تفسير سورة المدّثر

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم .
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا بَشره في السورة بإنزال القرآن عليه، وذكر ما يترتب عليه، أمره بإنذار الكفار وتهديدهم بما يؤلون إليه فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾: المتدثر المتلفف بالثياب عند نزول الوحي خوفا، والدثار ما فوق الشعار، وهو ما يلي الجسد ﴿ قُمْ ﴾: قيام جد ﴿ فَأَنذِرْ ﴾: الكفار ﴿ وَ ﴾: أما ﴿ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾: خصصه بالكبرياء ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾: عن النجاسة، أو قصِّر، أو أصلح أخلاقك ﴿ وَٱلرُّجْزَ ﴾: بالكسر أي: العذاب أي: موجبة وبالضم هو أو الأوثان ﴿ فَٱهْجُرْ ﴾: دم على هجرته ﴿ وَلاَ تَمْنُن ﴾: تعط وأنت ﴿ تَسْتَكْثِرُ ﴾: أي: تطلب أكثريته وهذا من خصائصه، وقيل: مطلق العوض ﴿ وَلِرَبِّكَ ﴾ أي: لتكاليفه ﴿ فَٱصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ ﴾: نفخ ﴿ فِي ٱلنَّاقُورِ ﴾: أي: الصور ثانية ﴿ فَذَلِكَ ﴾: الوقت ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾: بدل منه ﴿ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾: لا على المؤمنين ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ ﴾: خلقته ﴿ وَحِيداً ﴾: بلا أهل ومال، يعني: وليد بن المغيرة ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾: مبسوطات ﴿ وَبَنِينَ ﴾: عشرة ﴿ شُهُوداً ﴾: حاضرين لاستغنائهم عن السفر والتجارة ﴿ وَمَهَّدتُّ ﴾: بسطتُّ ﴿ لَهُ ﴾: في النّعم ﴿ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴾: على ذلك ﴿ كَلاَّ ﴾: ردع عن طمعه ﴿ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا ﴾: القرآن ﴿ عَنِيداً ﴾: معاندا، ثم ما زال بعد نزولها ينقص ماله حتى هلك ﴿ سَأُرْهِقُهُ ﴾: أكلفه ﴿ صَعُوداً ﴾: عقبة شاقة المصعد، وهو مثل في الشدائد، أو جبل في النار يكلف صعوده دائما عليه، إذا وضع يده ورجله عليه ذابتها، وإذا رفعهما عادتا ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ ﴾: فيما تخيل طعنا في القرآن ﴿ وَقَدَّرَ ﴾: من نفسه بالقول فيه ﴿ فَقُتِلَ ﴾ لعن ﴿ كَيْفَ قَدَّرَ ﴾ ما لا يصح تقديره ﴿ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ ﴾: في آمر القرآن ﴿ ثُمَّ عَبَسَ ﴾: قبض وجهه لما لم يجد فيه طعنا ﴿ وَبَسَرَ ﴾: زاد عبوسه ﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ ﴾: عن الحق ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾: عنه، ولما سمع القرآن وأعجبه ومدحه خاف قرش إسلامه، فبالغوا معه أن يطعن فيه، وكان أشعرهم ﴿ فَقَالَ إِنْ ﴾ ما ﴿ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾: ينقل عن السحرة، إذ به يفرقه بين الأقرباء فإنَّ من آمن به ترك أقاربه ﴿ إِنْ ﴾: أي: ما ﴿ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ ﴾: أدخله ﴿ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾: كما مر ﴿ لاَ تُبْقِي ﴾: شيئا يلقى فيها إلا أحرقته ﴿ وَلاَ تَذَرُ ﴾: بعد إحراقه، بل كلما نضجت جلودهم إلى آخره ﴿ لَوَّاحَةٌ ﴾: مسودة ﴿ لِّلْبَشَرِ ﴾ أي: للإنس من الكفرة، أو جمع بشرة، بلي ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾: ملكا أعيهم كالبرق، وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، قيل: سر عددهم أن الساعات أربع وعشرون، خمسة منها للصلوات الخمس وتسعة عشر لغيرها، أو لأن اختلاف نفوسنا بسبب القوى الحيوانية الإثنا عشرة أي: الحواس والشهوية، والغضبية وبالطبيعية السبع العادية والنامية والمولدة، وخدامها أي: الجاذبة والماسكة، والهاضمة والدافعة، والله تعالى أعلم. قال القرطي: والصحيح أنهم الرؤساء، وأما جملتهم فيحكيها قوله: وما يعلم جنود ربك إلا هو. ولما قال أبو الأشد بعد سماعه الآية: أنا أكفيكم سبعة شعر واكفوني اثنين نزل: ﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً ﴾: فلا يغلبهم أحد ﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ ﴾: عددا كان ﴿ فِتْنَةً ﴾: أي: ضلالة ﴿ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾: إذ استهزءوا به ﴿ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾: صدق محمد صلى الله عليه وسلم لموافقته مع كتبهم ﴿ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ ﴾: منهم به ﴿ إِيمَٰناً وَلاَ ﴾: أي: ولئلا ﴿ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾: تأكيد ﴿ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾: نفاق ﴿ وَٱلْكَٰفِرُونَ ﴾: إنكاراً ﴿ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا ﴾: العدد ﴿ مَثَلاً ﴾: جعلوه مثلاً لغرابته، وهذا إخبار بمكة عما سيكون بالمدينة ﴿ كَذَلِكَ ﴾: الإضلال والهدى ﴿ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ ﴾: من خلقه على ما هم عليه ﴿ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ ﴾: أي: سقر ﴿ إِلاَّ ذِكْرَىٰ ﴾: عظة ﴿ لِلْبَشَرِ * كَلاَّ ﴾: ردع لمنكريها ﴿ وَٱلْقَمَرِ * وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ مضى ﴿ وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ ﴾: أضاء ﴿ إِنَّهَا لإِحْدَى ﴾: البلايا ﴿ ٱلْكُبَرِ ﴾ هذا مثل: أحد الرجال، أي: لا نظير له ﴿ نَذِيراً ﴾ إنذاراً ﴿ لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ ﴾: إلى الخير ﴿ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾: عنه ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾: أي: بعملها مروهة ﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ ﴾: المؤمنين، فإنهم فكوا رقابهم بإحسانهم، أو الملائكة أو الأطفال ﴿ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾: أي: يسألون المجرمين ﴿ عَنِ ﴾ حال ﴿ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ قائلين لهم: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ ﴾: نشرع في الباطل ﴿ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ * حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ ﴾: الموت ﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ ﴾: لو شفعوا لهم فرضا ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ ﴾: القرآن ﴿ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ ﴾: في نفارهم عنه ﴿ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ﴾: وحسية ﴿ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾: أسد أو صياد أو شبكة ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ ﴾: من الله ﴿ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾: غير مطوية على تصديقه ﴿ كَلاَّ ﴾: رَدْعٌ عن إرادتهم ﴿ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ ﴾: فلذا يعرضون ﴿ كَلاَّ ﴾: إلا ﴿ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾: اتعَظَ بهِ ﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ ﴾ به ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾: تذكيرهم ﴿ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ ﴾: للمتقين - واللهُ أعْلَمُ بالصّواب.
Icon