تفسير سورة النجم

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة النجم من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ»
على حين بدئت سورة النجم بالقسم بواحد من هذه النجوم، التي أدبرت مع ضوء الصبح الوليد.. فكان هناك أكثر من مناسبة جمعت بين السورتين..

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات: (١- ١٨) [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى»..
584
الواو: للقسم..
والنجم: مقسم به من الله سبحانه وتعالى:
والواقع عليه القسم، هو قوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى..
الآيات»
..
وقد اختلف فى المراد بالنجم، فقيل هو ما ينزل من القرآن منجّما، وقيل هو الرسول، وقيل هو جنس النجم، الشامل لجميع نجوم السماء، وقيل هو الشعرى اليمانية..
واختلف كذلك فى معنى «هوى» فقيل بمعنى سقط، رجوما للشياطين، أو تناثر، وذلك يوم القيامة، وقيل «هوى» بمعنى غرب، أو بمعنى طلع...
والذي نراه- والله أعلم- أن المراد بالنجم هو النجم القطبي، الذي يهتدى به السائرون ليلا فى البرّ، وفى البحر، وهو يأخذ دائما اتجاه الشمال.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦: النحل).. فهذا النجم- والله أعلم- هو النجم الذي أقسم الله سبحانه وتعالى به..
والذي نراه- والله أعلم- فى قوله تعالى: «هَوى»
أن معناه، أفل، واختفى، فى ضوء الصبح المشرق.. وهو المناسب لقوله تعالى فى آخر سورة «الطور» :«وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ، وَإِدْبارَ النُّجُومِ».
واختصاص هذا النجم من بين نجوم السماء، بالذكر، لأنه من أضوأ نجوم السماء، ومن أكثرها صلة بحياة الناس، وهداية لهم فى السير، فى ظلمات البر والبحر..
585
وفى القسم بالنجم فى حال هوّيه، وأفوله، ووقوع هذا القسم على النبي وأنه ما ضلّ وما غوى، كما يرى ذلك المشركون الضالون- فى هذا إشارة إلى أمور:
أولها: أن ظهور النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان فى ظلمة ليل بهيم، أطبق على العالم كله، وأناخ بكلكله على الجزيرة العربية وأهلها، وأن ظهوره هذا، كان أشبه بالنجم القطبي، الذي يرى منه المدلجون فى الليل هاديا، إذا هم رفعوا رءوسهم إلى السماء، ومدوّا أبصارهم إليه..
وثانيها: أن هذا النجم السماوي البشرى، المثل فى النبي، والنور الذي معه- لم يهتد به، فى الدور المكىّ من الدعوة، وإلى وقت نزول هذه السورة- إلا أعداد قليلة من الناس، هم الذين رفعوا رءوسهم إليه، وطلبو الهدى منه.. أما الكثيرة الكثيرة من المشركين، فقد كانوا فى نوم عميق، تطرقهم فيه رؤى الأوهام، وأضغاث الأحلام!! وأن هذا النجم الهادي يوشك أن يغرب عن أفقهم، ويفوتهم الاهتداء به، والتعرف على الوجه الصحيح الذي يسلكونه على درب الحياة.
وثالثها: أن هذا النجم القطبي- وإن غاب عن الأعين- فإنه فى حقيقته قائم فى مقامه العالي، حيث هو.. هكذا يراه أهل العلم.. وكذلك الرسول صلوات الله وسلامه عليه- وإن غاب شخصه عن أعين الناس، فإنه قائم فى مقامه المكين، من قلوب المؤمنين أبدا الدهر.
ورابعها: أن النبي الكريم، وإن ظهر فى أول أمره نجما، لا تكتحل بضوئه إلا العيون التي تطلبه، فإن أمره بعد هذا سيعظم، ويتحول إلى صبح مشرق، يملأ العيون، وينعش النفوس، ويوقظ الأحياء.. ثم لا يلبث هذا النبي أن يطلع شمسا ينفذ شعاعها إلى الكائنات، فيلبس المؤمنون به، المتعرضون
586
لضوئه، حللا من النور، والجلال، على حين تنجحر من ضوئه الهوام والحشرات، وتقتل تحت ضربات أشعته «الفيروسات» والجراثيم..
وخامسها: أن هؤلاء المشركين، الذين لم يهتدوا بضوء النبي «نجما» ثم لم ينتظموا فى ركبه «صبحا» ثم لم يستقبلوا ضوءه «شمسا» - هؤلاء المشركون لن يكون مصيرهم إلا كمصير هذه الجراثيم، تموت تحت ضربات الشمس.
أو كهذه الهوام والحشرات، لا يرى لها وجه ما دام هذا الضوء قائما..
وقد كان، فإن كثيرا من المشركين الذين عاصروا النبوة ماتوا ميتة الجراثيم، وكثير منهم انجحر بين أربعة جدران من بيته إلى أن مات حسرة وكمدا، دون أن يشعر به أحد! وقوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» - هو المقسم عليه من رب العزّة جلّ وعلا، وهو تبرئة لمقام النبىّ الكريم أن يكون بمظنة سوء، أو بموضع تهمة، فهو صلوات الله وسلامه عليه، كما شاء له ربه أن يكون، وكما عرف ذلك منه قومه معرفة عيان وابتلاء- هو الصادق الأمين، الذي لم تجرب عليه كذبة قط ولم يعرف عنه- ولو على سبيل الكذب والافتراء عليه- أنه خان أمانة، أو أخلف وعدا، أو نقض عهدا، ولهذا كان عند قومه يدعى الصادق الأمين..
والضلال: ضد الهدى، ويكون غالبا عن جهل..
والغىّ، ضد الرشاد، ويكون غالبا عن اتباع الهوى.. وفى مخاطبة قريش بقوله تعالى: «صاحِبُكُمْ» - إشارة إلى تلك الصحبة الطويلة التي صحب فيها النبىّ قومه قبل البعثة، وإلى ما عرفوا منه خلال تلك الصحبة من أمانة، وصدق، واستقامة، ونبل، وسداد رأى، ورجاحة عقل، حتى نزل من قلوبهم جميعا منزلة الصاحب من قلب صاحبه.. فكيف تتبدل حالهم معه، بعد أن جاوز الأربعين؟ وكيف ينكرون عليه ما جاءهم به دون أن ينظروا فيه بعقولهم،
587
ويقفوا طويلا عنده، قبل المسارعة بهذا الاتهام من غير تدبر أو نظر؟..
وقد كان يمكن أن يكون لهذا الإنكار الذي استقبلوا به دعوة النبي- وجه من العذر، لو كان النبي طارئا عليهم، غير معروف لهم، أو كان موضع تهمة عندهم من قبل.. وأما وللنبى فيهم مقام كريم، ومعاشرة طويلة، قائمة على الإكبار والإجلال والتعظيم- فإن المبادأة بهذا الاتهام مما لا يستقيم على منطق أبدا، ولا يقوم له وجه من العذر بحال أبدا..
وقوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» - هو معطوف على المقسم عليه، وهو قوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» - أي وما ينطق بما نطق به، عن هوى يترضّى به شهوة من شهوات النفس، أو يتصيد به مطلبا من مطالب الحياة.
وقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى».. أي ما هذا الذي ينطق به صاحبكم هذا، إلا وحي يوحى إليه من ربه، وليس عن هوى متسلط عليه من أهواء النفس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (١٦: يونس)..
وقوله تعالى: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى..»
الضمير فى «علمه» بعود إلى جبريل عليه السلام- أمين الوحى، وسفير السماء إليه، برسالة ربه، وبكلماته.. وأنه هو الذي أوحى إلى الرسول بهذا العلم الذي تنكرون على «محمد» ما يتلوه عليكم منه..
ومن صفات جبريل- عليه السلام- أنه «شديد القوى» أي قوىّ أمين
588
حافظ لما يحمل من رسالات الله سبحانه وتعالى إلى رسله، كما يقول سبحانه:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (١٩- ٢١: التكوير)..
ومن صفات جبريل كذلك أنه «ذو مرّة» أي جلد وصبر، وقدرة على حمل هذه الأمانة التي كلّف بحملها.. وإنها لأمانة ثقيلة أبت السماء والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.
وقوله تعالى: «فاستوى» - الفاء هنا للتفريع.. أي أن جبريل بهذه الصفات التي أقام الله سبحانه وتعالى خلقه عليها، قد «استوى» أي استوفى الصفات التي تؤهله لهذه الوظيفة، والتي تمكنه من القيام بها على الوجه الأكمل..
وقوله تعالى: «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» - هو معطوف على ما قبله، وهو صفة من صفات جبريل، عليه السلام، تشير إلى العالم العلوي، الذي يعيش فيه.. أي أنه ملك سماوى، وليس من هذا العالم الأرضى..
وهذا الذي ذهبنا إليه، فى تأويل هذه الآيات الثلاث، أولى- فى رأينا- مما ذهب إليه المفسرون من جعل قوله تعالى:
«وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» جملة حالية، من الفاعل فى قوله تعالى:
«فاستوى» بمعنى «فاستوى» أي جبريل حالة كونه «بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» أي أنه عرض نفسه وهو بالأفق الأعلى، فى صورته التي خلقه الله عليها، لا فى تلك الصور التي يمكن أن يتشكل فيها، حسب مقتضيات الأحوال، كأن يكون فى صورة بشرية، من تلك الصور التي كان يلقى بها النبي فى بعض الأحيان..
ويذهب المفسرون فى هذا إلى أن تلك الصورة الذاتية لجبريل، إنما كانت له عند ما جاء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى مفتتح الرسالة فى غار «ثور» الذي كان يتعبد فيه، قبل البعثة وأن جبريل- عليه السلام- لقيه
589
يومئذ فى صورته الكاملة التي له، والتي ظهر فيها- كما يقول المفسرون- بستمائة جناح له، الأمر الذي كان داعية إلى هذا الفزع والاضطراب الذي ملأ كيان النبي يومئذ..!
وهذا الذي ذهب إليه المفسرون، على ما فيه من تكلف ظاهر فى التأويل- هو- من جهة أخرى- بعيد عن منطق الحكمة فى اتصال النبي بالسماء، حيث يطلع عليه منها فى أول لقاء معها، هذا الهول المفزع الذي لا يمكن أن يكون أبدا مدخلا حكيما إلى قيام صلة وثيقة بين السماء وبين النبي المتلقى لرسالة السماء منها..
فتعالت حكمة الله سبحانه وتعالى عن هذا، علوا كبيرا..
ولعل الأقرب والأوفق، فى هذا المقام، أن يجىء جبريل إلى النبي فى أول لقاء له معه، فى صورة بشرية، أو أقرب إلى البشرية.. فهكذا يقتضى المنهج الحكيم، فى التربية والتعليم، وذلك بالتدرج من السهل إلى الصعب. وهكذا جاءت ملائكة السماء إلى إبراهيم كما يقول سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» فقد جاءوا إليه فى صورة بشرية كاملة.. كما جاءوا إلى لوط فى تلك الصورة البشرية نفسها، إذ يقول عنهم مخاطبا قومه..
«إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ» (٦٨: الحجر)..
وهكذا جاء رسول السماء إلى «مريم» كما يقول: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا»
.. (١٧: مريم) وأحسب أن الذي حمل المفسرين على هذا التأويل المتكلّف، هو رأيهم فى فواصل الآيات القرآنية، وأنها قد نجىء لمراعاة النظم..
ولو أنهم، نظروا إلى الإعجاز القرآنى، الذي لا تحكمه ضرورة «القافية» التي قد تحكم الشعر- لو أنهم نظروا إلى هذا، لجعلوا قوله تعالى: «فاستوى» - هو فاصلة الآية، التي يقتضيها المعنى ويتم بها، ولكان الوقوف عندها
590
مستوفيا المعنى المراد، ولما جعلوا الآية التي بعدها تتمة لها، وإنما هى كلام مستأنف، يخبر به عن المكان الذي يكون فيه جبريل، وهو الأفق الأعلى..
قوله تعالى:
«ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى»..
الحديث هنا عن جبريل- عليه السلام- وهو يحمل كلمات الله، إلى رسول الله.. إنه «دنا» أي قرب من النبي، «فتدلّى» أي قرب أكثر فأكثر، شيئا فشيئا، فى لطف، ورفق.. فهو إذ يأخذ طريقه إلى النبي، ينطلق انطلاقا بكل قوته، حتى إذا دنا من النبىّ، تخفّف من سرعته شيئا فشيئا، حتى يلتقى به، ويكون منه «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى».. فيصافحه فى رفق ولطف، شأن الطائر حين يهوى من الجو إلى الأرض فى سرعة خاطفة، فإذا دنا من الأرض خفف من سرعته شيئا فشيئا حتى يلامس سطحها..
وقاب القوس: المسافة ما بين مقبض القوس ووتره، وذلك حين يشدّ القوس لإطلاق السهام منه، فيكون أشبه بنصف دائرة..
وهذا- والله أعلم- هو السر فى تشبيه التقاء جبريل بالنبي، حيث يكون كل منهما أشبه بقوس مشدود مهيّا للرماية، يقف كل منهما فى مواجهة صاحبه، مشدودا إليه، حتى يتماسا عند نهاية القاب، الذي يبدأ من مركز الدائرة إلى محيطها.
ومن جهة أخرى.. فإن القوس، فى حال شدّة، يكون متوترا واقعا تحت قوة مؤثرة، تشده شداّ عنيفا.. وكذلك شأن كلّ من جبريل،
591
والنبي فى حال التقائهما.. إنهما يتجاذبان جذبا قويا.. فجبريل يجذب نفسه إلى حال بشريّة، والنبي يجذب نفسه إلى جهة الملائكة.
وهكذا يظلان يتجاذبان، وقتا معا، حتى يتماسا، كما يتماس وترا القوسين المشدودين، المواجه كل منهما للآخر، وهنا يتم اللقاء والتجاوب بينهما..
والعطف بالحرف: «أو» فى قوله تعالى: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» - ليس للشكّ فى الحكم الواقع على ما بين القوسين من قرب وتلاحم، وإنما هو لتأكيد هذا القرب، وأنه بالنسبة لمن يرونه تختلف عليهم رؤيته، فيراه بعضهم قاب قوسين، ويراه بعضهم أدنى وأقرب من ذلك..
وفى قوله تعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى»
إشارة إلى ما يقع فى هذا اللقاء بين جبريل والنبي، وهو أن جبريل يوحى إلى النبىّ، ما أمره الله سبحانه وتعالى بوحيه إليه من آيات الله وكلماته..
وفى قوله تعالى: «عبده» بإضافة النبي الكريم- بصفة العبودية إلى ربه- فى هذا تكريم للنبى الكريم، وإضافة له إلى رب العالمين، الذي ربّاه، وأحسن إليه، وعلمه ما لم يكن يعلم..
وفى قوله تعالى: «ما أَوْحى»
بتجهيل هذا الذي أوحى إلى النبي- تفخيم لهذا الموحى به، وأنه مما يجلّ عن الوصف، ومما لا تحصره الأوصاف.. فقل فيه ما تشاء من أوصاف الكمال والجلال، فإنك لن تبالغ صفته..
592
قوله تعالى:
«ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى».
أي ما كذب «الفؤاد» أي القلب، فيما رأى وعاين، مما يتلقى من آيات الله.. وفى التعبير عن العلم الذي وقع فى قلب النبي من هذا الذي ألقاه جبريل إليه- فى التعبير عن هذا العلم، بالرؤية- إشارة إلى أنه علم «محقق» يراه القلب، فى جلاء ووضوح، أشبه بما ترى العين الباصرة من مبصرات.. وهذا التلقّى عن طريق «الفؤاد» أي القلب- هو ما يشير إليه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» (١٩٣- ١٩٥:
الشعراء).
والذي نزل به الروح الأمين «جبريل» على النبي، هو كلمات الله، وأنها نزلت بلسان عربى مبين، ولم تنزل معانىّ مجردة، صاغها النبي صياغة باللغة العربية كما يتخرص بذلك المتخرصون، الذين يقولون إن القرآن قسمة مشتركة بين الوحى وبين النبي.. فالموحى به إلى النبي هو المعنى الذي يقع فى قلب النبي، وأما اللفظ الذي يتشكل فيه هذا المعنى، فهى من النبي.. وهذا ما يكذّبه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» فقوله تعالى: «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» متعلق بقوله تعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» - أي نزل به بلسان عربىّ مبين وقد عقدنا لذلك مبحثا خالصا فى هذا التفسير، تحت عنوان: كلمات الله وكيف تلقاها النبي «١».
قوله تعالى:
«أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى».
(١) انظر التفسير القرآنى للقرآن.. عند تفسير قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» ص ١٥٦ من الكتاب العاشر
593
المماراة، المجادلة، والبهت، والتكذيب.
والآية تحمل استفهاما إنكاريّا، ينكر على المشركين مماراتهم للنبى، وجدلهم له، فيما رأى من آيات ربه مما لم يروه.. إنه شاهد وهم غائبون، وهو مبصر، وهم لا يبصرون.. فكيف يجادل الغائب فيما يخبر به الشاهد؟ وكيف يكون للأعمى حجة يحاجّ بها ما يراه المبصر؟
[المعراج.. وما يقال فيه] قوله تعالى:
«وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى».
هو تعقيب على مماراة المشركين للنبى وتكذيبهم له، لما يتلوه عليهم، ويقول لهم عنه، إنه كلمات الله، وآياته، تلقاها وحيا من ربه، على لسان أمين الوحى، ورسول السماء، جبريل، عليه السلام.
وإنهم إذ يمارون فى أن تتدلىّ ملائكة السماء إلى الأرض، وأن تخالط إنسانا من الناس، وتلقى إليه بكلمات الله- إنهم إذ يمارون فى هذا ويستكثرونه، ألا فليسمعوا ما هو أغرب وأعجب!! إن هذا النبي الذي يستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء، وأن يتنزل عليه ملك من عند الله- هذا النبي هو الذي قد دعى إلى السماء، وهو الذي أصعد إلى الملأ الأعلى، فى موكب عظيم، تحفّ به الملائكة، ويحدو ركبه الأمين جبريل، وأنه مازال يصعد بركبه المبارك الميمون المهيب، حتى بلغ سدرة المنتهى، وهو غاية ما تنتهى إليه الطاقة البشرية، فى أعلى منازلها.
والسدرة، واحدة السدر، وهو شجر النبق، وهو من أشجار البادية، دائم الخضرة، كثير الفروع، ممتدّ الظلال.
594
واختيار شجرة السدر، للدلالة على النهاية التي لا يتجاوزها مخلوق من العالم العلوي- لأن شجر السدر شجر صحراوىّ، ينبت على حافة الصحراء، بين البادية والحاضرة، فهو بهذا أمارة من أمارات البادية التي تكاد تماسّ الحياة الحضرية، وتقف على عتبتها، دون أن تتجاوزها إلى ما وراءها.. إنها أقوى، وأقدر نبت أصيل من نبات البادية، يستطيع أن يمتد فيصل إلى مشارف العالم الحضري.
أما النخل- فإنه وإن كان من نبت الصحراء، إلا أنه لا ظلّ له، يجتمع الناس تحته. ، كما هو الشأن فى شجر السّدر.
وأما العنب والرمان، ونحوها، فإنها من نبات الحضارة أصلا، ثم استجلبت إلى البادية.
وعلى هذا، فإن شجرة السدر هنا تشير- والله أعلم- إلى نقطة التقاء بين عالمين عالم «البشر» الذي تتحرك فيه البشرية جميعها، والتي تستطيع بما يمدها الله سبحانه وتعالى من فضله أن تصعد فى هذا العالم حتى تبلغ سدرة المنتهى، ممثلة به فى خاتم النبيين، محمد، صلوات الله وسلامه عليه، وعالم الملائكة المقربين، الذين جعل الله لهم وراء سدرة المنتهى مجالا آخر. ينطلقون فيه، ومنهم جبريل عليه السلام.
والضمير فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ» يراد به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أي أن النبي رأى جبريل نزلة أخرى، وهو فى الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى.
وفى قوله تعالى: «نَزْلَةً أُخْرى» - إشارة إلى أن جبريل- عليه السلام- نزل نزلة أخرى فى العالم العلوي، غير تلك النزلة التي ينزلها إلى العالم الأرضى.
وإنه التقى برسول الله عند سدرة المنتهى، التي عندها جنة المأوى.. وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام نزل من العالم العلوي، مما فوق سدرة المنتهى، حتى
595
بلغ سدرة المنتهى.. حيث كان بينه وبين النبي لقاء فى هذا العالم العلوىّ، الذي يفيض بجلال النور، وبهائه، مما لا تدرك العقول كنهه، ولا يقع فى الخيال تصوره.
وقوله تعالى: «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى».
«إذ» ظرف يكشف عن الحال التي تم فيها لقاء النبي مع جبريل، عليهما السلام، عند سدرة المنتهى، فقد غشى هذه السدرة، ما غشّاها، ولبسها من الروعة والجلال ما لبسها، مما لا تدركه العقول، ولا تناله الأفهام.
وقوله تعالى «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» - المراد بالبصر هنا، بصر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن رؤيته للحقائق التي عرضت له فى هذا المقام العظيم، كانت رؤية محققة، موثّقة، لم يدخل عليها زبغ أو انحراف، عن القصد، أو طغيان، أي مجاوزة، عن الحق، فلم تخلط حقيقة بحقيقة، بل وقع كل شىء موقعه فى عين الرسول الكريم، وفى قلبه.
وقوله تعالى: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى».
الضمير فى «رأى» للرسول الكريم، وأنه قد رأى فى تصعيده فى الملأ الأعلى آيات كبرى من آيات ربه، مما لم يقع لبشر غيره.
ووصف الآيات بأنها كبرى، منظور فيه إلى تقدير المخلوقات.. أما آيات الله سبحانه وتعالى، فهى جميعها على وصف واحد، وأن أيّا منها هو الكمال كله، والجلال جميعه، ومثل هذا قوله تعالى لموسى- عليه السلام- «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى».
هذا ما نراه فى «المعراج» على ضوء آيات الله.. وفيها نرى أن معراج الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الملأ الأعلى، كان استكمالا لتلك الرحلة الروحية، التي أرادها الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم ليلة الإسراء، وأن النبي الكريم قطع المرحلة الأولى من الرحلة فى العالم الأرضى، بين المسجد الحرام،
596
والمسجد الأقصى، وأن هذه الرحلة كانت أشبه بمقدّمة لما هو مقدم عليه، صلوات الله وسلامه عليه، من العروج إلى العالم العلوي، حتى إذا أنست روحه، واطمأن قلبه، أخذ طريقه إلى الملأ الأعلى مصعّدا، حتى بلغ سدرة المنتهى! وهى غاية ما يمكن أن تحتمله البشرية فى الذروة العليا من مراتب كمالها. أما تلك الإضافات، وهذه الذيول، التي تتجاوز هذا المفهوم لآيات الله، والتي تحكى عن تلك الرحلة الروحية ما تحكى من غرائب وأعاجيب- فهى فى رأينا- مما لا يعوّل عليه.
وقد عرضنا لهذا الموضوع فى بحث خاص، عند تفسيرنا لقوله تعالى:
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
فلينظر هناك «١».
الآيات: (١٩- ٣٠) [سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٣٠]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
(١) انظر: التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الثامن ص ٤٠٩.
597
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هى أنها تعقيب عليها، وسؤال بعد سؤال، للسخرية بالمشركين، والاستخفاف بعقولهم التي تتجاوب مع هذه الدّمى التي يعبدونها من دون الله..
فلقد كانت الآية السابقة على هذه الآيات، معرضا لما لرسول الله من مقام كريم عند ربه، وأنه إذ يتلقّى رحمات السّماء وآيات الله المنزّلة عليه، على يد ملك كريم مرسل من عند الله- فإن ذلك- على جلاله وعظمته- ليس هو كلّ ماله عند ربّه من فضل وإحسان، بل إن الله سبحانه قد دعاه إلى ملكوت السموات، وأنزله فى ضيافة كرمه وإحسانه، حيث يتناول بيده عطايا ربّه، من حيث يتناولها جبريل عليه السلام.. وإنه قد رأى بعينه ما كان يلقيه جبريل فى قلبه من تلك الآيات..
ثم عادت الآيات لتقول للمشركين، فى سخرية واستهزاء: هذا ما رأى محمد من آيات ربه الكبرى.. فماذا رأيتم أنتم أيها الضالون المكذبون؟
«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟» أفليس هذا هو كلّ ما رأيتم؟
أفليس هذا هو مبلغكم من العلم؟ ثم ما هذا الذي رأيتموه؟ أهو شىء يقف
598
عنده عاقل، ويشغل به قلبه وعقله؟ وماذا يجد العقل فى حجر من بين تلك الأحجار التي تسدّ الأفق من حولهم؟ وماذا يجد العقل فى شجرة من تلك الأشجار النابتة فى صدر الصحراء؟ والرؤية هنا رؤية بصرية، لا قلبية علمية، كما يرى ذلك أكثر المفسّرين، الذين يطلبون للفعل مفعولا ثانيا محذوفا، ويقدرونه هكذا:
أفرأيتم هذه المسميات بنات الله آلهة تعبدونها من دونه؟ وهذا تكلف يفسد المعنى..
فإن سؤالهم هنا عما يرونه واقعا تحت أبصارهم فى مواجهة ما رأى النبي ببصره من آيات ربّه الكبرى.. فهذه هى مواقع أبصارهم وما تراه، وهذا هو موقع بصر النبي وما رآه.. وشتان بين موقع وموقع، وبين ما يرى على تراب الأرض، وما يرى فى عالم الحقّ، ومطالع النور..!!
واللات: صخرة كانت لثقيف.. اتخذت منها صنما تعبده.
والعزّى: معبود من معبودات قريش.
ومناة: معبود من معبودات قريش أيضا..
وفى وصف «مناة» بالأخرى تشنيع عليها، وعلى ما عطفت عليه من أصنام قبلها.. إنها شرّ يضاف إلى شر، وبلاء يجتمع إلى بلاء، وسخف يلتقى مع سخف..
وليس قوله تعالى: «الأخرى» نعتا للعزّى، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، وأن هذا الوصف أخّر رعاية للفاصلة، على تقدير: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى». وذلك حسب تقدير المفسّرين، أن الأخرى إنما تجىء وصفا للثانية، لا الثالثة من هذه الدّمى المعبودات.
599
وهذا تعليل مردود من وجوه:
فأولا: أن الفاصلة- كما قلنا- فى أكثر من مرة- لا ينظر إليها فى القرآن الكريم من وراء المعنى، فهى تبع للمعنى، وليس المعنى تبعا لها..
وثانيا: أن «الأخرى» جاءت هنا وصفا لمناة، بعد وصفها بأنها الثالثة..
فهى وصف متعيّن لها دون غيرها، وإحالته إلى غيرها تبديل لكلمات الله..
وثالثا: أن وصف مناة بالأخرى، بعد وصفها بأنها الثالثة، ليس مرادا به آخر المعبودات التي تقع تحت أبصار المشركين، بل هناك غيرها كثير.. وإنما المراد بهذا الوصف استثقال هذه المسميات، وقطع الحديث عما لم يذكر منها، وأن مناة هى آخر ما يذكر من هذه الشناعات، التي تتأذى بسماعها النفوس! إنها ثالثة الأثافىّ، أو ثالثة الهموم، وإن النفس لتضيق بهمّ واحد، فكيف بهمّ، وثان، وثالث؟
ولو كان همّا واحدا لاحتملته ولكنه همّ وثان وثالث! قوله تعالى:
«أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى!» هو استفهام إنكارى، ينكر على المشركين ضلالهم فى أسماء هذه المسميات بعد أن أنكر عليهم المسميات ذاتها.. فهى ذاتها مسميات باطلة، والأسماء التي ركبت عليها أسماء باطلة كذلك، إذا أطلقوا عليها أسماء مؤنثة-، وجعلوها من عالم الإناث.. وهى فى حقيقتها ليست ذكورا، ولا إناثا، لأنها من عالم الجماد، الذي يقبل من الأسماء ما كان على لفظ المذكر أو المؤنث..
فلماذا اختاروا لمعبوداتهم جميعها أسماء مؤنثة؟ ولم لم يجعلوها مذكرة؟ ولم لم يجعلوا بعضها مؤنثا وبعضها مذكرا؟ إن ذلك كلّه لا يغير من حقيقتها شيئا..
600
فالبيت من الوبر، أو الشعر، يسمّى خباء، ويسمى خيمة.. وهو هو بيت من الوبر أو الشعر..! وهكذا كل جماد، قابل لأن يوضع له لفظ مذكر أو مؤنث، للدلالة عليه، وهو فى كل حال ليس مذكرا ولا مؤنثا! وفى هذا تسفيه لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم يتخذون من هذه الدّمى كائنات حية يلبسونها ثوب الإناث، ويناجونها مناجاة الأطفال للّعب التي يتخذونها من الخشب ونحوه، ثم يطلقون عليها أسماء ذوات حية، ينطقونها، ويتناجون معها، كما يتناجى الأطفال مع لعبهم من عرائس، وخيل ونحوها! ومن جهة أخرى، فإن هذه الدّمى التي يتخذها المشركون آلهة يعبدونها من دون الله، هى عندهم تماثيل لبعض الملائكة، الذين هم فى اعتقادهم بنات الله، وأنهم جميعا أناس ليس فيهم ذكور أبدا..
وقوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟» هو سؤال يكشف عن سفه هؤلاء المشركين وحمقهم، حتى فى مجال هذا العبث الذي هم فيه.. إذ كيف يسوّغ لهم هذا البعث أن يتخذوا من الجماد صورا للملائكة؟ ثم يجعلون الملائكة بنات ينسبون بنوتها إلى الله، ثم يعبدونها تقربا إليه بها؟ أما كان الأولى بهم- وهم فى مقام التقريب إلى الله- أن يجعلوا ما ينسبون له من ذرية- أن يكون من الذكور، الذين هم عندهم فى مقام الحب والإعزاز، لا من الإناث الذين يسوءهم أن يولد منهن مولودة لأحد منهم؟. «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» سفها، وضلالا..
وقوله تعالى: «تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» - هو تعقيب على قوله تعالى:
«أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى».. وهو حكم واقع على فعلهم هذا فى نسبة البنات إلى الله، على حين يجعلون الذكور مطلبا لهم، ومبتغّى يبتغونه.. وهذا جور
601
فى القسمة بينهم وبين الله، حتى فى حكم هذا المنطق الضالّ الذي يملى عليهم هذه التصورات الفاسدة.. أفلا يجعلون الله مساويا لهم، فيكون له من الذرية- حسب منطقهم- بنين وبنات، كما أن لهم بنين وبنات؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» (٤٠: الإسراء).
والقسمة الضيزى: هى القسمة الجائرة، التي تنقلب فيها موازين العدل رأسا على عقب.
وكلمة «ضيزى» فى غنّى عن تفسير مدلولها، فهى فى بنائها وتركيبها من هذه الحروف الثقيلة، المتنافرة التي تجمع بين الضاد والزاى- تحكى عن صورة من الخلط والتخبط والجمع بين المتضادات، والمتنافرات، مما لا يقع إلا من المجانين والصرعى..!
قوله تعالى:
«إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ».
أي هذه المعبودات التي تطلقون عليها هذه الأسماء، ليست إلا مجرد أسماء ليس وراءها شىء يمكن أن ينتفع به، وأن هذه الأسماء هى من ضلالات آبائكم، وقد ورثتموها عنهم، كما ورثتم جهلهم وسفههم.
قوله تعالى:
«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى».
أي ما يتبع هؤلاء المشركون إلا ما تفيض به ظنونهم الفاسدة، وما تمليه عليهم أهواء أنفسهم المريضة.
وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» تسفيه، وتنديد بهؤلاء المشركين
602
الذين يتبعون الظنون الباطلة، والأهواء الفاسدة، ويتخبطون فى عمّى وضلال، فى الحال التي يقوم فيها بين أيديهم آيات بينات من ربهم، لو استقاموا عليها لاهتدوا ورشدوا.. إن الضالّ، له عذره إذا ضل، وليس بين يديه معلم من معالم الهدى أما أن يضل، وكل معالم الهدى بين يديه، فهو الملوم المذموم بكل منطق وبكل لسان!! قوله تعالى:
«أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى».
المراد بالاستفهام هنا النفي. أي أنه ليس للإنسان أن ينال كل ما تمنّيه به نفسه، ويدعوه إليه هواه.. وخاصة إذا كانت هذه الأمانى صادرة من عقول سقيمة، ونفوس مريضة، كتلك العقول، وهذه النفوس، التي يعيش بها هؤلاء المشركون.
فالمراد بالإنسان هنا، هو ذلك الإنسان الذي يقيم حياته على أوهام، وضلالات، ثم ينتظر الخير من وراء هذه الأوهام وتلك الضلالات.
وقوله تعالى: «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» - إشارة إلى أن الإنسان- أىّ إنسان- لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، فى الدنيا، أو الآخرة.. فالله سبحانه وتعالى يملك الأمر كله، لا شريك له.. وأن من أراد أن ينال الخير فى الدنيا والآخرة، فليطلب ذلك من الله سبحانه وتعالى، وليسع إلى مرضاته، والقرب منه، بما ينزل عليه من آياته، وما يقدّم إليه بين يدى رسله من هدى ونور..
فذلك وحده، هو السبيل إلى تحصيل الخير والفوز به.
وقدمت الآخرة على الأولى، لأنها هى الأولى، بابتغاء الخير فيها، والعمل لها، وعقد الآمال عليها، وتعليق الأمانىّ بها.
603
قوله تعالى:
«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى».
أي أنه إذا كان المشركون يتعلقون بالملائكة، ويعبدونهم من دون الله، ويرجون منهم الشفاعة لهم عند الله، فإن ذلك لا يغنيهم من الله من شىء..
إذ كان الملائكة أنفسهم هم تحت سلطان الله، لا ينالون شيئا إلا بما يأذن الله سبحانه وتعالى لهم به. إنهم ومن يعبدونهم سواء فى العجز عن التصرف فى شىء من ملك الله.. وإنه لضلال بعيد أن يطلب الخير ممن لا يملكه، ولا يطلب من مالك الملك ذى الجلال والإكرام.
«وكم» فى قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ» - خبرية، يراد بها الكثير..
والسؤال هنا، هو: إذا كان قد انتفى عن كثير من الملائكة أن يشفعوا إلا لمن أذن له الرحمن منهم فى الشفاعة، ورضى شفاعته فيمن شفع له، فهل هذا يعنى أن بعضا من الملائكة غير هذا الكثير- تغنى شفاعته من غير إذن من ربه؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن المراد بالخبر هنا، هو ردّ على معتقد المشركين، فى شفاعة هذه المعبودات التي خلعوا عليها أسماء، اخترعوها لها من أهوائهم، وجعلوها بهذا بنات الله، وأنها تشفع لهم عند الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر) وكما يقول جل شأنه: «وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (١٨ يونس).. فأخبر سبحانه فى هذه الآية، بأن الملائكة الحقيقين فى السماء، لا هذه الدمى التي يمثلون
604
بها الملائكة- هؤلاء الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن من الله.. فكيف يكون لهذه الدعوى- التي تلبس زورا صفة الملائكة- كيف يكون لها أن تشفع عند الله؟
ومن جهة أخرى، فإن هذا الاستثناء يعنى أن كثيرا من الملائكة لا يؤذن لهم بالشفاعة، وأما الملائكة الذين تقبل شفاعتهم، فهم الذين يأذن الله سبحانه وتعالى لهم بذلك، ويقبل منهم قولهم فيمن شفعوا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» (٣٨: النبأ).
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى» هو تشنيع على هؤلاء المشركين، الذين يطلقون على الملائكة أسماء مؤنثة، باعتبار أنهم أناث، وأنهم بنات الله!.
وفى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» - إشارة إلى أن آفة المشركين إنما هى فى إنكارهم للبعث، ولما بعد البعث من الحياة الآخرة، وهذا ما دعاهم إلى إنكار رسالة الرسول فيهم، والتي من محاملها الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان بالله.. فهؤلاء المشركون مستعدون لأن يؤمنوا بالله، ولكن على شريطة ألا يكون الإيمان بالله مستدعيا الإيمان باليوم الآخر.. والإيمان كلّ لا يتجزأ..
فمن آمن بالله، وكفر باليوم الآخر، وبرسل الله، فهو على غير الإيمان الصحيح المقبول..
قوله تعالى:
«وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً».
أي ما لهم بهذا القول الذي يقولونه فى الملائكة، من علم قائم على الحق، أو
605
وارد من موارده.. وإنما هو عن ظنون وأوهام، وإن الظن إذا لم ينته بصاحبه إلى اليقين، هو ضلال مبين «لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» أي لا يقوم مقام الحق فى أي موقع من مواقعه، ولا يمسك الممسك به إلا بقبض من ريح!.
قوله تعالى:
«فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا».
هو استخفاف بهؤلاء المشركين المعاندين، وأنهم ليسوا أهلا لأن يرص عليهم، ويبالغ فى الطلب لخلاصهم.. فليتركوا ليد الهلاك والضياع..
فذلك هو جزاء الظالمين.. إنهم أعرضوا عن ذكر الله، وردّوا اليد المبسوطة لهم بالهدى، وأبوا أن يؤمنوا بالآخرة، وأن يعملوا لها، وجعلوا الحياة الدنيا هى كل حياتهم، فأغرقوا أنفسهم فيها، واستهلكوا وجودهم فى السعى لها..
قوله تعالى:
«ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى».
أي ذلك الذي يعيش فيه المشركون، من إعراض عن ذكر الله، وعن الخشية من لقائه يوم القيامة، واستفراغ وجودهم كله فى الحياة الدنيا- هو غاية علمهم الذي حصّلوه بعقولهم الفاسدة.. فهم إنما كان همّهم كله منصرفا إلى الحياة الدنيا، فوجهوا عقولهم إليها، وحصلوا من العلم ما يصلهم بهذه الحياة، ويمكن لهم فيها.. وهو علم تافه، يمسك بالقشور من حقائق الأشياء، ولا ينفذ إلى صميمها، ولبابها.. ولو أن علمهم بالحياة الدنيا، كان علما قائما على فهم صحيح، وإدراك سليم، لكان لهم من هذا العلم سبيل إلى الإيمان بالله، واليوم الآخر.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (٧: الروم)..
606
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى»..
هو تهديد للمشركين، الذين يحسبون أنهم لن يبعثوا، ولن يحاسبوا، وأنه ليس هناك معقب على ما تمليه عليهم أهواؤهم من ضلالات.. وكلّا، فإن الله يعلم ما فى السموات والأرض، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.. «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (١١١: هود)..
الآيات: (٣١- ٥٥) [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣١ الى ٥٥]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠)
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠)
وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥)
607
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى»..
هو تأكيد لمعنى ما تضمنه قوله تعالى فى الآية السابقة،: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» أي أن علم الله سبحانه وتعالى علم محيط بكل شىء، وليس مقصورا على علم ما يقع من الناس، من ضلال أو هدى، بل إن له سبحانه ما فى السموات وما فى الأرض..
لا شريك له فيهما، وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فهو عالم علما محيطا بكل شىء: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٤: الملك) وقوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» - هو تعليل يكشف عن الحكمة فى علم الله سبحانه وتعالى بمن
608
ضلّ عن سبيله، ومن اهتدى.. فليس هذا العلم لمجرد العلم، بل هو علم وراءه عمل، هو مجازاة كل عامل بما عمل، وبما كشف هذا العلم عما عمل.. وهو مثل قوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (٤- ٥: الفتح).
وفى اختلاف النظم بين قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا»، وقوله تعالى: «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» والذي كان من مقتضى ظاهر النظم أن يقال: ليجزى الذين أساءوا بالسوأى، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى- فى هذا إشارة إلى أن مجازاة الذين أساءوا بالسوأى، ليست حتما مقضيّا فى كل حال، بل إن رحمة الله سبحانه وتعالى قد تنال هؤلاء المسيئين، فيعفو الله سبحانه وتعالى عن سيئاتهم كلها أو بعضها، كما يقول سبحانه: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» (٣: الشورى).. وكما يقول جل شأنه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (٤٥: فاطر)..
فالمسيئون فى معرض رحمة الله، إن شاء رحمهم وعفا عنهم، وإن شاء أخذهم بذنوبهم، أو ببعض ذنوبهم.
وأما فى مقام الإحسان، فالأمر مختلف.. فإن المحسنين هم فى مواجهة رحمة الله وفى التعرض لها، من باب أولى.. وهم لهذا مجزيون بإحسانهم، بل وبمضاعفة هذا الإحسان.. فذلك مما تقضى به رحمة الله، ويوجبه عدله..
609
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (٥٦: يوسف). وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (٢٦: يونس)..
[الّلمم.. والمعفوّ منه]
قوله تعالى:
«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى»..
هو بدل من قوله تعالى: «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى».. وهذا هو أشبه بعطف البيان،. إذ أنه لا يستحق الذين أحسنوا هذا الوصف بالإحسان، إلا إذا كانوا ممن يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم، وإلا فهم من الذين أساءوا، وليس لهم مدخل إلى الذين أحسنوا، إذ أنه لا يجتمع الإحسان مع مقارفة الكبائر، وإتيان الفواحش..
وكبائر الإثم، أشنعها، وأفظعها، وعلى رأسها الكفر بالله، والشرك به..
والفواحش، هى المنكرات، وعلى رأسها الزنى، فهو فاحشة الفواحش..
واللمم: هو الإلمام بالفاحشة، والطواف حولها، دون الوقوع فيها..
فهذا الإلمام، وإن كان من قبيل الفاحشة، إلا أنه مما ترجى مغفرته من الله، الواسع المغفرة.. وذلك أن الذي ألمّ بالفاحشة، وحام حولها، ثم ردّه عن الوقوع فيها خوفه من الله، وخشيته له، وحياؤه منه- جدير
610
بأن ينزع عن هذا اللمم، مادام هذا الشعور بالخوف من الله قائما فى قلبه!..
وإنه لمن التأويل الفاسد والفجور الآثم، أن يقف المؤمن عند حدود الفاحشة، فلا يأتيها، ثم يستبيح لنفسه الحوم حولها، والإلمام بها، وغشيان حماها، متخذا من قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» مدخلا يدخل به إلى مباءة الفاحشة، دون تحرّج أو تأثم، بهذا التأويل الفاسد الآثم، الذي يتأول عليه بعض المتأولين.
وكلّا، فإن الّلمم بالفاحشة ذريعة إلى الفاحشة، وطريق ممهد إليها.. وأن من يحوم حول الحمى يوشك أن يواقعه، كما يقول الرسول الكريم.. وإن سدّ الذرائع أمر من أوامر الإسلام، وشريعة من شرائعه.. فقد حرمت الشريعة قليل الخمر، ولو قطرات، كما حرمت كثيره، لأن قليله يدعو إلى كثيره، المفضى إلى السكر الذي هو علة تحريم الخمر..
فكذلك اللمم من الفاحشة، كالنظرة الفاجرة، أو الخلوة بغير المحرم من النساء، أو اللمس، أو التقبيل.. فهذا وإن لم يكن الفاحشة التي هى الزنى، فإنه الطريق إلى الزنى، والمحرك للشهوة، والمطلق لها من عقالها، الأمر الذي إن حدث، غلب الإنسان على أمره، وأفلت الزمام من يده، فوقع فى المحذور الذي يتوقاه..
فاستثناء اللمم ليس مبيحا له فى الآية الكريمة، أو رافعا الإثم عنه، بل هو مأثم، إن لم يكن فى عظم مأثم الفاحشة نفسها، فهو بعض منها..
وهذا الاستثناء، إنما هو من باب الرحمة بالإنسان، والتخفيف عن ضعفه البشرىّ، فى حال- وليس فى مطلق الأحوال- يغلبه فيه ضعفه، فتندّ منه النظرة، أو تفلت منه الهفوة، ثم سرعان ما يدركه إيمانه ويهتف به وازع الخشية من ربّه، فيرجع إلى ربّه من قريب، فيجد ربّا غفورا، رحيما، يلقاه بالمغفرة
611
ويلبسه لباس الإيمان الذي كاد يتعرّى منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها..»
(٦٠- ٦٢: المؤمنون) فهؤلاء هم الذين أحسنوا، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وهؤلاء هم الذين يقعون تحت حكم قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ».. فإن اللمم الذي يجترحونه، هو من جراحات معركة قد كانت حامية الوطيس، بين أهواء النفس، وبين وازع الإيمان بالله، والخشية له، والخوف منه.. وإن جراحات هذه المعركة، التي أصيب فيها المؤمن المجاهد لأهواء نفسه وشهواتها، لتجد لها عند الله، من مرهم الرحمة والمغفرة، ما يعفّى عليها، ويذهب بآثارها، ويكتب العافية والشفاء، للمصاب بها..
أما الذين يتخذون من قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» رخصة إلى تقحّم هذه المنكرات، واستساغة مطمعها الخبيث، واعتياد غشيان مواقعه، والتردّد على موارده- فإنه مهلكة لا نجاة منها، وجراحات لا شفاء لها، وإنه لهو الحرب السافرة لله، ولشريعة الله، إنه لهو العدوان المتعمد على حدود الله..
«وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (١: الطلاق).
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ».. ليس بالذي يغرى بالجرأة على الله، وبمجاوزة الإلمام بالفاحشة إلى مقارفتها والوقوع فيها، وإنما هو عند الذين فى قلوبهم إيمان بالله، وحياء منه، وخشية له- داعية إلى الإقبال على الله، وإلى السعى حثيثا إلى ساحة فضله، وإحسانه، ليلقى المؤمن ربه بقلب سليم وكيان نظيف يليق بهذه الساحة الكريمة التي يحلّ بها..
وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي
612
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى».
هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ».. أي إنه- لعلم الله بكم أيّها الناس، وبما فيكم من ضعف وعجز عن مغالبة بعض أهوائكم، فإنه- سبحانه- قد أوسع لكم فى رحمته، وتجاوز عن الصغائر واللمم من ذنوبكم، فإنكم مهما اجتهدتم فى تحرّى الإحسان، وفى الاحتفاظ بفطرتكم على نقائها وصفائها فلن تحققوا هذا، وإن حققتم الكثير منه، ولن تبلغوا الغاية وإن قاربتموها.. فالذين يدخلون منكم مدخل الإحسان ويحسبون فى المحسنين، لم يكن ذلك لهم وإنما كان بإحسان الله سبحانه وتعالى إليهم، وتجاوزه عن الكثير من ذنوبهم..
وقوله تعالى: «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ».. إشارة إلى مقتضى هذه المغفرة الواسعة التي شمل بها بنى الإنسان إذ هم من نبات هذه الأرض، ومن معطيات ترابها، وليسوا من عالم النور.. فهم- والحال كذلك- لن يتخلصوا أبدا من ظلام المادة، ولن يتحوّلوا إلى عالم الرّوح، وهم فى هذه الأجساد المخلّقة من الأرض! وإنه لولا سعة مغفرة الله، لما كان لإنسان أن يكون من المحسنين، الذين يرتفع بهم إحسانهم إلى عالم الحقّ، ولما كانوا من أهله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين..
وقوله تعالى: «وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ».. معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ».. فهذه حال أخرى من أحوال الإنسان، تكشف عن ضعفه، وأنه فى يد العجز وأن يد الله سبحانه وتعالى، هى التي أخرجته من هذا الضعف إلى القوة، كما أن مغفرته الواسعة، هى التي أخرجته من عالم التراب، وألحقته بعالم الحقّ والنور..
فالظرفان: (إذ، وإذ) فى قوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ
613
الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ»
ليسا قيدا لعلم الله بالناس فى حالتى نشأتهم من الأرض، ووجودهم فى بطون أمهاتهم، وإنما هما ظرفان يشيران إلى هذين الوقتين اللذين يكون الإنسان فيهما، فى حال أشبه بالعدم، إذا هو نظر إلى نفسه فيهما، وقد صار كائنا عاقلا رشيدا، يخاطب من الله، ويتهيأ للدخول فى عالم الحق والنور..
وقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» النهى عن تزكية النفس هنا، ليس مرادا به الكفّ عن طلب ما يزكى النفس، ويطهرها، فالعمل على تزكية النفس، وتطهيرها مما يخالطها من ذنوب وآثام، هو أمر مطلوب دائما من كل إنسان يطلب الفلاح والنجاة، كما يقول سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (١٤، ١٥: الأعلى) وكما يقول جل شأنه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (٧- ١٠ الشمس) فالمراد بالنهى عن التزكية فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» - هو النهى عن الاطمئنان إلى النفس، وعدّها مزكّاة مطهرة، لا تحتاج إلى تزكية وتطهير..
فإن النفس التي خالصت تراب الأرض، ولبست هذا الجسد الترابي، لن تكون أبدا على حال كاملة من النقاء والطهر، بل هى دائما فى حاجة إلى زكاة وتطهير.. فلا تحسبوا أنفسكم مزكاة مطهرة.. بل هى دائما فى حاجة إلى تزكية وتطهير..
فالنهى عن تزكية النفس هنا، هو نهى عن إخلاء النفس من مشاعر الاتهام لها بالهوى، والنظر إليها نظرة لا ترفعها إلى درجة الكمال، وهذا من خداع النفس، الذي يزين المرء سوء عمله، ويريه من ذاته، أنه أوفى على غاية الإحسان..
614
والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً»..
(٨: فاطر)..
وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» أي أن الله سبحانه وتعالى، هو أعلم بمن تزكى وتطهر منكم، أما أنتم فلا تعلمون ما بلغت نفوسكم من تزكية وتطهير..
فقد يرى المرء منكم نفسه فى حال معجبة له من الطهر، والزكاة، وهو ملطخ بالآثام، غارق فى المنكرات، وقد يخيل لأحدكم أن أعماله مبرورة مقبولة، وهى مردودة عليه.. فالذى يعلم حقيقة الإنسان، وما هو فيه من خير وشر، وما هو عليه من هدى وضلال- هو الله سبحانه وتعالى، كما يقول جل شأنه:
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» (٢٢٠: البقرة) وإذن، فإن المطلوب من الإنسان أن يكون دائما متهما لنفسه، طالبا السعى إلى غسلها من الأدران، متعهدا لها بالنظافة فى كل وقت، كما يتعهد جسده بالغسل والنظافة.
وفى التعبير عن التزكية والتطهير بالتقوى فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» بدلا من أن يقال هو أعلم بمن تزكى، الذي يقتضيه فى الظاهر سياق النظم- فى هذا إشارة إلى أن «التقوى» هى وسيلة التزكية والتطهر وأن من أراد أن يطهر نفسه ويزكيها، فلا سبيل له إلا بالتقوى.. والتقوى- كما يقول بعض العارفين: «هى أن يراك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك».
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى».
الاستفهام هنا تعجبى إنكارى، من هذا الإنسان الضال، الذي أعجب بنفسه، فحمله هذا الإعجاب على أن يتمنّى هذه الأمانى الباطلة، ويعدها تلك الموعود الخادعة، ويحسب بذلك أنه أربح الناس صفقة، وأهداهم سبيلا..
615
فالمناسبة ظاهرة بين هذه الآية والآيات التي قبلها، والتي كان من دعوتها، ألّا يحسن الإنسان الظن بنفسه، وألا يزكيها، ويعللها بتلك الأوهام الخادعة..
فجاءت هذه الآية عارضة لضحية من ضحايا الخداع النفسي، الذي يورد صاحبه موارد الضلال والهلاك..
وقوله تعالى: «تولّى» أي أعرض عن ذكرنا، وكذّب برسولنا.
وقوله تعالى: «وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى».. الواو هنا واو الحال، والجملة حال من فاعل «تولى» على تقدير الحرف «قد» بعدها، أي تولى وقد أعطى قليلا وأكدى.
وإعطاء القليل، هو ما أعطاه من نفسه من ميل قليل إلى الاستجابة للرسول والإيمان به.. ثم لم يلبث أن غلبته نفسه الأمارة بالسوء، واستبدّ به طبعه النكد فنكص على عقبه، وأبى على هذه الشرارات المضيئة أن تنطلق من نفسه، فتضىء له طريقه إلى الله.. فأمسك بها، وأطفأ جذوتها.
وقوله تعالى: «وأكدى» أي شحّ وبخل، وصار أشبه بالكدية، وهى الأرض الصلبة، التي لا تنبت نباتا، ولا تفجر ماء.
وقوله تعالى: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى» استفهام إنكارى لهذا الاتجاه الذي أخذه هذا الضال، بعد أن أقام وجهه قليلا على مطلع الهدى والنور ثم عدل عنه..
فعلى أي أساس أقام وجهه على هذا الطريق الضال؟ وبأية حجة أو برهان قدر لنفسه هذا الخير الذي يمنيها به على هذا الطريق؟ أطّلع الغيب، فرأى عاقبة أمره، وما ينتظره على هذا الطريق؟ أم أنه يضرب على غير هدى، لا يصحبه على طريقه هذا إلا السراب الخادع الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الحسرة والندم ملء يديه؟.. ومثل هذا قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ
616
الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً»
(٧٧، ٧٨: مريم).
وقد اختلف فى شخص هذا الشقي الذي تحدثت عنه هذه الآيات، بما تمنيه به نفسه من كواذب الأمانى وأباطيلها.
والرأى- عندنا- أن هذا الحديث لم يقصد به واحد بعينه من هؤلاء المخدوعين بأنفسهم، والذين جذبتهم أنوار الإسلام إليه، ثم لم يلبثوا أن ارتدوا على أدبارهم خاسرين.. فكثير من مشركى مكة كان لهم مثل هذا الموقف المتردّد بين الإقبال على الإسلام، والإدبار عنه، ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى تحددت مواقفهم، فمضى بعضهم فى طريقه إلى الإسلام، ونكص بعضهم على عقبه، نافرا، مستكبرا.
قوله تعالى:
«أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى».
أي: ألم يعلم هذا المتأمّى على الهدى، ما فى صحف موسى، وما فى صحف إبراهيم؟
والمراد بالاستفهام هنا طلب هذا العلم الغائب عنه، وأنه إذا كان هذا الضال لم يعلم بما فى صحف موسى وإبراهيم، فليطلب هذا العلم، مما سنبينه له فى الآيات التالية.
ووصف إبراهيم عليه السلام، بأنه وفيّ، إشارة إلى ما كان منه من الوفاء بالرؤيا التي رأى فيها أنه يذبح ولده، فعرضه للذبح، وهمّ بذبحه، كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا! إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (١٠٣- ١٠٥: الصافات).. فهذا من إبراهيم هو غاية الوفاء، بما لله سبحانه عليه من طاعة وولاء.
617
ولم يقدّم موسى على إبراهيم هنا، رعاية للفاصلة، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، ولكن كان ذلك- والله أعلم- لأن موسى أقرب عهدا بالمخاطبين بهذه الآيات من إبراهيم.. وذلك فى مقام البحث عن صحف هذين النبيين الكريمين، وأخذ ما فيهما من أحكام.. ففى هذا المقام يمتدّ النظر إلى أقرب الصحف، وهى صحف موسى، ثم يتجاوزها إلى صحف إبراهيم.
أما فى المقام الذي يراد به الترتيب الزمنى لهذه الصحف، فإن القرآن الكريم يضع هذا الترتيب موضع الاعتبار، فيقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (١٨، ١٩: الأعلى). فالقرآن هنا يشير إلى الصحف الأولى، التي حملت رسالات السماء.. فإذا ذكر من هذه الصحف صحف إبراهيم وموسى، كانت صحف إبراهيم مقدمة فى الذكر على صحف موسى.. أما فى مقام الاتصال بها، والإفادة منها، فإن هذا يقضى بأن يدلّ أولا على ما كان العهد به أقرب.. ثم الذي هو أقدم منه عهدا.
وهكذا نرى كلمات الله، ناطقة بالحق، واضعة الأمور مواضعها، فى أدق وضع وأحكمه.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (٨٢: النساء).
قوله تعالى:
«أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى».
618
هذه الآيات، هى بيان لما فى صحف موسى، وإبراهيم، مما جهله هذا الذي تولّى وأعطى قليلا وأكدى..
ففى هذه الصحف، هذه الأحكام التي يدين الله بها عباده، وهى: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل كل امرئ بما كسب رهين.. وأنه «لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» فلا يضاف إليه شىء من فعل غيره، ولا يضاف من سعيه شىء إلى أحد..
«وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» أي ينظر فيه ويحاسب عليه «ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» دون أن ينقص من سعيه شىء..
ومما فى هذه الصحف «أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» أي منه تصدر الأمور، وإليه منتهاها، ومرجعها، كما يقول سبحانه: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى»
(٨: العلق) أي المعاد الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء.
ومما فى هذه الصحف أيضا، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يردّ كل ما يساق إلى الناس مما يسرهم أو يسوءهم، فهو سبحانه الذي أضحك من أضحك، وأبكى من أبكى، وهو سبحانه الذي أمات من أمات، وأحيا من أحيا.. وأنه سبحانه هو الذي خلق الزوجين- الذكر والأنثى- من نطفة، لا يدرى أحد ماذا تعطى من ذكور أو إناث.. فهى لا تعدو أن تكون ماء على طبيعة واحدة، ولكن بعضه يعطى ذكورا، وبعضه يخرج إناثا.. حسب تدبير الله سبحانه وتقديره..
وفى قوله تعالى: «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى».. إشارة إلى مبدأ الحياة فى الكائنات الحية، وأنها تبدأ فى هذه الجرثومة السابحة فى هذا المنىّ.. والمنىّ قبل أن يمنى ويخرج من الرجل إلى المرأة، يكون فى حالة لم تنضج فيها جرثومة الكائن الحىّ، الذي تغرس بذرته فى الأنثى.. فإذا خرج المنىّ من الرجل فى
619
حالة اتصاله بالمرأة، كان هذا المنىّ قد نضج واستوى، وحمل فى كيانه جرثومة الحياة..
ومما فى هذه الصحف.. أن الله سبحانه وتعالى، سيبعث الموتى، ويخرجهم من الأرض مرة أخرى، كما كانوا فيها قبل أن يولدوا الولادة الأولى..
ومما فى الصحف أيضا، أن الله سبحانه، هو الذي أعطى من أعطى، وحرم من حرم.. فكان الغنىّ وكان الفقير «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى»..
فالإغناء يكون عن عطاء، والإقناء يكون عن منع..
والإقناء، ليس من القنية، كما يقول المفسرون، الذين جعلوا الإقناء مرادفا للإغناء.. أي أنه سبحانه أعطى ما يغنى الأغنياء، ويمكنهم من اقتناء الضياع، والقصور، والمتاع.. أي أغنى، وأعطى ما فوق الغنى.
وهذا- والله أعلم- لا يتفق مع نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات، مقابلة بين الشيء وضده: الضحك والبكاء، والموت والحياة، والذكر والأنثى..
إنه لخروج على هذا النسق أن يكون الغنى، مقابلا للاقتناء الذي هو بمعنى الغنى أيضا! وذلك من غير داعية تدعو للخروج على هذا النسق..
فقوله تعالى: «أقنى».. هو- والله أعلم- بمعنى منع، وحرم.. وهو مأخوذ من قنى المرء الشيء، إذا صانه، وضن به كأفنى واقتنى، ومنه قول الشاعر:
فاقنى حياءك لا أبالك إننى فى النائبات النازلات لفارس أي صونى حياءك، وضنى به، ولا تقفى موقفا يكشف هذا الحياء ويعريه..
فالإقناء من الله سبحانه وتعالى بمعنى المنع، أي أنه سبحانه أغنى أناسا، ومنع المال عن أناس، ولم يغنهم.
620
ويبقى بعد هذا سؤال:
كيف يكون قوله تعالى: «أقنى» بمعنى صان وحفظ، ثم يكون الحفظ والصون فى مقابل الغنى، أي ضده، مع أن الحفظ والصون يوازن الغنى قدرا، ويرجحه؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن قوله تعالى: «أقنى» بمعنى صان وحفظ، يدلّ بظاهره على الفقر، الذي هو ضد الغنى، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حين أغنى كثيرا من أهل الضلال والكفر، قد أخلاهم لأنفسهم، فأطغاهم هذا المال، وزادهم ضلالا وكفرا، على حين «أقنى» سبحانه أولياءه والصالحين من عباده، وصانهم من فننة المال وطغيانه، فلم يسلّط عليهم الدنيا، ولم يبلهم بحبها.. ثم هم مع ذلك أغنياء بقلوبهم المأنوسة بنور الإيمان بالله، والطمع فى رحمته..
وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى»..
أي ومما فى صحف موسى وإبراهيم، الإخبار عنه جل وعلا، بأنه رب الشعرى وهى نجم فى السماء، يسمى الشعرى العبور، يطلع من جهة الجنوب..
وكانت بعض قبائل العرب تعبد هذا النجم باسم الشعرى..
وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى».. ومما فى أخبار هذه الصحف أيضا، أن الله سبحانه أهلك عادا الأولى، ثم أهلك بعدها ثمود..
فلم يبق منهم باقية..
ووصفت عاد بالأولى، لأنها متقدمة زمنا على الأمم التي حفظ التاريخ لها ذكرا.. فهى أول أمة بعد قوم نوح..
وقوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى»..
621
معطوف على قوله تعالى: «أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ..» أي وأهلك قوم نوح الذين كانوا قبل قوم عاد.. فليس هذا الهلاك الواقع بتلك الأمم المتتابعة إلا لظلمها، وطغيانها، فهى جميعها ظالمة طاغية، وإن كان بعضها أكثر من بعض ظلما وطغيانا..
قوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى».. معطوف على قوله تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى» أي وأهوى المؤتفكة..
والمؤتفكة، هى قرية قوم لوط، وقد ائتفكت بأهلها أي انقلبت رأسا على عقب، ومنه الإفك، لأنه قلب للحق..
قوله تعالى: «فَغَشَّاها ما غَشَّى».. أي ألبسها من ثياب العذاب والنكال..
ما ألبس.. وفى تجهيل «ما غشى».. إشارة إلى أن هذا البلاء لا يحيط أحد بوصفه، إذ كان على غير ما يعرف الناس، أو يتخيلون، من صور التدمير والهلاك..
قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى» - هذا سؤال موجه إلى هذا الإنسان الذي يمثل كل إنسان والذي أوقفته الآيات السابقة موقف المحاكمة فى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى.. الآيات» وقد عرضت عليه فى هذه الآيات صور من قدرة الله، وتدبيره فى خلقه، وأن ما تحدث به آيات القرآن الكريم من عرض لقدرة الله، ليس بدعا من القول، وإنما هو مما تحدثت به آيات الله كذلك فى صحف إبراهيم وموسى.. فالله سبحانه، واحد، لا شريك له، قديم لا أول له.. وأن الناس جميعا فى كل زمان ومكان، هم عبيده، وفى قبضة سلطانه..
والسؤال فى الآية الكريمة تقريرى.. أي هذه هى نعم الله، وتلك آلاؤه، فبأيها يكذب المكذب، ويمارى الممارى؟ وهل يستطيع مفتر أن يجرؤ
622
على أن يقول، أنا أضحك وأبكى، وأحيى وأميت، وأغنى وأقنى.. ؟
ولقد قالها من قبل ذلك الذي حاجّ إبراهيم فى ربه: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ».. ولكنها قولة ضالة، سرعان ماماتت على شفة قائلها، حين قال له إبراهيم: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ.. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ».
والآلاء: النعم..
وتتمارى: من المراء، وهو المجادلة بغير حق..
وفى عدّ البكاء، والموت، والفقر، والمهلكات التي نزلت بالظالمين- فى عد هذه من الآلاء والنعم، إشارة إلى أنها من عند الله، وما كان من عند الله، فهو نعمة، وإن بدا فى ظاهره، أو فى المواقع التي وقع بها أنه نقمة..
الآيات: (٥٦- ٦٢) [سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٦ الى ٦٢]
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠)
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى»..
623
الإشارة إلى ما أخذ الله سبحانه وتعالى به أهل الشرك والضلال من الأمم السابقة- من بلاء ونكال.. وأن فى هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم، نذيرا يطلع عليهم من الأزمنة الغابرة، ليريهم ما حلّ بالضالين المكذبين برسل الله السابقين..
قوله تعالى:
«أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ»..
أزفت: أي قربت، وحان حينها، وأظلّ زمانها..
والآزفة: القريبة، وهى يوم القيامة، وسميت آزفة لأنها قريبة، وإن ظن الناس أنها بعيدة، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً»..
وكما يقول سبحانه فى أول سورة القمر، التي تجىء بعد هذه السورة: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ»..
ويقول سبحانه فى آية أخرى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.»
ومعنى أزفت الآزفة، أي قربت القريبة، فهى قريبة بذاتها، ومع هذا فقد قربت أكثر وأكثر..
وقوله تعالى: «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» - أي ليس لها من يكشفها، ويجلّيها- أي يظهرها- لوقتها، إلا الله سبحانه وتعالى..
والتاء فى قوله تعالى: «كاشفة» للمبالغة، مثل راوية، ونابغة.. أي ليس الساعة عند أهل العلم والكشف عن الخفايا ضابط لها، مقدر لوقتها، مظهر لوجودها، ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي عنده علم الساعة، وهو سبحانه الذي يجلّيها لوقتها..
624
قوله تعالى:
«أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ»..
هذا الحديث- إشارة إلى قوله تعالى مخبرا عن الساعة: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ».. فالمشركون إذا سمعوا هذا الحديث عن قرب يوم الحساب والجزاء، عجبوا لهذا، واستنكروه، وجعلوه حديث سخرية واستهزاء بينهم..
وفى قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ» إنكار على هؤلاء المكذبين بالبعث والحساب، أن يتلقوا الحديث عن هذا اليوم، والنذر التي تنذرهم به، وتحذرهم لقاءه- أن يتلقوا هذا غير مكترثين به، ولا ملتفتين إليه، ولو عرفوا ما يلقى الناس فى هذا اليوم من أهوال، وما أعدّ للظالمين والضالين من عذاب- لو عرفوا هذا، لكثر البكاء، وقل الضحك، بل لما كان إلا البكاء المتصل، والوجوم الدائم.. خوفا من لقاء هذا اليوم العظيم!..
وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ سامِدُونَ» أي وأنتم غافلون فى صلف وكبر..
والسامد. هو البعير الذي يرفع رأسه، كأنه يبحث عن شىء فى السماء، ولا شىء!..
وقوله تعالى: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» - هو تعقيب على الاستفهام الإنكارى فى قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ..» أي إنكم أيها المكذبون بهذا الحديث، المستهزءون الساخرون منه، توردون أنفسكم موارد الهلاك، وإنكم إذا أردتم النجاة والخلاص، «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» أي فاخضعوا لجلال الله، واعبدوه، فهذا ما ينبغى أن يكون موقف المخلوق من خالقه، ولاء، وطاعة، وحمد، وتسبيح، وعبادة..
625
Icon