تفسير سورة المدّثر

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ست وخمسون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يأيها المدثر ﴾ أي المتلفف بثيابه ؛ من تدثر أي لبس الدثار، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذي بلى البدن نودي صلى الله عليه وسلم بسم مشتق من صفه التي كان عليها ؛ كما قدمنا في أول سورة المزمل.
﴿ قم فأنذر ﴾ انهض فخوف عشيرتك الأقربين العذاب ؛ لقوله تعالى : " وأنذر عشيرتك الأقربين " ١. أو جميع الناس، وبلغهم رسالة ربك ؛ لقوله تعالى : " وما أرسلناك إلا كافر للناس بشيرا ونذيرا " ٢ ؛ من الإنذار وهو إخبار معه تخويف.
١ آية ٢١٤ الشعراء..
٢ آية ٢٨ سبأ..
﴿ وربك فكبر ﴾ أي اخصص ربك بالتكبير والتعظيم
﴿ وثيابك فطهر ﴾ أي ونفسك فطهر عما تذم به من الأفعال. أو فطهر من الذنوب والآثام. وهو كما يقال : فلان طاهر الثياب، ونقي الثياب : إذا صفوه بالنقاء من المعايب أو من الآثام. والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالدوام على الطهارة الحسية والمعنوية في كل شئونه ؛ وقد طبعه الله عليها، وكمله تكميلا.
﴿ والرجز فاهجر ﴾ اترك الأصنام والأوثان. أو المآثم والمعاصي المؤدية إلى العذاب، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين. أي دم على ترك ذلك واثبت عليه. والرجز – بضم الكسر : العذاب ؛ كالذكر والذكر. والمراد : هجر ما يؤدي إليه. وقيل : المضموم بمعنى الضم أو عبادة الأوثان. والمكسور بمعنى العذاب، أو النقائص والفجور.
﴿ ولا تمنن تستكثر ﴾ لا تعط أحدا شيئا طالبا للكثير عوضا عنه ؛ فهو نهى عن الاستعواض نهى تحريم، فيحرم
عليه أن ينتظر العوض عما أعطى. وهو خاص به صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى اختار لنبيه أشرف الآداب وأحسن الأخلاق. وأما بالنسبة لأمته فهو جائز. وقيل : النهي للتنزيه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم ولأمته. أو لا تنعم على أحد بشيء رائيا ما أنعمت به كثيرا ؛ لأن ذلك لا يليق بك.
﴿ فإذا نقر في الناقور ﴾ أي نفخ في الصور النفخة الثانية ؛ من النقر بمعنى التصويت. وأصله : القرع الذي هو سببه.
﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا... ﴾ أي اتركني وهذا الذي خلقته وحيدا فريدا، لا مال له ولا ولد، وهو الوليد بن المغيرة المخزومي.
﴿ وجعلت له مالا ممدودا ﴾ كثيرا يمد بعضه بعضا ؛ دائما غير منقطع.
﴿ وبنين شهودا ﴾ حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه ؛ لعدم احتياجهم للغياب في طلب الكسب.
﴿ ومهدت له تمهيدا ﴾ بسطت له الجاه والرياسة. وأصل التمهيد : التسوية والتهيئة ؛ ومنه مهد الصبي، وتجوز به عما ذكر.
﴿ ثم يطمع أن أزيد ﴾ أي ثم هو لشدة حرصه وطمعه يطمع في زيادة ما أنعمت به عليه ؟ !. دعني وإياه فأنا أكفيكه، وأغنيك في الانتقام منه – لشدة كفره وطغيانه – عن أي منتقم.
﴿ إنه كان لآيتنا عنيدا ﴾ جحودا، أو معاندا، أو مجانبا للحق [ آية ٥٩ هود ص ٣٦٧، ١٥ إبراهيم ص ٤١١ ].
﴿ سأرهقه صعودا ﴾ سأغشيه عقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق، ولا راحة منه. يقال : رهقه الأمر يرهقه، غشية بقهر.
﴿ إنه فكر ﴾ أي ردد فكره وأداره تابعا لهواه فيما يقوله طعنا في القرآن.
﴿ وقدر ﴾ أي وهيأ ما يقوله في نفسه فقال : " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول للبشر ". يقال : قدرت الشيء أقدره، إذا هيأته. وتقدر – بالتشديد : تهيأ.
﴿ فقتل ﴾ أي فلعن ؛ أو عذب ؛ وهو دعاء عليه. ﴿ كيف قدر ﴾ استفهام تعجيب من تقديره، وإنكار توبيخ.
﴿ ثم عبس ﴾ قطب ما بين عينيه لما لم يجد في القرآن مطعنا، وضاقت عليه مذاهب الحيل فيما يقوله فيه. يقال : عبس يعبس عبسا وعبوسا، إذا قطب جبينه وكلح وجهه. وأصله من العبس، وهو ما تعلق بأذناب الإبل من أبوالها وأبعارها وقد جف عليها. وباعتبارها اليبس والتقبض أطلق على ما ذكر عبوس. ﴿ وبسر ﴾ إتباع لما قبله أو تأكيد له ؛ أي كلح وجهه. يقال : بسر يبسر بسرا وبسورا، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء، وسود وجهه منه ومنه وجه باسر : أي منقبض أسود. أو أظهر العبوس قبل أوانه ؛ من البسر بمعنى الاستعجال بالشيء. يقال : بسر الرجل الحاجة، طلبها في غير أوانها. وبسر الفحل الناقة : ضربها قبل أن تطلب.
﴿ سأصليه سقر ﴾ سأدخله سقر ليذوق حرها ؛ وهي طبق من أطباق جهنم. والجملة بدل من " سأرهقه صعودا ".
﴿ لواحة للبشر ﴾ هي مغيرة للبشرات، مسودة للجلود، تلفحها لفحة فتدعها أشد سوادا من الليل في أول الملاقاة ثم تهلكها. صيغة مبالغة ؛ من لوحته الشمس : إذا سودت ظاهره وأطرافه. والبشر : جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. وجمع البشر أبشار.
﴿ عليها تسعة عشر ﴾ ملكا يلون أمرها.
﴿ وما جعلنا عدتهم ﴾ أي ما أخبرنا بعدتهم هذه إلا﴿ فتنة ﴾ ابتلاء﴿ للذين كفروا ﴾ لاستبعادهم تولى تسعة عشر ملكا تعذيب أكثر الثقلين، واستهزائهم بذلك وأصله إنكارهم البعث. ﴿ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي ليكتسب أهل الكتابين اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم القرآن لموافقته لهما في عدتهم. ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾ أي وما يعلم خلائقه الذين منهم هؤلاء الملائكة من حيث العدد والقوة والتسخير إلا هو عز وجل. ﴿ ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ أي بهذا العدد المستغرب استغراب المثل. يريدون بذلك نفي أن يكون من عند الله
تعالى. ﴿ وما هي إلا ذكرى للبشر ﴾ أي وما سفر وصفتها إلا تذكرة وموعظة للناس. أو وما هذه العدة إلا تذكرة وعظة ؛ من جهة أن في خلقه ما هو في غاية العظم والقوة حتى يكفى القليل منهم لإهلاك الكثير الذي لا يحصى.
﴿ والليل إذ أدبر ﴾ ولّى ذاهبا. وقرئ " دبر " وهما لغتان بمعنى واحد.
﴿ والصبح إذا أسفر ﴾ أضاء وانكشف.
﴿ إنها لإحدى الكبر ﴾ إن سقر لإحدى الدواهي الكبر ؛ جمع الكبرى. أي أنها من بين البلايا العظيمة لواحدة في العظم لا نظير لها.
﴿ نذيرا للبشر ﴾ أي إنذارهم لهم، وهو تمييز " لإحدى الكبر " أو منذرة لهم.
﴿ لمن شاء منكم... ﴾ أي نذيرا للذين إن شاءوا تقدموا للخير ففازوا، وإن شاءوا تأخروا عنه فهلكوا. أو منذرة للمتمكنين من السعي إلى الخير والتخلف عنه.
﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ أي مرهونة بكسبها عنده تعالى. مأخوذة بعملها ؛ فإما خلصها وإما أوبقها.
﴿ إلا أصحاب اليمين ﴾ وهم المؤمنون المخلصون ؛ فإنهم فاكون رقابهم بما أحسنوا من الأعمال، كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين.
﴿ وكنا نخوض مع الخائضين ﴾ كنا نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، لا نتورع عن شيء منه [ آية ١٤٠ النساء ص ١٧٤ ]. وأكثر ما استعمل الخوض في القرآن فيما يذم الشروع فيه.
﴿ كأنهم حمر مستنفرة ﴾ كأن هؤلاء الكفار في إعراضهم عن القرآن حمر وحشية نافرة
﴿ فرت من قسورة ﴾ هربت من أسد ؛ من القسر بمعنى القهر ؛ لأنه يقهر السباع. أو من جماعة الرماة الذين يصطادونها.
﴿ صحفا منشرة ﴾ كتبا مفتوحة غير مطوية، يقرؤها كل من يراها. وهو كقولهم : " ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " ١. والله أعلم.
١ آية ٩٣ الإسراء..
Icon