تفسير سورة القمر

معاني القرآن
تفسير سورة سورة القمر من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله عزَّ وجلَّ :
﴿ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ ذُكرَ : أنّهُ انشقَّ، وأَنَّ عبدَ الله بن مسعودٍ رأى حراء من بَيْن فِلقتيه فلقتي القمر.
وقوله :﴿ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً ﴾. يعني القمرَ ﴿ يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴾.
أي : سيبطل ويذهَبُ.
وقَالَ بَعْضهم : سِحْر يُشبهُ بعضُه بعضاً.
وقوله :﴿ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴾.
سيقر قرار تكذيبهم، وقرارُ قولِ المصدّقينَ حتَّى يَعْرِفوا حقيقَتهُ بالعقاب والثواب.
وقوله :﴿ مُزْدَجَرٌ ﴾ مُنتهي.
وقوله :﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾.
مرفوعٌ على الردّ على ( ما فيه مُزْدجَر )، و ( ما ) في موضع رفع، ولو رفعته على الاستئناف كأنّكَ تُفَسِّرُ به ( ما ) لكانَ صواباً، ولو نُصبَ على القطع لأنّهُ نكرَة، وما معرفة كانَ صواباً.
ومثله في رَفْعه :﴿ هذا ما لديَّ عتيدٌ ﴾ ولو كان ( عتيدٌ ) منصوباً كان صواباً.
وقوله :﴿ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ﴾.
إن شئت جعلتَ ( ما ) جحداً تُريدُ : ليْسَت تُغني عَنْهم النذُرُ، وإن شئتَ جعلتها في موضع أي كأنكَ قلتَ. فأي شيء تُغني النذرُ. [ ١٨٧/ا ]
وقوله :﴿ خَاشِعاً أَبْصَارُهُمْ ﴾.
إذا تقدَّمَ الفِعلُ قبل اسمٍ مؤنثٍ، وهوَ لَهُ أو قبل جمع مؤنثٍ مثل : الأبصارِ، والأعمار وما أشبهُها جَازَ تأنيثُ الفِعْل وتذكيرهُ وجَمْعُهُ، وقد أتى بذلك في هذا الحرف، فقرأهُ ابن عباس( خاشعاً ).
[ حدثني محمد بن الجهم قال ] حدثنا الفراء قالَ : وحدثني هشيمٌ وأبو معاوية عن وائل ابن داودَ عن مُسلم بن يسارٍ عن ابن عباسٍ أنَّه قرأها ( خاشعاً ).
[ حدثني محمد قال ] حدثنا الفراء قالَ : وحدثني هُشيمٌ عن عوفٍ الأعرابي عن الحسن وأبي رجاء العُطارديّ أن أحدَهُما قال :( خاشعاً ) والآخر ( خُشَّعاً ).
قال الفراء : وهي في قراءة عبد اللهِ ( خاشِعةً أبصارُهُم ). وقراءةُ الناس بَعْدُ ( خُشعاً أبصارُهم ).
وقد قال الشاعرُ :
وشبَابٍ حَسنٍ أوجُهُهُمْ من إياد بن نزار بن مَعَدِّ
وقال الآخرُ.
يرمي الفِجاجَ بها الركبانُ مُعترضاً أعناقَ بُزَّلِها مُرْخًى لها الجدُلُ
قال الفراء : الجدُلُ : جَمْعُ الجَديلِ، وهوَ الزمامُ، فلو قالَ : مُعترضاتٍ، أو مُعترضةً لكان صواباً، مُرْخاةً ومرخياتٍ.
وقوله :﴿ مُّهْطِعِينَ ﴾. ناظِرينَ قِبلَ الداع.
وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾.
زُجِرَ بالشتم، وازْدُجِر افْتعل من زَجَرْتُ، وإذا كانَ الحرف أَولُهُ زاي صارتْ تاء الافتِعال فيه دالاً ؛ مِنْ ذلِكَ : زُجِرَ، وازْدُجِرَ، ومُزْدَجَرٌ، ومن ذَلِكَ : المُزْدَلِفُ ويزدادَ هي من الفِعل يَفتعِلُ فَقِس عليه ما وردَ.
وقوله :﴿ فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾.
أرادَ الماءين : ماء الأرض، وماء السماء، ولا يَجُوزُ التقاء إلاّ لاسمين، فما زاد، وإِنّما جَازَ في الماء، لأن الماء يكُونُ جمعاً ووَاحداً.
وقوله :﴿ على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾. قُدر في أمّ الكتاب.
ويقال : قد قُدِرَ أَن الماءين كانَ مقدَارُهُما واحداً. ويقال : قد قُدرَ لِما أرادَ اللهُ من تعذيبهم.
وقوله :﴿ وَحَمَلْناهُ ﴾.
حَملْنا نُوحا على ذاتِ ألواحٍ يعني : السفينة، ﴿ وَدُسُرٍ ﴾ مَسامِيرُ السفينة، وشُرُطُها التي تُشَد بها.
وقوله :﴿ جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴾.
أي : جُحِدَ.
يقولُ : فَعلنا به وبهم ما فعلنا جزاء لِما صُنَع بنوحٍ وأصحابه، فقال : لِمَنْ يُريدُ القَومَ، وفيه مَعْنى ما. ألا تَرى أنَّك تقولُ : غُرّقوا لنوحٍ ولِما صُنعَ بنُوح، والمعنى واحد.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ تَّرَكْناها آيَةً ﴾.
يقولُ : أبقيناها من بعد نُوح آيَةً.
وقوله :﴿ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾.
المعنى : مُذتَكرٍ، وإذا قلتَ : مُفْتعلٌ فيما أوّلهُ ذالٌ صارت الذالُ وتاءُ الإفتعال دالاً مُشدَّدة وبعض بني أسدٍ يقولونَ : مُذّكرٌ، فُيُغَلبُونَ الذَّال فتصيرُ ذالاً مشددةً.
[ حدثنا محمد بن الجهم قال ] : حدثنا الفراء قال : وحدثني الكسائي [ وكان والله ما علمته إلاّ صدوقا ] عن إسرائيلَ والقَرْزميّ عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال : قلنا لعبد الله : فهلم من مُذَّكرٍ، أو مُدَّكرٍ، فقال : أقرأني رسول الله [ ١٨٧/ب ] صلى الله عليه وسلم :( مُدَّكِرٌ ) بالدال.
وقوله :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾.
النذرُ ها هُنا مصدَرٌ معناهُ : فكيْفَ كانَ إِنذاري، ومثلُهُ ﴿ عذراً أو نذراً ﴾ يُخفّفانِ ويثقلان كما قال ﴿ إلى شيء نُّكُرٍ ﴾ فثُقّلَ في «اقتربَتْ » وخفف في سورة النساء القصرَى فقيل «نُكْراً ».
وقوله :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ﴾.
يقولُ : هوّناه ولولا ذلِكَ ما أطاقَ العبادُ أن يتكلمُوا بكلام الله. ويقال : ولقد يسرنا القرآن للذكر : للحِفْظ، فليس من كتاب يُحفَظُ ظاهراً غيرُه.
وقوله :﴿ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ﴾. استمر عليهم بنُحُوسَتِه.
وقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ﴾ أسَافلُها. مُنقَعِرٌ المصُرَّعُ منَ النخل.
وقوله :﴿ إِنا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ ﴾. أرادَ بالسُّعُر : العَناء لِلعَذاب.
وقوله :﴿ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ قرأ مُجاهدٌ وحدَهُ : الأَشُر.
[ حدثنا محمد بن الجهم قال :] حدثنا الفراء قال : وحدثني سفيان بن عيينَة عن رجلٍ عن مجاهدٍ أنه قرأ ( سَيَعْلَمُونَ ) بالياء كذا قال سفيانُ ﴿ مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ﴾ وهو بمنزلة قولك في الكلام : رجل حَذِر، وحَذُرٌ، وفطِنٌ، وفطُنٌ. وعجِل، وعَجُلٌ.
[ حدثنا محمد بن الجهم قال ] حدثنا الفراء قال : حدثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أب عبد الرحمن عن علي بن أبي طالب أنه قرأ : سيعلمون غدا بالياء.
وقوله :﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ﴾.
للناقة يوم، ولهم يوم، فقال : بينهم وبين الناقة.
وقوله :﴿ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾. يحتضره أهله ومن يستحقه.
وقوله :﴿ فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾.
الذي يحتظرُ على هشيمه، وقرأ الحسن وحده : كهشيم المحتظَر، فتح الظاء فأضاف الهشيم إلى المحتظَر، و هو كما قال :﴿ إِنَّ هذا لهو حقُّ اليقين ﴾، والحق هو اليقين، وكما قال :﴿ ولَدَارُ الآخِرةِ خَيْرٌ ﴾ فأضاف الدار إلى الآخرة، وهي الآخرة، والهشيم : الشجر إذا يبس.
وقوله :﴿ نَّجَّيْناهُم بِسَحَرٍ ﴾.
سحر ههنا يجري ؛ لأنه نكرة، كقولك : نجيناهم بليلٍ، فإذا ألقت منه العرب الباء لم يجروه، فقالوا : فعلت هذا سحر يا هذا، وكأنهم في تركهم إجراءه أنّ كلامهم كان فيه بالألف واللام، فجرى على ذلك، فلما حذفت الألف واللام، وفيه نيتهما لم يصرف. كلام العرب أن يقولوا : ما زال عندنا مذ السحر، لا يكادون يقولون غيره.
وقوله :﴿ فَتَمارَوْاْ بِالنُّذُرِ ﴾. كذّبوا بما قال لهم.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ﴾ :
العرب تجرى : غدوة، وبكرة، وَلا تجريمها، وأكثر الكلام في غدوة ترك الإجراء وأكثره في بكرة أن تُجرَى.
قال : سمعت بعضهم يقول : أتيته بكرةَ باكرا، فمن لم يجرها جعلها معرفة ؛ لأنها اسم تكون أبداً في وَقت واحد بمنزلة أمسِ وغدٍ، وأكثر ما تجرى العرب غدوة إذا قرنت بعشية، فيقولون : إني لآتيك غُدوةً وَعشيةً، وَبعضهم غدوةً وعشيةَ، ومنهم من لا يجرى عشية [ ١٨٨/ا ] لكثرة ما صحبت غدوةَ.
وقوله :﴿ عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ﴾.
يقول : عذابٌ حق.
وقوله :﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ ﴾.
يقول : أكفاركم يأهل مكة خير من هؤلاء الذين أصابهم العذاب أم لكم براءة في الزبر ؟ يقول : أم عندكم براءة من العذاب.
ثم قال : أم يقولون : أي أيقولون : نحن جميع كثير منتصر.
فقال الله :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ وهذا يوم بدر.
وقال : الدبر فوحّد، ولم يقل : الأدبار، وكلّ جائز، صواب أن تقول : ضربْنا منهم الرءوس والأعين، وضربنا منهم الرأس واليد، وهو كما تقول : إنه لكثير الدينار والدرهم، تريد الدنانير والدراهم.
وقوله :﴿ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ ﴾ يقول : أشد عليهم من عذاب يوم بدر، وَأمرُّ من المرارة.
وقوله :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ على وُجُوهِهِمْ ﴾.
وفي قراءة عبد الله «يوم يسحبون إلى النار على وجوههم ».
وقوله :﴿ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾. سقر : اسم من أسماء جهنم لا يجرى، وكل اسم كان لمؤنث فيه الهاء أو ليس فيه الهاء فهو يجرى إلا أسماء مخصوصة خفت فأجريت، وترك بعضهم إجراءها، وهي : هند، ودعد، وجُمل، ورئم، تُجرى ولا تُجرى. فمن لم يُجرها قال : كل مؤنث فحظه ألا يجرى، لأن فيه معنى الهاء، وإن لم تظهر ألا ترى أنك إذا حقّرتها وصغرتها قلت : هنيدة، ودعيدة، ومن أجراها قال : خفت لسكون الأوسط منها، وأسقطت الهاء، فلم تظهر فخفّفت فجرت.
وقوله :﴿ وَما أَمْرُنا إِلاَّ وَاحِدَةٌ ﴾ أي : مرة واحدة هذا للساعة كلمح خطفة.
وقوله :﴿ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ﴾. يريد : كل صغير من الذنوب أو كبير فهو مكتوب.
وقوله :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَناتٍ وَنَهَرٍ ﴾ معناه : أنهار، وهو في مذهبه كقوله :﴿ سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُولُّونَ الدُّبُرَ ﴾. وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون : أتينا فلانا فكنا في لحمةٍ ونبيذة فوحد ومعناه الكثير.
ويقال :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَناتٍ وَنَهَرٍ ﴾ في ضياء وسعة، وسمعت بعض العرب ينشد :
إِن تك ليليا فإني نَهِرُ متى أرى الصبح فلا أنتظرُ
ومعنى نهر : صاحب نهار وقد روى «وما أمْرُنا إلاَّ وَحدةً » بالنصب وكأنه أضمر فعلا ينصب به الواحدة، كما تقول للرجل : ما أنت إلا ثيابَك مرة، وَدابتك مرة، وَرأسك مرة، أي : تتعاهد ذاك.
وَقال الكسائي : سمعت العرب تقول : إنما العامري عِمَّتَه، أي : ليس يعاهد من لباسه إلا العمة، قال الفراء : وَلا أشتهي نصبها في القراءة.
Icon