تفسير سورة النجم

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة النجم من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة النجم مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية.

(٥٣) سورة والنجم
مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال. هوى هوياً بالفتح إذا سقط وغرب، وهويا بالضم إذا علا وصعد، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض، أو إذا نما وارتفع على قوله.
مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمد صلّى الله عليه وسلم عن الطريق المستقيم، والخطاب لقريش. وَما غَوى وما اعتقد باطلاً والخطاب لقريش، والمراد نفي ما ينسبون إليه.
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى وما يصدر نطقه بالقرآن عَنِ الهوى.
إِنْ هُوَ ما القرآن أو الذي ينطق به. إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي إلا وحي يوحيه الله إليه، واحتج به من لم ير الاجتهاد له. وأجيب عنه بأنه إذا أوحي إليه بأن يجتهد كان اجتهاده وما يستند إليه وحياً، وفيه نظر لأن ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥ الى ٧]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ملك شديد قواه وهو جبريل عليه السلام فإن الواسطة في إبداء الخوارق،
روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين.
ذُو مِرَّةٍ حصافة في عقله ورأيه. فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها. قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمد عليه الصلاة والسلام مرتين، مرة في السماء ومرة في الأرض، وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى في أفق السماء والضمير لجبريل.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٨ الى ١٠]
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)
ثُمَّ دَنا من النبي عليه الصلاة والسلام. فَتَدَلَّى فتعلق به وهو تمثيل لعروجه بالرسول. وقيل ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من الرسول فيكون إشعاراً بأنه عرج به غير منفصل عن محله تقريراً لشدة قوته، فإن التدلي استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة، ويقال دلى رجليه من السرير وأدلى دلوه، والدوالي الثمر المعلق.
فَكانَ جبريل عليه السلام كقولك: هو مني معقد الإزار، أو المسافة بينهما. قابَ قَوْسَيْنِ مقدارهما. أَوْ أَدْنى على تقديركم كقوله أو يزيدون، والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما
أوحي إليه بنفي البعد الملبس.
فَأَوْحى
جبريل عليه السلام. إِلى عَبْدِهِ
عبد الله واضماره قبل الذكر لكونه معلوماً كقوله: عَلى ظَهْرِها مَا أَوْحى
جبريل عليه السلام وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه، وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بشَرَاشِرِِهِ إلى جناب القدس.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١١ الى ١٢]
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (١٢)
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه السلام أو الله تعالى، أي ما كذب بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولاً بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر، أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك كان كاذباً لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، أو ما رآه بقلبه والمعنى أنه لم يكن تخيلاً كاذباً. ويدل عليه
«أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل رأيت ربك؟ فقال رأيته بفؤادي».
وقرأ هشام ما كذب أي صدقه ولم يشك فيه.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى أفتجادلونه عليه، من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب «أفتمرونه» أي أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته، أو أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده وعلى لتضمين الفعل معنى الغلبة فإن المماري والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٣ الى ١٦]
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (١٦)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مرة أخرى فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعاراً بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضاً بنزول ودنو والكلام في المرئي والدنو ما سبق. وقيل تقديره ولقد رآه نازلاً نزلة أخرى، ونصبها على المصدر والمراد به نفي الريبة عن المرة الأخيرة.
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى التي ينتهي إليها أعمال الخلائق وعلمهم، أو ما ينزل من فوقها ويصعد من تحتها، ولعلها شبهت بالسدرة وهي شجرة النبق لأنهم يجتمعون في ظلها. وروي مرفوعاً أنها في السماء السابعة.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنة التي يأوي إليها المتقون أو أرواح الشهداء.
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يكتنهها نعت ولا يحصبها عد، وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
مَا زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عما رآه. وَما طَغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتاً صحيحاً مستيقناً، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي والله لقد رأى الكبرى من آياته وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج وقد قيل إنها المعنية بما رَأى. ويجوز أن تكون الْكُبْرى صفة لل آياتِ على أن المفعول محذوف أي شيئاً من آيات ربه أو مِنْ مزيدة.

[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٢]

أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون. وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب اللَّاتَ بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج.
وَالْعُزَّى بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وأصلها تأنيث الأعز وَمَناةَ صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناه إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى. وقرأ ابن كثير مناءة وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركاً بها، وقوله الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان للتأكيد كقوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أو الْأُخْرى من التأخر في الرتبة.
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى إنكار لقولهم الملائكة بنات الله، وهذه الأصنام استوطنها جنيات هن بناته، أو هياكل الملائكة وهو المفعول الثاني لقوله أَفَرَأَيْتُمُ.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة حيث جعلتم له ما تستنكفون منه وهي فعلى من الضيز وهو الجور، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في بيض فإن فعلى بالكسر لم تأت وصفاً. وقرأ ابن كثير بالهمزة من ضأزه إذا ظلمه على أنه مصدر نعت به.
[سورة النجم (٥٣) : آية ٢٣]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ الضمير للأصنام أي ما هي باعتبار الألوهية إلا أسماء تطلقونها عليها لأنهم يقولون أنها آلهة وليس فيها شيء من معنى الألوهية، أو للصفة التي تصفونها بها من كونها آلهة وبنات وشفعاء، أو للأسماء المذكورة فإنهم كانوا يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، والعزى لعزتها ومناة لاعتقادهم أنها تستحق أن يتقرب إليها بالقرابين. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها.
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بهواكم. مَّآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان تتعلقون به. إِنْ يَتَّبِعُونَ وقرئ بالتاء.
إِلَّا الظَّنَّ إلا توهم أن ما هم عليه حق تقليداً وتوهماً باطلاً. وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وما تشتهيه أنفسهم.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول أو الكتاب فتركوه.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى أَمْ منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإِنكار، والمعنى ليس له كل ما يتمناه والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة وقولهم: لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى وقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ونحوهما.
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى يعطي منهما ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئاً ولا تنفع.
إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة أن يشفع أو من الناس أن يشفع له.
وَيَرْضى ويراه أهلاً لذلك فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨)
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي كل واحد منهم. تَسْمِيَةَ الْأُنْثى بأن يسموه بنتاً.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي بما يقولون، وقرئ بها أي بالملائكة أو بالتسمية. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فإن الحق الذي هو حقيقة الشيء لا يدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا فأعرض عن دعوته والاهتمام بشأنه فإن من غفل عن الله وأعرض عن ذكره. وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته ومبلغ علمه لا تزيده الدعوة إلا عناداً وإصراراً على الباطل.
ذلِكَ أي أمر الدنيا أو كونها شهية. مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ لا يتجاوزه علمهم والجملة اعتراض مقرر لقصور هممهم بالدنيا وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإِعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً وملكا. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء، وهو علة لما دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه. وقيل ما أوجب الحد. وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإِثم على إرادة الجنس أو الشرك. وَالْفَواحِشَ وما فحش من الكبائر خصوصاً. إِلَّا اللَّمَمَ إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر، والاستثناء منقطع ومحل الَّذِينَ النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أعلم بأحوالكم منكم. إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تثنوا
عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى عن اتباع الحق والثبات عليه.
وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى وقطع العطاء من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية وهي الصخرة الصلبة فترك الحفر. والأكثر على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعيره بعض بعض المشركين وقال: تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله تعالى فضمن أن يتحمل عنه العقاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطى بعض المشروط ثم بخل بالباقي.
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى وفى وأتم ما التزمه أو أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله، وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى أتاه جبريل عليه السلام حين ألقي في النار فقال ألك حاجة، فقال أما إليك فلا، وذبح الولد وأنه كان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم، وتقديم موسى عليه الصلاة والسلام لأن صحفه وهي التوراة كانت أشهر وأكبر عندهم.
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أن هي المخففة من الثقيلة وهي بما بعدها في محل الجر بدلاً مما فِي صُحُفِ مُوسى، أو الرفع على هو أن أَلَّا تَزِرُ كأنه قيل ما في صحفهما؟ فأجاب به، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يخالف ذلك قوله تعالى: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
وقوله عليه الصلاة والسلام، «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»
فإن ذلك للدلالة والتسبب الذي هو وزره.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى إلا سعيه أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله، وما جاء
في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت
فلكون الناوي له كالنائب عنه.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى العبد سعيه بالجزاء الأوفر فنصب بنزع الخافض، ويجوز أن يكون مصدراً وأن تكون الهاء للجزاء المدلول عليه بيجزي والْجَزاءَ بدله.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى انتهاء الخلائق ورجوعهم، وقرئ بالكسر على أنه منقطع عما في الصحف وكذلك ما بعده.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا لا يقدر على الإِماتة والإِحياء غيره فإن القاتل ينقض البنية والموت يحصل عنده بفعل الله تعالى على سبيل العادة.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى تدفق في الرحم أو تخلق، أو يقدر منها الولد من منى إذا قدر.
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى الإِحياء بعد الموت وفاء بوعده، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدة وهو أيضاً مصدر نشأ.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وأعطى القنية وهو ما يتأثل من الأموال، وإفرادها لأنها أشف الأموال أو أرضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى يعني العبور وهي أشد ضياء من الغميصاء، عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي ﷺ وخالف قريشاً في عبادة الأوثان، ولذلك كانوا يسمون الرسول صلّى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة، ولعل تخصيصها للإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وإن وافق أبا كبشة في مخالفتهم خالفه أيضاً في عبادتها.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولى القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه والسلام. وقيل «عاد الأولى» قوم هود وعاد الأخرى إرم. وقرئ «عَاداً لولي» بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى لام التعريف وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الاولى بضم اللام بحركة الهمزة وبادغام التنوين، وقالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.
وَثَمُودَاْ عطف على عَاداً لأن ما بعده لا يعمل فيه، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين ويقفان بغير الألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف. فَما أَبْقى الفريقين.
وَقَوْمَ نُوحٍ أيضاً معطوف عليه. مِنْ قَبْلُ من قبل عاد وثمود. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من الفريقين لأنهم كانوا يؤذونه وينفرون عنه ويضربونه حتى لا يكون به حراك.
وَالْمُؤْتَفِكَةَ والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهي قرى قوم لوط. أَهْوى بعد أن رفعها فقلبها.
فَغَشَّاها مَا غَشَّى فيه تهويل وتعميم لما أصابهم.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك والخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لكل أحد والمعدودات وإن كانت نعماً ونقماً سماها آلاءِ من قبل ما في نقمه من العبر والمواعظ للمعتبرين، والانتقام للأنبياء والمؤمنين.
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن إنذار من جنس الإِنذارات المتقدمة، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله لكنه لا يكشفها، أو
الآن بتأخيرها إلا الله، أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله إذ لا يطلع عليه سواه، أو ليس لها من غير الله كشف على أنها مصدر كالعافية.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن تَعْجَبُونَ إنكاراً.
وَتَضْحَكُونَ استهزاء. وَلا تَبْكُونَ تحزناً على ما فرطتم.
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من السمود وهو الغناء.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي واعبدوه دون الآلهة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة».
Icon