ﰡ
(مكية حروفها ألف وأربعمائة وخمسة كلماتها ثلاثمائة وستون آياتها اثنتان وستون)
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٦٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩)
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩)
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
هَوى وسائر آياته بالإمالة اللطيفة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة المفرطة كما سبق في «طه» ما كذب بالتشديد: يزيد وهشام ما زاغَ الْبَصَرُ بالإمالة: حمزة ونصير وَمَناةَ بالمد: ابن كثير والشموني أفتمرونه ثلاثيا: يعقوب وحمزة وعلي وخلف ضِيزى بالهمزة: ابن كثير في رواية كبير الإثم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف والمفضل إبراهام هشام عادا لولي مدغما غير مهموز: أبو عمرو ويزيد ويعقوب والنجاري عن ورش. وقرأ إسماعيل والأصبهاني عن ورش وأبو نشيط عن قالون بإظهار الغنة غير مهموز. وكذلك روي عن أبي عمرو فعلى مذهبهم إذا وقف القارئ على عاد ابتدأ ب لولي ولو شاء الولي بتخفيف الهمزة والأولى أحسن. وقرأ قالون غير أبي نشيط بالهمزة وإظهار الغنة، وإذا وقف على عاد ابتدأ لولي ولو شاء الولي والباقون عاد الأولى بالألف قبل اللام وبعد اللام في الحالين وثمود في الحالين بغير تنوين: حمزة وعاصم غير ابن غالب والبرجمي والمفضل وسهل ويعقوب ربك تمارى بتشديد التاء: رويس عن يعقوب.
الوقوف
هَوى هـ لا غَوى هـ ج للآية مع العطف على جواب القسم الْهَوى هـ ط يُوحى هـ لا الْقُوى هـ لا لذلك ذُو مِرَّةٍ ط لتمام الصفة فَاسْتَوى هـ لا لأن الواو للحال الْأَعْلى هـ ط فَتَدَلَّى هـ لا لأن ما بعده من تمام المقصود أَوْ أَدْنى هـ ج وإن اتفقت الجملتان لأن ضمير فَأَوْحى
لله لا للنبي ما أَوْحى
هـ ج ما رَأى هـ أُخْرى هـ لا الْمُنْتَهى هـ الْمَأْوى هـ لأن عامل إذ زاغ البصر فلا وقف على ما يَغْشى طَغى هـ الْكُبْرى هـ وَالْعُزَّى هـ لا الْأُخْرى هـ الْأُنْثى هـ ضِيزى هـ سُلْطانٍ ط الْأَنْفُسُ ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف الْهُدى هـ ط لأن أم ابتداء استفهام إنكار ما تَمَنَّى هـ ز لتناهى الاستفهام والوصل أولى للفاء واتصال المعنى وَالْأُولى هـ وَيَرْضى هـ الْأُنْثى هـ عِلْمٍ ط إِلَّا الظَّنَّ هـ ج لاختلاف الجملتين شَيْئاً ط لذلك الدُّنْيا هـ ط مِنَ الْعِلْمِ ط اهْتَدى
التفسير:
لما ختم السورة المتقدمة بالنجوم خص الأقسام في أول هذه السورة بالنجم. واللام فيه للعهد أو للجنس. والأول قول من قال: إنه الثريا وهو اسم غالب لها وصورتها في السماء كعنقود عنب. وأظهر كواكبها سبعة وهي المنزل الثالث من منازل القمر. قال: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء. وذلك أن الشمس تكون في أول العقرب حينئذ في مقابلتها فتطلع بغروبها. وعلى الثاني فيه وجوه أحدها. نجوم السماء وهويها غروبها. وفائدة هذا القيد أن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر من الناظر إليه حينئذ يستدل بغروبها على أفوله في حيز الإمكان فيتم له اهتداء الدين مع اهتداء الدنيا. وقيل: هويها انتثارها يوم القيامة.
وثانيها النجم هو الذي يرجم به الشياطين وهويها انقضاضها. وثالثها النجم النبات إذا هوى إذا سقط على الأرض وهو غاية نشوه. ورابعها النجم أحد نجوم القرآن وقد نزل منجما في عشرين سنة فيكون كقوله وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: ٢، ٣] وعلى القول الآخر فالثريا أظهر النجوم عند الناظرين وأشهر المنازل للسائرين وأنها تطلع عشاء في وقت إدراك الثمار. والنبي ﷺ تميز من سائر الأنبياء بالمعجزات الباهرات ولا سيما فإنه حين ظهر زال يبس الشكوك وحرارة الحمية الجاهلية وأدرك الحكمة ورجم به شياطين الإنس المضلين لعباد الله في أرضه، ونبت بوجوده أصناف الأغذية الروحانية تامة كاملة. قال جار الله: الضلال نقيض الهدى، والغي نقيض الرشد، والخطاب لقريش. قلت: هذا صادق من حيث الاستعمال لقوله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ
[البقرة: ٢٥٦] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: ١٨٦] إلا أنه ينبغي أن يتبين الفرق بين الضلال والغواية. والظاهر أن الضلال أعم وهو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا، والغواية أن لا يكون له إلى المقصد طريق مستقيم ولهذا لا يقال للمؤمن من إنه ضال أو غير مهتد ويقال له إنه غوي غير رشيد.
قال عز من قائل فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: ٦] فكأنه سبحانه نفى الأعم أولا ثم نفى الأخص ليفيد أنه على الجادة غير منحرف عنها أصلا. ويحتمل أن يكون قوله ما ضَلَّ نفيا لقولهم هو كاهن أو مجنون لأن الكهانة أيضا من مسيس الجن. وقوله وَما غَوى نفي لقولهم هو شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون. ويحتمل أن يكون الأول عبارة عن صلاحه في أمور المعاد، والثاني إشارة إلى رشده في أمور المعاش ومنه يعلم أن أقواله كلها على سنن الصواب إلا أنه كان يمكن أن تكون مستنبطة من العقل أو العرف أو العادة، فأسندها الله سبحانه إلى طريق أخص وأشرف وهو أن تكون مستندة إلى الوحي فقال بصيغة تفيد الاستمرار وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي ليس كل ما ينطق به ولا بعضه بصادر عن الرأي والتشهي إنما وحي يوحى إليه من الله، واستدل به بعض من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد كان لك من قبيل الوحي أيضا. وأما من يخص النطق بالقرآن فلا اعتراض عليه. قال أهل اللغة: الهوى المحبة النفسانية، والتركيب يدل على النزول والسقوط ومنه الهاوية. ومبة النفس الأمارة لا أصل لها ولا تصدر إلا عن خسة ودناءة، وقوله إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أبلغ مما لو قيل هو «وحي» وهو ظاهر. وقوله يُوحى لتحقيق الحقيقة كقوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] فإن الفرس الشديد العدو بما يقال إنه طائر، فإذا قيل يطير بجناحيه زال جواز ذلك المجاز فكذلك هاهنا ربما يقال للكلام الصادق الفصيح هو وحي أو سحر حلال. فلما قيل يُوحى اندفع التجوز.
ثم بين طريق الوحي بقوله عَلَّمَهُ أي الموحي أو محمدا شَدِيدُ الْقُوى وهو جبرائيل عليه السلام أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة مدح المعلم ليلزم منه فضيلة المتعلم. ولو قال «علمه جبرائيل عليه السلام» لم يفهم منه فضل المتعلم ظاهرا. وفيه رد على من زعم أنه يعلمه بشر لأن الإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلا. وفيه أن جبرائيل عليه السلام أمين موثوق به من حيث قوته المدركة والحافظة ولو كان مختل الذهن أو الحفظ لم يوثق بروايته، وفيه تسلية للنبي ﷺ كيلا يضيق صدره حين علم بواسطة الملك فكأنه قيل له: ليس لك في ذلك نقص لأنه شديد القوى على أنه قال في موضع آخر وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء: ١١٣]
وأخبر النبي ﷺ عن حاله فقال «أدبني ربي فأحسن تأديبي»
تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وقد يقال: الدنو والتدلي بمعنى واحد فلا يفيد إلا التأكيد. ثم زاد تأكيدا بقوله فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ قال أهل العربية. هو من باب حذف المضافات أي فكان مقدار مسافة قرب جبرائيل عليه السلام مثل «قاب قوسين». والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس كلها المقدار. والعرب تقدر الأشياء بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع وغيرها.
وفي الحديث «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» «١»
وقال ﷺ «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» «٢»
والقد السوط. وقوله أَوْ أَدْنى أي في تقديركم كقوله مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات ١٤٧] وقال بعضهم: الضمير في فَاسْتَوى لمحمد ﷺ وذلك أن تعليم جبرائيل إياه كان قبل كماله واستوائه، فحين تكاملت قواه النظرية والعلمية وصار بالأفق الأعلى أي بالرتبة العليا من المراتب الإنسانية دنا من الأمة فتدلى أي لان لهم ورفق بهم حتى قال إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: ١١٠] فكان الفرق بينه وبين جبرائيل قليلا جدا. وعلى هذا يمكن أن يكون الرجحان في الكمال للنبي ﷺ كما يقول أكثر أهل السنة، أو بالعكس كما تزعم طائفة منهم ومن غيرهم، ويحتمل على هذا القول أن يكون الضمير في دَنا لجبريل والمراد أن النبي ﷺ وإن زال عن الصفات البشرية من الشهوة والغضب والجهل وبلغ الأفق الأعلى الإنساني، ولكن نوعيته لم تزل عنه وكذلك جبرائيل.
(٢) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٥ كتاب بدء الخلق باب ٨ الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ١٧ أحمد في مسنده (٢/ ٤٨٢، ٤٨٣) (٣/ ١٤١، ١٥٣)
الضمير لمحمد ﷺ أو لله والمراد قرب المكان بينهما. وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال: دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة. دنا دنو إكرام لا دنو أجسام، دنا دنو أنس لا دنو نفس.
والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم. أخبر بالقصة إكراما وكتم الإسرار عظاما.
قوله فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل، والمراد بالعبد إما محمد ﷺ أو جبريل عليه السلام فيحصل تقديرات أحدها: فأوحى الله إلى محمد ﷺ عبده ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي. وقيل: أوحى إليه الصلاة. وقيل:
أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها. وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله. ثانيها فأوحى الله إلى محمد ﷺ ما أوحى أولا جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولا بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة. وعلى هذا يحتمل أن يقال «ما» مصدرية أي أوحى إلى محمد ﷺ الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن، أو كلمه أنه وحي أو خلق فيه علما ضروريا. ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد ﷺ وغيره من الأنبياء قبله. وفيه إشارة إلى أن جبريل عليه السلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء. خامسها فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ﷺ ما أوحى الله إليه. سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو.
وفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد ﷺ أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه. ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك. وقيل: اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره. والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: ١٠٣]
يروي أنه ما رأى جبريل أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد ﷺ مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء،
وإليه إشارة بقوله أَفَتُمارُونَهُ من المراء أي أتجادلونه عَلى ما يَرى ومن قرأ أفتمرونه فمعناه أتغلبونه في المراء يقال: ماريته فمريته. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب «على» وقيل: معناه أفتجحدونه. ولا بد من تضمين معنى الغلبة. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي مرة أخرى فانتصبت على الظرف لأن الفعلة صيغة المرة فكانت النزلة في حكم المرة أي نزل عليه جبريل في صورته تارة أخرى في ليلة المعراج ووجه الاستفهام الإنكاري أنه لما رآه وهو على بسيط الأرض احتمل أن يقال: إنه كان من الجن احتمالا بعيدا فلما رآه عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فلم يبق للجدال مجال.
أما القائل بالقول الثالث فزعم أن النبي ﷺ رأى ربه بقلبه مرتين. والنزلة إما لله بمعنى الحركة والانتقال عند من يجوز ذلك، أو بمعنى قرب الرحمة والإفضال، وإما للنبي ﷺ لأنه نزل عن متن الهوى ومركب النفس. وقيل: أراد بالنزلة ضدها وهي العرجة، واختير هذه العبارة ليعلم أن هذه عرجة تتبعها النزلة ليست عرجة لا نزلة لها وهي عرجة الآخرة. وعلى القول الأول أيضا يحتمل أن تكون النزلة لمحمد ﷺ وذلك أن جبرائيل تخلف عنه في مقام «لو دنوت أنملة لاحترقت» ثم عاد النبي ﷺ إليه. ومعنى أخرى أنه ﷺ تردد في أمر الصلاة مرارا فلعله كان ينزل إلى جبرائيل كل مرة لا أقل من نزلتين. أما السدرة فالأكثرون على أنها شجرة في السماء السابعة: وقيل: في السادسة.
«نبقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها» «١»
وقد ورد الحديث بذلك. فعلى هذا عِنْدَ ظرف مكان. ثم إن كان المرئي جبريل فلا إشكال، وإن كان هو الله تعالى فكقول القائل
فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك ولا يعلم ما وراءه أحد وإليه ينتهي أرواح الشهداء.
وإما من إضافة الملك إلى الحال كما يقال «ظرف المداد» أي سدرة هي محل انتهاء الجنة.
وإما من إضافة الملك إلى مالكه كما يقال «دار زيد وأشجار عمرو» فيكون التقدير سدرة المنتهى إليه وهو الله سبحانه قال وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فالإضافة للتشريف «نحو بيت الله وناقة الله». وقال الحسن: جَنَّةُ الْمَأْوى هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء والظاهر أن الضمير في عِنْدَها للسدرة. وقيل: للنزلة من ذهب إلى أن سدرة المنتهى معناها الحيرة القصوى. قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى معناه ورود حالة على حالة أي طرأ على محمد حين ما يحار العقل ما طرأ من فضل الله ومن رحمته.
والأكثرون قالوا فيه تعظيم وتكثير لما يغشى الشجرة من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط بها الوصف.
وعن رسول الله ﷺ «رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله»
وعنه عليه السلام «يغشاها رفرف من طير خضر»
والرفرف كل ما يبسط من أعلى إلى أسفل. وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش أو جراد من ذهب. والمحققون على أنها أنوار الله تعالى تجلى للسدرة كما تجلى للجبل لكن السدرة كانت أقوى من الجبل، ومحمد ﷺ كان أثبت من موسى فلم تضطرب الشجرة ولم يصعق محمد صلى الله عليه وسلم. قوله ما زاغَ الْبَصَرُ
فيه وجهان: أشهرهما أنه بصر محمد ﷺ أي لم يلتفت إلى ما يغشاها.
فإن كان الغاشي هو الفراش أو الجراد من ذهب فمعناه ظاهر ويكون ذلك ابتلاء وامتحانا لمحمد ﷺ بالأمور الدنيوية، وإن كان الغاشي أنوار الله فالمراد أنه لم يلتفت إلى غير المقصود ولم يشتغل بالنور عن ذي النور. أو المراد ما زاغ البصر بالصعقة بخلاف موسى عليه السلام. وفي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني بيان مزيته. وذهب بعضهم إلى أن اللام للجنس أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع هيبة وإجلالا. والظاهر أن الضمير في قوله وَما طَغى للبصر أي ما جاوز حده المعين المأمور برؤيته. ويحتمل أن يكون لمحمد ﷺ أي ما زاغ بصره بالميل إلى غير المقصود، وما طغى محمد بسبب الالتفات.
قال بعض العلماء: فيه بيان لوصول محمد ﷺ إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه إذ لم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف الناظر إلى عين الشمس فإنه إذا نظر إلى شيء آخر
قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى إلخ. أي عقيب ما سمعتم من عظمة الله تعالى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وأن الذي سد الأفق ببعض أجنحته تخلف عند سدرة المنتهى، هل تنظرون إلى هذه الأصنام مع قلتها وفقرها حتى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه؟
قال في الكشاف: اللات اسم صنم كان لثقيف بالطائف وأصله «فعلة» من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يتلوون عليها أي يطوفون فكأنه حذفت الياء تخفيفا وحركت الواو فانقلبت ألفا. والوقف عليه بالتاء كيلا يشبه اسم الله: وقيل: أصله اللات بالتشديد وقد قرئ به. زعموا أنه سمي برجل كان يلت عنده السمن بالزيت ويطعمه الحاج.
وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف وكانوا يعكفون على قبره فجعلوه وثنا. والعزى تأنيث الأعز وكان لغطفان وهي شجرة سمرة بعث إليها رسول الله ﷺ خالد ابن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس ناشرة الشعر تضرب رأسها وتدعو بالويل والثبور فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك فرجع إلى النبي ﷺ وأخبره بما فعل. فقال: تلك العزى ولن تعبد أبدا.
وأما مناة فهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة كأنها سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق. ومن قرأ بالمد فلعلها «مفعلة» من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. والْأُخْرى لا يطلق إلا إذا كان الأول مشاركا كالثاني فلا يقال: رأيت رجلا وامرأة أخرى. وإنما يقال رأيت رجلا ورجلا آخر. وهاهنا ليست عزى ثالثة فكيف قال وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟ وأجيب بأن الأخرى صفة ذم لها أي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف: ٣٨] أي وضعاؤهم لرؤسائهم. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى وذلك أن الأول كان على صورة آدمي، والعزى كانت من النبات ومناة من الجماد. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي ومناة الأخرى. الثالثة.
ومعنى ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بسببها وصحتها. وقال الرازي: الباء للمصاحبة كقول القائل «ارتحل فلان بأهله ومتاعه» أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع. ومن قرأ إن تبعون على الخطاب فظاهر، ومن قرأ على الغيبة فإما للالتفات، واما لأن الضمير للآباء وصيغة الاستقبال
أعجبني ما تصنع. شمل الحال والاستقبال. ويجوز أن تكون «ما» موصولة والفرق أن المتبع في الأول الهوى وفي الثاني مقتضى الهوى. وقوله الْأَنْفُسُ من باب مقابلة الجمع بالجمع.
والمعنى اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه كقولك: خرج الناس بأهلهم أي كل واحد بأهله ولعل الظن يختص بالاعتقاد وهوى النفس بالعمل. ويجوز أن يكون الظن مقصودا به كل ماله محمل مرجوح والهوى يراد به ما لا وجه له أصلا. ويحتمل أن يراد بالظن ماله محمل راجح أيضا وهو إن كان واجب العمل به في المسائل الاجتهادية إلا أنه مذموم عند القدرة على اليقين وإلى هذا أشار بقوله وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وهو القرآن أو الرسول أو المعجزة، وفي هذه الحالة لا يجوز البناء على الظن بل يجب التعويل على اليقين.
قوله أَمْ لِلْإِنْسانِ أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والمراد تمنيهم شفاعة الآلهة وأن لهم عند الله الحسنى على تقدير البعث إذ تمنى أشرافهم أن يكونوا أنبياء دون محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى رد عليهم أي هو مالكها فهو المعطي والمانع ولا حكم لأحد عليه. ومعنى الفاء أنه إذا تقرر أن شيئا من الأشياء ليس بتمني الإنسان فلا حكم إلا لله. ثم بين أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا برضاه. وفيه أصناف من المبالغة من جهة أن «كم» للتكثير والعرب تستعمل الكثير وتريد الكل كما قد تستعمل الكل وتريد به الكثير كقوله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: ٢٥] ومن جهة لفظ الملك فإنهم أشرف المخلوقات سوى الأنبياء عند بعض، ومن قبل أنهم في السموات فإن ذلك يدل على علو مرتبتهم ودنو منزلتهم، ومن قبل اجتماعهم المدلول عليه بضمير الجمع في شفاعتهم وإذا كان حالهم هكذا فكيف يكون حال الجمادات؟ وقوله لِمَنْ يَشاءُ أي لمن يريد الشفاعة له وَيَرْضى أي ويراه أهلا أن يشفع له فههنا أيضا أنواع أخر من المبالغة. الأول توقيف الشفاعة على الإذن. والثاني تعليقها بالمشيئة فيهم منه أنه بعد أن يؤذن في مطلق الشفاعة يحتاج إلى الأذن في كل مرة معينة. والثالث رضا الله الشفاعة فقد يشاء ولكن لا يرضاه كقوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: ٧] وهذا عند أهل السنة واضح. ثم صرح بالتوبيخ على قولهم الملائكة بنات الله فقال إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي كل واحد منهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى لأنهم إذا جعلوا الكل بنات فقد جعلوا كل واحدة بنتا وبالعكس. وهاهنا سؤالان:
أحدهما: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعم من هؤلاء المسمين فكان الأولى أن يقال: إن
والجواب عن الأول أن اللام للعهد وبه خرج الجواب عن الثاني أيضا لأنه بخير عن جميع معهود أنهم يسمون. ولا يلزم من حمل شيء على شيء أن يكون بينهما ملازمة. ولو سلم أن اللام للعموم فالمراد بمثل هذا التركيب المبالغة والتوكيد كما تقول: الإنسان زيد.
وعلى هذا فإن أريد بالحمل مجرد الإخبار فلا إشكال وإن أريد الملازمة فمعناه المبالغة أيضا لأن غاية جهلهم بالآخرة وبالجزاء حملهم على ارتكاب مثل هذا الافتراء على الله، وإلى هذا أشار بقوله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ واعلم أن الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بحث مع هؤلاء المشركين الذين سموا الملائكة إناثا بحثا طويلا بناء على ظنه بهم أنهم رأوا في لفظ الملائكة تاء فلذلك جعلوه مؤنثا. وحاصل ذلك البحث يرجع إلى أن التاء لا يلزم أن تكون للتأنيث فقد تكون لتأكيد الجمع كحجارة وصقورة، أو لغير ذلك من المعاني، ونحن قد أسقطنا تلك البحوث لعدم فائدتها كما نبهناك عليه. ثم بين الله سبحانه قاعدة كلية فقال: وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي كل ما يجب أن يحصل منه المكلف على العلم واليقين فلا ينفع فيه الظن والتخمين، ومن جملته مسائل المبدأ والمعاد التي ينبني البحث فيها على البراهين العقلية والدلائل السمعية، ومن قنع في أمثالها بالوهم والظن لعدم الاستعداد أو لحفظ بعض المنافع الدنيوية وجب الإعراض عنه كما قال فَأَعْرِضْ أي إذا وقفت على قلة استعدادهم وعدم طلبهم للحق فأعرض يا محمد يا طالب الحق عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ويجوز أن يكون هذا الإعراض متضمنا للأمر بالقتال أي أعرض عن المقال وأقبل على القتال. وقوله ذلِكَ أي الذي ذكر من التسمية أو من اعتقاد كون الأصنام شفعاء مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ جملة معترضة. ثم بين علة الإعراض قائلا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ إلى آخره، وفيه بيان أنه تعالى يجازي كل فريق بحسب ما يستحقه، وفيه تسلية للنبي ﷺ كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم ووقفوا لدى الباطل دون الحق. ثم قرر أنه سوى الملك والملكوت لغرض الجزاء والإثابة.
والحسنى صفة المثوبة والأعمال، وإضافة الكبائر إلى الإثم إضافة النوع إلى الجنس لأن الإثم يشمل الكبائر والصغائر. واختلف في الكبائر وقد أشبعنا القول فيها في سورة النساء في قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [الآية: ٣١] والفواحش ما تزايد قبحه من الكبائر كأنها مع كبر مقدار عقابها قبيحة في الصورة كالشرك بالله. والمراد باللمم الصغائر، والتركيب يدل على القلة ومنه اللمم المس من الجنون وألم بالمكان إذا قل لبثه فيه قال:
الخطرة من الذنب. وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عز وجل عليه حدا ولا عذابا.
وعن عطاء: هي ما تعتاده النفس حينا بعد حين.
قال جار الله: معنى قوله إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ويكفر الكبائر بالتوبة. وأقول: فيه إشارة إلى أن اللمم ما لا يمكن فيه الاجتناب عنه لكل الناس أو لأكثرهم فالعفو عن ذلك يحتاج إلى سعة وكثرة، بل فيه بشارة أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا سوى الشرك لأن غفران اللمم لا يوجب الوصف بسعة المغفرة وإنما يوجب ذلك أن لو غفر معها الكبائر. وقوله هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إلى آخره. دليل على وجوب وقوع الغفران لأنه إذا كان عالما بأصلهم وفرعهم كان عالما بضعفهم ونقصهم فلا يؤاخذهم بما يصدر عنهم على مقتضى جبلتهم وطبعهم. فكل شيء يرجع إلى الأصل والأرض بطبعها تميل إلى الأسفل. والجنين أوله نطفة مذرة وآخره الاغتذاء بدماء قذرة، وإذا كان مبدأ حاله هكذا وهو في أوسط أمره متصف بالظلم والجهل والعاقبة غير معلومة وجب عليه أن لا يزكي نفسه فإن الله تعالى أعلم بالزكي والتقي أولا وآخرا باطنا وظاهرا، وما أحسن نسق هذه الجمل. وقد أبعد بعض أهل النظم فقال لما ذكر أنه أعلم بمن ضل كان للكافر أن يقول: كيف يعلم الله أمورا نعلمها في البيت الخالي وفي جوف الليل المظلم؟ فأجاب الله تعالى بأنا نعلم ما هو أخفى من ذلك وهو أحوالكم وقت كونكم أجنة. وقوله فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ للتأكيد فإنه إذا خرج من بطن الأم يدعى سقطا أو ولدا. وقيل: أراد أن الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله وبأنه كتب عليهما في رحم أمهما أنه ضال أو مهتد. وقيل: فيه تقرير الجزاء وتحقيق الجزاء وتحقيق الحشر فإن العالم بأحوال المكلف وهو جنين القادر على إنشائه من الأرض أول مرة، عالم بأجزائه بعد التفرق، قادر على جمعه بعد التمزق.
والعامل في «إذ» هو «اذكر» أو ما يدل عليه أَعْلَمُ أي يعلمكم وقت الإنشاء. والخطاب للموجودين وقت نزول الآية وللآخرين بالتبعية. ويجوز أن يكون الإنشاء من الأرض إشارة إلى خلق أبينا آدم. وقوله وَإِذْ أَنْتُمْ يكون خطابا لنا. قوله أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى
قال بعض المفسرين: نزل في الوليد بن المغيرة جلس عند رسول الله ﷺ وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا فقال له رجل: لم تترك دين آبائك؟ قال: أخاف. ثم قال له: لا تخف وأعطني كذا وأنا أتحمل عنك أوزارك فأعطاه ما ألزمه وتولى عن الوعظ واستماع
وقال بعضهم: نزل في عثمان بن عفان كان يعطي ماله عطاء فقال له أخوه من أمه عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ويوشك أن يفنى مالك فأمسك فقال له عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أرجو أن يغفر الله لي بسبب العطاء. فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن الإعطاء ومعنى تولي ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى خير من ذلك. يقال: أكدى الحافر إذا لقيته كدية وهي أرض صلبة كالصخرة ونحوه «أجبل الحافر وأجبل الشاعر» إذا أفحم. ثم وبخه بأنه لا يعلم الغيب فكيف يعلم أن أوزاره محمولة عنه؟ وقيل: نزلت في أهل الكتاب وذلك أنه لما بين حال المشركين المعاندين شرع في قصة هؤلاء والمعنى: أفرأيت الذي تولى أي صار متوليا لكتاب الله وأعطى قليلا من الزمان حق الله فيه، ولما بلغ عصر محمد ﷺ أمسك عن العمل به. قالوا: يؤيد هذا التفسير قوله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى عينها أو جنسها وهو ما نبأهم به نبينا صلى الله عليه وسلم. وجمع الصحف إما لأن موسى له صحيفة وإبراهيم له صحيفة فذكر التثنية بصيغة الجمع، وإما لأن كل واحد منهما له صحف لقوله تعالى وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الأعراف: ١٥] وكل لوح صحيفة. وتقديم صحف موسى إما لأنها أقرب وأشهر وأكثر وإما لأنه رتب وصف إبراهيم عليه، وإما لحسن رعاية الفاصلة وقد راعى في آخر «سبح اسم ربك» هذا المعنى مع ترتيب الوجود. والتشديد في قوله وَفَّى للمبالغة في الوفاء، أو لأنه بمعنى وفر وأتم كقوله فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: ١٢٤] وأطلق الفعل ليتناول كل وفاء وتوفية من ذلك تبليغه الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة والصبر على ذبح الولد وعلى نار نمرود وقيامه بأضيافه بنفسه.
يروى أنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخا يطلب ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم.
وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا فلما رمي في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليكم فلا.
قالا: فسل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وروي في الكشاف عن النبي ﷺ وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الفجر والضحى.
وروي «ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى حين تظهرون»
وعن الهزيل بن شرحبيل كان بين نوح وإبراهيم ﷺ يؤخذ الرجل بجريرة غيره ويقتل الزوج بامرأته والعبد بسيده، وأول من خالفهم إبراهيم فلهذا قال سبحانه أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وهي مخففة من الثقيلة ولهذا لم ينصب الفعل وضمير الشأن محذوف ومحله الجر بدلا مما في صحف موسى، أو الرفع كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: هو أنه لا تزر نفس من شأنها أن تزر وزر نفس أخرى إذا لم تحمل التي يتوقع منها ذلك فغيرها أولى بأن لا تحمل.
٧] وورد على الأول أن الدعاء والصدقة والحج ينفع الميت كما ورد في الأخبار، وأيضا قال تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] والأضعاف فوق ما سعى.
وأجاب بعضهم بأن قوله لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى كان في شرع من تقدم ثم إنه تعالى نسخه في شريعتنا وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع. وقال المحققون: إن سعي غيره وكذا الأضعاف لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمنا صالحا كان سعي غيره كأنه سعي نفسه. والثاني «ما» مصدرية والمضاف محذوف أي الأثواب أو جزاء سعيه.
ويجوز أن تكون موصولة أي إلا الجزاء الذي سعى فيه. الثالث في صيغة المضي إشارة إلى أنه لا يفيد الإنسان إلا الذي قد حصل فيه ووجد، وأما مجرد النية مع التواني والتراخي فذلك مما لا اعتماد عليه ولعل ذلك من مكايد الشيطان يمنيه ويعده إلى أن يحل الأجل بغتة. قوله وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى إن كان من الرؤية فكقوله اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: ١٠٥] وإن كان من الإراءة فالفائدة في إراءته وعرضه عليه أن يفرح به هو ويحزن الكافر والله قادر على إعادة كل معدوم عرضا كان أو جوهرا، والمراد أن يريه الله إياه على صورة جميلة إن كان عملا صالحا وبالضد إن كان بالضد. ويجوز أن يكون مجازا عن الثواب كما يقال «سترى إحسانك عند الملك» أي جزاءه إلا أن القول الأول أقوى لقوله ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى اللهم إلا أن يراد تراخي الرتبة والفائدة تعود إلى الوصف بالأوفى وهو الرؤية التي هي أوفى من كل واف أي يجزى العبد بسعيه الجزاء الأتم. وجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله الْجَزاءَ الْأَوْفى وأبدل عنه كقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: ٣] ومن لطائف الآية أنه قال في حق المسيء أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يلزم منه أن يبقى الوزر على المذنب بل يجوز أن يسقط عنه بالمحو والعفو، ولو قال «كل وازرة تزر وزر نفسها» لم يكن بد من بقاء وزرها عليها. وقال في حق المحسن «ليس له ما سعى» ولم يقل «ليس له ما لم يسع» إذ العبارة الثانية لا يلزمها أن له ما سعى، والعبارة الأولى يلزمها ذلك لأنها في قوة كلامين إثبات ونفي والحاصل أنه قال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه، وفي حق المحسن بعبارة توجب رجاءه كل ذلك لأن رحمته سبقت غضبه. قوله وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى المشهور أن فيه بيان المعاد كقوله عز
وعن أنس أن النبي ﷺ قال «إذا ذكر الرب فانتهوا»
والخطاب عام لكل سامع مكلف وفيه تهديد للمسيء ووعد للمحسن: وقيل: الخطاب للنبي ﷺ وفيه تسلية له. ثم بين غاية قدرته وهي إيجاده الضدين الضحك والبكاء والإماتة والإحياء في شخص واحد، وكذا الذكورة والأنوثة في مادة واحدة هي النطفة نطفت إذا تمنى تدفق في الرحم. يقال: منى وأمنى. وقال الأخفش: تخلق والمنى والتقدير وفيه إبطال قول الطبيعيين أن مبدأ الضحك قوة التعجب، ومبدأ البكاء رقة القلب، وإن الحياة مستندة إلى الطبيعة كالنبات، والموت أمر ضروري وهو تداعي الأجزاء العنصرية إلى الانفكاك بعد اجتماعها على سبيل الاتفاق أو لاقتضاء سبب سماوي من اتصال أو انفصال وذلك أن انتهاء كل ممكن إلى الواجب واجب. قوله أَماتَ وَأَحْيا إما لأجل الفاصلة أو لأنه اعتبر حالة كون الإنسان نطفة ميتة. قال الأطباء: الذكر أسخن وأجف والأنثى أبرد وأرطب. وقالوا في نبات شعر الرجل: إن الشعور تتكون من بخار دخاني منجذب إلى المسام فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعرا. وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف لم ينبت لعسر خروجه من المخرج الضيق وإنما يندفع كثرة تلك الأبخرة إلى الرأس حتى رأس المرأة والصبي لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فيتصاعد إليها. وأما في الرجل فيندفع إلى صدره كثيرا لحرارة القلب. وإلى آلات التناسل لحرارة الشهوة، وإلى اللحيين لكثرة الحرارة بسبب الأكل والكلام ومع حرارة الأبخرة، ومن شأن الحرارة جذب الرطوبة كجذب السراج الزيت. هذا أقوى ما قالوا في هذا الباب. ويرد عليه أنه ما السبب لتلازم شعر اللحية وآلة التناسل فإنها لو قطعت لم تنبت اللحية، ولو سلم التلازم من حيث إن حرارة الخصيان تقل بسبب قطع آلة الشهوة فلا بد أن يعترفوا بانتهاء جميع الممكنات إلى الواجب بالذات.
واعلم أنه سبحانه في هذه الآية وسط الفصل بين الاسم والخبر حيث كان توهم الحملية فيه أكثر وترك الفصل حيث لم يكن كذلك. ففي آيات الضحك والبكاء والإماتة والإحياء وسط الفصل للتوهمات المذكورة حتى قال نمرود أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:
ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليس قوله إِنَّهُمْ كانُوا تعليلا للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بيانا لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم. وَالْمُؤْتَفِكَةَ يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود أَهْوى أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض فَغَشَّاها ما غَشَّى من الحجارة المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب. وجوز أن يكون «ما» فاعلا كقوله وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى فقد قيل: هو أيضا مما في
البرطمة الإعراض ثم إنهم كانوا أنصفوا من أنفسهم وقالوا: لا نعجب ولا نضحك ولا نسمد بل نبكي ونخشع فلا جرم قال فَاسْجُدُوا أي إذا اعترفتم لله بالعبودية فاخضعوا له وأقيموا وظائف العبادة. وقد مر في سورة الحج في قوله أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الآية: ٥٢]
أن رسول الله ﷺ قرأ هذه السورة في الصلاة ثم سجد فسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس
وذكرنا سببه.