسمونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله، وخالف أدْيَانَهُمْ، فكانت قريشٌ تقولُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ابْنَ أبي كبشة تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحْدَثَ ديناً غيرَ دِينهِمْ.
والشِّعرى العبور تطلع بعد الجوْزَاء في شدة الحر ويقال لها : مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار، ويسمى الشعرى اليمانية والثاني الشعرى الغُمَيْصَاء، وهي التي في الذّراع والمجرة بينهما وتسمى الشامية، وسبب تسميتها بالغميصاء - على ما زعمت العرب في بعض خرافاتها - أنهما كانتا أختين لسُهَيْل فانحدر سُهَيْلٌ إلى اليمن فاتبعته الشّعرى العَبُور فعبرت المجرة فسُمِّيَت العبور، وأقامت الغميصاءُ تبكي لفَقْدِهِ، حتى غمصت عينها، ولذلك كانت أخفى من العبور. وقد كان من لا يعبد الشِّعرى من العرب يعلمها ويعتقد تأثيرها في العالم قال :
مَضَى أَيْلُولُ وَارْتَفَعَ الحَرُورُ وَأَخْبَتْ نَارَها الشِّعْرَى العَبُورُ١

فصل


وهذا الآية إشارة إلى فساده قولِ قوم آخرين ؛ لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده، فمن كسب استغنَى، ومن كسل افْتَقَرَ، وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بسبب الطالع وذلك بالنجوم فقال : هو أغنى وأقنى وإن قال قائل : إن الغنى بالنجوم فيقال : هو رَبّ النجوم ومُحَرِّكُها لقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى ﴾ لإنكارهم ذلك أُكِّد بالفصل٢.
١ من الوافر ولم أعرف قائله وجاء به شاهدا على أن الشّعرى نوع من أنواع الكواكب كما أخبر أعلى.
وانظر القرطبي ١٧/١١٩ وتفسير البغوي والخازن ٦/٢٧٠ و٢٧١..

٢ بالمعنى من الرازي ١٥/٢٣ و٢٤..
قوله :﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى ﴾ اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلاً وتوجيهاً.
قال شهاب الدين ( رحمه الله ) ١ : وَقَد يَسَّرَ الله تعالى تحرير ذلك بحَوْله وقوّته فأقول : إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب :
إِحْدَاها : قرأ ابن كثير وابنُ عامر والكوفيون «عَادٍ الأُولَى » بالتنوين مكسوراً وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها. هذا كله في الوصل، فإِذا وقفوا على «عَادٍ » ابتدأوا ب «الأولى » فقياسهم أن يقولوا الأولى بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة٢.
الثانية : قرأ قالون : عَاداً لُّؤْلَى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وهمز الواو٣ هذا في الوصل، وأما في الابتداء ب «الأولى » فله ثلاثة أوجه :
الأول : الُؤْلَى - بهزة وصل ثم بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة.
الثاني : لُؤْلَى - بلام مضمومة، ثم بهمزة ساكنة.
الثالث : كابتداء ابن كثير ومن معه٤.
الثالثة : قرأ ورشٌ عاداً لُّولى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلةٍ٥ همزةً. هذا ( كله ) في الوصل وأما في الابتداء فله وجهان الُؤْلَى بالهمزة والنقل، ولُولَى بالنقل دون همزة وصل. والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين.
الرابعة : قرأ أبو عمرو كورشٍ وصلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ إلاّ أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث وهو وجه ابن كثير وَمَنْ مَعَهُ٦.
فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ وأن لورشٍ وَجْهَيْنِ ؛ فتأمل ذلك، فإنَّ تحريره ضعيفُ المأخذ من كتب القراءات٧.
وأما توجيهها فيتوقف على معرفة ثلاثة أصول :
الأول : حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن.
الثاني : حكم حركة النقل.
الثالث : أصل «أولى » ما هو.
أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ اللَّهُ ﴾ [ الإخلاص : ١ - ٢ ] أو يحذف تشبيهاً بحرف العلة كقراءة :﴿ أَحدُ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ وكَقَوْلِهِ :
وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ٨ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهو قليل جداً. وقد مضى تحقيقه.
وأما الثاني : فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين الاعتداد بالحركة، وعدم الاعتداد بها وهي اللغة الغالبة.
وأما الثالث : فأُولَى تأنيث «أَوَّل ». وقد تقدم الخلاف في أصله في :«أَوَّل » فليُلْتَفَتْ إليه٩.
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول :
أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا «عاداً » إمّا لأنه اسم للحيّ أو الأب فليس فيه ما يمنعه، وإمَّا لأنه وإن كان مؤنثاً اسماً للقبيلة أو الأم إلا أنه مثل هنْد١٠ ودَعْد، فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله :
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزرِهَا *** دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ فِي العُلَبِ١١
فصرفها أولاً ومنعها ثانياً.
ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان فكسروا التنوينَ لالتقائهما على ما هو المعروف من اللّغتين. وحذفوا همزة الوصل من الأولى للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلاً، فإذا ابتدأوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها، فقالوا «الاولى » كنظيرها من همزات الوصل، وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الْغَفيرُ.
وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف - وهما نافع وأبو عمرو - مع اختلافهما في أشياء كما تقدم فوجهه الاعتدادُ بحركة النقل، وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كَلاَم التعريف عَامَلَها مُعَامَلَتَها ساكنةً، ولا يعتدُّ بحركة النقل فيكسر الساكن الواقع قبلها، ولا يُدْغِم فيها التنوين ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول : لَمْ يَذْهَب الْحَمَرُ، ورأيت زياداً الْعَجَمَ من غير إدغام التنوين، والحمر والعجم بهمزة الوصل ؛ لأن اللام في حكم السكون، وهذه هي اللغة المشهورة. ومنهم من يعتدّ بها فلا يكسر الساكن الأول ولا يأتي بهمزة الوصل ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقول : لم يذهبْ لحمرُ - بسكون الباء - «ولحمر ولعجم » من غير همز، وزياد لَّعْجعم بتشديد اللام وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءةُ.
هذا من حيث الإجمال وأما من حيث التفصيل فأقول :
أما قالونُ فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدْغَام ولما نقل الحركة اعتدَّ بها ؛ إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه.
وأما همزة الواو ففيها وجهان منقولان :
أحدهما : أن يكون «أولى » أصلها عنده وُؤْلَى من وَأَلَ أي نَجَا كما هو قول الكوفيين، ثم أبدل الواو الأولى همزة، لأنها واو مضمومة وقد تقدم أنها لغة مُطَّرِدَة. فاجتمع همزتان ثانيهما ساكنة فوجب قلبها واواً نحو : أومِنُ، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمز ؛ لأنها إنما قلبت واواً من أجل الأولى وقد زالت. وهذا تكلف لا دليل عليه.
والثاني : أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضّمة قبل الواو كأنها عليهما ؛ لأن حركة الحرف بين يديه فأبدل الواو همزة كقوله :
أَحَبُّ المُؤقِدَيْنِ إلَيَّ مُؤْسَى١٢ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكقراءة «يُؤقِنُونَ »١٣ وهمزة ﴿ السُّؤْقِ ﴾ [ ص : ٣٣ ] و﴿ سُؤْقِهِ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] كما تقدم تحريره. وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضاً. وليس في هذا الوجه دليلٌ على أصل «أولى » عنده ما هو فيحتمل الخلاف المذكور جميعه.
وأما ابتداؤه الكلمة من غير نَقْل١٤، فإنه الأصل، ولأنه إنما ثقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل، ولأنه إنما ثقل في الوصل وأما الابتداء١٥ بالنقل١٦ فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سَنَنٍ واحد.
وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحدِ وَجْهَيْنِ :
ترك الاعتداد بحركة اللام على ما هي عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل ؛ إذ الغرض إنما هو جَرْي اللفظ في الابتداء والوصل على سَنَنٍ واحد وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه. وعلة ترك الإتيان بألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعاً ويقوِّي هذا الوجه رسمُ ( الأولى ) في هذا الموضع بغير ألف. والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم.
وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده من التخفيف بالإدغام وليس من أصله الاعتداد بالحركة في نحو ذلك، ألا ترى أنه يحذف الألف في ( سِيرَتِهَا الأولَى )١٧ [ و ] ﴿ وَيَتَجنُبهَا الأَشْقَى ﴾١٨ ولو اعتد بالحركة لم يحْذِفْهَا.
وأما ما جاز عنه في بعض الروايات :﴿ قالوا لاَنَ جِئْتَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] ؛ فإنه وجه نادرٌ ومُعَلَّل باتِّباع الأثر والجمع بين اللغتين والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضاً والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة إذْ لا حاجةَ إلى قصد ذلك في الابتداء وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملاً للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضاً ولا يبتدأ له بالأصل ؛ إذ ليس من أصله ذلك، و«الأولى » في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها.
وأما قراءة أبي عمرو فالعلة له في قوله في الوصل والابتداء كالعلة المتقدمة لقالونَ، إلا أنه يخالفه في همز الواو ؛ لأنه لم يعطِها حكم ما جاورها، فليست عنده من «وَأَلَ » بل من غير هذا الوجه كما تقدم الخلاف في أول هذا الكتاب، ويجوز أن يكون أصلها عنده من «وَأَلَ » أيضاً، إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغةً في التخفيف أو موافقة لحال ترك النقل.
وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءةَ الإدْغَام - أبو عثمانَ وأبو العباس ذهاباً منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض، ولكن لا التفات إلى ردِّها لثُبُوت ذلك لغةً وقراءةً وإن كان غيرها أفصح منها وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون الَحْمَرَ ولَحْمَر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل والله أعلم١٩.
وقرأ أبيّ - وهِيَ في حَرْفِهِ - «عَادَ الأُولى » غير مصروف ذهاباً به إلى القبيلة أو الأم كما تقدم ؛ ففيه العلمية والتأنيث٢٠، ويدل على التأنيث قوله «الأُولى » فوصفها بوصف المؤنث.

فصل٢١


عاد الأولى هم قوم هود أهلكوا بريح صَرْصَر، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى. قال القرطبي : سماها الأولى، لأنهم كانوا قبل ثمود. وقيل : إنّ ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد : قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح - عليه الصلاة والسلام -. وقال ابن إسحاق٢٢ : هما عَادانِ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة. وقيل : عاد الأولى هي عاد بن إرَم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى، والمعنى متقارب. وقيل : إن عاداً الآخرة هم الجبَّارون. وهم قوم هود٢٣.
١ زيادة من أ. وانظر رأيه في تلك القراءة في الدر المصون مخطوط بلدية إسكندرية تحت رقم ١١٨..
٢ ذكر هذه القراءة ابن مجاهد في السبعة وصاحب الإتحاف ٤٠٤ ونسب أبو حيان هذه القراءة إلى الجمهور. انظر البحر ٨/١٦٩ وكذلك مكّي في المشكل ٢/٢٩٦..
٣ قال في الإتحاف: واختلف عن قالون في طريقته في همز الواو، غير أن الهمز أشهر عن الحلواني وعدمه أشهر عن أبي نشيط..
٤ قال في الإتحاف: ويجوز لغير ورش وجه ثالث وهو الابتداء بالأصل فتأتي بهمزة الوصل مع تسكين اللام وتخفيف الهمزة المضمومة بعدها الواو. وقال في الكشف ٢/٢٩٦: غير أن قالون يأتي بهمزة ساكنة بعد اللام في موضع الواو. وانظر الإتحاف ٤٠٤..
٥ الإتحاف المرجع السابق وهي ليست سبعية كسابقتها بخلاف الأولى والرابعة الآتية بعد..
٦ السبعة والإتحاف السابقين والكشف ٢/٢٩٦..
٧ وانظر هذا في المشكل والإتحاف والسبعة والبحر والكشاف ٤/٣٤ والقرطبي ١٧/١٢٠..
٨ مضى الكلام عليه أكثر من مرة..
٩ أصل أولى عند الكوفة وُؤلى ثم وُولَى ثم أُولَى. وعليه قراءة قالون السابقة بالهمزة عند نقل حركة الهمزة –الهمزة الأولى- إلى لام التعريف. وردّ المازني على الخليل بأن الواو في مثله عارضة غير لازمة؛ إذ تخفيف الهمزة في مثله غير واجب. وأصل أولى عند البصرة "وُولى" ويجب قلب الأولى همزة لأن الثانية أصلية غير منقلبة عن شيء وسواء كانت الثانية تلك مدة أو غير مدة كالأول عندهم.
وانظر شرح الشافية للعلامة الرضي ٣/٧٦ و٧٧..

١٠ فهو مؤنث ثلاثي ساكن الوسط عربي الأصل..
١١ وقد نسبه صاحب اللسان إلى جرير، كما نُسب إلى ابن قيس الرُّقيّات، وروى ابن جني في الخصائص "تغذ" بدل "تسق". والشاهد في (دعد) حيث صرفها أولا ومنعها ثانيا قال في الخصائص: كذا الرواية بصرف (دَعْدٍ) الأولى، ولو لم يصرفها لما كسر وزنا وأمن الضرورة أو ضعف إحدى اللغتين. وقد تقدم..
١٢ سبق هذا البيت أيضا..
١٣ وهي قراءة أبي حية النمري كما ذكر ذلك صاحب الكشاف ١/١٣٨..
١٤ كابن كثير ومن معه..
١٥ أي قالون..
١٦ بهمزة الوصل وبدونها. أي الُؤْلى، ولُؤْلَى..
١٧ فتكتب عنده (سيرتها لُولَى) من الآية ٢١ من (طه) عليه السلام..
١٨ تكتب هكذا (يتجنبها لَشْقَى) وهي الآية ١١ من الأعلى..
١٩ وانظر في هذه التوجيهات مشكل الإعراب ٢/٣٣٤ والكشف "وكلاهما لمكي" ٢/٢٩٦ وباب المد وعلله له أيضا. ويقصد المؤلف بأبي عثمان المازنيّ، وأبي العباس المبرد. وانظر البحر أيضا ٨/١٦٩. وانظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥/٧٧..
٢٠ لم أجدها إلا في البحر لأبي حيان فهي من الشواذ. وانظر المرجع السابق..
٢١ في ب قوله بدل فصل..
٢٢ تقدم التعريف به..
٢٣ القرطبي ١٧/١٢٠..
قوله :﴿ وَثَمُودَ فَمَا أبقى ﴾ قد تقدم الخلاف في «ثَمُود » بالنسبة إلى الصرف وعدمه في سورة «هود »١. وفي انتصابه هنا وجهان :
أحدهما : أنه معطوف على «عَاداً ».
والثاني : أنه منصوب بالفعل المقدر أي «وَأَهْلَكَ ». قاله أبو البقاء، وبه بدأ. ولا يجوز أن ينتصب ب «أَبْقَى » لأن ما بعد «ما » الثانية لا يعمل فيها قَبْلَهَا٢، والظاهر أنّ متعلق «أبقى » عائد على من تقدم من عادٍ وثمود أي فما أبقى عليهم - أي على عادٍ وثمود - أو يكون التقدير : فما أبقى منهم أحداً، ولا عيناً تَطْرِفُ. ويؤيد هذا قوله :﴿ فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٨ ].
١ من الآية ٦١ من سورة هود قوله: ﴿وإلى ثمود أخاهم صالحا﴾. وقد قرأ الجمهور بالصرف وقرأ عاصم والحسن وعصمة دون الصرف..
٢ التبيان ١١٩١..
قوله :«وَقَوْمَ نُوحٍ » كالذي قبله و«مِنْ قَبْلُ » أي من قبل عادٍ وثمودَ.
وقوله :«إنَّهُمْ » يحتمل أن يكون الضمير لقوم نوح خاصةً، وأن يكون لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة.
قوله :«كانوا هم » يجوز في «هم » أن يكون تأكيداً١، وأن يكون٢ فصلاً. ويضعف أن يكون بدلاً. والمفضل عليه محذوف تقديره : من عادٍ وثمودَ على قولنا : إن الضمير لقوم نوح خاصةً، وعلى القول بأن الضمير للكل يكون التقدير : من غَيْرِهم من مُشْرِكي العَرَب، وإن قلنا : إن الضمير لقوم نوح خاصة والمعنى أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأطْغَى لطول دعوة نوح إياهم وعُتُوِّهِمْ على الله بالمعصية والتكذيب وهم الباقون بالظلم والمتقدمون فيه ومن سن سنة سيئة فعليه وِزْرها ووزرُ من عمل بها والبادئ أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بَعْدَ الإصرار العظيم والظالم واضع الشيء في غير موضعه، والطَّاغِي المجاوز للْحَدِّ.
فإن قيل : المراد من الآية تخويف الظالم بالهلاك، فإذا قيل : إنهم كانوا في غايةِ الظلم والطُّغْيَان فأهلكوا ( ويقول الظالم : هم كانوا أظلم فأهلكوا )٣ لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا، فلا نهلك، فلو قال : أهلكوا لظلمهم لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله : أظلم ؟
فالجواب : أن المقصود بيان ( شِدَّتِهِمْ ) وقوة أجسامهم، فإنهم لم يقدموا على الظلم والطُّغْيَان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحدٌ منهم فما حال من هو دونهم في العمر٤. رُوِيَ أن الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه ينطلق به إلى قوم نوحٍ - عليه الصلاة والسلام - يقول : احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه٥.
١ للواو من كانوا..
٢ مع أن جماعة ذكروا أن من فائدة ضمير الفصل التوكيد المعنوي وبنوا عليه أنه لا يجامع التوكيد فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل وعلى ذلك سماه بعض الكوفيين دعامة، لأنه يدعم به الكلام أي يقوي ويؤكد فقوله أعلى: تأكيدا لعله يقصد التوكيد غير المعنوي وهذا بعيد. وانظر المغني ٤٩٦ بتصرف..
٣ سقط من ب..
٤ وانظر تفسير الرازي ١٥/٢٤ و٢٥..
٥ القرطبي ١٧/١٢٠..
قوله :«وَالمُؤْتَفِكَةَ » منصوب ب «أَهْوَى » ؛ وقدم لأجل الفواصل. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط «أَهْوَى » أسقط، أي أهواها جبريلُ - صلى الله عليه وسلم - بعد ما رفعها إلى السماء.
قوله :«فَغَشَّاهَا » أي ألْبَسَهَا الله «ما غشى » يعني الحجارة المصورة المسوَّمة١. وقوله «مَا غَشَّى » كقوله «مَا أَوْحَى » في الإبهام٢ وهو المفعول الثاني إن قلنا : إن التضعيف للتعدية، وإن قلنا : إنه للمبالغة والتكثير فتكون «ما » فاعله كقوله :﴿ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [ طه : ٧٨ ] والمؤتفكة المنقلبة. وقرئ : والْمُؤْتَفِكَاتُ٣.
فإن قيل : إذا كان معنى «المؤتفكة » المنقلبة ومعنى «أهوى » قلبها فيكون المعنى والمنقلبة قلبها وقلب المنقلبة تحصيل حاصل.
فالجواب : أن معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قَلَبَها فانْقَلَبَتْ٤.
١ القرطبي المرجع السابق..
٢ والتفخيم. وهو غرض بلاغيّ من إقامة اسم الموصول مقام الظاهر..
٣ ونسبها أبو حيان للحسن. انظر البحر ٨/١٧٠ والكشاف ٤/٣٤..
٤ وهو رأي الإمام الفخر الرازي ١٥/٢٥..
قوله :«فبأي » متعلق ب «تتمارَى » والباء ظرفية بمعنى «فِي » والآلاء النعم واحدها إلْي وإلى وأَلاً.
والمعنى فبأي نعم ربك تشك، وقرأ ابن مُحَيْصِن ويعقوب :«تَمَارَى » بالحذف١ كقوله :«تَذَكَّرُونَ ».

فصل


قيل : هذا أيضاً مما في الصحف. وقيل : هو ابتداء لكلام، والخطاب عام، والمعنى فبأي آلاء أي نعم ربك أيها الإنسان تتمارى تشك وتجادل. وقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) ٢ : تكذب. وقيل : هذا خطاب مع الكافر.
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقال : كيف يجوز أن يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - تتمارى ؟ لأنا نقول : هو من باب :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أنّ فارضاً لو فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراءُ في نعم الله تعالى. والصحيح العموم كقوله تعالى :﴿ يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم ﴾ [ الانفطار : ٦ ] وقوله :﴿ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٤ ].
١ الذي في القرطبي ١٧/١٢١ والبحر ٨/١٧٠: أنه بتاء واحدة مشددة..
٢ زيادة من أ..
قوله: «هَذَا نَذِيرٌ» إشارة إلى ما تقدم من الآي، وأخبار المهلكين. وقيل: أي القرآن. قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لفظاً ومعنى؛ أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى، لأنه معجزة، وتلك لم تكن معجزة، وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون هذا يبقى على حقيقة التبعيض، أي هذا الذي ذكرناه بعض ما جرى أو يكون لابتداء الغاية أي هذا إنذار من المنذرين المتقدمين؛ يقال: هذا الكتاب وهذا الكلام مِنْ فُلاَن.
وقيل: إشارة إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي هذا النذير من جنس النذر الأولى أي رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم.
وقوله: «نذير» يجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون اسمَ فاعل وكلاهما لا ينقاس، بل القياس في مصدره إنذار، وفي اسم فاعله مُنْذِر. والنُّذُر يجوز أن يكون جمعاً لنذير بمعنييه المذكورين، و «الأُوْلَى» صفة حملاً على معنى الجماعة كقوله: ﴿مَآرِبُ أخرى﴾ [طه: ١٨].
223
قوله: «أَزفَت الآزِفَةُ» دَنَتِ الْقِيَامَةُ، واقتربت، والتقدير: الساعة الآزفة، كقوله: ﴿اقتربت الساعة﴾ [القمر: ١] ويجوز أن تكون الآزفة على القيامة بالغَلَبَةِ.
قال ابن الخطيب: قوله «أَزِفَتِ الآزِفَةُ» كقوله تعالى: ﴿وَقَعَتِ الواقعة﴾ [الواقعة: ١]. ويقال: كانت الكائنةُ. وهَذَا الاستعمال على وجهين:
الأول: إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل، ثم فعله مرةً أخرى، يقال: فعله الفاعل كقوله: حَاكَه الحَائِكُ أي من شغله ذلك من قبل فعله.
الثاني: أن يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل، يقال: إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإذا غصب العين غاصبٌ ضَمِنَهُ، فقوله: أَزِفَت الآزِفَةُ يحتمل أن يكون من الأول أي قربت الساعة التي كل يوم تزداد قرباً فهي كائنة قريبة وزادت في القرب، ويحتمل أن يكون من الثاني كقوله: «وَقَعَت الْوَاقِعَةُ» أي قرب وقوعها. وفاعل أزفت في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال: أزفت القيامة الآزفة أو السَّاعة الآزفة.
قال أبو زيد: قلت لأعرابيٍّ: مَا الْمُحْبَنْطِىءُ؟ قال: الْمُتَكَأْكىءُ، قلت: ما المتكأكىءُ؟ قال: الْمُتَآزِفُ؟ قلت: ما المتآزف؟ قال: أنْتَ أحْمَقُ وتركَنِي وَمَرَّ.
قوله: ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ﴾ يجوز أن يكون «كَاشِفَةٌ» وصفاً وأن يكون مصدراً، فإن كانت وصفاً احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف فقيل: تقديره: نَفْسٌ كَاشِفَةٌ أو حالٌ كَاشِفَةٌ.
فإن قيل: إذا قدرتها نفسٌ كاشفة، وقوله ﴿مِن دُونِ الله﴾ استثناء على المشهور فيكون الله نفساً كاشفة؟
224
فالجواب من وجوه:
الأول: لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكايةً عن عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ﴿وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾
[المائدة: ١١٦].
الثاني: ليس صريحاً في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفساً.
الثالث: الاستثناء الكاشف المُبَالِغ ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كَرَاوية، وعَلاَّمَة ونَسَّابَة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف.
وإن كانت مصدراً، فهي كالخَائِنَة والعَافِيَة والْعَاقِبَة، والمعنى ليس لها من دون الله كشفٌ أي لا يكشف عنها، ولا يظهرها غيره، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقته، كقوله: ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] وإما من كشف الضر أي أزالهُ. والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غَشِيَت الخَلْقَ أهْوالُها وشدائدُها لم يكشفها أحد عنهم غيره. وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك. وتقدم الكلام على مادة «أَزِفَ» في غافر.
و «مِنْ» زائدة، تقديره ليس لها غيرُ الله كَاشفة، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، ومَا جَاءنِي مِنْ أَحَدٍ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دونَ الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف، ويحتمل أن تكون غير زائدة، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها أي تخبر عنها كما هي من غير الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك: كَشَفْتُ الأَمْرَ مِنْ زَيْدٍ. و «دون» يكون بمعنى غير كقوله تعالى: ﴿أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ [الصافات: ٨٦] أي غير الله.
225
قوله :«أَزِفَت الآزِفَةُ » دَنَتِ الْقِيَامَةُ، واقتربت، والتقدير : الساعة الآزفة، كقوله :﴿ اقتربت الساعة ﴾ [ القمر : ١ ] ويجوز أن تكون الآزفة على القيامة بالغَلَبَةِ.
قال ابن الخطيب : قوله «أَزِفَتِ الآزِفَةُ » كقوله تعالى :﴿ وَقَعَتِ الواقعة ﴾. ويقال : كانت الكائنةُ. وهَذَا الاستعمال على وجهين :
الأول : إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل، ثم فعله مرةً أخرى، يقال : فعله الفاعل كقوله : حَاكَه الحَائِكُ أي من شغله ذلك من قبل فعله.
الثاني : أن يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل، يقال : إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإذا غصب العين غاصبٌ ضَمِنَهُ، فقوله : أَزِفَت الآزِفَةُ يحتمل أن يكون من الأول أي قربت الساعة التي كل يوم تزداد قرباً فهي كائنة قريبة وزادت في القرب، ويحتمل أن يكون من الثاني كقوله :«وَقَعَت الْوَاقِعَةُ » أي قرب وقوعها. وفاعل أزفت في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال : أزفت القيامة الآزفة أو السَّاعة الآزفة١.
قال أبو زيد٢ : قلت لأعرابيٍّ : مَا الْمُحْبَنْطِىءُ ؟ قال : الْمُتَكَأْكىءُ، قلت : ما المتكأكىءُ ؟ قال : الْمُتَآزِفُ ؟ قلت : ما المتآزف ؟ قال : أنْتَ أحْمَقُ وتركَنِي وَمَرَّ٣.
١ وقال بهذه الأشياء العقلية الإمام الفخر الرازي كعادته في تفسيره الكبير، وانظر تفسيره ١٥/٢٧..
٢ سعيد بن أوس الأنصاري، كان عالما بالنحو واللغة، أخذ عن أبي عمرو وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حاتم، وكان أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة، له من الكتب النوادر في اللغة وغيرُهما. مات سنة ٢١٥ هـ، وانظر نزهة الألباء ص ٨٧: ٩١..
٣ نقله عنه البحر المحيط ٨/١٧٠، والدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١٩..
قوله :﴿ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ ﴾ يجوز أن يكون «كَاشِفَةٌ » وصفاً١ وأن يكون مصدراً٢، فإن كانت وصفاً احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف فقيل : تقديره : نَفْسٌ كَاشِفَةٌ أو حالٌ كَاشِفَةٌ.
فإن قيل : إذا قدرتها نفسٌ كاشفة، وقوله ﴿ مِن دُونِ الله ﴾ استثناء على المشهور فيكون الله نفساً كاشفة٣ ؟
فالجواب من وجوه :
الأول : لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكايةً عن عيسى - عليه الصلاة والسلام - ﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ].
الثاني : ليس صريحاً في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفساً.
الثالث : الاستثناء الكاشف المُبَالِغ٤ ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كَرَاوية، وعَلاَّمَة ونَسَّابَة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف.
وإن كانت مصدراً، فهي كالخَائِنَة والعَافِيَة والْعَاقِبَة، والمعنى ليس لها من دون الله كشفٌ أي لا يكشف عنها، ولا يظهرها غيره، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقته٥، كقوله :﴿ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] وإما من كشف الضر أي أزالهُ. والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غَشِيَت الخَلْقَ أهْوالُها وشدائدُها لم يكشفها أحد عنهم غيره. وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك٦. وتقدم الكلام على مادة «أَزِفَ » في غافر.
و«مِنْ » زائدة، تقديره ليس لها غيرُ الله كَاشفة، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول : مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، ومَا جَاءنِي مِنْ أَحَدٍ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دونَ الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف، ويحتمل أن تكون غير زائدة، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها٧ أي تخبر عنها كما هي من غير٨ الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك : كَشَفْتُ الأَمْرَ مِنْ زَيْدٍ. و«دون » يكون بمعنى غير كقوله تعالى :﴿ أئِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ٨٦ ] أي غير الله.
١ وهو رأي الزجاج فيما نقله عنه أبو حيان في البحر ٨/١٧٠..
٢ وهو رأي الزمخشري في الكشاف ٤/٣٥ والرماني في البحر المرجع السابق على أن الرأي السابق هو رأي الزمخشري الأول، وللرازي رأيه كما سيأتي الآن..
٣ في الرازي: نفسا لها كاشفة..
٤ اسما فاعل..
٥ وهو رأي للرماني وجماعة كما أخبر بطلك صاحب البحر المحيط ٨/١٧٠..
٦ البغوي والخازن في معالم التنزيل ولباب التأويل ٦/٢٧١..
٧ في الرازي: تكتشفها..
٨ وفيه: كما هي ومتى وقتها من غير الله..
قوله: ﴿أَفَمِنْ هذا الحديث﴾ متعلق ب «تَعْجَبُونَ» ولا يجيء فيه الإعمال، لأن من شرط الإعمال تأخير المعمول عن العوامل، وهنا هو متقدم، وفيه خلاف بعيد. وعليه تتخرج الآية الكريمة فإن كُلاًّ من قوله: «تَعْجَبُونَ» و «تَضْحَكُونَ» و «لاَ تَبْكُونَ» يطلب هذا الجار من حيث المعنى.
225
والعامة على فتح التاء والجيم من «تَعْجَبُون» و «تَضْحَكُون». والحسن بضم التاء وكسر الجيم والحاء من غير واو عاطفة بين الفعلين. وهي أبلغ من حيث إنهم إذا أضحكوا غيرهم كان تجرؤهم أكثر.
وقرأ أُبَيٌّ وعبدُ الله كالجماعة، إلا أنهما بلا واوٍ عاطفة كالحَسَن، فيحتمل أن يكون يضحكون حالاً، وأن يكون استثناءً كالتي قبلها.

فصل


قال المفسرون: المراد بالحديث القرآن. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون إشارة إلى حديث أزفت الآزفة، فإنهم كانوا يتعجبون من حَشْر الأجساد، والعظام البالية. وقوله: (وَتَضْحَكُونَ) أي استهزاء من هذا الحديث كقوله تعالى في حق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ [الزخرف: ٤٧].
ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ.
وقوله: «وَلاَ تَبْكُونَ» مما تسمعون من الوعيد، روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما رؤي بعد هذه الآية ضاحكاً إلا تبسماً. وقال أبو هريرة: «لما نزل قوله ﴿أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ﴾ الآية قال أهل الصفة:» إنا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ «ثم بكَوْا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لاَ يَلِجُ النَّار مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصرٌّ علَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بكم، وَأَتى بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فيَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
قوله: «وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ» أي غافلون لاهون. وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفةً، أخبر الله عنهم بذلك، ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين. والسمود، قيل: الإعراض والغفلة عن الشيء، وقيل: اللهو، يقال: دَعْ عَنَّا سُمُودَك أي لهوَك. رواه الوالبيُّ والعَوْفِيُّ عن ابن عباس - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) - وقال الشاعر:
226
٤٥٧٨ - أَلاَ أَيّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ سَامِدٌ كَأَنَّكَ لاَ تَفْنَى وَلاَ أَنْتَ هَالِكُ
فهذا بمعنى لاه لاعب. وقيل: الخُمُودُ. وقيل: الاستنكار، قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) :
٤٥٧٩ - رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَة آلِ سَعْدٍ بِمْقدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا
فهذا بمعنى الخمود والخشوع، وقال عكرمة وأبو هريرة: السمود القيامة بلغة حِمْيَر، يقولون: يا جَارِيَةُ اسمُدِي لنا أي غنِّي، فكانوا إذا سمعوا القرآن تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا. وقال الضحاك: أَشِرُونَ. وقال مجاهد غضاب يَتَبَرْطَعُونَ. وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم: بَعِيرٌ سَامِدٌ في سَيْرِهِ. وقيل: سمد رأسه وسبده أي استأصل شعره.
وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمَان. وقال الحسن سامدون أي واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، لما رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ. حكاه الماوردي. وروى المَهْدَوِيُّ عن علي أنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياماً فقال: مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ. وروي عن علي أن معنى «سامدون» أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سِرْجينٌ وَرَمَادٌ. واسْمَأدَّ الرجال اسْمِئْدَاداً أي وَرِم غضباً.
قوله: ﴿فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا﴾ هذا الأمر يحتمل أن يكون عاماً، ويحتمل أن يكون التفاتاً أي اشتغلوا بالعبادة، ولم يقل: واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلاَّ لله.
وروى عكرمة عن (ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أن - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس. وروي عن عبد الله - (رَضِيَ الله عنه) - قال: أول سورة أنزلت فيها السجدة النَّجم، فسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وسجد مَنْ
227
خَلْفَهُ إلا رجلاً رأيته أخذ كَفًّا من تراب، فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أميةُ بْنُ خَلَفٍ.
وروى زيد بن ثابت - (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) - قال: قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّجْمِ فلم يسجُدْ فيها، وهذا يدل على أن سجود التلاوة غيرُ واجب، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن يشاءَ وهو قولُ الشَّافِعِيِّ وأحْمَد.
وذهب قومٌ إلى أنه واجبٌ على القارىء والمستمع جميعاً. وهو قول سفيانَ الثوريِّ وأصحابِ الرأي.
وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَنْ قَرَأَ سورة النجم أُعطي من الأجر (عشر حسنات) بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بمُحَمَّد وكَذَّبَهُ» (انتهى).
228
سورة القمر
229
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:قوله :﴿ أَفَمِنْ هذا الحديث ﴾ متعلق ب «تَعْجَبُونَ » ولا يجيء فيه الإعمال، لأن من شرط الإعمال تأخير المعمول عن العوامل، وهنا هو متقدم، وفيه خلاف بعيد. وعليه تتخرج الآية الكريمة فإن كُلاًّ من قوله :«تَعْجَبُونَ » و«تَضْحَكُونَ » و«لاَ تَبْكُونَ » يطلب هذا الجار من حيث المعنى.
والعامة على فتح التاء والجيم من «تَعْجَبُون » و«تَضْحَكُون ». والحسن بضم التاء وكسر الجيم والحاء من غير واو عاطفة بين الفعلين١. وهي أبلغ من حيث إنهم إذا أضحكوا غيرهم كان تجرؤهم أكثر.
وقرأ أُبَيٌّ وعبدُ الله كالجماعة، إلا أنهما بلا واوٍ٢ عاطفة كالحَسَن، فيحتمل أن يكون يضحكون حالاً، وأن يكون استثناءً كالتي قبلها.

فصل


قال المفسرون : المراد بالحديث القرآن. قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون إشارة إلى حديث أزفت الآزفة، فإنهم كانوا يتعجبون من حَشْر الأجساد، والعظام البالية. وقوله :( وَتَضْحَكُونَ ) أي استهزاء من هذا الحديث كقوله تعالى في حق موسى - عليه الصلاة والسلام - :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٧ ].
ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ٣.
وقوله :«وَلاَ تَبْكُونَ » مما تسمعون من الوعيد، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رؤي بعد هذه الآية ضاحكاً إلا تبسماً. وقال أبو هريرة :«لما نزل قوله ﴿ أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ ﴾ الآية قال أهل الصفة :«إنا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ » ثم بكَوْا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَلِجُ النَّار مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصرٌّ علَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بكم، وَأَتى بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فيَغْفِرُ لَهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ »٤.
١ وهي شاذة، وانظر البحر المحيط لأبي حيان ٨/١٧١ فتكون تُعجِبون تضحكون والمفعول محذوف..
٢ المرجع السابق..
٣ تفسير الإمام الرازي ١٥/٢٨..
٤ ذكره الإمام القرطبي في الجامع ١٧/١٢٢ و١٢٣..

قوله :«وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ » أي غافلون لاهون. وهذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفةً، أخبر الله عنهم بذلك، ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين١. والسمود، قيل : الإعراض والغفلة عن الشيء، وقيل : اللهو، يقال : دَعْ عَنَّا سُمُودَك أي لهوَك. رواه الوالبيُّ والعَوْفِيُّ عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما )٢ - وقال الشاعر :
أَلاَ أَيّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ سَامِدٌ كَأَنَّكَ لاَ تَفْنَى وَلاَ أَنْتَ هَالِكُ٣
فهذا بمعنى لاه لاعب. وقيل : الخُمُودُ. وقيل : الاستنكار، قال ( رحمه الله ) ٤ :
رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَة آلِ سَعْدٍ بِمْقدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا٥
فهذا بمعنى الخمود والخشوع، وقال عكرمة وأبو هريرة : السمود القيامة بلغة حِمْيَر، يقولون : يا جَارِيَةُ اسمُدِي لنا أي غنِّي، فكانوا إذا سمعوا القرآن تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا٦. وقال الضحاك : أَشِرُونَ. وقال مجاهد غضاب يَتَبَرْطَعُونَ. وقال الراغب : السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم : بَعِيرٌ سَامِدٌ في سَيْرِهِ٧. وقيل : سمد رأسه وسبده أي استأصل شعره.
وذكر باسم الفاعل لأن الغفلة دائمة وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمَان. وقال الحسن سامدون أي واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، لما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال : مَا لِي أَرَاكُمْ٨ سَامِدِينَ. حكاه الماوردي. وروى المَهْدَوِيُّ عن علي أنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياماً فقال : مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ. وروي عن علي أن معنى «سامدون » أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سِرْجينٌ وَرَمَادٌ. واسْمَأدَّ الرجال اسْمِئْدَاداً أي وَرِم غضباً.
١ في النسختين (سامدون) والتصحيح ما كتبت أعلى..
٢ زيادة من أ..
٣ من الطويل ولم أعثر على قائله. وانظر السراج المنير ٤/١٤١. وقد نقل القرطبي عن ابن عباس: أن سامدون معناها معرضون لاهون. انظر الجامع ١٧/١٢٣..
٤ زيادة من أ..
٥ بيتان من الوافر مجهول قائلهما. وهما في اللسان سمد ٢٠٨٩..
٦ اللسان سَمَدَ السابق..
٧ المفردات سمد ٢٤٠..
٨ في القرطبي: "ما لكم سامدون". وانظر القرطبي ١٧/١٢٣ واللسان سمد ٢٠٨٩ و٢٠٩٠..
قوله :﴿ فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا ﴾ هذا الأمر يحتمل أن يكون عاماً، ويحتمل أن يكون التفاتاً أي اشتغلوا بالعبادة، ولم يقل : واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله :«فَاسْجُدُوا لِلَّهِ » وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلاَّ لله.
Icon