تفسير سورة النجم

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة النجم من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة النجم
هذه السورة مكية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، لأنه قال :﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾ أي : اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشعر وقالوا : هو كاهن ومجنون ؛ فأقسم تعالى أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل، وأن ما يأتي به هو وحي من الله، وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بها في الحرم، والمشركون يستمعون، فيها سجد، وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال : يكفي هذا. وسبب نزولها قول المشركين : إن محمداً صلى الله عليه وسلم يختلق القرآن.

ﭑﭒﭓ ﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑ ﰓﰔﰕﰖ ﰘﰙﰚﰛ ﰝﰞﰟﰠ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀ ﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢ ﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪ

[الجزء العاشر]

سورة النجم
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٦٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (١٦) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩)
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (٢٤)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩)
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (٣٩)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها مَا غَشَّى (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
5
الْمِرَّةُ: الْقُوَّةُ مِنْ أَمْرَرْتُ الْحَبْلَ، إِذَا أَحْكَمْتَ فَتْلَهُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ لكل جزل الرأي خصيف الْعَقْلِ إِنَّهُ لَذُو مِرَّةٍ، قَالَ:
وَإِنِّي لَذُو مِرَّةٍ مُرَّةٍ إِذَا رَكِبَتْ خَالَةٌ خَالَهَا
تَدَلَّى الْعِذْقُ تَدَلِّيًا: امْتَدَّ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْعُلُوِّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ أُسَامَةُ الْهُذَلِيُّ:
تَدَلَّى عَلَيْنَا وَهْوَ زُرْقُ حَمَامَةٍ إِذَا طُحْلُبٌ فِي مُنْتَهَى الْقَيْظِ هامد
القاب والقيب، والقاد وَالْقَيْدُ: الْمِقْدَارُ. الْقَوْسُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ: آلَةٌ لِرَمْيِ السِّهَامِ،
6
وَتَخْتَلِفُ أَشْكَالُهُ. السِّدْرَةُ: شَجَرَةُ النَّبْقِ. الضِّيزَى: الْجَائِرَةُ مِنْ ضَازَهُ يَضِيزُهُ إِذَا ضَامَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بِحُكْمِهِمْ إِذْ يَجْعَلُونَ الرَّأْسَ كَالذَّنَبِ
وَأَصْلُهَا ضُوزَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، نَحْوَ: حُبْلَى وَأُنْثَى وَرُيَّا، فَفُعِلَ بِهَا مَا فُعِلَ بِبُيَّضَ لِتَسْلَمَ الْيَاءُ، وَلَا يُوجَدُ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي الصِّفَاتِ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ:
مِشْيَةٌ جُبْكَى، وَرَجُلٌ كِيصَى. وَحَكَى غَيْرُهُ: امرأة عزمى، وَامْرَأَةٌ سِعْلَى وَالْمَعْرُوفُ: عِزْمَاةٌ وَسِعْلَاةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: ضَازَ يَضِيزُ ضِيزَى، وَضَازَ يَضُوزُ ضِوْزَى، وَضَأَزَ يَضْأَزُ ضِأْزًا.
اللَّمَمُ: مَا قَلَّ وَصَغُرَ، وَمِنْهُ اللَّمَمُ: الْمَسُّ مِنَ الْجُنُونِ، وَأَلَمَّ بِالْمَكَانِ: قَلَّ لُبْثُهُ فِيهِ، وَأَلَمَّ بِالطَّعَامِ: قَلَّ أَكْلُهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ اللَّمَمِ أَنْ يَلِمَّ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْكَبَهُ، يُقَالُ:
أَلَمَّ بِكَذَا، إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يُخَالِطْهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْإِلْمَامَ فِي الْمُقَارَبَةِ وَالدُّنُوِّ، يُقَالُ: أَلَمَّ يَفْعَلُ كَذَا، بِمَعْنَى: كَادَ يَفْعَلُ. قَالَ جَرِيرٌ:
بِنَفْسِي مَنْ تَجْنِيهِ عَزِيزٌ عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ
وَقَالَ آخَرُ:
لِقَاءُ أَخِلَّاءِ الصَّفَا لِمَامُ الْأَجِنَّةُ: جَمْعُ جَنِينٍ، وَهُوَ الْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِتَارِهِ، وَالِاجْتِنَانُ:
الِاسْتِتَارُ. أَكْدَى: أَصْلُهُ مِنَ الْكُدْيَةِ، يُقَالُ لِمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ وَصَلَ إِلَى حَجَرٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ فِيهَا حَفْرٌ: قَدْ أَكْدَى، ثُمَّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ لِمَنْ أَعْطَى وَلَمْ يُتْمِمْ، وَلِمَنْ طَلَبَ شَيْئًا فَلَمْ يَبْلُغْ آخِرَهُ. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
فَأَعْطَى قَلِيلًا ثُمَّ أَكْدَى عَطَاءَهُ وَمَنْ يَبْذُلِ الْمَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدُ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: أَكْدَى الْحَافِرُ، إِذَا بَلَغَ كُدْيَةً أَوْ جَبَلًا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْفِرَ، وَحَفَرَ فَأَكْدَى: إِذَا وَصَلَ إِلَى الصُّلْبِ، وَيُقَالُ: كَدِيَتْ أَصَابِعُهُ إِذَا كَلَّتْ مِنَ الْحَفْرِ، وَكَدَا الْبَيْتُ:
قَلَّ رَيْعُهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَكْدَى الرَّجُلُ: قَلَّ خَيْرُهُ. أَقْنَى، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَنِيَ يَقْنَى قِنًى، كَغَنِيَ يَغْنَى غِنًى، وَيَتَعَدَّى بِتَغْيِيرِ الْحَرَكَةِ، فَتَقُولُ: قَنَيْتُ الْمَالَ: أَيْ كَسَبْتُهُ، نَحْوَ شُتِرَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ وَشَتَرَهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَعَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْهَمْزَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، فَتَقُولُ: أَقْنَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَقَنَّاهُ اللَّهُ مَالًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
7
أَيْ: تَقَنَّى الْمَالَ، وَيُقَالُ: أَقْنَاهُ اللَّهُ مَالًا، وَأَرْضَاهُ مِنَ الْقِنْيَةِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ أُعْطِيَ مِائَةً مِنَ الْمَعِزِ: أُعْطِيَ الْقِنَى، وَمَنْ أُعْطِيَ مِائَةً مِنَ الضَّأْنِ: أُعْطِيَ الْغِنَى، وَمَنْ أُعْطِيَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ: أُعْطِيَ الْمُنَى. الشِّعْرَى: هُوَ الْكَوْكَبُ الْمُضِيءُ الَّذِي يَطْلُعُ بَعْدَ الْجَوْزَاءِ، وَطُلُوعُهُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَيُقَالُ لَهُ: مُرْزِمُ الْجَوْزَاءِ، وَهُمَا الشِّعْرَيَانِ:
الْعُبُورُ الَّتِي فِي الْجَوْزَاءِ، وَالشِّعْرَى الْغُمَيْصَاءُ الَّتِي فِي الذِّرَاعِ، وَتَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّهُمَا أُخْتَا سُهَيْلٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتُسَمَّى كَلْبَ الْجَبَّارِ، وَهُمَا شِعْرَيَانِ: الْغُمَيْصَاءُ وَالْعُبُورُ، وَمِنْ كَذِبِ الْعَرَبِ أَنَّ سُهَيْلًا وَالشِّعْرَى كَانَا زَوْجَيْنِ فَانْحَدَرَ سُهَيْلٌ وَصَارَ يَمَانِيًّا، فَأَتْبَعَتْهُ الشِّعْرَى الْعُبُورَ، فَعَبَرَتِ الْمَجَرَّةَ، فَسُمِّيَتِ الْعُبُورَ، وَأَقَامَتِ الْغُمَيْصَاءُ لِأَنَّهَا أَخْفَى مِنَ الْأُخْرَى.
أَزِفَ: قَرُبَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ الْإِقْلَالِ
بَانَ الشَّبَابُ وَهَذَا الشِّيبُ قَدْ أَزِفَا وَلَا أَرَى لِشَبَابٍ بَائِنٍ خَلَفَا
وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:
أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا لَمَّا تزل برجالنا وَكَأَنَّ قَدِ
وَيُرْوَى: أَفِدَ التَّرَحُّلُ. سَمَدَ: لَهَى وَلَعِبَ، قَالَ الشَّاعِرِ:
أَلَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ سَامِدٌ كَأَنَّكَ لَا تَفْنَى وَلَا أَنْتَ هَالِكُ
وَقَالَ آخَرُ:
قِيلَ قُمْ فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ دَعْ عَنْكَ السُّمُودَا
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السُّمُودُ: الْغِنَاءُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، يَقُولُونَ: يَا جَارِيَةُ اسْمُدِي لَنَا: أَيْ غَنِّي لَنَا.
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى، مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى، مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى
8
الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى، أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لآخر ما قبلها ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ «١» :
أَيِ اخْتَلَقَ الْقُرْآنَ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الشِّعْرِ وَقَالُوا: هُوَ كَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ فَأَقْسَمَ تَعَالَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ، وَأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ هُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَعْلَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فِي الْحَرَمِ، وَالْمُشْرِكُونَ يَسْتَمِعُونَ، فِيهَا سَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ غَيْرَ أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ رَفَعَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِي هَذَا. وَسَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَلِقُ الْقُرْآنَ. وَأَقْسَمَ تَعَالَى بِالنَّجْمِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا نَزَلَتْ، وَقَدْ نَزَلَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: هُوَ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ، وَالْمُرَادُ النُّجُومُ إِذَا هَوَتْ: أَيْ غَرَبَتْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَجَرِّهِ سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ حَمُودُهَا
أَيْ: تَعُدُّ النُّجُومَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ: النُّجُومُ إِذَا انْتَثَرَتْ فِي الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ انْقَضَّ فِي أَثَرِ الشَّيَاطِينِ، وَهَذَا تُسَاعِدُهُ اللُّغَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَالنَّجْمُ إِذَا طَلَعَ، وَهَوِيُّهُ: سُقُوطُهُ عَلَى الْأَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الصَّادِقُ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَهَوِيُّهُ: نُزُولُهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَقِيلَ: النَّجْمُ مُعَيَّنٌ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ: هُوَ الثُّرَيَّا، وَهَوِيُّهَا: سُقُوطُهَا مَعَ الْفَجْرِ، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ، وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ النَّجْمَ مُطْلَقًا إِلَّا لِلثُّرَيَّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ:
طَلَعَ النَّجْمُ عِشَاءْ فَابْتَغَى الرَّاعِي كِسَاءْ
طَلَعَ النَّجْمُ غُدْيَهْ فَابْتَغَى الرَّاعِي كُسْيَهْ
وَقِيلَ: الشِّعْرَى، وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى، وَالْكُهَّانُ وَالْمُنَجِّمُونَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ عِنْدَ طُلُوعِهَا. وَقِيلَ: الزُّهْرَةُ، وَكَانَتْ تُعْبَدُ. وَقِيلَ: وَالنَّجْمِ:
هُمُ الصَّحَابَةُ. وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ خَرْقُ الْهَوَى وَمَقْصِدُهُ السُّفْلُ، إِذْ مَصِيرُهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هُوِيَّ الدلو أسلمها الرشا وَمِنْهُ: هَوَى الْعُقَابُ. صاحِبُكُمْ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ:
أَيْ هُوَ مُهْتَدٍ رَاشِدٌ، وَلَيْسَ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ نِسْبَتِكُمْ إِيَّاهُ إِلَى الضَّلَالِ وَالْغَيِّ. وَما يَنْطِقُ:
(١) سورة الطور: ٥٢/ ٣٣.
9
أَيِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَنِ الْهَوى: أَيْ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ وَرَأْيِهِ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُوحى إِلَيْهِ. وَقِيلَ: وَما يَنْطِقُ: أَيِ الْقُرْآنُ، عَنْ هَوًى وَشَهْوَةٍ، كَقَوْلِهِ: هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «١». إِنْ هُوَ: أَيِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ. أَوْ إِنْ هُوَ: أَيِ الْقُرْآنُ. عَلَّمَهُ: الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ عَلَّمَهُ الْوَحْيَ. أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ، فَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَلَّمَهُ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شَدِيدُ الْقُوى: هُوَ جِبْرِيلُ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْأَوْصَافِ الَّتِي بَعْدَهُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شَدِيدُ الْقُوى: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ بَعِيدٌ.
ذُو مِرَّةٍ: ذُو قُوَّةٍ، وَمِنْهُ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ. وَقِيلَ: ذُو هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ جِسْمٌ طَوِيلٌ حَسَنٌ. وَلَا يُنَاسِبُ هَذَانِ الْقَوْلَانِ إِلَّا إِذَا كَانَ شَدِيدُ الْقُوَى هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَاسْتَوى: الضَّمِيرُ لِلَّهِ فِي قوله الْحَسَنِ، وَكَذَا وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى لِلَّهِ تَعَالَى، عَلَى مَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ. وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ:
فَاسْتَوى: أَيْ جِبْرِيلُ فِي الْجَوِّ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى، إِنْ رَآهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحِرَاءٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَحِينَئِذٍ دَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ، وَكَذَلِكَ هُوَ الْمَرْئِيُّ فِي النَّزْلَةِ الْأُخْرَى بِسِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ عِنْدَ السِّدْرَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وفي هَذَا التَّأْوِيلِ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ يُقَالُ:
الضَّمِيرُ فِي اسْتَوَى لِلرَّسُولِ، وَهُوَ لِجِبْرِيلَ، وَالْأَعْلَى لِعِمَّةِ الرَّأْسِ وَمَا جَرَى مَعَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ أُفُقُ مَشْرِقِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَوى: فَاسْتَقَامَ عَلَى صُورَةِ نَفْسِهِ الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَا كُلَّمَا هَبَطَ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ يَنْزِلُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا، فَاسْتَوَى لَهُ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَهُوَ أُفُقُ الشَّمْسِ، فَمَلَأَ الْأُفُقَ. وَقِيلَ: مَا رَآهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ، وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ. ثُمَّ دَنا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَدَلَّى: فَتَعَلَّقَ عَلَيْهِ فِي الْهَوَى. وَكَانَ مِقْدَارُ مَسَافَةِ قُرْبِهِ مِنْهُ مِثْلَ قابَ قَوْسَيْنِ، فَحُذِفَتْ هَذِهِ الْمُضَافَاتُ، كَمَا قَالَ أَبُو علي في قوله:
(١) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٩.
10
وَقَدْ جَعَلْتَنِي مِنْ خُزَيْمَةَ أُصْبُعَا أَيْ: ذَا مَسَافَةٍ مِقْدَارَ أُصْبُعٍ، أَوْ أَدْنى عَلَى تَقْدِيرِكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَوْ يَزِيدُونَ «١». إِلى عَبْدِهِ
: أَيْ إِلَى عَبْدِ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لِاسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ لَا يُلْبِسُ، كَقَوْلِهِ:
مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها «٢». مَا أَوْحى
: تَفْخِيمٌ لِلْوَحْيِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ قَبْلُ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ دَنا، قَالَ الْجُمْهُورُ: أَيْ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ حِرَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: مَا يَقْتَضِي أَنَّ الدُّنُوَّ يَسْتَنِدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَ الدُّنُوُّ إِلَى جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ دَنَا وَحْيُهُ وَسُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَعَ جِبْرِيلَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَزْلَةً مُتَقَدِّمَةً. وَمَا
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ قَبْلَ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَدَنَا أَعَمُّ مِنْ تَدَلَّى، فَبَيَّنَ هَيْئَةَ الدُّنُوِّ كَيْفَ كَانَتْ قَابَ قَدْرٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: مَعْنَاهُ مِنْ طَرَفِ الْعُودِ إِلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: مِنَ الْوَتَرِ إِلَى الْعُودِ فِي وَسَطِ الْقَوْسِ عِنْدَ الْمِقْبَضِ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْقَوْسِ، وَلَكِنْ قَدْرُ الذِّرَاعَيْنِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْقَوْسَ هُنَا ذِرَاعٌ تُقَاسُ بِهِ الْأَطْوَالُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ مِنْ لُغَةِ الْحِجَازِ.
فَأَوْحى
: أَيِ اللَّهُ، إِلى عَبْدِهِ
: أَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِلى عَبْدِهِ
جِبْرِيلَ، مَا أَوْحى
: إِبْهَامٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَالَّذِي عُرِفَ مِنْ ذَلِكَ فَرْضُ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَوْحَى، كَالْأَوَّلِ فِي الْإِبْهَامِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا أَوْحى
: أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ. مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ مِنْ صُورَةِ جِبْرِيلَ: أَيْ مَا قَالَ فُؤَادُهُ لَمَّا رَآهُ لَمْ أَعْرِفْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَعَرَفَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا كَذَبَ مُخَفَّفًا، عَلَى مَعْنَى: لَمْ يَكْذِبْ قَلْبُ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ الشَّيْءَ الَّذِي رَآهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وَتَحَقَّقَهُ نَظَرًا، وَكَذَبَ يَتَعَدَّى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ: رَأَى محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ اللَّهَ تَعَالَى بِفُؤَادِهِ.
وَقِيلَ: مَا رَأَى بِعَيْنِهِ لَمْ يُكَذِّبْ ذَلِكَ قَلْبُهُ، بَلْ صَدَّقَهُ وَتَحَقَّقَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيمَا رَأَى.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رأسه
، وأبت
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٤٧. [.....]
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٤٥.
11
ذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَتْ: أَنَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا كُلِّهَا».
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى مَا رَأَى مِنْ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَكُوتِهِ.
وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فقال: «نورانى أَرَاهُ».
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ قَاطِعٌ لِكُلِّ تَأْوِيلٍ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَوْلَ غَيْرِهَا إِنَّمَا هُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَتْ نَصًّا فِي الرؤية بالبصر، بلا وَلَا بِغَيْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَقَتَادَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: مَا كَذَّبَ مُشَدَّدًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الرُّؤْيَةَ وَالْكَلَامَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: لَقَدْ وَقَفَ شَعَرِي مِنْ سَمَاعِ هَذَا، وَقَرَأَتْ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «١»، وَذَهَبَتْ هِيَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ مَرَّتَيْنِ هُوَ جِبْرِيلُ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ، وَمَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَفَتُمارُونَهُ: أَيْ أَتُجَادِلُونَهُ عَلَى شَيْءٍ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَأَبْصَرَهُ، وَعُدِّيَ بِعَلَى لِمَا فِي الْجِدَالِ مِنَ الْمُغَالَبَةِ، وَجَاءَ يَرَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَدْ مَضَتْ، إِشَارَةً إِلَى مَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ بَعْدُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ مَرَيْتَ: أَيْ جَحَدْتَ، يُقَالُ: مَرَيْتُهُ حَقَّهُ، إِذَا جَحَدْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لثن سَخَرْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ لَقَدْ مَرَيْتَ أَخًا مَا كَانَ يُمْرِيكَا
وَعَدَّى بِعَلَى عَلَى مَعْنَى التَّضْمِينِ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَخْبَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ فِي الْإِسْرَاءِ، كَذَّبُوا وَاسْتَخَفُّوا، حَتَّى وَصَفَ لَهُمْ بَيْتَ المقدس وأمر غيرهم، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُسْتَقْصًى فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَا حَكَى ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِيمَا ذَكَرَ شُعْبَةُ: بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ أَمْرَيْتَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ غَلَطٌ. وَلَقَدْ رَآهُ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ. نَزْلَةً أُخْرى: أَيْ مَرَّةً أُخْرَى، أَيْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً أُخْرَى فِي صُورَةِ نَفْسِهِ، فَرَآهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَأُخْرَى تَقْتَضِي نَزْلَةً سَابِقَةً، وَهِيَ الْمَفْهُومَةُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ دَنا جِبْرِيلُ، فَتَدَلَّى: وَهُوَ الْهُبُوطُ وَالنُّزُولُ مِنْ عُلُوٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٠٣.
12
رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ. وَانْتَصَبَ نَزْلَةً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ مَرَّةٌ، لِأَنَّ الْفَعْلَةَ اسْمٌ لِلْمَرَّةِ مِنَ الْفِعْلِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
مَصْدَرٌ، أَيْ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ رُؤْيَةً أُخْرَى.
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ نَبْقٍ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ. تَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا الْأَنْهَارُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يَقْطَعُهَا. وَالْمُنْتَهَى مَوْضِعُ الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَيْهَا عِلْمُ كُلِّ عَالِمٍ، وَلَا يَعْلَمُ مَا وَرَاءَهَا صَعَدًا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ كُلِّ جِيلٍ أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَتَجَاوَزُهَا مَلَائِكَةُ الْعُلُوِّ وَمَا صَعِدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا تَتَجَاوَزُهَا مَلَائِكَةُ السُّفْلِ أَوْ تَنْتَهِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ أَوْ كَأَنَّهَا فِي مُنْتَهَى الْجَنَّةِ وَآخِرِهَا أَوْ تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَيَقِفُونَ عِنْدَهَا أَوْ يَنْتَهِي إِلَيْهَا عِلْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَيَعْزُبُ عِلْمُهُمْ عَنْ مَا وَرَاءَهَا أَوْ تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْأَعْمَالُ أَوْ لِانْتِهَاءِ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهَا فِي الْكَرَامَةِ، أَقْوَالٌ تِسْعَةٌ.
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى: أَيْ عِنْدَ السِّدْرَةِ، قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدَ النَّزْلَةِ. قَالَ الْحَسَنُ:
هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَقَتَادَةُ: هِيَ جَنَّةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ، وَلَيْسَتْ بِالَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ جَنَّةَ النَّعِيمِ. وَقِيلَ: جَنَّةُ: مَأْوَى الْمَلَائِكَةِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٌ وَزِرٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ: جَنَّهُ، بِهَاءِ الضَّمِيرِ، وَجَنَّ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، أَيْ عِنْدَهَا سَتَرَهُ إِيوَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَجَمِيلُ صُنْعِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ضَمَّهُ الْمَبِيتُ وَاللَّيْلُ. وَقِيلَ: جَنَّهُ بِظِلَالِهِ وَدَخَلَ فِيهِ. وَرَدَّتْ عَائِشَةُ وَصَحَابَةٌ مَعَهَا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالُوا: أَجَنَّ اللَّهُ مَنْ قَرَأَهَا وَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَةً قَرَأَهَا أَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ رَدَّهَا. وَقِيلَ: إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا أَجَازَتْهَا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: جَنَّةُ الْمَأْوى، كَقَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا «١».
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى: فِيهِ بِإِبْهَامِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَعْظِيمٌ وَتَكْثِيرٌ لِلْغَاشِي الَّذِي يَغْشَاهُ، إِذْ ذَاكَ أَشْيَاءُ لَا يَعْلَمُ وَصْفَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَغْشَاهَا الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ عِنْدَهَا. وَقِيلَ: مَا يَغْشَى مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْوَاعُ الصِّفَاتِ الَّتِي
(١) سورة السجدة: ٣٢/ ١٩.
13
يَخْتَرِعُهَا لَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ: ذَلِكَ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ يَغْشَاهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَلِكَ تَبَدُّلُ أَغْصَانِهَا دُرًّا وَيَاقُوتًا.
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «رَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى».
وَأَيْضًا: يَغْشَاهَا رَفْرَفٌ أَخْضَرُ، وَأَيْضًا:
تَغْشَاهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَغْشَاهَا نُورُ الْخَلَّاقِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: غَشِيَهَا نُورُ رَبِّ الْعِزَّةِ فَاسْتَنَارَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: غَشِيَهَا رَبُّ الْعِزَّةِ، أَيْ أَمْرُهُ، كَمَا
جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ
، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِبْهَامِ لِلتَّعْظِيمِ:
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها مَا غَشَّى.
مَا زاغَ الْبَصَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مَالَ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ أَثْبَتَ مَا رَآهُ إِثْبَاتًا مُسْتَيْقِنًا صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيغَ بَصَرُهُ أَوْ يَتَجَاوَزَهُ، إِذْ مَا عَدَلَ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي أُمِرَ بِرُؤْيَتِهَا وَمُكِّنَ مِنْهَا، وَما طَغى: وَمَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِرُؤْيَتِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَما طَغى: وَلَا تَجَاوَزَ الْمَرْئِيَّ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ وَقَعَ عَلَيْهِ وُقُوعًا صَحِيحًا، وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْأَمْرِ، وَنَفْيٌ لِلرَّيْبِ عَنْهُ. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، قِيلَ: الْكُبْرَى مَفْعُولُ رَأَى، أَيْ رَأَى الْآيَاتِ الْكُبْرَى وَالْعُظْمَى الَّتِي هِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّهِ، أَيْ حِينَ رَقِيَ إِلَى السَّمَاءِ رَأَى عَجَائِبَ الْمَلَكُوتِ، وَتِلْكَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مِنْ آياتِ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، والكبرى صفة لآياته رَبِّهِ، وَمِثْلُ هَذَا الْجَمْعِ يُوصَفُ بِوَصْفِ الْوَاحِدَةِ، وَحُسْنُ ذَلِكَ هُنَا كَوْنُهَا فَاصِلَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى «١»، عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا صِفَةً لِآيَاتِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: أَيْ رَفْرَفٍ أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا فِي السَّمَاءِ.
أَفَرَأَيْتُمُ: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ. وَلَمَّا قَرَّرَ الرِّسَالَةَ أَوَّلًا، وَأَتْبَعَهُ مِنْ ذِكْرِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ بِذِكْرِ التَّوْحِيدِ وَالْمَنْعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَفَهُمْ عَلَى حَقَارَةِ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا قُدْرَةٌ. وَاللَّاتُ: صَنَمٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بِالطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَ فِي الْكَعْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ بِنَخْلَةٍ عِنْدَ سُوقِ عُكَاظٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَرْجَحُ، ويؤيده قوله الشَّاعِرِ:
وَفَرَّتْ ثَقِيفٌ إِلَى لَاتِهَا بِمُنْقَلِبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
انتهى.
(١) سورة طه: ٢٠/ ٢٣.
14
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ تَكُونَ أَصْنَامًا سُمِّيَتْ بِاسْمِ اللَّاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ عَنْ صَنَمٍ بِمَكَانِهِ.
وَالتَّاءُ فِي اللَّاتِ قِيلَ أَصْلِيَّةٌ، لَامُ الْكَلِمَةِ كَالْبَاءِ مِنْ بَابٍ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ يَاءٍ، لِأَنَّ مَادَّةَ لَيْتَ مَوْجُودَةٌ. فَإِنْ وُجِدَتْ مَادَّةٌ من ل وت، جَازَ أَنْ تَكُونَ مُنْقَلِبَةً مِنْ وَاوٍ. وَقِيلَ: التَّاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَوَزْنُهَا فَعْلَةٌ مِنْ لَوَى، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ عَلَيْهَا وَيَعْكُفُونَ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ يَلْتَوُونَ عَلَيْهَا: أَيْ يَطُوفُونَ، حُذِفَتْ لَامُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اللَّاتُ خَفِيفَةُ التَّاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَأَبُو صَالِحٍ وَطَلْحَةُ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ:
بِشَدِّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَذَا رَجُلًا بِسُوقِ عُكَاظٍ، يَلُتُّ السَّمْنَ وَالسَّوِيقَ عِنْدَ صَخْرَةٍ.
وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ بُهْزٍ، يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحُجَّاجِ عَلَى حَجَرٍ، فَلَمَّا مَاتَ، عَبَدُوا الْحَجَرَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، إِجْلَالًا لِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِرَجُلٍ كَانَ يُلَتُّ عِنْدَهُ السَّمْنُ بِالدُّبِّ وَيُطْمِعُهُ الْحُجَّاجَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ بِالطَّائِفِ، وَكَانُوا يَعْكُفُونَ عَلَى قَبْرِهِ، فَجَعَلُوهُ وَثَنًا. وَفِي التَّحْرِيرِ: أَنَّهُ كَانَ صَنَمًا تُعَظِّمُهُ الْعَرَبُ.
وَقِيلَ: حَجَرٌ ذَلِكَ اللَّاتُ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِهِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْبُدُهَا وَتُعَظِّمُهَا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: شُجَيْرَاتٌ تُعْبَدُ بِبِلَادِهَا، انْتَقَلَ أَمْرُهَا إِلَى الصَّخْرَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَتَلَخَّصَ فِي اللَّاتِ، أَهُوَ صَنَمٌ، أَوْ حَجَرٌ يُلَتُّ عَلَيْهِ، أَوْ صَخْرَةٌ يُلَتُّ عِنْدَهَا، أَوْ قَبْرُ اللَّاتِ، أَوْ شُجَيْرَاتٌ ثُمَّ صَخْرَةٌ، أَوِ اللَّاتُ نَفْسُهُ، أَقْوَالٌ، وَالْعُزَّى صَنَمٌ. وَقِيلَ: سَمَّوْهُ لِغَطَفَانَ، وَأَصْلُهَا تَأْنِيثُ الْأَعَزِّ،
بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَطَعَهَا، وَخَرَجَتْ مِنْهَا شَيْطَانَةٌ، نَاشِرَةٌ شَعَرَهَا، دَاعِيَةٌ وَيْلَهَا، وَاضِعَةٌ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا فَجَعَلَ يَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ
وَرَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تِلْكَ الْعُزَّى وَلَنْ تُعْبَدَ أَبَدًا».
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَتِ الْعُزَّى وَمَنَاةُ بِالْكَعْبَةِ. انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ لِلْمُسْلِمِينَ: لَنَا عُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعُزَّى بِالطَّائِفِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ بِنَخْلَةَ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا صَنَمٌ يُسَمَّى بِالْعُزَّى، كَمَا قُلْنَا فِي اللَّاتِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ ذَلِكَ الصَّنَمِ الْمُسَمَّى وَمَكَانِهِ.
وَمَناةَ: قِيلَ: صَخْرَةٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِثَقِيفٍ. وَقِيلَ: بِالْمُشَكِّكِ مِنْ قُدَيْدٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ قَدْرًا وَأَكْثَرَهَا عَدَدًا، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ تُهِلُّ لَهَا هَذَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ الْأَوْثَانِ وَمَوَاضِعِهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثَتُهَا
15
فِي الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَمَنَاةَ مَقْصُورًا، فَقِيلَ: وَزْنُهَا فَعْلَةٌ، سُمِّيَتْ مَنَاةَ لِأَنَّ دِمَاءَ النَّسَائِكِ كَانَتْ تُمْنَى عِنْدَهَا: أَيْ تُرَاقُ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَمَنَاءَةَ، بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ. قِيلَ: وَوَزْنُهَا مَفْعَلَةٌ، فَالْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، نَحْوَ:
مَقَالَةٍ، وَالْهَمْزَةُ أَصْلٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّوْءِ، كَانُوا يَسْتَمْطِرُونَ عِنْدَهَا الْأَنْوَاءَ تَبَرُّكًا بِهَا، وَالْقَصْرُ أَشْهَرُ. قَالَ جَرِيرٌ:
أَزَيْدُ مَنَاةَ تُوعِدَ بَأْسَ تَيْمٍ تَأَمَّلْ أَيْنَ تَاهَ بِكَ الْوَعِيدُ
وَقَالَ آخَرُ فِي الْمَدِّ وَالْهَمْزِ:
أَلَا هَلْ أَتَى تَيْمُ بْنُ عَبْدِ مَنَاءَةَ عَلَى النَّأْيِ فِيمَا بَيْنَنَا ابْنُ تَمِيمِ
وَاللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمُ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي لَهَا هُوَ قَوْلُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى عَلَى حَدِّ مَا تَقَرَّرَ فِي مُتَعَلِّقِ أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَلَمْ يَعُدْ ضَمِيرٌ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَهُ الْأُنْثى هُوَ فِي مَعْنَى: وَلَهُ هَذِهِ الْإِنَاثُ، فَأَغْنَى عَنِ الضَّمِيرِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَامِ: هِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: أَلَكُمُ النَّوْعُ الْمَحْبُوبُ الْمُسْتَحْسَنُ الْمَوْجُودُ فِيكُمْ، وَلَهُ النَّوْعُ الْمَذْمُومُ بِزَعْمِكُمْ؟ وَهُوَ الْمُسْتَثْقَلُ. وَحُسْنُ إِبْرَازِ الْأُنْثَى كَوْنُهُ نَصًّا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُنَّ إِنَاثٌ، وَأَنَّهُنَّ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِي لِحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي اللَّاتِ وَفِي مَنَاةَ، وَأَلِفِ التَّأْنِيثِ فِي الْعُزَّى، مَا يُشْعِرُ بِالتَّأْنِيثِ، لَكِنَّهُ قَدْ سَمَّى الْمُذَكَّرَ بِالْمُؤَنَّثِ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: الْأُنْثى نَصٌّ عَلَى اعْتِقَادِ التَّأْنِيثِ فِيهَا. وَحُسْنُ ذَلِكَ أَيْضًا كَوْنُهُ جَاءَ فَاصِلَةً، إِذْ لَوْ أَتَى ضَمِيرًا، فَكَانَ التَّرْكِيبُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ هُنَّ، لَمْ تَقَعْ فَاصِلَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَجْهُ تَلْفِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، فَيَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْ آلِهَتِكُمْ، هَلْ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ فِي الْآيِ السَّالِفَةِ؟ انْتَهَى. فَجَعَلَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لِأَفَرَأَيْتُمْ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ الَّتِي قَدَّرَهَا، وَحُذِفَتْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِهِ يَبْقَى قَوْلُهُ:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لَا مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، كَمَا قُلْنَاهُ نَحْنُ. وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ الزَّجَّاجِ: وَجْهُ تَلْفِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، وَلَوْ قَالَ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ، أَوْ وَجْهُ انْتِظَامِ هَذِهِ مَعَ مَا قَبْلَهَا، لَكَانَ الْجَيِّدَ فِي الْأَدَبِ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَفَرَأَيْتُمُ خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهِيَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ أَحَالَ عَلَى
16
أَجْرَامٍ مَرْئِيَّةٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَرَأَيْتَ الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ لَمْ تَتَعَدَّ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْأَجْرَامِ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وأ رأيت الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ تَقَعُ عَلَى الْأَجْرَامِ، نَحْوَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا مَا صَنَعَ؟
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَتْ أَرَأَيْتَ الَّتِي هِيَ اسْتِفْتَاءٌ، يَعْنِي الَّذِي تَقُولُ النُّحَاةُ فِيهِ إِنَّهَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، لَمْ تَتَعَدَّ وَالَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْتَاءِ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْصُوبٌ، وَالْآخَرُ فِي الْغَالِبِ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَقَدْ تَكَرَّرَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، وَأَوَّلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَدَلَّ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُطَالِعْ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَتِ اسْتِفْتَاءً عَلَى اصْطِلَاحِهِ، وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صِفَتَانِ لِمَنَاةَ، وَهُمَا يُفِيدَانِ التَّوْكِيدَ.
قِيلَ: وَلَمَّا كَانَتْ مَنَاةُ هِيَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، أُكِّدَتْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا، ثُمَّ تَذْكُرُ ثَالِثًا أَجَلَّ مِنْهُمَا فَتَقُولُ: وَفُلَانًا الْآخَرَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ. وَلَفْظُهُ آخَرُ وَأُخْرَى يُوصَفُ بِهِ الثَّالِثُ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ، وَذَلِكَ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ مَكْرَمٍ:
وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بِآخَرَ ثَالِثِ انْتَهَى.
وَقَوْلُ رَبِيعَةَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ، لِأَنَّ ثَالِثًا جَاءَ بَعْدَ آخَرَ. وَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ مَنَاةَ هِيَ أَعْظَمُ هَذِهِ الْأَوْثَانِ، يَكُونُ التَّأْكِيدُ لِأَجْلِ عِظَمِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تَذْكُرُ ثَالِثًا أَجَلَّ مِنْهُمَا؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأُخْرَى ذَمٌّ، وَهِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ الْوَضِيعَةُ الْمِقْدَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «١» : أَيْ وُضَعَاؤُهُمْ لِرُؤَسَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَوَّلِيَّةُ وَالتَّقَدُّمُ عِنْدَهُمْ لِلَّاتِ وَالْعُزَّى. انْتَهَى. وَلَفْظُ آخَرُ وَمُؤَنَّثُهُ أُخْرَى لَمْ يُوضَعَا لِلذَّمِّ وَلَا لِلْمَدْحِ، إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَى غَيْرٍ، إِلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِمَا أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُمَا. لَوْ قُلْتَ:
مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَآخَرَ، لَمْ يَدُلَّ إِلَّا عَلَى مَعْنَى غَيْرٍ، لَا عَلَى ذَمٍّ وَلَا عَلَى مَدْحٍ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
وَالْأُخْرَى تَوْكِيدٌ، لِأَنَّ الثَّالِثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا أُخْرَى. انْتَهَى. وَقِيلَ: الْأُخْرَى صِفَةٌ لِلْعُزَّى، لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ اللَّاتِ وَالثَّانِيَةُ يُقَالُ لَهَا الْأُخْرَى، وَأُخِّرَتْ لِمُوَافَقَةِ رؤوس الْآيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْعُزَّى الْأُخْرَى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الذَّلِيلَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُولَى كَانَتْ وَثَنًا عَلَى صُورَةِ آدَمِيٍّ، وَالْعُزَّى صُورَةُ نَبَاتٍ، وَمَنَاةَ صُورَةُ صَخْرَةٍ. فَالْآدَمِيُّ أَشْرَفُ مِنَ النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَمَادِ. فَالْجَمَادُ مُتَأَخِّرٌ، وَمَنَاةُ جَمَادٌ، فَهِيَ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَرَاتِبِ. وَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى قِسْمَتِهِمْ، وَتَقْدِيرِهِمْ: أَنَّ لَهُمُ الذُّكْرَانَ، ولله تعالى البنات.
وكانو يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى.
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٣٨.
17
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: ضِيزَى: جَائِرَةٌ وَسُفْيَانُ: مَنْقُوصَةٌ وَابْنُ زَيْدٍ: مُخَالِفَةٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: عَوْجَاءُ وَالْحَسَنُ: غَيْرُ مُعْتَدِلَةٍ وَابْنُ سِيرِينَ: غَيْرُ مُسْتَوِيَةٍ، وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضِيزى مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صِفَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَى بِضَمِّ الْفَاءِ، كُسِرَتْ لِتَصِحَّ الْيَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ فِعْلَى، كَذِكْرَى، وَوُصِفَ بِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ضِئْزَى بِالْهَمْزِ، فَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَذِكْرَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ضِيزَى بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَيُوَجَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، كَدَعْوَى وُصِفَ بِهِ، أَوْ وَصْفٌ، كَسَكْرَى وَنَاقَةٌ خَرْمَى. وَيُقَالُ: ضُوزَى بِالْوَاوِ وَبِالْهَمْزِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمُفْرَدَاتِ حِكَايَةُ لُغَةِ الْهَمْزِ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا تَقْتَضِيكَ وَإِنْ تَغِبْ فسهمك مضؤوز وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ هُودٍ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ، إِلَّا الظَّنَّ: وَهُوَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى أَحَدِ مُعْتَقَدَيْنِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، وَما تَهْوَى: أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِ بِلَذَّةٍ، وَإِنَّمَا تَهْوَى أَبَدًا مَا هُوَ غَيْرُ الْأَفْضَلِ، لِأَنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمَلَاذِ، وَإِنَّمَا يَسُوقُهَا إِلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ الْعَقْلُ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى: تَوْبِيخٌ لَهُمْ، وَالَّذِي هُمْ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْقَبَائِحَ وَالْهُدَى قَدْ جَاءَهُمْ، فَكَانُوا أَوْلَى مَنْ يَقْبَلُهُ وَيَتْرُكُ عِبَادَةَ مَنْ لَا يُجْدِي عِبَادَتُهُ.
أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، بَلْ لِلْإِنْسَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، مَا تَمَنَّى: أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ أَمَانِيهِ، أَيْ لَيْسَتِ الْأَشْيَاءُ وَالشَّهَوَاتُ تَحْصُلُ بِالْأَمَانِي، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ. وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ آلِهَتَكُمْ تَشْفَعُ وَتُقَرِّبُ زُلْفَى، لَيْسَ لَكُمْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: أُمْنِيَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «١». وَقِيلَ: قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً «٢». وَقِيلَ: تَمَنَّى بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ. فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى: أَيْ هُوَ مَالِكُهُمَا، فَيُعْطِي مِنْهُمَا مَا يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُمَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدَّمَ الْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى، لِتَأَخُّرِهَا فِي ذَلِكَ، وَلِكَوْنِهَا فَاصِلَةً، فَلَمْ يُرَاعِ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى «٣».
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٥٠.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٧٧.
(٣) سورة الليل: ٩٢/ ١٣.
18
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى، إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى، وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى.
وَكَمْ: هِيَ خَبَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهَا هُنَا: التَّكْثِيرُ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ لَا تُغْنِي وَالْغِنَى: جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ، بِحَسَبِ الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْغِنَى. وَكَمْ لَفْظُهَا مُفْرَدٌ، وَمَعْنَاهَا جَمْعٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَفاعَتُهُمْ، بِإِفْرَادِ الشَّفَاعَةِ وَجَمْعِ الضَّمِيرِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: شَفَاعَتُهُ، بِإِفْرَادِ الشَّفَاعَةِ وَالضَّمِيرِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: شَفَاعَاتُهُمْ، بِجَمْعِهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْكَامِلِ، أَيِ الْقَاسِمِ الْهُذَلِيِّ. وَأُفْرِدَتِ الشَّفَاعَةُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ شَفَعَ جَمِيعُهُمْ لِوَاحِدٍ، لَمْ تُغْنِ شَفَاعَتُهُمْ عَنْهُ شَيْئًا. فَإِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، أَيْ يَرْضَاهُ أَهْلًا لِلشَّفَاعَةِ، فَكَيْفَ تَشْفَعُ الْأَصْنَامُ لِمَنْ يَعْبُدُهَا؟ وَمَعْنَى تَسْمِيَةَ الْأُنْثى: كَوْنُهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ: هُمُ الْعَرَبُ منكر والبعث. وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً: أَيْ مَا يُدْرِكُهُ الْعِلْمُ لَا يَنْفَعُ فِيهِ الظَّنُّ، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالْعِلْمِ وَالْيَقِينِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيِ الْأَوْصَافُ الْإِلَهِيَّةُ لَا تُسْتَخْرَجُ بِالظُّنُونِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا: أَيْ لَمْ تَتَعَلَّقْ إِرَادَتُهُ بِغَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهُ فِكْرٌ فِي سِوَاهَا، كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَالذِّكْرُ هُنَا: الْقُرْآنُ، أَوِ الْإِيمَانُ، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ. عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا: هُوَ سَبَبُ الْإِعْرَاضِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يُصْغِي إِلَى قَوْلٍ، كَيْفَ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ؟
فَأُمِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، ثُمَّ ذُكِرَ سَبَبُ التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ، وَهُوَ حَصْرُ إِرَادَتِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَالتَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ سَبَبٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَإِيثَارُ الدُّنْيَا سَبَبُ التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَلُّقِهِمْ بِالدُّنْيَا وَتَحْصِيلِهَا. مَبْلَغُهُمْ: غَايَتُهُمْ وَمُنْتَهَاهُمْ مِنَ
19
الْعِلْمِ، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عُلُومُهُمْ مِنْ مَكَاسِبِ الدُّنْيَا، كَالْفِلَاحَةِ وَالصَّنَائِعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «١». وَلَمَّا ذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِالضَّالِّ وَالْمُهْتَدِي، وَهُوَ مُجَازِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ:
اعْتِرَاضٌ. انْتَهَى، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ فَأَعْرِضْ وَبَيْنَ إِنَّ رَبَّكَ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَعْلِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: صَغَّرَ رَأْيَهُمْ وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، أَيْ غَايَةُ عُقُولِهِمْ وَنِهَايَةُ عُلُومِهِمْ أَنْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الظَّنِّ، أَيْ غَايَةُ مَا يَفْعَلُونَ أَنْ يَأْخُذُوا بِالظَّنِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ فِي مَعْرِضِ التَّسْلِيَةِ، إِذْ كَانَ مِنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحِرْصُ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ مِلْكُهُ تَعَالَى، يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا بِمَا شَاءَ. وَاللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ متعلقة بما دل عليه مَعْنَى الْمِلْكِ، أَيْ يُضِلُّ وَيَهْدِي لِيَجْزِيَ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: بِمَنْ ضَلَّ، وبِمَنِ اهْتَدى، وَاللَّامُ لِلصَّيْرُورَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا لِلْجَزَاءِ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ بِعِقَابِ مَا عَمِلُوا، وَالْحُسْنَى: الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بِالْأَعْمَالِ الْحُسْنَى، وَحِينَ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُسِيءِ قَالَ: بِمَا عَمِلُوا، وَحِينَ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِ أَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ، وَتَدُلُّ عَلَى الْكَرَمِ وَالزِّيَادَةِ لِلْمُحْسِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ «٢»، وَالْأَحْسَنُ تَأْنِيثُ الْحُسْنَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لنجزي ونحزي بِالنُّونِ فِيهِمَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكَبَائِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ «٣» فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَالْفَوَاحِشَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَبَائِرَ، وَهِيَ مَا فَحُشَ مِنَ الْكَبَائِرِ، أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِتَدُلَّ عَلَى عِظَمِ مُرْتَكِبِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَبَائِرُ:
الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَسْقُطُ عِقَابُهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. إِلَّا اللَّمَمَ:
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ، أَوْ صِفَةٌ إِلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ غَيْرِ اللَّمَمِ، كَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتا «٤». وَقِيلَ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا، وَهَذَا يَظْهَرُ عِنْدَ تَفْسِيرِ اللَّمَمِ مَا هُوَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلَافًا، فَقَالَ الْخُدْرِيُّ: هُوَ النَّظْرَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالْقُبْلَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْخَطْرَةُ مِنَ الذَّنْبِ. وقال أبو هريرة
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٧.
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٧.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٣١.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٢.
20
وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَدًّا وَلَا عَذَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنُ زَيْدٍ: مَا أَلَمُّوا بِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ: أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ قَوْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ: قَدْ كُنْتُمْ بِالْأَمْسِ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَنَا، فَنَزَلَتْ، وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «١». وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَبْهَانَ التَّمَّارِ، وَحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْعَلَقَةُ وَالسَّقْطَةُ دُونَ دَوَامٍ، ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْخَمْرُ، ثُمَّ لَا يَعُودُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا خَطَرَ عَلَى الْقَلْبِ. وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْهَمُّ بِالذَّنْبِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ دُونَ أَنْ يُوَاقِعَ. وَقِيلَ: نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ.
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ، حَيْثُ يُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَالْكَبَائِرَ بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى، وَفِيهِ نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ.
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ: قِيلَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ عَظَّمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِذَا مَاتَ طِفْلٌ لَهُمْ قَالُوا: هَذَا صِدِّيقٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَخَرُوا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ عَامٌّ، وَأَعْلَمُ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: بِمَعْنَى عَالِمٌ بِكُمْ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى إِخْرَاجِهَا عَنْ أَصْلِ مَوْضُوعِهَا. كَأَنَّ مَكِّيًّا رَاعَى عَمَلَ أَعْلَمَ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَالظَّاهِرُ أن المراد بأنشأكم: أَنْشَأَ أَصْلَكُمْ، وَهُوَ آدَمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ فَضْلَةِ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي مَنْشَؤُهَا مِنَ الْأَرْضِ، فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ: أَيْ لَا تَنْسُبُوهَا إِلَى زَكَاءِ الْأَعْمَالِ وَالطَّهَارَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا وَاهْضِمُوهَا، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْكُمُ الزَّكِيَّ وَالتَّقِيَّ قَبْلَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ، وَقَبْلَ إِخْرَاجِكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ.
وَكَثِيرًا مَا تَرَى مِنَ الْمُتَصَلِّحِينَ، إِذَا حَدَّثُوا، كَانَ وِرْدُنَا الْبَارِحَةَ كَذَا، وَفَاتَنَا مِنْ وِرْدِنَا الْبَارِحَةَ، أَوْ فَاتَنَا وِرْدُنَا، يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِاللَّيْلِ. وَتَرَى لِبَعْضِهِ فِي جَبِينِهِ سَوَادًا يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، وَلِبَعْضِهِمُ احْتِضَارُ النِّيَّةِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ، فَيُحَرِّكُ يَدَيْهِ مِرَارًا، وَيُصْعَقُ حَتَّى يَنْزَعِجَ مَنْ بِجَانِبِهِ، وَكَأَنَّهُ يَخْطِفُ شَيْئًا بِيَدَيْهِ وَقْتَ التَّحْرِيكَةِ الْأَخِيرَةِ، يُوهِمُ أَنَّهُ يُحَافِظُ عَلَى تَحْقِيقِ النِّيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي حَلِفِهِ: وَحَقِّ الْبَيْتِ الَّذِي زُرْتُ، يُعْلِمُ أَنَّهُ حَاجٌّ، وَإِذَا لَاحَ لَهُ فَلْسٌ يَثِبُ عَلَيْهِ وُثُوبَ الْأَسَدِ عَلَى الْفَرِيسَةِ، وَلَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنَ الْوَسْوَاسِ، وَلَا مِنْ إِحْضَارِ النِّيَّةِ فِي أَخْذِهِ، وَتَرَاهُ يُحِبُّ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٣.
21
هُوَ عَارِضُهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُزَكِّي بَعْضُكُمْ بَعْضًا تَزْكِيَةَ السُّمْعَةِ أَوِ الْمَدْحِ لِلدُّنْيَا، أَوْ تَزْكِيَةً بِالْقَطْعِ. وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ فَجَائِزَةٌ لِلضَّرُورَةِ.
وَالْجَنِينُ: مَا كَانَ فِي الْبَطْنِ، فَإِذَا خَرَجَ سُمِّيَ وَلَدًا أَوْ سَقْطًا. وَقَوْلُهُ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ بَطْنَ الْأُمِّ فِي غَايَةِ الظُّلْمَةِ، وَمَنْ عَلِمَ حَالَهُ وَهُوَ مُجَنٌّ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. بِمَنِ اتَّقى: قِيلَ الشِّرْكُ. وَقَالَ عَلِيٌّ: عَمِلَ حَسَنَةً وَارْعَوَى عَنْ مَعْصِيَةٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى، وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى، وَثَمُودَ فَما أَبْقى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها مَا غَشَّى، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى، هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ، أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا.
أَفَرَأَيْتَ الْآيَةَ،
قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ قَدْ سَمِعَ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسَ إِلَيْهِ وَوَعَظَهُ، فَقَرُبَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَطَمِعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ إِنَّهُ عَاتَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُ: أَتَتْرُكُ مِلَّةَ آبَائِكَ؟ ارْجِعْ إِلَى دِينِكَ وَاثْبُتْ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَتَحَمَّلُ لَكَ بِكُلِّ شَيْءٍ تَخَافُهُ فِي الْآخِرَةِ، لَكِنْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ. فَوَافَقَهُ الْوَلِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَرَجَعَ عَنْ مَا هَمَّ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَأَعْطَى بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهُ وَشَحَّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، أَعْطَى خَمْسَ فَلَايِسَ لِفَقِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، وَضَمِنَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ مَآثِمَ رُجُوعِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، كَانَ رُبَّمَا يُوَافِقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَأْمُرُ مُحَمَّدٌ إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ الْقَائِلِ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ
22
بِتَمَامِهَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ غَيْرَهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدِي بَاطِلٌ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُنَزَّهٌ عن مثله. انتهى.
وأ فرأيت هُنَا بِمَعْنَى: أَخْبِرْنِي، وَمَفْعُولُهَا الْأَوَّلُ الْمَوْصُولُ، وَالثَّانِي الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، وَهِيَ: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ. وتَوَلَّى: أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَوَلَّى: تَرَكَ الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ. انْتَهَى. لَمَّا جَعَلَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ، فَسَّرَ التَّوَلِّي بِهَذَا. وَإِذَا ذُكِرَ التَّوَلِّي غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي الْقُرْآنِ، فَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ. وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطَاعَ قَلِيلًا ثُمَّ عَصَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنْ نَفْسِهِ بِالِاسْتِمَاعِ، ثُمَّ أَكْدَى بِالِانْقِطَاعِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ مَنَعَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَعْطَى قَلِيلًا مِنَ الْخَيْرِ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَطَعَ. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ: أَيْ أَعَلِمَ مِنَ الْغَيْبِ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ ذنوب آخر، فإنه الْمُتَحَمَّلَ عَنْهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، فَهُوَ لِهَذَا الَّذِي عَلِمَهُ يَرَى الْحَقَّ وَلَهُ فِيهِ بَصِيرَةٌ، أَمْ هُوَ جَاهِلٌ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَهُوَ يَرى: فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَخُوهُ مِنِ احْتِمَالِ أَوْزَارِهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: يَعْلَمُ حَالَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَرَى رَفْعَ مَأْثَمِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: فَهُوَ يَرَى أَنَّ مَا سَمِعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَاطِلٌ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، فَرَأَى مَا مَنَعَهُ حَقٌّ. وَقِيلَ: فَهُوَ يَرى: أَيِ الْأَجْزَاءَ، وَاحْتَمَلَ يَرَى أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، أَيْ فَهُوَ يُبْصِرُ مَا خَفِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ غَيْبٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَعْلَمُ، أَيْ فَهُوَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِثْلَ الشَّهَادَةِ.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ: أَيْ بَلْ أَلَمْ يُخْبَرْ؟ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَهِيَ التَّوْرَاةُ.
وَإِبْراهِيمَ: أَيْ وَفِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، وَخُصَّ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ عَلَيْهِمَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. قِيلَ: لِأَنَّهُ مَا بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بِأَبِيهِ وَابْنِهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ، وَالزَّوْجَ بِامْرَأَتِهِ، وَالْعَبْدَ بِسَيِّدِهِ. فَأَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى شَرِيعَةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بِجَرِيمَةِ غَيْرِهِ. الَّذِي وَفَّى، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَفَّى بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِتَخْفِيفِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ وَفَّى لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا لَهُ، كَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ، وَعَلَى فِرَاقِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ، وَعَلَى نَارِ نُمْرُوذٍ وَقِيَامِهِ بِأَضْيَافِهِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُمْ بِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَمْشِي كُلَّ يَوْمٍ فَرْسَخًا يَرْتَادُ ضَيْفًا، فَإِنْ وَافَقَهُ أَكْرَمَهُ، وَإِلَّا نَوَى الصَّوْمَ. وَعَنِ الْحَسَنِ:
مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ إِلَّا وَفَّى بِهِ. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: عَهِدَ أَنْ لَا يَسْأَلَ مَخْلُوقًا. وَقَالَ ابْنُ
23
عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ: وَفَّى طَاعَةَ اللَّهِ فِي أَمْرِ ذَبْحِ ابْنِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَفَّى بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَفِي هَذِهِ الْعَشْرُ الآيات: أَلَّا تَزِرُ فَمَا بَعْدَهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: وَفَّى مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَكَمُلَتْ لَهُ شُعَبُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ بَرَاءَتَهُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَفَّى شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثِينَ سَهْمًا، يَعْنِي: عَشَرَةً فِي بَرَاءَةَ التَّائِبُونَ إِلَخْ، وَعَشَرَةً فِي قَدْ أَفْلَحَ، وَعَشَرَةً فِي الْأَحْزَابِ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: وَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ
. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: قَامَ بِشَرْطِ مَا ادَّعَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، قَالَ:
أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَطَالَبَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، فَابْتَلَاهُ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، فَوَجَدَهُ وَافِيًا.
انْتَهَى، وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ أَمْثِلَةً لِمَا وَفَّى، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ بَدَلٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِما فِي صُحُفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا فِي صُحُفِهِمَا، فقيل: لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ لَا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَأَنَّ الْحَصْرَ فِي السَّعْيِ، فَلَيْسَ لَهُ سَعْيُ غَيْرِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلَهَا سَعْيُ غَيْرِهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: هَلْ لِأُمِّي، إِنْ تَطَوَّعْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْإِنْسَانُ هُنَا الْكَافِرُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى وَمَا سَعَى لَهُ غَيْرُهُ. وَسَأَلَ وَالِي خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «١»، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ بِالْعَدْلِ إِلَّا مَا سَعَى، وَلَهُ بِالْفَضْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَبَّلَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْسَ الْحُسَيْنِ. وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَكْلِيفًا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالتَّحْرِيرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِلَاكَ الْمَعْنَى هُوَ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِلْإِنْسانِ. فَإِذَا حَقَّقْتَ الَّذِي حَقُّ الْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ فِيهِ لِي كَذَا، لَمْ تَجِدْهُ إِلَّا سَعْيَهُ، وَمَا تَمَّ بَعْدُ مِنْ رَحْمَةٍ بِشَفَاعَةٍ، أَوْ رِعَايَةِ أَبٍ صَالِحٍ، أَوِ ابْنٍ صَالِحٍ، أَوْ تَضْعِيفِ حَسَنَاتٍ، أَوْ تَعَمُّدٍ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ دُونَ هَذَا كُلِّهِ، فَلَيْسَ هُوَ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَقُولَ لِي كَذَا وَكَذَا إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ وَإِلْحَاقٍ بِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ.
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِبَدَنٍ أَوْ مَالٍ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْمَالِ. انتهى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦١. [.....]
24
وَالسَّعْيُ: التَّكَسُّبُ، وَيُرَى مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ سَوْفَ يَرَاهُ حَاضِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَفِي عَرْضِ الْأَعْمَالِ تَشْرِيفٌ لِلْمُحْسِنِ وَتَوْبِيخٌ لِلْمُسِيءِ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يُجْزَاهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَالْمَنْصُوبُ عَائِدٌ عَلَى السَّعْيِ، وَالْجَزَاءُ مَصْدَرٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: الْجَزاءَ الْأَوْفى. وَإِذَا كَانَ تَفْسِيرًا لِلْمَصْدَرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُجْزَاهُ، فَعَلَى مَاذَا انْتِصَابُهُ؟ وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَدَلًا، فَهُوَ مِنَ بَابِ بَدَلِ الظَّاهِرِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ وَأَنَّهُ، وَأَنَّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:
بِالْكَسْرِ فِيهِنَّ، وَفِي قَوْلِهِ: الْأَوْفى وَعِيدٌ لِلْكَافِرِ وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَمُنْتَهَى الشَّيْءِ: غَايَتُهُ وَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى حِسَابِ رَبِّكَ وَالْحَشْرِ لِأَجْلِهِ، كَمَا قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «١» : أَيْ إِلَى جَزَائِهِ وَحِسَابِهِ، أَوْ إِلَى ثَوَابِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَعِقَابِهِ مِنَ النَّارِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ.
وَعَنْ أُبَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى، لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ.
وَرَوَى أَنَسٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ الرَّبُّ فَانْتَهُوا».
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى: الظَّاهِرُ حَقِيقَةُ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَضْحَكَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَأَبْكَى أَهْلَ النَّارِ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالضَّحِكِ عَنِ السُّرُورِ، وَبِالْبُكَاءِ عَنِ الْحُزْنِ.
وَقِيلَ: أَضْحَكَ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ، وَأَبْكَى السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ. وَقِيلَ: أَحْيَا بِالْإِيمَانِ، وَأَبْكَى بِالْكُفْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَضْحَكَ وَأَبْكى: خَلَقَ قُوَّتَيِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. انْتَهَى، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، إِذْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِهِمَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبْدِ عِنْدَهُمْ، لَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ قَالَ: خَلَقَ قُوَّتَيِ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الْمُصْطَحِبَيْنِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْحَيَوَانِ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى: أَيْ إِذَا تَدَفَّقَ، وَهُوَ الْمَنِيُّ.
يُقَالُ: أَمْنَى الرَّجُلُ وَمَنَّى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِذَا يُمْنَى: أَيْ يُخْلَقُ وَيُقَدَّرُ مِنْ مَنَى الْمَانِي، أَيْ قَدَّرَ الْمُقَدِّرُ. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى: أَيْ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ: أَيِ الْحَشْرَ بَعْدَ الْبِلَى، وَجَاءَ بِلَفْظِ عَلَيْهِ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّحَتُّمِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النَّشْأَةُ يُنْكِرُهَا الْكُفَّارُ بُولِغَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِ بِوُجُودِهَا لَا مَحَالَةَ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ النَّشْأَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ لِيُجَازِيَ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى: أَيْ أَكْسَبَ الْقُنْيَةَ، يُقَالُ: قَنَيْتُ الْمَالَ: أَيْ كَسَبْتُهُ، وَأَقْنَيْتُهُ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢٨، وسورة النور: ٢٤/ ٤٢، وسورة فاطر: ٣٥/ ١٨.
25
إِيَّاهُ: أَيْ أَكْسَبْتُهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ أَغْنَى وَأَقْنَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نِسْبَةُ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ لَهُ تَعَالَى. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا اثْنَيْ عَشَرَ قَوْلًا، كَقَوْلِهِمْ: أَغْنَى نَفْسَهُ وَأَفْقَرَ خَلْقَهُ إِلَيْهِ، وَكُلُّ قَوْلٍ مِنْهَا لَا دَلِيلَ عَلَى تَعْيِنِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ أَمْثِلَةً. وَالشِّعْرَى الَّتِي عُبِدَتْ هِيَ الْعُبُورُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ تَعْبُدُهَا حِمْيَرُ وَخُزَاعَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهَا أَبُو كَبْشَةَ، أَحَدُ أَجْدَادِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، من قِبَلِ أُمَّهَاتِهِ، وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الشِّعْرَى، وَلِذَلِكَ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُسَمُّونَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ كَلَامُ أَبِي سُفْيَانَ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة. ومن الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يُعَظِّمُهَا وَلَا يَعْبُدُهَا، وَيَعْتَقِدُ تَأْثِيرَهَا فِي الْعَالَمِ، وَأَنَّهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّاطِقَةِ، يَزْعُمُ ذَلِكَ الْمُنَجِّمُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَهِيَ تَقْطَعُ السَّمَاءَ طُولًا، وَالنُّجُومُ تَقْطَعُهَا عَرْضًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى: جَاءَ بَيْنَ أَنَّ وَخَبَرِهَا لَفْظُ هُوَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى. فَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، لَمَّا كَانَ قَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ، كَقَوْلِ نُمْرُوذُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ «١»، احْتِيجَ إِلَى تَأْكِيدٍ فِي أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ لَا غَيْرِهِ، فَهُوَ الَّذِي يُضْحِكُ وَيُبْكِي، وَهُوَ الْمُمِيتُ الْمُحْيِي، وَالْمُغْنِي، وَالْمُقْنِي حَقِيقَةً، وَإِنِ ادَّعَى ذَلِكَ أَحَدٌ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَمَّا وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى، فَلِأَنَّهَا لَمَّا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهَا وَمُوجِدُهَا. وَلَمَّا كَانَ خَلْقُ الزَّوْجَيْنِ، وَالْإِنْشَاءُ الْآخَرُ، وَإِهْلَاكُ عَادٍ وَمَنْ ذَكَرَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى ذَلِكَ أَحَدٌ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ وَلَا تَنْصِيصٍ أَنَّهُ تَعَالَى هو فاعل ذلك. وعاد الْأُولَى هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَعَادٌ الْأُخْرَى إِرَمُ. وَقِيلَ: الْأُولَى: الْقُدَمَاءُ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ هَلَاكًا بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: الْأُولَى: الْمُتَقَدِّمُونَ فِي الدُّنْيَا الْأَشْرَافُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْجُمْهُورُ: لِأَنَّهَا فِي وَجْهِ الدَّهْرِ وَقَدِيمِهِ، فَهِيَ أَوْلَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وُصِفَتْ بِالْأُولَى، لِأَنَّ عَادًا الْآخِرَةَ قَبِيلَةٌ كَانَتْ بِمَكَّةَ مَعَ الْعَمَالِيقِ، وَهُوَ بَنُو لَقِيمِ بْنِ هُزَالٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: عَادٌ الْأَخِيرَةُ هِيَ ثَمُودُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ. وَقِيلَ: عَادٌ الْأَخِيرَةُ: الْجَبَّارُونَ. وَقِيلَ: قَبْلَ الْأُولَى، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ ثَمُودَ. وَقِيلَ: ثَمُودُ مِنْ قَبْلِ عَادٍ. وَقِيلَ: عَادٌ الْأُولَى: هُوَ عَادُ بْنُ إِرَمَ بن عوص بن
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٨.
26
سَامِ بْنِ نُوحٍ وَعَادٌ الثَّانِيَةُ: مِنْ وَلَدِ عَادٍ الْأُولَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَادًا الْأُولى، بِتَنْوِينِ عَادًا وَكَسْرِهِ لِالْتِقَائِهِ سَاكِنًا مَعَ سُكُونِ لَامِ الْأُولَى وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ اللَّامِ. وَقَرَأَ قَوْمٌ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ وَحَذَفُوا الْهَمْزَةَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو: بِإِدْغَامِ التَّنْوِينِ فِي اللَّامِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهَا حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَعَادٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِلْمَازِنِيِّ وَالْمُبَرِّدِ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ فِي الِابْتِدَاءِ بَعْدَ النَّقْلِ: الْحُمُرُ وَلُّحُمُرُ، فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ جَاءَتْ عَلَى الحمر، فَلَا عَيْبَ فِيهَا، وَهَمَزَ قَالُونُ عَيْنَ الْأُولَى بَدَلَ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضَّمَّةِ وَالْوَاوِ حَائِلٌ، تَخَيَّلَ أَنَّ الضَّمَّةَ عَلَى الْوَاوِ فَهَمَزَهَا، كَمَا قَالَ:
أَحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَيَّ مُؤْسَى وَكَمَا قَرَأَ بَعْضُهُمْ: عَلَى سُؤْقِهِ، وَهُوَ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ عَادَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ جَعَلَهُ اسْمَ قَبِيلَةٍ، فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ للتأنيث والعملية، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّأْنِيثِ وَصْفُهُ بِالْأُولَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَثَمُودًا مَصْرُوفًا، وَقَرَأَهُ غَيْرَ مَصْرُوفٍ: الْحَسَنُ وَعَاصِمٌ وَعِصْمَةُ. فَما أَبْقى: الظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ أَبْقَى يَرْجِعُ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ مَعًا، أَيْ فَمَا أَبْقَى عَلَيْهِمْ، أَيْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَقِيلَ: فَما أَبْقى: أَيْ فَمَا أَبْقَى مِنْهُمْ عَيْنًا تَطْرُفُ. وَقَالَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ حِينَ قِيلَ لَهُ إِنَّ ثَقِيفًا مِنْ نَسْلِ ثَمُودَ، فَقَالَ: قال الله تعالى: وَثَمُودَ فَما أَبْقى، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ ثَمُودَ كَانَ قَدْ آمَنَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَكَانُوا أَوَّلَ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ الرُّسُلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَجَعَلَهُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعُتُوِّ وَالْإِيذَاءِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَضْرِبُونَهُ حَتَّى لَا يَكَادُ يَتَحَرَّكُ، وَلَا يَتَأَثَّرُونَ لِشَيْءٍ مِمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: دَعَاهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، كُلَّمَا هَلَكَ قَرْنٌ نَشَأَ قَرْنٌ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ بِيَدِ ابْنِهِ يَتَمَشَّى بِهِ إِلَيْهِ، يُحَذِّرُهُ مِنْهُ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ أَبِي مَشَى بِي إِلَى هَذَا وَلَنَا مِثْلُكَ يَوْمَئِذٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُصَدِّقَهُ، فَيَمُوتُ الْكَبِيرُ عَلَى الْكُفْرِ، وَيَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَى وَصِيَّةِ أَبِيهِ.
وقيل: الضمير فِي إِنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ نُوحٍ، أَيْ كَانُوا أَكْفَرَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَطْغَى، فَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَحُذِفَ الْمَفْضُولُ بَعْدَ الْوَاقِعِ خَبَرًا لِكَانَ، لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَحَذْفُهُ فَصِيحٌ فِيهِ، فَكَذَلِكَ فِي خَبَرِ كَانَ.
27
وَالْمُؤْتَفِكَةَ: هِيَ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا انْقَلَبَتْ، وَمِنْهُ الْإِفْكُ، لِأَنَّهُ قَلْبُ الحق كذبا، أفكه فأئتفك. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْتَفِكَةِ: كُلُّ مَا انْقَلَبَتْ مساكنه ودبرت أَمَاكِنُهُ. أَهْوى: أَيْ خَسَفَ بِهِمْ بَعْدَ رَفْعِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، رَفَعَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ أَهْوَى بِهَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جَعَلَهَا تَهْوِي. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمُؤْتَفِكَاتِ جَمْعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَهْوَى نَاصِبٌ لِلْمُؤْتَفِكَةِ، وَأُخِّرَ الْعَامِلُ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَالْمُؤْتَفِكَةَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وأَهْوى جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ يُوَضِّحُ كَيْفِيَّةَ إِهْلَاكِهِمْ، أَيْ وَإِهْلَاكُ الْمُؤْتَفِكَةِ مَهْوِيًّا لَهَا. فَغَشَّاها مَا غَشَّى: فِيهِ تَهْوِيلٌ لِلْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ، لَمَّا قَلَبَهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُتْبِعَتْ حِجَارَةً غَشِيَتْهُمْ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَعَّلَ الْمُشَدَّدُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، فَيَكُونَ الْفَاعِلُ مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «١».
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى: الْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، وَالْخِطَابُ لِلسَّامِعِ، وَتَتَمَارَى: تَتَشَكَّكُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ آلَاؤُهُ، وَهِيَ النِّعَمُ لَا يَتَشَكَّكُ فِيهَا سَامِعٌ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ نِعَمٍ وَنِقَمٍ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا كُلِّهَا آلَاءً لِمَا فِي النِّقَمِ مِنَ الزَّجْرِ وَالْوَعْظِ لِمَنِ اعْتَبَرَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: رَبِّكَ تَّمَارَى، بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةً. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْغِفَارِيُّ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَلَّا تَزِرُ إِلَى قَوْلِهِ: تَتَمارى هُوَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
هَذَا نَذِيرٌ،
قَالَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، افْتُتِحَ أَوَّلُ السُّورَةِ بِهِ، وَاخْتُتِمَ آخِرُهَا بِهِ.
وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: إِلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ، أَيْ هَذَا إِنْذَارٌ مِنَ الْإِنْذَارَاتِ السَّابِقَةِ، وَالنَّذِيرُ يَكُونُ مَصْدَرًا أَوِ اسْمَ فَاعِلٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أنذر، ولا يتقاسان، بَلِ الْقِيَاسُ فِي الْمَصْدَرِ إِنْذَارٌ، وَفِي اسْمِ الْفَاعِلِ مُنْذِرٌ وَالنُّذُرُ إِمَّا جَمْعٌ لِلْمَصْدَرِ، أَوْ جَمْعٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَإِنْ كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، فَوَصْفُ النُّذُرِ بِالْأُولَى عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ إِهْلَاكَ مَنْ تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ، وَذَكَرَ قَوْلَهُ: هَذَا نَذِيرٌ، ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ قَرِيبُ الْوُقُوعِ فَقَالَ: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ: أَيْ قَرُبَتِ الْمَوْصُوفَةُ بِالْقُرْبِ فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «٢»، وَهِيَ الْقِيَامَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ: أَيْ نَفْسٌ كَاشِفَةٌ تَكْشِفُ وَقْتَهَا وَتَعْلَمُهُ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ وَدَفْعِهِ، أَيْ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَكْشِفُ خَطْبَهَا وهو لها. انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي كَاشِفَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ.
(١) سورة طه: ٢٠/ ٧٨.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ١.
28
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، كَالْعَاقِبَةِ، وخائِنَةَ الْأَعْيُنِ، أَيْ لَيْسَ لَهَا كَشْفٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ حَالٌ كَاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ. وَهُوَ الْقُرْآنُ، تَعْجَبُونَ فَتُنْكِرُونَ، وَتَضْحَكُونَ مُسْتَهْزِئِينَ، وَلا تَبْكُونَ جَزَعًا مِنْ وَعِيدِهِ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مُعْرِضُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
لَاهُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: غَافِلُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُسْتَكْبِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَاهُونَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جَامِدُونَ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ غَنُّوا تَشَاغُلًا عَنْهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُرَ ضَاحِكًا بَعْدَ نُزُولِهَا.
فَاسْجُدُوا: أَيْ صَلُّوا لَهُ، وَاعْبُدُوا: أَيْ أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَا تَعْبُدُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَالشِّعْرَى وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَصْنَامِ.
وَخَرَّجَ الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِيهَا السَّجْدَةُ النَّجْمُ، فَسَجَدَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَالرَّجُلُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَجَدُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ: تَضْحَكُونَ بِغَيْرِ وَاوٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُعْجِبُونَ تُضْحِكُونَ، بِغَيْرِ وَاوٍ وَبِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْحَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ:
وَلا تَبْكُونَ، حَضٌّ عَلَى الْبُكَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَالسُّجُودُ هُنَا عِنْدَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَوَرَدَتْ بِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَلَيْسَ يَرَاهَا مَالِكٌ هُنَا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَسْجُدْ
، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
29
Icon