تفسير سورة المدّثر

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة المدثر
مكية، ست وخمسون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) ما يلي الجلد من الثياب يسمى شعاراً، وما فوقه دثاراً. ومنه قوله - ﷺ -: " النَّاس دِثَار والأَنْصَارُ شِعَارٌ ". وأول هذه السورة أول ما نزل بعد فترة الوحي؛ لما روى مسلم والبخاري عن جابر أنه سمع رسول اللَّه - ﷺ - يحدث عن فترة الوحي: " فَبَيْنا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذا الْمَلَكُ الذي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ فَجُئثْت مِنهُ حَتى هَوَيتُ إِلَى الأَرْضِ فَجئْتُ أَهْلي فَقُلْت زمِّلُوني " فأنزل اللَّه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ *.... فَاهْجُر) ولم يقع ذكر حراء في بعض المرويات، فظن أنها أول سورة نزلت، وفي رواية عن ابن
عباس - رضي الله عنهما -: أن قريشاً لما قالت في رسول اللَّه - ﷺ - شاعر، وقال بعضهم ساحر تدثر في ثيابه حزيناً فأنزل اللَّه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ولا منافاة بينهما؛ لإمكان وقوع الأمرين معاً، فأول (اقرأ) كان نبوة، وأول هذه كان إرسالاً.
(قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) أي: قومك؛ لقوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، أو افعل الإنذار، وهذا أبلغ.
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) صفه بالكبرياء وحده. وقيل: لما نزلت كبر رسول اللَّه - ﷺ - وكبرت خديجة وأيقنت أنه الوحي، إذ الشيطان لا يأمر بالتكبير، وحمله على تكبير الصلاة بعيد.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) قصّرها، وهذا أول ما أمر به من مخالفة قومه، فإنهم كانوا يجرّون الثياب على الأرض خيلاء، أو طهرها من النجاسة؛ لأنه الواجب في الصلاة والأحب في غيرها، أو أخلاقك عما يدنسها من الرذائل.
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) هو العذاب؛ لقوله: (لَئِنْ كَشَفتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أريد به ما يؤدي إليه أي: دم على ترك الأوثان، وهجران الآثام. والفاءات أجوبة للشرط كأنه قيل: ومهما يكن فكذا. وقرأ حفص بضم الراء، وهما لغتان، والكسر أشهر.
(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) لا تعطي شيئاً حال كونك تعده كثيراً؛ لاحتقار متاع الدنيا وإن جلَّ. وقيل: لا تعط مستغزراً أي: طامعاً أن تُعَوَّضَ أكثر مما بذلت. وهو من خواصه؛ لقوله - ﷺ -: " المستغزر يثاب من هبته "، أو نهي تتزيه.
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) لوجهه، وانقياداً لأمره. استعمل الصبر في مشاق التبليغ، وأذى الكفار.
(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) نفخ في الصور، سمي ناقوراً؛ لما روى: أن فيه بعدد كل روح نقرة. بناء مبالغة كالكابوس، والفاء للسببية أي: اصبر على أذاهم إلى زمان تلقى فيه عاقبة صبرك، ويلقون فيه عاقبة ضرهم. والعامل في " إذا " ما دلّ عليه قوله:
(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ... (١٠) " ذَلِكَ " مبتدأ، و " يَوْمٌ عَسِيرٌ " خبره، و " يَوْمَئِذٍ " ظرف أَي: فذلك الوقوع وقوع يوم، فالزمان ليس مظروف الزمان. ويجوز أن يكون " يَوْمَئِذٍ " مرفوع المحل من " ذلك ". (غَيْرُ يَسِيرٍ) فائدته التعريف بحال للمؤمنين، وأنها
تضاد حال الكفرة، كما في قوله: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) وفي ذلك زيادة غيظ لهم. أو (عَسيرٌ) حالاً ومآلاً، بخلاف عسر الدنيا فإنه سريع التبدل.
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) أطبقوا على أنه [الوليد] بن المغيرة المخزومي. حال من الفاعل أي: دعني وحدي معه في الانتقام ففيّ كفالة إذ خلقته وحدي لم يشاركني أحده في خلقه. والأحسن جعله حالاً من المفعول أي: خلقته منفرداً عن المال؛ لقوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، ولقوله:
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) مبسوطاً من كل نوع. كان صاحب الضرع والزرع والذرع. قيل: كان له بستان في الطائف لا ينقطع ثماره صيفاً وشتاءً وكان يملك ألف ألف.
(وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) معه المجالس والمحافل، وله بهم أبهة ورونق، أو شهوداً عنده لعدم تردادهم في أسباب المعاش استغناء بالخدم، فهو يتمتع بهم ليلاً ونهاراً. قيل. كانوا عشرة، وقيل: ثلاثة عسر، وقيل: سبعة. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) من سائر أسباب الرئاسة والجاه العريض.
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) له. كان يقول: " إن كان محمد صادقاً، فالجنة لي ". أو يطلب أن أزيد له في الدنيا فوق ما هو فيه. (كَلَّا... (١٦) ردع له، وعلله بقوله: (إِنَّهُ
كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) كافراً مكابراً من غير شبهة، وذلك موجب لزوال النعمة فكيف يجعله سبب الزيادة؟. قيل: بعد نزول هذه الآية لم يزل في نقصان حتى ذهب إلى سقر. قيل: أسلم من أولاده خالد، وعمارة، والوليد، ولم يصح إلا إسلام خالد، أما عمارة قتل يوم بدر، أو قتله النجاشي لما أرسله قريش مع عمرو بن العاص بعد بدر؛ لخيانة نسبت إليه، والوليد مختلف فيه.
(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) أكلفه مشقًّا عليه طلوعه في جبل من النار طوله سبعون خريفاً، إذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: هو حجرة في جهنم " وقيل. هو مثل لما يلقى في الشدة.
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) بدل، أو بيان لقوله: (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا)، أو تعليل لإرهاقه صعوداً؛ لإبعاده في التفكير، وعوضه على نيل ما يقدح به في كلام رب العزة.
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) تعجب من فساد تقديره. كقوله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، أو ثناء عليه تهكماً نحو: " قاتله اللَّه ما أشجعه "، أو حكاية ما قالوه لما سمعوا كلمته الحمقاء.
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) تعجيب أبلغ من الأول؛ لأنه صدر عن رؤية، بخلاف الأول فإنه نشأ عن النظرة الأولى وهي حمقاء. وفي هذا الترقي غاية تهكم به وبمن اغتر بما تفوه به.
(ثُمَّ نَظَرَ (٢١) في أمر القرآن، أو في وجوه الناس. (ثُمَّ عَبَسَ... (٢٢) قطب وجهه لما لم يجد طعناً شافياً. (وَبَسَرَ) وكلح، من البسور وهو: الكلوح، من توابع عبس، أو من يسر الرجل:
طلب الحاجة في غير موضعها حيرة. (ثُمَّ أَدْبَرَ (٢٣) عن الحق (وَاسْتَكْبَرَ) عن اتباعه.
(فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) يروى ويتعلم. والفاء، للدلالة على أنه لما ظفر بها لم يتمالك.
(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) من أساطير الأولين، لم يدخل العاطف؛ لأنه تأكيد للأول أو بيان. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما سمع الوليد القرآن، قيل: سمع " حم السجدة " يتلوه رسول اللَّه قال: " إن له حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه
ليعلو ولا يعلى ". فلما سمعوه قالوا لابن أخيه أبي جهل صبأ الوليد، فجاء وجلس إليه ولامه على ما بدا منه، فقال: فماذا أقول؟!.. واللَّه ما منكم أعلم بالأشعار مني، أعلم رجزه، وقصيده، وأعلم أشعار الجن، ولا يشبه شيئاً من ذلك، فقال: لا يرضى قومك حتى تقول فيه، ففكر وقدر (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ).
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) بدل من " سأرهقه صعودًا ". (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي... (٢٨) سالماً. (وَلَا تَذَرُ) ولا تدعه بعد إحراقه وإعدامه. أو لا تبقي شيئاً من الأشياء ولا تذر كهذه النيران، بل تهلك كل رطب ويابس. وهذا أوجه وألصق بقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) المسوق للتهويل.
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) مسوِّدة أعالي الجلد كاللمل البهيم. من لوّحته الشمس: غيرته وسفعته. وعن الحسن لواحة للبشر شديدة الظهور. كقوله: (لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) يلي أمرها تسعة عشر ملكاً. وقيل: صنفاً، أو صفاً، أو نقيباً.
(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً... (٣١) لأنهم خلاف جنس المعذب من الجن والإنس، فلا تأخذهم رأفة؛ لعدم رقة الجنسية، ولأنهم أطوع خلق اللَّه لتنفيذ أوامره وأشد غضباً له، وأقواهم. عن عمرو بن دينار - رضي الله عنه -: " إنَ وَاحِداً مِنْهم يَدفَعُ بِالدفْعَة الوَاحِدَة في جَهَنَّم أَكثر مِنْ رَبِيعَة ومضَر ". وروي مرفوعاً: " إنَ لَأَحدهم قُوَّةَ الثقَلَيْن يَسوقُ أمة إلى النار على عَاتِقِهِ جَبَل، فإذا أَلْقَاهُم في النار أَلْقَى الجَبَل وَرَاءهم ". (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لما سمع أبو جهل تسعة عشر قال: " ثكلتكم أمهاتكم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم؟!. فقال أبو الأشد كلدة بن أشد بن خلف: " أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين ". وكان بلغ من قوته أنه يقف على جلد البقر، ويجذبه عشرة، فيتمزق الجلد تحت رجليه، ولا يقدرون على إخراجه. قال السهيلي: دعا رسول اللَّه - ﷺ - إلى
275
المصارعة وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه مراراً، فلم يؤمن. والمعنى: ما جعلنا عدتهم إلا العدد المخصوص الذي اقتضى فتنتهم واستهزاءهم. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) لتوافق الكتابين في هذا العدد. على حذف العاطف أي: وليستيقن، أو عبر عن المؤثر وهو تسعة عشر بالأثر وهو فتنة للذين كفروا؛ إشارة إلى أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر.
(وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) إذا صدقوا بذلك وإذا رأوا تسليم أهل الكتاب لهذا العدد. (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) تصريح بما علم ضمناً؛ توكيداً. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق. إخبار بالغيب عما يكون؛ لأن السورة مكية، والنفاق إنما نجم بالمدينة. أو الشك والارتياب، وكان أكثر المشركين كذلك. (وَالْكَافِرُونَ) غير المنافقين أو الشاكين.
وإنما عطف قول المنافقين والكافرين على الاستيقان، مع كون المعطوف عليه غرضاً دون المعطوف؛ لأن اللام للعلة، والعلة لا يلزم أن تكون غرضاً كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر. (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) تمييز أو حال. استعاروا لعدد الخزنة لفظ " المثل " من المثل المضروب؛ لكونه غريباً عندهم بديعاً. (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) الكاف في محل النصب. أي: مثل ذلك الإضلال المذكور والهدى يضل اللَّه الكافرين ويهدي المؤمنين. (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، لفرط الكثرة، فليس تخصص الخزنة بهذا العدد إلا لحكمة اقتضته، كعدد السماوات والأرضين وحمله العرش. (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) متصل
276
بوصف سقر، وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ) أي: وما هي. اعتراض يؤكد بعضه بعضاً؛ زيادة في تهويل جهنم. أي: وما سقر، أو وما صفتها، أو وما الآيات المذكورة فيها إلا تذكرة لهم.
(كَلَّا... (٣٢) ردع لتذكرهم أي: وإن جعل تذكرة فهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر. (وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) تولَّى. قال الزجاج: تقول قريش: قبل الشتاء ودبر: جاء وذهب، ومنه أمس الدابر وغيرهم أقبل وأدبر. وعن يونس: أدبر: تولى، ودبر. انقضى. وقرأ نافع وحمزة وحفص " إذ " بسكون الذال، و " أدبر " بهمز القطع، والرسم لا يختلف؛ لوجود صورة الألف في القراءتين، والمختار " إذا "؛ للغة قريش، ولقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤) أضاء.
(إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) جواب القسم، أو تعليل لـ " كلا "، والقسم معترض. والضمير لـ سقر. و " الكبر " جمع كبرى، والفُعَل ليس من أبنية جمع فُعْلَى، بل فُعْلة، كزمرة وزمر. إلا أن الألف ألحقت بالتاء، كالقواصع في جمع قاصعاء؛ لإلحاق ألفها بتاء
قاصعة. والمعنى: إن سقر من إحدى البلايا التي لا توجد لها نظيرة. كقولك: هند إحدى النساء في العفاف، وعليَّ أحد الرجال في العلم.
(نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦) تمييز من النسبة أي: إحدى الكبر إنذاراً، أو حال عما دلت عليه الجملة أي: كبرت منذرة.
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) بدل من (للْبَشَرِ)، و (أن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) مفعولي (شَاءَ)، أو مبتدأ خبره (لمَنْ شَاءَ) أي: التقدم والتأخر ممكنان لمن شاء. كقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) مصدر كالشتيمة والشريطة، ولو كان وصفاً لجرد عن التاء.
(إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فإنهم فكوا رقابهم بالأعمال الصالحة. وقيل:
هم الملائكة، أو الأطفال. (فِي جَنَّاتٍ (٤٠) حال من " أصحاب اليمين "، والتنكير للتعظيم.
(يَتَسَاءَلُونَ) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) يسأل بعضهم بعضاً، أو يسألون غيرهم.
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) مع جوابه، حكاية لما جرى بين المسؤول عنهم وبين المجرمين، فاختصر الكلام؛ لعدم اللبس. والسؤال عن حالهم (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) مع كونه معلوماً؛ لقصد التوبيخ، وليحكى في الكتاب لطفاً بالسامعين. ومن فسر أصحاب اليمين بالأطفال أيده بهذه السؤال؛ لأن الأطفال لا يعلمون موجب ذلك.
(قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) الداخلين في عدادهم. (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) المحتاج. أي: لم نعظم أمر اللَّه، ولم نشفق على خلق اللَّه. وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع.
(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) نشرع في الباطل مع كل مبطل، ونغوى مع كل غاو.
(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) وبعد ذلك كله كنا نكذب بيوم الجزاء. كقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).
(حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) الموت؛ لقوله. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَافِعِينَ (٤٨) لو فرض شفاعتهم، إذ لا يشفعون إلا لمن ارتضى.
(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) حال من المجرور كقولك: مالك قائماً. والتذكرة: القرآن، أو هو وسائر المواعظ.
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) حمر الوحش. مثل في النفار من أدنى شيء. والقسورة: الأسد. وعن ابن عباس: " الصائد " وابن جبير: " الرامي ". فوعلة من القسر، كالحيذرة فيعلة من الحذر، وكلاهما ملحق بالفعللة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون " مستنفِرة " بكسر الفاء. يقال: نفر واستنفر مثل: عجب واستعجب.
(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَرَةً (٥٢) تنشر وتقرأ (وَقَالُوا لَنْ نؤمِنَ)... (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
(كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) ولذلك يتعنتون ويعاندون، ولم يريدوا بقولهم (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا) إلا عناداً. (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
(كَلَّا... (٥٤) حقاً. (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) وإن أعرضوا. والأول ردع عن اقتراحهم الآيات، وهذا عن الإعراض. (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) من الذُّكر بضم الذال، فعل القلب.
(وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (٥٦) مشيئتهم؛ لقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، أو ذِكْرَهم. وقرأ نافع " تذكرون " بالخطاب على الالتفات، أو قل لهم. (هُوَ
280
أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) حقيق بأن يتقى؛ لعلو شأنه، وجدير بالمغفرة؛ لسعة غفرانه روى الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد عن أنس بن مالك: " أن رسول اللَّه - ﷺ - لما تلاها قال: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى مِمَّنْ اتَّقى، فَمَنْ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا، فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ ".
* * *
تمت بحمد اللَّه، والصلاة على أفضل خلق اللَّه.
* * *
281
Icon