ﰡ
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ ولله الحمد والمنة.
تَفْسِيرُ
سُورَةِ النَّجْمِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ- يعني الزبيدي- حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ وَالنَّجْمِ قَالَ: فَسَجَدَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ، إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ «٣»، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُمْتَنِعِ إِنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: الْخَالِقُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقْسِمَ إِلَّا بِالْخَالِقِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: واختلف المفسرون في معنى قوله: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عن مجاهد: يعني بالنجم الثريا إذا سقط مَعَ الْفَجْرِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٤»، وَزَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهَا الزُّهْرَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى إِذَا رُمِيَ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهَذَا الْقَوْلُ لَهُ اتِّجَاهٌ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تعالى:
(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٩٦.
(٣) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٢٩، وتفسير سورة ٥٣، باب ٤، والمغازي باب ٨، ومسلم في المساجد حديث ١٠٥، ١٠٦، وأبو داود في السجود باب ٣، والنسائي في الافتتاح باب ٤٩، وأحمد في المسند ١/ ٣٨٨، ٤٣٧، ٤٤٣.
(٤) تفسير الطبري ١١/ ٥٠٣.
وقوله تعالى: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى هَذَا هُوَ المقسم عليه، وهو الشهادة للرسول ﷺ بِأَنَّهُ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ لَيْسَ بِضَالٍّ، وَهُوَ الْجَاهِلُ الَّذِي يَسْلُكُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْغَاوِي هُوَ الْعَالِمُ بِالْحَقِّ، الْعَادِلُ عنه قصدا إلى غيره، فنزه الله رَسُولَهُ وَشَرْعَهُ، عَنْ مُشَابَهَةِ أَهْلِ الضَّلَالِ كَالنَّصَارَى وَطَرَائِقِ الْيَهُودِ. وَعَنْ عِلْمِ الشَّيْءِ وَكِتْمَانِهِ، وَالْعَمَلِ بِخِلَافِهِ، بَلْ هُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وما بعثه بِهِ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ والاعتدال والسداد، ولهذا قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أَيْ مَا يَقُولُ قَوْلًا عَنْ هَوًى وَغَرَضٍ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أَيْ إِنَّمَا يَقُولُ مَا أُمِرَ به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ كَمَا رَوَاهُ الإمام أحمد «١» : حدثنا يزيد، حدثنا جرير بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ بِنَبِيٍّ مِثْلُ الْحَيَّيْنِ- أَوْ مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ- رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» فَقَالَ رَجُلٌ: يا رسول الله أو ما رَبِيعَةُ مِنْ مُضَرَ؟
قَالَ: «إِنَّمَا أَقُولُ مَا أَقُولُ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تسمعه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ. فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «اكتب فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا حَقٌّ» «٣» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ»
: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فإنك تداعبنا
(٢) المسند ٢/ ١٦٢، ١٩٢. [.....]
(٣) أخرجه أبو داود في العلم باب ٣، والدارمي في المقدمة باب ٤٣.
(٤) المسند ٢/ ٣٤٠، ٣٦٠.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥ الى ١٨]
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (١٦) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى النَّاسِ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، كما قال تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التَّكْوِيرِ: ١٩- ٢١] وَقَالَ هَاهُنَا ذُو مِرَّةٍ أَيْ ذُو قُوَّةٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُو خَلْقٍ طَوِيلٍ حَسَنٍ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَقُوَّةٍ شَدِيدَةٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ رواية ابن عمر وأبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سوي» «٢» وقوله تعالى: فَاسْتَوى يعني جبريل عليه السلام، قاله الحسن ومجاهد وقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يَعْنِي جِبْرِيلَ اسْتَوَى فِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالْأُفُقُ الْأَعْلَى الَّذِي يَأْتِي مِنْهُ الصُّبْحُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ مَطْلَعُ الشَّمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي مِنْهُ النَّهَارُ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مُصَرِّفُ بْنُ عَمْرٍو الْيَامِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْوَلِيدِ هُوَ ابْنُ قَيْسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي الْكَهْتَلَةِ، أَظُنُّهُ ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: أَمَّا وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَتِهِ فَسَدَّ الْأُفُقَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا قَوْلًا لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ، وَلَا حَكَاهُ هُوَ عَنْ أَحَدٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فَاسْتَوى أَيْ هَذَا الشَّدِيدُ الْقُوَى ذُو الْمِرَّةِ هو ومحمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، أَيِ اسْتَوَيَا جَمِيعًا بِالْأُفُقِ الأعلى وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَذَا قَالَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ شَرَعَ يُوَجِّهُ مَا قال من حيث العربية فقال وهو كقوله تعالى:
أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا فَعَطَفَ بِالْآبَاءِ عَلَى الْمُكَنَّى فِي كُنَّا مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ نَحْنُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَاسْتَوى وَهُوَ، قَالَ وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ أنشده: [الطويل]
(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤، والترمذي في الزكاة باب ٢٣، والنسائي في الزكاة باب ٩٠، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٦، والدارمي في الزكاة باب ١٥، وأحمد في المسند ٢/ ١٦٤، ١٩٢، ٣٧٧، ٣٨٩، ٤/ ٦٢، ٥/ ٣٧٥.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ | وَلَا يَسْتَوِي وَالْخَرْوَعُ الْمُتَقَصِّفُ «١» |
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفِي، فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا كَوَكْرَيِ الطَّيْرِ فَقَعَدَ فِي أَحَدِهِمَا وَقَعَدْتُ فِي الْآخَرِ. فَسَمَتْ وَارْتَفَعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ، وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنَّ أَمَسَّ السَّمَاءَ لَمَسِسْتُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ كَأَنَّهُ حِلْسٌ لَاطَ فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ عَلَيَّ. وَفُتِحَ لِي بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، وَإِذَا دُونَ الْحِجَابِ رَفْرَفَةُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ. وَأُوحِيَ إِلَيَّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ» ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ:
«لَا يَرْوِيهِ إِلَّا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَكَانَ رَجُلًا مَشْهُورًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
(قُلْتُ) الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ هَذَا هُوَ أَبُو قُدَامَةَ الْإِيَادِيُّ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَثُرَ وَهْمُهُ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَرَائِبِ رِوَايَاتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ نَكَارَةً وَغَرَابَةَ أَلْفَاظٍ وَسِيَاقًا عَجِيبًا وَلَعَلَّهُ مَنَامٌ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ،
(٢). ١/ ٣٩٥، ٣٩٨، ٤٠٧.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: ادْعُ رَبَّكَ، فَدَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَطَلَعَ عَلَيْهِ سَوَادٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَجَعَلَ يَرْتَفِعُ وَيَنْتَشِرُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُعِقَ فَأَتَاهُ فَنَعَشَهُ وَمَسَحَ الْبُزَاقَ عَنْ شدقه، تفرد بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ أَبُو لَهَبٍ وَابْنُهُ عُتْبَةُ قَدْ تَجَهَّزَا إِلَى الشَّامِ فَتَجَهَّزْتُ مَعَهُمَا، فَقَالَ ابْنُهُ عُتْبَةُ: وَاللَّهِ لَأَنْطَلِقَنَّ إِلَى مُحَمَّدٍ وَلَأُوذِيَنَّهُ في ربه سبحانه وتعالى، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هُوَ يَكْفُرُ بِالَّذِي دنى فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ سلط عليه كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ» ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ:
يَا بُنَيَّ مَا قُلْتَ لَهُ، فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ لَهُ، قَالَ: فَمَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: قَالَ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ» قَالَ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا آمَنُ عَلَيْكَ دُعَاءَهُ، فَسِرْنَا حَتَّى نَزَلْنَا الشُّرَاةَ وَهِيَ مَأْسَدَةٌ وَنَزَلْنَا إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ فَقَالَ الرَّاهِبُ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، مَا أَنْزَلَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ فَإِنَّهَا تَسْرَحُ الْأُسْدُ فِيهَا كَمَا تَسْرَحُ الْغَنَمُ. فَقَالَ لَنَا أَبُو لَهَبٍ: إِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ كِبَرَ سِنِّي وَحَقِّي، وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ دَعَا عَلَى ابْنِي دَعْوَةً، وَاللَّهِ مَا آمَنُهَا عَلَيْهِ، فَاجْمَعُوا مَتَاعَكُمْ إِلَى هذه الصومعة وافرشوا لا بني عَلَيْهَا ثُمَّ افْرِشُوا حَوْلَهَا، فَفَعَلْنَا فَجَاءَ الْأَسَدُ فَشَمَّ وُجُوهَنَا فَلَمَّا لَمْ يَجِدُ مَا يُرِيدُ تقبض فوثب وثبة فَإِذَا هُوَ فَوْقَ الْمَتَاعِ، فَشَمَّ وَجْهَهُ ثُمَّ هَزَمَهُ هَزْمَةً فَفَضَخَ رَأْسَهُ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَنْفَلِتُ عَنْ دَعْوَةِ محمد.
وقوله تعالى: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أَيْ فَاقْتَرَبَ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ لَمَّا هَبَطَ عَلَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابُ قَوْسَيْنِ، أَيْ بِقَدْرِهِمَا إِذَا مُدَّا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ بُعْدُ مَا بَيْنَ وَتَرِ القوس إلى كبدها. وقوله تعالى: أَوْ أَدْنى قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَنَفْيِ ما زاد عليه كقوله تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَةِ: ٧٤] أَيْ مَا هِيَ بِأَلْيَنَ مِنَ الْحِجَارَةِ، بَلْ هِيَ مِثْلُهَا أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النِّسَاءِ: ٧٧] وَقَوْلُهُ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٧] أَيْ لَيْسُوا أَقَلَّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ حَقِيقَةً أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهَا. فَهَذَا تَحْقِيقٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ لَا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع وهكذا هاهنا هذه الآية فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمُقْتَرِبَ الدَّانِيَ الَّذِي صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عليه
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» «١» فَجَعَلَ هَذِهِ إِحْدَاهُمَا، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى»، ولهذا قد تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَتْنِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ آخَرَ وَقِصَّةٍ أُخْرَى، لَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ لَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى فَهَذِهِ هِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْأُولَى كَانَتْ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ».
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
كَانَ أَوَّلُ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ جِبْرِيلَ بِأَجْيَادٍ «٣»، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَصَرَخَ بِهِ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ! فنظر رسول الله يمينا وشمالا فلم ير أحدا ثلاثا، ثم رفع بصره فإذا هو ثاني إِحْدَى رِجْلَيْهِ مَعَ الْأُخْرَى عَلَى أُفُقِ السَّمَاءِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ جِبْرِيلُ جِبْرِيلُ يُسَكِّنُهُ. فَهَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ فِي النَّاسِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ نَظَرَ فَرَآهُ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ فَنَظَرَ فَرَآهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى - إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى يَعْنِي جِبْرِيلُ إلى محمد عليهما الصلاة والسلام فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وَيَقُولُونَ: الْقَابُ نصف إصبع، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذِرَاعَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عن جابر شاهدا لِهَذَا.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ طَلْقِ بْنِ غَنَّامٍ عَنْ زَائِدَةَ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جبريل له ستمائة جناح.
(٢) تفسير الطبري ١١/ ٥٠٨.
(٣) أجياد: موضع بأسفل مكة.
(٤) كتاب التفسير، تفسير سورة ٥٣، في الترجمة.
مَعْنَاهُ فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى، أَوْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
قال: أوحى الله إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضحى: ٦]- وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: ٤] وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ.
وقوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زِيَادِ بْنِ حَصِينٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَا رَوَاهُ سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ وغيرهما: إنه رآه بفؤاده مرتين «٢»، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الرُّؤْيَةَ وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالْفُؤَادِ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ بِالْبَصَرِ فَقَدْ أَغْرَبَ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ فِيهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ «٣» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَبْهَانَ بْنِ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا يحيى بن كثير العنبري عن سلمة بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الْأَنْعَامِ: ١٠٣] قَالَ:
وَيْحَكَ ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا بِعَرَفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَكَبَّرَ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، فَقَالَتْ: لَقَدْ تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ قَفَّ لَهُ شَعْرِي فَقُلْتُ: رُوَيْدًا، ثُمَّ قَرَأْتُ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى فَقَالَتْ: أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، مَنْ أَخْبَرَكَ أن محمدا رأى ربه أو كنتم شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ التي
(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٨٦.
(٣) تفسير سورة ٥٣، باب ٤. [.....]
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لمحمد عليهم الصلاة والسلام؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» «١» وَفِي رِوَايَةٍ «رَأَيْتُ نُورًا» «٢» وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ» ثُمَّ قَرَأَ مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مِهْرَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «لَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي وَرَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ» ثُمَّ تَلَا ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنِي عَبَّادُ بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى فَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ أَنَّهُ قَدْ رَآهُ، قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: قَدْ رَآهُ ثُمَّ قَدْ رَآهُ، قال: فسألت عنه الحسن فقال: قد رَأَى جَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ وَرِدَاءَهُ، وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَلَدَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟
قَالَ: «رَأَيْتُ نَهْرًا وَرَأَيْتُ وَرَاءَ النَّهْرِ حِجَابًا، وَرَأَيْتُ وَرَاءَ الْحِجَابِ نُورًا لَمْ أَرَ غَيْرَ» وَذَلِكَ غَرِيبٌ جِدًّا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» فَإِنَّهُ حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، لَكِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٥» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَانِي رَبِّي اللَّيْلَةَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ- أَحْسَبُهُ يَعْنِي فِي النَّوْمِ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، قَالَ: قُلْتُ لَا، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بردها بين
(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٢.
(٣) تفسير الطبري ١١/ ٥١٠.
(٤) المسند ١/ ٢٩٠.
(٥) المسند ١/ ٣٦٨.
وَمَا الْكَفَّارَاتُ وَالدَّرَجَاتُ؟ قَالَ: قُلْتُ الْمُكْثُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَالْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الجماعات، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَقَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إذا صليت اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً أَنْ تَقْبِضَنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ قَالَ: وَالدَّرَجَاتُ بَذْلُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسِ نِيَامٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ ص عَنْ مُعَاذٍ نَحْوُهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «١» مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ سِيَاقٌ آخَرُ وَزِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ فَقَالَ:
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَيَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَرْبِيٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ لَا يَا رَبِّ، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثديي، فعلمت ما في السموات وَالْأَرْضِ فَقُلْتُ يَا رَبِّ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ يَا رَبِّ إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ فَقَالَ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أَضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ أَلَمْ أَفْعَلْ بِكَ ألم أفعل بك؟ قَالَ فَأَفْضَى إِلَيَّ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهَا قَالَ فَذَاكَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِهِ: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى فَجَعَلَ نُورَ بَصَرِي فِي فُؤَادِي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِي» إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى هَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ لَمَّا خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ اعْلَمُوا أَنِّي كَافِرٌ بِالَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى، فَبَلَغَ قَوْلُهُ رسول الله ﷺ فقال: سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِهِ. قَالَ هَبَّارٌ: فَكُنْتُ مَعَهُمْ فَنَزَلْنَا بِأَرْضٍ كَثِيرَةٍ الْأُسْدِ، قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْأَسَدَ جَاءَ فَجَعَلَ يَشُمُّ رؤوس الْقَوْمِ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى تَخَطَّى إِلَى عُتْبَةَ فَاقْتَطَعَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فِي السِّيرَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَرْضِ الزرقاء وقيل بالسراة، وأنه خالف لَيْلَتَئِذٍ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ وَنَامُوا مِنْ حَوْلِهِ فَجَاءَ الْأَسَدُ فَجَعَلَ يَزْأَرُ ثُمَّ تَخَطَّاهُمْ إِلَيْهِ فضغم رأسه لعنه الله.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَأَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وكانت ليلة
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَلَهُ ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل «٢» من الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَقَالَ أَحْمَدُ «٣» أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به أعلم. إسناده حسن أيضا.
وقال الإمام أَحْمَدُ «٤» أَيْضًا: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ قَالَ، سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ» سَأَلْتُ عَاصِمًا عَنِ الْأَجْنِحَةِ فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَنِي، قَالَ فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْجَنَاحَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ «٥» : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحباب، حدثنا حسين، حدثنا عاصم بن بهدلة حدثني شقيق بن سلمة قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَضِرٍ مُعَلَّقٍ بِهِ الدُّرُّ» إسناد جيد أيضا.
وقال الإمام أحمد «٦» : حدثنا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَامِرٌ قَالَ: أَتَى مَسْرُوقٌ عَائِشَةَ فَقَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي لِمَا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الْأَنْعَامِ: ١٠٣] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشُّورَى: ٥١] وَمَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ [لقمان: ٣٤] الآية. ومن أخبرك
(٢) التهاويل: الأشياء المختلفة الألوان.
(٣) المسند ١/ ٣٩٥.
(٤) المسند ١/ ٤٠٧.
(٥) المسند ١/ ٤٠٧.
(٦) المسند ٦/ ٤٩، ٥٠.
٦٧] وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ في صورته مرتين.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التَّكْوِيرِ: ٢٣] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى
فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هذه الأمة سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ» لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ «٢»، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ بِهِ.
[رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هُمَامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ. قَالَ: وَمَا كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ هَلْ رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُهُ فَقَالَ: «قَدْ رَأَيْتُهُ نُورًا أَنَّى أَرَاهُ» هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ بِلَفْظَيْنِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» «٤». وَقَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ أَبُو ذر: قد سألته فَقَالَ «رَأَيْتُ نُورًا» «٥» وَقَدْ حَكَى الْخَلَّالُ فِي عِلَلِهِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مَا زِلْتُ مُنْكِرًا لَهُ وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الْوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ، وَحَاوَلَ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَنْ يَدَّعِيَ انْقِطَاعَهُ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ وَبَيْنَ أَبِي ذَرٍّ، وَأَمَّا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ أَبَا ذَرٍّ لَعَلَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ فَأَجَابَهُ بِمَا أَجَابَهُ بِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ لَأَجَابَهُ بِالْإِثْبَاتِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ سَأَلَتْ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ وَلَمْ يُثْبِتْ لَهَا الرُّؤْيَةَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ خَاطَبَهَا عَلَى قَدْرِ عَقْلِهَا أَوْ حَاوَلَ تَخْطِئَتَهَا فِيمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُخْطِئُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: رَأَى
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٣، باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ٢٨٧. [.....]
(٣) المسند ٥/ ١٤٧.
(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩١.
(٥) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٢.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قَالَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «١».
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ غَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلَ الْغِرْبَانِ وَغَشِيَهَا نُورُ الرَّبِّ وغشيتها أَلْوَانٌ مَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى قَالَ فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ:
وَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ الْمُقْحَمَاتُ»
. انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ «٤».
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ- شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ- قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم انتهى إلى السدرة، فقيل له إن هذه السدرة، فَغَشِيَهَا نُورُ الْخَلَّاقِ وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلَ الْغِرْبَانِ حين يقعن على الشجر، وقال فَكَلَّمَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ سَلْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى قَالَ كَانَ أَغْصَانُ السِّدْرَةِ لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا، فرآها النبي ﷺ وَرَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ رَأَيْتَ يَغْشَى تِلْكَ السِّدْرَةَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ».
وَقَوْلُهُ تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى قَالَ ابْنُ عباس رضي الله عنهما: مَا ذَهَبَ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا وَما طَغى مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الثَّبَاتِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَا فَعَلَ إِلَّا مَا أُمِرَ بِهِ وَلَا سَأَلَ فَوْقَ مَا أُعْطِيَ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّاظِمُ:
رَأَى جَنَّةَ الْمَأْوَى وَمَا فَوْقَهَا وَلَوْ | رَأَى غيره ما قد رآه لتاها |
٢٣] أَيِ الدَّالَةُ عَلَى قُدْرَتِنَا وَعَظَمَتِنَا، وَبِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أن الرؤية
(٢) المسند ١/ ٤٢٢.
(٣) المقحمات: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار.
(٤) كتاب الإيمان حديث ٢٧٩.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي الْكَهْتَلَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ أَظُنُّهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: أَمَّا مَرَّةٌ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ فِي صُورَتِهِ فَأَرَاهُ صُورَتَهُ فَسَدَّ الْأُفُقَ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَإِنَّهُ صَعِدَ مَعَهُ حِينَ صَعِدَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى قَالَ: فَلَمَّا أَحَسَّ جِبْرِيلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَادَ فِي صُورَتِهِ وَسَجَدَ، فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال: خلق جبريل عليه السلام، وهكذا رواه أحمد وهو غريب.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّعًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم البيوت لها مُضَاهَاةً لِلْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَكَانَتِ اللَّاتُ صَخْرَةً بَيْضَاءَ مَنْقُوشَةً وَعَلَيْهَا بَيْتٌ بِالطَّائِفِ، لَهُ أَسْتَارٌ وَسَدَنَةٌ وَحَوْلَهُ فِنَاءٌ مُعَظَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَهُمْ ثَقِيفٌ وَمَنْ تَابَعَهَا، يَفْتَخِرُونَ بِهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ بَعْدَ قُرَيْشٌ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : وَكَانُوا قَدِ اشْتَقُّوا اسْمَهَا مِنَ اسم الله فَقَالُوا اللَّاتُ، يَعْنُونَ مُؤَنَّثَةً مِنْهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُمْ قَرَءُوا اللَّاتَّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا يَلُتُّ لِلْحَجِيجِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ السَّوِيقَ، فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ فَعَبَدُوهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «٣» : حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، حدثنا أبو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى قَالَ: كَانَ اللَّاتُّ رَجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ سَوِيقَ الْحَاجِّ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» : وَكَذَا الْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ، وَكَانَتْ شَجَرَةً عَلَيْهَا بِنَاءٌ وأستار
(٢) تفسير الطبري ١١/ ٥٢٠.
(٣) كتاب التفسير، تفسير سورة ٥٣، باب ٢.
(٤) تفسير الطبري ١١/ ٥٢٠.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ «١» مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أقامرك فليتصدق» فهذا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَتْ أَلْسِنَتُهُمْ قَدِ اعْتَادَتْهُ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مَخْلَدٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
حَلَفْتُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ لِي أَصْحَابِي: بِئْسَ مَا قُلْتَ! قُلْتَ هُجْرًا. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل شيء قَدِيرٌ، وَانْفُثْ عَنْ شِمَالِكَ ثَلَاثًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ لَا تَعُدْ» «٢».
وَأَمَّا مَنَاةُ فَكَانَتْ بِالْمُشَلَّلِ عِنْدَ قُدَيْدٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يُعَظِّمُونَهَا وَيُهِلُّونَ مِنْهَا لِلْحَجِّ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ «٣» عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ، وَقَدْ كَانَتْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا طَوَاغِيتُ أُخَرُ تُعَظِّمُهَا الْعَرَبُ كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ. غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ هَذِهِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ. بِهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ وَتُهْدِي لَهَا كَمَا يُهْدَى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بِهَا، وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا، وَهِيَ تَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا بَيْتُ إبراهيم عليه السلام ومسجده: فكانت لقريش ولبني كِنَانَةَ الْعُزَّى بِنَخْلَةَ، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمٍ، حُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ «٤».
قُلْتُ: بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَدَمَهَا وَجَعَلَ يَقُولُ: [رجز]
يا عزّى كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ | إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ «٥» |
(٢) أخرجه النسائي في الأيمان باب ١٢.
(٣) تفسير سورة ٥٣، باب ٢. [.....]
(٤) انظر سيرة ابن هشام ١/ ٨٣، ٨٤.
(٥) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عزز)، وتاج العروس (عزز)، والمخصص ١٥/ ١٩٠.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ اللَّاتُ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ، وَكَانَ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا بَنَى مُعَتَّبٍ «١».
قُلْتُ: وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ صَخْرَ بْنَ حرب، فهدماها وجعلا مكانها مسجدا بالطائف. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلَّلِ بِقُدَيْدٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا أَبَا سُفْيَانَ صَخْرَ بْنَ حَرْبٍ فَهَدَمَهَا، وَيُقَالُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: وَكَانَتْ ذُو الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ وَخَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ، وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ. قُلْتُ: وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ، وَلِلْكَعْبَةِ الَّتِي بِمَكَّةَ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ فَهَدَمَهُ، قال: وكانت فلس لطيئ ولمن يليها بجبل طَيِّئَ مِنْ سَلْمَى وَأَجَا، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَهَدَمَهُ، وَاصْطَفَى مِنْهُ سَيْفَيْنِ:
الرَّسُوبُ وَالْمُخْذَمُ، فَنَفَّلَهُ أَيَّاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا سَيْفَا عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ بَيْتٌ بِصَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ رِيَامٌ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بِهِ كَلْبٌ أَسْوَدُ وَأَنَّ الْحَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَهَبَا مَعَ تُبَّعٍ اسْتَخْرَجَاهُ وَقَتَلَاهُ وَهَدَمَا الْبَيْتَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ رُضَاءُ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَلَهَا يَقُولُ الْمُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ حِينَ هَدَمَهَا فِي الإسلام: [الطويل]
وَلَقَدْ شَدَدْتُ عَلَى رُضَاءَ شَدَّةً | فَتَرَكْتُهَا قَفْرًا بِقَاعٍ أَسْحَمَا |
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا | وَعُمِّرْتُ مِنْ عَدَدِ السِّنِينَ مِئِينَا |
مِائَةً حَدَّتْهَا بَعْدَهَا مِائَتَانِ لي | وعمرت مِنْ عَدَدِ الشُّهُورِ سِنِينَا |
هَلْ مَا بَقِي إِلَّا كَمَا قَدْ فَاتَنَا | يَوْمٌ يَمُرُّ وَلَيْلَةٌ تَحْدُونَا |
بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ | وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ من سنداد «٢» |
(٢) البيت للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٧، ولسان العرب (كعب)، (برق)، وكتاب العين ١/ ٢٠٧، وتهذيب اللغة ١/ ٣٢٥، وتاج العروس (كعب)، (سند)، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٩، والشعر والشعراء ص ٢٦١، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٦٥.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أَيْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أَيْ مِنْ حُجَّةٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ إِلَّا حُسْنَ ظَنِّهِمْ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ سَلَكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ الْبَاطِلَ قَبْلَهُمْ، وَإِلَّا حظ نفوسهم في رئاستهم وَتَعْظِيمِ آبَائِهِمُ الْأَقْدَمِينَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أَيْ وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِالْحَقِّ الْمُنِيرِ وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَمَعَ هَذَا مَا اتَّبَعُوا مَا جَاءُوهُمْ بِهِ وَلَا انْقَادُوا لَهُ.
ثم قال تعالى: أَمْ لِلْإِنْسانِ مَا تَمَنَّى أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَمَنَّى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النِّسَاءِ: ١٢٣] مَا كُلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُهْتَدٍ يَكُونُ كَمَا قَالَ، وَلَا كُلُّ مَنْ وَدَّ شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْ أُمْنِيَتِهِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَوْلُهُ: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أَيْ إِنَّمَا الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ مَالِكِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُتَصَرِّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لَا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى كَقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سَبَأٍ: ٢٣] فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَكَيْفَ تَرْجُونَ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ شَفَاعَةَ هَذِهِ الأصنام والأنداد عند الله، وهو تعالى لَمْ يُشَرِّعْ عِبَادَتَهَا وَلَا أَذِنَ فِيهَا، بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهَا عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَسْمِيَتِهِمُ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى، وَجَعْلِهِمْ لها أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ
وقوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الَّذِي أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ وَاهْجُرْهُ. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أَيْ وَإِنَّمَا أَكْثَرُ هَمِّهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ الدُّنْيَا، فَذَاكَ هو غاية ما لا خير فيه، ولهذا قال تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَيْ طَلَبُ الدُّنْيَا وَالسَّعْيُ لَهَا هُوَ غَايَةُ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا» «٣» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْعَالَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَجُورُ أَبَدًا لَا فِي شرعه ولا في قدره.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
يخبر تعالى أنه مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ بِالْعَدْلِ وَخَلَقَ الْخَلْقَ بِالْحَقِّ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أَيْ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ فَسَّرَ الْمُحْسِنِينَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، أَيْ لَا يَتَعَاطَوْنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْكَبَائِرَ وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الصَّغَائِرِ فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ وَيَسْتُرُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النِّسَاءِ: ٣١] وَقَالَ هَاهُنَا: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ اللَّمَمَ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ.
(٢) المسند ٦/ ٧١.
(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٧٩.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا الشَّفَتَيْنِ التَّقْبِيلُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِنْ تَقَدَّمَ بِفَرْجِهِ كَانَ زَانِيًا وَإِلَّا فَهُوَ اللَّمَمُ، وَكَذَا قَالَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَافِعٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ لُبَابَةَ الطَّائِفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: الْقُبْلَةُ وَالْغَمْزَةُ وَالنَّظْرَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ، فَإِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، وَهُوَ الزِّنَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا اللَّمَمَ إِلَّا مَا سَلَفَ وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٤» : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: الَّذِي يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ يَدَعُهُ، قَالَ الشاعر: [رجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما | وأي عبد لَكَ مَا أَلَمَّا؟ «٥» |
إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ يَنْزِعُ عَنْهُ. قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ يَقُولُونَ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا | وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ مَا أَلَمَّا؟ |
(٢) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ١٢، والقدر باب ٩، ومسلم في القدر حديث ٢٠، ٢١.
(٣) تفسير الطبري ١١/ ٥١٦.
(٤) تفسير الطبري ١١/ ٥٢٨.
(٥) الرجز لأبي خراش في الأزهية ص ١٥٨، وخزانة الأدب ١١/ ١٩٠، وشرح أشعار الهذليين ٣/ ١٣٤٦، وشرح شواهد المغني ص ٦٢٥، ولسان العرب (جمم)، والمقاصد النحوية ٤/ ٢١٦، وتاج العروس (جمم)، ولأمية بن أبي الصلت في الأغاني ٤/ ١٣١، ١٣٥، وخزانة الأدب ٤/ ٤، ولسان العرب (لمم)، وتهذيب اللغة ١٥/ ٣٤٧، ٤٢٠، وكتاب العين ٨/ ٣٥٠، وتاج العروس (لمم)، ولأمية أو لأبي خراش في خزانة الأدب ٢/ ٢٩٥، ولسان العرب (لمم)، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٧٦، وجمهرة اللغة ص ٩٢، والجنى الداني ص ٢٩٨، ولسان العرب (لا)، ومغني اللبيب ١/ ٢٤٤، وكتاب العين ٨/ ٣٢١، وديوان الأدب ٣/ ١٦٦، وتاج العروس (لا)، وتفسير الطبري ١١/ ٥٢٧.
إِنْ تَغْفِرِ اللهم تغفر جما | وأي عبد لك ما أَلَمَّا؟ |
هذا حديث صحيح حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، وَكَذَا قَالَ الْبَزَّارُ:
لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى مُتَّصِلًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَاقَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَغَوِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ تَنْزِيلُ، وَفِي صِحَّتِهِ مَرْفُوعًا نَظَرٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أراه رفعه في: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قال: اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمم مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ثُمَّ يَتُوبُ وَلَا يَعُودُ، قال: فذلك الْإِلْمَامُ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ في قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: اللَّمَمُ مِنَ الزِّنَا أَوِ السَّرِقَةِ أَوْ شرب الخمر ثم لا يعود إليه.
وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: هُوَ الرَّجُلُ يُصِيبُ اللَّمَّةَ مِنَ الزِّنَا وَاللَّمَّةَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فَيَجْتَنِبُهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا اللَّمَمَ يُلِمُّ بِهَا فِي الْحِينِ قُلْتُ: الزِّنَا؟ قَالَ: الزِّنَا ثُمَّ يَتُوبُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
اللَّمَمَ، الَّذِي يُلِمُّ الْمَرَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ سُئِلْتُ عَنْ اللَّمَمَ فَقُلْتُ: هُوَ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَتُوبُ، وَأَخْبَرْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهَا مَلَكٌ كَرِيمٌ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ- وَهُوَ ضَعِيفٌ- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: اللَّمَمَ مَا دُونَ الشِّرْكِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ: مَا بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ سَوَاءً. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّمَمَ كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ، تُكَفِّرُهُ الصلوات فهو اللمم، وهو دون كل موجب، فأما
(٢) تفسير الطبري ١١/ ٥٢٧، ٥٢٨.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أَيْ رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَمَغْفِرَتُهُ تَسَعُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا لِمَنْ تاب منها كقوله تَعَالَى: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣] وقوله تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أَيْ هُوَ بَصِيرٌ بِكُمْ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْكُمْ، وَتَقَعُ مِنْكُمْ حِينَ أنشأ أباكم مِنَ الْأَرْضِ، وَاسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ صُلْبِهِ أَمْثَالَ الذَّرِّ ثُمَّ قَسَمَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وَفَرِيقًا لِلسَّعِيرِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قَدْ كَتَبَ الْمَلَكُ الَّذِي يُوَكَّلُ بِهِ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ قَالَ مَكْحُولٌ: كُنَّا أَجِنَّةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا فَسَقَطَ مِنَّا مَنْ سَقَطَ، وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ ثُمَّ كُنَّا مَرَاضِعَ فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ، وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ ثُمَّ صِرْنَا يَفَعَةً فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ، وَكُنَّا فِيمَنْ بَقِيَ ثُمَّ صِرْنَا شَبَابًا فَهَلَكَ مِنَّا مَنْ هَلَكَ، وَكُنَّا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا لا أبالك فَمَاذَا بَعْدَ هَذَا نَنْتَظِرُ؟ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عنه.
وقوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أَيْ تَمْدَحُوهَا وَتَشْكُرُوهَا وَتُمَنُّوا بِأَعْمَالِكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاءِ: ٤٩]. وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ:
سَمَّيْتُ ابْنَتِي بَرَّةَ فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نَهَى عَنْ هَذَا الِاسْمِ وَسُمِّيتُ بَرَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ» فَقَالُوا: بِمَ نُسَمِّيهَا؟
قَالَ: «سَمُّوهَا زَيْنَبَ» «١» وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٍ الْحِذَاءِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ- مِرَارًا- إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسَبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ» «٣» ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَا: أخبرنا سفيان عن منصور عن
(٢) المسند ٥/ ٤١، ٤٥، ٤٦.
(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٥٤، ٩٥، ومسلم في الزهد حديث ٦٥، وأبو داود في الحدود باب ٢٣.
(٤) المسند ٦/ ٥.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٤١]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ تَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الْقِيَامَةِ: ٣١] وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى [القيامة: ٣٢] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطَاعَ قَلِيلًا ثُمَّ قَطَعَهُ «٢»، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيرٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدٌ: كَمَثَلِ الْقَوْمِ إِذَا كَانُوا يَحْفِرُونَ بِئْرًا، فَيَجِدُونَ فِي أَثْنَاءِ الْحَفْرِ صَخْرَةً تَمْنَعُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ فيقولون أكدينا ويتركون العمل.
وقوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أَيْ أَعِنْدَ هَذَا الَّذِي قَدْ أَمْسَكَ يَدَهُ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَقَطَعَ مَعْرُوفَهُ، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ أَنَّهُ سَيَنْفَدُ مَا فِي يَدِهِ حَتَّى قَدْ أَمْسَكَ عَنْ مَعْرُوفِهِ فَهُوَ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا؟ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْبَرِّ وَالصِّلَةِ بُخْلًا وَشُحًّا وَهَلَعًا، وَلِهَذَا جَاءَ في الحديث «أَنْفِقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا» وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: ٣٩] وقوله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيُّ: أَيْ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفَّى لِلَّهِ بِالْبَلَاغِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَفَّى مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَفَّى طَاعَةَ اللَّهِ وَأَدَّى رِسَالَتَهُ إِلَى خَلْقِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الَّذِي قَبْلَهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] فَقَامَ بِجَمِيعِ الْأَوَامِرِ وَتَرَكَ جَمِيعَ النَّوَاهِي وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، فَاسْتَحَقَّ بِهَذَا أَنْ يَكُونَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ أحواله وأقواله وأفعاله. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النَّحْلِ: ١٢٣].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(٢) انظر تفسير الطبري ١١/ ٥٣١.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ السِّمْنَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكفِكَ آخِرَهُ» «١» قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ تعالى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَبَّانَ بِهِ.
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ مَا كَانَ أَوْحَاهُ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى فَقَالَ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ كُلُّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ نَفْسَهَا بِكُفْرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا عَلَيْهَا وِزْرُهَا لَا يَحْمِلُهُ عَنْهَا أَحَدٌ كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى [فَاطِرٍ: ١٨] وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى أَيْ كَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وِزْرُ غَيْرِهِ، كَذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا مَا كَسَبَ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اسْتَنْبَطَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا يَصِلُ إِهْدَاءُ ثَوَابِهَا إِلَى الْمَوْتَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِمْ وَلَا كَسْبِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَنْدُبْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَلَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ بِنَصٍّ وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ، وَبَابُ الْقُرُبَاتِ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى النُّصُوصِ وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَالْآرَاءِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ وَالصَّدَقَةُ فَذَاكَ مُجْمَعٌ عَلَى وُصُولِهِمَا وَمَنْصُوصٌ مِنَ الشَّارِعِ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» »
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ مِنْ سَعْيِهِ وَكَدِّهِ وَعَمَلِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» «٤» وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ كَالْوَقْفِ ونحوه هي من
(٢) تفسير الطبري ١١/ ٥٣٣.
(٣) أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤، وأبو داود في الوصايا باب ١٤، والترمذي في الأحكام باب ٣٦، والنسائي في الوصايا باب ٨، وأحمد في المسند ٢/ ٣٧٢.
(٤) أخرجه النسائي في البيوع باب ١، وابن ماجة في التجارات باب ١، والدارمي في البيوع باب ٦، وأحمد في المسند ٦/ ٣١، ٤٢، ١٢٦، ١٢٧، ١٩٣، ٢٢٠.
١٢] الآية. وَالْعِلْمُ الَّذِي نَشَرَهُ فِي النَّاسِ فَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا» «١». وقوله تعالى: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كقوله تَعَالَى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التَّوْبَةِ: ١٠٥] أَيْ فَيُخْبِرُكُمْ بِهِ وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي الأوفر.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٢ الى ٥٥]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥)
يقول تعالى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أَيِ الْمَعَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَامَ فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَقَالَ: يَا بَنِي أَوْدٍ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ، تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ إِلَى الجنة أو النَّارِ.
وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قَالَ: لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَذَا مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تُفَكِّرُوا فِي الْخَالِقِ فَإِنَّهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْفِكْرَةُ».
كَذَا أَوْرَدَهُ وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي الصَّحِيحِ «يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ» «٢» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي السُّنَنِ «تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَلَا تُفَكِّرُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ تعالى فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مَلَكًا مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ» أَوْ كما قال:
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أَيْ خَلَقَ فِي عباده الضحك والبكاء وسببهما
(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١١، ومسلم في الإيمان حديث ٢١٤.
وقوله تعالى: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أَيْ كَمَا خَلَقَ الْبَدَاءَةَ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ وَهِيَ النَّشْأَةُ الْآخِرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أَيْ مَلَّكَ عِبَادَهُ الْمَالَ وَجَعَلَهُ لَهُمْ قُنْيَةً مُقِيمًا عِنْدَهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى بَيْعِهِ، فَهَذَا تَمَامُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا يَدُورُ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَغْنى مَوَّلَ وَأَقْنى أَخْدَمَ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا أَغْنى أَعْطَى وَأَقْنى رَضَّى.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَغْنَى نَفْسَهُ وَأَفْقَرَ الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْحَضْرَمِيُّ بْنُ لَاحِقٍ، وَقِيلَ: أَغْنى مَنْ شَاءَ من خلقه، وَأَقْنى أي أَفْقَرَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، حَكَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَهُمَا بَعِيدَانِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ هَذَا النَّجْمُ الْوَقَّادُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ) كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهُ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَهُمْ قَوْمُ هُودٍ وَيُقَالُ لَهُمْ عَادُ بْنُ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ [الْفَجْرِ: ٦- ٨] فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ وَأَعْتَاهُمْ عَلَى الله تعالى وَعَلَى رَسُولِهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٦- ٧] أي متتابعة.
وقوله تعالى: وَثَمُودَ فَما أَبْقى أَيْ دَمَّرَهُمْ فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أَيْ أَشَدُّ تَمَرُّدًا مِنَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى يَعْنِي مَدَائِنَ لُوطٍ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، وَلِهَذَا قَالَ: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى يَعْنِي مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٧٣] قَالَ قَتَادَةُ، كَانَ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَانْضَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي شَيْئًا فشيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ خُلَيْدٍ عَنْهُ بِهِ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أَيْ فَفِي أَيِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ تَمْتَرِي؟ قَالَهُ قَتَادَةُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى يَا مُحَمَّدُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وهو اختيار ابن جرير «١».
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٦ الى ٦٢]
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠)
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي أبو حاتم لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حتى أنضجوا خبرتهم، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ».
وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال أبو نضرة: لَا أَعْلَمُ إِلَّا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
«مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ» وَفَرَّقَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ ثُمَّ قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَمَثَلِ فَرَسَيْ رِهَانٍ» ثُمَّ قَالَ: «مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَعَثَهُ قَوْمُهُ طَلِيعَةً، فَلَمَّا خَشِيَ أَنْ يُسْبَقَ أَلَاحَ بِثَوْبِهِ أُتِيتُمْ أُتِيتُمْ» ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا ذَلِكَ» وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ صِحَاحٍ وَحِسَانٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَتَلَهِّيهِمْ تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَتَضْحَكُونَ مِنْهُ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً وَلا تَبْكُونَ أَيْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُوقِنُونَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الْإِسْرَاءِ:
١٠٩].
وَقَوْلُهُ تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغِنَاءُ هِيَ يَمَانِيَّةٌ اسْمِدْ لَنَا غَنِّ لَنَا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سامِدُونَ مُعْرِضُونَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ غَافِلُونَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تستكبرون، وبه يقول السدي، ثم قال تعالى آمِرًا لِعِبَادِهِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَالْعِبَادَةِ الْمُتَابِعَةِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي
(٢) المسند ١/ ٤٠٢، ٥/ ٣٣١، ٦/ ٧٠.