ﰡ
(مكية سوى آية نزلت بجحفة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ إلخ حروفها ٥٨٠٠ كلمها ١٤٤١ آياتها ٨٨)
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٢١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
ويرى بفتح الياء وإمالة الراء فرعون وهامان وجنودهما مرفوعات:
حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤا قوله وحزنا بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها.
الوقوف:
طسم كوفي. الْمُبِينِ هـ يُؤْمِنُونَ هـ نِساءَهُمْ ط الْمُفْسِدِينَ هـ الْوارِثِينَ هـ لا للعطف يَحْذَرُونَ هـ أَرْضِعِيهِ ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية وَلا تَحْزَنِي ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا. مِنَ الْمُرْسَلِينَ هـ وَحَزَناً ط خاطِئِينَ هـ وَلَكَ ط لا تَقْتُلُوهُ ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي.
لا يَشْعُرُونَ هـ فارِغاً ط الْمُؤْمِنِينَ هـ قُصِّيهِ ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت لا يَشْعُرُونَ هـ لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله فَقالَتْ عطف على قوله فَبَصُرَتْ والحال معترض ناصِحُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَعِلْماً هـ الْمُحْسِنِينَ هـ يَقْتَتِلانِ لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهرا ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه، وليس ببعيد أن يكون مستأنفا من عَدُوِّهِ الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من عَدُوِّهِ الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل الشَّيْطانِ ط مُبِينٌ هـ فَغَفَرَ لَهُ ط الرَّحِيمُ هـ لِلْمُجْرِمِينَ هـ يَسْتَصْرِخُهُ ط مُبِينٌ ط لَهُما لا لأن ما بعده جواب «لما» بِالْأَمْسِ ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل الْمُصْلِحِينَ هـ يَسْعى ز لعدم العاطف مع اتحاد القول مِنَ النَّاصِحِينَ هـ يَتَرَقَّبُ ز لما قلنا في يَسْعى الظَّالِمِينَ هـ.
التفسير:
فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء. نَتْلُوا عَلَيْكَ على لسان جبرائيل مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي طرفا من خبرهما متلبسا بِالْحَقِّ أو محقين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء. ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلا سأل:
وكيف كان نبؤهما؟ فقال مستأنفا إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي طغى وتكبر في أرض مملكته وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافا في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك، أو فرقا مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم
دعاة إلى الخير وعن قتادة: ولاة أي ملوكا. ومعنى الوراثة والتمكين في أرض مصر والشام هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد.
قال ابن عباس: إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها: قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حبا شديدا فاحفظيه. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها. فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا:
لم دخلت القابلة عليك؟ قالت: إنها حبيبة لي دخلت للزيارة. فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت: يا أخت موسى أين الصبي؟ فقالت: لا أدري سمعت بكاءه في التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في النيل. فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر.
وقيل: لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في الوقت وهو مؤمن آل فرعون. وانطلقت أم موسى وألقته في النيل، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا: يا أيها الملك لا تبرأ
قال علماء البيان: اللام في قوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد هنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلا نتيجة المجيء في قولك «جئتك لتكرمني» وبعبارة أخرى، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوه هذه اللام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضا. ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم أذنبوا وأجرموا، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم. قال النحويون قُرَّتُ عَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ ولا تَقْتُلُوهُ خبرا لأن الطلب لا يقع خبرا إلا بتأويل، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب.
روي في حديث أن آسية حين قالت قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ قال فرعون: لك لا لي،
ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء. قال في الكشاف وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من آل فرعون. وقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ الآية. جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا. وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. قلت: لا يبعد أن تكون الجملة حالا من فاعل قالَتْ أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمئال وهو أن هلاكهم على يده وبسببه. وقال الكلبي: أي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه.
ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون. ثم قال لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بوعد الله وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لولا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه. والأول أظهر بدليل قوله وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أي اقتفي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته عَنْ جُنُبٍ عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها. والتحريم هاهنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهرا فلذلك قيل: إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه. وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه.
وعن الضحاك: أن أمه أرضعته ثلاثة أشهر فعرف ريحها. والْمَراضِعَ جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع، أو جمع مرضع وهو الثدي، أو الرضاع، فالأول مكان والثاني مصدر ومِنْ قَبْلُ أي من قبل قصصها أثره، أو من قبل أن رددناه إلى أمه، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا.
روي أنها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون.
والنصح إخلاص العمل من شائبة
ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلا: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وزاد هاهنا قوله وَاسْتَوى فقيل: بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد. والأصح أنهما متغايران. والأشد عبارة عن البلوغ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة. وعن ابن عباس:
الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين. وهو عند الأطباء سن الوقوف. فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف. والعلم التوراة، والحكم السنة، وحكمة الأنبياء سنتهم- قيل: ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ لا تفيد الترتيب. قلت: يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة.
وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً [الشعراء: ٢١] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو
يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون.
وقيل: إن الإسرائيلي هو السامري فَاسْتَغاثَهُ سأله أن يخلصه منه فَوَكَزَهُ أي دفعه بأطراف الأصابع أو بجمع الكف فَقَضى عَلَيْهِ أي أماته وقتله. الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا: إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وقال رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنبا؟ وأيضا قوله هذا مِنْ عَدُوِّهِ يدل على أنه كان كافرا حربيا وكان دمه مباحا والاستغفار من القتل المباح غير جائز.
وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر. فقوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفا الله، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه، والاستغفار من ترك الأولى سنة المرسلين، أو أراد أني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به فَاغْفِرْ لِي فاستره على هذا كله. إذا سلم أنه كان نبيا في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة: في قوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله. ولقائل أن يقول: الشيطان من خلق الله فضلا عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئا آخر كما قررنا.
وقال القفال: الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرما. وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى. وقال الكسائي والفراء: إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال: فلا تجعلني ظهيرا والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة. عن ابن عباس: أنه لم يستثن أي لم يقل. فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى. وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية، ولئن صحت فلعله أراد أنه جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه، وبعد موت القبطي من الوكز فَأَصْبَحَ موسى من غد ذلك اليوم خائِفاً يَتَرَقَّبُ الأخبار وما يقال فيه فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد. فغويّ بمعنى غاو. وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغو لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء. قال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف. وقال آخرون: بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا أن يكون قولا للكافر. قال جار الله:
الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل: هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل. وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أي من أبعد مسافاتها إليه. وقوله يَسْعى صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفا. قال العلماء: الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفا وفي «يس» أن يكون صلة، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلا. والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمره ومعنى يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون بسببك. وقوله لَكَ مِنَ
كقوله فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: ٢٠] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة. فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ المكروه من جهتهم وأن يلحق به قالَ ملتجئا إلى الله رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنبا وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص.
التأويل:
إِنَّ فِرْعَوْنَ النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية وَجَعَلَ أَهْلَها وهم الروح والسر والعقل أصنافا في الاستخدام لاستيفاء الشهوات يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً وهم صفات القلب، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ للاستعداد الفطري. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ النفس وَهامانَ الهوى وَجُنُودَهُما من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. أُمِّ مُوسى السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر أَنْ أَرْضِعِيهِ من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية. فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ في الدنيا في تابوت القالب وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم: حدثني قلبي عن ربي فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل لِيَكُونَ لَهُمْ في العاقبة عَدُوًّا يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات. وَحَزَناً بترك الشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في أسباب اللذات الحسيات. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بأن ينجينا من النار. قال أهل التحقيق: لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم. فُؤادُ أُمِّ مُوسى هو سر السر، أخت موسى القلب هو العقل. ودخل مدينة القالب عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها وهم الصفات النفسانية فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ صفتين. إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس. وفي قوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ لأنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس. وَجاءَ رَجُلٌ هو العقل مِنْ أَقْصَى مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٢٢ الى ٤٢]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦)
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١)
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
رَبِّي أَنْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويصدر بفتح الياء وضم الدال: ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب. الآخرون بضم الياء وكسر الدال إِنِّي أُرِيدُ سَتَجِدُنِي إِنْ بفتح ياء المتكلم فيهما: أبو جعفر ونافع إِنِّي آنَسْتُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ وإِنِّي أَخافُ بفتح ياء المتكلم في الكل: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وو لعلي آتيكم بفتح الياء: هم وابن عامر جَذْوَةٍ بفتح الجيم: عاصم وبضمها حمزة وخلف. الباقون بكسرها. مِنَ الرَّهْبِ بفتح الراء وسكون الهاء: حفص، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وسكون الهاء فَذانِكَ بتشديد النون: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو مَعِي بالفتح: حفص ردا بغير همز: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف يُصَدِّقُنِي بالرفع: حمزة وعاصم يُكَذِّبُونِ بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل قال موسى بغير واو: ابن كثير رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ومن يكون على التذكير: حمزة وعلي وخلف والمفضل لا يرجعون بفتح الياء وكسر الجيم: نافع ويعقوب وعلي وخلف.
الوقوف:
السَّبِيلِ هـ يَسْقُونَ هـ لأنه رأس آية عند الأكثرين مع عطف المتفقتين تَذُودانِ ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل خَطْبُكُما ط الرِّعاءُ ز لأن ما بعده منقطع لفظا ومعنى كأنه قال: فلم خرجتما فقالتا تعريضا بالاستقامة وأبونا شيخ كَبِيرٌ ط فَقِيرٌ هـ عَلَى اسْتِحْياءٍ ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل، ومن وقف على تَمْشِي ويجعل على استحياء حالا مقدما أي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف لَنا ط لأن جواب «لما» منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب «لما». لا تَخَفْ ز لأن قوله نَجَوْتَ غير متصل به نظما وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيما وقد نجوت من ظلم فرعون الظَّالِمِينَ هـ اسْتَأْجِرْهُ ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل الْأَمِينُ هـ حِجَجٍ ج للشرط مع الفاء عِنْدِكَ ج لابتداء النفي مع الواو عَلَيْكَ ج الصَّالِحِينَ هـ وَبَيْنَكَ ج لابتداء الشرط عَلَيَّ ط وَكِيلٌ هـ ناراً هـ لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل تَصْطَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ لا عَصاكَ ط لحق الحذف أي فألقاها
التفسير:
ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله إلى مدين. وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى. أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان. وأما أنه اعتمد على فضل الله فلقوله. عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسطه وجادّته نظيره قول جده إبراهيم عليه السلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي. قال السدي: لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال: لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين. عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وكان بئرا فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور. وَجَدَ عَلَيْهِ أي على شفيره ومستقاه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ جماعة كثيرة العدد أصنافا يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال. وقيل: تذودان الناس عن غنمهما. وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر. وبالجملة حذف مفعول تَذُودانِ لأن الغرض تقرير الذود لا المذود. وكذا في يَسْقُونَ ولا نَسْقِي المقصود هو ذكر السقي لا المسقي، وكذا في قراءة من
سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك. وَأَبُونا شَيْخٌ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور، ولعل العرب وخصوصا أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحا للمروءة. وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعد ما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس. وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب. أما قوله فَسَقى لَهُما فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان: أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلا فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة- أقوال- فأقلها وحده وسقى أغنامهما، كل ذلك في شمس وحر. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاما يأكله. وعدي فَقِيرٌ باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاما إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال، وفيه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية. وقال بعض أهل التحقيق: أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكرا لله.
يروى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي
وذلك قوله سبحانه فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قيل: من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ عن عطاء بن السائب أنه حين قال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي.
وقد روي أنها حين قالت: ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمنا حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا.
الجواب: العمل بقول الواحد حرا أو عبدا ذكرا كان أو أنثى سائغ في الأخبار، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف، ويؤيده ما
روي أن موسى تبعها فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق. قال الضحاك: لما دخل عليه قال له: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب.
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفا من فرعون وملئه ف قالَ له شعيب لا تَخَفْ من فرعون أو ضيما نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلا سلطان لفرعون بأرضنا قالَتْ إِحْداهُما وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قال النحويون: جعل القوي الأمين اسما لكونه معرفة صريحة أولى من جعل «أفعل» التفضيل المضاف اسما لكونه قريبا من المعرفة، ولكن كمال العناية صار سببا للتقديم. وورود الفعل وهو اسْتَأْجَرْتَ بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وقال المحققون: إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذي يقوم بأمرك، فقد حصل مرادك وكمل فراغك. عن ابن عباس أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال: وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب رأسه أي خفضه حين بلغته رسالته، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ وليس هذا عقدا حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقدا لقال أنكحتك ابنتي فلانة. وفي قوله هاتَيْنِ دليل على أنه كانت له غيرهما. قال أهل اللغة: تَأْجُرَنِي من أجرته إذا كنت له أجيرا فيكون ثَمانِيَ حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون الثماني مفعولا به ثانيا ومعناه رعية ثماني حجج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أي عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح- بالحاء لا بالجيم- قال أهل الاشتقاق: حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه. ثم أكد وعد المسامحة بقوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ عموما أو في باب حسن المعاملة. وقوله إِنْ شاءَ اللَّهُ أدب جميل كقول إسماعيل سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: ١٠٢] أي على الذبح. وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته. استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهرا كالمال،
روي عن النبي ﷺ أنه تزوّج كبراهما
وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين.
قال القاضي في قوله فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر. قال أهل اللغة: الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن، وشاطىء الوادي جانبه، و «من» الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة، فالثانية بدل من الأولى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكليم. احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله مِنَ الشَّجَرَةِ وقال أهل السنة: مما وراء النهر إن الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو الصوت والحرف دال على كلام الله. وذهب الأشعري إلى أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعا كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية.
روي أن شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفا فشعر بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا.
وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه، ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك. وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة
والفرق بين هذه العبارة وبين قوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وهاهنا الغرض إخفاء الخوف أو أراد بالجناح المضموم هاهنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ اليد اليسرى، وقيل: إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد. من قرأ فَذانِكَ بالتخفيف فمثنى ذاك، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نونا وأدغمت. وسميت الحجة برهانا لبياضها وإنارتها من قولهم «امرأة برهرهة» أي بيضاء، والعين واللام مكررتان. والدليل على زيادة النون قولهم «أبره الرجل» إذا جاء بالبرهان ونظيره «السلطان» من السليط الزيت، لإنارتها. وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج. وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعا أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحدا منها. ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذرا رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً الآية. والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به ويُصَدِّقُنِي بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله وَلِيًّا يَرِثُنِي [مريم: ٦] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول: صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلا يستويان فيه. ويجوز أن يكون الضمير في يُصَدِّقُنِي لفرعون. وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو ببيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قال الجبائي:
إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل ما لا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة. ولقائل أن يقول: لعله سأله مشروطا على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما
قال جار الله معنى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد. والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة. وقوله بِآياتِنا إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا، أو متعلق بظاهر وهو نَجْعَلُ أو فَلا يَصِلُونَ. ويجوز أن يكون بيانا ل الْغالِبُونَ كأنه قيل: بماذا نغلب؟ فقيل: بآياتنا. وامتنع أن تكون صلة ل الْغالِبُونَ لتقدمه، ويجوز أن تكون قسما جوابه فَلا يَصِلُونَ مقدما عليه مثله. ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك «زيد وأبيك منطلق» والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ لأن الدولة الباقية أعلى شأنا وسِحْرٌ مُفْتَرىً أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى. ومعنى ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ قد مر في سورة المؤمنين. قال جار الله فِي آبائِنَا حال عن هذا أي كائنا في زمانهم وأيامهم قلت: لا مانع من أن يكون الظرف لغوا ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته، أو أرادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى. وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد.
من قرأ قالَ مُوسى بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب. ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك وَقالَ مُوسى هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين.
وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ إفحام للخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون. وقوله وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور. وقيل: معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم ما سَمِعْنا بِهذا وقال جار الله: رَبِّي أَعْلَمُ
الأوّل قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول. وأما قوله غَيْرِي فقد تكلف له بعضهم أنه لم يرد به أنه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره.
الثاني قوله فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ وقد تكلفوا له هاهنا أيضا فقيل: إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو متعذر، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكما. فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين. والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلا منه أو تلبيسا على ملئه حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن.
يروى أن هامان جمع العمال حتّى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغا لا يقدر الباني أن يقوم عليه، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك.
وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه.
قال أهل البيان: إن صح حديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع. وإنما قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقل: اطبخ لي الآجر. لأن هذه العبارة أحسن، ولأن فيه تعليم الصنعة، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون. عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال: ما علمت أن أحدا بنى الآجر غير فرعون. والطلوع والاطلاع الصعود يقال: طلع الجبل واطلع.
وفي قوله سبحانه وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما
جاء في الحديث القدسي «الكبرياء
فهو كقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: ٦١] وفي قوله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين. وفي قوله فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر. استدلت الأشاعرة بقوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه. وقالت المعتزلة: معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال: جعله بخيلا وفاسقا إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. وقال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار. وقال بعضهم:
أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى استحقوا أن يقتدى بهم. ثم بين بقوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه. وقال في الكشاف: أراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي طردا وإبعادا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي من المطرودين المبعدين. وقال الليث: قبحه الله قبحا بالفتح وقبحا بالضم أي نحاه عن كل خير. وقال ابن عباس: من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين. وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين.
التأويل:
وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من أوصاف الروح يَسْقُونَ مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي. قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية: وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشأ منه الخفي، وهو لطيفة ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء. وكذا السر وهو لطيفة روحانية متوسطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح، مؤدية إلى القلب وهو أيضا بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإلهي، فإذا صدروا استقينا
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر. لا تَخَفْ نجوث فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ من النفس والجسد الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لأن القلب استفاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح ثَمانِيَ حِجَجٍ فيه أن الروح في تبليغ القلب إلى مقام الخفي يحتاج إلى تسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي: الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء. وتمام ذلك إلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على تلك الصفات الثمانية. وأما المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] إلا مؤمن موحد. فلما اتصف موسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجها إلى حضرة القدس آنَسَ من طور الحضرة نار نور الألوهية. وفي قوله لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين. نور يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن. وفي قوله لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ إشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان مِنَ الرَّهْبِ أي رهبة من فوات وصال الحضرة وَأَخِي هارُونُ هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً لأن النفس خلقت من أسفل عالم الملكوت ومنكسة، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجها إلى الحضرة فلهذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١] وما صدقت النفس ما رأت فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلى عالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ الشيطان عَلَى الطِّينِ البشرية
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٣ الى ٧٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
سِحْرانِ عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون ساحران تظاهرا بالتخفيف اتفاقا تجبى إليه بتاء التأنيث: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون على التذكير يعقلون بياء الغيبة، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء، علي والحواني عن قالون تَبَرَّأْنا مثل أَنْشَأْنا.
الوقوف:
يَتَذَكَّرُونَ هـ الشَّاهِدِينَ هـ لا للاستدراك الْعُمُرُ ج لاختلاف الجملتين مع العطف آياتِنا ج لما مر مُرْسِلِينَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ ما أُوتِيَ مُوسى ط مِنْ قَبْلُ ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل تَظاهَرا ج للتعجب من عنادهم كافِرُونَ هـ صادِقِينَ هـ أَهْواءَهُمْ ط مِنَ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ لأن الَّذِينَ مبتدأ يُؤْمِنُونَ هـ مُسْلِمِينَ هـ يُنْفِقُونَ هـ أَعْمالُكُمْ ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول عَلَيْكُمْ ط لذلك الْجاهِلِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط لعطف الجملتين المتفقتين بِالْمُهْتَدِينَ هـ أَرْضِنا ط لا يَعْلَمُونَ هـ مَعِيشَتَها ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب قَلِيلًا ط الْوارِثِينَ هـ آياتِنا ج للعدول مع اتفاق الجملتين ظالِمُونَ هـ وَزِينَتُها ج فصلا بين المعنيين المتضادّين وَأَبْقى ط تَعْقِلُونَ هـ الْمُحْضَرِينَ هـ تَزْعُمُونَ هـ أَغْوَيْنا ج غَوَيْنا ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل إِلَيْكَ ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل يَعْبُدُونَ هـ الْعَذابَ ج لجواز تعلق «لو» بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا، ويجوز تعلقها ب يَهْتَدُونَ والوقف على لَهُمْ أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم يَهْتَدُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحِينَ هـ وَيَخْتارُ ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد الْخِيَرَةُ هـ يُشْرِكُونَ هـ يُعْلِنُونَ هـ إِلَّا هُوَ ط وَالْآخِرَةِ ز لعطف الجمل تُرْجَعُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا ﷺ فذكر أوّلا أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنوارا للقلوب وإرشادا
وقال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد ﷺ قال: يا رب أرنيهم. قال: إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه: أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس.
وروى سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال في قوله وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: «كتب الله كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد: إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من
قوله وَلكِنْ رَحْمَةً أي ولكنا علمناك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ثم فسر الرحمة بقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة. وقيل:
كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم، فبعثه الله تعالى تقريرا لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة. قوله وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ هي امتناعية وجوابها محذوف. والفاء في قوله فَيَقُولُوا للعطف على أن تصيبهم. وقوله لَوْلا أَرْسَلْتَ هي تحضيضية. والفاء في فَنَتَّبِعَ جواب «لولا»، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلا منهما بعث على الفعل. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولا محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم. والحاصل أن إرسال الرسول لأجل إزالة هذا العذر. قال أصحاب البيان: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها «لولا» وجيء بالقول معطوفا عليها بفاء السببية تنبيها على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان، وفي هذا بيان استحكام كفرهم وتصميمهم. قال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت. وقال الكعبي: فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى. وقال القاضي: فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفا على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا. ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة.
ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله أَوَلَمْ يَكْفُرُوا وفيه وجوه:
أحدها أن اليهود أمروا قريشا أن يسألوا محمدا مثل ما أوتي موسى فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة. والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا
رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢/ ٣٨١، ٤٣٣). إلى قوله «سبقت غضبي».
[.....]
إن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا: إنه كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال الله تعالى في حقهم أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ. وقال الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير: أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا. وقال قتادة: أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف قالوا ساحران والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات. ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت. من قرأ ساحران بالألف فظاهر، وأما من قرأ سِحْرانِ فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر، أو على إرادة نوعين من السحر، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة. وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب. وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار. وفي تكرار قالُوا وجهان: أحدهما قالوا ساحران مرة وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين كافِرُونَ مرة. وثانيهما أن يكون قوله وَقالُوا معطوفا على أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ثم عجزهم بقوله قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ. قال ابن عباس فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج. وقال مقاتل: فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما. وهذا أشبه بالآية، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا. ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم. وإنما لم يقل «فإن لم يأتوا» لأن قوله فَأْتُوا أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوجين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى.
وفي قوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ حال كونه بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إشارة إلى فساد طريقة التقليد. استدلت الأشاعرة بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن. وقالت المعتزلة: الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقا ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: ١٧] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذرا لهم. ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله وَلَقَدْ
أي أنزلنا عليهم القرآن إنزالا متصلا بعضه في أثر بعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة. ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا ووعدا ووعيدا وقصصا وعبرا إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا.
ويحتمل أن يكون المراد: بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة بعد أخرى.
وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ قال قتادة: إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها، فلما بعث الله محمدا آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام. وقال مقاتل: نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من أرض الحبشة في السفينة، وثمانية جاؤا من الشام. وعن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. والتحقيق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلا في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا تعليل للإيمان به لأن كونه حقا من الله يوجب الإيمان به. وقوله إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، وذلك لما وجدوا في كتب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم، ومعنى مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل وجوده ونزوله. وفي قوله يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم أثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ وهي الطاعة السَّيِّئَةَ وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى. يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه. وقال السدي: عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول: سلام عليكم. مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم، ثم بالتحمل والتواضع. وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لأهل ذلك اللغو لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام توديع ومتاركة لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا
قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال:
فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله. قال: قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت.
وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: ٢٦].
واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:
٥٢] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان، وبحث الأشاعرة والمعتزلة هاهنا معلوم. وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا
يروى أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً
يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون البتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧] وبين مزيته بقوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ قالوا: الكل هاهنا بمعنى الأكثر. قلت: يحتمل أن يكون على أصله. وانتصب رِزْقاً على أنه مصدر لأن يُجْبى بمعنى يرزق، أو على أنه مفعول لأجله. وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة. وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمنا وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى. ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذرا لعدم الإيمان، فإن درجة الشهادة أعلى وأجل، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى. وفي الآية دلالة على صحة المحاجة. لإزالة شبهة المبطلين. قالت الأشاعرة: الأرزاق إنما تصل إليهم على أيدي الناس وقد أضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن أفعال العباد مستندة إلى الله. ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله.
ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد. وانتصب مَعِيشَتَها بنزع
بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن. ثم أجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالوا: تركنا الدين لأجل الدنيا. فبين تعالى بقوله وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية. أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم. ونبه على جهلهم بقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ ويرحم الله الشافعي حيث قال: إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير. نظير الآية
قوله ﷺ «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» «١».
قال البرهان: إنما السورة «وما أوتيتم» الواو وفي الشورى فَما أُوتِيتُمْ [الآية: ٣٦] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله هاهنا كثير تعلق، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمنة والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف. وإنما زاد في هذه السورة وَزِينَتُها.
لأن المراد هاهنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين، فالمتاع ما لا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة. وأما في «الشورى» فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو
في علي وحمزة وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. ثم ذكر من وصف القيامة قائلا وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي فاذكر ذلك اليوم. ومعنى الاستفهام في أَيْنَ التوبيخ والتهكم. ومفعولا تَزْعُمُونَ محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي. قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم الشياطين ورؤساء الكفر.
وهؤُلاءِ مبتدأ والَّذِينَ أَغْوَيْنا صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر أَغْوَيْناهُمْ والتقدير: هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا. قال أهل السنة: أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضا أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا. وقالت المعتزلة: يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن إغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: ٢٢] ثم قالوا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة.
وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى.
وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذارا ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ زعم جم غفير من المفسرين أن جواب «لو» محذوف. فقال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل: أراد ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئا ولكنهم صاروا
والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت. وزيفه الأشعري بأن الكافر لو أورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهرا. ولقائل أن يقول: السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل: جواب الأحمق السكوت. وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم أتبعه ذكر التائبين وأنهم من المفلحين. و «عسى» من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب. ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فأجاب الله تعالى عنها بقوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء. وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير. وقوله ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بيان لقوله وَيَخْتارُ والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم «محمد خيرة الله من خلقه». وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على ما يَشاءُ ثم يقول وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ قال أبو القاسم الأنصاري: يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله. فإن قيل: إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا: إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة. ثم قولهم «المستحق خير من
ويحتمل أن يكون عاما يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لما قبله لَهُ الْحَمْدُ فِي الدار الْأُولى على نعمه الفائضة على البر والفاجر وَفي الدار الْآخِرَةِ كقولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: ٣٤] وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف. قال أهل السنة: الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم. والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس. قال القاضي: إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضا بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر. وقال في التفسير الكبير: فيه نظر، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب. ولقائل أن يقول:
لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف. ثم بين بقوله وَلَهُ الْحُكْمُ أن القضاء بين العباد مختص به فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده، ولا على الزوجة حكم زوجها، ولا على الابن حكم أبيه، ولا على الرعية حكم سلطانهم، ولا على الأمة حكم رسولهم وإلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه.
التأويل:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] وَما كُنْتَ في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: ٨١] وما كنت في عالم الشهادة وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً في عالم الشهادة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك
بجذبات الألوهية من أرض الأنانية أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً في مقام الهوية يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ حقائق كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً من العلوم اللدنية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذوق العلم اللدني لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها إِلَّا قَلِيلًا من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي روحها لأن القلب من متولدات الروح رَسُولًا من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما
أوحى إلى عيسى «تجوّع ترنى تجرد تصل إلي»
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا راعوا
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧١ الى ٨٨]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥)
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
عِنْدِي أَوَلَمْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل. الباقون بالإسكان وَيْكَأَنَّ وَيْكَأَنَّهُ الوقف على الياء: أبو عمرو ويعقوب ويك الوقف على الكاف ووَيْكَأَنَّهُ موصولة: روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة. الباقون كلاهما موصولان لَخَسَفَ على البناء للفاعل: سهل ويعقوب وحفص رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو.
الوقوف:
بِضِياءٍ ط تَسْمَعُونَ هـ فِيهِ ط تُبْصِرُونَ هـ تَشْكُرُونَ هـ تَزْعُمُونَ هـ يَفْتَرُونَ هـ عَلَيْهِمْ ص لأن الواو للحال أي وقد آتيناه مع طول الكلام الْقُوَّةِ ط بناء على أن التقدير و «أذكر» إذ قال: وقال في الكشاف: إنه متعلق ب لَتَنُوأُ فلا وقف الْفَرِحِينَ هـ فِي الْأَرْضِ ط الْمُفْسِدِينَ هـ عِنْدِي ط جَمْعاً ط الْمُجْرِمُونَ هـ فِي زِينَتِهِ ط لعدم العاطف واختلاف القائل. قارُونُ لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ عَظِيمٍ هـ صالِحاً ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم الصَّابِرُونَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ق قد قيل: لتفصيل الاعتبار المُنْتَصِرِينَ هـ وَيَقْدِرُ ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول لَخَسَفَ بِنا ط الْكافِرُونَ هـ وَلا فَساداً ط لِلْمُتَّقِينَ هـ مِنْها ج لعطف جملة الشرط يَعْمَلُونَ هـ مَعادٍ ط مُبِينٍ هـ لِلْكافِرِينَ هـ ز للآية مع العطف الْمُشْرِكِينَ هـ للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي دخلت المعطوف عليه مع اتفاق الجملتين آخرا احترازا من إيهام كون ما بعده صفة آخَرَ هـ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ط وَجْهَهُ ط تُرْجَعُونَ هـ.
التفسير:
لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس. والمعنى: أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد، والميم زائدة، وانتصابه على أنه مفعول ثان لجعل أو على الحال، وإلى متعلق بجعل أو ب سَرْمَداً، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كمال قدرة الله تعالى قد تقدمت مرارا. قال جار الله: وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل: بِلَيْلٍ
لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه. قال الكلبي: أَفَلا تَسْمَعُونَ معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك. وقوله أَفَلا تُبْصِرُونَ معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال. وقال أهل البرهان: قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل. وإنما ختم الآية الأولى بقوله أَفَلا تَسْمَعُونَ بناء على الليل، وختم الأخرى بقوله أَفَلا تُبْصِرُونَ بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة. ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعا. وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكنا وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به. وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته. وفحوى الخطاب: أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم.
ومعنى وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً قال بعضهم: هو نبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضا. وقال آخرون: بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فَقُلْنا للأمة هاتُوا بُرْهانَكُمْ فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ورسوله وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل والزور. ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون. وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان «فاعولا» من قرن لانصرف. والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضا حمله على القرابة. قال الكلبي: إنه كان ابن عم موسى. وقيل: كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري. وقال:
إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي؟ وفي قوله فَبَغى عَلَيْهِمْ وجوه أحدها: أن بغيه استخفافه بالفقراء. وثانيها أنه ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. وقال
ولا تَفْرَحْ كقوله وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: ٢٣] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا
ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة. وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقا ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور. وفي قوله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ إشارة إلى قوله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: ٧] وإلى ما قال الحكماء: المكافأة في الطبيعة واجبة. والْفَسادَ فِي الْأَرْضِ المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي. وهذا القائل موسى عليه السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ.
وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلا إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قال قتادة ومقاتل والكلبي: كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال: إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك. وقال سعيد بن المسيب والضحاك: إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. وقيل: أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات. وقيل: أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك.
وقوله عِنْدِي الأمر كذلك أي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله أَوَلَمْ يَعْلَمْ الآية. قال علماء المعاني: يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتا لعلمه لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل: إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى. ووجه اتصال قوله وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات. وقال أبو مسلم: أراد أنهم لا يسألون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ عن الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الفاخرة. وقيل: في تسعين ألفا عليهم الثياب
أو بتأويل الجنة، أو إلى السيرة والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده، وظاهر حال قارون ينبىء عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واستهانة بنبيه وكتابه، فلا جرم خسف الله به وبداره الأرض. إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا: كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فأمر بما شئت. فقال: ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل فجعل لها ألف دينار أو طستا مملوءا من ذهب. فلما كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا.
قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك. فقال: يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط. ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه. ثم قال: خذيهم فانطبقت عليهم. فأوحى الله إلى موسى ما أفظك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا. قلت: لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد. ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على
ويكأن من يكن له نشب يح | بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر |
قال في الكشاف قوله تِلْكَ تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها. قلت: يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة. وفي قوله لا يُرِيدُونَ دون أن يقول «يتركون» زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: ١١٣] حيث علق الوعيد بالركون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته. ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص: ٤] وقال في قصة قارون وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وضعف هذا التخصيص بيّن لقوله في خاتمة الآية وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية، قد مر تفسير مثله في آخر «الأنعام» وفي آخر «النمل». وقوله فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال «فلا تجزون» إلا أنه أراد فضل تهجين لحالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكررا، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم. ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكليف التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. وقيل: أراد عوده إلى مكة يوم الفتح، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة
وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال قُلْ لأهل الشرك رَبِّي أَعْلَمُ يعني نفسه وإياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته. ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً قال أهل العربية: هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة، أو «إلا» بمعنى «لكن» أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك. ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مرارا أن مثل هذا النهي من باب التهييج له ولأمته.
ثم إن مرجع الكل إليه فقال كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه، والوجه يعبر به عن الذات، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعا به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء كما يقال «هلك الثوب وهلك المتاع» وقال أهل التحقيق: معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته، وإن سميت المعدوم شيئا فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمى هالكا.
استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية، وهذا يناقض قوله أُكُلُها دائِمٌ [الرعد: ٣٥] وعورض بقوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: ١٣٣] وأُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: ١٣١] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار. وقيل:
إلا العلماء فإن علمهم باق. ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم.
التأويل:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ نهار الوصل والتجلي قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ نهار الوصل بطلوع شمس التجلي سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كاد يستهلك وجوده،
وكان النبي ﷺ يقول «إنه ليغان على قلبي»
وقال لعائشة: كلميني يا حميراء.
وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب. وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف
قال في بعض الكتب المنزلة: عبدي أنا ملك حي لا أموت أبدا، أطعني أجعلك ملكا حيا لا تموت أبدا. عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون، أطعني أجعلك ملكا إذا قلت لشيء كن فيكون.
وعن النبي ﷺ «عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت»
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ هو مقام الفناء في الله والبقاء به قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان.