تفسير سورة المدّثر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

روى البخاري : عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله ﷺ :« جاورت بحراء فلما قضيت جواري، هبطت فنوديت، عن يميني، فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت : دثروني وصبوا عليَّ ماء بارداً - قال - فدثروني وصبُّوا عليَّ ماء بارداً، قال : فنزلت :﴿ ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ » وعن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه :« فبينا أنا أمشي إذْ سمعتُ صوتاً من السماء، فرفعت بصري قَبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقتل : زملوني، زملوني، فزملوني، فأنزل :﴿ ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ - إلى - ﴿ فاهجر ﴾ »، قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان، « ثم حمى الوحي وتتابع » وهذا السياق ثقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله :« فإذا الملك الذي كان بحراء »، وهو جبريل حين أتاه بقوله :﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ ﴾ [ العلق : ١ ]، ثم إنه حصل بعد هذه الفترة ثم نزل الملك بعد هذا، كما قال الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه سلم يقول :« ثم فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبَل السماء فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت لهم : زملوني، زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * والرجز فاهجر ﴾ ثم حمى الوحي وتتابع » وروى الطبراني، عن ابن عباس قال : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر، وقال بعضهم : ليس بساحر، وقال بعضهم : كاهن، وقال بعضهم : ليس بكاهن، وقال بعضهم : شاعر، وقال بعضهم : ليس بشاعر، وقال بعضهم : بل ساحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه سلم، فحزن وقنّع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ وقوله تعالى :﴿ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ أي عظّم ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ سئل ابن عباس عن هذه الآية :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ فقال : لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
2630
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
وفي رواية عنه : فطهر من الذنوب، وقال مجاهد :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ قال : نفسك ليس ثيابه، قال : نفسك ليس ثيابه، وفي رواية عنه : أي عملك فأصلح، وقال قتادة :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ أي طهرها من المعاصي، وقال محمد بن سيرين :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ أي اغسلها بالماء، وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلب الثياب عليه. وقال سعيد بن جبير ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ وقلبك ونيتك فطهر.
وقوله تعالى :﴿ والرجز فاهجر ﴾ قال ابن عباس : والرجز وهو الأصنام فاهجر، وقال الضحّاك ﴿ والرجز فاهجر ﴾ : أي اترك المعصية، وعلى كل تقدير، فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك كقوله تعالى :﴿ ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ [ الأحزاب : ١ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾، قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها، وقال الحسن البصري : لا تمتن بعملك على ربك تستكثره، واختاره ابن جرير، وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثرهم بها تأخذ عليه عوضاً من الدنيا، فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول، والله أعلم. وقوله تعالى :﴿ وَلِرَبِّكَ فاصبر ﴾ أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزَّ وجلَّ، قال مجاهد. وقال إبراهيم النخعي : اصبر عطيتك لله عزَّ وجلَّ. وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد :﴿ الناقور ﴾ الصور، قال مجاهد : وهو كهيئة القرن، وفي الحديث :« » كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ « فقال أصحاب رسول الله ﷺ وسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال :» قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا « »، وقوله تعالى :﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ أي شديد، ﴿ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ أي غير سهل عليهم، كما قال تعالى :﴿ يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [ القمر : ٨ ]، وقد روينا عن ( زرارة بن أوفى ) قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله تعالى :﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ شهق شهقة، ثم خرّ ميتاً رحمه الله تعالى.
2631
يقول تعالى متوعداً لهذا الخبيث، الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وقد عدّد الله عليه نعمه حيث قال تعالى :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ أي خرج من بطن أمه وحده لا ما له ولا ولد، ثم رزقه الله تعالى :﴿ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ أي واسعاً كثيراً، قيل : ألف دينار، وقيل : مائة ألف دنيار، وقيل أرضاً يستغلها، وقيل غير ذلك، وجعل له ﴿ وَبَنِينَ شُهُوداً ﴾ قال مجاهد : لا يغيبون، أي حضوراً عنده لا يسافرون، وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم، وكانوا فيما ذكره السدي ثلاثة عشر، وقال ابن عباس ومجاهد : كانوا عشرة، وهذا أبلغ في النعمة، وهو إقامتهم عنده، ﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾ أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ أي معانداً وهو الكفر على نعمه بعد العلم. قال الله تعالى :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾. روى ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد « عن النبي ﷺ ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ قال : هو جبل في النار من نار يكلف أنه يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت »، وقال ابن عباس ﴿ صَعُوداً ﴾ صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه، وقال السدي :﴿ صَعُوداً ﴾ : صخرة ملساء في جهنم يكلف أن يصعدها، وقال مجاهد :﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾ أي مشقة من العذاب، وقال قتادة : عذاباً لا راحة فيه، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ أي إنما أرهقناه صعوداً لبعده عن الإيمان لأنه فكّر ﴿ وَقَدَّرَ ﴾ أي تروّى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكّر ماذا يختلق من المقال ﴿ وَقَدَّرَ ﴾ أي تروّى ﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ دعاء عليه ﴿ ثُمَّ نَظَرَ ﴾ أي أعاد النظرة والتروي ﴿ ثُمَّ عَبَسَ ﴾ أي قبض بين عينيه وقطّب ﴿ وَبَسَرَ ﴾ أي كلح وكره، ومنه قول توبة بن حمير :
وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبُسُورها
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر ﴾ أي صرف عن الحق، ورجع القهقرى مستكبراً عن الانقياد للقرآن ﴿ فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ أي هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم ولهذا قال :﴿ إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر ﴾ أي ليس بكلام الله، وهذا المذكور في هذا السياق هو ( الوليد بن المغيرة ) المخزومي، أحد رؤساء قريش لعنه الله، قال ابن عباس :« دخل الوليد بن المغيرة أبي بكر »، فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا، وقالوا : والله لئن صبا الوليد لتصبو قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال : أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته، فقال الوليد : ألم تر إلى قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال : ألست أكثرهم مالاً وولداً؟ فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد : أقد تحدث به عيشرتي؟ فلا والله لا أقر ابن أي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة، وما قوله إلا سحر يؤثر، فأنزل الله على رسوله ﷺ :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ إلى قوله :﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾ وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل، فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وما أشك أنه سحر فأنزل الله :﴿ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ الآية، ﴿ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴾ قبض ماب ين عينيه وكلح، وروى ابن جرير عن عكرمة :
2632
« أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ﷺ، فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال : أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال : لم؟ قال : يعطونكه، فإنك أتيت محمداً تعرض له قبله، قال : قد علمت قريش إني أكثرها مالاً، قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال : فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة. وأنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال : فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾ حتى بلغ ﴿ تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ » وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قيل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه، فقال قائلون : شاعر. وقال آخرون : ساحر، وقال آخرون : كاهن، وقال آخرون : مجنون، كما قال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٨، الفرقان : ٩ ]، كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه، ففكر وقدر، ونظر عبس وبسر، فقال :﴿ فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر ﴾ قال الله تعالى :﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ أي سأغمره فيها من جميع جهاته، ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ ؟ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم، ثم فسر ذلك بقوله تعالى :﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾ أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم.
2633
ثم تبدل غير ذلك وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون.
وقوله تعالى :﴿ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴾ قال مجاهد : أي للجلد، وقال أبو رزين : تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل، وقال ابن عباس : تحرق بشرة الإنسان، وقوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ أي من مقدمي الزبانية، عظيم خلقهم، غليظ خلقهم، روى ابن أبي حاتم، عن البراء في قوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ قال :« إن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ عن خزنة جهنم، فقال : الله ورسوله أعلم، فجاء رجل فأخبر النبي ﷺ، فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذٍ ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ فأخبر أصحابه » وروى الحافظ البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :« جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : يا محمد، غلب أصحابك اليوم، فقال :» بأي شيء «؟ قال : سألتهم يهود : هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا ﷺ، قال رسول الله ﷺ :» أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا : لا نعلم، حتى نسأل نبينا ﷺ ؟ عليَّ بأعداء الله، لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة «، فأرسل إليهم فدعاهم، قالوا : يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال :» هكذا « وطبّق كفيه، ثم طبقه كفيه مرتين وعقد واحدة، وقال لأصحابه :» إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك « فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار، قال لهم رسول الله ﷺ :» ما تربة الجنة « فنظر بعضه إلى بعض، فقالوا : خبزة يا أبا القاسم، فقال :» الخبز من الدرمك « ».
2634
يقول تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً ﴾ أي خزانها ﴿ إِلاَّ مَلاَئِكَةً ﴾ أي زبانية غلاظاً شداً، وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم، فقال الله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً ﴾ أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون، وقد قيل : إن ( أبا الأشدين ) قال : يا معشر قريش أكفوني منهم اثنين، وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجاباً منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة. ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه، قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله ﷺ إلى مصارعته وقال : إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي صلى الله علثه وسلم مراراً فلم يؤمن، وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منا للناس، ﴿ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ أي يعلمون أن هذا الرسول حق، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله، وقوله تعالى :﴿ وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً ﴾ أي إلى إيمانهم بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم ﷺ، ﴿ وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي من المنافقين، ﴿ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ﴾ أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلاّ هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، وقد ثبت في حديث الإسراء عن صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة :« فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم ».
وروى الإمام أحمد، عن أبي ذر قال، قال رسول الله ﷺ :« » إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى « فقال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد »، وعن جابر بن عبد الله قال، « قال رسول الله ﷺ : ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف، إلاّ وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلاّ أنا لم نشرك بك شيئاً »
2635
وعن ابن مسعود أنه قال :« إن من السماوات سماء ما فيها موضع شبر إلاّ وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم، ثم قرأ :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ » [ الصافات : ١٦٥-١٦٦ ]. وروى محمد بن نصر، عن عباد بن منصور قال : سمعت عدي بن أرطأة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال : سمعت رجلاً من أصحاب النبي ﷺ عن رسول الله ﷺ قال :« إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلاّ وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجوداً منذ خلق السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عزَّ وجلَّ قالو : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك » وقوله تعالى :﴿ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ ﴾ أي النار التي وصفت ﴿ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ كَلاَّ والقمر * والليل إِذْ أَدْبَرَ ﴾ أي وّلى ﴿ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ ﴾ أي أشرق ﴿ إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر ﴾ أي العظائم يعني النار، قاله ابن عباس و مجاهد، ﴿ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ أي لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق، أو يتأخر عنها ويولي ويردها.
2636
يقول تعالى مخبراً أن ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ أي معتقلة بعملها يوم القيامة ﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين ﴾ فإنهم ﴿ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين ﴾ أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات، وأولئك في الدركات قائلين لهم ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين ﴾ أي ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا، ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين ﴾ أي نتكلم فيما لا نعلم، وقال قتادة : كلما غوى غاوٍ غوينا معه، ﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين * حتى أَتَانَا اليقين ﴾ يعني الموت كقوله تعالى :﴿ واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٩ ]، وقال رسول الله ﷺ :« أما هو - يعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين من ربه » قال تعالى :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين ﴾ أي من كان متصفاً بمثل هذه الصفات، فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، لأن الشفاعة إنما تنجح إذا كان المحل قابلاً، فأما من وافى الله كافراً، فإن له النار لا محالة خالداً فيها. ثم قال تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ أي كأنهم في نفارهم عن الحق، وإعراضهم عنه، حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد، وقوله تعالى :﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾ أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي ﷺ، قال مجاهد وغيره كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله الله ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، وفي رواية عن قتادة : يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل، فقوله تعالى :﴿ كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة ﴾ أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها. ثم قال تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾ أي حقاً إن القرآن تذكرة، ﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ كقوله :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الإنسان : ٣٠، التكوير : ٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة ﴾ أي هو أهل أن يخاف منه، وهو أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« قرأ رسول الله صلى عليه وسلم الآية ﴿ هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة ﴾ وقال :» قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له « ».
Icon