تفسير سورة سورة القصص من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المعروف بـالوجيز للواحدي
.
لمؤلفه
الواحدي
.
المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي ثمانون وثماني آيات
ﰡ
﴿تلك آيات الكتاب المبين﴾ يعني: القرآن وهو مبينٌ للأحكام
﴿نتلو﴾ نقصُّ ﴿عليك من نبأ موسى﴾ خبر موسى ﴿وفرعون بالحق﴾ بالصِّدق الذي لا شكَّ فيه ﴿لقوم يؤمنون﴾ يُصدِّقون أنَّ ما يأتيهم به صدقٌ
﴿إنَّ فرعون علا﴾ استكبر وتعظَّم ﴿في الأرض﴾ أرض مصر ﴿وجعل أهلها شيعاً﴾ فرقاً تتبع بعض تلك الفرق بعضاً في خدمته ﴿يستضعف طائفة منهم﴾ وهم بنو إسرائيل
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض﴾ ننعم على بني إسرائيل ﴿ونجعلهم أئمّة﴾ قادةً في الخير ﴿ونجعلهم الوارثين﴾ يرثون ملك فرعون وقومه وقوله:
﴿ونمكن لهم في الأرض﴾ أرض مصر والشَّام حتى يغلبوا عليها من غير مُنازعٍ ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يحذرون﴾ وذلك أنَّهم كانوا قد أُخبروا أنَّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجلٍ منهم
﴿وأوحينا إلى أم موسى﴾ قيل: إنَّه وحي إلهام وقيل: وحي إعلام
﴿فالتقطه﴾ أخذه ﴿آل فرعون﴾ عن الماء ﴿ليكون لهم عدوا وحزنا﴾ أي: ليصبر الأمر إلى ذلك ﴿إنَّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين﴾ أَيْ: عاصين آثمين
﴿وقالت امرأة فرعون قرة عين﴾ أَيْ: هو قرَّة عين لي ﴿ولك لا تقتلوه﴾ فإنَّه أتانا به الماء من أرضٍ أخرى وليس هو من بني إسرائيل ﴿وهم لا يشعرون﴾ بما هو كائنٌ من أمرهم وأمره
﴿وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً﴾ خالياً عن كلِّ شيء إلاَّ عن ذكر موسى وهمِّه ﴿إن كادت لتبدي به﴾ بأنَّه ابنها ﴿لولا أن ربطنا على قلبها﴾ قوينا وألهمناها الصَّبر ﴿لتكون من المؤمنين﴾ المُصدِّقين بوعد الله سبحانه
﴿وقالت لأخته﴾ لأخت موسى ﴿قصيه﴾ اتَّبعي أثره فاتَّبعته ﴿فبصرت به عن جنب﴾ أبصرته من بعيدٍ ﴿وهم لا يشعرون﴾ أنَّها أخته
﴿وحرمنا عليه المراضع﴾ منعتا موسى أن يقبل ثدي مرضعةٍ ﴿من قبل﴾ أن نردَّه على أُمَّه ﴿فقالت﴾ أخته حين تعذَّر عليهم رضاعة: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ يضمُّونه إليهم ﴿وهم له ناصحون﴾ مخلصون شفقته
﴿فرددناه إلى أمه﴾ وذلك أنَّها دلَّتهم على أمِّ موسى فَدُفِعَ إليها تُربِّيه لهم وقوله: ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ آل فرعون كانوا لا يعملون أنَّ الله وعدها ردَّه عليها
﴿ولما بلغ أشدَّه﴾ منتهى قوَّته وهو ما فوق الثَّلاثين ﴿واستوى﴾ وبلغ أربعين سنةً ﴿آتيناه حكماً﴾ عقلاً وفهماً ﴿وعلماً﴾ قبل النُّبوَّة
﴿ودخل المدينة﴾ يعني: مدينةً بأرض مصر ﴿على حين غفلة من أهلها﴾ فيما بين المغرب والعشاء ﴿فوجد فيها رجلين يقتتلان﴾ أحدهما إسرائيليٌّ وهو الذي من شيعته والآخر قطبي وهو الذي من عدوه ﴿فاستغاثه﴾ الإِسرائيلي على الفرعونيِّ ﴿فوكزه موسى﴾ ضربه بجميع كفِّه ﴿فقضى عليه﴾ فقتله ولم يتعمَّد قتله فندم على ذلك لأنَّه لم يُؤمر بقتله فـ ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مضلٌّ مبين﴾ ثمَّ استغفر فقال:
﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
﴿قال رب بما أنعمت عليَّ﴾ بالمغفرة ﴿فلن أكون ظهيراً للمجرمين﴾ لن أُعين بعدها على خطيئة
﴿فأصبح في﴾ تلك ﴿المدينة خائفا﴾ من قتله القطبي ﴿يترقب﴾ ينتظر الأخبار ﴿فإذا﴾ الإسرائيليُّ ﴿الذي استنصره بالأمس يستصرخه﴾ يستغيثه ﴿قال له موسى: إنك لغويٌّ مبين﴾ ظاهر الغواية قد قلت بك بالأمس رجلاً وتدعوني إلى آخر وأقبل إليهما ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عدوٌّ لهما﴾ أَيْ: بالقبطِيِّ فظنَّ الذي من شيعته أنَّه يريده فقال:
﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض﴾ تقتل ظلماً فلمَّا قال الإِسرائيلي هذا علم القبطيِّ بالأمس فأتى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى فأتاه رجلٌ فأخبره بذلك وهو قوله:
﴿وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى﴾ وهو مؤمن آل فرعون ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الملأ يأتمرون بك﴾ يأمر بعضهم بعضاً ويتشاورون ﴿ليقتلوك فاخرج﴾ من هذه المدينة ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾
﴿فخرج منها خائفاً يترقب﴾ ينتظر الطَّلب ﴿قال: ربّ نجني من القوم الظالمين﴾ قوم فرعون
﴿ولما توجَّه﴾ قصد بوجهه ﴿تلقاء مدين﴾ نحوها ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ قصد الطَّريق وذلك أنَّه لم يكن يعرف الطَّريق
﴿ولما ورد ماء مدين﴾ وهو بئر كانت لهم ﴿وجد عليه أمة﴾ جماعةً ﴿من الناس يسقون﴾ مواشيهم ﴿ووجد من دُونِهمُ امرأتين تذودان﴾ تحبسان غنمهما عن الماء حتى يصدر مواشي النَّاس ﴿قال﴾ موسى لهما: ﴿ما خطبكما﴾ ؟ ما شأنكما لا تسقيان مع النَّاس؟ ﴿قالتا لا نسقي﴾ مواشينا ﴿حتى يصدر الرعاء﴾ عن الماء لأنا لا نطيق أن نستقي وأن نُزاحم الرِّجال فإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم ﴿وأبونا شيخ كبير﴾ لا يمكنه أن يرد وأن يستقي
﴿فسقى لهما﴾ أغنامهما من بئرٍ أخرى رفع عنها حجراً كان لا يرفعه إلاَّ عشرة أنفس ﴿ثمَّ تولى إلى الظلّ﴾ أَيْ: إلى ظلِّ شجرةٍ ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير﴾ طعامٍ ﴿فقير﴾ محتاجٌ وكان قد جاع فسأل الله تعالى ما يأكل فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بما فعل موسى فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه فذلك قوله:
﴿فجاءته إحداهما﴾ أخذت ﴿تمشي على استحياء﴾ مُستترةً بكُمِّ درعها ﴿قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ أخبره بأمره والسَّبب الذي أخرجه من أرضه ﴿قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يعني: من فرعون وقومه فإنَّه لا سلطان له بأرضنا
﴿قالت إحداهما يا أبت استأجره﴾ ليرعى أغنامنا ﴿إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين﴾ وإنَّما قالت ذلك لأنَّها عرفت قوَّته برفع الحجر من رأس البئر وأمانته بأنَّ موسى قال لها لمَّا دعته إلى أبيها: امشي خلفي فإنَّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النِّساء
﴿قال﴾ عند ذلك الشِّيخ لموسى: ﴿إني أريد أن أنكحك﴾ أزوِّجك ﴿إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجرني﴾ تكون أجيراً لي ﴿ثماني حجج﴾ سنين ﴿فإن أتممت عشراً فمن عندك﴾ وليس بواجبٍ عليك ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ بأن اشترط العشر ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الوافين بالعهد
﴿قال﴾ موسى: ﴿ذلك﴾ الذي وصفت ﴿بيني وبينك﴾ أَيْ: لك ما شرطتَ عليَّ ولي ما شرطتُ من تزويج إحداهما ﴿أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ﴾ لا علم عليَّ بأن أُطالب بأكثر منه ﴿والله على ما نقول وكيل﴾ والله شاهدنا على ما عقدنا
﴿فلما قضى موسى الأجل﴾ مفسَّر فيما مضى إلى قوله: ﴿أو جذوة من النار﴾ قطعةٍ وشعلةٍ من النَّار
﴿فلما أتاها نودي من شاطئ﴾ جانب ﴿الواد الأيمن﴾ من يمين موسى ﴿في البقعة﴾ في القطعة من الأرض ﴿المباركة﴾ بتكليم الله سبحانه فيها موسى عليه السَّلام وإتيانه النُّبوَّة ﴿من الشجرة﴾ من جانب الشَّجَرَةِ ﴿أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ربُّ العالمين﴾ والباقي مفسَّرٌ فيما سبق إلى قوله:
﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين﴾
﴿واضمم إليك جناحك﴾ أَيْ: يدك ﴿من الرهب﴾ من الخوف والمعنى: سكِّن روعك واخفض عليك جنبيك وذلك أنه كان يرتعد خوفاً ﴿فذانك﴾ اليد والعصا ﴿برهانان من ربك﴾ الآية وقوله:
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أن يقتلون﴾
﴿قال: سنشدُّ عضدك﴾ أَيْ: نُقوِّيك ﴿بأخيك ونجعل لكما سلطاناً﴾ حُجَّةً بيِّنة ﴿فلا يصلون إليكما﴾ بسوءٍ ﴿بآياتنا﴾ العصا واليد وسائر ما أُعطيا
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبائنا الأولين﴾
﴿وقال موسى﴾ لمَّا كُذِّب ونُسب إلى السِّحر: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ يعني: نفسه أَيْ: ربِّي أعلم بي أنَّ الذي جئتُ به مِنْ عِنْدِهِ ﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أَيْ: العقبى المحمودة في الدَّار الآخرة وقوله:
﴿فأوقد لي يا هامان على الطين﴾ أَيْ: اطبخ لي الآجر ﴿فاجعل لي صرحاً﴾ بناء طويلاً مشرفاً ﴿لعلي أطلع إلى إله موسى﴾ أنظر إليه وأقف عليه وقوله:
﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ﴾
﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كان عاقبة الظالمين﴾
﴿وجعلناهم أئمة﴾ قادةً ورؤساء ﴿يدعون إلى النار﴾ أي: إلى الضَّلالة التي عاقبتها النَّار
﴿وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً﴾ وذلك أنَّهم لمَّا هلكوا لُعنوا فهم يُعرضون على النار غدوةً وعشيةً إلى يوم القيامة ﴿ويوم القيامة هم من المقبوحين﴾ الممقوتين المهلكين
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لعلهم يتذكرون﴾ أَيْ: مبيِّناً لهم
﴿وما كنت بجانب الغربيّ﴾ أَيْ: الجبل الغربيّ الذي هو في جانب الغرب ﴿إذ قضينا إلى موسى الأمر﴾ أحكمناه معه وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا ﴿وما كنت من الشاهدين﴾ الحاضرين هناك
﴿ولكنا أنشأنا﴾ أحدثنا وخلقنا ﴿قروناً﴾ أمماً ﴿فتطاول عليهم العمر﴾ فنسوا عهد الله وتركوا أمره ﴿وما كنت ثاوياً﴾ مُقيماً ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كنا مرسلين﴾ أرسلناك رسولاً وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما عملتها
﴿وما كنت بجانب الطور إذ نادينا﴾ موسى ﴿ولكن﴾ أوحينا إليك هذه القصص ﴿رحمة من ربك﴾
﴿ولولا أن تصيبهم مصيبة﴾ عقوبةٌ ونقمةٌ ﴿بما قدَّمت أيديهم﴾ وجواب لولا محذوف وتقديره: لعاجلناهم بالعقوبة
﴿فلما جاءهم الحق﴾ محمد ﷺ ﴿من عندنا قالوا: لولا أوتي﴾ محمد ﴿مثل ما أوتي موسى﴾ كتاباً جملةً واحدةً ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ﷺ و ﴿قالوا سحران تظاهرا﴾ وذلك حين سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنَّهم يجدونه في كتابهم بنعمته وصفته وقالوا: ساحران تظاهرا يعنون: موسى ومحمداً عليهما السَّلام تعاونا على السِّحر ﴿وقالوا إنَّا بكلٍّ﴾ من موسى ومحمدٍ عليهما السَّلام ﴿كافرون﴾
﴿قل﴾ لهم: ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى منهما﴾ من كتابيهما ﴿أتبعه أن كنتم صادقين﴾ أَنَّهما كانا ساحرين
﴿فإن لم يستجيبوا لك﴾ أَيْ: لم يجيبوك إلى الإيتان بالكتاب ﴿فاعلم أنَّما يتبعون أهواءهم﴾ أَيْ: يُؤثرون هواهم على الدِّين
﴿ولقد وصلنا لهم القول﴾ أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً ﴿لعلهم يتذكرون﴾ يتَّعظون ويعتبرون
﴿الذين آتيناهم الكتاب من قبله﴾ من قبل محمد ﷺ ﴿هم به يؤمنون﴾ يعني: مؤمني أهل الكتاب
﴿وإذا يُتلى عليهم﴾ القرآن ﴿قالوا آمنا به﴾ صدَّقنا به ﴿إنَّه الحقُّ من ربنا﴾ ذلك أنَّهم عرفوا بما ذُكر في كتبهم من نعت النبي ﷺ وكتابه ﴿إنَّا كنا من قبله﴾ من قبل القرآن أو من قبل محمد ﷺ ﴿مسلمين﴾ لأنَّا كنَّا نؤمن به وبكتابه
﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين﴾ مرَّةً بإيمانهم بكتابهم ومرَّةً بإيمانهم بالقرآن ﴿بما صبروا﴾ بصبرهم على ما أُوذوا ﴿ويدرؤون بالحسنة السيئةَ﴾ ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدَّم لهم من السَّيئات ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ يتصدَّقون
﴿وإذا سمعوا اللغو﴾ القبيح من القول ﴿أعرضوا عنه﴾ لم يلتفتوا إليه يعني: إذا شتمهم الكفَّار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشَّتم ﴿وَقَالُوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ ليس هذا تسليم التحيَّة وإنَّما هو تسليم المتاركة أي: بينا وبينكم المتاركة والتَّسليم وهذا قبل أن يُؤمر المسلمون بالقتال ﴿لا نبتغي الجاهلين﴾ لا نصحبهم
﴿إنك لا تهدي مَنْ أحببت﴾ نزلت حين حرص النبي ﷺ على إيمان عمِّه عند موته فلم يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى: لا تهدي مَنْ أحببت هدايته ﴿ولكنَّ الله يهدي من يشاء﴾ هدايته ﴿وهو أعلم بالمهتدين﴾ بمن يهتدي في معلومه
﴿وقالوا﴾ يعني: مشركي مكَّة: ﴿إن نتبع الهدى معك﴾ بالإِيمان بك ﴿نُتخطف﴾ نُسلب ونوخذ ﴿من أرضنا﴾ لإِجماع العرب على خلافنا فقال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ أخبر سبحانه أنَّه آمنهم بحرمة البيت ومنع منهم العدوَّ فكيف يخافون أن تستحل العرب قتالهم فيه؟ ﴿يجبى﴾ يُجمع ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ أنَّ ذلك ممَّا تفضَّل الله به سبحانه عليهم
﴿وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها﴾ عاشوا في البطر وكفران النِّعمة ﴿فتلك مساكنهم﴾ خاويةً ﴿لم تسكن من بعدهم إلاَّ قليلاً﴾ لا يسكنها إلاَّ المسافر والمارُّ يوماً أو ساعةً
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أمها﴾ أعظمها والآية
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تعقلون﴾
﴿أفمن وعدناه وعداً حسناً﴾ يعني: الجنَّة ﴿فهو لاقيه﴾ مُدركه ومُصيبه ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المحضرين﴾ في النَّار نزلت في رسول الله ﷺ وأبي جهل
﴿ويوم يناديهم﴾ أَيْ: المشركين ﴿فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ في الدُّنيا أنَّهم شركائي
﴿قال الذين حقَّ عليهم القول﴾ وجب عليهم العذاب يعني: الشَّياطين ﴿رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون﴾ كعادة الشَّيطان في التَّبَرُّؤِ ممَّن يطيعه إذا أورده الهلكة
﴿وقيل﴾ للكفَّار: ﴿ادعوا شركاءَكم﴾ مَنْ كنتم تعبدون من دون الله ﴿فدعوهم فلم يستجيبوا لهم﴾ لم يجيبوهم بشيءٍ ينفعهم ﴿ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون﴾ لما اتَّبعوهم ولما رأوا العذاب
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾
﴿فَعَمِيَتْ عليهم الأنباء﴾ عميت عليهم الحجج لأنَّ الله تعالى قد أعذر إليهم في الدُّنيا فلا تكون لهم حجة يؤمئذ فسكتوا فذلك قوله: ﴿فهم لا يتساءلون﴾ أَيْ: لا يسأل بعضهم بعضا عم يحتجُّون به
﴿وربك يخلق ما يشاء﴾ كما يشاء ﴿ويختار﴾ ممَّا يشاء فاختار من كلِّ ما خلق شيئاً ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى وليس لهم الاختيار والمعنى: لا يرسل الرُّسل إليهم على اختيارهم والباقي ظاهرٌ إلى قوله:
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾
﴿وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ ترجعون﴾
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾
﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمون﴾
﴿ونزعنا من كلِّ أمة﴾ أَيْ: أخرجنا ﴿شهيداً﴾ يعني: رسولهم الذي أُرسل إليهم ﴿فقلنا هاتوا برهانكم﴾ أَيْ: اعتقدتم به أنّه برهانٌ لم في أنَّكم كنتم على الحقِّ ﴿فعلموا أنَّ الحق لله﴾ أنَّ الحقَّ ما دعا إليه الله سبحانه وأتاهم به الرسول ﷺ ﴿وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون﴾ لم ينتفعوا بما عبدوه من دون الله سبحانه
﴿إنَّ قارون كان من قوم موسى﴾ كان ابن عمِّه ﴿فبغى عليهم﴾ بالكبر والتجبُّر والبذخ وكثرة المال ﴿وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه﴾ جمع المفتح وهو ما يُفتح به ﴿لتنوء بالعصبة﴾ تُثقل الجماعة ﴿أُولِي الْقُوَّةِ﴾ ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تفرح﴾ بكثرة الماء ولا تأشر ﴿إنَّ الله لا يحبُّ الفرحين﴾ الأشرين البطرين
﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة﴾ أَيْ: اطلبها بإنفاق مالك في رضا الله تعالى ﴿ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾ لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك ﴿وأحسن﴾ إلى الناس ﴿كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ في الأرض﴾ العمل بالمعاصي
﴿قال إنما أوتيته على علم عندي﴾ عل فضل علمٍ عندي وكنت بذلك العلم مستحقا لفضل المال وكان أقرأ بني إسرائيل للتَّوراة قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قوة وأكثر جمعاً﴾ للمال منه ﴿ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون﴾ لأنَّهم يدخلون النَّار بغير حسابٍ
﴿فخرج على قومه في زينته﴾ في ثيابٍ حمرٍ عليه وعلى دوابِّه والرُّكبان الذين معه ﴿قال الذين يريدون الحياة الدنيا﴾ ظاهرٌ إلى قوله:
﴿ولا يلقاها﴾ أَيْ: ولا يُلقَّن ولا يُوفَّق لهذه الكلمة ﴿إلاَّ الصابرون﴾ عن زينة الدنيا
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾
﴿وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس﴾ صار الذين كانوا يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ﴿يقولون ويكأنَّ الله﴾ ألم تر ألم تعلم أن ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ يوسع لمن يشاء ويُضيِّق ﴿لولا أنْ منَّ الله علينا﴾ عصمنا عن مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي ﴿لخسف بنا﴾ كما خُسف به
﴿تلك الدار الآخرة﴾ يعني: الجنَّة ﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض﴾ تكبُّراً وتجبُّراً فيها ﴿ولا فساد﴾ عملاً بالمعاصي وأخذاً للمال بغير حقٍّ ﴿والعاقبة﴾ المحمودة ﴿للمتقين﴾
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا ما كانوا يعملون﴾
﴿إن الذي فرض عليك القرآن﴾ أنزله وقيل: فرض عليك العمل بما في القرآن ﴿لرادُّك إلى معاد﴾ إلى مكَّة ظاهراً عليها وذلك حين اشتاق رسول الله ﷺ إلى مولده
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إلاَّ رحمة من ربك﴾ لكن رحمك ربُّك فاختارك للنُّبوَّة وأنزل عليك الوحي
﴿وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أنزلت إليك﴾ وهذا حين دُعي إلى دين آبائه وقوله:
﴿كل شيء هالك إلاَّ وجهه﴾ أَيْ: إلاَّ إيَّاه ﴿له الحكم﴾ يحكم بما يريد ﴿وإليه ترجعون﴾