سورة القصص
نفتتح تفسير سورة القصص، مستعينين بالله، معتصمين به في البدء والختام، وهذه السورة مكية كسابقتها، وأطلق على هذه السورة " سورة القصص " أخذا من قوله تعالى في إحدى آياتها وهو يحكي ما دار بين موسى عليه السلام و ( صالح مدين ) في أحد المواقف الحاسمة :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾ [ ٢٥ ].
و " القصص " هنا بفتح القاف لفظ مفرد بمعنى الخبر المحكي المقصوص، ويطلق لفظ القصص بمعنى رواية الخبر، أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة، وتشغل قصة موسى مع قصة قارون من قومه أكبر جزء من هذه السورة، فلقصة موسى ثمان وأربعون آية، من الآية الثانية إلى الآية التاسعة والأربعين، ولقصة قارون من قومه سبع آيات، من الآية السادسة والسبعين إلى الآية الثانية والثمانين، وبذلك يبلغ عدد آيات القصتين المرتبط بعضهما ببعض خمسا وخمسين آية من مجموع آيات هذه السورة، وهي ثمانون آية.
ومن أهم ما يلاحظ في كتاب الله بالنسبة للقصص التي تضمنها القرآن الكريم أن قصة موسى تردد ذكرها في سبع عشرة سورة، مختزلة أحيانا، ومختصرة أحيانا، ومتوسطة أحيانا، ومطولة أحيانا. وأطولها جميعا هي التي سبقت في سورة الأعراف، حيث استغرقت من آياتها خمسا وخمسين ومائة آية، ويليها في الطول قصته في سورة ( طه ) حيث استغرقت من آياتها تسعين آية، ويلي قصة موسى في سورة طه قصته في سورة الشعراء، حيث استغرقت من آياتها ستين آية، وتأتي في الدرجة الأخيرة من الطول قصته هنا في سورة القصص، حيث استغرقت منها مع قصة قارون من قومه خمسا وخمسين آية.
ﰡ
وصف الكتاب بكونه " مبينا " لأنه يبين ويميز الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والهدى من الضلال، في العقائد والشرائع والأقوال والأفعال.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن إعادة كتاب الله لقصة من القصص في عدة سور لا يعني أن فيه شيئا من التكرار، فبلاغة القرآن التي ميزه الله بها تعصمه من ذلك، وإنما تنصب الحكاية الجديدة للقصة على عناصر معينة منها، حيث يكون السياق يقتضي إبراز هذا العنصر بدلا من ذلك العنصر الذي سبق في مقام آخر، أو تفصيل هذا العنصر مع إجمال ذلك العنصر الذي سبق في مقام آخر، أو تفصيل هذا العنصر مع إجمال ذلك العنصر الذي سبق في مناسبة أخرى، وكتاب الله بوصفه كتاب هداية وتوجيه لا بد أن يلائم مقتضى الحال في كل الأحوال، يضاف إلى ذلك أن القصة عندما يتجدد ذكرها في سورة من السور لا محالة أنها تأتي بزوائد وفوائد، وفي ذلك زيادة في البيان، وإقامة للحجة والبرهان، على درجة الإعجاز التي ارتفعت إليها بلاغة القرآن.
وعلى ضوء هذا التنبيه نراجع الآيات التي تصدرت قصة موسى في هذه السورة، ونقارنها بما ورد في بعض السور الأخرى، ففي سورة القصص التي نحن بصدد تفسيرها نجد في الطليعة وصف المرحلة الأولى من حياة موسى عليه السلام منذ طفولته إلى أن بلغ أشده، من الآية السادسة إلى الآية الثانية عشرة، ونجد وصف الحادثة التي اشتبك فيها موسى مع عدو لقومه نصرة لرجل من شيعته، فأدت إلى مقتل ذلك العدو، واضطرار موسى إلى التوجه نحو مدين، من الآية الثالثة عشرة إلى الآية العشرين، ونجد وصف خطوبته وزواجه بابنة ( صالح مدين وشيخها الكبير )، وما سبق ذلك من مقدمات، وما انتهى إليه من نتائج، من الآية الواحدة والعشرين إلى الآية التاسعة والعشرين، كل ذلك بغاية التوضيح والتفصيل، مما لم يتقدم نظيره في السور الأخرى، وإذا راجعنا قصة موسى الواردة في سورة الأعراف لا نجد فيها أي أثر لهذه الأحداث وهذه المراحل، وإنما نجد في سورة طه إشارة خفيفة إليها في سبع آيات لا غير، ونجد في سورة الشعراء إشارة خاطفة إليها في خمس آيات لا غير، ففي سورة طه سبق قول الله تعالى :﴿ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني*ولتصنع على عيني * إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى *واصطنعتك لنفسي ﴾ [ ٤١، ٣٦ ]، وفي سورة الشعراء سبق قوله تعالى على لسان فرعون :﴿ قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين *وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ﴾ [ ٢٢، ١٨ ].
وبعد هذه التنبيهات والمقارنات لم يبق لنا إلا التوجه إلى تفسير الجزء الوارد من نفس القصة في هذه الحصة.
قال تعالى :﴿ تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ﴾ :
﴿ وجعل أهلها شيعا ﴾ أي فرق بينهم فأغرى بعضهم ببعض، وسلط بعضهم على بعض، حتى يكونوا أطوع له من بنانه، ويستسلموا لعدوانه وطغيانه.
﴿ يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ﴾ المراد " بالطائفة المستضعفة " في ذلك العهد بنو إسرائيل، ويجري على غيرها من الطوائف المستضعفة في بقية العهود ما جرى عليها. قال ابن عباس : " لما كثر بنو إسرائيل بمصر استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى ".
﴿ إنه كان من المفسدين ﴾ سجل كتاب الله هنا على فرعون صفة " الفساد " التي هي أبغض صفة إلى الله تحرق الأخضر واليابس، وتدمر البلاد والعباد، وبهذا التسجيل الإلهي المؤكد أبرز كتاب الله أنه لا يرضى للرؤساء من عباده الكبر والجبروت، ولا يرضى للمرؤوسين منهم الفرقة والشتات، ولا يرضى استضعاف طائفة وتسخيرها وإهدار حقوقها لصالح بقية الطوائف، وإنما يرضى لهم جميعا المساواة في الحقوق والواجبات والعيش الكريم.
﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾ هذا وعد صادق من الله لأم موسى، يهدئ روعها، ويطمئن قلبها، ويبشرها بحياته وجعله رسولا ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ قال أبو حيان : " استفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدته شعرا فقالت له : أبعد قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ﴾ فصاحة ؟ وقد جمع بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين ".
﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ﴾ أي كانوا خاطئين في كل شيء، ولم يصادفوا الصواب في أي شيء، فلا غرابة إذا أخطأوا في تربية موسى الذي اصطفاه الله لرسالته، ليكون مصيرهم المفجع على يده وبقيادته، ومعنى " الخاطئ " المتعمد للخطأ، ويطلق على من لا يتعمد الخطأ لفظ " مخطئ " وإنما أضيف الجند في هذه الآية :﴿ إن فرعون وهامان وجنودهما ﴾ وفي الآية السابقة :﴿ ونري فرعون وهامان وجنودهما ﴾ إلى كل من فرعون وهامان، وإن كان هامان مجرد وزير لا جنود له، لأن المال هو قوام الجيش. وتسيير شؤون الدولة، وجباية الأموال اللازمة لمرافقها، لا يتم أمرهما إلا على يد الوزراء وبمعونتهم، فلهم ضلع كبير في تحمل مسؤوليات الدولة وتنظيم جيشها وتسيير مرافقها العامة.
﴿ وربطنا على قلوبهم إذ قاموا ﴾ [ الآية : ١٤ ].
يواصل كتاب الله الحديث عن المرحلة الأولى من حياة موسى عليه السلام، فبعدما نجاه الله من الغرق في اليم والتقطه آل فرعون، وتدخلت امرأة فرعون لمنع ذبحه وقتله كغيره من مواليد بني إسرائيل، ها هو فرعون وامرأته يبحثان عن مرضعة ترضعه، وعن ثدي يلتقمه، ليركن إلى عطفه وحنانه، ويسلم نفسه إليه، لكن الله تعالى ألهمه أن لا يقبل رضاع لبن سوى لبن أمه من النساء وأشكل الأمر على أسرة فرعون، وأعيتهم الحيلة، خوفا على حياة موسى، إذا استمر من دون تغذية، وهو لا يزال في فجر طفولته، وأخطر أطوار حياته، وهنا تدخلت أخته التي كانت تتحسس كل ما يحيط بأخيها من الحركات والسكنات، من دون أن يعرف أحد من آل فرعون أنه أخوها وأنها أخته، فتقدمت إلى امرأة فرعون وزوجها تعرض استعدادها للبحث عن بيت يقوم بهذه المهمة الإنسانية على أحسن وجه، فيأخذ على عاتقه إرضاع هذا الوليد وحضانته، ويعنى بتربيته الأولى بكل نصح واعتناء، إلى أن يفارق مرحلة الرضاع، وتنجح أخته في مسعاها، فتأخذه معها إلى أمه، ويرده الله إليها كما وعدها من قبل، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في بداية هذا الثمن :﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل ﴾ أي ألهمناه قبل رده إلى أمه أن لا يقبل الرضاع من ثدي أية امرأة سواها، " فالتحريم هنا تحريم منع، لا تحريم شرع " كما قال القرطبي.
﴿ فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ﴾
وبداية الآيات الخاصة بهذا الطور الثاني من حياة موسى قوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشده واستوى ﴾ أي استكمل قوته الجسمية وقوته العقلية ﴿ آتيناه حكما وعلما ﴾ أي حكمة وفهما ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي تلك سنة الله مع عباده المكرمين، الذين اصطفاهم ليكونوا من رسله وأنبيائه، وأصفيائه وأوليائه، وقد سبق في سورة يوسف على غرار هذه الآية قوله تعالى منوها بمكانة يوسف عليه السلام :﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ﴾ [ الآية : ٢٢ ].
ويبدأ " بلوغ الأشد " عند بلوغ الحلم، ومن توابع ذلك أن يصبح الفتى أهلا لممارسة الحياة الزوجية، وينظر لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغوا النكاح ﴾ [ النساء : ٦ ] ويشهد له قوله تعالى في سورة الحج :﴿ ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ﴾ [ الآية : ٥ ] وقوله تعالى في سورة غافر :﴿ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ﴾ [ الآية : ٦٧ ]. وتصل مرحلة بلوغ الأشد إلى القمة عند بلوغ سن الأربعين، حيث تهيمن القوة العقلية على القوة الجسمية، قال الرازي : " فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة ". وقد اعتنى كتاب الله عناية خاصة بمرحلة الأربعين من حياة كل إنسان، وما ينتظر أن يبلغ فيها من وعي ونضج واستقامة، فقال تعالى فيما سيأتي من سورة الأحقاف :﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين ﴾ [ الآية : ١٥ ].
ولم يلبث موسى بعد هذا الحادث المفاجئ أن استولى عليه الندم، لما آل إليه تدخله في هذا الاشتباك، وتمنى لو أنه دفع الظالم بأيسر مما دفعه، وود لو أن الأقدار مكنته من نصرة المظلوم وإغاثته، من دون أن يقع ما وقع ﴿ قال هذا من عمل الشيطان ﴾ مشيرا إلى ما استولى عليه من الحدة والغضب أثناء الحادث المذكور ﴿ إنه ﴾ أي الشيطان ﴿ عدو مضل مبين ﴾.
فمن الوصف " بالفتوة " التي هي كمال الصفات في الفتى، قوله تعالى في شأن إبراهيم :﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم ﴾ [ الأنبياء : ٦٠ ]، وقوله تعالى في شأن أهل الكهف :﴿ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ﴾ [ الآية : ١٣ ].
ومن الوصف " بالرجولة " التي هي كمال الصفات في الرجل قوله تعالى :﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾ [ التوبة : ١٠٨ ]، وقوله تعالى :﴿ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ﴾ [ النور : ٣٧ ]، وقوله تعالى هنا :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ﴾، على غرار ما سيأتي في سورة يس :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، قال ياقوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ﴾ [ الآيتان : ٢٠، ٢١ ]، وفي سورة غافر :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ﴾ [ الآية : ٢٨ ].
ومعنى ﴿ يأتمرون بك ﴾ يتشاورون في شأنك، والائتمار في الأصل التشاور، لأن من يحضر جمعا من هذا النوع لا يخلو من أن يشير على الآخرين بأمر من الأمور، في الوقت الذي يشير فيه الآخرون عليه بأمر آخر، ومن ذلك قوله تعالى في آية أخرى :﴿ واتمروا بينكم بمعروف ﴾ [ الطلاق : ٦ ] أي ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف لا بالمنكر.
وكما دبر أعداء موسى مؤامرة للتخلص منه قبل فوات الأوان، لأنه اشتهر عنه من قبل أن ينبأ تسفيه عقائدهم الباطلة التي ليس عليها دليل ولا برهان، وتجريح تصرفاتهم الجائرة القائمة على الظلم والطغيان، فقد دبر أعداء الرسالة الإلهية التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين لرسوله الأمين، نفس المؤامرة، وعنها تحدث كتاب الله في سورة الأنفال فقال تعالى :﴿ وإذ يمكر الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين ﴾ [ الآية : ٣٠ ].
و " المكروه " الذي كان يتوقعه موسى وهو داخل المدينة هو إدانته ومؤاخذته بالحادث الذي اعترض طريقه، و " المكروه " الذي أصبح يتوقعه بعدما فارقها هو أن يدركه الطلب، ويتعرض له في الطريق أعوان فرعون وجنوده، الذين يبحثون عنه في كل مكان.
وبدلا من أن يقصد بنيات الطريق التي يطرقها عادة من يريدون الإفلات من قبضة الحكام، تسترا بها عن الأعين، كما توقع أعوان فرعون وجنوده، وذهبوا يتتبعون أثره فيها، ألهم الله موسى أن يسلك طريقا مأمونة ومطروقة من دون أن يشتبه في أمره أحد. فمضى في طريقه معتصما بالله، ومحتميا بالله، ومحتميا بحماه، واثقا بأن الله تعالى هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وحيثما حل وارتحل، في سهل أو جبل ﴿ قال رب نجني من القوم الظالمين ﴾.
وبعد أن قطع مراحل الطريق في أمن وأمان، واستقبله " صالح مدين " استقبال ترحيب وحنان، قال له وهو يحاوره في نهاية المطاف :﴿ لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾. كما كانت بداية رحلة موسى وفاتحتها عند الشروع فيها :﴿ رب نجني من القوم الظالمين ﴾، فاستجاب الله دعاءه، وخيب أعداءه، وصدق الله العظيم إذ قال :﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك، حقا علينا ننج المؤمنين ﴾ [ يونس : ١٠٣ ].
يتحدث كتاب الله في آيات هذا الثمن عن الفترة التي قضاها موسى مقيما بمدين لدى صهره ( صالح مدين وشيخها الكبير ) وذلك بعد مفارقته لمصر ونجاته من فرعون وصحبه، ويبدأ الحديث عن هذه الفترة بتوجه موسى إلى ربه قبل التوجه إلى ناحية مدين، الخارجة عن نفوذ فرعون، مستسلما إلى رعاية الله وكفالته، سائلا الحق سبحانه وتعالى أن يهديه سواء السبيل، حتى لا يضل الطريق إليها ويبلغها سالما آمنا، وذلك قوله تعالى حكاية عنه :﴿ ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾. والمراد " بسواء السبيل " وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. قال الرازي : " أما قول موسى :﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام :﴿ إني ذاهب إلى ربي سيهدين ﴾ [ الصافات : ٩٩ ]، وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاما في الاستدلال، والجواب، والدعاء، والتضرع، إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق ( الصدق جمع صدوق ) للسلف الصالح، صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين ".
واستغرب موسى أن لا يلتفت أحد من ذلك الجمع الكبير من الرجال إليهما، فيأخذ بيدهما، ويسقي لهما ما يروي غنمهما ويزيل عطشهما، كما تقضي بذلك المروءة والرجولة والنجدة، لا سيما وهما المرأتان الوحيدتان من بينهم جميعا، إذ كان رجال مدين هم الذين يقومون بالسقي من دون النساء كما يفهم من السياق، فلم يلبث أن تقدم إليهما سائلا مستفسرا، ولم تلبثا أن عبرتا له في جواب موجز، لكنه جامع مانع، عن حالهما وعن حال كبير أسرتهما الذي بلغ من الكبر عتيا، فأصبح عاجزا عن الحضور، بنفسه لسقي الماء بدلا منهما، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى حكاية عنه وعنهما :﴿ تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ﴾
ومعنى ﴿ ما خطبكما ﴾ أي ما شأنكما الغريب، و " الخطب " هو الأمر الخطير الذي يكثر فيه التخاطب، لكونه غير مقبول ولا مألوف، ولا شك أن الوضع الذي وجد موسى عليه المرأتين، من إهمال الرعاة الرجال لإسعافها، وعدم المبالاة بإعانتها، يعد وضعا غريبا، و " خطبا " عجيبا.
ومعنى ﴿ حتى يصدر الرعاء ﴾ أي حتى ينصرف رعاة الغنم بمواشيهم ويرجعوا من وردهم، و " الرعاء " أحد الجموع التي يجمع عليها لفظ الراعي، ومثله الرعاة.
ومعنى ﴿ تولى إلى الظل ﴾ فارق موقع السقي المعرض لأشعة الشمس، والتجأ إلى ظل ظليل، اتقاء لشدة الحر، واستجماما من عناء السفر الطويل.
وبعدما تنفس موسى الصعداء، من ألم الجوع وشدة الإعياء، وهو وحيد فريد، توجه مرة أخرى إلى ربه الذي نجاه من القوم الظالمين، يسأله الرفد والمدد، والعطاء الذي لا ينفد ﴿ فقال رب إني لما أنزلت من خير فقير ﴾.
والظاهر أن المرأتين اللتين أسعفهما موسى وسقى لهما استرق سمعهما ما تردد على لسانه من التوجه إلى الله، وكان موسى يعتقد أنه لم يسمع أحد صداه، فغلب على ظنهما أن موسى جائع يحتاج إلى ما يسد رمقه، لكنه يتعفف ولا يصرح بالسؤال، وأخبرتا والدهما " بعابر السبيل " الذي وفد على بلدهما، وما يبدو عليه من جميل الخصال وتبدل الأحوال، فقال لهما أبوهما ( صالح مدين وشيخها الكبير ) : " إذا هو جائع وينبغي إطعامه ".
ولو عرفتا موسى حق المعرفة لأدركتا أن همته العالية لا تهتم بالعيش الهنيء، والتمتع بأسباب الرفاهية، وإنما أراد بتوجهه إلى الله ومناجاته إياه إذ قال :﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ﴾ : أن الخير الذي أسديته إلي يا إلهي عندما نجيتني من القوم الظالمين وحررتني من رق فرعون، منة كبرى طوقت بها عنقي، لا يقوم بحقها أي شكر، وما ينعم به آل فرعون من شفوف وثروة وهناء، لا يساوي عندي شربة ماء، إذ هو في الحقيقة عين الذل والفقر والشقاء، و " الفقر " في حمى الخالق هو " الغنى " على وجه التحقيق ﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد ﴾ [ فاطر : ١٥ ] أما الغنى في حمى المخلوق فهو الفقر الذي لا فقر بعده.
وأجاب موسى الدعوة التي وجهها إليه صالح مدين على لسان بنته تصديقا لخبرها، فحضر من دون تأخر إلى بيته، ولما تعرف بعضهما إلى بعض، وجد كل منهما في الآخر ما يحببه في الصحبة والمرافقة، نظرا لما وجداه بينهما من مشاكلة وموافقة، وأفضى موسى بذات نفسه إلى صالح مدين، فما وسعه إلا أن يسليه عما فات، ويطمئنه على ما هو آت ﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ﴾.
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.
وسبق في سورة النمل على لسان العفريت من الجن وهو يرشح نفسه لنقل عرش ملكة سبأ من مقرها إلى بلاط سليمان قبل أن يقوم من مقامه : ﴿ أنا آتيناك به من قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ﴾، فدعم ترشيحه لتلك المهمة بكونه " قويا " على نقل العرش، وكونه " أمينا " على ما فيه، والمراد " بالقوة " في هذا المقام ما يشمل القوة الجسمية والقوة الفكرية، من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، ومن كان قوي الجسم ضعيف العقل، أو قوي العقل لكنه ضعيف الجسم، لا ينهض بالمهمة الموكولة إليه، ويتسرب الخلل إلى العمل المكلف به، بقدر ما هو عليه من ضعف جسمي أو ضعف فكري، أما " الأمانة " فهي بالنسبة لكل عامل صمام الأمان، الذي يحول بينه وبين الغش والكسل والإهمال، ويحميه من سوء التصرف والرشوة والاستغلال، قال أحد العلماء الحكماء : " إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والامانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتم مرادك ".
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.
ـ الأولى : مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة ﴿ قالت إحداهما يا أبت استاجره ﴾. على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.
ـ الثانية : عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.
ـ الثالثة : تولي الولي للعقد عليها.
ـ الرابعة : تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث ﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ﴾.
وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الآية : ٩٠ ]، وقال تعالى في نفس السورة :﴿ واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الآية : ٨٧ ].
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن.
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل : من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما " ؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام ؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار " ؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
ـ أولا : إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ " رهط " من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه :﴿ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ﴾ كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [ الآية : ٩١ ]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
ـ ثانيا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر :" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
ـ ثالثا : إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان : عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المومنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
ـ رابعا : على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية ٢١ إلى الآية ٢٨ في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية ٦٠ إلى الآية ٧٢، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام ؟
ـ خامسا : إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها :﴿ ولوطا إذ قال لقومه ﴾، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا ﴾ إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه ﴾، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري :" الضمير في قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير :" يقول تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين، ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن :" قوله عز وجل :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ﴿ موسى بآياتنا ﴾ يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه :" قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال : أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه :( وما قوم لوط منكم ببعيد } وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل : إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال :" الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.
في بداية هذا الربع ينتقل كتاب الله من الحديث عن إقامة موسى بين ظهراني أهل مدين، حيث عقد مع " شيخ مدين الكبير " عقدا للزواج بابنته، وعقدا للإجارة والقيام بخدمته، إلى الحديث عن وفائه بكلا العقدين، وتأهبه للعودة إلى مسقط رأسه قرير العين، فها هو يغادر أرض مدين ويسير بأهله في رفقته، بعدما قضى " أتم الأجلين واوفاهما " في خدمة صهره ووالد زوجته، ﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ﴾.
ومن حكمة الله وقدره العجيب أن الطقس كان باردا يتوقف على التدفئة، وان الجو كان قاتما يتوقف على الإنارة، فاحتاج موسى إلى نور ونار، وبينما هو كذلك ﴿ آنس من جانب الطور نارا ﴾ أي رأى نارا تضيء على بعد، وكان في رؤيته لها نوع أنس ﴿ قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ﴾.
ثم يدعوه سبحانه وتعالى إلى أن يضبط نفسه ويتجلد، ويسلك مسلك أولي العزم من الرسل، فلا يجزع ولا يخاف، لأن العناية الإلهية ستحيطه كما أحاطتهم بخفي الألطاف، وهذا ما يشير إليه الخطاب الإلهي الموجه إلى موسى إذ يقول :﴿ واضمم إليك جناحك من الرهب ﴾.
ثم كشف الخطاب الإلهي عن السر فيما آتاه الله لموسى الكليم، من الرعاية والتكريم، إذ قال تعالى :﴿ فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ﴾، إ شارة إلى أن تحويل عصا موسى بأمر الله إلى حية تسعى في الوقت المناسب، وتحويل يده من حالتها الطبيعية، إلى يد بيضاء تتلألأ، لها شعاع وبريق، إنما هما برهانان على صدق رسالته، وصحة نبوته، اكرمه الله بهما ليتغلب على عناد فرعون ومغالطته، عندما يقبل على مخاطبته، ويتوجه إليه بدعوته، وعقب كتاب الله على هذا القرار الإلهي الحكيم بأن فرعون وملأه قد جاوزوا الحدود في تصرفاتهم ومعاملاتهم وحياتهم الخاصة والعامة، فلا بد من أن يوجه إليهم الإنذار الأخير، قبل الاعذار وسوء المصير ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾.
ثم يقول متلطفا متعقبا :﴿ فأرسله معي ردا ( ردءا ) يصدقني ﴾ والردء : بمعنى المعين، ﴿ إني أخاف أن يكذبون ﴾.
قال جار الله الزمخشري : " فإن قلت ما الفائدة في تصديق أخيه ( ردا يصدقني ) ؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه ان يقول له : صدقت، أو يقول للناس : صدق موسى، وإنما هو ان يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان ".
وتهدئة لروع موسى وتأمينا له من كل خوف تعهد الحق سبحانه وتعالى برعايته ورعاية أخيه، وحمايتهما من كل أذى، وبشرهما بأن الغلبة في النهاية ستكون لهما ولمن اتبعهما على الحق، ومعنى ذلك ان الهزيمة ستكون عاقبة فرعون وملائه، وهذا التعهد الإلهي النافذ هو ما نطق به قول الله تعالى في نفس السياق :﴿ ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾.
قال الزمخشري : " هذا من الكلام الفخم الذي دل به ( كتاب الله ) على عظمة شأنه، وكبرياء سلطانه، شبههم استحقارا لهم واستقلالا لعددهم وإن كانوا الكثر الكثير، والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر، ونحو ذل قوله تعالى :﴿ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ﴾ [ الزمر : ٦٧ ] وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتدراه، وأن كل مقدور وإن عظم وجل فهو مستصغر إلى جنب قدرته سبحانه وتعالى ".
وبعدما تلا كتاب الله على رسوله الأمي الأمين، نبأ موسى وفرعون بالحق المبين، توجه إليه بالخطاب المستطاب، ممتنا بما قصه عليه من أمرهما في محكم الكتاب، فقال تعالى مخاطبا لخاتم أنبيائه ورسله :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾، و " الغربي " هنا وصف للمكان الواقع في شق الغرب من " الطور، حيث تلقى موسى عنده أمر ربه،
وقال تعالى مخاطبا له مرة ثانية :﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين ﴾ أي ما كنت مقيما بين أظهرهم، فتروي لأمتك خبرهم وخبر إقامة موسى عندهم ﴿ تتلوا عليهم آياتنا ﴾.
ويعرج كتاب الله بعد ذلك على موقف المتعنتين المعاندين الذين تمسكوا بالضلال والخبال حتى بعد إعلان الرسالة ونزول الكتاب، وأخذوا يشترطون للإيمان بخاتم الرسل ان يكون له من الآيات مثل ما أوتي موسى من قبل، والحال أنهم لم يومنوا برسالة موسى ولا برسالة عيسى من بعده، رغما عن الآيات التي قارنت رسالتهما. على أنه لا يلزم أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام واحدة، كما لا يلزم فيما أنزل عليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد.
في بداية هذا الربع أكد كتاب الله أن رعاية الحق، وعنايته بهداية الخلق، رعاية لا تنقطع على الدوام، وعناية لا تتضاءل مع مرور الأيام، وإن اعتصم كثير من الناس بحبل الضلال، ولجو في العناد والجدال، ولذلك توالت الرسالات والرسل عبر الأجيال، وبقيت أبواب الهداية مفتوحة في وجوههم دون أقفال، وها هو خاتم الكتب المنزلة تتوالى سوره وآياته، وتتلاحق نصائحه وعظاته، لخير البشرية جمعاء، وإنقاذها من الضلال العماء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى بمنتهى الإيجاز :﴿ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ﴾ أي أتبعنا رسولا بعد رسول، وأردفنا كتابا بعد كتاب.
لكن كتاب الله بادر إلى إبطال مزاعم مشركي مكة في الحين، مذكرا لهم بأن القداسة التي تتمتع بها مكة، والحرمة التي اختصت بها وعاشوا في ظلها، إنما منحها لها الله جل جلاله، فهو الذي جعلها مقر البيت الحرام، حتى أصبحت موضع التوقير والاحترام عند جميع الأقوام ﴿ أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ﴾ وهذه الخاصية في عهد الجاهلية، لن ترتفع عنها إذا تطهرت من الشرك والمشركين، وعادت من جديد مهد الملة الحنيفية، بل ستصبح مكانتها أعظم وأكبر، وسيصبح ذكرها في العالم أسير وأشهر ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾.
وتعرض كتاب الله في هذا السياق للحديث عن مبدأ أساسي في الإسلام يتجلى فيه العدل الإلهي المطابق، والرحمة الإلهية الواسعة، وهذا المبدأ الأساسي يتألف من شقين اثنين :
الشق الأول : أن الله تعالى لا يعاقب قوما ولا يهلكهم إلا إذا تعدوا حدود الله، وأصبح الظلم شيمتهم، والفساد في الأرض خطتهم، فلم يعودوا صالحين للخلافة عن الله فيها بعمارتها، وحسن التصرف في طيباتها.
والشق الثاني : أن الله تعالى لا يهمل القوم الظالمين، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، ويوجه إليهم الإنذار تلو الإنذار، والإعذار تلو الإعذار، عن طريق الرسل الذين يبعثهم إليهم، والكتب التي ينزلها عليهم، فإذا لم يستجيبوا لله ورسوله ولم يهتدوا بكتابه سقطت حجتهم، وبطلت معذرتهم، ونفذ قضاء الله فيهم، فأهلكهم ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى :﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾، على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ [ هود : ١١٧ ].
والمراد " بالقرى " في كلتا الآيتين نفس المدن الآهلة بالسكان، التي يكون لها من قوة الإشعاع والتوجيه شأن وأي شأن، لا ذلك المعنى المتعارف اليوم في تصنيف المدن والقرى، واعتبار القرية دون المدينة، و " أم القرى " هنا هي كبرى المدن التي تكون عاصمة لها أو بمنزلة العاصمة، كما كانت مكة عند ظهور الإسلام بالنسبة للعرب.
وتعرض كتاب الله في هذا السياق للحديث عن مبدأ أساسي في الإسلام يتجلى فيه العدل الإلهي المطابق، والرحمة الإلهية الواسعة، وهذا المبدأ الأساسي يتألف من شقين اثنين :
الشق الأول : أن الله تعالى لا يعاقب قوما ولا يهلكهم إلا إذا تعدوا حدود الله، وأصبح الظلم شيمتهم، والفساد في الأرض خطتهم، فلم يعودوا صالحين للخلافة عن الله فيها بعمارتها، وحسن التصرف في طيباتها.
والشق الثاني : أن الله تعالى لا يهمل القوم الظالمين، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، ويوجه إليهم الإنذار تلو الإنذار، والإعذار تلو الإعذار، عن طريق الرسل الذين يبعثهم إليهم، والكتب التي ينزلها عليهم، فإذا لم يستجيبوا لله ورسوله ولم يهتدوا بكتابه سقطت حجتهم، وبطلت معذرتهم، ونفذ قضاء الله فيهم، فأهلكهم ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى :﴿ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾، على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ [ هود : ١١٧ ].
والمراد " بالقرى " في كلتا الآيتين نفس المدن الآهلة بالسكان، التي يكون لها من قوة الإشعاع والتوجيه شأن وأي شأن، لا ذلك المعنى المتعارف اليوم في تصنيف المدن والقرى، واعتبار القرية دون المدينة، و " أم القرى " هنا هي كبرى المدن التي تكون عاصمة لها أو بمنزلة العاصمة، كما كانت مكة عند ظهور الإسلام بالنسبة للعرب.
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
والمشهد الثاني ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ :
والمشهد الثاني : يمثل موقف الأمم والأفراد، أمام الأنبياء والرسل عند جمع الجميع " يوم التناد " حيث يقف المكذبون بالرسالات الإلهية حائرين مبلسين، فهم جميعا سواسية في منتهى الحيرة والإفحام، والوجوم التام، وذلك قوله تعالى :﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ﴾ على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٧٢ ].
المشهد الأول : يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى :﴿ قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾
والمشهد الثاني ينطلق من قوله تعالى :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ :
والمشهد الثاني : يمثل موقف الأمم والأفراد، أمام الأنبياء والرسل عند جمع الجميع " يوم التناد " حيث يقف المكذبون بالرسالات الإلهية حائرين مبلسين، فهم جميعا سواسية في منتهى الحيرة والإفحام، والوجوم التام، وذلك قوله تعالى :﴿ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ﴾ على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٧٢ ].
أتبع ذلك بآية كريمة تلمح إلى ما تنضح به ضمائرهم، وتنطوي عليه سرائرهم، فقال تعالى :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾.
أتبع ذلك بآية كريمة تلمح إلى ما تنضح به ضمائرهم، وتنطوي عليه سرائرهم، فقال تعالى :﴿ وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ﴾.
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ﴾
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ﴾ أي في الليل ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ أي في النهار ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾
والمراد " بالشهيد " هنا على سبيل الأصالة رسول كل أمة فهو الذي يشهد على أمته ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ]، ويشهد لهذا قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ [ النساء : ٤١ ]، ويندرج تحت كلمة " شهيد " " بالتبع للرسول " مجموع الشهداء من أمته، مصدقا لقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
لقد نبهنا عند الشروع في تفسير ( سورة القصص المكية ) إلى ان أكبر جزء من آياتها تشغله قصة موسى مع فرعون وقومه، ثم قصة قارون مع قوم موسى، فهما القصتان الوحيدتان الواردتان في هذه السورة، أما بقية الآيات التي تتخللهما فهي للتعقيب والتذييل واستخلاص المثلات والعبر، وها هو كتاب الله بعدما عرض من القصة الأولى ما يعزز مركز الرسول ويؤكد صدق رسالته، ويكون عبرة له ولأمته، يشرع في الحديث عن قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.
ومن وصف كتاب الله لقارون يكتشف المومنون نموذجا غريبا من حياة المترفين الأغرار، وما هم عليه من كبر وبطر وعتو واستكبار، ويشاهدون الصراع القائم بين " العلم السطحي الأعمى " الذي هو أسير الشهوة والأثرة والأنانية، و " العلم العميق المستنير " الذي هو المعيار الصحيح لتمييز الحق من الباطل، والنعيم الباقي من النعيم الزائل.
يقول الله تعالى :﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ﴾ وبذلك يثبت لقارون صفة البغي والظلم، وأنه لم يرقب في قومه إلا ولا ذمة، وهذه الصفة وحدها كافية لأن ينال من اجلها العقاب الإلهي الصارم " فالظلم ظلمات يوم القيامة " " ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب " كما جاء في الحديث الشريف.
ويقول الله تعالى :﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ﴾، إشارة إلى الثراء الواسع الذي أصبح يتقلب فيه، حتى ان مفاتح خزائنه وحدها أصبحت من كثرة كنوزه وتنوع مدخراته تكون حملا ثقيلا يعجز عن ضبط أمره والنهوض به الجمع القوي من الخدم والحشم. وكون قارون ممن يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يشرك في النفع به أحدا من عباد الله، كاف ليجعله موضع غضب الله، مصداقا لقوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : ٣٤ ].
ويرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد، ويحاولون أن يسدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم ﴿ إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ﴾
لقد نبهنا عند الشروع في تفسير ( سورة القصص المكية ) إلى ان أكبر جزء من آياتها تشغله قصة موسى مع فرعون وقومه، ثم قصة قارون مع قوم موسى، فهما القصتان الوحيدتان الواردتان في هذه السورة، أما بقية الآيات التي تتخللهما فهي للتعقيب والتذييل واستخلاص المثلات والعبر، وها هو كتاب الله بعدما عرض من القصة الأولى ما يعزز مركز الرسول ويؤكد صدق رسالته، ويكون عبرة له ولأمته، يشرع في الحديث عن قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.
ومن وصف كتاب الله لقارون يكتشف المومنون نموذجا غريبا من حياة المترفين الأغرار، وما هم عليه من كبر وبطر وعتو واستكبار، ويشاهدون الصراع القائم بين " العلم السطحي الأعمى " الذي هو أسير الشهوة والأثرة والأنانية، و " العلم العميق المستنير " الذي هو المعيار الصحيح لتمييز الحق من الباطل، والنعيم الباقي من النعيم الزائل.
يقول الله تعالى :﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ﴾ وبذلك يثبت لقارون صفة البغي والظلم، وأنه لم يرقب في قومه إلا ولا ذمة، وهذه الصفة وحدها كافية لأن ينال من اجلها العقاب الإلهي الصارم " فالظلم ظلمات يوم القيامة " " ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب " كما جاء في الحديث الشريف.
ويقول الله تعالى :﴿ وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ﴾، إشارة إلى الثراء الواسع الذي أصبح يتقلب فيه، حتى ان مفاتح خزائنه وحدها أصبحت من كثرة كنوزه وتنوع مدخراته تكون حملا ثقيلا يعجز عن ضبط أمره والنهوض به الجمع القوي من الخدم والحشم. وكون قارون ممن يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يشرك في النفع به أحدا من عباد الله، كاف ليجعله موضع غضب الله، مصداقا لقوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : ٣٤ ].
ويرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد، ويحاولون أن يسدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم :" نعم المال الصالح للرجل الصالح " وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم ﴿ إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ﴾
﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾
وعقب كتاب الله على تصريح قارون المليء بالجهل والكبر، مذكرا بسنة الله التي قد خلت من قبل في هذا النوع من عتاة المترفين، وأنه يمهلهم ولا يمهلهم، بل ينتقم منهم ويهلكهم، ويصبحون أثرا بعد عين، وذلك قوله تعالى :﴿ أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ﴾ والضمير يعود على قارون وكل من هو على شاكلته، ثم يقول الله تعالى :﴿ ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون ﴾، إشارة إلى حقارة هذا النوع المتكبر المتجبر وهوانه على الله، حتى انه لا يسأل يوم القيامة سؤال استعتاب، لأنه ليس أهلا للعتاب، كما في قوله تعالى :﴿ ثم لا يوذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ﴾ [ النحل : ٨٤ ]، وقوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون، ولا يوذن لهم فيعتذرون ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ]. وقوله تعالى :﴿ فما هم من المعتبين ﴾ [ فصلت : ٢٤ ]. وهذا لا ينفي أن أمثال هؤلاء المجرمين سيسألون يوم القيامة سؤال تقريع وتوبيخ يتلاءم مع مقدار جرمهم، وبالغ كبرهم، مصداقا لقوله تعالى :﴿ فوربك لنسئلنهم أجمعين، عما كانوا يعملون ﴾ [ الحجر : ٩٢، ٩٣ ].
وإلى الانفعالات والتعليقات التي أثارها تبجح قارون وخروجه في زينته، بالنسبة لكلا الفريقين يشير قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾
وإلى الانفعالات والتعليقات التي أثارها تبجح قارون وخروجه في زينته، بالنسبة لكلا الفريقين يشير قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ﴾
وكلمة ( وي ) في قوله تعالى هنا :﴿ ويكأن الله ﴾، وقوله :﴿ ويكأنه ﴾ هي في الأصل كلمة مستقلة ومفصولة عن ( كأن ) التي جاءت بعدها، وإن كانت في رسم المصحف الكريم متصلة معها اتصال الكلمة الواحدة، وهي كلمة تقال عند التنبيه للخطأ وإظهار التندم، وكتاب الله عندما استعمل كلمة ( وي ) في هذا المقام أراد أن يبين أن قوم قارون قد تنبهوا إلى خطئهم في تمنيهم، عندما قالوا من قبل :﴿ يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ﴾، وأنهم تندموا على ما فرط منهم من فلتات اللسان، عندما رأوا رأي العين أن مآل الكافرين بأنعم الله هو الخذلان والخسران، وهذا المعنى هو الذي يعبر عنه قوله تعالى في آية أخرى :﴿ لئن شكرتم لأزيدكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٧ ].
وكما قال موسى لفرعون وملائه فيما سبق بإرشاد من ربه :﴿ ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ﴾ ها هو كتاب الله يلقن لنبيه الصادق الأمين نفس الأسلوب الحكيم، ويحضه على أن يتلطف مع من يجادلونه، ويرخى لهم العنان، عسى أن يستدرج إلى الحق من يجادل في الحق بغير حجة ولا برهان، وذلك قوله تعالى :﴿ قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ﴾، على غرار قوله تعال في سورة سبأ :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أ في ضلال مبين ﴾ [ الآية : ٢٤ ]
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾
﴿ لا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ﴾
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾
﴿ ولا تدع مع الله إلها آخر ﴾. وإذا كان هذا الخطاب موجها في ظاهره إلى الرسول، فإنه موجه في الحقيقة عن طريقه إلى كل فرد من أمة القرآن، في كل جيل وكل زمان.
وعندما أشرفت " سورة القصص " على التمام والكمال، ذكر كتاب الله كافة البشر، وفي طليعتهم كل من طغى وتجبر، بحقيقة أزلية كبرى تتهاوى أمامها جميع الادعاءات الزائفة والتحديات الباطلة، ألا وهي أن الله تعالى هو وحده الحي القيوم، الدائم الحياة والبقاء، الذي لا يلحقه موت ولا فناء، المتصرف في ملكه والقاهر فوق عباده من كافة الأحياء دون استثناء، وذلك قوله تعالى في ختام هذه السورة :﴿ لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم ﴾ على غرار قوله تعالى :﴿ كل من عليها ﴾ أي على الأرض ﴿ فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال الإكرام ﴾ [ الرحمان : ٢
وردا على من يظن أن مسؤولية الإنسان تنتهي بمفارقة الروح للجسد، وأنه لا حشر ولا نشر، ولا ثواب ولا عقاب بعد الموت، أعقب قوله تعالى :﴿ كل شيء هالك ﴾ بقوله تعالى :﴿ وإليه ترجعون ﴾، بمعنى أن كل إنسان هالك عند الموت لا محالة، لكنه رغم موته لا بد أن يبعث ويحشر ويرجع إلى الله لينال جزاءه الأوفى إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وأما هلاك الكون بالمعنى العام فقد فسره ابن حزم وابن القيم وفخر الدين الرازي بما يحدث في الكون من انقلاب شامل يتجلى في تغيير معالمه وتبديل أحواله، حسبما وصفته وفصلته آيات الذكر الحكيم، وذلك طبقا لمشيئة خالق الكون ومدبر أمره، الذي يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد. وحجتهم في ذلك وجوب الوقوف عند ظاهر قوله تعالى في سورة إبراهيم :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار ﴾ [ الآية : ٤٨ ].