تفسير سورة النجم

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة النجم من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة النجم مكية
وهي إحدى أو اثنتان وستون آية وثلاث ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ والنجم إذا هوى ﴾ أقسم بالثريا إذا غاب، أو بجنس النجم إذا انقض، ورمى به الشياطين، أو بالقرآن وقد نزل منجما إذا نزل من السماء، أو بالنجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وعن السلف : الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق،
﴿ ما ضل ﴾ : ما عدل عن الطريق المستقيم، ﴿ صاحبكم ﴾ : صلى الله عليه وسلم، ﴿ وما غوى ﴾ : وما اعتقد باطلا كما تزعمون،
﴿ وما ينطق ﴾ : بالقرآن، ﴿ عن الهوى ﴾ أو ما يقول قولا عن هوى وغرض،
﴿ إن هو ﴾ : ليس ما ينطق به، ﴿ إلا وحي ﴾ : من الله تعالى، ﴿ يوحى ﴾ : إليه، وفي الحديث أنه قال- عليه السلام :" لا أقول إلا حقا "،
﴿ علمه شديد القوى ﴾ : جبريل فإنه شديد قواه،
﴿ ذو مرة ﴾ : ذو قوة شديدة، ومنظر حسن أو إحكام في العقل، ﴿ فاستوى ﴾ : جبريل واستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، وما رآه غيره من الأنبياء على صورته١،
١ كذا ذكره ابن مسعود وابن عباس- رضي الله عنهما- وغير واحد من السلف/١٢ منه..
﴿ وهو بالأفق الأعلى ﴾ : أفق السماء قد سد الأفق، وهذا قبل الإسراء،
﴿ ثم دنا ﴾ : جبريل إلى محمد، وهبط إلى الأرض بعدما رده الله تعالى إلى صورة آدمي، ﴿ فتدلى ﴾ : تعلق به وليس المراد منه الإسراء، وكأن هذه الرؤية في أوائل البعثة١ بعد أن جاء إليه في حراء قيل : في " فتدلى " إشارة منه إلى أنه ما تجاوز عن مكانه فإنه استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة،
١ وكان ذلك بالأبطح بعد أن نزل عليه صدر سورة اقرأ فرآه في صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق فاقترب منه وأوحى إليه عن الله ما أمره به/١٢..
﴿ فكان ﴾ : جبريل، ﴿ قاب ﴾ : مقدار، ﴿ قوسين ﴾، يعني مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، ﴿ أو أدنى ﴾ : على تقديركم، والغرض نفى ما زاد عليه،
﴿ فأوحى ﴾ : جبريل، ﴿ إلى عبده ﴾ : إلى عبد الله تعالى، ﴿ ما أوحى ﴾ : جبريل فيه تفخيم للموحي به، أو المعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وحاصل المعنى متحد،
﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ أي : فؤاد محمد- صلى الله عليه وسلم- ما رآه ببصره من صورة جبريل، أو ما كذب الفؤاد ما رآه بفؤاده أي : الله١ تعالى، وفي الحديث " رأيته بفؤادي مرتين٢ ثم قرأ " ما كذب الفؤاد ما رأى "
١ يرجع الضمير في عبده إلى الله وإن لم يمر له ذكر لأنه لا يلبس كما في قوله تعالى:﴿ما ترك على ظهرها من دابة﴾[فاطر: ٤٥] /١٢ منه..
٢ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وكذا روى مسلم عن ابن عباس- رضي الله عنه- / وكذا قال أبو صالح، والسدي وغيرهما: إنه رآه بفؤاده مرتين/١٢ منه..
﴿ أفتمارونه ﴾ : تجادلونه من المراء، ﴿ على ما يرى ﴾ : من صورة جبريل، ولتضمينه معنى الغلبة عدى بعلي،
﴿ ولقد رآه ﴾ : جبريل في صورته، ﴿ نزلة أخرى ﴾ : مرة أخرى، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- وجم غفير من السلف أنه رأى جبريل في صورته مرتين والمرة الأخيرة ليلة الإسراء نصب المفعول فيه،
﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ : هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش إليها ينتهى علم الخلائق لا يعلم أحد ما وراءها،
﴿ عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ﴾، فيه تعظيم لما يغشاها، وفي الحديث " أنه غشاها نور الرب، وألوانا لا يدري ما هي، والملائكة مثل الغربان١ يعبدون " ما يغشى فاعل يغشى، وإذا ظرف لرآه أو لما زاغ عند من يجوز تقديم ما بعد ما إذا كان ظرفا،
١ الغراب واحد الغربان/١٢ منه..
﴿ ما زاغ ﴾ : ما مال، ﴿ البصر ﴾ أي : بصر النبي- صلى الله عليه وسلم- عما رآه ﴿ وما طغى ﴾، وما تجاوزه، وهذا وصف أدبه- صلى الله عليه وسلم١
١ وتمكنه- عليه صلوات الله وسلامه، فإنه ما فعل إلا ما أمر به/١٢منه..
﴿ لقد رأى من آيات ربه ﴾ : بعض عجائبه، ﴿ الكبرى ﴾، صفة١الآيات، أو هو المفعول ومن آيات ربه حال مقدم، ثم اعلم أنه قد ورد في الصحيحين أن عائشة- رضي الله عنها- قالت : أنا أول من سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قوله ﴿ ولقد رآه بالأفق المبين ﴾، " ولقد رآه نزلة أخرى " فقال :" إنما ذاك جبريل لم يره في صورته إلا مرتين "، وفي مسلم عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال : سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل رأيت ربك ؟ قال : نورا أنى أراه "، وفي رواية لغير مسلم " رأيت نورا "، وكان سؤال عائشة بعد الإسراء٢، فلا يمكن أن يقال كأن نفي الرؤية قبل الإسراء، وما قيل إنه- عليه الصلاة والسلام- خاطبها على قدر عقلها فخطأ مردود٣ قال الشيخ عماد الدين ابن كثير : لا يصح في أنه رأى ربه ببصره شيء من الصحابة، وأما ما قال البغوي : ذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة، ففيه نظر٤، والحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال : قال عليه الصلاة والسلام :" رأيت ربي عز وجل " ٥ فهو مختصر من حديث المنام كما رواه أحمد أيضا، وقد ثبت عن كثير من السلف نفي رؤية البصر، والله أعلم،
١ لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول، وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك فقال:﴿أفرأيتم اللات﴾ الآية/١٢ كبير..
٢ كان سؤال عائشة بعد الإسراء بدليل قولها- رضي الله عنها:" أنا أول من سأل عن تلك الآية" وما كانت هذه الآية إلا بعد الإسراء بلا خلاف من أحد فلا يمكن أن يقال: كان نفي الرؤية قبل الإسراء/١٢ منه..
٣ فإنه يلزم على ما نقلنا من الصحيحين أنه- عليه الصلاة والسلام- فسر القرآن على ما هو خطأ وكذب فإنه قال إنما ذلك جبريل، ولم يتفوه بذلك مؤمن وأيضا هي- رضي الله عنها- كاملة مكملة، وليس لإثبات الرؤية ونفيها كثير غموض لا تفهمه النساء، والله أعلم/١٢..
٤ وقد روى ابن أبي حاتم عن عباد بن منصور أنه قال: لما سألت عكرمة عن قوله:"ما كذب الفؤاد ما رأى" فقال عكرمة: نعم قد رأى ربه، قال: فسألت عنه الحسن فقال: رأى جلاله وعظمته ورداءه/١٢ منه..
٥ أخرجه أحمد (١/٢٨٥)، وصحيح إسناده الشيخ شاكر في تعليقه على "المسند" (٢٥٨٠)..
﴿ أفرأيتم١ اللات٢ : صخرة بيضاء عليها بيت بالطائف له سدنة يعظمونه اشتقوا اسمها من لفظ الله يعنون مؤنثه– تعالى الله عن ذلك، ﴿ والعزى ﴾، من العزيز شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف٣،
١ أي: أعقيب ما سمعتم من عظمة آيات الله تعالى الكبرى، ونفاذ أمره في الملأ الأعلى "وما تحت الثرى" فانظروا إلى اللات، والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه/١٢كبير..
٢ عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وفي قوله:"اللات والعزى" كان اللات رجل يلت سويق الحاج، رواه البخاري يلت أي: يبل، وزاد ابن جرير، وابن المنذر وعبد الرزاق عن مجاهد: فاعتكفوا على قبره، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي صالح قال: العزى نخلة كانوا يعقلون عليها السيور، والعلهز (في اللسان: وبر يخلط بدماء الحلم كانت العرب في الجاهلية تأكله في الجدب)، ومناة حجر بقديد، كذا في الدر منثور/١٢..
٣ بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليها خالد ابن الوليد فقطعها وأخرج منها شيطانة ناشرة شعرها واضعة يدها على رأسها تدعوا على نفسها بالويل، فضربها بالسيف حتى قتلها، ورجع فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:" تلك العزى، ولن تبعد أبدا"، هذا ما في الوجيز، وكذا في الدر منثور، وعزاه فيه إلى النسائي وابن مردويه [حسن، أخرجه النسائي في التفسير]/١٢..
﴿ ومناة الثالثة الأخرى ﴾، كانت بين مكة والمدينة يهلون منها للحج أفرد هذه الثلاثة بالذكر وإن كان في جزيرة العرب طواغيت كثيرة عليها بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، لأنها أشهر من غيرها، وأعظم عندهم، والأخرى ذم وهي المتأخرة في الرتبة، و " أفرأيتم " عطف على أفتمارونه، وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار يعني : أبعد هذا البيان تستمرون على المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاد الله أخس أولاد أي الإناث
وقوله :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ﴾، دال على ثاني مفعول أفرأيتم، ومعناه أتختارون لأنفسكم الذكور من الأولاد، وتجعلون لله، وتختارون له البنات فإنهم يقولون : الملائكة وهذه الأصنام بنات الله- تعالى عن ذلك،
﴿ تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ : جائرة، ومن قرأ بالهمزة، فهو من ضأزه إذا ظلمه،
﴿ إن هي ﴾ : ما الأصنام، ﴿ إلا أسماء ﴾ : ليس لها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الألوهية لها، ﴿ سميتموها أنتم وآباؤكم ﴾ : بهواكم، ﴿ ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ : برهان تتعلقون به، ﴿ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾ : أنفسهم، ﴿ ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾ : الرسول والقرآن فتركوه،
﴿ أم للإنسان ما تمنى ﴾، الهمزة للإنكار أي : بل ليس له كل ما يتمناه كما يتمنون شفاعة الآلهة،
﴿ فلله الآخرة والأولى ﴾ : يعطي ما يشاء لمن يشاء.
﴿ وكم من ملك١ في السماوات ﴾ أي : كثيرا منهم مع علو رتبتهم، ﴿ لا تغني شفاعتهم شيئا ﴾ : من الإغناء، ﴿ إلا من بعد أن يأذن الله ﴾ : في الشفاعة، ﴿ لمن يشاء ﴾ : من الناس، أو من الملائكة، ﴿ ويرضى ﴾ : فكيف ترجون شفاعة الأنداد الجماد عند الله،
١ هذا جواب كلام كأنهم قالوا: لا نشرك بالله شيئا، وإنما هذه الأصنام شفعاء فإنها صرر ملائكة مقربين، فقال:﴿وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ﴾ : قائلين هم بنات الله،
﴿ وما لهم به ﴾ : ما يقولون، ﴿ من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق ﴾ : من العلم١، ﴿ شيئا٢ : فإن العقائد والمعارف اليقينية، لا يدرك بالظن أصلا،
١ فإنه يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم /١٢ منه..
٢ أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال:"احذروا هذا الرأي على الدين فإنما كان الرأي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مصيبا لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف، وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا/١٢ در منثور..
﴿ فأعرض عمن تولى ﴾ : أعرض، ﴿ عن ذكرنا ﴾ : فلم يتدبر، ولم يتأمل، ﴿ ولم يرد إلا الحياة الدنيا ﴾ : ولا تجادله ولا تدعه إلى الهدى،
﴿ ذلك ﴾ : أمر الدنيا، ﴿ مبلغهم من العلم ﴾ : لا يتجاوزونه، وفي الدعاء المأثور " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا١ " ﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ﴾ : فلا يجيب، ﴿ وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ : فيجيب تعليل للأمر بالإعراض،
١ أخرجه الترمذي مع زيادة وحسنه [حسن، وانظر صحيح الجامع (١٢٦٨)] /١٢ در منثور..
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ : خلقا، ﴿ ليجزي ﴾، علة لقوله :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : خلق العالم لهذا أو علة لقوله :﴿ وهو أعلم بمن ضل ﴾ الخ، فإن نتيجة العلم بهما جزاءهما، وقوله :﴿ ولله ما في السماوات ﴾ الخ معترضة بيان لكمال قدرته، ﴿ الذين أساءوا بما عملوا ﴾ أي : بعقابه، أو بسببه، ﴿ ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ : بالمثوبة الحسنى، أو بسبب الأعمال الحسنى،
﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم ﴾، هي ما عليه وعيد شديد، ﴿ والفواحش ﴾ : من الكبائر خصوصا، ﴿ إلا ﴾ عليه وعيد شديد، ﴿ والفواحش ﴾ : من الكبائر خصوصا، ﴿ إلا اللمم ١أي : الصغائر، فالاستثناء منقطع أو إلا بمعنى غير صفة وحرف التعريف في الموصوف للجنس، فهو في حكم النكرة، وقد ورد٢ أنه قال- عليه الصلاة والسلام :" إن تغفر اللهم اغفر جما فأي عبد لك ما ألما " أو اللمم من الكبائر، و المعنى يجتنبون من الكبائر كلها مطلقا إلا القليل منها بمعنى أنه يلم بها مرة أو مرتين، فيتوب عن قريب فلا يجعلها عادة، وهو قول كثير من السلف، ﴿ إن ربك واسع المغفرة ﴾ : فلا تيأسوا بكثرة المعاصي، ﴿ هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ﴾ : في ابتداء خلق أبيكم من تراب، ﴿ وإذ أنتم أجنة ﴾، جمع جنين، ﴿ في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم ﴾ : لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة، ولا تعجبوا بطاعاتكم، وفي صحيح مسلم عن ابن عطاء قال : سميت ابنتي برة، فقالت زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذا الاسم، فقال :" لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " ﴿ هو أعلم بمن اتقى٣ : فربما تنسبون أحدا إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، وكذلك ورد في الحديث الصحيح٤ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل : أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكى على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك ".
١ أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال "ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال: أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:" إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- في قوله "إلا اللمم" قال: زنا العين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا، وإلا فهو اللمم، ومثله عن أبي هريرة- رضي الله عنه- هذا ما في الفتح، وعزى السيوطي في الدر منثور ما روى عن ابن مسعود- رضي الله عنه- إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، والحاكم قال: صححه الحاكم وعزى ما روى عن أبي هريرة- رضي الله عنه- إلى ابن أبي حاتم وابن جرير ومسدد/١٢..
٢ أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب [صحيح، وانظر صحيح سنن الترمذي]/١٢ لباب..
٣ ولما قال: ﴿لا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى﴾ أعقبه بمن ظهر منه التقوى والإيمان، وهو في نفس الأمر من أهل الشقاوة فقال: ﴿أفرأيت الذي تولى﴾: الآية/١٢..
٤ كما ورد في الصحيحين/١٢ وجيز..
﴿ أفرأيت١ الذي تولى ﴾ : أعرض عن الحق،
١ قوله: أفرأيت بمعنى أخبرني، والموصول مفعوله الأول، والجملة الاستفهامية التي فيها التهكم مفعوله الثاني/١٢ وجيز..
﴿ وأعطى قليلا وأكدى ﴾ : أنفق قليلا وبخل بالباقي،
﴿ أعنده علم الغيب ﴾ : بأن إنفاقه ينفذ ما في يده، ﴿ فهو يرى ﴾ : عيانا ويعلم ذلك،
﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم١ الذي وفى ﴾ : أقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام، والكمال قال تعالى :﴿ وإذا ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾[ البقرة : ١٢٤ ] وتقديم صحف موسى لأنها أشهر،
١ قيل: خص هذين النبيين، لأن ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه، وعمه وخاله والزوج بامرأته، والعبد بسيده، فأول من خالفهم إبراهيم/١٢ وجيز..
﴿ ألا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي : لا تؤاخذ نفس آثمة بمأثم نفس أخرى، ولا يحمله عنها أحد وإن مخففة من المثقلة بدل ما في صحف، أو تقديره أعني أن لا تزر،
﴿ وأن ليس١ للإنسان إلا ما سعى٢ : لا يثاب أحد بفعل غيره أيضا، ومن هذه استنبط الإمام الشافعي أن ثواب القراءة لا تصل إلى الموتى، وأما من سن سنة حسنة، أو سيئة فله أجرها وأجر من عمل بها ووزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فلأنه سببها ودل عليها، وفي الصحيح " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا "، أو معناه لا يملك شيئا غير ذلك، وإن كان قد يحصل له بفضل الله، وبدعاء الغير، وصدقته له نفع لكن هو لا يملك ذلك،
١ قال شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية- رحمه الله: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، وهو انتفاع بعمل الغير، وثانيها: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخول ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم، سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين. ﴿وكان أبوهما صالحا﴾ [الكهف: ٨٢] فانتفعا بصلاح أبيهما، وليس من سعيهما، ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعتق بنص السنة، والإجماع وهو من عمل الغير تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير عاشرها: أن الحج المنذر أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير حادي عشرها: المدين قد امتنع- صلى الله عليه وسلم- من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو من عمل الغير، ثاني عشرها: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لمن صلى وحده:"ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه"، فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير، رابع عشرها: أن من عليها تبعات ومظالم إذا حلل عنها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير، خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير، سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، فالأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره، سابع عشرها: الصلاة على الميت، والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره، ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد كذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض ببعض، تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه- صلى الله عليه وسلم- ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾[الأنفال: ٣٣] وقال تعالى: ﴿ولولا رجال من مؤمنون ونساء مؤمنات﴾ [الفتح: ٢٥] وقال تعالى:﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض﴾[البقرة: ٢٥٠] فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير، عشرونها: إن صدقة الفطر تجب على الصغير، وغيره ممن يعوله الرجل فإنه ينتفع بذلك من يخرج، ولا سعى له فيها، حادي عشرينها: أن الزكاة تجب في مال الصبي، والمجنون ويثاب على ذلك، ولا سعى له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن يتناول الآية الكريمة على خلاف صحيح الكتاب والسنة وإجماع الأمة/١٢..
٢ هذا كما يقال: لا أملك إلا ما أكسب، لم يكن ذلك نفيا للانتفاع بشيء غير كسبه فإنه قد يحصل له أشياء أخر لكن الذي هو مالكه، وفي تحت يده واختياره ما كسب/١٢ وجيز..
﴿ وأن سعيه سوف يرى ﴾ : في ميزانه
﴿ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ﴾ أي : يجزى الإنسان سعيه الجزاء الأوفر، فليس له أن يبخل، وينقص العمل، والضمير المرفوع للإنسان والمنصوب للسعي، ونصب الجزاء بأنه مفعول مطلق، أو بنزع الخافض أي : بالجزاء الأوفى كما يكون صفة للمجزي يكون صفة للحدث أي : المصدر لملابسته له قيل نزلت في وليد بن المغيرة آمن فعيره المشركون، فقال : أخشى عذاب الله، فضمن أحد من المشركين أن يحتمل عنه العذاب إن أعطاه كذا مالا فارتد وأعطى بعض ما شرط، وبخل بالباقي، ومعنى أعنده علم الغيب، فهو يرى أنه يعلم تمكين الله تعالى إياه عن أن يحمل عنه العذاب وباقي الآية ظاهر الملائمة حينئذ،
﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾ : المرجع،
﴿ وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات ﴾ : في الدنيا أو الآباء، ﴿ وأحيا ﴾ : في الآخرة أو الأبناء في الدنيا أيضا،
﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذ تمنى ﴾ : تدفق في الرحم،
﴿ وأن عليه ﴾ : وفاء بوعده، ﴿ النشأة الأخرى ﴾ : الإحياء بعد الموت،
﴿ وأنه هو أغنى ﴾ : بإعطاء المال، ﴿ وأقنى ﴾ : أعطى القنية هي أصول مال اتخذه لنفسه لا للبيع أي : ملكهم المال، وجعله عندهم مقيما لا يحتاجون إلى بيعه، وقيل : أفقر، وكان من أخذ مالا لا للبيع فهو فقير لا يبيع ولا يشتري،
﴿ وأنه هو رب الشعرى ﴾ : كوكب وقاد خلف الجوزاء تعبد في الجاهلية،
﴿ وأنه أهلك عاد الأولى ﴾ : قوم هود وعاد الأخرى إرم،
﴿ وثمود ﴾ : عطف على عادا، ﴿ فما أبقى ﴾ : أي : الفريقين،
﴿ وقوم نوح من قبل ﴾ : من قبل عاد وثمود، ﴿ إنهم كانوا هم أظلم ﴾ : من الفريقين، ﴿ وأطغى ﴾
﴿ والمؤتفكة أهوى ﴾ أي : إنه أسقط إلى الأرض القرى المقلبة، وهي قرى قوم لوط١،
١ بإجماع المفسرين وسميت بذلك لأنها انقلبت، ومنه الإفك لأنه قلب الحق كذبا/١٢ وجيز..
﴿ فغشاها ما غشى ﴾ : من العذاب كأنه لا يمكن أن يوصف،
﴿ فبأي آلاء ربك ﴾ : أيها الإنسان، ﴿ تتمارى ﴾ : تتشكك،
﴿ هذا ﴾ : الرسول، ﴿ نذير١ من النذر الأولى ﴾ : من جنس الأنبياء المتقدمين، أو القرآن إنذار من جنس إنذارات المتقدمة،
١ افتتح السورة به واختتم أيضا/١٢ وجيز..
﴿ أزفت الآزفة ﴾ : قربت الموصوفة بالقرب، وهي القيامة،
﴿ وليس لها من دون الله كاشفة ﴾ : أي : نفس كاشفة أهوالها إذا غشيت الخلائق أو مبينة متى تقوم لا يجيلها لوقتها إلا هو،
﴿ أفمن هذا الحديث ﴾ : القرآن، ﴿ تعجبون ﴾ : إنكارا،
﴿ وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون١ : لا هون أو مستكبرون أو مغنون لتشغلوا الناس عنه،
١ روى أنه- صلى الله عليه وسلم- لم ير بعد نزولها ضاحكا فاسجدوا لله واعبدوه دون الآلهة الباطلة، وهذه السورة أول سورة أعلن- صلى الله عليه وسلم- بقراءتها في الحرم، وفيها سجد وسجد من حضر من مؤمن ومشرك إلا أن أبا لهب أخذ حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: هذا يكفي [أخرجه البخاري وغيره]، وسبب نزولها قولهم: محمد يختلق بالقرآن /١٢ وجيز..
﴿ فاسجدوا لله واعبدوا ﴾ أي : ما عبدوه دون الآلهة.
والحمد لله على التوحيد.
Icon