ﰡ
والحاصل:" أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار حراء؛ فنزل جبريل بآية ﴿ ٱقْرَأْ ﴾ كما في حديث البخاري، فذهب بها يرجف فؤاده، فقال لخديجة: زملوني، فنزل عليه ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ثم فتر الوحي، فحزن صلى الله عليه وسلم وجلع يعلو شواهق الجبال، ويريد أن يرمي بنفسه، فنودي وهو بغار حراء: يا محمد إنك رسول الله، قال: فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً، فنظرت فوقي، فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني، دثروني، فنزل جبريل وقال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ "والتدثر لبس الدثار، وهو الثوب الذي فوق الشعار، ما يلي الجسد. قوله: (أدغمت التاء) أي بعد قلبها دالا وتسكينها. قوله: (أي المتلفف بثيابه) أي من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك، وقيل: المتدثر بالنبوة والمعارف الإلهية. قوله: ﴿ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ إنما اقتصر على الإنذار، وإن كان معبوثاً بالتبشير أيضاً، لأنه في ذلك الوقت، لم يكن أحد يصلح للتبشير إلا ما قل جداً، فلما اتسع الإسلام نزل عليه﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾[الأحزاب: ٤٥].
قوله: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ أي خص ربك بالتكبير والتعظيم ظاهراً وباطناً، والفاء في هذا وما بعده، لإفادة معنى الشرط، كأنه قال: مهما يكن من شيء فكبر، والمعنى اعتقد أن ربك منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. قوله: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ (عن النجاسة) أي لأن طهارة الثياب، شرط في صحة الصلاة، لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، لأن المؤمن طاهر طيب، لا يليق منه أن يحمل خبيثاً، ففي هذا رد على المشركين، فإنهم كانوا لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يخالفهم في ذلك. قوله: (قصرها) أي لأن تطويل الثياب شأنه أصابة النجاسة، فعبر بالملزوم عن اللاز، وتقصير الثياب مطلوب لما في الحديث:" إزار المؤمن إلى انصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان على اسفل من ذلك ففي النار، فمن السفه أن يطيل الرجل ثيابه، ثم يتكلف رفعها بيديه "وود:" من جر إزاره خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة " قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أني أتعهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لست ممن يصنعه خيلاء "فيؤخذ من ذلك، أن تطويل الثياب بقصد الخيلاء حرام، أما من غير قصد بل لمجرد عادة أهل بلده مثلاً، فهو مكروه إن كان يتحفظ من النجاسة، وما ذكره المفسر أحد أقوال في تفسير الآية، وقيل: المراد طهر نفسك من الصفات المذمومة، كالعجب والكبر والرياء ونحو ذلك، مأخوذ من قولهم: فلان طاهر الثياب والذيل، إذا أراد وصفه بالنقاء من ادناس الأخلاق، ومن ذلك قول عكرمة: لا تلبسها على معصية ولا على غدر، وقال الحسن: خلقك فحسن، وقال سعيد بن جبير: قلبك وبيتك فطهر، وقال مجاهد: عملك فأصلح، وقيل: المراد بالثياب الأهل، أي طهرهم عن الخطايا بالموعظة والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وازاراً، قال تعالى:﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾[البقرة: ١٨٧] والآية صالحة لجميع تلك المعاني. قوله: ﴿ وَٱلرُّجْزَ ﴾ بضم الراء وكسرها سبعيتان، والزاي منقلبة عن السين ومعناهما واحد. قوله: (أي دم على هجره) دفع بذلك ما يقال: ظاهر الآية يقتضي أنه كان متلبساً بعبادة الأوثان وليس كذلك. قوله: ﴿ وَلاَ تَمْنُن ﴾ المن هنا الأنعام، والمعنى لا تعط شيئاً مستكثراً له، وقوله (حال) أي من فاعل ﴿ تَمْنُن ﴾.
قوله: (لا تعط شيئاً لتطلب أكثر منه) أي فالاستكثار هنا، عبارة عن طلب العوض، بأن يهب شيئاً، ويطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الشيء الموهوب، وقيل: المعنى لا تعط شيئاً مستكثراً له، أي رائياً ما تعطيه كثيراً، بل عدة قليلاً لقوله تعالى:﴿ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾[النساء: ٧٧]وقال البوصيري: مستقل دنياك أن ينسب الامساك منها إليه والإعطاءقوله: (أكثر منه) أي ولا مساوياً ولا أقل، فالمراد النهي عن طلب العوض مطلقاً، ليكون عطاؤه صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه، وحكمة تخصيصه بذلك، أنه عليه السلام خليفة الله الأعظم في خلقه دنيا وأخرى، يقسم عليه من خزائن الله تعالى، فجميع ما بذله لعباده بالنسبة لما عند الله قليل، فلا يليق أن يراه كثيراً، ولا أني طلب عوضاً من الفقراء، وهو خليفة عن الغني المطلق فتدبر. قوله: (وهذا) أي النهي، وقوله: (خاص به) أي وأما أمته فليس حرام في حقهم.
قوله: (أو مفعول معه) أي فالواو للمعية. قوله: (أو من ضميره المحذوف) أي عائده المحذوف من ﴿ خَلَقْتُ ﴾ أي خلقته ويحتمل أنه حال من التاء في ﴿ خَلَقْتُ ﴾ أي خلقته وحدي، لم يشاركني في خلقه أحد، والأول أقرب. قوله: (وهو الوليد بن المغيرة المخزومي) أي الذي تقدمت بعض أوصافه في سورة ن. قوله: ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ ﴾ عطف على ﴿ خَلَقْتُ ﴾ قوله: ﴿ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ اختلف في مبلغه، فقيل ألف دينار، وقيل ستة آلاف، وقيل تسعة آلاف مثقال فضة. قوله: (من الزروع) أي فكان له بستان بالطائف، لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً. قوله: (والضروع) أي المواشي. قوله: (عشرة) أي من الذكور، وقد وعد الخازن منهم سبعة وهم: الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، وقوله: (أو أكثر) قيل اثنا عشر، وقيل ثلاثة عشرة، وقيل سبعة عشر، وعلى كل، فقد أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد. قوله: ﴿ شُهُوداً ﴾ جمع شاهد بمعنى حاضر. قوله: (يشهدون المحافل) أي مجامع الناس لوجاهتهم بين الناس، أو المراد الحضور مع أبيهم، لعدم احتياجهم للسفر، فهو كناية عن كثرة النعم والخدم. قوله: (وتسمع شهادتهم) أي كلامهم. قوله: ﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾ التمهيد في الأصل التسوية والتهيئة، اطلق وأريد به بسط المال والجاه. قوله: (بسطت) ﴿ لَهُ ﴾ (في العيش والعمر والولد) أي حتى لقب ريحانة قريش والوحيد. قوله: ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ ﴾ عطف على ﴿ جَعَلْتُ ﴾ و ﴿ مَهَّدتُّ ﴾.
قوله: (لا أزيده) أي بل انقصه، فقد ورد: أنه بعد نزول هذه الآية، ما زال في نقصان ماله وولده، حتى هلك فقيراً بخدشه سهم أصابته في رجله، كما قال البوصيري: وأصاب الوليد خدشه سهم قصرت عنها الحية الرقطاء
قوله: ﴿ ثُمَّ عَبَسَ ﴾ يقال: عبس عبساً وعبوساً أي قطب وجهه، والعبس يطلب على ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول، وقوله: ﴿ وَبَسَرَ ﴾ يقال: بسر يبسر بسراً، وبسوراً إذا قبض بين عينيه كراهية للشيء واسود وجهه منه، يقال: وجهه وجه باسر، أي منقبض مسود، فالبسور غاية في العبوس. قوله: (والكلوع) مرادف للقبض. قوله: ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ عطب سبب. قوله: ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ ﴾ أي أمور تخييلية لا حقائق لها، وهي لدقتها تخفي أسبابها، وقوله: ينقل على السحرة، أي كمسيلمة وأهل بابل. قوله: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ ﴾ نتيجة حصره في السحر.
قوله: ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾ مفعول ثاني لجعل على حذف مضاف، أي إلا سبب فتنة، وقوله: ﴿ لِّلَّذِينَ ﴾ صفة لفتنة، وإنما صار هذا العدد فتنة لهم من وجهين: الأول أن الكفار يستهزئون ويقولون: لم لا يكونون أزيد من ذلك؟ والثاني أن هذا العدد قليل، كيف يتولى تعذيب أكثر العالم من الجن والإنس، من أول ما خلق الله إلى قيام الساعة؟ قوله: ﴿ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ متعلق بجعلنا الثاني، والمعنى: ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد وصدق القرآن، لما رأوا ذلك موافقاً لما في كتابهم. قوله: (من غيرهم) أي غير اليهود فحصل التغاير، فالمراد بالذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أولاً اليهود، والمراد بالذين أوتوا الكتاب ثانياً هم النصارى والمؤمنون المذكورون بعدهم من غير اليهود بل من هذه الأمة، فاندفع ما يقال إن في الآية تكراراً. قوله: (بالمدينة) حال من ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ أي حال كونهم بالمدينة، وهذا من الله إخبار بما سيقع، لأن السورة نزلت قبل الهجرة بمكة. قوله: ﴿ مَاذَآ ﴾ الخ، ما اسم استفهام مبتدأ، وذا موصول خبره، و ﴿ أَرَادَ ٱللَّهُ ﴾ صلة الموصول، و ﴿ مَثَلاً ﴾ حال، والمعنى: ما الذي اراد الله بهذا حال كونه مثلاً لا حقيقة لغربته، لأن هذا العدد أمر غريب لم تسعه عقولنا. قوله: (أي مثل إضلال) اشار به إلى أن الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف، أي يضل اضلالاً مثل ذلك. قوله: (وهدى مصدقه) بوزن رمى بفتح أوله وسكون ثانيه، أو بضم أوله وفتح ثانيه. قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ هذا جواب لأبي جهل حين قال: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر. قوله: (أي سقر) اعاد الضمير على سقر، ويجوز أن يعود على الآيات المذكورة فيها. قوله: ﴿ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴾ أي يتذكرون ويعلمون كمال قدرته تعالى. قوله: (استفتاح بمعنى ألا) أي فأتى بها تعظيماً للمقسم عليه، وحينئذ فالوقف على ما قبلها، وقيل: إنها حرف ردع وزجر، وعليه فيوقف عليها، قوله: (بفتح الدال) أي فإذا ظرف لما يستقبل، ودبر فعل ماض بوزن ضرب، وقوله: (في قراءة) الخ، أي فإذا ظرف لما مضى من الزمان و ﴿ أَدْبَرَ ﴾ بوزن أكرم، والقراءتان سبعيتان، والرسم محتمل لكل منهما، إذ الصورة الخطية لا تختلف، وقرئ شذوذاً ﴿ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ بألفين، واختلفوا أهل دبر وأدبر بمعنى واحد، أو أدبر معناه جاء، وأدبر بمعنى مضى، وهو الذي مشى عليه المفسر. قوله: ﴿ إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ ﴾ جواب القسم. قوله: (حال من إحدى) هذا أحد احتمالات كثيرة نحو احد عشر وهو اظهرها. قوله: ﴿ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ ﴾ الخ، هذا وعيد وتهديد نظير قوله:﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾[الكهف: ٢٩].
قوله: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ ﴾ الخ، الاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم. قوله: ﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴾ أي نعطيه ما يجب علينا عطاؤه، كزكاة ونحوها. قوله: ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ ﴾ أي في القرآن فنقول فيه: إنه لسحر وشعر وكهانة وغير ذلك من الأباطيل التي كانوا يخوضون فيها. قوله: ﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ تخصيص بعد تعميم، لأن الخوض في الأباطيل عامل شامل، لتكذيب يوم الدين وغيره، وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فيعذبون عليها زيادة على عذاب الكفر. قوله: ﴿ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ ﴾ غاية في الأمور الأربعة. قوله: (والمعنى لا شفاعة لهم) أي فالنفي مسلط على القيد والمقيد معاً، وهذا خلاف القاعدة، من أن النفي إذا دخل على مقيد، تسلط على القيد فقط، فهنا ليس المراد أنه توجد شفاعة لكنها غير نافعة، بل المراد لا توجد شفاعة أصلاً. قوله: (انتقل ضميره) أي الضمير الذي كان مستكيناً في المحذوف، وقوله: (إليه) أي إلى هذا الخبر الذي هو الجار والمجرور، لأن القاعدة أن الجار والمجرور إذا وقع خبراً، حذف متعقله وجوباً، وانتقل ضميره إليه، وسمي حينئذ ظرفاً أو جاراً ومجروراً، مستقراً لاستقرار الضمير فيه. قوله: (حال من الضمير) أي المجرور باللام. قوله: ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ﴾ حال من الضمير في ﴿ مُعْرِضِينَ ﴾ فهي حال متداخلة. قوله: ﴿ مُّسْتَنفِرَةٌ ﴾ بكسر الفاء وفتحها سبعيتان، أي نافرة بنفسها من أجل الأسد، أو نفرها الأسد، فقوله: (وحشية) ليس تفسيراً لمستنفرة، فكان المناسب تقديمه عليه. قوله: (أسد) وقيل القسورة الجماعة الذين يصطادونها. قوله: ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ ﴾ الخ، إضراب انتقالي عن محذوف، كأنه قيل: لا سبب لهم في الأعراض بل يريد الخ، وسبب نزول الآية أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك، حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان ابن فلان، ونؤمن فيه باتباعك، وكانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً، ليصبحن عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. قوله: ﴿ مِّنْهُمْ ﴾ أي من كفار قريش. قوله: ﴿ مُّنَشَّرَةً ﴾ أي طرية لم يطو، بل تأتينا وقت كتابتها يقرؤها كل من رآها.