تفسير سورة القصص

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة القصص من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

(انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى﴾ خبره ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق الذي لا مرية فيه؛ لا كقصص القصاصين، وأساطير الأولين
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ طغى وتكبر، وجاوز الحق. و «فرعون»: لقب لملوك مصر السابقين. قيل: إن فرعون موسى: هو منفتاح الأول، ابن رمسيس الثاني ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ أي فرقاً. وهذا شأن الملوك المستبدين: يفرقون بين الأمة، ويجعلونها شيعاً وأحزاباً ﴿وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ أي يترك البنات أحياء للخدمة، أو يفعل بهن ما يخل بالحياء
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ﴾ نتفضل وننعم ﴿عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ﴾ وظلموا، وغلبوا على أمرهم ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ يهتدى بهم في الخير، ويقتدى بهم في الدين ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ للحكم والملك؛ بعد فرعون
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ﴾ نجعل لهم مكانة ﴿فِي الأَرْضِ﴾ أرض مصر والشام ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ وزيره ومستشاره ﴿وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ﴾ أي من ﴿الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ﴾ وعلى رأسهم موسى وهرون ﴿مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ﴾ أي ما كانوا يخافون ويتوقعون: وهو القتل، وذهاب الملك. وقد كان لفرعون منجم؛ رأى له أن سيكون موته وذهاب ملكه على يد طفل من بني إسرائيل. فأمر عدو الله بقتل كل ولد يولد من بني إسرائيل. وذلك معنى قوله تعالى: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ وحي منام، أو إلهام. وقيل: وحي إعلام: بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام
-[٤٦٩]- ﴿فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ﴾ البحر ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ قد جمع الله تعالى في هذه الآية بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين وقد وضعته في صندوق وألقت به في اليم - كما أوحى إليها -
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ وهم أعوانه وشيعته ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ﴾ في عاقبة الأمر ﴿عَدُوّاً﴾ يسعى في هلاكهم؛ بسبب كفرهم ﴿وَحَزَناً﴾ سبب حزن لهم، وغم عليهم
﴿وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ﴾ لفرعون حين خشيت فتكه بموسى؛ كما يفتك بسائر أبناء بني إسرائيل ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ﴾ أي سبب سرور وسعادة لنا ﴿عَسَى أَن يَنْفَعَنَا﴾ في الخدمة ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ وكانت عاقراً لا تلد ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أنه عليه السلام سيكون مصدر حزنهم وشقائهم؛ بل ومصدر فنائهم
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ من العقل والتفكير؛ لفرط جزعها وهمها: حين سمعت بالتقاط آل فرعون له ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾
أي لتظهر أمر موسى، وأنه ابنها. قيل: إنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون؛ كادت تصيح: واإبناه ﴿لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ سكناه بالصبر والطمأنينة؛ وذكرناها بوعدنا السابق الصادق: ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقد صدق الله تعالى وعده، وأعز جنده
﴿وَقَالَتِ﴾ أم موسى ﴿لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي اتبعي أثره، وانظري خبره ﴿عَن جُنُبٍ﴾ عن بعد. قال تعالى: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ أي البعيد؛ ومنه الأجنبي. وقيل: عن جانب. أي من ناحية الجنب. وقيل: عن شوق؛ وهي لغة لقبيلة من معد يقال لها جذام
﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ جعلناه يرفض التقام ثدي المراضع اللاتي أحضروهن لإرضاعه ﴿فَقَالَتْ﴾ لهم أخته ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ يقومون بكفالته، وتربيته، وإرضاعه ﴿لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ حافظون محبون
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ كما وعدناها: ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ بقربه ﴿وَلاَ تَحْزَنِي﴾ لفقده وفراقه ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ الذي وعدها إياه ﴿حَقَّ﴾ واقع لا محالة
﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ موسى ﴿أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ أي بلغ نهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال؛ وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين، وهو أيضاً بلوغ الحلم ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً﴾ حكمة في فهم الأمور ﴿وَعِلْماً﴾ فقهاً في الدين؛ وذلك قبل أن يبعثه الله تعالى نبياً
﴿وَدَخَلَ﴾ موسى ﴿الْمَدِينَةِ﴾ مدينة فرعون؛ وهي منف، أو منفيس؛ وهي مكان بلدتا البدرشين وميت رهينة؛ بمحافظة الجيزة، وكانت هذه المدينة عاصمة ملك فرعون؛ وفيها قصوره ومعابده ﴿هَذَا مِن شِيعَتِهِ﴾ أتباعه وأنصاره ﴿وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ من أتباع فرعون ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ ضربه بجمع كفه «لكمه» ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ أي إن هذا التسرع في القتل من عمل الشيطان ووسوسته. ومن هنا نعلم أن التسرع في الحكم على الأشياء: مضيع للتدبر والحكمة، وموجب للأسى والندم؛ وهو من عمل الشيطان وتحريضه وقد حدث ذلك لموسى قبل بعثته؛ أما بعد النبوة: فالشيطان محجوب عن الأنبياء، ممنوع من إغوائهم والوسوسة إليهم؛ ألا ترى إلى قول الحكيم العليم ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ وقول اللعين ﴿وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بارتكاب القتل
﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ أي بحق إنعامك علي بإنجائي، واصطفائي ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً﴾ معيناً ﴿لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ الكافرين
﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً﴾ أن يؤخذ فيمن قتله بالأمس ﴿يَتَرَقَّبُ﴾ يتوقع المكروه ﴿فَإِذَا﴾ الرجل ﴿الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ﴾ طلب نصرته ومعونته ﴿بِالأَمْسِ﴾ ونصره بقتل عدوه ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾ يستغيث به على رجل قبطي آخر يقاتله
﴿لَغَوِيٌّ﴾ ضال ﴿مُّبِينٌ﴾ بين الضلال؛ لما فعلته بالأمس، وتفعله اليوم
﴿فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ﴾ موسى ﴿أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا﴾ أي عدو لموسى وللمستغيث به ﴿قَالَ يمُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ﴾ القائل لذلك هو القبطي؛ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن القائل: هو الإسرائيلي - المستصرخ بموسى - لما رأى من غضب موسى عليه السلام، وقوله له ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ وهو لا يتفق وسياق النظم الكريم ولقوله بعد ذلك لموسى ﴿إِن تُرِيدُ﴾ ما تريد ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ﴾ وهذا القول لا يقوله إلا الأعداء الألداء؛ خصوصاً والقتل السابق قد حصل دفاعاً عن الإسرائيلي، وانتقاماً له
﴿وَجَآءَ رَجُلٌ﴾ مؤمن ﴿مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ آخرها؛ بالنسبة لمكان موسى ﴿قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ﴾ قوم فرعون ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ يتشاورون في أمرك ﴿لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ﴾ من المدينة
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ يتوقع لحوق أعدائه به، أو «يترقب» نصرة الله تعالى له
﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ﴾ ناحية ﴿مَدْيَنَ﴾ هي قرية شعيب عليه السلام؛ وهي خارجة عن حكم فرعون ﴿سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ أي الطريق الصحيح المستوي؛ الموصل للنجاة والخير
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ وكانت بئراً يستقون منها ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً﴾ جماعة ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ﴾ أي سواهم؛ بعيداً عن الذين يستقون ﴿امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ﴾ تمنعان أغنامهما عن ورود الماء ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا﴾ ما شأنكما؟ وما الذي دعاكما إلى الابتعاد عن الماء؛ مع حاجتكما إليه؟ ﴿قَالَتَا لاَ نَسْقِي﴾ ولا نزاحم؛ لأن المزاحمة تقتضي الاختلاط بالرجال وملاحقتهم، وهو أمر ينقص من قدر المرأة، ويذهب بحيائها؛ بل ننتظر في مكاننا هذا البعيد عن الماء ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ﴾ أي حتى يرجع الرعاة بعد سقيهم؛ وما ألجأنا إلى ذلك إلا انعدام وجود الرجال، الذين يقومون بالأعمال في أسرتنا ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ لا يقوى على السعي والسقي. فزاحم موسى، وأخذ غنمهما
﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ﴾ حلت به متاعب الأسفار، وأدركه تعب السعي والسقي؛ فطلب الراحة لنفسه؛ و ﴿تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ ليرتاح مما لاقاه من المشاق؛ التي لا يحتملها إلا الأنبياء؛ وخواص الأولياء والأصفياء وأحس بالجوع الذي يذيب الجسد، ويفري الكبد ﴿فَقَالَ﴾ مخاطباً مولاه؛ الذي خلقه فسواه، وكلأه ورعاه ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ﴾ طعام ﴿فَقِيرٌ﴾ محتاج. وقد قال «لما أنزلت» ولم يقل: لما تنزل؛ لتأكده من استجابة ربه له ولتحققه من نزول الخير إليه
﴿فَلَمَّا جَآءَهُ﴾ أي جاء موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ قصته مع فرعون، وهروبه من مصر ﴿قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ بوصولك إلى «مدين» وهي ليست في ملك فرعون، وليست خاضعة لحكمه
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ يؤخذ من هذه الآية: أن العاقل الحكيم، يخطب لبناته صاحب الخلق الكريم، حيث لا تهمه المادة؛ بل يهمه القوة على العمل والقدرة على الكسب؛ لئلا يكون عالة على غيره ﴿عَلَى أَن تَأْجُرَنِي﴾ أن تكون أجيراً لي ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾ سنين
﴿قَالَ ذَلِكَ﴾ الأمر ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ﴾ الثمان أو العشر ﴿قَضَيْتُ﴾ مهراً لزوجتي ﴿فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ أي فلا أكون معتدياً، أو لا يعتدي عليَّ بطلب الزيادة
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ﴾ الأكمل، والأتم. وقيل: قضى عشراً وعشراً؛ ومن أوفى في الأداء، من الأنبياء؟ ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ بامرأته نحو مصر؛ بعد أن قضى بمدين المدة المسقطة للجريمة؛ وكانت تسقط بمضي عشر سنوات في شريعة فرعون؛ وهي جريمة قتل القبطي ﴿آنَسَ﴾ أبصر ﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ﴾ الجبل ﴿أَوْ جَذْوَةٍ﴾ قطعة متقدة ﴿تَصْطَلُونَ﴾ تستدفئون
﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا﴾ أتى موسى النار. وقيل: أتى الشجرة الآتي ذكرها ﴿نُودِيَ مِن شَاطِىءِ﴾ جانب ﴿الْوَادِي الأَيْمَنِ﴾ بالنسبة لموسى ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ التي أوجدها الله تعالى في هذا المكان، البعيد عن العمران والسكان، الخالي من الماء والنبات؛ ونودي بكلام مقدس: لا تحيط به اللغات، ولا تدركه الصفات، ولا يشابه الحروف والأصوات؛ ولا يشاكل النغمات والعبارات؛ من لدن باسط الأرض ورافع السموات «نودي» {أَن يمُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} لأريك من بدائع قدرتي، وعجيب صنعي. فألقاها فإذا بالحياة تدب فيها بأمر باعث الحياة، وإذا بها تتثنى وتتلوى؛ وقد زايلها الجمود الملصق بطبيعتها ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ تتحرك ﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ حية صغيرة كثيرة الحركة ﴿وَلَّى مُدْبِراً﴾ رجع مسرعاً من حيث أتى ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لم يرجع
﴿اسْلُكْ﴾ أدخل ﴿يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ الجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق ﴿تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ أي من غير مرض: كبرص ونحوه؛ بل كضوء الشمس ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ أي من أجل الرهب؛ وهو الخوف. المعنى: اضمم يدك إلى صدرك: يذهب ما بك من خوف وفرق من الحية؛ ولأن موسى خشي أن يضم يده إليه؛ لما رأى من إضاءتها وتغيرها ﴿فَذَانِكَ﴾ أي تحرك العصا، وإضاءة اليد معجزتان ﴿مِن رَّبِّكَ﴾ لتذهب بهما ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي﴾ تأييداً لنبوتك، وتصديقاً لرسالتك
﴿رِدْءاً﴾ عوناً ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ أي يكون - بسبب فصاحته، وطلاقة لسانه - سبباً في تصديقي
﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾ غلبة وتسلطاً على الأعداء ﴿فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ بسوء التي نمدك بها ﴿أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا﴾ من المؤمنين ﴿الْغَالِبُونَ﴾ لأعداء الله
﴿فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا﴾ معجزاتنا ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ واضحات ظاهرات؛ لا ينكرها إلا من انطمست بصيرته، وعمي قلبه ﴿قَالُواْ﴾ أي فرعون وشيعته ﴿مَا هَذَآ﴾ الذي جئتنا به؛ من انقلاب العصا حية، وما انبعث من الضوء في يدك؛ إن هذا ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ مختلق ﴿وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ الذي تزعمه: من وجود إله واحد ﴿فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ﴾ المتقدمين
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ﴾ ولم يختلق، ولم يفتر ﴿وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أي العاقبة المحمودة يوم القيامة
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لقومه؛ بعد أن أخرسه موسى بحججه ومعجزاته
-[٤٧٤]- ﴿يأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ وأراد أن يوهم قومه بأنه ذو بطش شديد وقوة، وأن إله موسى في متناول يده، وغير بعيد عليه، وأن في إمكانه الصعود إليه ومقابلته ومقاتلته؛ فقال لوزيره وشريكه في الكفر ومراده من ذلك: صنع لبنات من الفخار؛ مما يتخذ للبناء ﴿فَاجْعَل لِّي﴾ من هذه اللبنات ﴿صَرْحاً﴾ بناء عالياً ﴿لَّعَلِّي أَطَّلِعُ﴾ أصعد وانظر ﴿إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ وأقف على حاله
﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ اللعين، وتعالى عن الإيمان ﴿وَظَنُّواْ﴾ تأكدوا ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ﴾ بالبعث يوم القيامة
﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ طرحناهم في البحر. قيل: إنه بحر القلزم؛ وهي بلدة على ساحل البحر الأحمر، بين مصر والحجاز
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ قادة ﴿يَدْعُونَ﴾ الناس ﴿إِلَى﴾ الكفر؛ والكفر موصل إلى ﴿النَّارِ﴾ حتماً
﴿وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ طرداً، وإبعاداً وهلاكاً ﴿وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ المطرودين المبعدين
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراة ﴿مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى﴾ الأمم المتقدمة؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم ﴿بَصَآئِرَ﴾ أي الكتاب المنزل على موسى «بصائر» يتبصر بها في شؤون الدين والدنيا
﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ أي بجانب الجبل الغربي؛ الذي كان فيه ميقات موسى عليه السلام؛ حين كلمه ربه تعالى ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ المشاهدين لذلك
﴿قُرُوناً﴾ أمماً ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً﴾ مقيماً ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ قوم شعيب عليه السلام
-[٤٧٥]- ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ لك يا محمد بهذه القصص، وهذه الأنباء؛ التي تخفى عليك؛ لولا أن أنزلناها إليك؛ لتعلمهم بها: فتكون دليلاً على صدقك، وصحة رسالتك
﴿الطُّورِ﴾ الجبل ﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ موسى، وحملناه الرسالة ﴿وَلَكِنَّ﴾ أرسلناك لقومك ﴿رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ نبي ينذرهم بطش ربهم وعقابه، ويرغبهم في رحمته وثوابه
﴿وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ﴾ عقوبة ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا﴾ هلا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ يهدينا إلى معرفتك، ويرشدنا إلى عبادتك؟ ﴿فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ﴾ المنزلة عليه
﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ﴾ محمد عليه الصلاة والسلام ﴿قَالُواْ لَوْلا﴾ هلا ﴿أُوتِيَ﴾ من المعجزات ﴿مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى﴾ ونسوا أنهم - من قبل - كفروا بموسى وحاربوه، وسخروا بمعجزاته واستهزأوا بها ﴿قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ أي تعاونا. والمراد بهما: التوراة والقرآن، أو هما موسى ومحمد؛ على قراءة من قرأ «ساحران تظاهرا» ﴿وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ﴾ من التوراة والقرآن، أو موسى ومحمد ﴿كَافِرُونَ﴾ وقراءة «سحران» أصح وأوضح؛ لقوله تعالى:
﴿قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ﴾ أي أكثر هداية من التوراة والقرآن ﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾ أي لا أحد أضل ﴿مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ بل يزيدهم ضلالاً على ضلالهم ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ (انظر آية ١٧٦ من سورة الأعراف)
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا﴾ أي أوصلنا، وبينا؛ ووصل الشيء: لأمه
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ وهم اليهود والنصارى؛ وكتابهم: التوراة والإنجيل ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ من قبل القرآن؛ والمراد بهم مؤمنو أهل الكتاب ﴿هُم بِهِ﴾ أي بالقرآن {يُؤْمِنُونَ *
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن ﴿إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ﴾ أي قبل نزول القرآن ﴿مُسْلِمِينَ﴾ مؤمنين بالله؛ لاتباعنا ما نزل علينا من الكتاب
﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم﴾ ينالون جزاءهم وثوابهم ﴿مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي؛ ولإيمانهم أولاً بكتابهم ورسولهم، وإيمانهم آخراً بالقرآن ومن أنزل إليه ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ أي يدفعون بالطاعة المعصية، أو يدفعون الأذى بالعفو والحلم
﴿اللَّغْوَ﴾ الباطل ﴿وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا﴾ فنثاب عليها ﴿وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ فتؤخذون بها ﴿لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ لا نريد مصاحبتهم ومخالطتهم
﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ هدايته ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ فيزيدهم ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى﴾
﴿نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ﴾ أي يحاربنا الناس ويخرجوننا من أرضنا؛ وهذا قول باطل مردود عليه بقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً﴾ يأمنون فيه من الاعتداء والقتل، والإغارة؛ الواقعة من بعض العرب على بعض ﴿يُجْبَى إِلَيْهِ﴾ أي يجلب ويجمع ﴿رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا﴾ من عندنا؛ لا بجهد منهم، أو مشقة عليهم: يزرع غيرهم فيأكلون، وينسج فيلبسون
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾
أي تنكرت لما اختصها الله تعالى به من النعم؛ فلم تشكر عليها ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ﴾ خالية خاوية ﴿لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ﴾ لما فيها من وحشة وخراب، وما يعروها من ظلمة واكتئاب ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي إلا سكناً قليلاً: يحط بها المسافرون - للضرورة - يوماً أو بعض يوم
﴿فِي أُمِّهَا رَسُولاً﴾ أي يبعث في عاصمتها، والقرية العظيمة فيها ﴿إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ كافرون
﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ﴾ في الآخرة: من جنان، وفاكهة ورمان، وحور حسان ﴿خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ من متاع الدنيا الزائل؛ ومجدها الزائف
﴿أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً﴾ بالنعيم الدائم في الجنة ﴿فَهُوَ لاَقِيهِ﴾ حتماً؛ ومن أصدق وعداً منالله؟ ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فشغله الحال، عن المآل، وأنساه التدبير عن المصير ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ في النار
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ أي وجب عليهم العذاب ﴿أَغْوَيْنَآ﴾ أضللنا ﴿تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ﴾ منهم
﴿وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ﴾ أي ادعوا الأصنام التي أشركتموها مع الله تعالى في العبادة؛ ليكشفوا عنكم ما بكم من ضيق، وليدفعوا عنكم ما أنتم فيه من عذاب ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾ وكيف يستجيب من لا يجيب؟ أو كيف ينجي من العذاب من هو واقع في العذاب؟
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَآءُ﴾ أي خفيت ولم يدروا بماذا يجيبون
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ خلقته ﴿وَيَخْتَارُ﴾ ما يشاء اختياره ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ أي ما كان لأحدهم أن يختار لنفسه؛ لأنه تعالى صاحب الملك، وخالقه، وحاكمه؛ وهو وحده صاحب الخيرة فيه ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي؛ أي «ويختار» الذي فيه «الخيرة» لهم والمصلحة وهذا واضح ملموس: فقد يختار الإنسان ما يضره، ويساق رغم أنفه إلى ما يسره وهذه خيرته في خليقته. وكما أنه تعالى اختار لما خلق؛ فقد خلق ما اختار: خلق تعالى أصنافاً متعددة، وأجناساً شتى، وأمماً متباينة؛ حسبما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحكمة: ملائكة وشياطين، وإنساً وجناً، ووحشاً وطيراً، وبحاراً وأنهاراً، وجبالاً ووهاداً، وثماراً وأزهاراً؛ إلى ما لا نهاية لحده، ولا حد لمنتهاه؛ وليس الطاوس الجميل بأكرم عليه تعالى من الغراب الذليل، ولا الهدهد بأعز لديه من الحدأة، ولا الحمل بأحب إليه من الذئب.
وكذلك خزنة النار - وهم من هم في إنزال العذاب وإحلال النقمة - فإنهم ليسوا بدون خزنة الجنة؛ وهم من هم في إسباغ السعادة وإحلال النعمة
وكذلك ملك الموت - الذي يجلب الحزن ويأتي بالفناء - فإنه ليس بدون ملك الأرزاق الذي يأتي بالخصب والرخاء.
وجبريل الذي ينزل بالعذاب؛ ليس بدون ميكائيل الذي ينزل بالرحمة فالكل مخلوق له تعالى، دال على وحدانيته. والكل مخلوق بإرادته ومشيئته، وتدبيره وحكمته وهو وحده ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ﴾ (انظر آية ١٠٥ من سورة يوسف) ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزه وتقدس ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ عن إشراكهم به غيره (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ ما تضمره وتخفيه قلوبهم
﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى﴾ في الدنيا له الحمد في ﴿الآخِرَةُ﴾ وهو قول المؤمنين الناجين يوم القيامة «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. الحمدلله الذي صدقنا وعده. الحمدلله رب العالمين»
﴿سَرْمَداً﴾ دائماً ﴿تَسْكُنُونَ﴾ تستريحون وتنامون
﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ أي في الليل ﴿وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ في النهار
﴿وَنَزَعْنَا﴾ أخرجنا ﴿مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ يشهد عليهم ولهم بما قالوا، وما فعلوا ﴿فَقُلْنَا﴾ للمشركين ﴿هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ على صحة معبوداتكم
-[٤٧٩]- ﴿فَعَلِمُواْ﴾ وقتذاك ﴿أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ﴾ وحده، وأن ما سواه هو الباطل ﴿وَضَلَّ﴾ غاب ﴿عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ يختلقون من الآلهة والأصنام
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى﴾ ممن آمن به. وكان ابن عمته، وابن خالته ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ ظلمهم وتكبر وتجبر فيهم؛ وأعجب بماله وغناه ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ المفاتح: جمع مفتح. والمفتح: هو المفتاح. والمفتاح جمعه مفاتيح. وقيل: المراد بالمفاتح: الأوعية. فيكون المعنى: ما إن خزائنه، وصناديق كنوزه وأمواله ﴿لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ﴾ لتثقل بالجماعة ﴿أُوْلِي الْقُوَّةِ﴾ أصحاب القوة والشدة ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ أي الفرحين: فرح أشر وبطر؛ أما من منّ الله تعالى عليه بنعمة: فاطمأن إليها؛ اطمئنان الواثق بربه، وفرح بها: فهو ممن أحبه مولاه؛ فرضي عنه وأرضاه
﴿وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ أي اطلب الآخرة فيما آتاك الله من الثروة والغنى؛ بأن تتصدق، وتصل الرحم؛ ولا تنس أن تبقى لنفسك شيئاً يقيك العوز، ويمنعك من إراقة ماء وجهك ﴿وَأَحْسِن﴾ إلى الناس؛ ولو أساءوا ﴿كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ رغم إساءتك ﴿وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ﴾ بالمعاصي
﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾
أي إنما حصلت على هذا المال بسبب علمي بوجوه المكاسب، وضروب الاتجار. وقيل: كان يشتغل بالكيمياء؛ وهي تحويل بعض المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة - كالذهب - وذلك بواسطة إضافة عناصر أخرى إليها. وقد شغف الكثيرون بذلك العلم؛ وقضوا أعمارهم، وأفنوا أموالهم في ذلك السبيل؛ فلم يحظوا بطائل؛ وحذر كثير من الألباء من ولوج هذا الباب؛ فحذار - أيها المؤمن اللبيب - أن تحاول ما يعكر صفو حياتك، ويشغلك عن عبادتك؛ وانصرف عما لا يفيدك، إلى ما يفيدك ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ الأمم ﴿وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ للمال ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ أي لا يسألون سؤال استعتاب ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ بل يسألون سؤال حساب وعقاب ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وقيل: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم: لظهورها وكثرتها؛ بل يدخلون النار بغير حساب؛ كما يدخل خيار المؤمنين الجنة بغير حساب
﴿فَخَرَجَ﴾ قارون ﴿عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ أي في أبهته: لابساً فاخر الثياب، راكباً فاره المراكب ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ وليس لهم نصيب في الآخرة ﴿يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ من الجاه والمال ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ نصيب كبير في الدنيا
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ﴾ الدين، والمعرفة، والحقيقة ﴿وَيْلَكُمْ﴾ أي الويل لكم. والويل: حلول الشر ﴿ثَوَابُ اللَّهِ﴾ جزاؤه في الآخرة ﴿خَيْرٍ﴾ من الدنيا وما فيها، ومن فيها ﴿لِّمَنْ آمَنَ﴾ بالله
-[٤٨٠]- ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ في دنياه ﴿وَلاَ يُلَقَّاهَآ﴾ أي لا يؤتى الجنة، ولا يدخلها؛ أو لا يوفق للأعمال الصالحة ﴿إِلاَّ الصَّابِرُونَ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ﴾ أي بقارون ﴿وَبِدَارِهِ﴾
بما فيها من كنوز، وأموال؛ لم تغن عنه كثرتها ووفرتها؛ وأهلكه الله تعالى، وأذهب حاله، وزينته، وجاهه؛ ولم يبق له في الدنيا سوى الخزي واللعنة، وفي الآخرة الجحيم والعذاب الأليم ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ﴾ جماعة، أو عصابة ﴿يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ يمنعون عنه الهلاك الذي قدره له
﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ﴾ وكانوا يقولون ﴿يلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ أصبحوا يقولون ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ﴾ وي: كلمة يقولها النادم لإظهار ندمه ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بإرادته ﴿وَيَقْدِرُ﴾ يقبض ويضيق عمن يشاء بحكمته وليس البسط دليلاً على رضاه، ولا القبض دليلاً على سخطه ﴿لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ بالإيمان والصبر ﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ الأرض؛ كما خسف بقارون ﴿وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ الذين كفروا بأنعمالله؛ فلم يشكروها. وقنطوا من زوال الشدة، فلم يصبروا عليها
﴿لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً﴾ بغياً وكبراً ﴿وَلاَ فَسَاداً﴾ بارتكاب المعاصي. لأن الطاعة والإحسان: هما الوضع الصحيح الذي يقتضيه النظام الكوني، وتلتزمه الفطر السليمة. أما المعصية والإساءة: فهما خروج عن الطاعة، وفساد للنظام. والمعصية: فساد ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ والعاصي: مفسد ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ﴿وَالْعَاقِبَةُ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾ ﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي جزاءه وعقوبته
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ﴾ أي أنزله إليك، وكلفك بتبليغه والعمل به ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ إلى عود. أي لمعيدك بعد الموت، أو لرادك إلى مكة؛ بعد أن أخرجوك منها. وكانت عودته - عليه الصلاة والسلام - يوم الفتح
﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُو﴾ تأمل قبل أن نهبك النبوة ﴿أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾ أن ينزل عليك القرآن ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ ولكن الله تعالى أنزله إليك: رحمة منه تعالى بك وبالناس
-[٤٨١]- ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ﴾ أي معيناً لهم. والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام - في هذا وأمثاله - وهو أبعد المخلوقين عن مظاهرة الكافرين والمراد به أمته ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ﴾ لا يمنعونك ﴿عَنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ عن تبليغها
﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ سواه تعالى ﴿هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ أي إلا الأعمال الصالحة التي قصد بها وجهه تعالى؛ فهي باقية: يثاب عليها، ويسعد بها في الدنيا وفي الآخرة أو ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ﴾ إلا ذاته العلية؛ فهي منزهة عن الهلاك والفناء ﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾ القضاء النافذ في الدنيا والآخرة
481
سورة العنكبوت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

481
Icon