تفسير سورة القصص

اللباب
تفسير سورة سورة القصص من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة القصص
سورة القصص مكية إلا قوله عز وجل ﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ [ القصص : ٥٢ ] إلى قوله :﴿ لا نبتغي الجاهلين ﴾١ [ القصص : ٥٥ ]، وفيها آية نزلت بين مكة والمدينة وهي قوله٢ :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾٣ [ القصص : ٨٥ ] وهي ثمان وثمانون آية، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانمائة حرف٤.
ولقائل أن يقول : لم لا سميت سورة موسى، لاشتمالها على قصة موسى فقط من حين ولد إلى أن أهلك الله فرعون وخسف بقارون، كما سميت سورة نوح، وسورة يوسف، لاشتمالها على قصتهما، ولا يقال : سميت ( بذلك لذكر )٥ القصص فيها في قوله :﴿ فلما جاءه وقص عليه القصص ﴾ [ القصص : ٢٥ ]، لأن سورة٦ يوسف فيها ذكر القصص مرتين، الأولى :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ [ يوسف : ٣ ]، والثانية قوله :" لقد كان في قصصهم " ٧ فكانت سورة يوسف أولى بهذا الاسم، وأيضا فكانت٨ سورة هود أولى بهذا الاسم، يعني : بسورة القصص ؛ لأنه ذكر فيها قصص ( سبعة أنبياء )٩ وهذه ليس فيها إلا قصة واحدة، فكان ينبغي العكس، أن١٠ تسمى سورة هود سورة١١ القصص، وهذه سورة موسى.
١ وهو قول مقاتل. انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٥٧، القرطبي ١٣/٢٤٧، البحر المحيط ٧/١٠٤..
٢ وهي قوله: سقط من الأصل..
٣ انظر البغوي ٦/٣١٦. وهو قول ابن سلام. انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٥٧، القرطبي ١٣/٢٤٧. وقال الحسن وعطاء وعكرمة السورة مكية كلها. انظر القرطبي ١٣/٢٤٧، البحر المحيط ٧/١٠٤..
٤ في الأصل: حرفاً..
٥ ما بين القوسين في ب: بذكر..
٦ سورة: سقط من ب..
٧ في ب: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة﴾ [يوسف: ١١١]..
٨ في ب: كانت..
٩ ما بين القوسين في ب: متعددة..
١٠ في الأصل: وإنما. وفي ب: وأن..
١١ في ب: وسورة..

بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: «نَتْلُوا عَلَيْكَ» يجوز أن يكون مفعول «نَتْلُو» محذوفاً دَلَّت عليه صفته وهي: ﴿مِنْ نَّبَإِ موسى﴾ (تقديره: نَتْلُو عَلَيْكَ شَيْئاً مِنْ نَبَأ مُوسَى، ويجوز أن تكونَ «مِنْ» مزيدة على رأي الأخفش أي: نتلو عليك نبأ موسى).
قوله: «بِالحَقِّ» يجوز أن يكون حالاً من فاعل «نَتْلُو»، أو من مفعوله، أي نَتْلُو عَلَيْكَ بَعْضَ خبرها مُتلبسين أو مُتَلبساً بالحق أو متعلقاً بنفس «نَتْلُو» بمعنى: نَتْلُوه بسبب الحق و «لِقَوْم» متعلق بفعل التلاوة أي: لأجل هؤلاء: و «يُؤْمِنُونَ» يصدقون، وخَصَّهُمْ بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا.
قوله: «إِنَّ فِرْعْونَ» هذا هو المتلُوّ جيء به في جملة مستأنفة مؤكدة.
وقرىء «فِرْعَونَ» بضم الفاء وكسرها، والكسر أحسن وهو الفسطاط، ﴿عَلاَ فِي الأرض﴾ استكبر وتجبَّر ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، يتبعونه على ما يريد ويطيعونه.
قوله: يَسْتَضْعِفُ يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مستأنفٌ بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً.
الثاني: أنه حال من فاعل «جَعَلَ» أي: جعلهم كذا حال كونه مستضعفاً طائفة منهم.
الثالث: أنه صفة ل «طَائِفَةٍ».
قوله: «يُذْبِّحُ» يجوز فيه الثلاثة الأوجه: الاستئناف تفسيراً ل «يَسْتَضْعِف». أو
213
الحال من فاعله أو صفة ثانية ل «طَائِفَة». والعامة على التشديد في «يُذَبِّح» للتكثير. وأبو حيوة وابن محيصن «يَذْبَح» مفتوح الياء والباء مضارع «ذَبَحَ» مخففاً.

فصل


المراد بالطائفة بنو إسرائيل، ثم فسَّرَ الاستضعاف فقال: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾، سمَّى هذا استضعافاً؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم، ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين﴾ ذكروا في سبب ذبح الأبناء وجوهاً:
قيل: إنَّ كاهناً قال له يُولَدُ مَوْلُود في بني إسرائيل في ليلة كذا (يذهب ملكك) على يده، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً، فقتلهم وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى تسعين ألفاً من بني إسرائيل. وقال السدي: إنَّ فرعون رأى في منامه أنَّ ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل. فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يده، فأمر بقتل الذكور، وقيل: إن الإنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه فسمع فرعون بذلك فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل.
قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطفٌ على قوله: «إِنَّ فِرْعَوْنَ» عطفُ عليه على اسمية، لأن كلتيهما تفسير للنبأ.
الثاني: أنه حالٌ من فاعل «يَسْتَضْعِفُ» وفيه ضعف من حيث الصناعة ومن حيث المعنى، أما الصناعة فلكونه (مضارعاً) مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي: ونحن نريك، كقوله:
٣٩٧٤ - نَجَوْتُ وأَرْهَنهم مَالِكا...
214
وهذا تكلُّفٌ لا حاجة إليه. وأما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون، وإرادة المنّة من الله، لأنه متى مَنَّ اللَّهُ عليهم تعذَّر استضعاف فرعون إياهم.
وقد أجيب عن ذلك بأنه لما كانت المِنَّةُ بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع جعل إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم.
قوله: «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً» قال مجاهد: دعاة إلى الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكاً كقوله تعالى: «وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً»، وقيل: يهتدى بهم في الخير، «وَنَجْعَلَهُمْ الوَارِثِينَ» يعني لملك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم.
قوله: «وَنُمَكِّنَ» العامة على ذلك من غير لام علَّة، والأعمش: وَلِنُمَكَّنَ «بلام العلة ومتعلقها محذوف، أي: ولنمكن فعلنا ذلك، والمعنى: نوطىء لهم في أرض مصر والشام، ونجعلها لهم مكاناً يستقرون فيه، وننفذ أمرهم ونطلق أيديهم، يقال: مكَّن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه وأوطأه ومهده.
قوله: ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا﴾ قرأ الأخوان:»
وَيَرَى «بفتح الياء والراء مضارع (رأى) مسنداً إلى» فِرْعَوْنَ «وما عطف عليه فلذلك رفعوا، والباقون بضم النون وكسر الراء مضارع (أَرَى)، فلذلك نصب» فِرْعَونَ «وما عطف عليه مفعولاً أول،» وَمَا كَانُوا «هو الثاني. و» مِنْهُم «متعلق بفعل الرُّؤية أو الإرادة، لا ب» يَحْذَرُونَ «لأَنَّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله، ولا ضرورة بنا إلى أَنْ نقولَ اتسع فيه، والحذر هو التوقي من الضَّرر، والمعنى: وما كانوا خائفين منه.
قوله:»
أَنْ أَرْضِعِيهِ «يجوز أن تكون المفسرة والمصدرية، وقرأ عمر بن عبد
215
العزيز وعمر بن عبد الواحد بكسر النون على التقاء الساكنين، وكأنه حذف همزة القطع على غير قياس فالتقى ساكنان، فكسر أولهما.

فصل

216
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى١ :﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ ﴾ يجوز أن يكون مفعول «نَتْلُو » محذوفاً دَلَّت عليه صفته وهي :﴿ مِنْ نَبَإِ موسى ﴾ ( تقديره : نَتْلُو عَلَيْكَ شَيْئاً مِنْ نَبَأ مُوسَى٢، ويجوز أن تكونَ «مِنْ » مزيدة على رأي الأخفش أي : نتلو عليك نبأ موسى )٣.
قوله :«بِالحَقِّ » يجوز أن يكون حالاً من فاعل «نَتْلُو »، أو٤ من مفعوله، أي نَتْلُو عَلَيْكَ بَعْضَ خبرها مُتلبسين أو مُتَلبساً بالحق٥ أو متعلقاً٦ بنفس «نَتْلُو » بمعنى : نَتْلُوه بسبب الحق و٧ «لِقَوْم » متعلق بفعل التلاوة أي : لأجل هؤلاء. و «يُؤْمِنُونَ » يصدقون، وخَصَّهُمْ بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا٨.
١ تعالى: سقط من ب..
٢ انظر التبيان ٢/١٠٢٦..
٣ ما بين القوسين سقط من ب..
٤ في ب: و..
٥ انظر التبيان ٢/١٠١٦، البحر المحيط ٧/١٠٤..
٦ في النسختين: "متعلق" والصواب ما أثبت..
٧ و: سقط من ب..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٥..
قوله :﴿ إِنَّ فِرْعْونَ ﴾ هذا هو المتلُوّ جيء به في جملة مستأنفة١ مؤكدة٢.
وقرئ «فِرْعَونَ » بضم الفاء وكسرها، والكسر أحسن٣ وهو الفسطاط٤، ﴿ عَلاَ فِي الأرض ﴾ استكبر وتجبَّر ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ﴾ فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، يتبعونه على ما يريد ويطيعونه٥.
قوله : يَسْتَضْعِفُ٦ يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مستأنفٌ بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً.
الثاني : أنه حال من فاعل «جَعَلَ » أي : جعلهم كذا حال كونه٧ مستضعفاً طائفة منهم.
الثالث : أنه صفة ل «طَائِفَةٍ »٨.
قوله :«يُذْبِّحُ » يجوز فيه الثلاثة الأوجه : الاستئناف تفسيراً ل «يَسْتَضْعِف »٩. أو الحال من فاعله أو صفة ثانية ل «طَائِفَة »١٠. والعامة على التشديد في «يُذَبِّح » للتكثير. وأبو حيوة وابن محيصن «يَذْبَح » مفتوح الياء والباء مضارع «ذَبَحَ » مخففاً١١.

فصل :


المراد بالطائفة بنو إسرائيل، ثم فسَّرَ الاستضعاف فقال :﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾، سمَّى هذا استضعافاً ؛ لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم١٢، ﴿ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين ﴾ ذكروا في سبب ذبح الأبناء وجوهاً :
قيل : إنَّ كاهناً قال له يُولَدُ مَوْلُود في بني إسرائيل في ليلة كذا ( يذهب ملكك )١٣ على يده، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً، فقتلهم وبقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة. قال وهب : قتل القبط١٤ في طلب موسى تسعين ألفاً١٥ من بني إسرائيل. وقال السدي : إنَّ فرعون رأى في منامه أنَّ ناراً أقبلت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل. فسأل عن رؤياه فقيل له : يخرج من هذا البلد من بني إسرائيل رجل يكون هلاك مصر على يده، فأمر بقتل الذكور، وقيل : إن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام١٦ بشروا بمجيئه فسمع فرعون بذلك فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل١٧.
١ في ب: مبتدأ..
٢ انظر الكشاف ٣/١٥٦..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٥..
٤ في ب: الفسطاس..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٥..
٦ في ب: ويستضعف..
٧ في ب: كون..
٨ الصواب أنه صفة لـ "شيعاً". انظر الأوجه الثلاثة في الكشاف ٣/١٥٧. التبيان ٢/١٠١٦، البحر المحيط ٧/١٠٤..
٩ قال الزمخشري: (و"يذبح" بدل من "يستضعف") الكشاف ٣/١٥٧..
١٠ انظر الأوجه في التبيان ٢/١٠١٦، البحر المحيط ٧/١٠٥..
١١ انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٦٠، البحر المحيط ٧/١٠٤، الإتحاف (٣٤١)..
١٢ انظر البغوي ٦/٣١٧-٣١٨..
١٣ ما بين القوسين في الأصل: يذبح هب ملكه. وهو تحريف..
١٤ في النسختين: من القبط. والتصويب من الفخر الرازي..
١٥ في ب: سبعين ألفاً..
١٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٧ قال ابن الخطيب: (وهذا الوجه هو الأولى بالقبول) انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٥..
قوله :﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطفٌ على قوله :«إِنَّ فِرْعَوْنَ » عطفُ فعلية على اسمية، لأن كلتيهما تفسير للنبأ١.
الثاني : أنه حالٌ من فاعل «يَسْتَضْعِفُ » وفيه٢ ضعف من حيث الصناعة ومن حيث المعنى، أما الصناعة فلكونه ( مضارعاً )٣ مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي : ونحن نريك، كقوله :
٣٩٧٤ - نَجَوْتُ وأَرْهَنهم مَالِكا٤ ***. . .
وهذا تكلُّفٌ لا حاجة إليه. وأما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون، وإرادة المنّة من الله٥، لأنه متى مَنَّ اللَّهُ عليهم تعذَّر استضعاف فرعون إياهم.
وقد أجيب عن ذلك بأنه٦ لما كانت المِنَّةُ بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع جعل إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم٧.
قوله :«وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً » قال مجاهد : دعاة إلى الخير، وقال قتادة : ولاة وملوكاً كقوله تعالى :«وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً »٨، وقيل : يهتدى بهم في الخير٩، «وَنَجْعَلَهُمْ الوَارِثِينَ » يعني لملك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم١٠.
١ انظر الكشاف ٣/١٥٧، البحر المحيط ٧/١٠٤..
٢ انظر الكشاف ٣/١٥٧..
٣ مضارعاً: تكملة ليست من المخطوط..
٤ عجز بيت من بحر المتقارب، قاله عبد الله بن همام، وصدره:
فلما خشيت أظافيرهم
تقدم تخريجه والشاهد فيه..

٥ في ب: من الله تعالى..
٦ في ب: لأنه..
٧ انظر الكشاف ٣/١٥٧، البحر المحيط ٧/١٠٤..
٨ من قوله تعالى: ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً﴾ [المائدة: ٢٠]..
٩ انظر: البغوي ٦/٣١٨..
١٠ المرجع السابق..
قوله :«وَنُمَكِّنَ » العامة على ذلك من غير لام علَّة، والأعمش :«وَلِنُمَكِّنَ » بلام العلة١ ومتعلقها محذوف، أي : ولنمكن فعلنا ذلك٢، والمعنى : نوطئ لهم في أرض٣ مصر والشام، ونجعلها٤ لهم مكاناً يستقرون فيه٥، وننفذ٦ أمرهم ونطلق أيديهم، يقال : مكَّن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه وأوطأه ومهده٧.
قوله :﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا ﴾ قرأ الأخوان٨ :«وَيَرَى » بفتح الياء والراء٩ مضارع ( رأى ) مسنداً إلى «فِرْعَوْنَ » وما عطف عليه فلذلك رفعوا، والباقون بضم النون وكسر الراء مضارع ( أَرَى )، فلذلك نصب «فِرْعَونَ » وما عطف عليه١٠ مفعولاً أول، «وَمَا كَانُوا » هو الثاني١١. و «مِنْهُم » متعلق بفعل الرُّؤية أو الإرادة١٢، لا ب «يَحْذَرُونَ » لأَنَّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله١٣، ولا ضرورة بنا إلى أَنْ نقولَ اتسع فيه، والحذر هو التوقي من الضَّرر١٤، والمعنى : وما كانوا خائفين منه.
قوله :«أَنْ أَرْضِعِيهِ » يجوز أن تكون المفسرة والمصدرية١٥، وقرأ عمر بن عبد العزيز وعمر بن عبد الواحد١٦ بكسر النون على التقاء الساكنين، وكأنه حذف همزة القطع على غير قياس فالتقى ساكنان، فكسر١٧ أولهما١٨.
١ في ب: علة. وانظر البحر المحيط ٧/١٠٥..
٢ انظر البحر المحيط ٧/١٠٥..
٣ في ب: الأرض..
٤ في ب: ونجعل..
٥ انظر البغوي ٦/٣١٨..
٦ في ب: ونبعد..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٦..
٨ حمزة والكسائي..
٩ والراء: سقط من ب..
١٠ السبعة (٤٩٢)، الكشف ٢/١٧٢، النشر ٢/٣٤١، الإتحاف (٣٤١)..
١١ انظر البيان ٢/٢٢٩..
١٢ في ب: الإرادة..
١٣ انظر التبيان ٢/١٠١٦..
١٤ انظر البغوي ٦/٣١٨..
١٥ انظر التبيان ٢/١٠١٦، البحر المحيط ٧/١٠٥..
١٦ هو عمر بن عبد الواحد بن قيس أبو حفص الدمشقي، عرض على يحيى بن الحارث الذماري، وروى عنه اختياره الذي خالف فيه عبد الله بن عامر، وروى عنه هشام بن عمار، مات سنة ٢٠٠ هـ. طبقات القراء ١/٥٩٤..
١٧ في ب: فكسروا..
١٨ انظر المحتسب ٢/١٤٧، البحر المحيط ٧/١٠٥..
قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى﴾ وحي إلهام لا وحي نبوة، قال قتادة: قذفنا في قلبها، واسمها يوخابز، وقيل أيادخا، وقيل أيارخت قاله ابن كثير، بنت لاوي بن يعقوب، «أَنْ أَرْضِعِيْهِ» قيل: أرضعته ثمانية أشهر، وقيل أربعة أشهر، وقيل ثلاثة أشهر، كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرك. ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ يعني من الذبح، ﴿فَأَلْقِيهِ فِي اليم﴾، واليم البحر وأراد هنا النيل، ﴿وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني﴾ قيل: ولا تخافي عليه من الغرق وقيل: من الضيعة، «ولا تحزني» على فراقه، ف ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ لتكوني أنت المرضعة ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ إلى أهل مصر والشام. قال المفسرون: إنها لما خافت عليه من الذبح، وضعته في تابوت، وألقته في النيل ليلاً. قال ابن كثير: وقيل إنها ربطت التابوت في حبل وكانت دارها على حافة النيل، فكانت ترضعه، فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر، وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهبوا استرجعته إليها، وكان لفرعونَ قوابل معهم رجال يطوفون على الحوامل، فمن وضعت ذكراً ذبحوه، فأرسلت أم موسى التابوت يوماً. وذهلت عن ربطه فذهب مع النيل. وقال ابن عباس وغيره: وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان برص شديد، فقال له
216
الأطباء: أيها الملك إنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس، فيؤخذ من من ريقه فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك، وذلك يوم كذا وساعة كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون من مجلس له كان على شفيرة النيل، ومعه آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق، وهي امرأة فرعون.
وقيل: كانت من بني إسرائيل من سبط موسى، وقيل: كانت عمته؛ حكاه الهسيلي؛ وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل، إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج، فتعلق بجرة، فقال فرعون: ائتوني به، فابتدروا بالسفن من كل جانب فوضعوه بين يديه، فعالجوا فتحه، فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت ولم يره غيرهان فعالجته ففتحته، فإذا هو بصبي صغير في مهده، وإذا نور بين عينيه، فألقى الله محبته في قلوب القوم، وعمتدت ابنة فرعون إلى ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت، فقالت الغواة من قوم فرعون: إنَّا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه، رُمِيَ في البحر فرقاً منك فاقتله، فهمّ فرعون قتله، فاستوهبته امرأة فرعون فترك قتله.
وقوله: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ﴾ أي: جواريه.
قوله: «لِيَكُونَ} في اللام الوجهان المشهوران: العلية المجازية بمعنى أن ذلك لما كانت نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعله الفاعل الفعل لأجله، أو الصيرورة.
قووله: «وَحَزَناً»
قرأ العامة بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش، والأخوان بضم وسكون وهما لغتان بمعنى واحد كالعَدَمَ والعُدْمِ: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ﴾ العامة على الهمز، مأخوذٌ من الخطأ ضد الصواب،
217
وقرئ بياء دون هَمْزٍ، فاحتمل أن يكون كالأول، ولكن خُفِّفَ، وأن يكون من خَطَا يَخْطُوا أي: تَجاوز الصَّوابَ.
قوله: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هُو قُرَّة عينٍ.
الثاني - وهو بعيد جداً - أن يكون مبتدأ والخبر «لاَ تَقْتُلُوهُ». وكان هذا القائل حقه أن لا يُذكِّر، فيقول: «لاَ تَقْتُلُوها»، إلا أنه لما كان المراد مذكر ساغ ذلك، والعامة من القراء والمفسرين وأهل العلم يقفون على «ولَكَ». ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وقف على «لاَ» أي: هو «قُرَّةُ عَيْنٍ لِي» فقط، «وَلَكَ لاَ»، أي: ليس هو لك قرة عين، ثم يبتدىء بقوله «تَقْتُلُوه»، وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عنه، وكيف يبقى «تَقْتُلُوه» من غير نون رفع، ولا مُقْتَضى لحذفها؟ ولذلك قال الفراء: هو لن.
قوله: ﴿عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾. كانت لا تلدن فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وقال فرعون: أَمَّا أنا فلا حاجة لي به، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لَكِ، لهداه الله كما هداها» وقال لآسية سميه، قالت: سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر، (فَمُو هو الماء، و (شا) هو البحر، فذلك قوله: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ﴾. والالتقاط: هو وجود الشيء).
قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ جملة حالية، وهل هي من كلام الباري تعالى
218
وهو الظاهر، أو من كلام امرأة فرعون؟ كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله، قالت له كذا؛ أي: أفعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه - قال الكلبي، وجعل الزمخشري الجملة من قوله: ﴿وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ﴾ معطوفة على «فَالتَقَطَهُ» والجملة من قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ إلى «خَاطِئِينَ» مُعترضة بين المتعاطفين، وجعل متعلق الشعور من جنس الجملة المعترضة أي: لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه، أو أن هلاكهم على يديه، قال أبو حيان: ومتى أمكن حَمْلُ الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن.
219
وقوله :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ أي : جواريه.
قوله :«لِيَكُونَ » في اللام الوجهان المشهوران : العلية المجازية بمعنى أن ذلك لما كانت نتيجة فعلهم وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله١، أو٢ الصيرورة٣.
وقوله :«وَحَزَناً » قرأ٤ العامة٥ بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش٦، والأخوان بضم وسكون٧ وهما لغتان بمعنى واحد كالعَدَمَ والعُدْمِ٨ :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ ﴾ العامة على الهمز، مأخوذٌ من الخطأ ضد الصواب، وقرئ بياء دون هَمْزٍ، فاحتمل أن يكون كالأول، ولكن خُفِّفَ، وأن يكون من خَطَا يَخْطُو أي : تَجاوز الصَّوابَ٩.
١ انظر الكشاف ٣/١٥٧-١٥٨..
٢ في ب: و..
٣ الصيرورة: اصطلاح الكوفيين، ويسميها البصريون لام العاقبة. انظر البيان ٢/٢٢٩، التبيان ٢/١٠١٦..
٤ في ب: وقرأ..
٥ غير حمزة والكسائي..
٦ انظر البحر المحيط ٧/١٠٥، اللسان (حزن)..
٧ السبعة (٤٩٢)، الكشف ٢/١٧٢، النشر ٢/٣٤١، الإتحاف (٣٤١)..
٨ الكشف ٢/١٧٢، الكشاف ٣/١٥٨، التبيان ٢/١٠١٦..
٩ انظر البحر المحيط ٧/١٠٥..
قوله :﴿ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي : هُو قُرَّة عينٍ.
الثاني - وهو بعيد جداً - أن يكون مبتدأ والخبر «لاَ تَقْتُلُوهُ »١. وكان هذا٢ القائل حقه أن لا٣ يُذكِّر، فيقول :«لاَ تَقْتُلُوها »، إلا أنه لما كان المراد مذكراً ساغ ذلك، والعامة من القراء والمفسرين وأهل العلم يقفون على «ولَكَ »٤. ونقل ابن الأنباري بسنده إلى ابن عباس عنه أنه وقف على «لاَ » أي : هو «قُرَّةُ عَيْنٍ لِي » فقط، «وَلَكَ لاَ »، أي : ليس هو لك قرة عين، ثم يبتدئ بقوله «تَقْتُلُوه »، وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عنه، وكيف يبقى «تَقْتُلُوه » من غير نون رفع، ولا مُقْتَضى لحذفها ؟ ولذلك٥ قال الفراء : هو لحن٦.
قوله :﴿ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾. كانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها٧، وقال٨ فرعون : أَمَّا أنا فلا حاجة لي به٩، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو قال يومئذ قرة عين لي كما هو لَكِ، لهداه الله كما هداها »١٠ وقال١١ لآسية سميه، قالت١٢ : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر، ( فَمُو هو الماء، و ( شا ) هو البحر، فذلك قوله :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ ﴾. والالتقاط : هو وجود الشيء )١٣ ١٤.
قوله :﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ جملة حالية١٥، وهل هي من كلام الباري تعالى١٦ وهو الظاهر، أو من كلام امرأة فرعون ؟ كأنها لما رأت ملأه أشاروا بقتله، قالت له كذا ؛ أي : افعل أنت ما أقول لك وقومك لا يشعرون أنا التقطناه - قاله الكلبي١٧، وجعل الزمخشري الجملة من قوله :﴿ وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ ﴾ معطوفة على «فَالتَقَطَهُ » والجملة من قوله :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ﴾ إلى «خَاطِئِينَ » مُعترضة١٨ بين المتعاطفين، وجعل متعلق الشعور من جنس الجملة المعترضة أي : لا يشعرون أنهم على خطأ في التقاطه، أو أن هلاكهم على يديه١٩، قال أبو حيان : ومتى أمكن حَمْلُ الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن٢٠.
١ فيكون قد عرف أنه قرة عين. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٣٣، الكشاف ٣/١٥٨، البحر المحيط ٧/١٠٦، وذكر الوجهين ابن الأنباري، انظر البيان ٢/٢٢٩-٢٣٠..
٢ في ب: هو..
٣ لا: تكملة ليست في المخطوط..
٤ في ب: ذلك..
٥ في ب: وكذلك. وهو تحريف..
٦ قال الفراء: (وفي قراءة عبد الله "لا تقتلوه قرة عين لي ولك" وإنما ذكرت هذا لأني سمعت الذي يقال له ابن مروان السدي يذكر عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إنها قالت: "قرة عين لي ولك لا" وهو لحن، ويقويك على رده قراءة عبد الله) معاني القرآن ٢/٣٠٢، وانظر المختصر (١١١-١١٢) وابن الأنباري في كتابه إيضاح الوقف والابتداء (٨٢٢) نقل عبارة الفراء معزوة إليه ولم يزد عليها شيئاً..
٧ انظر القرطبي ١٣/٢٥٤..
٨ في ب: قال. وهو تحريف..
٩ في ب: فيه..
١٠ انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (١٢٦)..
١١ في ب: فقال..
١٢ في ب: قال. وهو تحريف..
١٣ انظر البغوي ٦/٣٢١..
١٤ ما بين القوسين في ب: من غير طلب..
١٥ وصاحب الحال: "آل فرعون" وتقدير الكلام: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنّيه. الكشاف ٣/١٥٨..
١٦ أي: لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل. وقال ابن عباس: يريد لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. الفخر الرازي ٢٤/٢٢٩، البحر المحيط ٧/١٠٦..
١٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٢٩، البحر المحيط ٧/١٠٦..
١٨ في النسختين: معترضاً. والصواب ما أثبته..
١٩ انظر الكشاف ٣/١٥٨..
٢٠ البحر المحيط ٧/١٠٦..
قوله: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً﴾ (قال الحسن: فَارِغاً) من كل همٍّ إِلاَّ همَّ موسى. وقال أبو مسلم: فراغ الفؤاد هو الخوف والإشغاف، كقوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ [إبراهيم: ٤٣].
وقال الزمخشري: فارغاً صفراً من العقل، والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف. وقال الحسن ومحمد بن إسحاق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن ﴿فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: ٧] فجاءها الشيطان وقال لها: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجراً وثواباً، وتوليت أنتِ قتله، فألقيته في البحر، وأغرقتيه، ولمَّا أتاها خبر موسى أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: فراغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل، اعتماداً على تكفل الله بمصلحته. قال ابن قتيبة: وهذا من العجائب، كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن، والله تعالى يقول: {لولاا
219
أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} ؟ وهل يُرْبَط إلا على قلب الجازع المحزون؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله جاز عندها إظهار عدم الحزن، وأيقنت إنها - وإن أظهرت ذلك - فإنه يسلم لأجل ذل الوعد. إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار (يضر فربط) الله على قلبها. قال المعربون: «فارغاً» خبر أصبح أي: فارغاً من العقل، أو من الصبر، أو من الحزن، وهو أبعدها، ويردُّه قراءاتٌ تُخَالفُه. فقرأ فضالة والحسن «فَزِعاً» بالزاي من الفزع، وابن عباس «قَرِعاً» بالقاف وكسر الراء وسكونها، من قَرَعَ رأسهُ إذا انحسر شعرُهُ، (والمعنى: خلا من كُلِّ شيء، وانحَسَرَ عنهُ كُلُّ شَيءٍ إلا ذِكر موسى، وقيل: الساكن الراء مصدر قَرَعَ يَقْرَع، أي: أُصيب، وقرىء «فِرغاً» بكسر الفاء وسكون الراء، والغين معجمة أي: هدراً، كقوله) :
٣٩٧٥ - فَإِنْ يَكُ قَتْلَى قَدْ أُصِيبَتْ نُفُوسًهُمْ فَلَنْ يَذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ
فِرْغاً حال من «بِقَتْلِ»، وقرأ الخليل «فُرُغاً» بضم الفاء وإعجام الغين من هذا المعنى، ومنه قولهم دماهم بينهم فرغ أي: هدر.
قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ «إِنْ» إما مخففة، وإما نافية، واللام إمَّا فارقة وإمَّا بمعنى إلاَّ والباء في «بِهِ (مزيدة في المفعول، أي: لتُظْهِرَهُ، وقيل: ليست زائدة بل سببية، والمفعول محذوف، أي: لتُبْدِي القَولَ بسبب موسى أو بسبب الوحي. فالهاء يجوز أن تكون) راجعة إلى موسى، أي: إن كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة
220
وجدها: وقال عكرمة عن ابن عباس: كادت تقول: واابناه حين رأت الموج يرفع التابوت ويضعه.
وقال الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها حين سمعت الناس يقولون: إنه ابن فرعون.
وقال السدي: لما أُخِذ من الماء كادت تقول: هو ابني، فعصهما الله.
وقال بعضهم: الهاء عائدة إلى الوحي، أي كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أنه يرُدُّهُ عليها. قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ جوابها محذوف، أي لأبدت، كقوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: ٢٤] والمعنى: لولا أن ربطنا على قلبها بالعصمة والصبر والتثبت. ﴿لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ متعلق ب «رَبَطْنَا»، والمعنى: لتكون من المؤمنين المصدِّقين بوعد الله، وهو قوله: ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: ٧].
قوله: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي: قُصِّي أثر موسى، تتبَّعي أمره حتى تعلمي خبره: وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم. قال «فَبَصُرَتْ بِهِ» أي: أبصرتهُ، وقرأ قتادة «بَصَرَتْ» بفتح الصاد وعيسى بكسرها. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى، وتقدم معناه في طه. و «عَنْ جُنُبٍ» في موضع الحال إمَّا من الفاعل أي: بصرت به مُسْتَخفيةً كائنةً عن جُنُبٍ، وإمَّا من المجرور أي: بعيداً منها.
وقرأ العامة «جُنُبٍ» بضمين وهو صفة لمحذوف، أي: عن مكان بعيد، وقال أبو عمرو بن العلاء: أي: عن شوقٍ، وهي لغة جُذَامٍ، يقولون: جَنَبْتُ إليك أي: اشتقت.
(وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيم وسكون النون)، وعن قتادة أيضاً بفتحهما، وعن الحسن «جُنْب» بالضم والسكون، وعن
221
النعمان بن سالم «عَنْ جَانِبٍ» وكلها بمعنى واحد. ومثله الجِنَاب والجَنَابَة.
﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ جملة حالية، ومتعلق الشعور محذوف أي: أنها تَقُصُّه، أو أنه سيكُونَ لهم عدواً وحزناً، أو أنها أخته، أو أنها ترقبه.
222
قوله :﴿ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ أي : قُصِّي أثر موسى، تتبَّعي أمره حتى تعلمي خبره : وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم١. قال «فَبَصُرَتْ بِهِ » أي : أبصرتهُ، وقرأ قتادة «بَصَرَتْ » بفتح الصاد وعيسى بكسرها٢. قال المبرد : أبصرته وبصرت به بمعنى٣، وتقدم معناه في طه٤. و «عَنْ جُنُبٍ » في موضع الحال إمَّا من الفاعل أي : بصرت به مُسْتَخفيةً كائنةً عن جُنُبٍ، وإمَّا من المجرور أي : بعيداً منها٥.
وقرأ العامة «جُنُبٍ » بضمتين وهو صفة لمحذوف، أي : عن مكان بعيد٦، وقال أبو عمرو بن العلاء : أي : عن شوقٍ، وهي لغة جُذَامٍ، يقولون : جَنَبْتُ إليك أي : اشتقت٧.
( وقرأ قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيم وسكون النون )٨ ٩، وعن قتادة أيضاً بفتحهما١٠، وعن الحسن «جُنْب » بالضم والسكون١١، وعن النعمان بن سالم١٢ «عَنْ جَانِبٍ » وكلها بمعنى واحد. ومثله الجِنَاب والجَنَابَة١٣.
﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ جملة حالية، ومتعلق الشعور١٤ محذوف أي : أنها تَقُصُّه، أو١٥ أنه سيكُونَ لهم عدواً وحزناً، أو أنها أخته، أو أنها ترقبه١٦.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٠..
٢ المختصر (١١٢)..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٠..
٤ عند قوله تعالى: ﴿قال بصرت بما لم يبصروا به﴾ [طه: ٩٦]..
٥ انظر التبيان ٢/١٠١٧..
٦ حكاه أبو حيان عن الكرماني. البحر المحيط ٧/١٠٧..
٧ انظر القرطبي ١٣/٢٥٧، البحر المحيط ٧/١٠٧..
٨ انظر المختصر (١١٢)، المحتسب ٢/١٤٩، البحر المحيط ٧/١٠٧..
٩ ما بين القوسين سقط من ب..
١٠ انظر البحر المحيط ٧/١٠٧..
١١ المرجع السابق..
١٢ في النسختين: عن سالم. والتصويب من المحتسب ٢/١٤٩، تفسير ابن عطية ١١/٢٧٠، البحر المحيط ٧/١٠٧. وهو النعمان بن سالم الطائفي، روى عن أوس بن أوس، وعبد الله بن عمر، وروى عنه سماك، وداود بن هند، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٤٠٢٠..
١٣ جناب: مصدر جانبه مجانبة وجناباً صار على جنبه، وجنابة مصدر جنب، انظر اللسان (جنب)، والبحر المحيط ٧/١٠٧..
١٤ أي: معمول الفعل..
١٥ في ب: و. وهو تحريف..
١٦ انظر البغوي ٦/٣٢٣..
قوله: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع﴾ قيل: يجوز أن يكون جمع مُرْضِع وهي المرأة، وقيل: جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد، ثم جَوَّزوا فيه أن يكون مكاناً أي: مكان الإِرضاع وهو الثَّدي وأن يكون مصدراً أي: الإرْضَاعاتُ، أن: أنواعها، و «مِنْ قَبْلُ» أي: من قبل قصِّهَا أَثرهُ، أو من قبل مجيء أخته، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا. والمراد من التحريم المنع، لأن التحريم بالنهي تعبّد وذلك لا يصح، فلا بُدَّ من فِعْل سواه، فيحتمل أن - تعالى - غيَّر طبعه عن لبن سائر النساء، فلذلك لم يرتضع أو أحدث في لبنهن طعماً ينفر عنه طبعه، أو وضع في لبن أمه لذة تعود بها، فكان يكره لبن غيرها.

فصل


قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كان همَّها من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكل ما أتوه بمرضعة لم يأخذ ثديها؛ فذلك قوله عزَّ وجلَّ ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع﴾، فلمَّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ أي: يرضعونه لكم ويضمنونه، وهي امرأة قد قُتِلَ ولدها فأحبُّ شيءٍ إليها أن تجد صغيراً ترضعه.
قوله: ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ الظاهر أنه ضمير موسى، وقيل لفرعون، قال ابن
222
جُريج والسُّديّ: لما قالت أخت موسى ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ استنكروا حالها وتفرّسوا أنها قرابتُه، فقالت: إنَّمَا أَرَدْتُ وهم للملك ناصِحُونَ، فتخلَّصَت منهم، وهذا يُسمى عند أهل البيان الكلام الموجَّه ومثله: لما سُئِل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحب عليّاً دون غيره، وبعضهم أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان، فقيل له: أيهم أحبّ إلى رسول الله؟ فقال: من كانت ابنته تحته. وقيل لما تفرّسوا أنه قرابتُهُ قالت: إنما قللت هذا رغبة في سرور الملك أمي. قالوا: ولأمك ابن؟ قالت: نعم، هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها. قالوا: صدقت، فائتينا بها، فانطلقت إلى أمه فأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل تديثها وجعل يمصّه حتى امتلأ جنباه ريّاً.
والنصح: إخلاص العمل من سائر الفساد.
قوله: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ بردِّ موسى إليها، «وَلاَ تَحْزَنَ» عطف على «تَقَرَّ»، ودمعةُ الفرح قارّةٌ، ودمعةُ التَّرَح حارَّةٌ، قال أبو تمام:
٣٩٧٦ - فَأَمَّا عُيُونُ العَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ
وتقدم تحقيق هذا في مريم.
223
﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ بردّه إليها كانت عالمة بذلك ولكن ليس المخبَر كالمعاين فتحققت بوجود الموعود، ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أن الله وعدها ردّه إليها. قال الضحاك: لمّا قَبلَ ثديها قال هامان: إنك لأمه، قالت: لا، قال: فما بالك قبل ثديك من بين النسوة؟ قالت: أيها الملك، إني أمرأة طيبة الريح، حلوة اللبن، فما شم ريحي صبيّ إلا أقبل على ثديي. قالوا: صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها أتحفها بالذهب والجواهر.
224
قوله :﴿ فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ بردِّ موسى إليها، «وَلاَ تَحْزَنَ » عطف على «تَقَرَّ »١، ودمعةُ الفرح قارّةٌ، ودمعةُ التَّرَح حارَّةٌ، قال أبو تمام٢ :
٣٩٧٦ - فَأَمَّا عُيُونُ العَاشِقِينَ فَأَسْخَنَتْ وَأَمَّا عُيُونُ الشَّامِتِينَ فَقَرَّتِ٣
وتقدم تحقيق هذا في مريم٤.
﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ بردّه إليها وكانت٥ عالمة بذلك ولكن ليس المخبَر كالمعاين فتحققت بوجود الموعود٦، ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن الله وعدها ردّه إليها. قال الضحاك : لمّا قَبلَ ثديها قال هامان : إنك لأمه، قالت : لا، قال : فما بالك قبل ثديك من بين النسوة٧ ؟ قالت : أيها الملك، إني امرأة طيبة الريح، حلوة اللبن، فما شم ريحي صبيّ إلا أقبل٨ على ثديي. قالوا : صدقت. فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر٩.
١ انظر التبيان ٢/١٠١٨..
٢ تقدم..
٣ البيت من بحر الطويل، قاله أبو تمام وهو في ديوانه ١/٣٠٠، البحر المحيط ٧/١٠٨ والشاهد فيه أن قوله: (فأسخنت) دالّ على أن دمعة الحزن حارة ساخنة، وقوله: (قرّت) من القرّ أو القرة: البرد، والعين قارّة إذا كان دمعها بارداً من فرح وسرور..
٤ عند قوله: ﴿فكلي واشربي وقري عيناً﴾ [مريم: ٢٦].
وذكر ابن عادل هناك: والعامة على فتح القاف من قرّي أمر من قرت عينه تقر بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وقرئ بكسر القاف، وهي لغة نجد، يقولون قرت عينه تقر بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، وفي وصف العين بذلك تأويلان أحدهما: أنه مأخوذ من القر، وهو البرد، وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها قاراً، أي: بارداً، وإذا حزن كان دمعها حاراً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: أسخن الله عينه.
والثاني: أنه مأخوذ من الاستقرار والمعنى أعطاه الله ما يسكن عينه فلا تطمح إلى غيره. انظر اللباب ٥/٤١٢..

٥ في ب: وقد كانت..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣١..
٧ في ب: النساء..
٨ في ب: قبل..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣١..
قوله: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ تقدم الكلام عليه، «وَاسْتَوَى» أي: بلغ أربعين سنة - (قال ابن عباس -) وقيل: استوى: انتهى شبابه، ﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ أي: الفقه والعقل والعلم في الدين، فعلم موسى وحكم قبل أَنْ يبعث نبياً، ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾، وهذا يدل على أنه ليس المراد بالحكم النبوة، لأنه جعل إيتاءه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه، والنبوة لا تكون جزاء على العمل.
قوله: «وَدَخَلَ المَدِينَة» أي: ودخل موسى المدينة. قال السدي: مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: قرية تدعى حانين على (رأس) فرسخين من مصر، وقيل: عين شمس، قوله: ﴿على حِينِ غَفْلَةٍ﴾ في موضع الحال إمّا من الفاعل أي: كائناً على حين غَفْلَة، أي: مُستخفياً، وإِمَّا من المفعول، وقرأ أبو
224
طالب القارىء «عَلَى حِينَ» بفتح النون، وتكلَّفَ أبو حيان تخريجها على أنه حمل المصدر على الفعل في أنه إذا أضيف الظرف إليه جاز بناؤه على الفتح، كقوله:
٣٩٧٧ - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا... و «مِنْ أَهْلِهَا» صفة ل «غَفْلَةٍ»، أي: صادرة من أهلها.

فصل


اختلفوا في السبب الذي لأجله دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها، فقال السُّدِّي: إن موسى كان يسمى ابن فرعون، فكان يركب في مراكب فرعون، ويلبس مثل ملابسه، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض منف، فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحدن فذلك ﴿على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا﴾. وقال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به، فلما عرف ما هو عليه من الحق فارق فرعون وقومه وخالفهم في دينهم حتى ذكر ذلك منه، وأخافوه وخافهم، فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً.
وقال ابن زيد: إِنَّ موسى ضرب رأس فرعون ونتف لحيته، فأراد فرعون قتله، فقالت امرأته: هو صغير، جِىءْ بجمرة فأخذها فطرحها في فيه، فبها عقد لسانه، فقال فرعون: لا أقتله، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد، فأخرج ولم يدخل عليها حتى كبر، فدخل ﴿على حِينِ غَفْلَةٍ﴾.
قوله «يَقْتتلانِ» صفة ل «رَجُلَيْنِ»، وقال ابن عطية: حالٌ منهما، وسيبويه - وإن كان جوَّزها من النكرة مطلقاً - إلاَّ أَنَّ الأكثر يشترطون فيها ما يُسوِّغُ الابتداء بها.
225
وقرأ نعيمُ بن ميسرة «يقتلان» بالإدغام، نقل فتحة التاء الأولى إلى القاف وأدغم. قوله ﴿هذا مِن شِيعَتِهِ﴾ مبتدأ وخبر في موضع الصفة ل «رَجُلَيْنِ»، أو الحال من الضمير في «يَقْتتلانِ» وهو بعيدٌ لعدمِ انتِقالهَا.
وقوله: «هذَا» و «هذا» على حكاية الحال الماضية، فكأنهما حاضران، أي: إذا نظر الناظر إليهما، قال: هذا من شيعته وهذا من عدوه. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب، وأنشد لجرير:
٣٩٧٨ - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا
(فصل)
﴿هذا مِن شِيعَتِهِ﴾ من بني إسرائيل، ﴿وهذا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ من القبط. قال مقاتل: كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل، لقول موسى عليه السلام له ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [القصص: ١٨]. والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً، قيل: إنه السامري، والقبطي طبَّاخ فرعون. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع. وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم.
قوله «فَاسْتَغَاثَهُ» هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة. قال ابن عطية: هي تصحيف وقال ابن جبارة صاحب الكامل: الاختيار قراءة ابن مقسم، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى
226
في هذا الباب قال شهاب الدين: نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة (كما أن تغالي) الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود.
قوله: «فَوَكَزَهُ» أي: دفعه بجميع كَفِّه، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ: أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني: بأطراف الأصابع، وقيل بالعكس، وقيل: اللكز في الصدر، والوكز في الظهر، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال:
٣٩٧٩ - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ
وقرأ ابن مسعود «فَلَكَزَهُ» و «فَنَكَزَهُ» باللام والنون.
قوله: «فَقَضَى» أي: موسى، أو الله تعالى، أو ضمير الفعل أي: الوكز «فَقَضَى عَلَيْهِ» أي: أماته، وقتله، وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه، فندم موسى ولم يكن قصده القتل، فدفنه في الرمل، و ﴿قَالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ فقوله: «هذَا» إشارة إلى القتل الصادر منه، و ﴿مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ أي: من وسوسته وتسويله.

فصل


احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه:
أحدها: أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك، فإن استحق القتل فلم قال: ﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ ؟ ولم قال: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ ؟ وقال في سورة أخرى ﴿فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ [الشعراء: ٢٠]. وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً.
وثانيها: أنَّ قوله: ﴿وهذا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ يدل على أنه كان كافراً حربياً، فكان دمه مباحاً،
227
فَلِمَ استغفر عنه؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً.
وثالثها: أَنَّ الوكز لا يحصل عنه القتل ظاهراً. فكان ذلك قتل خطأ، فَلِمَ استغفر منه؟
والجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال إنه لكفره مباح الدم؟ وأما قوله ﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾ ففيه وجوه:
الأول: أنَّ الله تعالى وإن أباح قتل الكفار، إلاَّ أنه كان الأَولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر، فلما قتل ترك ذلك المندوب؛ وهو قوله: ﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾.
الثاني: أنَّ قوله: «هذَا» إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه.
(الثالث: أنَّ قوله: «هذَا» إشارة إلى المتقول). (يعني أنه من حزب الشيطان) وجنده، يقال: فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه. وأما قوله ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي﴾ (فعلى نهج قول آدم عليه السلام) ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣] والمراد أحد وجهين: إما على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإِنْ لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب.
وأما قوله «فَاغْفِرْ لِي» أي: فاغفر لي ترك هذا المندوب. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ حيث قتلت هذا الملعون، فإنَّ فرعون لو عرف ذلك لقتلني به، «فَاغْفِرْ ليْ»، فاستره عليَّ ولا توصل خبره إلى فرعون، «فَغَفَرَ لَهُ» أي: ستره عن الوصول إلى فرعون، ويدل على هذا قوله ﴿رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ فلو كانت إعانة المؤمن هنا سبباً للمعصية لما قال ذلك، وأما قوله ﴿فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين﴾ [الشعراء: ٢٠] فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً، بل اعترف أنه كان ضالاً أي: متحيراً لا يدري ما يجب عليه.
وأما قوله: إنْ كان كافراً حربياً فَلِمَ استغفر من قتله؟ قلنا: كون الكافر مباح الدم أم يختلف باختلاف الشرائع، فلعلّ قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت، أو كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررناه.
وأما قوله: كان قتل خطأ، قلنا: لا نسلم، فلعل الرجل إن كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة فوكزه كان قاتلاً قطعاً، ثم إن سلمنا
228
ذلك ولكنه - عليه السلام - كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون الوكز الذي كان الأولى تركه، فلهذا أقدم على الاستغفار. على أَنَّا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية، لكنَّا بيَّنَّا أَنهُ لا دلالة البتة فيه، لأنه لم يكن رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك قبل النبوة لا نزاع فيه.

فصل


قال المعتزلة: الآية تدل على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله، لأنه - عليه السلام - قال: ﴿هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان﴾، فلو كانت بخلق الله لكانت من الله لا من الشطيان، وهو كقول يوسف - عليه السلام -
﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي﴾ [يوسف: ١٠٠]، وقول فتى موسى ﴿وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣]، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة﴾ [الأعراف: ٢٧]، وتقدم الكلام على ذلك.
قوله: «بِمَا أَنْعَمْتَ» يجوز في الباء أن تكون (قسماً و) الجواب مقدراً: لأَتوبنَّ، وتفسيره: فَلأنْ أكُونَ، قال القفال: كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً، أي: بنعمتك عليَّ، وأنْ تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية، أي: اعصمني بسبب ما أَنعمتَ به عليَّ، ويترتب عليه قوله: ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً﴾، و «مَا» مصدرية أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، وقوله: «فَلَنْ» نفيٌ على حقيقته، وهذا يدل على أنه قال: لِمَ أنعمت عليَّ بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين، وهذا يدلّ على أَنَّ ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية، إذ لو كان معصية لنزل الكلام منزلة قوله: «إنك لمَّا أنعمت عليَّ بقبول توبتي من تلك المعصية.
وقال الكسائي والفراء: إنه خبر ومعناه الدعاء، وإنَّ»
لَنْ «واقعة موقع» لا «،
229
كأنه قال: ولا تجعلني ظهيراً، قال الفراء: في حرف عبد الله ﴿وَلاَ تَجْعَلْنِي ظَهِيراً﴾ قال الشاعر:
٣٩٨٠ - لَنْ تَزَالُوا كَذلكُم ثُمَّ لا زلْ تَ لَهُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ
قال شهاب الدين: وليس في الآي والبيت دلالة على وقوع» لن «موقع» لا «، لظهور النفي فيهما من غير تقدير دعاء.

فصل


قال ابن عباس: ﴿بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ بالمغفرة، ﴿فَلَنْ أَكُوْنَ ظَهِيراً﴾ عوناً»
لِلْمُجْرِمينَ «. أي: للكافرين وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً، وهو قول مقاتل، وقال قتادة: لن أعين بعدها على خطيئة.
قال ابن عباس: لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني: (وهذا ضعيف، لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة، وإنما خاف منه ذلك العدو، فقال: ﴿إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً﴾ [القصص: ١٩] إلاّ أنه لم يقع منه).
230
قوله :«وَدَخَلَ المَدِينَة » أي : ودخل موسى المدينة. قال السدي : مدينة منف من أرض مصر١، وقال مقاتل : قرية تدعى حانين على ( رأس )٢ فرسخين من مصر٣، وقيل : عين شمس٤، قوله :﴿ على حِينِ غَفْلَةٍ ﴾ في موضع الحال إمّا من الفاعل أي : كائناً على حين غَفْلَة، أي : مُستخفياً، وإِمَّا من المفعول٥، وقرأ أبو طالب القارئ٦ «عَلَى حِينَ » بفتح النون، وتكلَّفَ أبو حيان تخريجها على أنه حمل المصدر على الفعل في أنه إذا أضيف الظرف إليه جاز بناؤه على الفتح٧، كقوله :
٣٩٧٧ - عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا٨ ***. . .
و «مِنْ أَهْلِهَا » صفة ل «غَفْلَةٍ »، أي : صادرة من أهلها.

فصل :


اختلفوا في السبب الذي لأجله دخل موسى المدينة على حين غفلة من أهلها، فقال السُّدِّي : إن موسى كان يسمى ابن فرعون، فكان يركب في مراكب فرعون، ويلبس مثل ملابسه، فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض منف، فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد، فذلك ﴿ على حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ﴾٩. وقال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون به، فلما عرف ما هو عليه من الحق فارق فرعون وقومه وخالفهم في دينهم حتى ذكر ذلك منه، وأخافوه وخافهم، فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً١٠.
وقال ابن زيد : إِنَّ موسى ضرب رأس فرعون ونتف لحيته، فأراد فرعون قتله، فقالت امرأته : هو صغير، جئ بجمرة فأخذها١١ فطرحها في فيه، فبها عقد لسانه، فقال فرعون : لا أقتله، ولكن أخرجوه عن الدار والبلد، فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر، فدخل ﴿ على حِينِ غَفْلَةٍ ﴾١٢.
قوله «يَقْتتلانِ » صفة ل «رَجُلَيْنِ »١٣، وقال ابن عطية : حالٌ منهما١٤، وسيبويه - وإن كان جوَّزها من النكرة مطلقاً ١٥- إلاَّ أَنَّ الأكثر يشترطون فيها ما يُسوِّغُ الابتداء بها١٦.
وقرأ نعيمُ بن ميسرة١٧ «يقتلان » بالإدغام١٨، نقل فتحة التاء الأولى إلى القاف وأدغم. قوله ﴿ هذا مِن شِيعَتِهِ ﴾ مبتدأ وخبر في موضع الصفة ل «رَجُلَيْنِ »١٩، أو الحال من الضمير في «يَقْتتلانِ » وهو بعيدٌ لعدمِ انتِقالهَا.
وقوله :«هذَا »٢٠ و «هذا » على حكاية الحال الماضية، فكأنهما حاضران٢١، أي : إذا نظر الناظر إليهما، قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه٢٢. وقال المبرد : العرب تشير بهذا إلى الغائب، وأنشد لجرير :
٣٩٧٨ - هذَا ابنُ عَمِّي في دِمَشْقَ خَلِيفَة *** لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمْ إِليَّ قَطِينا٢٣
( فصل )٢٤ :
﴿ هذا مِن شِيعَتِهِ ﴾ من بني إسرائيل، ﴿ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ من القبط. قال مقاتل : كانا كافرين إلا أنَّ أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل، لقول موسى عليه السلام٢٥ له ﴿ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ﴾٢٦ [ القصص : ١٨ ]. والمشهور أَنَّ الإسرائيلي كان مسلماً، قيل : إنه السامري، والقبطي طبَّاخ فرعون٢٧. قال سعيد٢٨ بن جبير عن ابن عباس : لمَّا بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلُص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع. وكان بنو٢٩ إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم٣٠.
قوله «فَاسْتَغَاثَهُ » هذه قراءة العامة من الغوث أي طلب غوثه ونصره، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون من الإِعانة٣١. قال ابن عطية : هي٣٢ تصحيف٣٣ وقال ابن جبارة صاحب الكامل : الاختيار قراءة ابن مقسم، لأَنَّ الإِعانة أوْلَى في هذا الباب٣٤ قال شهاب الدين : نسبة التصحيف إلى هؤلاء غير محمودة ( كما أن تغالي )٣٥ الهذلي في اختيار الشاذة غير محمود٣٦.
قوله :«فَوَكَزَهُ » أي : دفعه بجميع كَفِّه٣٧، والفرق بين الوَكْزِ واللَّكْزِ : أَنَّ الأول بجميع الكف والثاني : بأطراف الأصابع، وقيل بالعكس، وقيل : اللكز في الصدر، والوكز في الظهر٣٨، والنَّكْزُ كاللَّكْزِ قال :
٣٩٧٩ - يَا أَيُّهَا الجَاهِلُ ذُو التَّنَزِّي *** لا تُوعِدني حَبَّةٌ بِالنَّكْزِ٣٩
وقرأ ابن مسعود «فَلَكَزَهُ »٤٠ و «فَنَكَزَهُ »٤١ باللام والنون.
قوله :«فَقَضَى » أي : موسى، أو الله تعالى، أو ضمير الفعل أي٤٢ : الوكز٤٣ «فَقَضَى عَلَيْهِ » أي : أماته، وقتله، وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه، فندم موسى ولم يكن قصده القتل، فدفنه في الرمل٤٤، و ﴿ قَالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ﴾ فقوله :«هذَا » إشارة إلى القتل الصادر منه، و ﴿ مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ أي : من وسوسته وتسويله.

فصل :


احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء من وجوه :
أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يكون مستحق القتل أو لم يكن كذلك، فإن استحق القتل فلم قال :﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ ؟ ولم قال :﴿ ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ ﴾ ؟ وقال في سورة أخرى ﴿ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضالين ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ]. وإن لم يستحق القتل كان قتله معصيةً وذنباً.
وثانيها : أنَّ قوله :﴿ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ ﴾ يدل على أنه كان كافراً حربياً، فكان دمه مباحاً، فَلِمَ استغفر عنه ؟ والاستغفار من الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً.
وثالثها : أَنَّ الوكز لا يحصل عنه القتل ظاهراً. فكان ذلك قتل خطأ، فَلِمَ استغفر منه ؟.
والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال إنه لكفره مباح الدم ؟ وأما قوله ﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾ ففيه وجوه :
الأول : أنَّ الله تعالى وإن أباح قتل٤٥ الكفار، إلاَّ أنه كان الأَولى تأخير قتلهم٤٦ إلى زمان آخر، فلما قتل ترك ذلك المندوب ؛ وهو قوله :﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾.
الثاني : أنَّ قوله :«هذَا » إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه.
( الثالث : أنَّ قوله :«هذَا » إشارة إلى المقتول )٤٧. ( يعني أنه من حزب الشيطان )٤٨ وجنده، يقال : فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه٤٩.
١ انظر البغوي ٦/٣٢٥..
٢ رأس: سقط من ب..
٣ انظر البغوي ٦/٣٢٥، الفخر الرازي ٢٤/٢٣٣..
٤ وهو قول الضحاك. انظر البغوي ٦/٣٢٥، الفخر الرازي ٢٤/٢٣٣..
٥ انظر التبيان ٢/١٠١٨..
٦ في النسختين: أبو طالب الفارسي، والتصويب من المختصر (١١٢)، البحر المحيط ٧/١٠٩. ولم أقف له على ترجمة..
٧ قال أبو حيان: (ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قال: على حين غفل أهلها فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرية بفعل ماض كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وهذا توجيه شذوذ) البحر المحيط ٧/١٠٩..

٨ صدر البيت من بحر الطويل، قاله النابغة الذبياني، وعجزه:
وقلت ألمَّا أصح والشَّيب وازع
وقد تقدم..

٩ انظر البغوي ٦/٣٢٥-٣٦٦، الفخر الرازي ٢٤/٢٣٣..
١٠ انظر البغوي ٦/٣٢٦..
١١ فأخذها: مكرر في ب..
١٢ انظر الفرخ الرازي ٢٤/٢٣٣..
١٣ انظر البحر المحيط ٧/١٠٩..
١٤ قال ابن عطية: (وقوله تعالى: "يقتتلان" في موضع الحال، أي: مقتتلين) تفسير ابن عطية ١١/٢٧٤..
١٥ فإنه قال: (ومثل ذلك مررت برجل قائماً، وإذا جعلت المرور به في حال قيام) الكتاب ٢/١١٢..
١٦ انظر الهمع ١/٢٤٠، الأشموني ٢/١٧٤-١٧٦..
١٧ هو نعيم بن ميسرة أبو عمرو الكوفي النحوي، روى عن أبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود، وروى عنه علي بن حمزة الكسائي. مات سنة ١٧٤ هـ. طبقات القراء ٢/٣٤٢-٣٤٣..
١٨ المختصر (١١٢)..
١٩ انظر التبيان ٢/١٠١٨..
٢٠ هذا: سقط من ب..
٢١ انظر البحر المحيط ٧/١٠٩..
٢٢ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٣٦..
٢٣ لم أجد ما قاله المبرد في المقتضب والكامل، وهو في البحر المحيط ٧/١٠٩.
والبيت من بحر الكامل، وهو في ديوانه ١/٣٨٨، والكامل ٣/١٠٧٤، ١٠٧٥، أمالي ابن الشجري ٢/٢٧٦، البحر المحيط ٧/١٠٩، القطين: الخدم والمماليك والشاهد فيه استعمال (هذا) في الإشارة إلى غائب غير حاضر..

٢٤ ما بين القوسين بياض في الأصل..
٢٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٣..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٣..
٢٨ في ب: عبيد. وهو تحريف..
٢٩ في ب: بني..
٣٠ انظر البغوي ٦/٣٢٦..
٣١ انظر المختصر (١١٢)، البحر المحيط ٧/١٠٩..
٣٢ في الأصل: هو..
٣٣ تفسير ابن عطية ١١/١٠٩..
٣٤ انظر البحر المحيط ٧/١٠٩..
٣٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٦ الدر المصون ٥/٢١٣..
٣٧ انظر اللسان (وكز)..
٣٨ انظر الكشاف ٣/١٦٠، القرطبي ١٣/٢٦٠، البحر المحيط ٧/١٠٣..
٣٩ رجز قاله رؤبة، وهو في ديوانه (٦٣)، الكتاب ٢/١٩٢، المقتضب ٤/٢١٨، أمالي ابن الشجري ٢/١٢١، ابن يعيش ٦/١٣٨، اللسان (نكز)، المقاصد النحوية ٤/٢١٩.
التنزي: خفة الجهل، وأصل التنزي: التوثب. النكز: الضرب والدفع، وهو موضع الشاهد هنا.
واستشهد به النحاة على أن (ذو التنزي) نعت الجاهل مرفوع مع أنه مضاف، لأن الجاهل غير منادى فليس في موضع نصب حتى تنصب صفته على المحل..

٤٠ انظر المختصر (١١٢)، الكشاف ٣/١٦٠، تفسير ابن عطية ١١/٢٧٥، البحر المحيط ٧/١٠٩..
٤١ انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٧٥، البحر المحيط ٧/١٠٩..
٤٢ في ب: إلى. وهو تحريف..
٤٣ انظر البحر المحيط ٧/١٠٩..
٤٤ انظر البغوي ٦/٣٢٧..
٤٥ في ب: عن قتل..
٤٦ في ب: قتله..
٤٧ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٤٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٤..
وأما قوله ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي ﴾ ( فعلى نهج١ قول آدم عليه السلام )٢ ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ] والمراد أحد وجهين : إما على سبيل الانقطاع إلى الله، والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإِنْ لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب.
وأما قوله «فَاغْفِرْ لِي » أي : فاغفر لي ترك هذا المندوب. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴾ حيث قتلت هذا الملعون، فإنَّ فرعون لو عرف ذلك لقتلني به، «فَاغْفِرْ ليْ »، فاستره عليَّ ولا توصل خبره إلى فرعون، «فَغَفَرَ لَهُ » أي : ستره عن الوصول إلى فرعون، ويدل على هذا قوله ﴿ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ فلو٣ كانت إعانة المؤمن هنا سبباً للمعصية لما قال ذلك، وأما قوله٤ ﴿ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضالين ﴾ [ الشعراء : ٢٠ ] فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً، بل اعترف أنه كان ضالاً أي : متحيراً لا يدري ما يجب عليه.
وأما قوله : إنْ كان كافراً حربياً فَلِمَ استغفر من قتله ؟ قلنا : كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع، فلعلّ قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت، أو٥ كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررناه.
وأما قوله : كان قتل خطأ، قلنا : لا نسلم، فلعل الرجل إن كان ضعيفاً وموسى عليه السلام٦ كان في نهاية الشدة فوكزه٧ كان قاتلاً قطعاً، ثم إن سلمنا ذلك٨ ولكنه - عليه السلام٩ - كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون الوكز الذي كان الأولى تركه، فلهذا أقدم على الاستغفار. على أَنَّا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية، لكنَّا بيَّنَّا أَنهُ لا دلالة البتة فيه، لأنه لم يكن رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك قبل النبوة لا نزاع فيه١٠.

فصل :


قال المعتزلة : الآية تدل على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله، لأنه - عليه السلام١١ - قال :﴿ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان ﴾، فلو كانت بخلق الله لكانت من الله لا من الشطيان، وهو كقول يوسف - عليه السلام ١٢- ﴿ مِن بَعْدِ أَنْ نَزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]، وقول فتى موسى ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطانُ ﴾ [ الكهف : ٦٣ ]، وقوله تعالى :﴿ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجنة ﴾١٣ [ الأعراف : ٢٧ ]، وتقدم الكلام على ذلك.
١ نهج: تكملة من الفخر الرازي..
٢ ما بين القوسين في ب: فقيل قول موسى- صلى الله عليه وسلم-..
٣ في ب: فلما..
٤ فعلتها: سقط من ب..
٥ في ب: و..
٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٧ في ب: فوكزه موسى..
٨ ذلك: تكملة من الفخر الرازي..
٩ ذلك: تكملة من الفخر الرازي..
١٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٤-٢٣٥..
١٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٥..
قوله :﴿ بِمَا أَنْعَمْتَ ﴾ يجوز في الباء أن تكون ( قسماً و )١ الجواب مقدراً : لأَتوبنَّ، وتفسيره : فَلأنْ أكُونَ٢، قال القفال : كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً، أي : بنعمتك عليَّ٣، وأنْ تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية، أي : اعصمني بسبب ما أَنعمتَ به٤ عليَّ٥، ويترتب عليه قوله :﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً ﴾، و «مَا » مصدرية أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، وقوله :«فَلَنْ » نفيٌ على حقيقته٦، وهذا يدل على أنه قال : لِمَ٧ أنعمت عليَّ بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين، وهذا يدلّ على أَنَّ ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية، إذ لو كان معصية لنزل الكلام منزلة قوله :«إنك لمَّا أنعمت عليَّ بقبول٨ توبتي من تلك المعصية٩.
وقال الكسائي١٠ والفراء١١ : إنه خبر ومعناه الدعاء، وإنَّ «لَنْ » واقعة موقع «لا »، كأنه قال : ولا تجعلني ظهيراً، قال الفراء : في حرف عبد الله ﴿ وَلاَ تَجْعَلْنِي ظَهِيراً ﴾١٢ قال الشاعر :
٣٩٨٠ - لَنْ تَزَالُوا كَذلكُم ثُمَّ لا زلْ تَ لَهُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ١٣
قال شهاب الدين : وليس في الآية والبيت دلالة على وقوع «لن » موقع «لا »، لظهور النفي فيهما من غير تقدير دعاء١٤.

فصل :


قال ابن عباس :﴿ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ بالمغفرة، ﴿ فَلَنْ أَكُوْنَ ظَهِيراً ﴾ عوناً «لِلْمُجْرِمينَ »، أي : للكافرين وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافراً، وهو قول مقاتل، وقال قتادة : لن أعين بعدها على خطيئة.
قال ابن عباس : لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني١٥ :( وهذا ضعيف، لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة، وإنما خاف منه ذلك العدو، فقال :﴿ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً ﴾ [ القصص : ١٩ ] إلاّ أنه لم يقع منه )١٦ ١٧.
١ ما بين القوسين في الأصل: فيها..
٢ انظر الكشاف ٣/١٦٠، التبيان ٢/١٠١٨، البحر المحيط ٧/١٠٩..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٥..
٤ به: سقط من ب..
٥ انظر الكشاف ٣/١٦٠، التبيان ٢/١٠١٨، البحر المحيط ٧/١٠٩-١١٠..
٦ قال الأخفش: (وقال: "فلن أكون ظهيراً" كما تقول: لن يكون فلان في الدار مقيماً، أي: لا يكونن مقيماً) معاني القرآن ٢/٦٥٢..
٧ في ب: لما..
٨ بقبول: تكملة من الفخر الرازي..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٥..
١٠ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٣٢..
١١ معاني القرآن ٢/٣٠٤..
١٢ المرجع السابق..
١٣ البيت من بحر الخفيف قاله الأعشى وهو في ديوانه ١٦٩، البحر المحيط ٧/١١٠، المغني ١/٢٨٤، شرح التصريح ٢/٢٣٠، الهمع ١/١١١، ٤١٢، شرح شواهد المغني ٢/٦٨٤، الأشموني ٣/٢٧٨، الدرر ١/٨٠. والشاهد فيه أن (لن) أتت للدعاء كما أن (لا) كذلك والدليل عطف الدعاء عليه، وهو قوله: (ثم لا زلت...) وفاقاً لجماعة منهم ابن السراج وابن عصفور، والأكثرون أن (لن) تفيد النفي فقط، فالكلام معها على الإخبار..
١٤ الدر المصون ٥/٣١٤..
١٥ انظر البغوي ٦/٢٢٧..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٥..
١٧ ما بين القوسين سقط من ب..
قوله: ﴿فَأَصْبَحَ فِي المدينة﴾ التي قتل فيها القبطي «خَائِفاً» الظاهر أنه خبر «أصبح»، و «فِي المَدِينَةِ» مفعول به، ويجوز أن يكون حالاً، والخبر «فِي المَدِينَةِ»، ويضعف تمام «أَصْبَحَ» أي: دخل في الصباح.
230
قوله: «يَتَرَقَّبُ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانيةً، وأن يكون بدلاً من الحال (الأولى)، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضمير في «خَائفاً» فتكون متداخلة، ومفعول «يَتَرَقَّبُ» محذوف، أي: يترقب المكروه، أو الفرج، أو الخبر: هل وصل لفرعون أم لا؟ قوله: «فَإِذَا» «إِذَا» فجائية، و «الَّذِي» مبتدأ وخبره إمَّا «إذَا» ف «يَسْتَصْرِخُهُ» حال، وإمَّا «يَسْتَصْرِخُهُ» ف «إِذَا» فضله على بابها، و «بِالأَمْسِ» معرب، لأنه متى دخلت عليه «أل» أوأضيف أعرب، ومتى عَرِيَ منها فحاله معروفٌ، الحجاز يبنونه، والتميميون يمنعونه الصرف، كقوله:
٣٩٨١ - لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَباً مُذْ أَمْسَا... على أنه قد بُنِيَ مع «ال» ندوراً، كقوله:
٣٩٨٢ - وَإِنِّي حُبِسْتُ اليَوْمَ والأَمْسِ قَبْلَهُ إِلَى الشَّمْسِ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
يورى بكسر السين.
قوله: ﴿قَالَ لَهُ موسى﴾ الضمير قيل للإسرائيلي، لأنه كان سبباً في الفتنة الأولى، وقيل للقبطي، وذلك أنَّ موسى لما أصبح خائفاً من قتل القبطي «يَتَرَقَّب» ينتظر سوءاً، والترقب انتظار المكروه. قال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به، ﴿فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ﴾ يستغيثه ويصيح به من بعد، قال ابن عباس: أتى فرعون فقيل له: إنَّ بني
231
إسرائيل قتلوا مِنَّا رجلاً فخذ لنا بحقنا، فقالوا ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه (فلا تنسبوني أن أقضي) بغير بينة، فبينما هم يطوفون لا يجدون بيّنة إذ مَرَّ مُوسَى من الد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه على الفرعوني، فصادق موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي، فقال موسى للإسرائيلي: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (أي: ظاهر الغواية). قال أهل اللغة: «لَغَوِيٌّ» يجوز أن يكون فَعِيلاً بمعنى مفعل، أي: إنَّك لمغويّ، فإنِّي وقعتُ بالأمس فيما وقعت فيه بسببك، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي: قاتلت رجلاً بالأمس فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر، وتستغيثني عليه، وقيل: إنما قال موسى للفرعوني: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ﴾ بظلمك، والأكثرون على الأول.
قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾ الظاهر أنَّ الضميرين لموسى، وقيل للإسرائيلي، والعدو: هو القبطي، والضمير في ﴿قَالَ ياموسى﴾ للإسرائيلي، كأنه توهم من موسى مخاشنة، فَمِنْ ثمَّ قال ذلك، وبهذا فشا خبره وكان مشكوكاً في قاتله.
و «أَنْ» تطرد زيادتها في موضعين:
أحدهما: بعد لمَّا كهذه.
والثاني: قبل «لَوْ» مسبوقة بقسم كقوله:
٣٩٨٣ - أَمَا وَاللَّهِ َنْ لَوْ كُنْتُ حُراً... ٣٩٨٣م - فَأُقُسِمُ أَنْ لَوْ التَقَيْنَا وَأَنْتُمُ... لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِم
والعامة على «يَبْطِش» بالكسر، وضمَّها أبو جعفر، وقيل: إن القائل «يَا مُوسَى» هو القبطي، وكان قد عرف القصة من الإسرائيلي. قال ابن الخطيب: وهذا هو الظاهر، لقوله: ﴿فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ ياموسى﴾، فهذا
232
القول منه لا من غيره، وأيضاً قوله: ﴿إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض﴾ لا يليق إلا بقول الكافر، والجبار: هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، ولا ينظر في العواقب، وقيل: المتعظم، ﴿وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين﴾، قال المفسرون: فلما سمع القبطي قول الإسرائيلي علم أَنَّ موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني: فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، وأمر فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس: أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم. قوله: ﴿وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى﴾، أي: من آخر المدينة اسمه: حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل اسمه شمعون، وقيل: (شمعان) :«يَسْعَى» قال الزمخشري: «يَسْعَى» يجوز ارتفاعه وصفاً ل «رَجُلٌ» وانتصابه حالاً عنه، لأنه قد تخصص بالوصف بقوله: ﴿مِّنْ أَقْصَى المدينة﴾، فإن جعلت «مِنْ أَقْصَى» متعلقاً ب «جَاءَ» ف «يَسْعَى» صفة ليس إلا. وهذا بناء منه على مذهب الجمهور، وقد تقدَّم أَنَّ سيبويه يجيز ذلك من غير شَرْط.
وفي آية يس قدَّمَ «مِنْ أَقْصَى» على «رَجُل»، لأنه لم يكن من أقصاها وما جاء منها وهنا وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان.
(قوله) «يَأْتَمِرُونَ» أي: يتآمرون بمعنى يتشاورون، كقول النمر بن تولب:
٣٩٨٤ - أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شبهَةً وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ مُؤْتَمَرْ
وعن ابن قتيبة: يأمر بعضهم بعضاً. أخذه من قوله تعالى: ﴿وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٦]. (قوله) «فَاخْرُجْ» أي: من المدينة، ﴿إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين﴾ في الأمر بالخروج، فقوله «لَكَ»، يجوز أن يتعلق بما يدلُّ «النَّاصِحِينَ» عليه، أي؛ ناصحٌ لك من الناصحين، أو بنفس «النَّاصِحِينَ» للاتساع في الظرف، أو على جهة البيان أي: أعني
233
لك. «فَخَرَجَ مِنْهَا» موسى «خَائِفاً يَتَرَقَّبُ» هِدَايَتَهُ وغَوْثَ الله إيَّاهُ، ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾ أي؛ لاكافرين وهذا يدلُّ على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذبناً وإلا لكان هو الظالم لهم، وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم له ليقتلوه قصاصاً.
234
قوله :﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ ﴾ الظاهر أنَّ الضميرين١ لموسى، وقيل للإسرائيلي٢، والعدو : هو القبطي، والضمير في ﴿ قَالَ يا موسى ﴾ للإسرائيلي، كأنه توهم من موسى مخاشنة، فَمِنْ ثمَّ قال ذلك، وبهذا فشا خبره وكان مشكوكاً في قاتله٣.
و «أَنْ » تطرد زيادتها في موضعين :
أحدهما : بعد لمَّا كهذه.
والثاني : قبل «لَوْ » مسبوقة بقسم كقوله :
٣٩٨٣ - أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ٤ كُنْتُ حُراً٥ ***. . .
٣٩٨٣ م - فَأُقُسِمُ أَنْ لَوْ التَقَيْنَا وَأَنْتُمُ *** لَكَانَ لَكُمْ يَوْمٌ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِم٦
والعامة على «يَبْطِش » بالكسر، وضمَّها أبو جعفر٧، وقيل : إن القائل «يَا مُوسَى » هو القبطي، وكان قد عرف القصة من٨ الإسرائيلي. قال ابن الخطيب : وهذا هو الظاهر، لقوله :﴿ فَلَمَّا٩ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يا موسى ﴾، فهذا القول منه لا من غيره، وأيضاً قوله :﴿ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض ﴾ لا يليق إلا بقول الكافر١٠، والجبار : هو الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، ولا ينظر في العواقب، وقيل : المتعظم١١، ﴿ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين ﴾، قال المفسرون : فلما سمع القبطي قول الإسرائيلي علم أَنَّ موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني : فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، وأمر١٢ فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس : أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى فأخذوا الطريق الأعظم١٣.
١ في ب: الضمير. وهو تحريف..
٢ انظر البحر المحيط ٧/١١٠..
٣ انظر القرطبي ١٣/٢٦٥..
٤ في ب: لو أن. وهو تحريف..
٥ صدر بيت من بحر الوافر لم أهتد إلى قائله، وعجزه:
وما بالحر أنت ولا العتيق
وهو في الإنصاف ١/٢٠٠، المقرب ٢٢٥، المغني ١/٣٣، شرح شواهده ١/١١١، شرح التصريح ٢/٢٣٣، الخزانة ٤/١٤١، ١٤٣، الحر: يطلق على ضد الرقيق وعلى الكريم، وكذلك العتيق. والشاهد فيه زيادة (أن) بعد القسم، وبعدها (لو)..

٦ البيت من بحر الطويل، قاله المسيب بن علس. والشاهد فيه زيادة (أن) بعد القسم وبعدها (لو) وقد تقدم..
٧ انظر البحر المحيط ٧/١١٠، الإتحاف ٣٤٢..
٨ من: سقط من ب..
٩ فلما: سقط من ب..
١٠ الفخر الرازي ٢٤/٢٣٧..
١١ المرجع السابق..
١٢ في ب: فأمر..
١٣ انظر البغوي ٦/٣٢٨..
قوله :﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا المدينة يسعى ﴾، أي : من آخر المدينة اسمه : حزقيل مؤمن آل فرعون، وقيل اسمه١ شمعون، وقيل :( شمعان )٢ ٣ :«يَسْعَى » قال الزمخشري :«يَسْعَى » يجوز ارتفاعه وصفاً ل «رَجُلٌ » وانتصابه حالاً عنه، لأنه قد تخصص بالوصف بقوله :﴿ مِنْ أَقْصَى المدينة ﴾، فإن جعلت «مِنْ أَقْصَى » متعلقاً ب «جَاءَ » ف «يَسْعَى » صفة ليس إلا٤. وهذا بناء منه على مذهب الجمهور، وقد تقدَّم أَنَّ سيبويه يجيز ذلك من غير شَرْط٥.
وفي آية يس٦ قدَّمَ «مِنْ أَقْصَى » على «رَجُل »، لأنه لم يكن من أقصاها وما جاء منها٧ وهنا وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان.
( قوله )٨ «يَأْتَمِرُونَ » أي : يتآمرون بمعنى يتشاورون، كقول النمر بن تولب :
٣٩٨٤ - أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شبهَةً وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ مُؤْتَمَرْ٩
وعن ابن قتيبة : يأمر بعضهم بعضاً١٠. أخذه من قوله تعالى :﴿ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [ الطلاق : ٦ ]. ( قوله )١١ «فَاخْرُجْ » أي : من المدينة، ﴿ إِنِّي لَكَ مِنَ١٢ الناصحين ﴾ في الأمر بالخروج، فقوله «لَكَ »، يجوز أن يتعلق بما يدلُّ «النَّاصِحِينَ » عليه، أي ؛ ناصحٌ لك من الناصحين، أو بنفس «النَّاصِحِينَ » للاتساع في الظرف، أو على جهة البيان أي : أعني لك١٣.
١ اسمه: سقط من ب..
٢ انظر البغوي ٦/٣٢٨..
٣ ما بين القوسين في ب: يسمعون. وهو تحريف..
٤ الكشاف ٣/١٦١، وفيه: وإذا جعل صلة لـ "جاء" لم يجز في (يسعى) إلا الوصف..
٥ تقدم قريباً..
٦ يشير إلى قوله تعالى: ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين﴾ [يس: ٢٠]. وفي ب: ليس. وهو تحريف..
٧ في النسختين: منه..
٨ ما بين القوسين بياض في الأصل..
٩ البيت من بحر المتقارب قاله النمر بن تولب، شاعر مخضرم، وهو في مجاز القرآن ٢/١٠٠، تفسير ابن عطية ١١/٢٨٠، القرطبي ١٣/٢٦٦، البحر المحيط ٧/١١١..
١٠ تفسير غريب القرآن (٣٣٠-٣٣١)..
١١ ما بين القوسين بياض في الأصل..
١٢ في الأصل: لمن. وهو تحريف..
١٣ انظر البحر المحيط ٧/١١١..
«فَخَرَجَ مِنْهَا » موسى «خَائِفاً يَتَرَقَّبُ » هِدَايَتَهُ وغَوْثَ الله إيَّاهُ، ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين ﴾ أي ؛ الكافرين وهذا يدلُّ على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنباً وإلا لكان هو الظالم لهم، وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم له ليقتلوه قصاصاً١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٧..
قوله: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ﴾ أي: قصد نحوها ماضياً إليها، يقال: داره تلقاه دار فلان، إذا كانت محاذيتها وأصله من اللقاء، قال الزجاج: أي: سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها. قال ابن عباس: خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله ومشى من غير معرفة فأسلمه الله إلى مدين، وقيل: وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة؛ لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل، سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على الله، وقيل: جاءه جبريل عليه السلام، وعلمه الطريق.
قال ابن إسحاق: خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. ﴿قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل﴾، أي: قصد الطريق إلى مدين.
قوله: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ وهو الماء الذي ستقبون منه وهو بئر، ووروده: مجيئه، والوصول إليه، «وَجَدَ عليه» أي: على شفيره ( «أمَّةً» جماعة كثيفة العدد «مِنَ
234
النَّاسِ» مختلفين «يَسْقُونَ منها مواشيهم)، ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ﴾ أي: سوى الجماعة، وقيل: في مكان أسفل من مكانهم.
قوله:»
امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ «ف» تذودوان «صفة ل» امْرَأَتِيْنِ «لا مفعول ثاني، لأَنَّ» وَجَدَ «بمعنى: لقي، والذَّودُ، الطرد والدفع، قال:
٣٩٨٥ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ... وقيل: حبس: ومفعوله محذوف، أي: يَذُودانِ النَّاسَ عن غَنمهما، أو عن مزاحمة الناس، وقال الزمخشري: لم ترك المفعول غير مذكور في»
يَسْقُونَ «و» تَذُودَانِ «و» لاَ نَسْقِي «، قُلتُ: لأنَّ الغرض هو الفعل لا المفعول، وكذلك قَوْلهُمَا: ﴿لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء﴾ المقصود منه السَّقي لا المَسْقِيّ.
(فصل
واختلفوا في السبب المقتضي لذلك الحبس، فقال الزجاج: لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم، وقيل: لئلا يختلطن بالرجال، وقيل: كانتا تذودان عن وجوههما نظر الرجال لتسترهما، وقيل: تذودان الناس عن غنمهما، وقال الفراء: يحبسانها لئلا تتفرق وتتسرب، وقيل: تذودان أي: معهما قطيع من الغنم، والقطيع من الغنم يسمى: ذوداً، وكذلك قطيع البقرب وقطيع الإبل. قال عليه السلام:»
لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ دَوْدٍ صَدَقَة «وقال الشاعر:
235
قوله:» مَا خَطْبكُمَا «تقدم في طه، وقال الزمخشري: هنا حقيقته: مَا مخطُوبُكما؟ أي: ما مطلُوبُكُمَا من الذياد؟ فسمي المخطُوب خطباً كما سمي المشئُونُ شأْناً في قولك: ما شأنُكَ؟ يقال: شَأنْتُ شَأْنَهُ، أي: قَصَدْتُ قَصْدَه. وقال ابن عطية: السؤال بالخطب إنما هو في مُصَاب أو مُضطهد أو مَنْ يُشْلإقُ عليه أو يأتي بمنكر من الأمر.
وقرأ شَمِر «خِطْبَكُمَا»
بالكسر أي: ما زوجكما؟ أي: لِمَ تَسْقِيَانِ وَلَمْ يَسْقِ زَوْجُكُمَا؟ وهي شاذة جداً.
قوله: ﴿حتى يُصْدِرَ الرعآء﴾ قرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صَدَرَ يَصْدُرُ وهو قاصر، أي: حتى يرجع الرعاء: أي: يرجعون بمواشيهم والباقون بضم الياء وكسر الدال مضارع أَصدرَ مُعدًّى بالهمزة، والمفعول محذوف، أي: يُصدرُونَ مواشِيهم، والعامة على كسر الراء من «الرِّعَاء»، وهو جمع تكسير غير مقيس لأنَّ فاعلاً الوصف المعتل اللام كقاضٍ قياسه (فُعَلَة) نحة قُضَاة ورُمَاة.
وقال الزمخشري: وأما الرِّعَاء بالكسر فقياس كصِيام وقِيام. وليس كما ذكر (لِمَا ذَكَرْنَاهُ). وقرأ أبو عمرو - في رواية - بفتح الراء. قال أبو الفضل: هو مصدر
236
أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع أو على حذف مضاف، وقرىء بضمها، وهو اسم جمع كرخال وثُنَاء. وقرأ ابن مصرف «لا نُسْقِي» بضم النون من أَسْقَى، وتقدم الفرق بين سَقَى وأَسْقَى في النحل، والمعنى لا نسقي حتى يرجع الرّعاء عن الماء، والرّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجَار، أي: نحن امرأتان لا نطيق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض، و ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ لا يقدر أن يسقي مواشيه ولذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم.

فصل


قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: أبوهما هو شعيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. (وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام، وتزوج بابنته). وقال وهب وسعيد بن جبير: هو يثرون ابن أخي شعيب (وكان شعيب) قد مات بعد ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم. وقيل: رجل ممن آمن بشعيب. قالوا: فلما سمع قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقال ابن إسحاق: إنَّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين. وروي أن القوم لمَّا رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشر نفر، فجاء موسى فرفع الحجر وحده، وسقى غنمهما، ويقال: إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة فروي منه جميع الغنم.
قوله: «فَسَقَى لَهُمَا» مفعوله محذوف أي: غنمهما لأجلهما، ﴿ثُمَّ تولى إِلَى الظل﴾ أي: إلى ظل شجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع. قال الضحاك: لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض.
237

فصل


«لِمَا أَنْزَلْتَ» متعلق ب «فَقير» قال الزمخشري: عُدِّي فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلتَ إِليَّ من خير الدين، وهو النجاة من الظالمين.
يعني أن افتقر يتعدى ب «مِنْ»، فإمَّا أن نجعله من باب التضمين، وإمّا أَنَّ متعلقه محذوف و «أَنْزَلْتَ» قيل ماض على أصله، ويعني بالخير ما تقدم من خير الدين، وقيل: بمعنى المستقبل. قال أهل اللغة: اللام بمعنى إلى، يقال: فقير له، وفقير إليه، فإنْ قيل: كيف ساغ بنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه السعي بالماشية فالجواب: أنَّ الناس اختلفوا فيه: هل هو شعيب أو غيره كما تقدم، وإن سلمنا أنه شعيب لكن لا مفسدة فيه، لأن الدين لا يأباه، وأحوال أهل البادية يغر أحوال أهل الحضر سيما إذا كانت الحال حالة ضرورة.

فصل


قال ابن عباس: سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه. قال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقال سعيد بن جبير: قال ابن عباس: لقد قال ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلي شق تمرة، وقيل: إنما قال ذلك في نفسه مع ربه، وهو اللائق بموسى عليه السلام فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حُفّل بِطَان قال لهما: ما أعجلكما: قالتا: وجدنا رجُلاً صالِحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، قوله «فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا» قرأ ابن محيصن: «فَجَاءَتْهُ حُدَاهمَا» بحذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس، كقوله: يا با فلان، وقوله:
238
٣٩٨٦ - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ، وَثَلاَثُ ذَوْدٍ لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
٣٩٨٧ - يَا بَا المُغيرة رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فَرَّجْتهُ بِالنُّكْرِ عَنِّي وَالدَّهَا
وَوَيْلُمِّه أي: ويلٌ لأُمِّهِ. قال:
٣٩٨٨ - وَيْلُمِّهَا حَالُه لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ و «تَمْشِي» حال، و «اسْتِحْيَاءٍ» حال أخرى، إما من «جَاءَتْ» وإما من «تَمْشِي».

فصل


قال عمر بن الخطاب: ليست بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء. ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ صرحت بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها، وقيل: ماشية على بُعْد، مائلة عن الرجال. وقال عبد العزيز بن أبي حازم: على إجلال له، ومنهم من يقف على قوله «تَمْشِي»، ثم يبتدىء ﴿عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾ أي: إنها على استحياء قالت هذا القول، لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة. قال ابن إسحاق: اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا، وقيل ليا، وقال غيره: صَفُورا وصَفِيرا. وقال الضحاك: صافُورا، قال
239
الأكثرون: التي جاءت إلى موسى الكبرى. وقال الكلبي: هي الصغرى. قال ابن الخطيب: وفي الآية إشكالات.
أحدها: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة، (وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا) وهي أجنبية، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة؟ وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم».
وثانيها: أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه، وذلك غير جائز في الشريعة؟.
وثالثها: أنه عرف فقرَهُنَّ، وفَقْرَ أبيهنّ، وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة؟
ورابعها: كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟
والجواب عن الأول: أما العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها.
وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع.
وعن الثاني: أن المرأة لما قالت ذلك، فموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طالباً للأجر، بل للتبرك بذلك الشيخ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ، فقال: اجلس يا شاب فتعش، فقال موسى: أعوذُ بالله، فقال شُعَيْب: ولم ذلك؟ ألست بجائع؟ فقال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية: لا نبيع ديننا بالدُّنيا، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً. فقال شُعيب: لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى، فأكل. وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله، فقبل ذلك اضطراراً، وهو الجواب عن الثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
وعن الرابع: لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها، فكان يعتمد عليها.
240

فصل


قال عمر بن الخطاب: فقام يمشي والجارية أمامه، فعبثت الريح، فوصفت ردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال موسى عليه السلام: إني من عنصر إبراهيم، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك، فأرى ما لا يَحِل، وفي رواية: كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى، لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل: لِمَ خشي موسى - عليه السلام - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال: ﴿لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ [الكهف: ٧٧] ؟
فالجواب: أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء (ف) غير مكروه. قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص﴾ مصدر كالعلل سمي به المقصوص، قال الضَّحاك: قال له: مَنْ أنت يا عبد الله؟ قال له: أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي، وأنهم يطلبوه فيقتلوه، فقال شعيب عليه السلام: ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين﴾ أي: لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل إن المفسرين قالوا: إن فرعون يوم ركب خلف موسى، ركب في ألف ألف وستمائه، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته؟ فالجواب: هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال.
قوله: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره﴾ اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا، ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين﴾ أي: خير من استعملت مَنْ قَوي على العمل، وأداء الأمانة، وإنما جعل ﴿خَيْرَ مَنِ استأجرت﴾ اسماُ و «القَوِيُّ الأَمِينُ» خبراً مع أن العكس أولى، لأن العناية سبب اللتقديم. فإن قيل: القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما العطية والكتابة، فلم أهمَل أمرَ الكتابة؟ فالجواب أنهما داخِلان في الأمانة.
241
قال ابن مسعود: أفرسُ الناس ثلاثة: بنتُ شعيب، (وصاحب يوسف)، وأبو بكر في عمر.
فقال لها أبوها: وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت: أما قوتُه، فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة، وقيل: إلا أربعون، وأمَّا أمانته، فإنه قال لي: امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك. قال شعيب عند ذلك: ﴿إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ﴾. قال أكثر المفسرين: إنه زوجه الصغير منهما، وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورة. قوله: ﴿أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى﴾ روي عن أبي عمرو «أنْكِحَكَ حدى» بحذف همزة «إحدَى»، وهذه تشبه قراءة ابن محيصن «فَجَاءَتْهُ حْدَاهُما»، وتقدم التشديد في نون «هَاتَيْنِ» في سورة النساء.
قوله ﴿على أَن تَأْجُرَنِي﴾ في محل نصب على الحال، إما من الفاعل أو من المفعول، أي: مشروطاً على أو عليك ذلك. و «تَأْجُرَنِي» مضارع أَجَرْتُه، كنتُ له أجيراً، ومفعوله الثاني محذوف، أي: وتأجُرنِي نفسَك، و «ثَمَانِيَ حِجَجٍ» ظرف له. ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني. قال شهاب الدين الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه، وإنّضام جعلها مفعولاً ثانياً على وجه آخر، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف، وهذا نصه ليتبين لك، قال: «تَأْجُرَنِي»، من أجرته إذا كنت له أجيراً، كقولك: أبوته إذا كنت له أَباً، و «ثَمَانِيَ حِجَجٍ» ظفر، أو مِنْ أجرته إذا أثبته، ومنه تعزية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آجركُم اللَّهُ ورحِمَكُمْ» وثماني حججٍ «مفعول به، ومعناه رعية ثماني حجج. فنقل الشيخ عنه الوجه الأول من المعنيين المذكورين في» تأجُرنِي «فقط، وحكى عنه أنه أعرب» ثَمَاني حِجَجٍ «مفعولاً به، وكيف يستقيم ذلك أو يتجه؟ وانظر إلى الزمخشري
242
كيف قدر مضافاً ليصح المعنى به، أي: رَعْيُ ثَمَانِي حِجَجٍ، لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا نفس الزمان، فكيف يوجه الإجارة على الزمان؟
(قوله) » فَمِنْ عِنْدِكَ «يجوز أن يكون في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: فهي من عندك، أو نصب أي: فقد زدتها أو تفضلت بها من عندك.

فصل


معنى الآية: أريدُ أن أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تكون أجيراً لي ثمانِ سنين قال الفراء: أي تجعل ثوابي من تزويجها أنْ ترعى غنمي ثماني حجج، تقول العرب: أَجَرَكَ اللَّه بأجْرِكَ، أي: أثابك والحِجَج: السِّنُون، واحدها حجَّة.
﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً﴾ أي: عشر سنين «فَمِنْ عِنْدِك»
أي: ذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب عليك. واعلم أن هذا اللفظ - وإن كان على الترديد - فلا شبهة أنه عند التزيوج عين، ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين، والزيادة كالتبرع. ودلت الآيية على أنَّ العمل قد يكون مهراً كالمال، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمَّن جائز، ولكنه شرع من قبلنا، ودلَّت أيضاً على أنه يجوز أن يشرط الوليُّ، وعلى أنَّ عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. (واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على صحة بيع أحد هذين العبدين، أو الثوبين، وفيه نظر، لأأنها مراضاة لا معاقدة. ودلت الآية أيضاً على صحة الإجارة بالطعمة والكسوة، كما جرت به العادة، ويؤيده قوله عليه السلام: «إنَّ مُوسَى أَجَّر نَفْسه ثَمَانِيَ سينَ أوْ عَشْرَة على عفة فرجه وطعام بطنه» وهو مذهب الحنابلة قاله ابن كثير.

فصل


قال النووي: الإجارة بكسر الهمزة هو المشهور، وحكى الرافعي أن الجياني حكى في الشامل أيضاً ضم الهمزة، قال أهل اللغة: وأصل الأجر الثواب،
243
يقال: أجرت فلاناً عن عمله كذا أي: أثبته، والله يأجر العبد أي؛ يثيبه، والمستأجر يثيب المأجور عوضاً عن بذل المنافع. قال الواحدي: قال المبرد: يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود، وآجرت ممدود قال المبرد: والأول أكثر).
قوله: ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ أي؛ ألزمك تمام العشر. وأَنْ أَشُقَّ، مفعول «أريد» وحقيقة قولهم: شَقَّ عليه أي: شقَّ ظنَّه نصفين فتارة يقول أطيق، وتارة لا أطيق، وهو من أحسن مجاز.
قوله ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال عمر: أي في حسن الصحبة والوفاء ولين الجانب. وقيل: أراد الصلاح على العموم، وإنما قال ﴿إِن شَاءَ اللَّهُ﴾ للاتكال على توفيقه ومعونته، فإنْ قيل: كيف ينعقد العقدُ بهذا الشَّرط، ولو قلت أنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الله لا تطلَّق؟ فالجواب: هذا ما يختلف بالشرائع.
قوله: «ذَلِكَ» مبتدأ، والإشارة به إلى ما تعاقد عليه، والظرف خبره، وأضيفت «بَيْنَ» لمفرد لتكررها عطفاً بالواو، فإن قلت: المالُ بَيْن زيد فعمرو لم يجز، وأما قوله:
٣٩٨٩ - بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ... فكان الأصمعي يأباها، ويوري «وحوامل» بالواو، والصحيح بالفاء، وول البيت على أن الدَّخُول وحَوْمَل مكانان كل منهما مشتمل على أماكن، نحو قولك: دارِي بين مصر، لأنه يريد به المكان الجامع، والأصل ذلك بيننا ففرق بالعطف.
قوله: «أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ» أي شرطية وجوابها «فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ». وفي «مَا» هذه قولان:
أشهرهما: أنها زائدة، كزيادتها في أخواتها من أدوات الشرط.
244
والثاني: أنها نكرة، و «الأَجَلَيْنِ» بدل منها.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «أَيْمَا» بتخفيف الياء كقوله:
٣٩٩٠ - تَنَظَّرْتُ نَسْراً والسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا عَلَيَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه
وقرأ عبد الله ﴿أيَّ الأَجَلَيَْ مَا قَضَيْت﴾ بإقحام «مَا» بين «الأَجَلَيْن» و «قَضَيْتُ».
قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين موقع زيادة «مَا» في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، «أَيْ» زيادة في شياعها، وفي الشاذة تأكيداً للقضاء كأنَّه قال: أي الأجلين صمَّمْت على قضائه وجرَّدتُ عزيمتي له.
وقرأ أبو حيوة وابن ٌطَيب «عِدْوانَ». قال الزمخشري: فإن قلت: تصوُّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصرهما، وهو المطالب بتتمة العشر، فما معنى تعلق العدوان بهما جميعاً؟ قلت: معناه: كما أني إن طولبت بالزيادة على العَشْر (كان عدواناً) لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني، أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت مستقر، وأنَّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا، ويكون اختيار الأقل والزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحدهمَا عليه إجبار، ثم قال: وقيل: معناه فلا أكون متعدِّياً، وهو في نفي العدوان عن نفسه كقولك: لا إثم عليَّ ولا تبعة.
قال أبو حيان: وجوابه الأول فيه تكثير. قال شهاب الدين: كأنه أعجبه الثاني. والثاني لم يرتضه الزمخشري، لأنه ليس جواباً في الحقيقة، فإن السؤال
245
باق أيضاً، ولذلك نقله عن غيره، وقال المبرد: وقد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما، ولكن جمعهما ليجعل الأول كالأَتَمِّ في الوفاء.

فصل


قال المفسرون: المعنى «أيّ الأَجَلَيْن قَضَيْتُ» أتممتُ وفرغت منه الثماني أو العشر، ﴿فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ﴾ لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر ﴿والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ قال مقاتل: شهيد فيما بيني وبينك، وقيل: حفيظ، ولما استعمل الوكيل بمعنى الشاهد عُدِّي ب (عَلَى) قال سعيد بن جبير: سألني يهودي من أهل الحيرة: أيَّ الأَجلينِ قَضَى مُوسَى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله، فقدمتُ فسألتُ ابن عباس فقال: قَضَى أكثرها وأطيبهما، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا قال فعل.
وروي عن أبي ذر مرفوعاً «إذَا سُئِلْتَ أَيَّ الأَجَلينِ قَضَى مُوسَى؟ فقل خيرهُما وأبرَّهما، وإذا سئلت أيَّ المرأتين تزوَّج موسى؟ فقل الصغرى منهما، وهي التي جاءت فقالت: ﴿ياأبت استأجره﴾ فتزوج صغراهما، وقضى أوفاهما» وقال وهب: أنكَحَه الكُبْرى. ولمَّا تعاقد العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، واختلفوا في تلك العصا.
فقال عكرمة: عرج بها آدم من الجنة، فأخذها جبريل بعد موت آدم، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً، فدفعها إليه، قيل: كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة، فتوراثتها الأنبياء، وكان لا يأخذها غير نبي، فصارت من آدم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى، وقال السُّدي: كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فدخلت فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها شعيب قال لها: رُدِّي هذه العصا، وأتيه بغيرها، فدخلت وألقتها، وأرادت أن تأخذ غيرها، فلا تقع في يدها إلا هي، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فأعطاها موسى، وأخرجها موسى معه، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يرد العصا، فأبى موسى أن يعطيه وقال: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ [
246
طه: ١٨]، فرضي أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فلقيهما ملك في صورة رجل، فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها، فلم يطقها، فأخذها موسى بيده، فرعفها فتركها له الشيخ ثم إن موسى لم أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه، قال مجاهد: لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك (عند صهره عشراً) أخرى فأقام عنده عشرين سنة، ثم استأذنه في العود إلى مصر، فأذن له فخرج بأهله إلى جانب الطور.
247
قوله :﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ وهو الماء الذي يستقون منه وهو بئر، ووروده : مجيئه، والوصول إليه، «وَجَدَ عليه » أي : على شفيره ( «أمَّةً » جماعة كثيفة العدد «مِنَ النَّاسِ » مختلفين «يَسْقُونَ » منها مواشيهم )١، ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ﴾ أي : سوى الجماعة، وقيل : في مكان أسفل من مكانهم٢.
قوله :«امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ » ف «تذودان » صفة ل «امْرَأَتِيْنِ » لا مفعول ثان، لأَنَّ «وَجَدَ » بمعنى : لقي، والذَّودُ، الطرد٣ والدفع٤، قال :
٣٩٨٥ - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ٥ ***. . .
وقيل : حبس٦ : ومفعوله محذوف، أي : يَذُودانِ النَّاسَ عن غَنمهما٧، أو عن مزاحمة الناس٨، وقال٩ الزمخشري : لم ترك المفعول غير مذكور في «يَسْقُونَ » و «تَذُودَانِ » و «لاَ نَسْقِي »، قُلتُ : لأنَّ الغرض هو الفعل لا المفعول، وكذلك قَوْلهُمَا :﴿ لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء ﴾ المقصود منه السَّقي لا المَسْقِيّ١٠.
( فصل :
واختلفوا في السبب المقتضي لذلك الحبس، فقال الزجاج : لئلا تختلط أغنامهما١١ بأغنامهم، وقيل : لئلا يختلطن بالرجال، وقيل : كانتا تذودان عن وجوههما نظر الرجال لتسترهما١٢، وقيل : تذودان الناس عن غنمهما١٣، وقال الفراء : يحبسانها لئلا تتفرق وتتسرب١٤، وقيل : تذودان أي : معهما قطيع من الغنم، والقطيع من الغنم يسمى : ذوداً، وكذلك قطيع البقر وقطيع الإبل. قال عليه السلام :«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذوْدٍ صَدَقَة »١٥ وقال الشاعر :
٣٩٨٦ - ثَلاَثَةُ أَنْفُسٍ، وَثَلاَثُ ذَوْدٍ *** لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي١٦ ) ١٧
قوله :«مَا خَطْبكُمَا » تقدم في طه١٨، وقال الزمخشري : هنا حقيقته : مَا مخطُوبُكما ؟ أي : ما مطلُوبُكُمَا من الذياد ؟ فسمي المخطُوب خطباً كما سمي المشئُونُ شأْناً في قولك : ما شأنُكَ ؟ يقال : شَأنْتُ شَأْنَهُ، أي : قَصَدْتُ قَصْدَه١٩. وقال ابن عطية : السؤال بالخطب٢٠ إنما هو في مُصَاب أو مُضطهد أو مَنْ يُشْفقُ عليه أو يأتي بمنكر من الأمر٢١.
وقرأ شَمِر٢٢ «خِطْبَكُمَا » بالكسر أي : ما زوجكما ؟ أي : لِمَ تَسْقِيَانِ وَلَمْ يَسْقِ زَوْجُكُمَا ؟ وهي شاذة جداً٢٣.
قوله :﴿ حتى يُصْدِرَ الرعاء ﴾ قرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صَدَرَ يَصْدُرُ وهو قاصر، أي : حتى يرجع الرعاء : أي٢٤ : يرجعون بمواشيهم والباقون٢٥ بضم الياء وكسر الدال مضارع أَصدرَ٢٦ مُعدًّى بالهمزة، والمفعول محذوف، أي : يُصدرُونَ مواشِيهم٢٧، والعامة على كسر الراء٢٨ من «الرِّعَاء »، وهو جمع تكسير غير مقيس لأنَّ فاعلاً الوصف المعتل اللام كقاضٍ قياسه ( فُعَلَة ) نحو قُضَاة ورُمَاة٢٩.
وقال الزمخشري٣٠ : وأما الرِّعَاء بالكسر فقياس كصِيام وقِيام٣١. وليس كما ذكر ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ )٣٢. وقرأ أبو عمرو - في رواية٣٣ - بفتح الراء. قال أبو الفضل : هو مصدر أقيم مقام الصفة فلذلك استوى فيه الواحد والجمع أو على حذف مضاف٣٤، وقرئ بضمها٣٥، وهو اسم جمع كرخال٣٦ وثُنَاء٣٧. وقرأ ابن مصرف «لا نُسْقِي » بضم النون٣٨ من أَسْقَى، وتقدم الفرق بين سَقَى وأَسْقَى في النحل٣٩، والمعنى لا نسقي حتى يرجع الرّعاء عن الماء، والرّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجَار٤٠، أي : نحن امرأتان لا نطيق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض، و ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ لا يقدر أن يسقي مواشيه ولذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم٤١.

فصل :


قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : أبوهما ٤٢هو شعيب النبي صلى الله عليه وسلم٤٣. ( وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام، وتزوج بابنته ). وقال وهب وسعيد بن جبير : هو يثرون ابن أخي شعيب ( وكان شعيب )٤٤ قد مات بعد٤٥ ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم٤٦. وقيل : رجل ممن آمن بشعيب٤٧. قالوا : فلما سمع٤٨ قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس٤٩، وقال ابن إسحاق : إنَّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين٥٠. وروي أن القوم لمَّا رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشر٥١ نفر، فجاء موسى فرفع الحجر وحده، وسقى غنمهما٥٢، ويقال : إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة فروي منه جميع الغنم٥٣.
١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٩..
٣ في ب: الطرف. وهو تحريف..
٤ انظر الكشاف ٣/١٦١..
٥ صدر بيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وعجزه:
وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وقد تقدم..

٦ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٣٠٥..
٧ وهو قول قتادة. انظر القرطبي ١٣/٢٦٨..
٨ وهو قول ابن عباس. المرجع السابق..
٩ في الأصل: قال..
١٠ الكشاف ٣/١٦٢..
١١ لم أجد ما قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه وهو في الفخر الرازي غير منسوب..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٣٩..
١٣ وهو قول قتادة. القرطبي ١٣/٢٦٨..
١٤ معاني القرآن ٢/٣٠٥..
١٥ أخرجه البخاري (زكاة) ١/٢٥١، ٢٥٤، ٢٥٩، ومسلم (زكاة) ٢/٦٧٤-٦٧٥..
١٦ البيت من بحر الوافر، قاله الحطيئة، وتقدم تخريجه..
١٧ ما بين القوسين سقط من ب..
١٨ يريد قوله تعالى: ﴿قال فما خطبك يا سامري﴾ [طه: ٩٥]. ولم يذكر هناك معنى الخطب وإنما ذكره عند قوله تعالى: ﴿قال ما خطبكن إذ راودتنّ يوسف عن نفسه﴾ [يوسف: ٥١] وذكر هناك: والخطب الأمر والشأن الذي فيه خطر، وهو في الأصل مصدر خطب يخطب وإنما يخطب في الأمور العظام. انظر اللباب ٥/٤٢..
١٩ الكشاف ٣/١٦١..
٢٠ في الأصل: بالخطاب..
٢١ تفسير ابن عطية ١١/٢٨٥..
٢٢ هو شمر بن حمدويه الهروي، أبو عمرو اللغوي، الأديب، اخذ عن الفراء والأصمعي وأبي حاتم وغيرهم، ألف كتاباً كبيراً في اللغة لم ينسخ في حياته ففقد بعد موته إلا يسيراً. بغية الوعاة ٢/٤-٥..
٢٣ انظر البحر المحيط ٧/١١٣..
٢٤ في ب: أو..
٢٥ في ب: والثاني. وهو تحريف..
٢٦ السبعة (٤٩٢)، الكشف ٢/١٧٢-١٧٣، النشر ٢/٣٤١، الإتحاف(٣٤٢)..
٢٧ انظر البيان ٢/٢٣١..
٢٨ الراء: سقط من ب..
٢٩ انظر الأشموني ٤/١٣٢..
٣٠ الزمخشري: سقط من ب..
٣١ أي: جمع صائم وقائم. الكشاف ٣/١٦١. ورد أبو حيان على الزمخشري في هذه المسألة، قال: (وليس بقياس لأنه جمع راع، وقياس (فاعل) الصفة التي للعاقل أن تكسر على (فعلة) كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس) البحر المحيط ٧/١١٣، وقد جاء في اللسان ما يوافق قول الزمخشري، قال ابن منظور: (وراعي الماشية حافظها. صفة غالبة غلبة الاسم والجمع رعاة، مثل قاضٍ وقضاة، ورعاء مثل جائع وجياع، ورعيان مثل شابٍّ وشبَّان كسَّروه تكسير الأسماء كحاجر وحجران، لأنها صفة غالبة، وليس في الكلام اسم على فاعل يعتور عليه فعلة وفعال إلا هذا، وقولهم: آسٍ وأساةٌ وإساءٌ) اللسان (رعى)..
٣٢ ما بين القوسين في ب: كما ذكرنا..
٣٣ في رواية عياش. حكاها أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر البحر المحيط ٧/١١٣..
٣٤ انظر البحر المحيط ٧/١١٣..
٣٥ انظر المختصر (١١٢)، الكشاف ٣/١٦١..
٣٦ الرِّخال: جمع رخل، الأنثى من أولاد الضأن. اللسان (رخل)..
٣٧ ثناء: جمع ثنية، وهي الناقة التي ولدت بطنين. اللسان (ثنى)..
٣٨ انظر المختصر (١١٢)..
٣٩ عند قوله تعالى: ﴿وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم ممَّا في بطونه﴾ من الآية (٦٦)..
٤٠ انظر القرطبي ١٣/٢٦٩. وفي ب: وتجار أي تجار..
٤١ انظر البغوي ٦/٣٣٠..
٤٢ في ب: وأبوهما..
٤٣ انظر البغوي ٦/٣٣٠..
٤٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٤٥ في ب: قبل..
٤٦ انظر البغوي ٦/٣٣٠..
٤٧ المرجع السابق..
٤٨ في ب: أسمع..
٤٩ انظر البغوي ٦/٣٣٠..
٥٠ المرجع السابق..
٥١ في ب: عشرة..
٥٢ انظر البغوي ٦/٣٣٠..
٥٣ المرجع السابق..
قوله :«فَسَقَى لَهُمَا » مفعوله محذوف أي : غنمهما لأجلهما١، ﴿ ثُمَّ تولى إِلَى الظل ﴾ أي : إلى ظل شجرة فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع. قال الضحاك : لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض٢.

فصل :


«لِمَا أَنْزَلْتَ » متعلق ب «فَقير » قال الزمخشري : عُدِّي فقير٣ باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلتَ إِليَّ من خير٤ الدين، وهو النجاة من الظالمين٥.
يعني أن افتقر يتعدى ب «مِنْ »، فإمَّا أن نجعله من باب التضمين، وإمّا أَنَّ٦ متعلقه محذوف و «أَنْزَلْتَ » قيل ماض على أصله، ويعني بالخير ما تقدم من خير الدين، وقيل : بمعنى المستقبل٧. قال أهل اللغة : اللام بمعنى إلى، يقال : فقير له، وفقير إليه، فإنْ قيل : كيف ساغ بنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه٨ السعي بالماشية فالجواب : أنَّ الناس اختلفوا فيه : هل هو شعيب أو غيره كما تقدم، وإن سلمنا أنه شعيب٩ لكن لا مفسدة فيه، لأن الدين لا يأباه، وأحوال أهل١٠ البادية غير أحوال أهل الحضر١١ سيما إذا كانت الحالة حالة١٢ ضرورة١٣.

فصل :


قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه١٤. قال الباقر١٥ : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة١٦، وقال سعيد بن جبير : قال١٧ ابن عباس : لقد قال١٨ ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلي شق تمرة١٩، وقيل : إنما قال ذلك في نفسه مع ربه، وهو اللائق بموسى عليه السلام٢٠ فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حُفّل بِطَان٢١ قال لهما : ما أعجلكما : قالتا : وجدنا رجُلاً صالِحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي٢٢،
١ انظر البحر المحيط ٧/١١٣..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
٣ في ب: فقيراً..
٤ في ب: من خير فقير..
٥ الكشاف ٣/١٦٢..
٦ في ب: وإما أن يكون..
٧ انظر القرطبي ١٣/٢٧٠..
٨ لابنته: سقط من ب..
٩ في ب: لا شعيب. وهو تحريف..
١٠ في ب: أهلي. وهو تحريف..
١١ في ب: و. وهو تحريف..
١٢ في ب: حال..
١٣ انظر الكشاف ٣/١٦٢، الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
١٤ انظر البغوي ٦/٣٣٠-٣٣١..
١٥ هو محمد بن علي زين العابدين الباقر الإمام الخامس للشيعة ولد وتوفي بالمدينة. مات سنة ١١٤ هـ. المنجد ١٠٦-١٠٧..
١٦ انظر البغوي ٦/٣٣١..
١٧ في ب: عن..
١٨ في ب: لقد قال موسى..
١٩ انظر البغوي ٦/٣٣١..
٢٠ المرجع السابق..
٢١ أي: ممتلئة البطن..
٢٢ انظر الكشاف ٣/١٦٢..
قوله «فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا » قرأ ابن محيصن :«فَجَاءَتْهُ حُدَاهمَا » بحذف الهمزة تخفيفاً١ على غير قياس، كقوله : يا با فلان، وقوله :
٣٩٨٧ - يَا بَا المُغيرة رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ *** فَرَّجْتهُ بِالنُّكْرِ عَنِّي وَالدَّهَا٢
وَوَيْلُمِّه أي : ويلٌ لأُمِّهِ. قال :
٣٩٨٨ - وَيْلُمِّهَا حَالُه٣ لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ٤ ***. . .
و «تَمْشِي » حال، و «اسْتِحْيَاءٍ » حال أخرى، إما من «جَاءَتْ » وإما من «تَمْشِي »٥.

فصل :


قال عمر بن الخطاب : ليست بسلفع٦ من النساء خرَّاجة ولاَّجة، ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على وجهها استحياء٧. ﴿ قالت٨ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ صرحت٩ بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها، وقيل : ماشية على بُعْد، مائلة عن الرجال١٠. وقال عبد العزيز بن أبي حازم١١ : على إجلال له١٢، ومنهم من يقف على قوله «تَمْشِي »، ثم يبتدئ ﴿ عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ﴾١٣ أي : إنها على استحياء قالت هذا القول، لأن الكريم إذا دعا١٤ غيره إلى الضيافة يستحي لا سيما المرأة١٥. قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صَفورا والصغرى لبنا، وقيل ليا١٦، وقال غيره : صَفُورا وصَفِيرا١٧. وقال الضحاك : صافُورا١٨، قال الأكثرون : التي جاءت إلى موسى الكبرى١٩. وقال الكلبي : هي الصغرى٢٠. قال ابن الخطيب : وفي الآية إشكالات.
أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام٢١ أن يعمل بقول امرأة، ( وَأَنْ يَمْشِي مَعَهَا )٢٢ وهي أجنبية، فإذن ذلك يورث التهمة العظيمة ؟ وقال٢٣ صلى الله عليه وسلم :«اتَّقُوا مَوَاضِع التُّهَم ».
وثانيها٢٤ : أنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى٢٥، فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه، وذلك غير جائز في الشريعة ؟.
وثالثها : أنه عرف فقرَهُنَّ، وفَقْرَ أبيهنّ، وأنه عليه السلام٢٦ كان في نهاية القوة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ؟.
ورابعها : كيف يليق بالنبي شُعَيب عليه السلام٢٧ أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شابٍّ قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟.
والجواب عن الأول : أما٢٨ العمل بقول امرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى، وهي ما كانت إلاَّ مخبرة عن أبيها.
وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع.
وعن الثاني : أن المرأة لما قالت ذلك، فموسى عليه السلام٢٩ ما ذهب إليهم طالباً للأجرة، بل للتبرك بذلك الشيخ، لِما رُوِي أنه لما دخل على شعيب إذا هو بالعَشاء تهيَّأ، فقال : اجلس يا شاب فتعش، فقال موسى : أعوذُ بالله، فقال شُعَيْب : ولم ذلك ؟ ألست بجائع ؟ فقال : بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نطلبُ على عملٍ من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية : لا نبيع ديننا بالدُّنيا، ولا نأخذ بالمعروف ثمناً. فقال شُعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى٣٠، فأكل. وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله، فقبل ذلك اضطراراً٣١، وهو الجواب عن الثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
وعن الرابع : لعله عليه السلام٣٢ كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها، فكان يعتمد عليها٣٣.

فصل :


قال عمر بن الخطاب : فقام يمشي٣٤ والجارية أمامه، فعبثت الريح، فوصفت٣٥ ردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال موسى عليه السلام٣٦ : إني من عنصر إبراهيم، فكوني خَلْفي حتى لا ترفع الريح ثيابك، فأرى ما لا يَحِل٣٧، وفي رواية : كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحَصَى، لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل : لِمَ خشي موسى - عليه السلام٣٨ - أن يكون ذلك أجرة له عن عمله، ولم يكره مع الخضر ذلك حين قال :﴿ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ [ الكهف : ٧٧ ] ؟.
فالجواب : أن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء ( ف )٣٩ غير مكروه٤٠. قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص ﴾٤١ مصدر كالعلل سمي به المقصوص، قال الضَّحاك : قال له : مَنْ أنت يا عبد الله ؟ قال له : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وذكر له جميع أمره من لدن٤٢ ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي، وأنهم يطلبوه فيقتلوه، فقال شعيب عليه السلام٤٣ :﴿ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين ﴾ أي : لا سلطان له بأرضنا٤٤، فإن قيل إن المفسرين قالوا : إن فرعون يوم ركب خلف موسى، ركب في ألف ألف وستمائه٤٥، والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل ألا يكون في ملكه قرية على بُعْد ثمانية أيام من دار مملكته ؟ فالجواب : هذا وإن كان نادراً إلا أنَّه ليس بمحال٤٦.
١ انظر المحتسب ٢/١٥٠، البحر المحيط ٧/١١٤..
٢ البيت من بحر الكامل، ونسبه في التصريف الملوكي(٣٨) إلى أبي الأسود الدؤلي، وليس في ديوانه. والشاهد فيه حذف الهمزة في قوله (يا با)، وهذا الحذف للتخفيف وليس بقياس. وفيه أيضاً قصر (الدها) والأصل فيه المد..
٣ في ب: حال..
٤ لم أعثر على تتمة لهذا البيت، ولا قائله، والشاهد فيه قوله (ويلمها) الأصل: ويل لأمها فحذفت الهمزة من الأم تخفيفاً، ثم تبعتها لام الجر المعدية للمصدر حتى لا تلتقي مع اللام قبلها..
٥ انظر البيان ٢/٢٣١..
٦ السلفع من النساء: الجريئة على الرجال..
٧ انظر البغوي ٦/٣٣١، الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
٨ في ب: وقالت..
٩ في ب: خرجت..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
١١ هو عبد العزيز بن أبي حازم، يكنى أبا تمام. مات بالمدينة فجأة سنة ١٨٤ هـ. المعارف لابن قتيبة ٤٧٩..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
١٣ لعله جعل قوله "على استحياء" حالاً مقدمة من "قالت"، أي: قالت مستحيية، لأنها كانت تريد أن تدعوه إلى ضيافتها، وما تدري أيجيبها أم لا، وهو وقف جيد، والأجود وصله. انظر منار الهدى في الوقف والابتدا (٢٩٠)..
١٤ في الأصل: دعاه..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠..
١٧ المرجع السابق..
١٨ المرجع السابق..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٠-٢٤١..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤١..
٢١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٣ في ب: قال..
٢٤ في ب: وثالثها. وهو تحريف..
٢٥ تعالى: سقط من ب..
٢٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٧ أما: سقط من ب..
٢٨ أما: سقط من ب..
٢٩ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٠ في ب: موسى عليه الصلاة والسلام..
٣١ في ب: يقبل ذلك أضرار..
٣٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٣ الفخر الرازي ٢٤/٢٤١..
٣٤ في ب: موسى..
٣٥ في ب: وصفت..
٣٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤١..
٣٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٣٩ فـ: تكملة ليست في المخطوط..
٤٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤١..
٤١ القصص: سقط من الأصل..
٤٢ في ب: من ولد..
٤٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
٤٥ في ب: وثمانمائة..
٤٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
قوله :﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أبت استأجره ﴾ اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا، ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين ﴾ أي : خير من استعملت مَنْ قَوي على العمل، وأداء الأمانة، وإنما جعل ﴿ خَيْرَ مَنِ استأجرت ﴾ اسماً و «القَوِيُّ الأَمِينُ » خبراً مع أن العكس أولى، لأن العناية سبب١ للتقديم٢. فإن قيل : القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما العطية والكتابة، فلم أهمَل أمرَ الكتابة ؟ فالجواب٣ أنهما داخِلان في الأمانة.
قال ابن مسعود : أفرسُ الناس ثلاثة : بنتُ شعيب، ( وصاحب يوسف )٤، وأبو بكر في٥ عمر٦.
فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوتُه، فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة، وقيل : إلا أربعون، وأمَّا أمانته، فإنه قال لي : امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك٧.
١ في ب: بسبب..
٢ انظر الكشاف ٣/١٦٣، الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
٣ في ب: والجواب..
٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٥ في النسختين: و. والتصويب من الفخر الرازي..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
٧ انظر البغوي ٦/٣٣٣..
قال شعيب عند ذلك :﴿ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ ﴾. قال أكثر المفسرين : إنه زوجه الصغيرة منهما، وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورة١. قوله :﴿ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ﴾٢ روي عن أبي عمرو «أنْكِحَكَ حدى » بحذف همزة «إحدَى »٣، وهذه تشبه قراءة ابن محيصن «فَجَاءَتْهُ حْدَاهُما »، وتقدم التشديد في نون «هَاتَيْنِ » في سورة النساء٤.
قوله ﴿ على أَن تَأْجُرَنِي ﴾ في محل نصب على الحال، إما من الفاعل أو من المفعول، أي : مشروطاً على أو عليك ذلك٥. و «تَأْجُرَنِي » مضارع أَجَرْتُه، كنتُ له أجيراً، ومفعوله٦ الثاني محذوف، أي : وتأجُرنِي نفسَك٧، و «ثَمَانِيَ حِجَجٍ » ظرف له٨. ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني٩. قال شهاب الدين الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه، وإنّما جعلها مفعولاً ثانياً على وجه آخر، وأما١٠ على هذا الوجه فلم١١ يجعلها غير ظرف، وهذا نصه ليتبين لك، قال :«تَأْجُرَنِي »، من أجرته إذا كنت له أجيراً، كقولك١٢ : أبوته إذا كنت له أَباً، و «ثَمَانِيَ حِجَجٍ » ظرف١٣، أو مِنْ أجرته١٤ إذا أثبته، ومنه تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم :«آجركُم اللَّهُ ورحِمَكُمْ »١٥ و «ثماني حججٍ » مفعول به، ومعناه رعية ثماني حجج١٦. فنقل الشيخ١٧ عنه الوجه الأول من المعنيين المذكورين في «تأجُرنِي » فقط، وحكى عنه أنه أعرب «ثَمَاني حِجَجٍ » مفعولاً به، وكيف يستقيم ذلك أو يتجه ؟ وانظر إلى الزمخشري كيف قدر مضافاً ليصح١٨ المعنى به، أي : رَعْيُ ثَمَانِي حِجَجٍ، لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا نفس الزمان، فكيف يوجه الإجارة على الزمان١٩ ؟.
( قوله )٢٠ «فَمِنْ عِنْدِكَ » يجوز أن يكون في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فهي من عندك، أو نصب أي : فقد زدتها أو تفضلت بها من عندك٢١.

فصل :


معنى الآية : أريدُ أن أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تكون أجيراً لي ثمانِ سنين قال الفراء٢٢ : أي تجعل ثوابي من تزويجها أنْ ترعى غنمي ثماني حجج٢٣، تقول العرب : أَجَرَكَ اللَّه بأجْرِكَ، أي : أثابك والحِجَج : السِّنُون، واحدها حجَّة.
﴿ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً ﴾ أي : عشر سنين «فَمِنْ عِنْدِك » أي : ذلك تفضل منك وتبرع ليس بواجب٢٤ عليك٢٥. واعلم أن هذا اللفظ - وإن كان على الترديد - فلا شبهة أنه عند التزويج عين، ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين، والزيادة كالتبرع٢٦. ودلت الآية على أنَّ العمل قد يكون مهراً كالمال، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمَّن جائز، ولكنه٢٧ شرع من قبلنا٢٨، ودلَّت أيضاً على أنه يجوز أن يشرط الوليُّ، وعلى أنَّ عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد٢٩. ( واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على صحة بيع أحد هذين العبدين، أو الثوبين، وفيه نظر، لأنها مراضاة لا معاقدة. ودلت الآية أيضاً على صحة الإجارة بالطعمة والكسوة، كما جرت به العادة، ويؤيده قوله عليه السلام :«إنَّ مُوسَى أَجَّر نَفْسه ثَمَانِيَ سنينَ أوْ عَشْرَة على عفة فرجه وطعام بطنه » وهو مذهب الحنابلة قاله ابن كثير٣٠.

فصل :


قال النووي : الإجارة بكسر الهمزة هو المشهور، وحكى الرافعي٣١ أن الجياني٣٢ حكى في الشامل أيضاً ضم الهمزة، قال أهل اللغة : وأصل الأجر الثواب، يقال : أجرت فلاناً عن عمله كذا أي : أثبته، والله يأجر العبد أي ؛ يثيبه، والمستأجر يثيب المأجور عوضاً عن بذل المنافع. قال الواحدي : قال المبرد : يقال أجرت داري ومملوكي غير ممدود، وآجرت ممدود قال المبرد : والأول أكثر )٣٣ ٣٤.
قوله :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾ أي ؛ ألزمك تمام العشر. وأَنْ أَشُقَّ، مفعول «أريد » وحقيقة قولهم٣٥ : شَقَّ عليه أي : شقَّ ظنَّه نصفين فتارة يقول أطيق، وتارة لا أطيق، وهو من أحسن مجاز٣٦.
قوله ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ قال عمر : أي في حسن٣٧ الصحبة والوفاء ولين الجانب٣٨. وقيل : أراد الصلاح على العموم، وإنما قال ﴿ إِن شَاءَ اللَّهُ ﴾ للاتكال على توفيقه ومعونته٣٩، فإنْ قيل : كيف ينعقد العقدُ بهذا الشَّرط، ولو قلت أنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ الله لا تطلَّق ؟ فالجواب : هذا ما يختلف بالشرائع٤٠.
١ المرجع السابق..
٢ في ب: إحدى ابنتي..
٣ انظر المختصر (١١٢)، البحر المحيط ٧/١١٥..
٤ عند قوله تعالى: ﴿واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما﴾ من الآية (١٦)..
٥ انظر التبيان ٢/١٠١٩..
٦ في ب: ومفعول. وهو تحريف..
٧ انظر البحر المحيط ٧/١١٥..
٨ انظر البيان ٢/٢٣١، التبيان ٢/١٠١٩..
٩ البحر المحيط ٧/١١٥..
١٠ في الأصل: أما..
١١ في ب: فلا..
١٢ في ب: كقوله..
١٣ في الكشاف: ظرفه..
١٤ في الكشاف: أو من أجرته كذا..
١٥ انظر الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف(١٢٦)..
١٦ الكشاف ٣/١٧٣..
١٧ في ب: النسخ. وهو تحريف..
١٨ في الأصل: يصح..
١٩ الدر المصون ٥/٢١٦..
٢٠ ما بين القوسين بياض في الأصل..
٢١ انظر التبيان ٢/١٠١٩..
٢٢ قال الفراء: سقط من الأصل..
٢٣ معاني القرآن ٢/٣٠٥..
٢٤ في ب: بواحد. وهو تحريف..
٢٥ انظر البغوي ٦/٣٣٣-٣٣٤..
٢٦ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
٢٧ في ب: ولكن..
٢٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
٢٩ المرجع السابق..
٣٠ انظر تفسير ابن كثير ٣/٣٨٥..
٣١ هو عبد الكريم بن محمد الرافعي، فقيه شافعي قزويني، تضلع في المذهب والعلوم الإسلامية وله مشاركة في التاريخ واللغة، من كتبه: فتح العزيز في شرح الوجيز للغزالي، والتدوين في أخبار قزوين. مات سنة ٦٢٣ هـ. المنجد في الأعلام (٢٦٠)..
٣٢ في النسختين: الحار. والتصويب من تهذيب الأسماء واللغات للنووي ص ٤..
٣٣ انظر تهذيب الأسماء واللغات (٤)..
٣٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٥ في ب: قوله..
٣٦ انظر الكشاف ٣/١٦٤..
٣٧ في الأصل: جنس..
٣٨ انظر البغوي ٦/٣٣٤..
٣٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٢..
٤٠ انظر الفخر الرازي ٢٤/٣٤٣..
قوله :«ذَلِكَ » مبتدأ، والإشارة به إلى ما تعاقدا١ عليه، والظرف خبره٢، وأضيفت «بَيْنَ » لمفرد لتكررها عطفاً بالواو، فإن قلت : المالُ بَيْن زيد فعمرو لم يجز، وأما قوله :
٣٩٨٩ - بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ٣ ***. . .
فكان٤ الأصمعي يأباها، ويروي «وحومل » بالواو، والصحيح بالفاء، وأول البيت على أن الدَّخُول وحَوْمَل مكانان كل منهما مشتمل على أماكن، نحو قولك : دارِي بين مصر، لأنه يريد به المكان الجامع٥، والأصل ذلك بيننا ففرق بالعطف.
قوله :«أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ » أي شرطية وجوابها «فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ »٦. وفي «مَا » هذه قولان :
أشهرهما : أنها زائدة٧، كزيادتها في أخواتها من أدوات الشرط.
والثاني : أنها نكرة، و «الأَجَلَيْنِ » بدل منها٨.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «أَيْمَا » بتخفيف الياء٩ كقوله :
٣٩٩٠ - تَنَظَّرْتُ نَسْراً والسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا ***. . . عَلَيَّ مِنَ الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُه١٠
وقرأ عبد الله ﴿ أيَّ الأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْت ﴾ بإقحام «مَا » بين «الأَجَلَيْن » و «قَضَيْتُ »١١.
قال الزمخشري١٢ : فإن قلت : ما الفرق بين موقع زيادة «مَا »١٣ في القراءتين١٤ ؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام، «أَيْ » زيادة في شياعها، وفي الشاذة تأكيداً للقضاء كأنَّه قال : أي الأجلين صمَّمْت على قضائه وجرَّدتُ عزيمتي له١٥.
وقرأ أبو حيوة وابن قُطَيب «عِدْوانَ »١٦. قال الزمخشري : فإن قلت : تصوُّر العدوان إنما هو في أحد١٧ الأجلين الذي هو أقصرهما، وهو المطالبة بتتمة العشر١٨، فما معنى تعلق العدوان بهما جميعاً ؟ قلت : معناه : كما أني إن طولبت بالزيادة على العَشْر ( كان عدواناً )١٩ لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني٢٠، أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه٢١ ثابت مستقر، وأنَّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا، ويكون اختيار الأقل والزائد موكولاً٢٢ إلى رأيه من غير أن يكون لأحدهمَا عليه إجبار، ثم قال : وقيل : معناه فلا أكون متعدِّياً، وهو في نفي العدوان عن نفسه كقولك : لا إثم عليَّ ولا تبعة٢٣.
قال أبو حيان : وجوابه الأول فيه تكثير٢٤. قال شهاب الدين : كأنه أعجبه الثاني٢٥. والثاني٢٦ لم يرتضه الزمخشري، لأنه ليس جواباً في الحقيقة، فإن السؤال باق أيضاً، ولذلك نقله عن غيره٢٧، وقال المبرد : وقد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما، ولكن جمعهما ليجعل الأول كالأَتَمِّ في الوفاء٢٨.

فصل :


قال المفسرون : المعنى «أيّ الأَجَلَيْن قَضَيْتُ » أتممتُ وفرغت منه الثماني أو العشر، ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾ لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر ﴿ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ قال مقاتل٢٩ : شهيد فيما بيني وبينك، وقيل : حفيظ٣٠، ولما استعمل الوكيل بمعنى الشاهد عُدِّي ب ( عَلَى )٣١ قال سعيد بن جبير : سألني يهودي من أهل الحيرة : أيَّ الأَجلينِ قَضَى مُوسَى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله، فقدمتُ فسألتُ ابن عباس فقال : قَضَى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل٣٢.
وروي عن أبي ذر مرفوعاً «إذَا سُئِلْتَ أَيَّ الأَجَلينِ قَضَى مُوسَى ؟ فقل٣٣ خيرهُما وأبرَّهما، وإذا سئلت أيَّ المرأتين تزوَّج موسى ؟ فقل الصغرى منهما٣٤، وهي التي جاءت فقالت :﴿ يا أبت استأجره ﴾ فتزوج صغراهما، وقضى أوفاهما »٣٥ وقال٣٦ وهب : أنكَحَه الكُبْرى٣٧. ولمَّا تعاقدا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع٣٨ بها السباع عن غنمه، واختلفوا في تلك العصا.
فقال عكرمة : عرج بها آدم من الجنة، فأخذها جبريل بعد موت آدم، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً، فدفعها إليه، قيل : كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة، فتوارثتها الأنبياء، وكان لا يأخذها غير نبي، فصارت من آدم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى٣٩، وقال السُّدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فدخلت فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها شعيب قال لها : رُدِّي هذه العصا، وأتيه بغيرها، فدخلت وألقتها، وأرادت أن تأخذ غيرها، فلا تقع٤٠ في يدها إلا هي، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فأعطاها موسى، وأخرجها موسى معه٤١، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يرد العصا، فأبى موسى أن يعطيه وقال :﴿ هِيَ عَصَايَ ﴾ [ طه : ١٨ ]، فرضي أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فلقيهما ملك في صورة رجل، فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها، فلم يطقها، فأخذها موسى بيده، فرفعها فتركها له الشيخ٤٢ ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه٤٣، قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك ( عند صهره عشراً )٤٤ أخرى فأقام٤٥ عنده عشرين سنة،
١ في الأصل: تعاقد..
٢ انظر الكشاف ٣/١٠١٩، البحر المحيط ٧/١١٥..
٣ جزء بيت من بحر الطويل قاله امرؤ القيس، وهو مطلع معلقته، وتمامه:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللِّوى بين الدَّخول فحومل
وقد تقدم..

٤ في الأصل: كان..
٥ يريد على التأويل: داري بين قرى مصر..
٦ انظر البيان ٢/٢٣١، التبيان ٢/٢٣١..
٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٥٩، البيان ٢/٢٣١..
٨ ونسب لابن كيسان. انظر إعراب القرآن ٢/١٥٩، القرطبي ١٣/٢٧٩..
٩ انظر المختصر (١١٢)، المحتسب ٢/١٥٠، البحر المحيط ٧/١١٥، الإتحاف (٣٤٢)..
١٠ البيت من بحر الطويل قاله الفرزدق، وهو في ديوانه ١/٢٨١، المحتسب ١/٤١، ٢/١٥٢ الكشاف ٣/١٦٤، شرح الكافية الشافية ١/٣٢٨، المغني ١/٧٧، البحر المحيط ٧/١١٥، شرح شواهد المغني ١/٣٢٦..
١١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٣٠٥، المختصر (١١٢)، الكشاف ٣/١٦٤، البحر المحيط ٧/١١٥..
١٢ قال الزمخشري: مكرر في ب..
١٣ في الكشاف: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة..
١٤ في ب: الموضعين..
١٥ الكشاف ٣/١٦٤..
١٦ بكسر العين. المختصر (١١٢)، البحر المحيط ٧/١١٥..
١٧ في ب: إحدى..
١٨ في ب: وهو للطالب تتمة للعشر..
١٩ ما بين القوسين تكملة من الكشاف..
٢٠ في ب: الثمان..
٢١ في ب: أمر الخيار أنه..
٢٢ في ب: مأكولا..
٢٣ الكشاف ٣/١٦٤. بتصرف يسير..
٢٤ البحر المحيط ٧/١١٦..
٢٥ في ب: الباقي. وهو تحريف..
٢٦ يشير بقوله: (الثاني) إلى قول الزمخشري: وقيل: معناه فلا أكون متعدياً....
٢٧ الدر المصون ٥/٣١٧..
٢٨ انظر البحر المحيط ٧/١١٥..
٢٩ في ب: قال ابن عباس ومقاتل..
٣٠ انظر البغوي ٦/٣٣٤..
٣١ انظر الكشاف ٣/١٦٤..
٣٢ أخرجه البخاري (شهادات) ٢/١٠٩، وانظر البغوي ٦/٣٣٤-٣٣٥..
٣٣ في ب: فقيل..
٣٤ في ب: فقيل أصغرهما..
٣٥ انظر البغوي ٦/٣٣٥، تفسير ابن كثير ٣/٣٨٦..
٣٦ وقال: سقط من ب..
٣٧ انظر البغوي ٦/٣٣٥..
٣٨ في ب: فدفع. وهو تحريف..
٣٩ انظر البغوي ٦/٣٣٥-٣٣٦..
٤٠ في ب: تمنع. وهو تحريف..
٤١ في ب: معها. وهو تحريف..
٤٢ انظر البغوي ٦/٣٣٦..
٤٣ انظر البغوي ٦/٣٣٦-٣٣٧..
٤٤ ما بين القوسين في ب: عنده عشر..
٤٥ في الأصل: وأقام..
«آنسَ» أي: أبصر « ﴿مِن جَانِبِ الطور نَاراً﴾ وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلقُ، فقال ﴿لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ عن الطريق لأنه اكن قد أخطأ الطريق.
قوله»
أَوْ جُذْوَةٍ «قرأ حمزة بضم الجيم، وعاصم بالفتح، والباقون بالكسر وهي لغات في العُود الذي في رأسه نار، هذا هو المشهور، قال السُّلَمي:
247
وقيده بعضهم فقال: في رأسه نار من غير لهب، قال ابن مُقبل:
٣٩٩١ - حَمَا حُبُّ هذي النَّارِ حُبَّ خَلِيلَتِي وَحُبُّ الغَوَانِي فهو دُونَ الحُبَاحِبِ
وَبُدِّلْتُ بعدَ المِسْك وَالبَانِ شِقْوَةً دُخَان الجذَا في رأْسِ أَشْمَطَ شَاحِبِ
٣٩٩٢ - بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمسن لَهَا جِزَالَ الجِذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلاَ دَعِرِ
الخوَّار الذي يتقصف، والدَّعِرُ الذي فيه لهب. وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه، قال الشاعر:
٣٩٩٣ - وَأَلْقَى عَلَى قَبسٍ من النار جُذْوَةً شديداً عَلَيْها حَرُّها والتِهَابُهَا
وقيل: الجذوة: العودُ الغليظُ سواء كان في رأسه نار أو لم يكن، وليس المراد هنا إلا ما يكون في رأسه نارٌ.
قوله» مِنَ النَّارِ «صفة ل» جَذْوَة «ولا يجوز تعلقها ب» آتِيكُم «، كما تعلق بها» مِنْهَا «، لأن هذه النار ليست النار المذكورة، والعرب إذا تقدَّمت نكرة وأرادت إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً أو معرَّفةً بأل العهدية، وقد جُمِعَ الأمران هنا.» لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ «تستدفئون.
قوله»
مِنْ شَاطِىءِ «» مِنْ «لابتداء الغاية، و» الأَيْمَنِ «صفة للشاطىء أو للوادي، والأَيْمَنُ من اليُمْنِ، وهو البَرَكة، أو مِنَ اليمين المعادل لليسار من العضوين، ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى، أي: الَّذي على يمينك دون يسارِك، والشطاىء ضفة الوادي والنهر أي: حافته وطرفه، وكذلك الشَّطُّ والسيف والساحل كلها بمعنى، وجمع الشاطىء» أَشْطاءٌ «قاله الراغب، وشاطأت فلاناً: ماشيته على الشاطىء.
248
قوله: فِي البُقْعَة» متعلق ( «نُودِيَ» أي) بمحذوف على أنه حال من الشاطىء، وقرأ العامة بضم الباء، وهي اللغة الغالبة، وقرأ مسلمة والأشهب العقيلي بفتحها وهي لغة حكاها أبو زيد قال: سمعتهم يقولون: هذه بقعةٌ طيبة، (ووصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه).
قوله: «مِنَ الشَّجَرَةِ» هذا بدل من «شَاطِىء» بإعادة العامل، وهو بدل اشتمال، لأن الشجرة كانت ثابتة على الشاطىء كقوله: ﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣].
قوله: ﴿أَن ياموسى﴾ هي المفسرة، وجوِّز فيها أن تكون في المخففة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له، وفيه بُعد.
قوله ﴿إني أَنَا الله﴾ العامة على الكسر على إضمار القول، أو على تضمين النداء معناه، وقرىء بالفتح، وفيه إشكال، لأَنَّهُ إنْ جعلت «أَنْ» تفسيرية، وجب كسر «إنِّي» للاستئناف المفسر للنداء بماذا كان، وإن جعلتها مخففة لزم تقدير «أَنِّي» بمصدر، والمصدر مفرد، وضمير الشأن لا يفسر بمفرد، والذي ينبغي أن تُخرَّج عليه هذه القراءة أن تكون «أَنْ» تفسيرية و «أَنِّي» معمولة لفعل مضمر تقديره أَنْ موسى اعلم أَنِّي أنا الله، واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل ﴿نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [النمل: ٨] وقال ها هنا: نُودِي أَنِّي أنا اللَّه ربُّ العالمين، وقال في سورة طه ﴿نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ﴾ [طه: ١١ - ١٢]، ولا منافاة بين هذه الأشياء، فهو تعالى ذكر الكلّ إلا أنه تعالى حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه بعض ذلك النداء.
قوله: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ تقدم الكلام على ذلك.
249
وقوله: ﴿اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء﴾ فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات: إحداها هذه، وثانيها ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾، وثالثها ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ [النمل: ١٢] قوله «مِنَ الرَّهْبِ» متعلق بأحد أربعة أشياء، إمّا ب «وَلَّى»، وإمَّا ب «مُدْبراً»، وإمَّا ب «اضمم»، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ، وإمّا بمحذوف أي: تسكن من الرهب وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء. والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان، والباقون بفتحتين، والحسن وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين وكلها لغات بمعنى الخوف وقيل هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة، قال الزمخشري «هُومن بدِع التفاسير» قال: وليست شعري كيف صحته في اللغة، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفضل كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة من صُوفٍ لا كُمّ لها.
الزُّرمانقة: المدرعةُ. قال أبو حيان: هذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ، وأما قوله: كيف موقعه؟ فقالوا: معناه: أخرج يدكّ من كُمِّكَ.
قال سهاب الدين: كيف يستقيم هذا التفسير، يُفَسِّرُون «اضْمُمْ» بمعنى أَخْرِج.
وقال الزمخشري: فإن قُلْتَ: قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ وقوله ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ﴾ [طه: ٢٢] فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم: هو اليد اليمنى، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح.
250

فصل


قال الزمخشري: في ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾ معنيان:
أحدهما: أنّ موسى عليه السلام لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: إنَّ اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتنا وقد انقلبت حية فأدخل يدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما منه غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد اليسرى، فقد ضم جناحه إليه.
(الثاني: أن يراد بضم جناح ة تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب) ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحية وأرخاهُما، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله «مِنَ الرَّهْب» أي: من أجل الرهب إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك (ومعنى ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب﴾ ) وقوله «اسْلُكْ يَدَكَ» على أحد التفسيرين واحد، وإنما خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى لاختلاف الغرضين، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. قال البغوي: المعنى إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، والجناح اليد كلها وقيل: العضد. وقال عطاء عن ابن عباس: مره الله (أن يَضُمَّ) يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية. وقال: ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
وقال مجاهد: كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقيل: المراد من ضم الجناح السكون، أي: سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه، ومثله قوله: ﴿واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل﴾ [
251
الإسراء: ٢٤] يريد: المرفق، وقوله: ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك﴾ [الشعراء: ٢١٥] أي: أرفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم، وقال الفراء: أراد بالجناح العصا، معناه: واضمُمْ إليك عَصَاك.
قوله: «فَذانك» تقدم قراءة التخفيف والتثقيل في النساء، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل بياء بعد نون مكسورة، وهي لغة هذيل، وقيل تميم، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية، كقوله:
٣٩٩٤ - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ
والياء بدل من إحدى النونين (كَتَظَنَّيْتُ).
وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها، ونسبت لهذيل. قال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام ﴿أَفْئِدَةً مِّنَ الناس﴾ [إبراهيم: ٣٧]. «ذَانِكَ» إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، وإنما ذكَّر ما أشير به إليهما لتذكير خبرهما وهو «بُرْهَانَان»، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الأنعام: ٢٣] فيمن أَنَّثَ ونثب «فِتْنَتُهُمْ» وكذا قوله:
252
٣٩٩٥ - وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ الغَدْرُ... وتقدم إيضاح هذا في الأنعام. والبرهان تقدم اشتقاقه، وهو الحجة، وقال الزمخشري هنا: فإنت قُلتَ: لم سميت الحجةُ برهاناً؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم (للمرأة البياض) برهرهة، بتكرير العين واللام، والدليل على زيادة النون قولهم أَبْره الرجلُ إذا جاء بالبرهان، ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السَّليط وهو الزيت لإنارتها.
قوله «إلَى فِرْعَوْنَ» متعلق بمحذوف، فقدره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون، وغيره: اذْهَب إلى فرعون، وهذا المقدر ينبغي أن يكون حالاً من «بُرْهَانَانِ» أي: مرسلاً بهما إلى فرعون، والعامل في هذه الحال ما في اسم الإشارة.
253
قوله «مِنْ شاطئ » «مِنْ » لابتداء الغاية١، و «الأَيْمَنِ » صفة للشاطئ أو للوادي، والأَيْمَنُ من اليُمْنِ، وهو البَرَكة، أو مِنَ اليمين المعادل لليسار من العضوين، ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى، أي : الَّذي على يمينك دون يسارِك٢، والشاطئ ضفة الوادي٣ والنهر أي : حافته وطرفه، وكذلك الشَّطُّ والسيف والساحل كلها بمعنى، وجمع الشاطئ «أَشْطاءٌ » قاله الراغب٤، وشاطأت فلاناً : ماشيته على الشاطئ٥.
قوله :«فِي البُقْعَة » متعلق ( ب «نُودِيَ » أي )٦ بمحذوف على أنه حال من الشاطئ٧، وقرأ العامة بضم الباء، وهي اللغة الغالبة، وقرأ مسلمة٨ والأشهب العقيلي بفتحها٩ وهي لغة حكاها أبو زيد قال : سمعتهم يقولون : هذه بقعةٌ طيبة١٠، ( ووصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه )١١ ١٢.
قوله :«مِنَ الشَّجَرَةِ » هذا١٣ بدل من «شاطئ » بإعادة العامل، وهو بدل اشتمال، لأن الشجرة كانت ثابتة على الشاطئ كقوله١٤ :﴿ لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ﴾١٥ [ الزخرف : ٣٣ ].
قوله :﴿ أَن يا موسى ﴾ هي المفسرة١٦، وجوِّز فيها أن تكون هي المخففة١٧، واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له، وفيه بُعد١٨.
قوله ﴿ إني أَنَا الله ﴾ العامة على الكسر على إضمار القول، أو على تضمين النداء معناه، وقرئ بالفتح١٩، وفيه إشكال، لأَنَّهُ إنْ جعلت «أَنْ » تفسيرية، وجب كسر «إنِّي »٢٠ للاستئناف المفسر للنداء بماذا كان، وإن جعلتها مخففة لزم تقدير «أَنِّي » بمصدر، والمصدر مفرد، وضمير الشأن لا يفسر بمفرد، والذي ينبغي أن تُخرَّج عليه هذه القراءة أن تكون «أَنْ » تفسيرية و «أَنِّي »٢١ معمولة لفعل مضمر تقديره أَنْ يا موسى اعلم أَنِّي أنا الله٢٢، واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل ﴿ نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ النمل : ٨ ] وقال ها هنا : نُودِي أَنِّي أنا اللَّه ربُّ العالمين، وقال في سورة طه ﴿ نُودِيَ يا موسى إني أَنَا رَبُّكَ ﴾ [ طه : ١١ - ١٢ ]، ولا منافاة بين هذه الأشياء، فهو تعالى ذكر الكلّ إلا أنه تعالى حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه بعض ذلك النداء٢٣.
١ انظر الكشاف ٣/١٦٥..
٢ انظر البحر المحيط ٧/١١٦..
٣ في ب: للوادي..
٤ المفردات في غريب القرآن (٢٦١)..
٥ في اللسان (شطأ): وشاطأت الرجل إذا مشيت على شاطئ ومشى هو على الشاطئ الآخر..
٦ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٧ انظر البحر المحيط ٧/١١٦..
٨ في ب: مسلم..
٩ المختصر (١١٢)، البحر المحيط ٧/١١٦..
١٠ لم أجد ما قاله أبو زيد في النوادر، وهو في البحر المحيط ٧/١١٦..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٤..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب..
١٣ في ب: وهذا..
١٤ في ب: لقوله..
١٥ انظر الكشاف ٣/١٦٥..
١٦ انظر التبيان ٢/١٠٢٠، البحر المحيط ٧/١١٦..
١٧ انظر البيان ٢/٢٣٢، التبيان ٢/١٠٢٠، البحر المحيط ٧/١١٦..
١٨ من حيث أنَّ ضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة خبرية فلا يفسَّر بالإنشائية كالنداء ولا الطلبية ولا بد أن يصرح بجزئيها، فلا يجوز حذف جزء منها، فإنه جيء به لتأكيدها وتفخيم مدلولها، والحذف مناف لذلك. الهمع ١/٦٧..
١٩ انظر تفسير ابن عطية ١١/٢٩٦، البحر المحيط ٧/١١٧..
٢٠ في ب: أن..
٢١ في الأصل: وأنا..
٢٢ انظر البحر المحيط ٧/١٧..
٢٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٥، البحر المحيط ٧/١١٧..
قوله :﴿ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ تقدم الكلام على ذلك١.
١ عند قوله تعالى: ﴿وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك﴾ [الأعراف: ١١٧]..
وقوله :﴿ اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سوء ﴾ فقد عبّر عن هذا المعنى بثلاث عبارات : إحداها هذه، وثانيها ﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾١، وثالثها ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ﴾ [ النمل : ١٢ ] قوله «مِنَ الرَّهْبِ » متعلق بأحد أربعة أشياء، إمّا ب «وَلَّى »٢، وإمَّا ب «مُدْبراً »٣، وإمَّا ب «اضمم »، ويظهر هذا الثالث إذا فسَّرنا الرَّهب بالكمِّ، وإمّا٤ بمحذوف أي : تسكن من الرهب٥ وقرأ حفص بفتح الراء وإسكان الهاء. والأخوان وابن عامر وأبو بكر بالضم والإسكان، والباقون بفتحتين٦، والحسن٧ وعيسى والجحدري وقتادة بضمتين٨ وكلها لغات٩ بمعنى الخوف وقيل١٠ هو بفتحتين الكُمُّ بلغة حمير وحنيفة١١، قال الزمخشري «هُو من بدِع التفاسير » قال : وليت شعري كيف صحته في اللغة، وهل سُمِعَ من الثقات الأثبات التي تُرْتَضى عربيتهم، أم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفضل١٢ كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات الله عليه ليلة المناجاة ما كان عليه إلاَّ زُرْمانِقَة١٣ من صُوفٍ لا كُمّ لها١٤.
الزُّرمانقة : المدرعةُ. قال أبو حيان : هذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة، سمعتهم يقولون أعطني ما في رهبك أي كُمِّكَ، وأما قوله : كيف موقعه ؟ فقالوا : معناه : أخرج يدكّ من كُمِّكَ١٥.
قال شهاب الدين : كيف يستقيم هذا التفسير، يُفَسِّرُون «اضْمُمْ » بمعنى أَخْرِج١٦.
وقال الزمخشري : فإن قُلْتَ : قد جعل الجناح وهو اليَدُ في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله :﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾ وقوله ﴿ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ ﴾ [ طه : ٢٢ ] فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم : هو اليد اليمنى، وبالجناح المضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح١٧.

فصل :


قال الزمخشري١٨ : في ﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب ﴾ معنيان :
أحدهما : أنّ موسى عليه السلام١٩ لمَّا قلب الله له العصا حيَّةً فزع واضطر واتقاها٢٠ بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له : إنَّ اتقاءك بيدك فيه٢١ غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها وقد انقلبت٢٢ حية فأدخل يدك٢٣ مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما منه٢٤ غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد، لأن يد الإنسان بمنزلة جناح الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد٢٥ اليسرى، فقد ضم جناحه إليه٢٦.
( الثاني : أن يراد بضم جناحه٢٧ تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حيَّة حتى لا يضطرب )٢٨ ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نَشَرَ جناحيه٢٩ وأرخاهُما، وإلا فجناحاه منضمان إليه مستمران ومعنى قوله «مِنَ الرَّهْب » أي : من أجل الرهب إذا٣٠ أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ( ومعنى ﴿ واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ ﴾ )٣١ وقوله «اسْلُكْ يَدَكَ » على أحد التفسيرين واحد، وإنما٣٢ خُولِفَ بين العبارتين وكرَّر المعنى٣٣ لاختلاف الغرضين، وذلك أنَّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب٣٤. قال البغوي : المعنى٣٥ إذا هَالَك أمر يدك وما ترى من شعاعها، فأدخِلْها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، والجناح اليد كلها وقيل : العضد. وقال عطاء عن ابن عباس : مره الله ( أن يَضُمَّ )٣٦ يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية. وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
وقال مجاهد : كل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقيل : المراد من ضم الجناح السكون، أي : سكّن روعَك واحفظ عليك جأشك٣٧، لأن من شأن الخائف أن يضطرب عليه قلبه وترتعد يداه٣٨، ومثله قوله :﴿ واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل ﴾ [ الإسراء : ٢٤ ] يريد : المرفق، وقوله :﴿ واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك ﴾ [ الشعراء : ٢١٥ ] أي : ارفق بهم وأَلِنْ جانبك لهم، وقال الفراء : أراد بالجناح العصا٣٩، معناه : واضمُمْ إليك عَصَاك٤٠.
قوله :«فَذانك » تقدم قراءة٤١ التخفيف والتثقيل في النساء٤٢، وقرأ ابن مسعود وعيسى وشبل وأبو نوفل٤٣ بياء بعد نون مكسورة، وهي لغة هذيل٤٤، وقيل تميم٤٥، وروى شبل عن كثير بياء بعد نون مفتوحة٤٦، وهذا على لغة من يفتح نون التثنية، كقوله :
٣٩٩٤ - عَلَى أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً *** فَمَا هِيَ إِلاَّ لَمْحَةٌ وتغِيبُ٤٧
والياء بدل من إحدى النونين ( كَتَظَنَّيْتُ )٤٨ ٤٩.
وقرأ عبد الله بتشديد النون وياء بعدها، ونسبت لهذيل٥٠. قال المهدوي : بل لغتهم تخفيفها٥١، وكأن الكسرة هنا إشباع كقراءة هشام ﴿ أَفْئِدَةً مِنَ الناس ﴾٥٢ [ إبراهيم : ٣٧ ]. و «ذَانِكَ » إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، وإنما ذكَّر ما أشير به٥٣ إليهما لتذكير خبرهما وهو «بُرْهَانَان »، كما أنه قد يؤنث لتأنيث خبره كقراءة ﴿ ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلاَّ أَن قَالُوا ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] فيمن أَنَّثَ ونصب «فِتْنَتُهُمْ »٥٤ وكذا قوله :
٣٩٩٥ - وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ الغَدْرُ٥٥ ***. . .
وتقدم إيضاح هذا في الأنعام٥٦. والبرهان تقدم اشتقاقه٥٧، وهو الحجة، وقال الزمخشري هنا : فإنت قُلتَ : لم سميت الحجةُ برهاناً ؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم ( للمرأة البياض )٥٨ برهرهة، بتكرير العين واللام، والدليل على زيادة النون قولهم أَبْره٥٩ الرجلُ إذا جاء بالبرهان، ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السَّليط وهو الزيت لإنارتها٦٠.
قوله «إلَى فِرْعَوْنَ » متعلق بمحذوف، فقدره أبو البقاء مرسلاً إلى فرعون٦١، وغيره : اذْهَب٦٢ إلى فرعون، وهذا المقدر ينبغي أن يكون حالاً من «بُرْهَانَانِ » أي : مرسلاً بهما إلى فرعون، والعامل في هذه الحال ما في اسم الإشارة.
١ في النسختين: واسلك..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٧..
٣ في الآية السابقة..
٤ في الأصل: أو..
٥ انظر التبيان ٢/١٠٢٠..
٦ السبعة (٤٩٣)، الكشف ٢/١٧٢، النشر ٢/٣٤١، الإتحاف (٣٤٢)..
٧ في الأصل: وحسن..
٨ المختصر (١١٢)..
٩ انظر الكشف ٢/١٧٣، التبيان ٢/١٠٢٠..
١٠ قيل: سقط من ب..
١١ انظر القرطبي ١٣/٢٨٤، البحر المحيط ٧/١١٧..
١٢ في ب: الفصل..
١٣ الزرمانقة: جبَّة من صوف وهي عجمية معرَّبة. اللسان (زرمق)..
١٤ الكشاف ٣/١٦٦..
١٥ البحر المحيط ٧/١١٨..
١٦ الدر المصون ٥/٢١٩..
١٧ الكشاف ٣/١٦٦..
١٨ في ب: قال الزمخشري في قوله..
١٩ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٠ في ب: والواها..
٢١ فيه: سقط من الأصل..
٢٢ في الكشاف: فكما تنقلب..
٢٣ في الكشاف: يدك تحت عضدك..
٢٤ في الكشاف: ما هو..
٢٥ في الكشاف: عضد يده..
٢٦ في ب: إليها..
٢٧ في الكشاف: جناحه إليه..
٢٨ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٢٩ في ب: جناحه..
٣٠ في الكشاف: أي إذا..
٣١ ما بين القوسين تكملة من الكشاف..
٣٢ في الكشاف: ولكن..
٣٣ في الكشاف: وإنما كرر المعنى الواحد..
٣٤ الكشاف ٣/١٦٥-١٦٦..
٣٥ في ب: معناه..
٣٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٧ في الأصل: واخفض عليك جناحك..
٣٨ في الأصل: يديه..
٣٩ معاني القرآن ٢/٣٠٦..
٤٠ انظر البغوي ٦/٣٣٩-٣٤٠..
٤١ قراءة: سقط من الأصل..
٤٢ عند قوله تعالى: ﴿واللذان يأتيانها منكم فآذوهما﴾ من الآية (١٦) فقرأ ابن كثير وأبو عمرو "فذانِّك" مشددة النون، والباقون بالتخفيف. انظر السبعة (٢٢٩) الكشف ١/٣٨١. وانظر اللباب ٣/٣٧..
٤٣ هو أبو نوفل بن أبي عقرب العرنجي اسم مسلم، أو عمرو بن مسلم، أخذ عن عائشة، وابن عمر، وأخذ عنه عبد الملك بن عمير وابن جدعان..
٤٤ انظر البحر المحيط ٧/١١٨..
٤٥ المرجع السابق..
٤٦ المختصر (١١٣)، البحر المحيط ٧/١١٨..
٤٧ البيت من بحر الطويل قاله حميد بن ثورٍ، وهو في ديوانه (٥٥) ابن يعيش ٤/١٤١ المقرب (٤٠٠)، البحر المحيط ٧/١١٨، المقاصد النحوية ١/١٧٧، شرح التصريح ١/٧٨، الهمع ١/٤٩، الأشموني ١/٩٠، الدرر ١/٢١.
الأحوذيّ: الخفيف في المشي، وأراد بهما ههنا جناحي قطاة يصفهما لخفتهما، استقلت: ارتفعت في الهواء. فما هي: فما مشاهدتها، ثم حذف المضاف فانفصل الضمير وارتفع. والشاهد فيه فتح نون المثنى في قوله: (أحوذيَّين) وهي لغة أسد حكاها الكسائي والفراء..

٤٨ انظر البيان ٢/٢٣٣، التبيان ٢/١٠٢٠..
٤٩ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٠ انظر البحر المحيط ٧/١١٨..
٥١ المرجع السابق..
٥٢ انظر البحر المحيط ٥/٤٣٢..
٥٣ في ب: بهما..
٥٤ وهي قراءة نافع، وأبي عمرو، وأبي بكر عن عاصم وخلف وغيره عن عبيد عن شبل عن ابن كثير. السبعة (٢٥٥)، الكشف ١/٤٢٦، البحر المحيط ٧/١١٨..
٥٥ عجز بيت من بحر الطويل قاله أعشى تغلب، وصدره:
ألم يك غدراً ما فعلتم بشمعل
وقد تقدم..

٥٦ عند قوله تعالى: ﴿ثمَّ لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا﴾ من الآية (٢٣)..
٥٧ عند قوله تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ [البقرة: ١١١]..
٥٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٩ في ب: ابن. وهو تحريف..
٦٠ في النسختين: لإنارته، والتصويب من الكشاف. انظر الكشاف ٣/١٦٦..
٦١ التبيان ٢/١٠٢٠، وسبقه إلى هذا التقدير ابن الأنباري. البيان ٢/٢٣٣..
٦٢ في ب: ذهب. وهو تحريف..
قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ اعلم أنه تعالى لمَّا قال: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ [القصص: ٣٢] تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، فعند ذلك طلب من يقوِّي قلبه فقال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً﴾، لأنه كان في لسانه حبسة إما في أصل الخلقة وإما لأنه وضع الجمرة في فيه عندما (نتف لحية) فرعون.
253
قوله «هُوَ أَفْصَحُ» الفصاحة لغةً الخلوصُ، ومنه: فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ، أي: خلُصَ من الرِّغوة، ومنه قولهم:
٣٩٩٦ - وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ... ومنه: فصُحَ الرَّجُلُ جادت لغته، وأفصح: تكلَّم بالعربية، وقيل: بالعكس، وقيل: الفصيح، الذي ينطق، والأعجم: الذي لا ينطق، ومنهذا استعير أَفصحَ الصُّبحُ، أي: بَدَا ضوؤُهُ، وأفصح النصراني: دنا فصحُه بكسر الفاء، وهو يعد لهم.
وأما في اصطلاح أهل البيان، فهو خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف، كقوله: تَرَعَى الهُعْخُعَ، ومن الغرابة كقوله:
٣٩٩٧ - وَمَرْسِناً مُسَرَّجَا... ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله:
254
٣٩٩٨ - العَلِيِّ الأَجْلَلِ... وخلوص الكلام منن ضعف التأليف كقوله:
٣٩٩٩ - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ... ومن تنافر الكلمات كقوله:
٤٠٠٠ - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
ومن التعقيد وهو إما إخلال نظم الكلامفلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه، كقوله:
٤٠٠١ - وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه
وإما عدم انتقال الذهب من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله:
255
وخلوص (المتكلم من) النطق بجميع ذلك، فصارت الفصاحة يوصف بها ثلاثة أشياء: الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ، بخلاف البلاغة فإنه لا يوصف بها إلا الأخيران، وهذا ليس (موضع) إيضاحه وإنما ذكرناه تنبيهاً على أصله، ولساناً: تمييز.
قوله «رَِدْءاً» (منصوب) على الحال، والرِّدْءُ: العَوْنُ وهو فعل بمعنى مفعول كالدِّفْ بمعنى المدفوء به، وَرَدَأتُهُ على عدوه أي: أَعنتُهُ عليه، وردأْتُ الحائط: دعمتُهُ خشبةٍ لِئلاً يسقط، وقال النحاس: يقال: رَدَأْتُهُ وَأَرْدَأْتُهُ، وقال سلامة بن جندل:
٤٠٠٢ - سَأَطْلُبُ بَعْدَ الدَّارَ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا
٤٠٠٣ - وَرِدْئِي كل أَبْيَضَ مَشْرَفيٍّ شَحِيذَ الحدِّ أبيض ذِي فُلُولِ
وقال آخر:
٤٠٠٤ - ألم تر أنَّ َصْرَمَ كان رِدْئِي وَخَيْرُ النَّاسِ في قُلٍّ ومَالِ
وقرأ نافع بغير همزة «رِداً» بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينوِّنْه، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ونافع ليس من قاعدته النقل في كلمة إلاَّ هُنا، وقيل: ليس نَقْلٌ وإنما هو من أردى على كذا، أي: زَادَ، قال:
256
٤٠٠٥ - وَأَسْمَرَ خَطِّيّاً كَأَنَّ كُعُوبَهُ نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعاً على العَشْرِ
أي: زاد، وأنشده الجوهري (قد أَرْبَى)، وهو بمعناه.
قوله: «يُصَدِّقُنِي» قرأ حمزة وعاصم بالرفع على الاستئناف أو الصفة ل «رِدْءاً» أو الحال من (هاء) «أَرْسِلْهُ»، أو من الضمير في «رِدْءاً»، أي: مصدِّقاً، والباقون بالجزم جواباً للأمر، وزيد بن علي وأُبيّ «يُصَدِّقُونِي»، أي: فرعون وملأه، قال ابن خالويه: هذا شاهد لِمَنْ جزم، لأنه لو كان رفعاً، لقال: «يُصَدِّقُونَنِي». يعني بنونين، وهذا سهو من ابن خالويه، لأنه متى اجتمعت نون الرفع مع نون الوقاية جازت أوجه: أحدها: الحذف، فهذا يجوز أن يكون مرفوعاً، وحذفت نونه، فمن رفع القاف فالتقدير ردءاً يصدقين، ومن جزم كان على معنى الجزاء، يعني: إن أرسلته صدَّقني، ونظيره: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٥ - ٦]، وروى السُّدِّي عن بعض شيوخه: ﴿رداءاً كَيْمَا يُصَدِّقني﴾.
والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل: لكي يُصدِّقنِي فرعون ﴿إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ يعني فرعون وقومه، وقال ابن الخطيب: ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول الناس: صَدَقَ مُوسَى، وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوه الدلائلِ ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ﴾، وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا مجرد قوله: «صَدقت».

فصل


قال السُّدِّيّ: إنَّ نبيَّيْن وآيتين أقوى من نبيٍّ واحدٍ وآية واحدة قال القاضي:
257
والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأمَّا مِنْ حيث الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين.
قوله «عَضُدَكَ» العامة على فتح العين وضم الضاد، والحسن وزيد بن علي (بضمهما) وعن الحسن بضمة وسكون، وعيسى بفتحهما، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد، وفيه لغة سادسة فتح العين وسكون الضاد، وهذا كناية عن التقوية له بأخيه وكان هارون يومئذ بمصر.
قوله ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾ أي: حُجَّةً وبرهاناً ﴿فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾. فإن قيل: بيَّن تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات، أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة؟ فإن كانت هذه الآيات ظاهرة فالجواب: أن الآية التي هي قلب العصا حيَّة كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون، لأنهم علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهُم ذلك عن الإقدام عليها، فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة وجمعت بين الأمرين، وأما صلب السَّحرة ففيه خلاف، فقيل: إنهم ما صُلِبوا، وليس في القرآن ما يدل على ذلك، وإن سلم فوصول الضرر لغيرهما لا يقدح في عدم الوصول إليهما.
قوله: «بآياتِنَا» يجوز فيه أوجه أن يتعلق ب «نَجْعَلُ» أو ب «يَصِلُونَ» أو بمحذوف أي: اذهبا، أو على البيان فيتعلق بمحذوف أيضاً، أو ب «الغَالِبُونَ» على أن (أل) ليس موصولة أو موصُولة، واتِّسع فيه ما لا يتسع في غيره، أو قسمٌ وجوابه متقدم، وهو «فَلاَ يَصِلُونَ»، أو من لغو القسم، قالهما الزمخشري، ورد عليه أبو حيان بأن جواب
258
القسم لا تدخله الفاء عند الجمهور. ويريد: بلغو القسم أن جوابه محذوف أي: وحقّ آياتِنَا لَتَغْلِبُنَّ، ثم قال: ﴿أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون﴾ أي: لكما ولأتباعكما الغلبة.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ﴾ واضحات وقد تقدم كيفية إطلاق لفظ الآيات - وهو جمع - على العصا واليد في سورة طه. ﴿قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ مختلق، ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم، وهو قولهم ﴿وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين﴾ أي: ما حُدِّثنا بهذا الذي تدعونا إليه.
قوله: «وقَالَ مُوسَى» هذه قراءة العامة بإثبات واو العطف، وابن كثير حذفها. وكل وافق مصحفه، فإنها ثابتة في المصاحف غير مصحف مكة؛ وإثباتها وحذفها واضحان، وهو الذي يسميه أهل البيان: الوَصْلُ والفَصْلُ. قوله ﴿ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ﴾ بالمحق من المبطل.
قوله: «وَمَنْ تَكُونُ» قرأ العامة «تكون» بالتأنيث، و «لَهُ» خبرها، و «عَاقِبَةُ» اسمها، ويجوز أن يكون اسمها ضمير القصة، والتأنيث لأجل ذلك.
و ﴿لَهُ عَاقِبَةُ الدار﴾ جملة في موضع الخبر، وقرىء بالياء من تحت على أن تكون «عَاقِبَةُ» اسمها، والتذكير للفصل، ولأنه تأنيث مجازي، ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة خبر كما تقدم، ويجوزُ أن تكون تامة وفيها ضمير يرجع إلى «مَنْ» والجملة في موضع الحال، ويجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير «مَنْ» والجملة خبرها، والمعنى: «مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ» أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة لقوله تعالى: ﴿أولئك لَهُمْ عقبى الدار جَنَّاتٌ عَدْنٍ﴾ [الرعد: ٢٢ - ٢٣]، والمراد من الدار: الدُّنيا. وعاقبتها وعقباها أنْ يُخْتَم للعبد بالرحمة والرضوان، ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾، أي: الكافرون.
259
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً }، لأنه كان في لسانه حبسة إما١ في أصل الخلقة وإما لأنه وضع الجمرة في فيه عندما ( نتف لحية )٢ فرعون٣.
قوله «هُوَ أَفْصَحُ » الفصاحة لغةً الخلوصُ، ومنه : فصُحَ وأَفْصَحَ فهو مفصِحٌ وفصيحٌ٤، أي : خلُصَ من الرِّغوة، ومنه قولهم :
٣٩٩٦ - وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ٥ ***. . .
ومنه : فصُحَ الرَّجُلُ جادت لغته، وأفصح : تكلَّم بالعربية، وقيل : بالعكس٦، وقيل : الفصيح، الذي ينطق، والأعجم : الذي لا ينطق، ومن هذا استعير أَفصحَ الصُّبحُ، أي : بَدَا ضوؤُهُ، وأفصح النصراني : دنا فصحُه بكسر الفاء، وهو عيد لهم٧.
وأما في اصطلاح أهل البيان، فهو خُلُوص الكلمة من تنافر الحروف٨، كقوله : تَرَعَى الهُعْخُعَ٩، ومن١٠ الغرابة١١ كقوله :
٣٩٩٧ - وَمَرْسِناً مُسَرَّجَا١٢ ***. . .
ومن مخالفة القياس اللُّغوي كقوله :
٣٩٩٨ - العَلِيِّ الأَجْلَلِ١٣ ***. . .
وخلوص الكلام من ضعف التأليف كقوله :
٣٩٩٩ - جَزَى رَبُّهُ عَنِّي عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ١٤ ***. . .
ومن تنافر الكلمات١٥ كقوله :
٤٠٠٠ - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانِ قَفْرٍ *** وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ١٦
ومن التعقيد وهو إما إخلال نظم الكلام فلا يُدْرَى كيف يتوصل إلى معناه، كقوله :
٤٠٠١ - وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إلاَّ مُمَلَّكاً *** أبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُه١٧
وإما عدم انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهِر كقوله :
٤٠٠٢ - سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا *** وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا١٨
وخلوص ( المتكلم من )١٩ النطق بجميع ذلك، فصارت الفصاحة يوصف بها ثلاثة أشياء : الكلمةُ والكلامُ والمتكلمُ، بخلاف البلاغة فإنه لا يوصف بها إلا الأخيران، وهذا ليس ( موضع ) إيضاحه وإنما ذكرناه تنبيهاً على أصله٢٠، ولساناً : تمييز.
قوله «رِدْءاً » ( منصوب )٢١ على الحال٢٢، والرِّدْءُ : العَوْنُ٢٣ وهو فعل بمعنى مفعول كالدِّفْء بمعنى المدفوء به٢٤، وَرَدَأتُهُ على عدوه أي٢٥ : أَعنتُهُ عليه٢٦، وردأْتُ الحائط : دعمتُهُ بخشبةٍ لِئلاً يسقط٢٧، وقال النحاس : يقال : رَدَأْتُهُ وَأَرْدَأْتُهُ٢٨، وقال سلامة بن جندل٢٩ :
٤٠٠٣ - وَرِدْئِي كل أَبْيَضَ مَشْرَفيٍّ *** شَحِيذَ الحدِّ أبيض ذِي فُلُولِ٣٠
وقال آخر :
٤٠٠٤ - ألم تر أنَّ أَصْرَمَ كان رِدْئِي *** وَخَيْرُ النَّاسِ في قُلٍّ ومَالِ٣١
وقرأ نافع بغير همزة «رِداً » بالنقل، وأبو جعفر كذلك إلا أنه لم ينوِّنْه، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف٣٢، ونافع ليس من قاعدته النقل٣٣ في كلمة إلاَّ هُنا، وقيل : ليس نَقْلٌ وإنما هو من أردى على كذا، أي : زَادَ٣٤، قال :
٤٠٠٥ - وَأَسْمَرَ خَطِّيّاً كَأَنَّ كُعُوبَهُ *** نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْدَى ذِرَاعاً على العَشْرِ٣٥
أي : زاد، وأنشده الجوهري ( قد أَرْبَى )٣٦، وهو بمعناه.
قوله :«يُصَدِّقُنِي » قرأ حمزة وعاصم بالرفع على الاستئناف أو الصفة ل «رِدْءاً » أو٣٧ الحال من ( هاء ) «أَرْسِلْهُ »، أو من الضمير في «رِدْءاً »، أي : مصدِّقاً، والباقون بالجزم جواباً للأمر٣٨، وزيد بن علي وأُبيّ «يُصَدِّقُونِي »، أي : فرعون وملأه، قال ابن خالويه : هذا شاهد لِمَنْ جزم، لأنه لو كان رفعاً، لقال :«يُصَدِّقُونَنِي »٣٩. يعني بنونين، وهذا سهو من ابن خالويه، لأنه متى اجتمعت نون الرفع مع نون الوقاية جازت أوجه : أحدها : الحذف، فهذا يجوز أن يكون مرفوعاً، وحذفت نونه٤٠، فمن رفع القاف فالتقدير ردءاً يصدقني، ومن جزم كان على معنى الجزاء، يعني : إن أرسلته صدَّقني، ونظيره :﴿ فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي ﴾ [ مريم : ٥ - ٦ ]، وروى السُّدِّي عن بعض شيوخه :﴿ ردءاً كَيْمَا٤١ يُصَدِّقني ﴾٤٢.
والتصديق لهارون في قول الجميع، وقال مقاتل : لكي يُصدِّقنِي فرعون ﴿ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ يعني فرعون وقومه٤٣، وقال٤٤ ابن الخطيب : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول الناس : صَدَقَ مُوسَى، وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوه الدلائلِ ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ ﴾، وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا مجرد قوله :«صَدقت »٤٥.

فصل :


قال السُّدِّيّ : إنَّ٤٦ نبيَّيْن وآيتين أقوى من نبيٍّ واحدٍ وآية واحدة قال القاضي : والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأمَّا مِنْ حيث الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين٤٧.
١ إما: سقط من ب..
٢ ما بين القوسين في النسختين: تيقظ. والتصويب من الفخر الرازي..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٩..
٤ في ب: فصيح ومفصح..
٥ عجز بيت من بحر المقتضب، قاله نضلة السلمي، وصدره:
فلم يخشوا مصالته عليهم
وهو في الحماسة البصرية ١/٢٢٧، اللسان (فصح) والشاهد فيه قوله: (الفصيح) فإنه هنا بمعنى الخالص، ويروى: الصريح..

٦ أي: الذي يتكلم بغير العربية، ويفهم عنه سامعه..
٧ انظر اللسان (فصح)..
٨ التنافر منه تكون الكلمة بسببه متناهيةً في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها، كما روي: أن أعرابيّاً سئل عن ناقته، فقال: تركتها ترعى الهعخع ومنه ما دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرئ القيس:
غدائره مستشزراتٌ إلى العلا
انظر الإيضاح (٥-٦)..

٩ الهعخع: اسم نبات. وهذه الكلمة تنافرت حروفها فهي ثقيلة على اللسان. الإيضاح (٥)..
١٠ في ب: وأما..
١١ الغرابة: أن تكون الكلمة وحشيَّةً، لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفته إلى أن ينقَّر عنها في كتب اللغة المبسوطة، كما روي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار، فاجتمع عليه الناس فقال: (ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكؤكم على ذي جنَّة؟ افرنقعوا عنِّي) أي: اجتمعتم تنحوا أو يخرج لها وجه بعيد، كالبيت الذي استشهد به المؤلف. انظر الإيضاح (٦)..
١٢ جزء رجز قال العجاج في وصف شعر محبوبته، وتمامه:
وفاحماً ومرسناً مسرَّجا
وهو في الإيضاح للقزويني(٦)، معاهد التنصيص ١/٦، الفاحم: الأسود، و(فاحماً) أي: شعراً فاحماً، فحذف الموصوف اكتفاء بالصفة. المرسن: بكسر السين وفتحها: الأنف، وجمعه المراسين، وأصله في ذوات الحوافر ثم استعمل للإنسان. وقوله: (مسرَّجا) اختلف في تخريجه: فقيل: نسبة إلى السيوف السريجية، فيكون قد وصفه بالاستقامة والاستواء، وإما من سرجه تسريجاً، أي: حسنه، فيكون موصوفاً بالحسن، ولهذا كان استعماله غريباً بدون قرينة. وهو موطن الشاهد..

١٣ جزء رجز قاله أبو النجم، وتمامه: الحمد لله العليّ الأجلل. وهو في الخصائص ٣/٨٧، ٩٣، المنصف ١/٣٣٩، اللسان (جلل) الإيضاح للقزويني (٦) المقاصد النحوية ٤/٥٩٥، شرح التصريح ٢/٤٠٣، الهمع ٢/١٥٧، الأشموني ٤/٣٤٩، معاهد التنصيص ١/٧. والشاهد فيه قوله: (الأجلل) بدون إدغام، فهو مخالف للقياس، فإن القياس (الأجل) بالإدغام..
١٤ صدر بيت من بحر الكامل، ينسب لأبي الأسود، أو النابغة، أو عبد الله بن همارق، وعجزه:
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وهو في الخصائص ١/٢٩٤، أمالي ابن الشجري ١/١٠٢، ابن يعيش ١/٧٦، المقاصد النحوية ٢/٤٨٧، الإيضاح للقزويني (٧)، التصريح ١/٢٨٣، الهمع ١/٦٦، الأشموني ٢/٥٩، الخزانة ١/٢٧٧، الدرر ١/٤٤. والشاهد فيه عود الضمير في "ربُّه" على متأخر لفظاً ورتبة وهو (عديّ) والأخفش وابن جني أجازاه خلافاً للجمهور، وفي البيت تخريج آخر: وهو أن الضمير يعود على المصدر المفهوم، أي: الجزاء..

١٥ التنافر منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة كما في البيت الذي أنشده المؤلف، ومنه ما دون ذلك كما في قول أبي تمام:
كريمٍ متى أمدحه أمدحه والروى *** معي وإذا ما لمته لمته وحدي
انظر الإيضاح (٧-٨)..

١٦ البيت من بحر الرجز، لم أهتد إلى قائله. وهو في الإيضاح (٥)، معاهد التنصيص ١/٣٤ والشاهد فيه عدم فصاحة الكلام لثقلها على اللسان وعسر النطق بها متتابعة..
١٧ البيت من بحر الطويل، قال الفرزدق، وهو في الخصائص ١/١٤٦، ٣٢٩، ٢/٣٩٣، الإيضاح (٨) معاهد التنصيص ١/١٦.
والشاهد فيه التعقيد في النظم، وهو عدم فهم المراد من الكلام على الوضوح، وذلك لخلل في نظم الكلام، فكان حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلاَّ مملكاً أبو أمه أبوه، ففصل بين (أبو أمه) وهو مبتدأ، و(أبوه) وهو خبره بـ (حيّ) وهو أجنبي، وكذلك فصل بين (حيّ) و(يقاربه) وهو نعت (حيّ) بـ (أبوه) وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد..

١٨ البيت من بحر الطويل قاله العباس بن الأحنف، وليس في ديوانه، وهو في الإيضاح (٩)، معاهد التنصيص ١/١٩. والشاهد فيه أنه أراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقاً من غير اعتبار شيء آخر، وليس الأمر كذلك، لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها، فلا يكون كناية عن المسرة، وإنما يكون كناية عن البخل..
١٩ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٠ انظر هذه المباحث في الإيضاح للقزويني (٥-١١)..
٢١ منصوب: سقط من ب..
٢٢ انظر التبيان ٢/١٠٢٠..
٢٣ في ب: القرن..
٢٤ انظر الكشاف ٣/١٦٦، البحر المحيط ٧/١٠٣..
٢٥ أي: سقط من ب..
٢٦ انظر مجاز القرآن ٢/١٠٤..
٢٧ انظر اللسان (ردأ)..
٢٨ قال النحاس: (مشتق من أردأته، أي: أعنته، وقد حكي ردأته ردءاً) إعراب القرآن ٣/٢٣٨..
٢٩ هو سلامة بن جندل، شاعر جاهلي من الفرسان اشتهر بوصف الخيل. المنجد ٣٠٤..
٣٠ البيت من بحر الوافر وهو في الكشاف ٣/١١٦، البحر المحيط ٧/١٠٣، شرح شواهد الكشاف (١٠٠). مشرفيّ: نسبة إلى مشارف اليمن، وقرى منها، وقيل: من الشام. شحيذ الحد: من شحذ شحذاً: أحدَّ سنانه، الفلول: جمع فلّ- بالفتح- وهو كسر في حد السيف، أي: به فلول من قراع الكتائب..
٣١ البيت من بحر الوافر لم أهتد إلى قائله، وهو في القرطبي ١٣/٢٨٦. أصرم: يقال: رجل أصرم إذا افتقر وبقي متماسكاً..
٣٢ السبعة (٤٩٤) الحجة لابن خالويه (٢٧٨)، البحر المحيط ٧/١١٨، الإتحاف (٣٤٢)..
٣٣ في ب: الفعل. وهو تحريف..
٣٤ ونسب هذا القول إلى مسلم بن جندب. انظر القرطبي ١٣/٢٨٦..
٣٥ البيت من بحر الطويل عزي في اللسان (ردى) إلى أوس، وفي اللسان (قسب): (قال ابن بري: هذا البيت يذكر أنه لحاتم الطائي ولم أجده في شعره) ونسبه البغدادي في الخزانة إلى عتبة بن مرداس. وقد تقدم..
٣٦ انظر الصحاح (ربى) ٦/٢٣٦٢..
٣٧ في ب: إذ. وهو تحريف..
٣٨ السبعة ٤٩٤، الكشف ٢/١٧٣، البيان ٢/٢٣٣، التبيان ٢/١٠٢٠، البحر المحيط ٧/١١٨ النشر ٢/٣٤١، الإتحاف (٣٤٣)..
٣٩ المختصر (١١٤)، وانظر أيضاً البحر المحيط ٧/١١٨..
٤٠ على خلاف بين النحاة في المحذوف النون الأولى أو الثانية، فمذهب سيبويه أنها نون الرفع ورجحه ابن مالك، وذهب أكثر المتأخرين إلى أن المحذوف نون الوقاية، وعليه الأخفش الأوسط والصغير والمبرد، وأبو علي وابن جني. والوجه الثاني: الفك. والثالث: الإدغام. انظر الهمع ١/٥١-٥٢..
٤١ في ب: فيما..
٤٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٩..
٤٣ المرجع السابق..
٤٤ في ب: قال..
٤٥ الفخر الرازي ٢٤/٢٤٩..
٤٦ إنَّ: تكملة من الفخر الرازي..
٤٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٤٩..
قوله «عَضُدَكَ » العامة على فتح العين وضم الضاد، والحسن وزيد بن علي ( بضمهما )١ ٢ وعن الحسن بضمة وسكون٣، وعيسى بفتحهما٤، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد٥، وفيه لغة سادسة فتح٦ العين وسكون الضاد٧، وهذا كناية عن التقوية له٨ بأخيه وكان هارون يومئذ بمصر.
قوله :﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ﴾ أي : حُجَّةً وبرهاناً ﴿ فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ﴾. فإن قيل : بيَّن تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات، أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة ؟ فإن كانت هذه الآيات ظاهرة فالجواب : أن الآية التي هي قلب العصا حيَّة كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون، لأنهم علموا أنه٩ متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهُم ذلك عن الإقدام عليها، فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة وجمعت بين الأمرين، وأما صلب السَّحرة١٠ ففيه خلاف، فقيل : إنهم ما صُلِبوا، وليس في القرآن ما يدل على ذلك، وإن سلم فوصول الضرر لغيرهما لا يقدح في عدم الوصول إليهما١١.
قوله :«بآياتِنَا » يجوز فيه أوجه أن يتعلق ب «نَجْعَلُ » أو ب «يَصِلُونَ » أو بمحذوف، أي : اذهبا، أو على البيان فيتعلق بمحذوف أيضاً، أو ب «الغَالِبُونَ » على أن ( أل )١٢ ليست موصولة أو موصُولة، واتِّسع فيه ما لا يتسع في غيره، أو قسمٌ وجوابه متقدم، وهو «فَلاَ يَصِلُونَ »، أو من لغو القسم، قالهما الزمخشري١٣، ورد عليه أبو حيان بأن جواب القسم لا تدخله الفاء عند الجمهور١٤. ويريد : بلغو القسم أن جوابه محذوف أي : وحقِّ آياتِنَا١٥ لَتَغْلِبُنَّ١٦، ثم قال :﴿ أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون ﴾ أي : لكما ولأتباعكما الغلبة.
١ المحتسب ٢/١٥٢، البحر المحيط ٧/١١٨..
٢ ما بين القوسين في ب: بضمها. وهو تحريف..
٣ انظر البحر المحيط ٧/١١٨..
٤ المرجع السابق..
٥ المرجع السابق..
٦ في ب: بفتح..
٧ قال أبو حيان: (ولا أعلم أحداً قرأ به) البحر المحيط ٧/١١٨، وقال ابن جني معقباً على قراءة الحسن بضمتين: (فيها خمس لغات: عَضُد، وعُضْد، وعُضُد، وعُضْد وعَضِد، وأفصحها وأعلاها عضد بوزن رجل) المحتسب ٢/١٥٢، وفي اللسان (عَضَدَ): العَضُد والعَضْد والعُضْد والعَضِد من الإنسان وغيره: الساعد وهو ما بين المرفق إلى الكتف، والكلام الأكثر العضد، وحكى ثعلب: العضد بفتح العين والضاد..
٨ له: سقط من ب..
٩ أنه: سقط من ب..
١٠ في ب: الشجرة. وهو تحريف..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٠..
١٢ أل: سقط من ب..
١٣ قال الزمخشري: ("بآياتنا" متعلق بنحو ما تعلق له "في تسع آيات" أي: اذهبا بآياتنا، أو بـ "نجعل لكما سلطاناً" أي: أو بـ "لا يصلون" أي: تمتنعون منهم بآياتنا، أو هو بيان للغالبون لا صلة لامتناع تقديم الصلة على الموصول، ولو تأخر لم يكن إلا صلة له، ويجوز أن يكون قسماً جوابه "لا يصلون" مقدَّماً عليه، أو من لغو القسم) الكشاف ٣/١٦٧..
١٤ البحر المحيط ٧/١١٨..
١٥ في ب: وحقِّ أنا كأننا. وهو تحريف..
١٦ انظر البحر المحيط ٧/١١٩..
قوله :﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ واضحات وقد تقدم كيفية إطلاق لفظ الآيات - وهو جمع - على العصا واليد في سورة طه. ﴿ قَالُوا مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى ﴾ مختلق، ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم، وهو قولهم ﴿ وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَائِنَا الأولين ﴾ أي : ما حُدِّثنا بهذا الذي تدعونا إليه.
قوله :«وقَالَ مُوسَى » هذه قراءة العامة بإثبات واو العطف، وابن كثير حذفها١. وكل وافق مصحفه، فإنها ثابتة في المصاحف غير مصحف مكة ؛ وإثباتها وحذفها واضحان، وهو الذي يسميه أهل البيان : الوَصْلُ والفَصْلُ٢. قوله٣ ﴿ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بالهدى مِنْ عِنْدِهِ ﴾ بالمحق من المبطل.
قوله :«وَمَنْ تَكُونُ » قرأ العامة «تكون » بالتأنيث، و «لَهُ » خبرها، و «عَاقِبَةُ » اسمها، ويجوز أن يكون اسمها ضمير القصة، والتأنيث لأجل ذلك.
و ﴿ لَهُ عَاقِبَةُ الدار ﴾ جملة٤ في موضع الخبر، وقرئ٥ بالياء من تحت٦ على أن تكون «عَاقِبَةُ » اسمها، والتذكير٧ للفصل، ولأنه تأنيث مجازي، ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن٨، والجملة خبر كما تقدم٩، ويجوزُ أن تكون تامة وفيها ضمير يرجع إلى «مَنْ » والجملة في موضع الحال، ويجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير «مَنْ » والجملة خبرها١٠، والمعنى :«مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ » أي : العاقبة١١ المحمودة في الدار الآخرة لقوله١٢ تعالى :﴿ أولئك لَهُمْ عقبى الدار جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ [ الرعد : ٢٢ - ٢٣ ]، والمراد من الدار : الدُّنيا. وعاقبتها١٣ وعقباها أنْ يُخْتَم للعبد بالرحمة والرضوان١٤، ﴿ إِنَّهُ١٥ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾، أي : الكافرون.
١ السبعة (٤٩٤)، الحجة لابن خالويه (٢٧٨) الكشف ٢/١٧٤، النشر ٢/٣٤١، الإتحاف (٣٤٣)..
٢ الوصل: عطف بعض الجمل على بعض، والفصل: تركه. انظر الإيضاح (١٥١)..
٣ قوله: سقط من الأصل..
٤ في ب: وجملة. وهو تحريف..
٥ في الأصل: وهي..
٦ قرأ بها حمزة والكسائي وخلف. السبعة (٤٩٤)، الكشف ١/٤٥٣، النشر ٢/٣٤١، الإتحاف (٣٤٣)..
٧ في ب: والتذكر. وهو تحريف..
٨ في ب: البيان. وهو تحريف..
٩ في ب: كما تقدم والجملة خبر..
١٠ انظر التبيان ٢/١٠٢١..
١١ في ب: العقبى..
١٢ في ب: كقوله..
١٣ وعاقبتها: سقط من ب..
١٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥١..
١٥ إنه: سقط من ب..
قوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ فتضمن كلامه نفي إلهيَّة غيره وإثبات إلهية نفسه، ﴿فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين﴾ فاطبخ لي الآجُرَّ، قيل: إنَّه أول من اتخذ الآجُرَّ وبنَى به، ﴿فاجعل لِّي صَرْحاً﴾ أي: قصراً عالياً. وقيل: منارة، واختلفوا في ذلك فقيل: إنه بَنَاه حتى بلغ ما لَمْ يبلغه بنيان أحد من الخلق، وإنه صَعدَ وَرَمَى بسهم وأن السهم عاد إليه ملطخاً بدم، وبعث الله جبريل عليه السلام فضربه بجناحة فقطعه ثلاث قطع، وقيل: إنه لم يَبْن الصرح لأنه يبعد في العقل أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأنّ مَنْ عَلاَ أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها وهو في قرار الأرض، ومن شكَّ في ذلك خرج عن حد العقل، وهذا القول في أنه رمى السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من الخائبين، ولا يليق بالعقل، وإنما قال ذلك على سبيل التهكم.
قوله: ﴿لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى﴾ أنظر إليه. والطُّلوع والاطِّلاع واحد، يقال طَلَعَ الجبل واطَّلَعَ واحد، «وَإِنِّي لأَظنُّهُ» يعني موسى «من الكاذبين» في زعمه أنَّ للأرض والخلق إلهاً غيري وأنه رسوله. ﴿واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ واعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى، وهو المتكبر في الحقيقة، قال عليه السلام فيما حكاه عن ربه «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي والعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي واحداً مِنْهُمَا
260
ألقيته في النَّار» وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق.
قوله: «بِغَيْرِ الحَقِّ» جحال، أي: استكبروا متلبسين بغير الحق، ﴿وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ﴾ قرأ نافع والأخوان ويعقوب «يَرْجِعُونَ» مبنياً للفاعل، والباقون للمفعول.
قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم﴾ وهذا من الكلام المفحم الذي يدل على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم - استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم - وإن كانوا الجم الغفير - كحصيات أخذهن آخذ في كفه وطرحهُنَّ في البحر، ونحو ذلك قوله ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ [المرسلات: ٢٧] ﴿وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤] ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧]. وليس الغرض منها إلا تصوير أنَّ كلَّ مقدور وإن عظم فهو حقير بالنسبة إلى قدرته ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين﴾. قوله: «وَجَعَلْنَاهُمْ» أي: صيَّرَنَاهُم وقال الزمخشري: دعوناهم، كأن فر من نسبة ذلك إلى الله تعالى، أعني: التصيير لأنه لا يوافق مذهبه، ويدعون صفة ل «أَئِمَّة» وقال الجبائي: وجعلناهم: أي بيَّنا ذلك من حالهم وسميناهم به، ومنه قوله: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ [الزخرف: ١٩]. وقال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدم، فلما عجَّلل الله لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من الكافرين.
ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي، فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة، وإنما جعلهم الله أئمةً في هذا الباب، لأنهم بلغوا في هذا الباب إلى أقصى النهايات ومن كان كذلك استحق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب.
قوله: ﴿وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ﴾ لا يمنعون من العذاب، كما تنصر الأئمة الدعاة إلى الجنة، ﴿وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً﴾ خزياً وعذاباً.
قوله: «وَيَوْمَ القِيَامَةِ» فيه أوجه:
261
أحدها: أن تتعلق ب «المَقْبُوحِينَ» على أن (أل) ليست موصولة أو موصولة واتسَّع فيه، وأن تتعلق بمحذوف يفسره «المَقْبُوحِينَ»، كأنه قيل: «وقبِّحُوا يوم القيامة، نحو: ﴿لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين﴾ [الشعراء: ١٦٨]، أو يعطف على موضع» في الدُّنْيَا «، أي: أتبعناهم لعنة يوم القيامة. أو معطوفة على» لَعْنَة «على حذف مضاف، أي: ولعنتةً يوم القيامة.
والوجه الثاني أظهرهما: والمَقْبُوحُ، المطرود قبحه الله: طرده، قال:
٤٠٠٦ - أَلاَ قَبَّحَ اللَّهُ الَراجِمَ كُلَّهَا وَجَدَّعَ يَرْبُوعاً وَعَفَّرَ دَارِمَا
وسُمِّي ضد الحسن قبحاً لأنَّ العين تنبو عنه، فكأنها تطرده، يقال: قبح قباحةً، وقيل:»
مِنْ المَقْبُوحِينَ «: من الموسومين بعلامة منكرة، كزرقة العيون وسواد الوجوه، قاله ابن عباس، يقال: قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه، إذا جعله قبيحاً، قال الليث: قَبَحَهُ المرفق، وقال أبو عبيدة:» مِنَ المَقْبُوحِينَ «من المهلكين.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى﴾ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والمراد بالكتاب: التوراة، بيَّن تعالى أنَّ الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى، ووصفه بأنه بصائر للنَّاس من حيث يستبصر به في باب الدين.
قوله:»
بَصَائر «يجوز أن يكون مفعولاً له، وأن يكون حالاً إما على حذف
262
مضاف أي: ذا بصائر، أو على المبالغة، و» هُدًى «من حيث يستدل به، ومن حيث أن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب، ووصفه بأنه» رَحْمَةً، لأنه من نعم الله على من تعبد به.
روى أبو سعيد الخدري «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: ما أهلك الله قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها الله قردةً» وقوله «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» بما فيه من المواعظ والبصائر.
263
﴿ واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق ﴾ واعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى، وهو المتكبر في الحقيقة، قال عليه السلام١ فيما حكاه عن ربه «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي والعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي واحداً مِنْهُمَا ألقيته في النَّار »٢ وكل٣ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق٤.
قوله :«بِغَيْرِ الحَقِّ » حال، أي : استكبروا متلبسين بغير الحق، ﴿ وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ﴾ قرأ نافع والأخوان٥ ويعقوب «يَرْجِعُونَ » مبنياً للفاعل، والباقون للمفعول٦.
١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢ أخرجه أبو داود (لباس) ٤/٥٩، أحمد ٢/٢٤٨، ٣٧٦، ٤١٤، ٤٢٧، ٤٤٢..
٣ في ب: كل..
٤ انظر الكشاف ٣/١٦٩، الفخر الرازي ٢٤/٢٥٣..
٥ حمزة والكسائي..
٦ السبعة (٤٩٤)، الكشف ٢/١٧٤، الإتحاف (٣٤٣)..
قوله :﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم ﴾ وهذا من الكلام المفحم الذي يدل على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه، شبههم - استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم - وإن كانوا الجم الغفير - كحصيات١ أخذهن آخذ٢ في كفه وطرحهُنَّ في البحر، ونحو ذلك قوله ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٧ ] ﴿ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الحاقة : ١٤ ] ﴿ وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ]. وليس الغرض منها إلا تصوير أنَّ كلَّ مقدور وإن عظم٣ فهو حقير بالنسبة إلى قدرته٤ ﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين ﴾.
١ في ب: لحصيات. وهو تحريف..
٢ في ب: أخذهن من أحد..
٣ في ب: أن كل مقدورات عظم..
٤ انظر الكشاف ٣/٦٩-١٧٠، الفخر الرازي ٢٤/٢٥٤..
قوله١ :«وَجَعَلْنَاهُمْ » أي : صيَّرَنَاهُم وقال الزمخشري : دعوناهم٢، كأنه فر من نسبة ذلك إلى الله تعالى، أعني٣ : التصيير لأنه لا يوافق مذهبه٤، ويدعون صفة ل «أَئِمَّة » وقال الجبائي : وجعلناهم : أي بيَّنا ذلك من حالهم وسميناهم به، ومنه قوله :﴿ وَجَعَلُوا الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً ﴾٥ [ الزخرف : ١٩ ]. وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم، فلما عجَّل الله٦ لهم العذاب صاروا متقدّمين لمن وراءهم من٧ الكافرين٨.
ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي، فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة، وإنما جعلهم الله أئمةً في هذا الباب، لأنهم بلغوا في هذا الباب إلى أقصى النهايات ومن كان كذلك استحق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب٩.
قوله :﴿ وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ ﴾ لا يمنعون من العذاب، كما تنصر الأئمة الدعاة إلى الجنة،
١ في ب: قوله تعالى..
٢ الكشاف ٣/١٧٠..
٣ في ب: عن..
٤ لأن (جعل) إذا كانت بمعنى (صيَّر) فيكون الله قد خلق ذلك لهم، والمعتزلة لا يجوزون ذلك..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٤..
٦ لفظ الجلالة سقط من ب..
٧ في ب: من الكفار..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٤..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٤..
﴿ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً ﴾ خزياً وعذاباً.
قوله :«وَيَوْمَ القِيَامَةِ »١ فيه أوجه :
أحدها : أن تتعلق٢ ب «المَقْبُوحِينَ »٣ على أن ( أل ) ليست موصولة٤ أو موصولة واتسَّع فيه، وأن تتعلق بمحذوف يفسره «المَقْبُوحِينَ »٥، كأنه قيل٦ :«وقبِّحُوا يوم القيامة، نحو :﴿ لِعَمَلِكُمْ مِنَ القالين ﴾ [ الشعراء : ١٦٨ ]، أو يعطف على موضع «في الدُّنْيَا »، أي : وأتبعناهم لعنة يوم القيامة٧. أو معطوفة على «لَعْنَة » على حذف مضاف، أي٨ : ولعنةً يوم القيامة٩.
والوجه الثاني أظهرهما : والمَقْبُوحُ، المطرود قبحه الله : طرده١٠، قال :
٤٠٠٦ - أَلاَ قَبَّحَ اللَّهُ البَراجِمَ كُلَّهَا وَجَدَّعَ يَرْبُوعاً وَعَفَّرَ دَارِمَا١١
وسُمِّي ضد الحسن قبحاً لأنَّ العين١٢ تنبو عنه، فكأنها تطرده١٣، يقال : قبح قباحةً، وقيل :«مِنْ المَقْبُوحِينَ » : من الموسومين بعلامة منكرة، كزرقة العيون وسواد الوجوه، قاله ابن عباس١٤، يقال : قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه، إذا جعله قبيحاً، قال الليث : قَبَحَهُ الله أي : نحاه من كل خير١٥، والقبيح أيضاً : عظم الساعد مما يلي النصف منه إلى المرفق١٦، وقال أبو عبيدة :«مِنَ المَقْبُوحِينَ » من المهلكين١٧.
١ في ب: "ويوم القيامة هم"..
٢ يريد بالتعلق هنا أن يكون معمولاً له..
٣ في ب: أن يتعلق بـ "المقبوحين" كأنَّه وقبِّحوا يوم القيامة نحو "إني لعملكم من القالين"..
٤ انظر التبيان ٢/١٠٢١..
٥ انظر البيان ٢/٢٣٤، التبيان ٢/١٠٢١..
٦ في ب: كأنه قال..
٧ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٢٣٤، التبيان ٢/١٠٢١..
٨ أي: سقط من ب..
٩ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٦٢، البيان ٢/٢٣٣، التبيان ٢/١٠٢١..
١٠ انظر الكشاف ٣/١٧٠، اللسان (قبح)..
١١ البيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس، وهو في ديوانه (١٣٠)، المفضليات (٤٣٧)، القرطبي ١٣/٢٩٠، البحر المحيط ٧/١٠٣. البراجم: مفاصل الأصابع، والمقصود بالبراجم هنا: أحياء من بني تميم، وذلك أن أباهم قبض أصابعه، وقال لهم: كونوا كبراجم يدي هذه ويربوع ودارم: حيان منهم.
جدّع: قطع، يدعو عليهم بالقبح والذلة. والشاهد فيه قوله: " قبَّح" أي: جعلهم مقبوحين مطرودين..

١٢ في ب: المعنى..
١٣ في ب: تطردهم..
١٤ انظر البغوي ٦/٣٤٤..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٥..
١٦ انظر اللسان (قبح)..
١٧ مجاز القرآن ٢/١٦٠..
قوله١ :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى ﴾ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم والمراد بالكتاب : التوراة، بيَّن تعالى أنَّ الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى٢، ووصفه بأنه بصائر للنَّاس من حيث يستبصر به في باب الدين٣.
قوله :«بَصَائر » يجوز أن يكون مفعولاً له٤، وأن يكون حالاً٥ إما على حذف مضاف أي : ذا بصائر، أو على المبالغة، و «هُدًى » من حيث يستدل به٦، ومن حيث أن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب، ووصفه بأنه «رَحْمَةً »، لأنه من نعم الله على من تعبد به٧.
روى أبو سعيد الخدري «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما أهلك الله قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها الله قردةً »٨. وقوله «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ » بما فيه من المواعظ والبصائر.
١ في ب: قوله تعالى..
٢ في ب: موسى عليه الصلاة والسلام..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٥..
٤ انظر التبيان ٢/١٠٢١..
٥ انظر الكشاف ٣/١٧٠، البيان ٢/٢٣٤، التبيان ٢/١٠٢١..
٦ به: سقط من ب..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٥..
٨ أخرجه البراز وابن المنذر، والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. انظر الدر المنثور ٥/١٢٩..
قوله: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي﴾ (قال قتادة والسدي: وما كنت بجانب الجبل الغربي) فيكون من حذف الموصوف، وإقامة صفته قيامه أو أن يكون من إضافة الموصوف لصفته، وهو مذهب الكوفيين، ومثله: بَقْلَةُ الحَمْقَاءِ، وَمَسْجِدُ الجَامِع.
قوله: ﴿إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر﴾ أي: عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، والمعنى: وما كنت الحاضر المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على الوحي إليه وهم نقباؤه الذي اختارهم للميقات. فإن قيل: لمَّا قال: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي﴾ ثبت أنه لم يكن شاهداً،
263
لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً فما الفائدة في إعادة قوله: ﴿وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين﴾.
فالجواب: قال ابن عباس التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك، ولا يشهد ولا يرى.
قوله: ﴿وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً﴾ وجه الاستدراك أن المعنى: وَمَا كُنْتَ شَاهِداً لموسى وما جرى عليه ولكِنَّا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاراته، فإن هذا الاستدراك هو شبيه بالاستداركين بعده، قاله الزمخشري، وهذا تنبيه على المعجز، كأنه قال: إن في إخبارك بهذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالةً ظاهرةً على نبوتك كقوله: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى﴾ [طه: ١٣٣] ؟
قوله: ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً﴾ أي: مقيماً، يقال: ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً وثُوِياً، فهو ثاوٍ ومثويّ، قال ذو الرمة.
٤٠٠٧ - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُه... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأْمُ سائِمُ
وقال:
٤٠٠٨ - طَالَ الثَّوَاءُ عَلَى رَسُولِ المَنْزِلِ... وقال العجاج:
٤٠٠٩ - وَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ... يعني الضيف المقيم.
قوله: «تَتْلُوا» يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «ثَاوِياً»، وأن يكون خبراً
264
ثانياً، وأن يكون هو الخبر، و «ثَاوِياً» حال وجعله الفراء منقطاً مما قبله. أي: مستأنفاً كأنَّه قيل: وها أنت تتلو على أمَّتك، وفيه بعد.

فصل


المعنى: ﴿وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً﴾ خلقنا أمماً من بعد موسى ﴿فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر﴾ أي: طالبت عليهم المهملة، فنسوا عهد الله وتركوا أمره، وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عوداً في محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون من بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها، «وَمَا كُنْتَ» مقيماً ﴿في أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ كمقام موسى وشعيب فيهم ﴿تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ تذكرهم بالوعد والوعيد.
قال مقاتل: يقول لم شتهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ في كل زمان رسولاً يعني: أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها، ولم تخبرهم بها، ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور﴾ بناحية الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى «إذْ نَادَيْنَا» أي: نادينا موسى: خذ الكتاب بقوَّةٍ.
وقال ابن عباس: إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم: (يا أمة محمدٍ أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل تستغفروني)، قال: وإنما قال ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه. وقال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد قال موسى: يا رب أرني محمداً، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم.
قوله: ﴿ولكن رَّحْمَةً﴾ أي: أَرْسَلْنَاكَ رَحْمَةً، أو أعلمناك بذلك رحمةً، أو لكن رحمناك رحمة بإرسالك وبالوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك.
265
وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة: «رَحْمَةٌ» بالرفع، أي: أنت رحمة.
قوله: ﴿مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ في موضع الصفة ل «قَوْماً»، والمعنى: لتنذر أقواماً ما أتاهم من نذير من قبلك، يعني أهل مكة، «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ».
قوله: ﴿ولولاا أَن تُصِيبَهُم﴾ هي الامتناعية، و (أنْ) وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء، أي: ولولا أصابتهم مصيبة، وجوابها محذوف، فقدره الزجاج: ما أرسلنا إليهم رسلاً. يعني أن الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول، فهو كقوله: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ [النساء: ١٦٥]، وقدره ابن عطية: لعاجلناهم، ولا معنى لهذا. «فَيَقُولُوا» عطف على «تصيبهم» و «لَوْلاً» الثانية تحضيض، و «فنتبع» جوابه، فلذلك نصب بإضمار «أَنْ».
قال الزمخشري: فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب، لا القول لدخول حرف الامتناع عليه دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها (لولا)، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السبب، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم عاينوا ما الجئوا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لما
266
يقولوا: لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً. بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقال لا غير التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم، وهو كقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨].
267
قوله :﴿ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً ﴾ وجه الاستدراك أن المعنى : وَمَا كُنْتَ شَاهِداً لموسى وما جرى عليه ولكِنَّا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على١ المسبب على عادة٢ الله في اختصاراته، فإن هذا الاستدراك هو شبيه٣ بالاستدراكين بعده، قاله الزمخشري٤، وهذا تنبيه على المعجز٥، كأنه٦ قال : إن في إخبارك بهذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالةً ظاهرةً على نبوتك كقوله :﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى ﴾٧ [ طه : ١٣٣ ].
قوله :﴿ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً ﴾ أي : مقيماً، يقال : ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً وثُوِياً، فهو٨ ثاوٍ ومثويّ، قال ذو الرمة.
٤٠٠٧ - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُه *** تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأْمُ سائِمُ٩
وقال :
٤٠٠٨ - طَالَ الثَّوَاءُ عَلَى رَسُولِ المَنْزِلِ١٠ ***. . .
وقال العجاج :
٤٠٠٩ - وَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ١١ ***. . .
يعني الضيف المقيم.
قوله :«تَتْلُوا » يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «ثَاوِياً »، وأن يكون خبراً ثانياً١٢، وأن يكون هو الخبر، و «ثَاوِياً » حال١٣ وجعله الفراء منقطعاً مما قبله١٤. أي : مستأنفاً١٥ كأنَّه قيل : وها أنت تتلو على أمَّتك، وفيه بعد.

فصل :


المعنى :﴿ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً ﴾ خلقنا أمماً من بعد موسى ﴿ فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر ﴾ أي : طالت عليهم المهلة، فنسوا عهد الله وتركوا أمره، وذلك أن الله عهد إلى موسى وقومه عهوداً في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون من بعد القرون نسوا١٦ تلك العهود وتركوا الوفاء بها، «وَمَا كُنْتَ » مقيماً ﴿ في أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ كمقام موسى وشعيب فيهم ﴿ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ تذكرهم بالوعد والوعيد١٧.
قال١٨ مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على١٩ أهل مكة خبرهم٢٠ ﴿ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ في كل زمان رسولاً٢١ يعني : أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار فتتلوها عليهم ولولا ذلك ما علمتها، ولم تخبرهم بها٢٢،
١ في الأصل: على أن..
٢ في ب: إعادة..
٣ في ب: يشبه..
٤ الكشاف ٣/١٧١..
٥ في ب: العجز. وهو تحريف..
٦ في ب: فإنه. وهو تحريف..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٧..
٨ فهو: سقط من ب..
٩ البيت من بحر الطويل، وهو للأعشى، لا كما نسبه ابن عادل على ذي الرمة. وقد تقدم..
١٠ صدر بيت من بحر الكامل، قاله عنترة بن شداد العبسي في هجاء قيس بن زيد، وعجزه:
بين اللكيك وبين ذات الحوامل
وهو في ديوانه (٥٦). والشاهد فيه قوله: (الثواء) فإنه مصدر بمعنى الإقامة من الفعل ثوى..

١١ من الرجز قاله العجاج، وهو في ديوانه (٣٢٥)، مجاز القرآن ٢/١٠٧، القرطبي ١٣/٢٩١ البحر المحيط ٧/١٠٣. الثوى: بيت في جوف بيت يقيم فيه الضيف فهو مكان إقامة. وهو موطن الشاهد..
١٢ ذكر هذين الوجهين أبو البقاء. انظر التبيان ٢/١٠٢٢..
١٣ حكاه أبو حيان. البحر المحيط ٧/١٢..
١٤ مما قبله: سقط من ب..
١٥ قال الفراء: (أي: إنك تتلو على أهل مكة قصص مدين وموسى، ولم تكن هناك ثاوياً مقيماً فتراه وتسمعه) معاني القرآن ٢/٣١٣..
١٦ في ب: ونسوا..
١٧ انظر البغوي ٦/٣٤٦..
١٨ في ب: وقال..
١٩ في ب: علماً..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٦/٣٤٦، الفخر الرازي ٢٤/٢٥٧..
٢١ رسولاً: سقط من ب..
٢٢ انظر البغوي ٦/٣٤٦..
﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور ﴾ بناحية الجبل الذي كلَّم١ الله عليه موسى «إذْ نَادَيْنَا » أي : نادينا موسى : خذ الكتاب بقوَّةٍ.
وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم :( يا أمة محمدٍ أجبتكم٢ قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني )، قال : وإنما قال ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه٣. وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد٤ قال موسى : يا رب أرني محمداً، قال : إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم، قال : بلى يا رب، قال الله تعالى : يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم٥.
قوله :﴿ ولكن رَحْمَةً من ربك ﴾ أي : أَرْسَلْنَاكَ رَحْمَةً، أو أعلمناك٦ بذلك رحمةً٧، أو لكن رحمناك رحمة بإرسالك وبالوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك٨.
وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة :«رَحْمَةٌ » بالرفع٩، أي : أنت رحمة١٠.
قوله :﴿ مَا أَتَاهُم مِن نَذِيرٍ ﴾ في موضع الصفة ل «قَوْماً »، والمعنى : لتنذر أقواماً ما أتاهم من نذير من قبلك، يعني أهل مكة، «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ».
١ في ب: يكلم..
٢ في ب: جئتكم. وهو تحريف..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٥٧..
٤ في ب: محمد صلى الله عليه وسلم..
٥ انظر البغوي ٦/٣٤٦، الفخر الرازي ٢٤/٢٥٧..
٦ في الأصل: أو علمناك..
٧ انظر التبيان ٢/١٠٢٢..
٨ انتصب "رحمة" على المصدر عند الأخفش، فإنه قال: (فنصب "رحمة" على: ولكن رحمك ربك رحمةً) معاني القرآن ٢/٦٥٣. مفعول لأجله عند الزجاج فإنه قال: (والنصب على معنى: فعلنا ذلك للرحمة، كما تقول: فعلت ذلك ابتغاء الخير، أي: فعلته لابتغاء الخير، فهو مفعول له) معاني القرآن وإعرابه ٤/١٤٧. وقال الكسائي: هي خبر (كان) مضمرة بمعنى: ولكن كان ذلك رحمةً من ربك. انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٦٤، البيان ٢/٢٣٤..
٩ المختصر(١١٣) البحر المحيط ٧/١٢٣..
١٠ انظر الكشاف ٣/١٧١، البحر المحيط ٧/١٢٣..
قوله١ :﴿ ولولا أَن تُصِيبَهُم ﴾ هي الامتناعية، و ( أنْ ) وما في حيزها في موضع رفع بالابتداء٢، أي : ولولا أصابتهم مصيبة٣، وجوابها محذوف، فقدره الزجاج : ما أرسلنا إليهم رسلاً٤. يعني أن الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول، فهو كقوله :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل ﴾٥ [ النساء : ١٦٥ ]، وقدره ابن عطية : لعاجلناهم٦، ولا معنى لهذا. «فَيَقُولُوا » عطف على «تصيبهم » و «لَوْلاً » الثانية تحضيض٧، و «فنتبع » جوابه٨، فلذلك نصب بإضمار «أَنْ ».
قال الزمخشري : فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب، لا القول لدخول حرف الامتناع عليه دونه ؟ قلت : القول هو المقصود بأن٩ يكون سبباً للإرسال، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها ( لولا )١٠، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السبب، ويؤول معناه١١ إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم١٢ يعاقبوا مثلاً على كفرهم عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقيني ببطلان١٣ دينهم لم يقولوا : لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً. بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم، وهو كقوله١٤ :﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ].
١ في ب: قوله تعالى..
٢ في ب: الابتداء..
٣ في ب: المصيبة..
٤ قال الزجاج: (أي: لولا ذلك لم يحتج على إرسال الرسل، ومواترة الاحتجاج) معاني القرآن وإعرابه ٤/١٤٧، وابن عادل تابع لأبي حيان في هذا النقل. انظر البحر المحيط ٧/١٢٣..
٥ انظر البحر المحيط ٧/١٢٣..
٦ قال ابن عطية (وجواب لولا محذوف تقديره: لما أرسلنا الرسل) تفسير ابن عطية ١١/٣٠٧ وابن عادل تابع لأبي حيان في هذا النقل. انظر البحر المحيط ٧/١٢٣..
٧ قال أبو عبيدة: ("لولا أرسلت إلينا رسولاً" مجازه: هلاّ) مجاز القرآن ٢/١٠٧..
٨ انظر الكشاف ٣/١٧١، البحر المحيط ٧/١٢٣..
٩ في الأصل: لأن..
١٠ في ب: الواو. وهو تحريف..
١١ في ب: معناها..
١٢ في ب: لولا..
١٣ في ب: سلطان..
١٤ الكشاف ٣/١٧١-١٧٢..
قوله: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ» يعني محمداً الحق من عندنا قالوا يعني كفار مكة (لَوْلاَ) هلاَّ «أُوتِيَ مُحَمَّدٌ» مثل ما أُوتِيَ موسى من الآيات كاليد البيضاء، والعصا، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانفجار الحجر بالماء والمنِّ والسَّلْوَى وكلام الله وغيرها.
وقيل: مثل ما أُوتي موسى كتاباً جملةً واحدةً. قال الله عزّ وجلّ: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ﴾، واختلفوا في الضمير في قوله: أَوَ لَمْ يَكْفُرَوا، فقيل: إن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أُوتِيَ مُوسَى - عليه السلام - فقال تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا» هؤلاء اليهود ﴿بِمَآ أُوتِيَ موسى﴾ بجميع تلك الآيات الباهرة؟ وقيل: إنّ الذين اقترحوا هذا هم كفار مكة، والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمن موسى إلاَّ أنه تعالى جعله كالشيء الواحد، لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد. وقال الكلبي: إنَّ مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة يسألونهم
267
عن محمد وشأنه، فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرَّهط وأخبروهم بقول اليهود، وقالوا: إنَّه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر، فقال تعالى في حقهم: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ﴾.
وقال الحسن: كان للعرب أصل في أيام موسى - عليه السلام - فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم، وقالوا: موسى وهارون ساحران، وقال قتادة: أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد فقالوا ساحران، وقيل: إن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول معجزات موسى - عليه السلام - قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ﴾، بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل، أي: لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت، ثم حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى، وهو قولهم «سَاحِرَانِ تَظَاهَرا».
قوله: «مِن قَبْلُ» إمَّا أن يتعلق ب «يَكْفُرُوا»، أو ب «أُوتِيَ» أي من قبل ظهورك.
قوله: «سَاحِرَانِ» قرأ الكوفيون «سِحْرَان» أي هما، أي: القرآن والتوراة، أو موسى وهارون، وذلك على المبالغة، جعلوهما نفس السحر، أو على حذف مضاف، أي: ذوا سِحْرَين، ولو صحَّ هذا لكان ينبغي أن يفرد سحر، ولكنَّه ثني تنبيهاً على التنويع، وقيل المراد: موسى ومحمد - عليهما السلام - أو التوراة والإنجيل، والباقون: «سَاحِرانِ» أي: موسى وهارون أو موسى ومحمد كما تقدم.
قوله: «تَظَاهَرَا» العامة على تخفيف الظاء فعلاً ماضياً صفة ل «سِحْرَان» أو «سَاحِرَانِ» أي: تعاوَنَا.
وقرأ الحسن ويحيى بن الحارث الذَّمَّاري وأبو حيوة واليزيدي بتشديدها، وقد لحنهم الناس، قال ابن خالويه تشديده لحن، لأنه فعل ماض، وإنَّما يُشَدَّد في المضارع، وقال الهذلي: لا معنى له، وقال أبو الفضل: لا أعرف
268
وجهه. وهذا عجيب من هؤلاء، وقد حذفت نون الرفع في مواضع حتى في الفصيح كقوله عليه السلام: «لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابّوا» ولا فرق بين كونها بعد واو، أو ألف، أو ياء، فهذا أصله تتظاهر أن فأدغم وحذفت نونه تخفيفاً، وقرأ الأعمش وطلحة وكذا في مصحف عبد الله «اظَّاهَرا» بهمزة وصل وشد الظاء وأصلها تظاهرا كقراءة العامة، فلما أريد الإدغام سُكِّن الأول فاجتلبت همزة الوصل، واختار أبو عبيدة القراءة بالألف، لأن المظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منها بأن المراد الكتابين، لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا، كما يقال: تظاهرت الأخبار.
قوله: ﴿وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء، وهذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين إلا باليهود، ثم قال: قل لهم يا محمد: ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ﴾ يعني من التوراة والقرآن، وهو مؤيد لقراءة «سِحْرَانِ» أو من كتابيهما على حذف مضاف، وهو مؤيد لقراءة «سَاحِرَان»، «أتَّبِعْهُ»، وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله.
قوله: «أتَّبِعْهُ» جواب للأمر وهو: «فَأْتُوا»، وقرأ زيد بن علي أَتَّبِعُهُ بالرفع استئنافاً، أي: فأنا أتبعه.
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ﴾ استجاب بمعنى أجاب، قال ابن عباس: يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، وقال مقاتل: فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما، وهذا أشبه بالآية، قال الزمخشري: فإن قلت ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية وبينه في قوله:
269
٤٠١٠ - فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ... حيث عدِّي بغير لام؟ قلت: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه أو: استجاب به، ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه، وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاءه على حذف المضاف. وقد تقدم تقرير هذا في البقرة، وأنَّ استجاب بمعنى أجاب، والبيت الذي أشار إليه هو:
٤٠١١ - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يجِيبُ إلى النِّدَا فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
والناس ينشدونه على تعدِّيه بنفسه، فإن قيل: الاستجابة تقتضي دعاء، فأين الدعاء هنا؟ قيل: «فَأتُوا بِكِتَابٍ» أمر، والأمر دعاء إلى الفعل، وقال: ﴿فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي صاروا ملتزمين طريقه، ولم يبق شيء إلا اتباع الهوى، ثم زيّف طريقهم بقوله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى﴾ وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾.
قوله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول﴾ العامة على تشديد «وَصّلْنَا» إما من الوصل ضد القطع أي: تابعنا بعضه ببعض. قال الفراء: أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً، وأصله من وصل الحبل، قال:
270
وإمّا: جعلناه أوصالاً أي: أنواعاً من المعاني - قاله مجاهد - وقرأ الحسن بتخفيف الصاد وهو قريب مما تقدم، قال ابن عباس ومقاتل: وَصَّلْنَا: بيَّنا لكفار مكة - بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية - كيف عذبوا بتكذيبهم، وقال ابن زيد: وصلنا لهم القول: خبر الدنيا بخبر الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»، ثم لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾.
قوله: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ» مبتدأ و «هُمْ» مبتدأ ثان و «يُؤْمِنُونَ» خبره، والجملة خبر الأول، و «بِهِ» متعلق ب «يُؤْمِنُونَ»، وقد يُعَكِّرُ على الزمخشري وغيره من أهل البيان، حيث قالوا: التقديم يفيد الاختصاص وهنا لا يتأتى ذلك، لأنهم لم خصُّوا إيمانهم بهذا الكتاب فقط لزم كفرهم بما عداه وهو عكس المراد وقد أبدى أهل البيان هذا في قوله: ﴿آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [الملك: ٢٩] فقالوا: لو قدِّم «به» لأوهم الاختصاص بالإيمان بالله وحده دون ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا بعينه جارٍ هنا، والجواب: أن الإيمان بغيره معلوم فانصبَّ الغرض إلى الإيمان بهذا.

فصل


قوله: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ﴾ أي من قبل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: من قبل القرآن ﴿هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾، قال قتادة: نزلت في (أناسٍ من) أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال مقاتل: هم أصحاب السفينة الذين قدموا من الحبشة أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وآمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قال سعيد بن جبير: قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله الله عليه وسلم لما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا: يا نبيَّ الله إن لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب﴾ إلى قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، وعن ابن عباس قال: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية
271
من الشام، وقال رفاعه: نزلت في عشرة أنا أحدهم: وصفهم الله فقال: ﴿وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ﴾ يعني: القرآن، قالوا: ﴿قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾، وذلك أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، أي كنا من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله التوحيد مؤمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نبي حق.
قوله
: ﴿أولئك
يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾
منصوب على المصدر، و «بِمَا صَبَرُوا» ما مصدرية والباء متعلق ب «يؤتون (أَوْ بنفس الأجر. ومعنى» مَرَّتَيْنِ «أي: بإيمانهم بمحمد قيل بعثته، وقيل: يُؤْتَوْن أَجْرَهُمْ) مرتين لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، وقيل: لإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل محمد - عليه السلام - ومرَّة بإيمانهم بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال مقاتل: لما آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شتمهم المشركون، فصفحوا عنهم فلهم أجران، أجر على الصفح وأجر على الإيمان، وقوله» بِمَا صبَرُوا «أي على دينهم، قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسْلَمُوا فأوذُوا.
قوله: ﴿وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة﴾ أي بالطاعة المعصية المتقدمة، قال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل: يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو، وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون، في الطاعة. قوله: وإذا سمعوا اللَّغو وهو القبيح من القول أعرضوا عنه، وذلك أن المشركين كانوا يسبُّون مؤمني أهل الكتاب، ويقولون تبّاً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردّون عليهم، ﴿أُوْلَ ؟ ئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾، لنا ديننا ولكم دينكم، ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾، ليس المراد سلام التحية ولكنه سلام المتارك، ومعناه: سَلِمْتُمْ مِنَّا لا نعارِضُكُمْ بالشتم والقبح، ونظيره ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان: ٦٣]. ثم أكد ذلك تعالى بقوله حاكياً عنهم ﴿لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾، أي: دين الجاهلين، أي: لا نحب دينكم الذي
272
أنتم عليه، وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، قيل: نسخ ذلك بالأمر بالقتال، وهو بعيد، لأن ترك المسافهة مندوب، وإن كان القتال (واجباً). والله أعلم.
273
قل لهم يا محمد :﴿ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا ﴾ يعني من التوراة والقرآن، وهو مؤيد لقراءة «سِحْرَانِ » أو١ من كتابيهما على حذف مضاف، وهو مؤيد لقراءة «سَاحِرَان »، «أتَّبِعْهُ »، وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله.
قوله :«أتَّبِعْهُ » جواب للأمر وهو :«فَأْتُوا »، وقرأ زيد بن علي أَتَّبِعُهُ٢ بالرفع استئنافاً، أي : فأنا أتبعه٣.
١ في ب: و..
٢ في ب: تبعه..
٣ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٣٠٧، البحر المحيط ٧/١٢٤..
قوله :﴿ فَإِن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ﴾ استجاب١ بمعنى أجاب، قال ابن عباس : يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج٢، وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما، وهذا أشبه بالآية٣، قال الزمخشري : فإن قلت ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية وبينه في قوله :
٤٠١٠ - فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ٤ ***. . .
حيث عدِّي بغير لام٥ ؟ قلت : هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عُدِّي إلى الداعي في الغالب، فيقال : استجاب الله دعاءه أو : استجاب به، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه، وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاءه على حذف المضاف٦. وقد تقدم تقرير هذا في البقرة٧، وأنَّ استجاب بمعنى أجاب، والبيت الذي أشار إليه هو :
٤٠١١ - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يجِيبُ إلى النِّدَا *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ٨
والناس ينشدونه على تعدِّيه بنفسه، فإن قيل : الاستجابة تقتضي دعاء، فأين الدعاء هنا ؟ قيل :«فَأتُوا بِكِتَابٍ » أمر، والأمر دعاء إلى الفعل٩، وقال :﴿ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ أي صاروا ملتزمين طريقه، ولم يبق شيء١٠ إلا اتباع الهوى، ثم زيّف طريقهم بقوله :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى ﴾ وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال١١ ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾.
١ في ب: فاستجاب..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦١..
٣ المرجع السابق..
٤ سيأتي تخريجه بعد..
٥ في الكشاف: بغير اللام..
٦ الكشاف ٣/١٧٣..
٧ عند قوله تعالى: ﴿وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريبٌ أجيب دعوة الدَّاع إذا دعاني فليستجيبوا لي....﴾ [البقرة: ١٨٦]. انظر اللباب ١/٣٧٤..
٨ البيت من بحر الطويل قاله كعب بن سعد الغنوي، وهو في مجاز القرآن ١/٦٧، ٢/١٠٧، الأصمعيات ٩٦، الاقتضاب ٣/٣٩٩، المسائل العسكرية للفارسي(١٥٥)، أمالي ابن الشجري ١/٦٢، اللسان (جوب). البحر المحيط ٧/١٢٤، شرح شواهد الكشاف (١٠)، والشاهد فيه قوله: (فلم يستجبه) فإنه بمعنى (لم يجبه) وهو متعد بدون حرف الجر..
٩ انظر الكشاف ٣/١٧٣، الفخر الرازي ٢٤/٢٦١..
١٠ في ب: نبي. وهو تحريف..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦١..
قوله١ :﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول ﴾ العامة على تشديد «وَصّلْنَا » إما من الوصل ضد القطع أي : تابعنا بعضه ببعض٢. قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضاً٣، وأصله من وصل الحبل، قال :
٤٠١٢ - فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ ما بَالُ ذِمَّتِي بِحَبْلٍ ضَعيفٍ لاَ يَزَالُ يُوصَّلُ
٤٠١٢ - فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ ما بَالُ ذِمَّتِي بِحَبْلٍ ضَعيفٍ لاَ يَزَالُ يُوصَّلُ٤
وإمّا٥ : جعلناه أوصالاً أي : أنواعاً من المعاني - قاله مجاهد٦ - وقرأ الحسن بتخفيف الصاد٧ وهو قريب مما تقدم، قال ابن عباس ومقاتل : وَصَّلْنَا : بيَّنا لكفار مكة - بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية - كيف عذبوا بتكذيبهم٨، وقال ابن زيد : وصلنا لهم القول : خبر الدنيا بخبر الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا٩ «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ »، ثم لما أقام الدلالة١٠ على النبوة أكد ذلك بقوله :﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ﴾١١.
١ في ب: قوله تعالى..
٢ انظر مجاز القرآن ٢/١٠٨، تفسير غريب القرآن (٣٣٣)..
٣ معاني القرآن ٢/٣٠٧..
٤ البيت من بحر الطويل، قاله الأخطل، وهو في ديوانه (٢٧١) مجاز القرآن ٢/١٠٨، القرطبي ١٣/٢٩٥، البحر المحيط ٧/١٢٥. والشاهد فيه قوله: (يوصَّل)، أي: أن العلاقة بيني وبينكم غير قوية..
٥ في ب: وإما من..
٦ انظر البحر المحيط ٧/١٢٥..
٧ المختصر (١١٣)..
٨ انظر البغوي ٦/٣٤٩-٣٥٠..
٩ انظر البغوي ٦/٣٥٠..
١٠ في ب: الدلائل..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦٢..
قوله :«الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ » مبتدأ و «هُمْ » مبتدأ ثان و «يُؤْمِنُونَ » خبره، والجملة خبر الأول١، و «بِهِ » متعلق ب «يُؤْمِنُونَ »، وقد يُعَكِّرُ٢ على الزمخشري وغيره من أهل البيان، حيث قالوا : التقديم يفيد الاختصاص وهنا لا يتأتى ذلك، لأنهم لو خصُّوا إيمانهم بهذا الكتاب فقط لزم كفرهم بما عداه وهو عكس المراد وقد أبدى أهل البيان هذا في قوله :﴿ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [ الملك : ٢٩ ] فقالوا : لو قدِّم «به » لأوهم الاختصاص بالإيمان بالله وحده دون ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا بعينه جارٍ هنا، والجواب : أن الإيمان بغيره معلوم فانصبَّ الغرض إلى الإيمان بهذا.

فصل :


قوله :﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل : من قبل القرآن ﴿ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾، قال قتادة : نزلت في ( أناسٍ من )٣ أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه٤. وقال مقاتل : هم أصحاب السفينة الذين قدموا من الحبشة أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم ٥-.
قال سعيد بن جبير : قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم٦ فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبيَّ الله إن لنا أموالاً فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ﴾ إلى قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾٧، وعن ابن عباس قال : نزلت٨ في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام٩، وقال رفاعة١٠ : نزلت في عشرة أنا أحدهم : وصفهم الله فقال :
١ انظر التبيان ٢/١٠٢٢..
٢ في ب: تفكر. وهو تحريف..
٣ في النسختين: موسى. والتصويب من الفخر الرازي..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦٢..
٥ انظر البغوي ٦/٣٥٠..
٦ في ب: صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم..
٧ انظر البغوي ٦/٣٥٠..
٨ في ب: أنها نزلت..
٩ انظر البغوي: ٦/٣٥٠..
١٠ هو رفاعة بن خديج، صحب النبي –صلى الله عليه وسلم- وعمه ظهير بن رافع وابنه أسيد بن ظهير قد رويا عن النبي – صلى الله عليه وسلم- المعارف لابن قتيبة (٣١٧)..
﴿ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ ﴾ يعني : القرآن، قالوا :﴿ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن ربنا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾، وذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، أي كنا من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله التوحيد مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي حق١.
١ انظر البغوي ٦/٣٥١..
قوله :﴿ أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ﴾ منصوب على المصدر١، و «بِمَا صَبَرُوا » ما مصدرية٢ والباء متعلق ب٣ يؤتون٤ ( أَوْ بنفس الأجر. ومعنى «مَرَّتَيْنِ » أي : بإيمانهم بمحمد قيل بعثته٥، وقيل : يُؤْتَوْن أَجْرَهُمْ )٦ مرتين لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر٧، وقيل : لإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل محمد - عليه السلام ٨- ومرَّة بإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم ٩- وقال مقاتل : لما آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - شتمهم المشركون، فصفحوا عنهم فلهم١٠ أجران، أجر على الصفح وأجر على الإيمان١١، وقوله «بِمَا صبَرُوا » أي على دينهم، قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسْلَمُوا فأوذُوا١٢.
قوله :﴿ وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة ﴾ أي بالطاعة المعصية المتقدمة، قال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك١٣، وقال مقاتل١٤ : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو١٥، وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون، في الطاعة.
١ انظر التبيان ٢/١٠٢٣..
٢ ما: سقط من ب..
٣ في ب: بنفس..
٤ في ب: يؤتون أجرهم مرتين..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦٢..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ انظر البغوي ٦/٣٥١..
٨ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٩ في ب: عليه الصلاة والسلام، وانظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦٢..
١٠ في ب: فلم..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦٢..
١٢ انظر البغوي ٦/٣٥١..
١٣ المرجع السابق..
١٤ في ب: وقال تعالى. وهو تحريف..
١٥ انظر البغوي ٦/٣٥١..
قوله :﴿ وإذا سمعوا اللَّغو ﴾ وهو القبيح من القول أعرضوا عنه، وذلك أن المشركين كانوا يسبُّون مؤمني١ أهل الكتاب، ويقولون تبّاً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردّون عليهم٢، ﴿ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾، لنا ديننا ولكم دينكم، ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾، ليس المراد سلام التحية ولكنه سلام المتارك، ومعناه : سَلِمْتُمْ مِنَّا لا نعارِضُكُمْ بالشتم والقبح، ونظيره ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]. ثم أكد ذلك تعالى بقوله حاكياً عنهم ﴿ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين ﴾، أي : دين الجاهلين، أي : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه٣، وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه٤، قيل : نسخ ذلك بالأمر بالقتال، وهو بعيد، لأن ترك المسافهة مندوب، وإن كان القتال ( واجباً٥ )٦. والله أعلم.
١ في ب: يسمعون موسى..
٢ انظر البغوي ٦/٣٥٢..
٣ انظر البغوي ٦/٣٥٢..
٤ المرجع السابق..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٤/٢٦٢..
٦ ما بين القوسين في ب: واجب. وهو تحريف..
قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أي: أحببت هدايته، وقيل: أحببته لقرابته، قال المفسرون: «نزلت في أبي طالب قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قل: لا إلَه إلاَّ الله أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيِّرني قريش، تقول: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك»، فأنزل الله هذه الآية.

فصل


قال في هذه الآية: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾، وقال في آية أخرى ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، ولا تنافي فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة، والذي نفاه عنه هداية التوفيق وشرح الصدور، وهو نور يقذف في القلب فيجيء به القلب كما قال سبحانه ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس﴾ [الأنعام: ١٢٢].:

فصل


احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، فقالوا: قوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من الهداية في قوله ﴿إنَّكَ لاَ تَهْدِي﴾ شيئاً، وفي قوله: ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ شيئاً آخر لاختلّ النظم، ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الأدلة
273
والدعوة إلى الجنة، أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة على سبيل الإلجاء، (أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء) لا جائز أن يكون المراد (بيان الأدلة، لأأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير) الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة، وأما الهداية بمعنى تعريف الجنة فهي أيضاً غير مرادة، لأنه تعالى علَّق هذه الهداية على المشيئة. فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يقول أعطي عشرة دنانير إن شئت، وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز. لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف، وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان، ومستلزم المحال محال، فذلك محال من الله والمحال لا يجوز تعليقه على المشيئة، ولما بطلب الأقسام لم يبق إلاَّ أن المراد أنه تعالى يخصُّ البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الانبياء: ٣] وإذا أورد الكلام على هذا الوجه سقط ما أورد القاضي عذرا عن ذلك.
قوله: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي ومن لا يهتدي، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم: إن نَتَّبع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أرْضِنَا، قال المبرد: الخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنَّا لنعلم أنَّ الذي تقوله حقٌّ ولكنا إن اتَّبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، فأجاب الله عنه من وجوه الأول: قوله: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً﴾، أي أعطاكم مسكناً لا خوف لكم فيه، إما لأن العرب يحترمون الحرم ولم يتعرضوا لسكانه، فإنه يروى أن العرب خارجة الحرم كانوا لا يتعرَّضون لساكن الحرم.
قوله: «نُتَخَطَّفُ» العامة على الجزم جواباً للشرط، والمنقريّ بالرفع، على حذف الفاء، كقوله:
٤٠١٣ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا...
274
وكقراءة «يُدْرِكُكُمْ» بالرفع، أو على التقديم وهو مذهب سيبويه.
قوله: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً﴾ قال أبو البقاء عدَّاه بنفسه لأنه بمعنى «جَعَل» وقد صرحَّ به في قوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً﴾ [العنكبوت: ٦٧] و «مَكَّنَ» متعد بنفسه من غير أن يضمَّن معنى «جَعَلَ» كقوله «مَكَّنَّاهُمْ»، وتقدم تحقيقه في الأنعام وآمنا قيل بمعنى مؤمن أي: يؤمن من دخله، وقيل: هو على حذف مضاف، أي: آمناً أهله، وقيل فاعل بمعنى النسب أي، ذا أمن.
قوله: «يُجْبَى» قرأ نافع بتاء التأنيث مراعاة للفظ ثمرات، والباقون بالياء للفصل ولأن تأنيثه مجازي والجملة صفة ل «حَرَماً» أيضاً، وقرأ العامة «ثَمَرَاتُ» بفتحتين وأبان بضمتين جمع ثُمُر بضمتين، وبعضهم بفتح وسكون.
قوله: «رِزقاً» إن جعلته مصدراً جاز انتصابه على المصدر المؤكِّد، لأن معنى «يُجبَى إليه» يرزقهم وأن ينتصب على المفعول له، والعامل محذوف، أي يسوقه إليه رزقاً، وأن يكون في موضع الحال من «ثَمَراتٍ» لتخصصها بالإضافة، (كما ينتصب عن النكرة المخصصة)، وإن جعلته اسماً للمرزوق انتصب على الحال من «
275
ثَمَرات» ومعنى «يُجْبَى»، أي يجلب ويجمع، يقال: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته قال مقاتل: يحمل إلى الحرم ﴿ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أن ما نقوله حق.
قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ أي: من أهل قرية «بَطِرَتْ معيشتها»، قال الزمخشري: البطر سوء احتمال الغنى، وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى، وانتصب «مَعِيشَتهَا» إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥]، أو بتقدير حذف ظرف الزمان، أصله: بطرت أيَّام معيشتها، وإما بتضمين «بَطِرَتْ» معنى كفرت أو خسرت أو على التمييز أو على التشبيه بالمفعول به، وهو قريب من «سَفِهَ نَفْسَه». قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله، وعبدوا غيره.
قوله: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قال ابن عباس لم يسكنها إلا المسافرون، ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة.
معناه: لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً يسيراً قليلاً، وقيل: لم يعمَّر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، فقوله: «لَمْ تُسْكَنْ» جملة حالية، والعامل فيها معنى تلك، يجوز أن يكون خبراً ثانياً، و «إلا قليلاً» أي: إلا سكنى قليلاً، أو إلا زماناً قليلاً، أو إلا مكاناً قليلاً. ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين﴾. كقوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا﴾ [مريم: ٤٠].
قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ﴾ يعني القرى الكافرة أهلها حتى نبعث في أمِّها رسولاً، أي في أكثرها وأعظمها رسولاً ينذرهم وخصّ الأعظم ببعثة الرسول فيها لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما
276
حولها، وهذا بيان لقطع عذرهم، لأن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب ألا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة.
وقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي: يؤدّي ويلِّبغ، قال مقاتل: يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا، ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ : مشركون أي: أهلكهم بظلمهم، وأهل مكة ليسوا كذلك، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم قد علم الله منهم أنَّهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يؤمن.
277
ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم :
﴿ إن نَتَّبع الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أرْضِنَا ﴾١، قال المبرد : الخطف الانتزاع بسرعة٢ نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّا لنعلم أنَّ الذي تقوله حقٌّ ولكنا إن اتَّبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة، فأجاب الله٣ عنه من وجوه الأول : قوله :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً ﴾، أي أعطاكم مسكناً لا خوف لكم فيه، إما لأن العرب يحترمون الحرم ولم يتعرضوا لسكانه، فإنه يروى أن العرب خارجة الحرم كانوا لا يتعرَّضون لسكان الحرم٤.
قوله :«نُتَخَطَّفُ » العامة على الجزم جواباً للشرط، والمنقريّ بالرفع٥، على حذف الفاء، كقوله :
٤٠١٣ - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا٦ ***. . .
وكقراءة «يُدْرِكُكُمْ »٧ بالرفع٨، أو على التقديم وهو مذهب سيبويه٩.
قوله :﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً ﴾ قال أبو البقاء عدَّاه بنفسه لأنه بمعنى «جَعَل » وقد صرحَّ به في قوله ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ﴾١٠ [ العنكبوت : ٦٧ ] و «مَكَّنَ » متعد بنفسه من غير أن يضمَّن معنى «جَعَلَ » كقوله «مَكَّنَّاهُمْ »١١، وتقدم تحقيقه في الأنعام وآمناً قيل بمعنى مؤمن أي : يؤمن من دخله١٢، وقيل : هو على حذف مضاف، أي : آمناً أهله، وقيل فاعل بمعنى النسب أي، ذا أمن١٣.
قوله :«يُجْبَى » قرأ نافع بتاء التأنيث مراعاة للفظ ثمرات، والباقون بالياء١٤ للفصل ولأن تأنيثه مجازي والجملة صفة ل «حَرَماً » أيضاً١٥، وقرأ العامة «ثَمَرَاتُ » بفتحتين١٦ وأبان بضمتين١٧ جمع ثُمُر بضمتين، وبعضهم بفتح وسكون١٨.
قوله :«رِزقاً » إن جعلته مصدراً جاز انتصابه على المصدر المؤكِّد، لأن معنى «يُجبَى إليه » يرزقهم وأن ينتصب على المفعول له١٩، والعامل محذوف، أي يسوقه٢٠ إليه رزقاً، وأن يكون في موضع الحال من «ثَمَراتٍ » لتخصصها بالإضافة، ( كما ينتصب عن النكرة المخصصة )٢١، وإن جعلته اسماً للمرزوق٢٢ انتصب على الحال من «ثَمَرات »٢٣ ومعنى «يُجْبَى »، أي يجلب ويجمع، يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته٢٤ قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ﴿ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن ما نقوله حق.
١ انظر الفخر الرازي ٢٥/٤..
٢ المرجع السابق..
٣ في ب: الله تعالى..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٥/٤، وأسباب النزول للواحدي ٢٥٢..
٥ انظر البحر المحيط ٧/١٢٦..
٦ صدر بيت من بحر البسيط، قاله حسان بن ثابت، أو عبد الرحمن بن حسان، وعجزه:
والشرّ بالشرّ عند الله مثلان
وتقدم تخريجه. والشاهد فيه هنا قوله: (الله يشكرها) حيث حذفت الفاء من جواب الشرط للضرورة، والأصل: فالله يشكرها..

٧ في النسختين: يدركُّم. من قوله تعالى: ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت﴾ [النساء: ٧٨]..
٨ وهي قراءة طلحة بن حسان. المختصر (٢٧)..
٩ قال سيبويه: (وسألته عن قوله: "إن تأتني أنا كريمٌ"، فقال: لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر، من قبل أنا كريمٌ يكون كلاماً مبتدأ، والفاء وإذا لا يكونان إلا متعلقتين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء) الكتاب ٣/٦٤، وقال: (... فإن قلت: إن تأتني زيدٌ يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيداً ضربته، وهذا موضع ابتداء، ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت: إن تأتني فأنا خيرٌ لك، كان حسناً، وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله: الله يشكرها) الكتاب ٣/١١٤..
١٠ [العنكبوت: ٦٧]. وانظر التبيان ٢/١٠٢٤..
١١ من قوله تعالى: ﴿ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنّاهم في الأرض ما لم نمكِّن لكم﴾ [الأنعام: ٦]..
١٢ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٣٠٨، التبيان ٢/١٠٢٤..
١٣ انظر التبيان ٢/١٠٢٤، القرطبي ١٣/٣٠..
١٤ السبعة (٤٩٥)، الكشف ٢/١٧٥، النشر ٢/٣٤٢، الإتحاف ٣٤٣..
١٥ أيضاً: سقط من ب..
١٦ في الأصل: بالفتحتين..
١٧ المختصر (١١٣)، المحتسب ٢/١٥٣، البحر المحيط ٧/١٢٦..
١٨ "ثمرات" المختصر (١١٣)، البحر المحيط ٧/١٢٦، ولم تعز إلى قارئ معين..
١٩ له: سقط من ب..
٢٠ في ب: يسوق..
٢١ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٢ في: للمرزق..
٢٣ انظر الكشاف ٣/١٧٤، البحر المحيط ٧/١٢٦..
٢٤ انظر الفخر الرازي ٢٥/٤..
قوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ ﴾ أي : من أهل قرية «بَطِرَتْ معيشتها »، قال الزمخشري : البطر سوء احتمال الغنى، وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى١، وانتصب «مَعِيشَتهَا » إما بحذف الجار واتصال الفعل٢ كقوله :﴿ واختار موسى قَوْمَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ]، أو بتقدير حذف ظرف الزمان، أصله : بطرت أيَّام معيشتها٣، وإما بتضمين «بَطِرَتْ » معنى كفرت أو خسرت٤ أو على التمييز٥ أو على التشبيه بالمفعول به٦، وهو قريب من «سَفِهَ نَفْسَه »٧. قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله، وعبدوا غيره٨.
قوله :﴿ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ قال ابن عباس لم يسكنها إلا المسافرون، ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة٩.
معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكوناً يسيراً قليلاً، وقيل : لم يعمَّر منها إلا أقلها وأكثرها خراب١٠، فقوله :«لَمْ تُسْكَنْ » جملة حالية، والعامل فيها معنى تلك١١، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً١٢، و «إلا قليلاً » أي : إلا سكنى قليلاً١٣، أو١٤ إلا زماناً قليلاً١٥، أو إلا مكاناً قليلاً١٦. ﴿ وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين ﴾. كقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا ﴾ [ مريم : ٤٠ ].
١ انظر الكشاف ٣/١٧٤..
٢ المرجع السابق..
٣ انظر الكشاف ٣/١٧٤، وعزاه أبو حيان على الزجاج. انظر البحر المحيط ٧/١٢٦..
٤ أي: خسرت معيشتها. وعزاه أبو حيان إلى أكثر البصريين. انظر البحر المحيط ٧/١٢٦..
٥ على مذهب الكوفيين، انظر معاني القرآن للفراء ٢/٣٠٨، البحر المحيط ٧/١٢٦..
٦ وعزاه أبو حيان إلى بعض الكوفيين. انظر البحر المحيط ٧/١٢٦..
٧ من قوله تعالى: ﴿ومن يرغب عن ملَّة إبراهيم إلا من سفه نفسه﴾ [البقرة: ١٣٠]..
٨ انظر البغوي ٦/٣٥٥..
٩ انظر الكشاف ٣/١٧٥، الفخر الرازي ٢٥/٦..
١٠ انظر البغوي ٦/٣٥٥..
١١ في ب: تلك معنى تلك..
١٢ انظر التبيان ٢/١٠٢٣..
١٣ انظر الكشاف ٣/١٧٥..
١٤ في ب: و..
١٥ انظر التبيان ٢/١٠٢٣..
١٦ فيكون الاستثناء من المساكن. البحر المحيط ٧/١٢٦..
قوله :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ ﴾ يعني القرى الكافرة أهلها حتى نبعث في أمِّها رسولاً، أي في أكثرها وأعظمها رسولاً ينذرهم وخصّ الأعظم ببعثة الرسول فيها لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما حولها١، وهذا بيان لقطع عذرهم، لأن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب ألا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة.
وقوله :﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ﴾ أي : يؤدّي ويبلِّغ، قال مقاتل : يخبرهم الرسول أنَّ العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا٢، ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ : مشركون أي : أهلكهم بظلمهم، وأهل مكة ليسوا كذلك، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم قد علم الله منهم أنَّهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يؤمن٣.
١ انظر البغوي ٦/٣٥٥..
٢ المرجع السابق..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٥/٦..
قوله: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا﴾، أي فهو متاع، وقرىء فمتاعاً الحياة بنصب «مَتَاعاً» على المصدر، أي: يتمتَّعون متاعاً، «والحَيَاةَ» نصب على الظرف، والمعنى: يتمتعون بها أيام حياتهم ثم هي إلى فناء وانقضاء ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى﴾، هذا جواب عن شبهتهم فإنهم إن قالوا تركنا الدِّين لئلا تفوتنا الدنيا، فبيَّن تعالى أن ذلك خطأ عظيم، لأن ما عند الله خيرٌ وأبقى (أمَّا أنَّه خير) فلوجهين: الأول: أن المنافع هناك أعظم، والثاني: أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار، بل المضار فيها أكثر، وأما أنَّها أبقى، فلأنها دائمة غير منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فظهر بذلك أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة، فلا جرم نبه على ذلك فقال: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» أن الباقي خيرٌ من
277
الفاني يعني أن من لا يرجح الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل، ورحم الله الشافعي حيث قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله - تعالى - لأن أعقل الناس من أعطي القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلين بالطاعة، فكأنه رَحِمَهُ اللَّهُ إنما أخذه من هذه الآية. وقرأ أبو عمرو «أَفَلاَ يَعْقِلُونَ» بالياء من تحت التفاتاً، والباقون بالخطاب جرياً على ما تقدم.
قوله: «َفَمَنْ وَعَدْنَاهُ» قرأ طلحة «أَمَنْ وَعَدْنَاهُ» بغير فاء «وَعْداً حَسَناً» يعني الجنة «فَهُوَ لاَقِيهِ» مصيبة ومدركه وصائرٌ إليه ﴿كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا﴾ وتزول عن قريب ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين﴾ النار، وقرأ الكسائي وقالون: «ثُمَّ هُوَ» بسكون الهاء إجراءً لها مجرى الواو والفاء، والباقون بالضم على الأصل، وتخصيص لفظ «المُحْضَرِينَ» بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن، قال تعالى ﴿لَكُنتُ مِنَ المحضرين﴾ [الصافات: ٥٧] ﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢٧] وفي اللفظ إشعار به، لأن الإحضار يشعر بالتكليف والإلزام، وذلك لا يليق بمجالس اللذة، وإنما يليق بمجالس الضرر والمكاره. قوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ في الدنيا أنهم شركائي وتزعمون أنها تشفع فتخلصكم من هذا الذي نزل بكم، وتزعمون مفعولاه محذوفان أي: (تزعمونهم شركاءه)، ﴿قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ أي: وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة وقيل: الشياطين.
أحدهما: أن هؤلاء مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنَا صفته والعائد محذوف، أي أغويناهم، والخبر «أَغْوَيْنَاهم»، و «كَمَا غَوَيْنَا» نعت لمصدر محذفو، ذلك المصدر مطاوع لهذا الفعل أي فغووا غيّاً كما غوينا، قاله الزمخشري، وهذا الوجه منعه أبو علي،
278
قال: لأنه ليس في الخبر زيادة فائدة على ما في صفته، قال: فإن قلت: قد أوصل بقوله كما غوينا وفيه زيادة، قلت: الزيادة في الظرف لا يصيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظرف صلاتٌ، ثم أعرب هو «هَؤُلاَء» مبتدأ و «الَّذِينَ أَغوَيْنَا» خبره، و «أغْوَيَنْاهم» مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره عن الأول بأن الظرف قد يلزم كقولك زيدٌ عمرو في داره.

فصل


المعنى: هؤلاء الذين دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا﴾ أضللناهم كما ضلننا «تَبَرَّأنَا إلَيْكَ» منهم.
قوله: ﴿مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ إيَّانَا مفعول «يَعْبُدونُ» قُدِّم لأجل الفاصلة وفي «ما» وجهان:
أحدهما: هي نافية (أي تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا).
والثاني: مصدرية ولا بدَّ من تقدير حرف جرٍّ أي: تبرأنا مما كانوا أي من عبادتهم إيانا، وفيه بعدٌ.
قوله: ﴿وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ﴾ أي: وقيل للكافلين ادعوا شركاءكم، أي: الأصنام لتخلصكم من العذاب «فَدَعَوْهُمْ» (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا) لَهُمْ لم يجيبوهم، والأقرب أن هذا على سبيل التقريع، لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم.
قوله: ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ﴾ جوابها محذوف أي: لما رأوا العذاب، أو لدفعوه، قال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروا في الآخرة، وقيل: لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أنَّ العذاب حق، وقيل: لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل قد آن لهم أن
279
يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قول ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ [الشعراء: ٢٠١] قال ابن الخطيب: وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقديره وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما خاطبهم بقوله ﴿ادعوا شُرَكَآءَكُمْ﴾ فهاهنا يشتد الخوف عليهم ويصيرون بحيث لا يرون شيئاً، فقال تعالى: ﴿وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ﴾ شيئاً ولما صاروا من شدة الخوف لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب.
وثانيها: أن الله تعالى لما ذكر عن الشركاء وهم الأصنام الذين لا يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم: ﴿وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ﴾ مشاهدين العذاب، وكانوا من الأحياء لاهتدوا، ولكنها ليست كذلك، فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل: قوله: «ورأوا العَذَابَ» ضمير لا يليق إلا بالعقلاء، وكيف يصح عوده للأصنام، قلنا: هذا كقوله: ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ﴾، وإنما أورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا هاهنا.
وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب، أي: والكفار علموا حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون، قال: وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف، فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية.
قوله: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ» أي: يسأل الله الكفار ﴿مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين﴾، فعميت، العامة على تخفيفها، وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم، وتقدمت القراءتان للسبعة في هود، والمعنى: خفيت واشتبهت «عَلَيْهِم الأَنْبَاءُ» وهي الأخبار والأعذار، وقال مجاهد: الحجج يومئذ فلا يكون لهم عذر ولا حجة، فهم لا يستاءلون لا يجيبون وقال قتادة: لا يحتجون، وقيل: يسكتون لا يسأل بعضهم بعضاً وقرأ طلحة «لا يسّاءلون» بتشديد السين على إدغام التاء في السين، كقراءة ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام﴾ [النساء: ١].
280

فصل


قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان قول الجبرية، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله ويجب وقوعه بالقدر والإرادة لما عميت عليهم الأنبا ولقالوا إنَّما كذَّبنا الرسل من جهة خلقك فينا بتكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى ظاهرة وكذلك القول فيما تقدم، لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك فيّ الغواية، والجواب: أنَّ علم الله بعدم الإيمان مع وجود الإيمان متنافيان لذاتهما، فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمرنا بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمرنا بالجمع بين الضِّدين، واعلم أنَّ القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والعقاب إلا يعيد استدلاله بها، كما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف، فكذا وجه جوابنا حرف واحد، وهو كما ذكرنا.
281
قوله١ :«أفَمَنْ وَعَدْنَاهُ » قرأ طلحة «أَمَنْ وَعَدْنَاهُ » بغير فاء٢ «وَعْداً حَسَناً » يعني الجنة «فَهُوَ لاَقِيهِ » مصيبه ومدركه وصائرٌ إليه ﴿ كَمَن مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ﴾ وتزول عن قريب ﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين ﴾ النار٣، وقرأ الكسائي وقالون :«ثُمَّ هُوَ » بسكون الهاء إجراءً لها مجرى الواو والفاء، والباقون بالضم على الأصل٤، وتخصيص لفظ «المُحْضَرِينَ » بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن، قال تعالى ﴿ لَكُنتُ مِنَ المحضرين ﴾ [ الصافات : ٥٧ ] ﴿ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٢٧ ] وفي اللفظ إشعار به، لأن الإحضار يشعر بالتكليف والإلزام، وذلك لا يليق بمجالس اللذة، وإنما يليق بمجالس الضرر والمكاره٥.
١ في ب: قوله تعالى..
٢ انظر البحر المحيط ٧/١٢٧..
٣ انظر البغوي ٦/٣٥٦..
٤ السبعة (١٥١) الكشف ١/٢٣٤-٢٣٥، الكشاف ٣/١٧٥-١٧٦، التبيان ٢/١٠٢٤..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٥/٧..
قوله١ :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ في الدنيا أنهم شركائي وتزعمون أنها تشفع فتخلصكم من هذا الذي نزل بكم، وتزعمون مفعولاه محذوفان٢ أي :( تزعمونهم شركاءه٣ )٤،
١ في ب: قوله تعالى..
٢ في ب: مفعولاً محذوفاً. وهو تحريف..
٣ انظر الكشاف ٣/١٧٦، البيان ٢/٢٣٥، البحر المحيط ٧/١٢٨..
٤ ما بين القوسين في ب: تزعمونه شركاء..
﴿ قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول ﴾ أي : وجب عليهم العذاب وهم رؤوس الضلالة وقيل : الشياطين١.
قوله :﴿ هؤلاء الذين أغوينا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن هؤلاء مبتدأ، والَّذِينَ أَغْوَيْنَا صفته والعائد محذوف، أي أغويناهم، والخبر «أَغْوَيْنَاهم »٢، و «كَمَا غَوَيْنَا » نعت لمصدر محذوف، ذلك المصدر مطاوع لهذا الفعل أي فغووا غيّاً كما غوينا، قاله٣ الزمخشري٤، وهذا الوجه منعه أبو علي، قال : لأنه ليس في الخبر زيادة فائدة على ما في صفته، قال : فإن قلت : قد أوصل بقوله كما غوينا وفيه زيادة، قلت : الزيادة في الظرف٥ لا يصيِّره أصلاً في الجملة لأنَّ الظروف٦ صلاتٌ٧، ثم أعرب هو «هَؤُلاَء » مبتدأ و «الَّذِينَ أَغوَيْنَا » خبره، و «أغْوَيَنْاهم » مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره عن الأول بأن الظرف قد يلزم كقولك زيدٌ عمرو في داره٨.

فصل :


المعنى : هؤلاء الذين دعوناهم إلى الغي وهم الأتباع ﴿ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ أضللناهم كما ضللنا «تَبَرَّأنَا إلَيْكَ » منهم.
قوله :﴿ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ إيَّانَا مفعول «يَعْبُدونُ » قُدِّم لأجل الفاصلة٩ وفي «ما » وجهان :
أحدهما : هي نافية ( أي تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا )١٠.
والثاني١١ : مصدرية ولا بدَّ من تقدير١٢ حرف جرٍّ أي : تبرأنا مما كانوا أي من عبادتهم إيانا، وفيه بعدٌ١٣.
١ انظر الكشاف ٣/١٧٦، الفخر الرازي ٢٥/٨..
٢ في ب: أغوينا..
٣ في النسختين: قال. والصواب ما أثبته..
٤ انظر الكشاف ٣/١٧٦..
٥ في ب: الظرف. وهو تحريف..
٦ في الأصل: الظرف..
٧ انظر التبيان ٢/١٠٢٤، البحر المحيط ٧/١٢٨..
٨ قال أبو البقاء: (وقال غيره، وهو الوجه الثاني: لا يمتنع أن يكون "هؤلاء" مبتدأ و"الذين" صفة، و"أغويناهم" الخبر من أجل ما اتصل به، وإن كان ظرفاً، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم كقولك: زيد "عمرو" في داره). التبيان ٢/١٠٢٤..
٩ في ب: المفاصلة..
١٠ ما بين القوسين سقط من ب..
١١ في النسختين: والثانية..
١٢ في ب: تقدم. وهو تحريف..
١٣ ذكر الوجهين ابن الأنباري في البيان، وعقب بقوله: (والوجه الأول أوجه الوجهين)، البيان ٢/٢٣٥، وانظر التبيان ٢/١٠٢٤..
قوله :﴿ وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ ﴾ أي : وقيل للكافرين ادعوا شركاءكم، أي : الأصنام لتخلصكم من العذاب «فَدَعَوْهُمْ » ( فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا )١ لَهُمْ لم يجيبوهم، والأقرب أن هذا على سبيل التقريع، لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم٢.
قوله :﴿ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ ﴾ جوابها محذوف أي : لما رأوا العذاب، أو لدفعوه، قال الضحاك٣ ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروا في الآخرة، وقيل : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أنَّ العذاب حق، وقيل : لو كانوا٤ يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُا العذاب الأليم ﴾٥ قال ابن الخطيب : وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقديره وجوه :
أحدها : أن الله تعالى لما خاطبهم بقوله ﴿ ادعوا شُرَكَاءَكُمْ ﴾ فهاهنا يشتد الخوف عليهم ويصيرون بحيث لا يرون شيئاً، فقال تعالى :﴿ وَرَأَوُا العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾ شيئاً ولما صاروا من شدة الخوف لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب.
وثانيها : أن الله تعالى لما ذكر عن الشركاء وهم الأصنام الذين لا يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم :﴿ وَرَأَوُا٦ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾ مشاهدين العذاب، وكانوا من الأحياء لاهتدوا، ولكنها ليست كذلك، فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل : قوله :«ورأوا العَذَابَ » ضمير٧ لا يليق إلا بالعقلاء، وكيف يصح٨ عوده للأصنام، قلنا : هذا كقوله :﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾، وإنما أورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا هاهنا.
وثالثها : أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب٩، أي : والكفار علموا حقيقة هذا١٠ العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون، قال : وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو » محذوف، فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم١١ الآية١٢.
١ ما بين القوسين في ب: فليستجيبوا..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٥/٩..
٣ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥/٩..
٤ في ب: لو أنهم..
٥ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥/٩..
٦ في ب: رأوا..
٧ ضمير: تكملة من الفخر الرازي..
٨ في الأصل: يليق..
٩ في الأصل: العذاب..
١٠ هذا سقط من ب..
١١ في ب: النظم..
١٢ الفخر الرازي ٢٥/٩..
قوله :«وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ » أي : يسأل الله الكفار ﴿ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين ﴾، فعميت، العامة على تخفيفها، وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم١، وتقدمت القراءتان للسبعة في هود٢، والمعنى : خفيت واشتبهت «عَلَيْهِم الأَنْبَاءُ » وهي الأخبار والأعذار،
١ المختصر (١١٣)، تفسير ابن عطية ١١/٣٢١-٣٢٢، البحر المحيط ٧/١٢٩..
٢ عند قوله تعالى: ﴿فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون﴾ [هود: ٢٨]..
وقال مجاهد : الحجج يومئذ فلا يكون لهم عذر ولا حجة١، فهم لا يتساءلون لا يجيبون وقال قتادة : لا يحتجون٢، وقيل : يسكتون٣ لا يسأل بعضهم بعضاً٤ وقرأ طلحة «لا يسّاءلون » بتشديد السين على إدغام التاء في السين٥، كقراءة ﴿ تَسَّاءَلُونَ بِهِ والأرحام ﴾٦ [ النساء : ١ ].

فصل٧ :


قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان قول الجبرية، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنَّما كذَّبنا الرسل من جهة خلقك فينا بتكذيبهم والقدرة الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى ظاهرة وكذلك القول فيما تقدم، لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك٨ فيّ الغواية، والجواب : أنَّ علم الله بعدم الإيمان مع وجود الإيمان متنافيان لذاتهما، فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمرنا بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمرنا بالجمع بين الضِّدين، واعلم أنَّ القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والعقاب إلا يعيد استدلاله بها، كما أن وجه٩ استدلاله في الكل هذا الحرف، فكذا وجه جوابنا حرف واحد، وهو كما ذكرنا.
١ انظر البغوي ٦/٣٥٨..
٢ المرجع السابق..
٣ في ب: لا يسكتون..
٤ انظر البغوي ٦/٣٥٨..
٥ المختصر (١١٣)، البحر المحيط ٧/١٢٩..
٦ قرأ بها ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو في رواية، وذلك لإدغام التاء الثانية في السين. السبعة (٢٢٦)، الكشف ١/٢٧٥..
٧ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥/١٠..
٨ في ب: خلقك..
٩ وجه: سقط من ب..
قوله: ﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين﴾ لمّا بيَّن حال المعذبين أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة، وزجراً عن الثبات على الكفر، وفي «عَسَى» وجوه:
أحدها: أنه من الكرام حقيق، والله أكرم الأكرمين.
وثانيها: أنَّها للترجي للتائب وطمعه، كأنه قال: فليطمع في الفلاح.
وثالثها: عسى أن يكونوا كذلك إذا داموا على التوبة والإيمان، لجواز أن لا يدوموا.
قوله: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ﴾ نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]، يعني الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم.
281
قوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة﴾ فيه وجوه:
أحدها: أنَّ ما نافية، فالوقف على «يَخْتَارُ».
والثاني: ما مصدرية أي يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول، أي مختارهم.
الثالث: ان يكون بمعنى «الذي» والعائد محذوف، أي ما كان لهم الخيرة فيه كقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] أي منه، وجوَّز ابن عطية أن تكون كان تامة، ولهم الخيرة جملة مستأنفة، قال: ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدَّرنا كان التامة، أي: إن الله يختار كلَّ كائن، ولهم الخيرة مستأنف معناه: تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا. وجعل بعضهم في كان ضمير الشأن، وأنشد:
٤٠١٤ - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْم مَعْرُوفُ
ولو كان ذا اسمها لقال معروفاً، وابن عطية منع ذلك في الآية، قال: لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزيئها إلا أنَّ في هذا نظراً إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحداً يمنع: هو السلطان في البلد، وهي الدار، والخيرة: من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر، وقال الزمخشري ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة﴾ بيان لقوله «وَيَخْتَارُ»، لأن معناه: ويختار ما يشاء ولهذا
282
لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
قال شهاب الدين: لم يزل الناس يقولون: إن الوقف على «يَخْتَار» والابتداء بما على أنها نافية هو مذهب أهل السنة، ونقل ذلك عن جماعة كأُبيٍّ وغيره، وأن كونها موصولة متصلة «يَخْتَارُ» غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهراً وإن كان لا يريده، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية، قال: لئلا يكون المعنى: أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وأيضاً فلم يتقدم نفي، وهذا الذي قاله ابن جرير مرويّ عن ابن عباس، وقال بعضهم: ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل ف «ما» على هذا واقعة على العقلاء.

فصل


إن قيل: «ما» للإثبات فمعناه: ويختار الله ما كان لهم الخيرة، أي: يختار ما هو الأصلح والخير، وإن قيل: ما للنفي أي: ليس إليهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦] ثم قال منزِّهاً نفسه سبحانه وتعالى «عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي: إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه ﴿يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ من عداوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وَمَا يُعْلِنُونَ» من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلا اختير غيره في النبوة،. ولما بيَّن علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال: ﴿وَهُوَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة﴾، وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات ﴿لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة﴾ وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة لأن الثواب غير واجب عليه بل يعطيه فضلاً وإحساناً، و ﴿لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة﴾ ويؤكد قول أهل الجنة ﴿الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾ [فاطر: ٣٤]. ﴿الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر: ٧٤]
283
﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠] «ولَهُ الحُكْمُ» وفصل القضاء بين الخلق، قال ابن عباس: حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء «وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي: إلى حكمه وقضائه.
284
قوله :﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ﴾ نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، يعني الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم١.
قوله :﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة ﴾ فيه وجوه :
أحدها : أنَّ ما نافية، فالوقف على «يَخْتَارُ »٢.
والثاني : ما مصدرية أي يختار اختيارهم، والمصدر٣ واقع موقع المفعول، أي مختارهم٤.
الثالث : أن يكون بمعنى «الذي » والعائد محذوف، أي ما كان لهم الخيرة فيه٥ كقوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور ﴾ [ الشورى : ٤٣ ] أي منه٦، وجوَّز ابن عطية أن تكون كان تامة، ولهم الخيرة جملة مستأنفة، قال : ويتجه عندي أن يكون ما مفعول إذا قدَّرنا كان٧ التامة، أي : إن الله يختار كلَّ كائن، ولهم الخيرة مستأنف معناه : تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا٨. وجعل بعضهم٩ في كان ضمير الشأن، وأنشد :
٤٠١٤ - أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كَانَ ذَا مِنْكَ قَبْلَ اليَوْم مَعْرُوفُ١٠
ولو كان ذا اسمها لقال معروفاً، وابن عطية منع ذلك في الآية، قال : لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف١١، كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف وضمير الشأن لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها١٢ إلا أنَّ في هذا نظراً١٣ إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخبر ولا أظن أحداً يمنع : هو السلطان في البلد، وهي الدار، والخيرة : من التخير كالطيرة من التطير فيستعملان استعمال المصدر١٤، وقال الزمخشري ﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة ﴾ بيان لقوله «وَيَخْتَارُ »، لأن معناه : ويختار ما يشاء ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة١٥ فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه١٦.
قال شهاب الدين : لم يزل الناس يقولون : إن الوقف على «يَخْتَار » والابتداء بما١٧ على أنها نافية هو مذهب أهل السنة١٨، ونقل ذلك عن جماعة كأُبيٍّ وغيره١٩، وأن كونها موصولة متصلة «يَخْتَارُ » غير موقوف عليه هو مذهب المعتزلة، وهذا الزمخشري قد قرر كونها نافية وحصل غرضه في كلامه وهو موافق لكلام أهل السنة ظاهراً وإن كان لا يريده، وهذا الطبري من كبار أهل السنة منع أن تكون نافية، قال : لئلا يكون المعنى : أنه إن لم يكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وأيضاً فلم يتقدم نفي٢٠، وهذا الذي قاله ابن جرير٢١ مرويّ عن ابن عباس٢٢، وقال بعضهم : ويختار لهم ما يشاؤه من الرسل ف «ما » على هذا واقعة على العقلاء٢٣.

فصل :


إن قيل :«ما » للإثبات فمعناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة، أي : يختار ما هو الأصلح والخير، وإن قيل : ما للنفي أي : ليس إليهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله كقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾٢٤ [ الأحزاب : ٣٦ ] ثم قال منزِّهاً نفسه سبحانه وتعالى «عَمَّا يُشْرِكُونَ » أي : إن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة
١ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٠، أسباب النزول للواحدي (٢٥٢)..
٢ ورجحه مكي قال: (لأن كونها للنفي يوجب عموم جميع الأشياء في الخير والشر، أنها حدثت بقدر الله واختياره، وليس لمخلوق فيها اختيار غير اكتسابه بقدر من الله له). مشكل إعراب القرآن ٢/١٦٤، والوقف على "يختار" تام. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٥١-١٥٢، إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٤١، منار الهدى في بيان الوقف والابتدا (٢٩٣)..
٣ في ب: والمصدر فيه..
٤ حكاه أبو البقاء. التبيان ٢/١٠٢٤..
٥ قال الطبري. انظر جامع البيان ٢٠/٦٣..
٦ انظر الكشاف ٣/١٧٧..
٧ في ب: كانت..
٨ تفسير ابن عطية ١١/٣٢٥..
٩ نقله الطبري عن الفراء، وليس في معاني القرآن للفراء، انظر جامع البيان ٢٠/٦٣-٦٤..
١٠ البيت من بحر البسيط، وهو مطلع قصيدة لعنترة يقولها في امرأة أبيه، وهو في الديوان (٥٣)، جامع البيان ٢٠/٦٤، تفسير ابن عطية ١-/٣٢٤، والسبع الطوال لابن الأنباري (٣٥٣)، البحر المحيط ٧/١٢٩، وفي الديوان (سهية) بدل (سمية) وهو اسمها. تذريف: من ذرفت عليه عينه تذرف تذريفاً، وهو الدمع الذي يكاد يتصل في نزوله. والشاهد فيه أن في (كان) على هذه الرواية- وهي من إنشاء القاسم بن معن- ضمير شأن اسمها، و(ذا) خبرها، و(معروف) مبتدأ مؤخر، وما قبله خبر، تنزيلاً لـ (كان) منزلة (إن). ورواية الديوان: (لو أنَّ ذا منك)، وعليها فلا شاهد في البيت..
١١ تفسير ابن عطية ١١/٣٢٥..
١٢ بجزئيها: سقط من ب..
١٣ في ب: نظر..
١٤ انظر الكشاف ٣/١٧٦..
١٥ في ب: الجملة. وهو تحريف..
١٦ الكشاف ٣/١٧٦-١٧٧..
١٧ في ب: بما كان..
١٨ انظر القرطبي ١٣/٣٠٥..
١٩ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٤١..
٢٠ انظر جامع البيان ٢٠/٦٣-٦٤..
٢١ في ب: ابن جريج..
٢٢ انظر القرطبي ١٣/٣٠٦، البحر المحيط ٧/١٢٩..
٢٣ الدر المصون ٥/٢٢٦، وانظر أيضاً القرطبي ١٣/٣٠٦..
٢٤ [الأحزاب: ٣٦]. وانظر البغوي ٦/٣٥٨-٣٥٩..
ثم أكد ذلك بأنه ﴿ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ﴾ من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَمَا يُعْلِنُونَ » من مطاعنهم فيه، وقولهم : هلا اختير غيره في النبوة١.
١ انظر الفخر الرازي ٢٥/١١..
ولما بيَّن علمه بما هم٢ عليه من الغل والحسد والسفاهة قال :﴿ وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة ﴾، وهذا تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات١ ﴿ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة ﴾ وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة لأن الثواب غير واجب عليه بل يعطيه فضلاً وإحساناً، و ﴿ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة ﴾ ويؤكد قول أهل الجنة :﴿ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن ﴾ [ فاطر : ٣٤ ]. ﴿ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾٢ [ يونس : ١٠ ] «ولَهُ الحُكْمُ » وفصل القضاء بين الخلق، قال ابن عباس : حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء٣ «وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ » أي : إلى حكمه وقضائه.
١ انظر الفخر الرازي ٢٥/١١..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٥/١١..
٣ انظر البغوي ٦/٣٥٩..
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً﴾ الآية، لما بيَّن بقوله ﴿وَهُوَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ٧٠] فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه بما لا يقدر عليه سواه، فقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً﴾، نبَّه بذلك على كون الليل والنهار نعمتان متعاقبتان على الزمان، ووجهه أن المرء في الدنيا مضطرٌّ إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم ذلك إلا براحة وسكون بالليل ولا بد منها والحالة هذه، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب ولا حاجة بهم إلى الليل، ولذلك يدوم لهم الضياء واللذات، فبيَّن بذلك أن القادر على ذلك ليس إلاّ الله فقال: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ» أخبروني يا أهل مكة ﴿إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً﴾ دائماً ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ لا نهار معه ﴿مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ﴾ بنهار تطلبون فيه المعيشة «أَفَلاَ تَسْمَعُون» سماع فهم وقبول؟
قوله: أَرَأَيْتُم، وجعل تنازعاً في «اللَّيْل» وأعمل الثاني ومفعول «أَرَأَيْتُمْ» هي جملة الاستفهم بعده والعائد منها على الليل محذوف تقديره: بضياء بعده، وجواب الشرط محذوف، وتقدم تحرير هذا في الأنعام، وسرمداً مفعول ثان إن كان
284
الجعل تصييراً، أو حال إن كان خلقاً وإنشاء، والسَّرمد: الدائم الذي لا ينقطع قال طرفة:
٤٠١٥ - لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ
والظاهر أن ميمه أصلية، ووزنه فعلل كجعفر، وقيل: هي زائدة واشتقاقه من السَّرد، وهو تتابع الشيء على الشيء، إلا أنَّ زيادة الميم وسطاً وآخراً لا تنقاس نحو: دُلاَمِ، وزُرْقُم، من الدلاً والزُّرقة.
قوله: «إلَى يَوْمِ» متعلق ب «يَجْعَلَ» أو ب «سَرْمَداً» أو بمحذوف على أنه صفة ل «سَرْمَداً» وإنما قال: «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ»، «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ»، لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر، فلما لم ينتفعوا أنزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر، قال المفسِّرون: «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ» سماع فهم «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» ما أنتم عليه من الخطأ والضلال.
وقال الزمخشري: فإن قيل هلاَّ قيل بنهار يتصرَّلإون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه، قلنا: ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق بها متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة، وإنما قرن بالضياء «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ» لنَّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» لن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
285
قوله: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» أي في الليل ﴿وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أي: في النهار وهذا من باب اللف والنشر ومنه:
٤٠١٦ - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيَابِساً لَدَى وَكْرِهَا العِنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
قوله: «لَعَلَّكُمْ تَشْكرون» أي: نعم الله، وقيل: أراد الشكر على المنفعتين معاً، وعالم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً (وابتغاء فضل الله بالليل ممكناً) إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى، فلهذا خصه به، وقوله: «وَيَوْمَ يُنَادِيِهمْ» كرَّر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ.
قوله: «وَنَزَعْنَا» أخرجنا ﴿مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً﴾ يعني رسولهم الذي أرسل إليهم، كما قال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] أي: يشهد عليهم بأنهم بلغوا القوم الدلائل، وأوضحوها لهم ليعلم أن التقصير منهم، فيزيد ذلك في غمهم، وقيل المراد الشهداء الذي يشهدون على الناس، ويدخل في جملتهم الأنبياء ﴿فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ﴾ حجتكم بأن معي شريكاً «فَعَلِمُوا» حينئذ «أَنَّ الحَقَّ» التوحيد «لِلَّهِ»، «وَضَلَّ عَنْهُمْ» غاب عنهم ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ من الباطل والكذب.
286
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧١:قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً ﴾ الآية، لما بيَّن١ بقوله :﴿ وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ فصل عقيب ذلك ببعض٢ ما يجب أن يحمد عليه بما٣ لا يقدر عليه سواه، فقال :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً ﴾، نبَّه بذلك على كون الليل والنهار نعمتان متعاقبتان على الزمان، ووجهه أن المرء في الدنيا مضطرٌّ إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم ذلك إلا براحة وسكون بالليل ولا بد منها والحالة هذه، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب٤ ولا حاجة بهم إلى الليل، ولذلك يدوم لهم الضياء واللذات، فبيَّن بذلك أن القادر على ذلك ليس إلاّ الله٥ فقال :«قُلْ٦ أَرَأَيْتُمْ » أخبروني يا أهل مكة ﴿ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً ﴾ دائماً ﴿ إلى يَوْمِ القيامة ﴾ لا نهار معه ﴿ مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ﴾ بنهار تطلبون فيه المعيشة «أَفَلاَ تَسْمَعُون » سماع فهم وقبول ؟.
قوله٧ : أَرَأَيْتُم، وجعل تنازعاً في «اللَّيْل » وأعمل الثاني ومفعول «أَرَأَيْتُمْ » هي جملة الاستفهام بعده والعائد منها على الليل محذوف تقديره : بضياء بعده٨، وجواب الشرط محذوف، وتقدم تحرير هذا في الأنعام٩، وسرمداً مفعول ثان إن كان الجعل١٠ تصييراً، أو حال إن كان خلقاً وإنشاء١١، والسَّرمد : الدائم الذي لا ينقطع١٢ قال طرفة١٣ :
٤٠١٥ - لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ١٤
والظاهر أن ميمه أصلية، ووزنه فعلل كجعفر١٥، وقيل : هي زائدة واشتقاقه من السَّرد، وهو تتابع الشيء على الشيء١٦، إلا أنَّ زيادة الميم وسطاً وآخراً لا تنقاس نحو : دُلاَمصِ١٧، وزُرْقُم١٨، من الدلاص والزُّرقة.
قوله :«إلَى يَوْمِ » متعلق ب «يَجْعَلَ » أو ب «سَرْمَداً » أو بمحذوف على أنه صفة ل «سَرْمَداً »١٩ وإنما قال :«أَفَلاَ تَسْمَعُونَ »، «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ »، لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر، فلما لم ينتفعوا أنزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر٢٠، قال المفسِّرون :«أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » سماع فهم «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » ما أنتم عليه من الخطأ والضلال٢١.
وقال الزمخشري : فإن قيل٢٢ هلاَّ قيل بنهار يتصرَّفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه، قلنا٢٣ : ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق بها متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده٢٤ والظلام ليس بتلك المنزلة، وإنما قرن بالضياء «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » لأنَّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره٢٥ أنت من السكون ونحوه٢٦.
١ في الفخر الرازي: لما بيَّن من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال..
٢ في ب: بعض..
٣ في ب: ما..
٤ في ب: فلا تعب ولا نصب..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٢..
٦ في ب: هل. وهو تحريف..
٧ في ب: فصل قوله..
٨ انظر البحر المحيط ٧/١٣٠..
٩ يشير إلى قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم...﴾ [الأنعام: ٤٦]. انظر اللباب ٣/٤١٣، ٤١٧..
١٠ في ب: جعل..
١١ انظر التبيان ٢/١٠٢٥..
١٢ لأنه من السرد، وهو المتابعة. انظر الكشاف ٣/١٧٧، اللسان (سرد)..
١٣ تقدم..
١٤ البيت من بحر الطويل، وقد تقدم..
١٥ هذا معنى كلام أبي حيان فإنه قال: (سرمد قيل: من السرمد، فميمه زائدة ووزنه فعمل، ولا يزاد وسطاً ولا آخراً بقياس، وإنما هي ألفاظ تحفظ) البحر المحيط ٧/١٣٠..
١٦ انظر الكشاف ٣/١٧٧..
١٧ الدلامص: الدِّرع البراقة اللينة، بمعنى الدَّليص والدِّلاص وقد دلصت الدرع، أي: لانت. اللسان (دلص- دلمص)..
١٨ الزرقم: الأزرق الشديد الزرق، والمرأة زرقم أيضاً. والذكر والأنثى في ذلك سواء، وقال اللحياني: رجل أزرق وزرقم، وامرأة زرقاء بينة الزرق، وزرقمة. اللسان زرق..
١٩ انظر التبيان ٢/١٠٢٥..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٢-١٣..
٢١ انظر البغوي: ٦/٣٦٠..
٢٢ في الكشاف: فإن قلت:.... قلت..
٢٣ في الكشاف: فإن قلت:.... قلت..
٢٤ في ب: فيه..
٢٥ في ب: ما تبصرون..
٢٦ الكشاف ٣/١٧٧..

قوله :«لِتَسْكُنُوا فِيهِ » أي في الليل ﴿ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ أي : في النهار وهذا من باب اللف والنشر١ ومنه :
٤٠١٦ - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيَابِساً لَدَى وَكْرِهَا العِنَّابُ والحَشَفُ البَالِي٢
قوله :«لَعَلَّكُمْ تَشْكرون » أي : نعم الله، وقيل : أراد الشكر على المنفعتين معاً، واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكناً ( وابتغاء فضل الله بالليل ممكناً )٣ إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره الله تعالى، فلهذا خصه به٤،
١ اللف والنشر هو ذكر متعدد على جهة التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين ثقة بأن السامع يرده إليه. الإيضاح (٣٦٦)..
٢ البيت من بحر الطويل، قاله امرؤ القيس، والشاهد فيه أن شبَّه شيئاً واحداً في حالتين مختلفتين بشيئين مختلفين، فالعنَّاب وهو نوع من الثمار رائق المنظر راجع إلى القلوب الرطبة، والحشف وهو أردأ التمر راجع إلى القلوب اليابسة وهو ما يسميه علماء البيان باللف والنشر.
وفيه شاهد آخر وهو أن (رطباً ويابساً) حالان العامل فيهما حرف التشبيه، وهو (كأن) فلذا وجب تأخيرهما. البالي: العتيق. وقد تقدم..

٣ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٣..
وقوله :«وَيَوْمَ يُنَادِيِهمْ » كرَّر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ.
قوله :«وَنَزَعْنَا » أخرجنا١ ﴿ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ يعني رسولهم الذي أرسل إليهم، كما قال :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾٢ [ النساء : ٤١ ] أي : يشهد عليهم بأنهم بلغوا القوم الدلائل، وأوضحوها لهم ليعلم أن التقصير منهم، فيزيد ذلك في غمهم، وقيل المراد الشهداء الذي يشهدون على الناس، ويدخل في جملتهم الأنبياء ﴿ فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ حجتكم بأن معي شريكاً «فَعَلِمُوا » حينئذ «أَنَّ الحَقَّ » التوحيد «لِلَّهِ »، «وَضَلَّ عَنْهُمْ » غاب عنهم ﴿ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ من الباطل والكذب.
١ في ب: وأخرجنا..
٢ [النساء: ٤١]. وانظر البغوي ٦/٣٦٠..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى﴾ الآية، قال المفسرون كان ابن عمه،
286
لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى ابنُ عمران بن قاهث وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون، ولكنه نافق كما نافق السَّامري وكان يسمى المنوَّر لحسن صورته.
وقال ابن عباس: إنه كان ابن خالته، فبغى عليهم، وقيل: كان عاملاً لفرعون على بني إسرائيل، وكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقال قتادة: «بَغَى عَلَيْهِمْ» بكثرة المال (ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء).
وقال الضحاك: بغى عليهم بالشرك، وقال القفال: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده، وقال ابن عباس: تكبّر عليهم وتجبر، وقال الكلبي: حسد هارون على الحبورة، وروي أن موسى عليه السلام لما قطع الله له البحر، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة، فوجد قارون لذلك في نفسه، وقال يا موسى لك الرسالة لهارون الحبورة، ولست في شيء، لا أصبر أنا على هذا، فقال موسى: والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له: فوالله لا أصدِّقك أبداً حتى تأتيني بآية يعرف بها أن جعل ذلك لهارون، قال: فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل ان يجيء كلُّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها، فألقاها موسى عليه السلام في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصحبت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز، فقال موسى لقارون: ألا ترى ما صنع الله لهارون، فقال: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، فاعتزل قارون ومعه ناس كثيرة وولي هارون الحبوة والمذبح والقربان، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهَدَايَاهُمْ إلى هارون فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتَّبَع من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه.
287
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ قارُونَ كانَ من السَّبْعِينَ المُخْتَارَة الَّذِينَ سَمِعُوا كلامَ اللَّه»
قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ ما موصولة بمعنى الذي صلتها (إنَّ) وما في حيّزها ولهذا كسرت ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنَّ وكان يستقبح ذلك عنهم، يعني لوجوده في القرآن، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة، وقيل: مفاتحه خزائنه كقوله ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب﴾ [الأنعام: ٥٩] أي: خزائنه.
قوله: «لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ» فيها وجهان:
أحدهما: بأن الباء للتعدية، كالهمزة ولا قلب في الكلام، والمعنى: لتُنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول: أَجَأْتُهُ وَجئْتُ به، وأَذْهَبْتُه وَذَهَبْتُ به، ومعنى ناء بكذا: نهض به بثقل، قال:
٤٠١٧ - تَنُوءُ بِأُخْرَاهَا فَلأْياً قِيَامُهَا وَتَمْشي الهَوَيْنَا عن قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ
وقال أبو زيد: نُؤْتُ بالعمل أي: نهضت به، قال:
٤٠١٨ - إذَا وَجَدْنَا خَلْفاً بِئْسَ الخَلَفْ عَبْداً إذَا مَا نَاءَ بالحِمْلِ وَقَفْ
وفسره الزمخشري بالأثقال، قال: يقال: ناء به الحمل حتى أثقله
288
وأماله، وعليه ينطبق المعنى أي: لتثقل المفاتح العصبة.
والثاني: قال أبو عبيدة إنَّ في الكلام قلباً، والأصل: لتنوء العصبة بالمفاتح أي: لتنهض بها لقولهم: عرضت لناقة على الحوض، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب، وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء بالياء من تحت والتذكير، لأنه راعى المضاف المحذوف، إذ التقدير حملها أو ثثقلها، وقيل الضمير في «مَفَاتِحَه» ل «قَارُونَ» فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير، كقولهم: ذهبت أهل اليمامة، قاله الزمخشري؛ يعني كما اكتسب «أَهْل» التأنيث اكتسب هذا التذكير، و «العُصْبَةُ» : الجماعة الكثيرة، والعصابة مثلها، قال مجاهد: ما بين العشرة إلى الأربعين؛ لقول إخوة يوسف ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ [يوسف: ٨] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل: أربعون رجلاً وقيل سبعون روي عن ابن عباس: كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال، وروى جرير عن منصور عن خيثمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول: انَّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح؟ الثاني: أن المكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح.
289
وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس (العروض لا من جسن النقد) جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد، وأيضاً أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن، فلا تقبل هذه الرواية، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس المال وهذا أبين، قثال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة، كقوله تعالى ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] والمراد: آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها.
قوله: «إذْ قَالَ» فيه أوجه: أن يكون معمولاً ل «تَنُوءُ» قاله الزمخشري، أو ل «بَغَى» قاله ابن عطية، وردَّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت أو ل «آتَيْنَاهُ» قاله أبو البقاء وردَّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت.
أو لمحذوف، فقدَّره، أبو البقاء: بغى عليهم وهذا ينبغي أن يردّ بما ردَّ به قول ابن عطية. وقدَّره الطبري: اذكر وقدره أبو حيان أظهر الفرح وهو مناسب، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور:
أحدها: قوله: لاَ تَفْرَح إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ، وقرى الفارحين - حكاها عيسى الحجازي - والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة، قال
290
بعضهم: إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها، وأمَّا من يعلم أنَّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح. وما أحسن قول المتنبي:
٤٠١٩ - أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
(وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى) ﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣] قال ابن عباس: كان فرحه ذلك شركاً، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى.
وثانيها: قوله: ﴿وابتغ فِيمَآ آتَاكَ﴾ يجوز أن يتعلق «فِيمَا آتَاكَ» ب «ابْتَغِ»، وإن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أَي: متقلباً «فِيمَا آتاكَ». و «مَا» مصدرية أو بمعنى الذي. والمراد أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة، والظاهر أنه كان مقرّاً بالآخرة.
وثالثها: قوله: ﴿وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا﴾ قال مجاهد وابن زيد لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة وقال السُّدِّي: بالصدقة وصلة الرحم وقال علي ألاَّ تنسى صحتك وقوة شبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، «قال عليه السلام لرجل وهو يعظه:» اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِك، وصحَّتك قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحَيَاتكَ قَبْلَ مَوْتِكَ «
قوله: ﴿وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ﴾ : أي: إحساناً كإحسانه إليك، أي: أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته، وقيل: أحسن إلى الله إليك، وقيل إنه لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.
291
قوله: ﴿وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض﴾ ولا تطلب الفساد في الأرض، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض، وقيل المراد ماكان عليه من الظلم والبغي، و» في الأَرْض «يجوز أن يتعلق ب» تَبْغ «أو ب» الفَسَادِ «أو بمحذوف على أنه حال وهو بعيد. ثم قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾، قيل: إن هذا القائل هو موسى عليه السلام؛ وقيل: بل مؤمنو قومه.
وقوله:»
عِنْدي «إما ظرف ل» أُوتِيته «، وإما صفة للعلم.

فصل


قال قارون: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ أي: على فضلٍ وخير علمه الله عندي فرآني أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام يعلم عليم الكيمياء (أنزل الله عليه علمه من السماء) فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقناء ثلثه وعلم قارون ثلث، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه. وكان ذلك سبب أمواله.
وقيل: ﴿على عِلْمٍ عنديا﴾ بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب ثم أجاب الله عن كلامه بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون﴾ الكافرة ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ للأموال أو أكثر جماعة وعدداً. فقوله ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ﴾ يجوز أن يكون هذا إثباتاً لعلمه بأن الله قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قرأه في التوراة وأخبر به موسى وسمعه من حفاظ التواريخ؛ كأنه قيل: أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك لأنه لما قال: ﴿أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ فتصلف بالعلم وتعظم به قيل مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه. والمعنى أنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما يزيد عليه أضعافاً.
292
قوله: ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ﴾ من موصولة أو نكرة موصوفة وهو في موضع المفعول ب «أهلك»، و «مِنْ قَبْلِهِ» متعلق به، و «مِنَ القُرُونِ» يجوز فيه ذلك ويجوز أن يكون حالاً من ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ﴾.
قوله: «وَلاَ يُسْأَلُ» هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت، ورفع الفعل، وقرأ ابو جعفر «وَلاَ تُسْأَل» بالتاء من فوق والجزم وابن سيرين وأبو العالية كذلك إلا أنه مبني للفاعل وهو المخاطب، قال ابن أبي إسحاق: لا يجوز ذلك حتى ينصب «المُجْرِمِين»، قال صاحب اللوامح: هذا هو الظاهر إلاَّ أنَّه لم يبلغني فيه شيء، فإن تركها مرفوعاً فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون «المُجْرِمُونَ» خبر مبتدأ محذوف أي هم المجرمون.
الثاني: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في «ذُنُبوبِهِمْ» لأنهما مرفوعاً المحل، يعني أن «ذُنُوباً» مصدر مضاف لفاعله، قال فحمل المجرمون على الأصل كما تقدم في قراءة ﴿مَثَلاً مَّا بَعُوضَةٍ﴾ بجر بعوضة، وكان قد خرجها على أن الأصل: يضرب مثل بعوضةٍ، وهذا تعسف كثير فلا ينبغي أن يقرأ ابن سيرين وأبو العالية إلا «المُجْرِمِينَ» بالياء فقط وإنما ترك نقلها لظهوره.
قوله: ﴿وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون﴾ قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال، وقال مجاهد يعني لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم، وقال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وقيل: إن المراد أن الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكنيتها، لأن الله تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى لاسؤال، فإن قيل: كيف الجمع بينه وبين قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ
293
يَعْمَلُونَ} [الحجر: ٩٢، ٩٣] فالجواب: يحمل ذلك على وقتين كما قررناه.
وقال أبو مسلم: السؤال قد يكون للمحاسبة، وقد يكون للتقريع والتوبيخ، وقد يكون للاستعتاب، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [النحل: ٨٤] ﴿هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥، ٣٦].
قوله: «فِي زينَتِهِ» إما متعلق ب «خَرَج»، وإما بمحذوف على أنه حال من فاعل خرج.
294
وثانيها : قوله :﴿ وابتغ فِيمَا آتَاكَ ﴾. يجوز أن يتعلق «فِيمَا آتَاكَ » ب «ابْتَغِ »، وإن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أَي : متقلباً «فِيمَا آتاكَ ». و «مَا » مصدرية أو بمعنى الذي١. والمراد٢ أن يصرف المال إلى ما يؤديه إلى الجنة، والظاهر أنه كان مقرّاً بالآخرة٣.
وثالثها : قوله :﴿ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا ﴾ قال مجاهد وابن زيد لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة٤ وقال السُّدِّي : بالصدقة وصلة الرحم٥ وقال علي ألاَّ تنسى صحتك وقوة شبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، «قال عليه السلام٦ لرجل وهو يعظه :«اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِك، وصحَّتك قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحَيَاتكَ قَبْلَ مَوْتِكَ »٧.
قوله :﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ ﴾ : أي : إحساناً٨ كإحسانه إليك، أي : أحسن بطاعة الله كما أحسن إليك بنعمته٩، وقيل : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك١٠، وقيل١١ إنه لما أمره بالإحسان بالمال أمره بالإحسان مطلقاً، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء١٢.
قوله :﴿ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض ﴾ ولا تطلب الفساد في الأرض١٣، وكل من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض١٤، وقيل المراد ما كان عليه من الظلم والبغي١٥، و«في الأَرْض » يجوز أن يتعلق ب «تَبْغ » أو ب «الفَسَادِ » أو بمحذوف على أنه حال وهو بعيد. ثم قال :﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾، قيل : إن هذا القائل هو موسى١٦ عليه السلام١٧ ؛ وقيل : بل مؤمنو قومه١٨.
١ قاله أبو البقاء. التبيان ٢/١٠٢٦..
٢ في الأصل: والمعنى..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٦..
٤ انظر البغوي ٦/٣٦٢..
٥ المرجع السابق..
٦ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٧ أخرجه البغوي بسنده عن عمرو بن ميمون الأزدي. انظر البغوي ٦/٣٦٢..
٨ إحساناً: سقط من ب..
٩ انظر البغوي ٦/٣٦٢. فتكون الكاف للتشبيه، وهو أن يكون في بعض الأوصاف، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان. البحر المحيط ٧/١٣٣..
١٠ انظر البغوي ٦/٣٦٢. فتكون الكاف للتعليل. البحر المحيط ٧/١٣٣..
١١ في ب: واعلم..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٦-١٧..
١٣ في الأرض: سقط من ب..
١٤ انظر البغوي ٦/٣٦٢..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٧..
١٦ انظر الكشاف ٣/١٧٨، الفخر الرازي ٢٥/١٧..
١٧ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٧..
وقوله :«عِنْدي » إما ظرف ل «أُوتِيته »، وإما صفة١ للعلم٢.

فصل :


قال قارون :﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ﴾ أي : على فضلٍ وخير علمه الله عندي فرآني٣ أهلاً لذلك ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره٤، وقال سعيد بن المسيب والضحاك : كان موسى عليه السلام٥ يعلم علم الكيمياء ( أنزل الله عليه علمه من السماء )٦ فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقناء ثلثه وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه٧. وكان ذلك سبب أمواله.
وقيل :﴿ على عِلْمٍ عندي ﴾ بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب٨ ثم أجاب الله عن كلامه بقوله :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون ﴾ الكافرة ﴿ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ﴾ للأموال أو أكثر جماعة وعدداً. فقوله ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ ﴾ يجوز أن يكون هذا إثباتاً٩ لعلمه بأن الله قد أهلك قبله من القرون من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قرأه في التوراة وأخبر به موسى وسمعه من حفاظ التواريخ ؛ كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك لأنه لما قال :﴿ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي ﴾ فتصلف١٠ بالعلم وتعظم به قيل مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع١١ حتى يقي به نفسه. والمعنى أنه تعالى إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك ولا ما١٢ يزيد عليه أضعافاً١٣.
قوله :﴿ مَنْ هُوَ أَشَدُّ ﴾ من موصولة أو نكرة موصوفة وهو في موضع المفعول ب «أهلك »، و «مِنْ قَبْلِهِ » متعلق به، و «مِنَ القُرُونِ » يجوز فيه ذلك ويجوز أن يكون حالاً من ﴿ مَنْ هُوَ أَشَدُّ ﴾١٤.
قوله :«وَلاَ يُسْأَلُ » هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت، ورفع الفعل، وقرأ أبو جعفر «وَلاَ تُسْأَل » بالتاء من فوق والجزم١٥ وابن سيرين وأبو العالية كذلك إلا أنه مبني للفاعل وهو المخاطب، قال ابن أبي إسحاق : لا يجوز ذلك حتى ينصب «المُجْرِمِين »١٦، قال صاحب اللوامح : هذا هو الظاهر إلاَّ أنَّه لم يبلغني فيه شيء، فإن تركها مرفوعاً فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون «المُجْرِمُونَ » خبر مبتدأ محذوف أي هم المجرمون.
الثاني : أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في «ذنوبهم » لأنهما مرفوعاً المحل، يعني أن «ذُنُوباً » مصدر مضاف لفاعله، قال فحمل المجرمون١٧ على الأصل كما تقدم في قراءة ﴿ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٍ ﴾ بجر بعوضة، وكان قد خرجها على أن الأصل : يضرب مثل بعوضةٍ، وهذا تعسف كثير فلا ينبغي أن يقرأ ابن سيرين وأبو العالية إلا «المُجْرِمِينَ » بالياء فقط وإنما ترك نقلها١٨ لظهوره١٩.
قوله :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون ﴾ قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال٢٠، وقال مجاهد يعني لا تسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم٢١، وقال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ٢٢، وقيل : إن المراد أن الله تعالى٢٣ إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى أن يسألهم٢٤ عن كيفية ذنوبهم وكنيتها٢٥، لأن الله تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال٢٦، فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢، ٩٣ ] فالجواب : يحمل ذلك على وقتين كما قررناه٢٧.
وقال أبو مسلم : السؤال قد يكون للمحاسبة، وقد يكون للتقريع والتوبيخ، وقد يكون للاستعتاب، وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله ﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [ النحل : ٨٤ ] ﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٥، ٣٦ ].
قوله :«فِي زينَتِهِ » إما متعلق ب «خَرَج »، وإما بمحذوف على أنه حال من فاعل خرج٢٨.
١ صفة: سقط من ب..
٢ انظر التبيان ٢/١٠٢٦..
٣ في ب: وإني..
٤ انظر البغوي ٦/٣٦٣..
٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٦ ما بين القوسين سقط من ب..
٧ انظر الكشاف ٣/١٧٨، الفخر الرازي ٢٥/١٧..
٨ المرجعان السابقان..
٩ في ب: استئنافاً..
١٠ الصلف: مجاوزة القدر في الظُّرف والبراعة والادِّعاء فوق ذلك تكبراً. اللسان (صلف)..
١١ في ب: الباقي..
١٢ ما: سقط من ب..
١٣ انظر الكشاف ٣/١٧٨-١٧٩، الفخر الرازي ٢٥/١٧..
١٤ انظر التبيان ٢/١٠٢٦..
١٥ قال أبو حيان: ( وقرا أبو جعفر في روايته "ولا تسأل" بالتاء والجزم، "المجرمين" نصب) البحر المحيط ٧/١٣٤..
١٦ قال أبو حيان: (وقرا ابن سيرين وأبو العالية كذلك في "ولا تسأل" على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوز ذلك إلا أن يكون "المجرمين" بالياء في محل النصب بوقوع الفعل عليه) البحر المحيط ٧/١٣٤..
١٧ في ب: المجرمين..
١٨ نقلها: سقط من ب..
١٩ انظر البحر المحيط ٧/١٣٤. بتصرف..
٢٠ انظر البغوي ٦/٣٦٤..
٢١ المرجع السابق..
٢٢ المرجع السابق..
٢٣ تعالى: سقط من ب..
٢٤ في ب: يسأل..
٢٥ في ب: ويكنيتها..
٢٦ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٧..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٧..
٢٨ انظر التبيان ٢/١٠٢٦..
دلت الآية على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها، وليس في القرآن إلا هذا القدر والناس ذكروا وجوهاً مختلفة، والأولى ترك هذه التقديرات لأنها متعارضة، ثم إن الناس لمَّا رأوه على تلك الزينة قال من كان منهم يرغب في الدنيا: ﴿ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ من الحال، وهؤلاء الراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار، وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبُّون الدنيا، فأمّا الذين أوتوا العلم - وهم أهل الدين - قال ابن عباس: يعني الأحبار من بني إسرائيل، وقال مقاتل: أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة. فقالوا للذين تمنوا: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ﴾ من هذه النعم، أي: ما عند الله من الجزاء والثواب ﴿خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ﴾ وصدَّق بتوحيد الله وعمل صالحاً، لأن للثواب منافع عظيمة خالصة عن شوائب المضار دائمة، وهذه النِّعم على الضد في هذه الصفات.
قوله: «وَيْلَكُمْ» : منصوب بمحذوف، أي: «ألْزَمَكُمْ اللَّهُ وَيْلَكُمْ»، قال الزمخشري: ويلك أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والرَّدع والبعث على ترك ما يضر.
قوله: «وَلاَ يُلَقَّاهَا» أي: هذه الخصلة وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله. وقيل: الضمير يعود إلى ما دل عليه قوله: ﴿آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصَّابرون (وقال الزجاج: ولا يُلَقَّى هذه الكلمة وهي قولهم: {ثَوَابُ الله
294
خَيْرٌ} إلا الصَّابرُونَ) على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات، وعلى الرِّضا بضاء الله في كل ما قسم من المنافع والمضار.
قوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ المشهور كسر هاء الكناية في بِهِ وبِدَارِهِ لأجل كسر ما قبلها. وقرىء بضمها وقد تقدم أنها الأصل، وهي لغة الحجاز.

فصل


قيل: لما أشر وبطر وعتا خصف الله به وبداره الأرض جزاءً على عتوه وبطره، والفاء تدل على ذلك، لأن الفاء تشعر بالعلية. وقيل: إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل وقال إنّ موسى يريد أن يأخذ أخوالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال: ائتوا بفلانة البغيّ فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعوها فجعل لها قارون شطتاً من ذهب مملوءاً ذهباً، وقال لها: إن أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض، فقام فيهم فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة، (ومن زنى وله) امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت: فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وناشهدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصطق فتداركها الله فقالت في نفسها: أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله، فقالت: لا، كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجداً يبكي، وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله إليه ان مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، قال: يا بني
295
إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون.
فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فلعتزل، فاعتزلوا جميعاً ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرَّحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأوحى الله إلى موسى: ما أفظَّك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم، أما وعزتي لو دعوني مرة واحدة لوجودني قريباً مجيباً، فأصحبت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف الله بداره وأمواله الأرض، ثم إن قارون يخسف به كل يوم قامة.
قال القاضي: إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك، وإن كان لا يمتنع على وجه المبالغة في الزجر، وأما قولهم: إنه - تعالى - قال: لو استغاثوا بي لأغثتهم، فإن صح حمل على استغاثة مقرونة بالتوبة، فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف، لأن موسى ما فعله إلا عن إذن فبعيد، وقولهم إنهم يتجلجلون في الأرض فبعيد، لأنه لا بد له من نهاية، وكذا القول فيما ذكر من عدو القامات والذي عنده في أمثال هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة عملية حتى يكفي فيها الظنّ ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب.
قوله: «مِنْ فِئَةٍ» يجوز أن يكون اسم كان إن كانت ناقصة، و «له» الخبر أو «يَنْصُرُونَهُ» وأن تكون فاعلة إن كان تامة و «يَنْصُرُونَهُ» صفة ل «فِئَةٍ» فيحكم على موضعها بالجر لفظاً وبالرفع معنى، لأن «مِنْ» مزيدة فيها، ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين﴾ أي الممتنعين مما نزل من الخسف، يقالك نصره من عدوه فانتصر أي: منعه فامتنع.
296
فقالوا للذين تمنوا :
﴿ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ ﴾ من هذه النعم، أي : ما عند الله من الجزاء والثواب ﴿ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ ﴾ وصدَّق بتوحيد الله وعمل صالحاً، لأن للثواب منافع عظيمة خالصة عن شوائب المضار دائمة، وهذه النِّعم على الضد في هذه الصفات١.
قوله٢ :«وَيْلَكُمْ » : منصوب بمحذوف، أي :«ألْزَمَكُمُ اللَّهُ وَيْلَكُمْ »٣، قال الزمخشري : ويلك أصله الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والرَّدع والبعث على ترك ما يضر٤.
قوله :«وَلاَ يُلَقَّاهَا » أي : هذه الخصلة وهي الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله. وقيل : الضمير يعود إلى ما دل عليه قوله :﴿ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ يعني هذه الأعمال لا يؤتاها إلا الصَّابرون٥ ( وقال الزجاج : ولا يُلَقَّى هذه الكلمة وهي قولهم :﴿ ثَوَابُ الله خَيْرٌ ﴾ إلا الصَّابرُونَ٦ )٧ على أداء الطاعات والاحتراز عن المحرمات، وعلى الرِّضا بقضاء الله في٨ كل ما قسم من المنافع والمضار٩.
١ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٨..
٢ في الأصل: فصل..
٣ انظر التبيان ٢/١٠٢٦..
٤ في الكشاف: على ترك ما لا يرضى. الكشاف ٣/١٧٩..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٨..
٦ معاني القرآن وإعرابه ٤/١٥٦..
٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٨ في ب: و..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٨..
قوله :﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض ﴾ المشهور كسر هاء الكناية في بِهِ وبِدَارِهِ لأجل كسر ما قبلها. وقرئ بضمها١ وقد تقدم أنها الأصل، وهي لغة الحجاز.

فصل :


قيل : لما أشر٢ وبطر وعتا خصف الله به وبداره الأرض جزاءً على عتوه وبطره، والفاء تدل على ذلك، لأن الفاء تشعر بالعلية. وقيل : إن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام٣ كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، فحسبه٤ فاستكثره٥ فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل وقال إنّ موسى يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال : ائتوا بفلانة البغيّ فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعوها فجعل لها قارون طشتاً من ذهب مملوءاً ذهباً٦، وقال لها : إني أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم٧ موسى وهم في براح٨ من الأرض، فقام فيهم فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة، ( ومن زنى وله )٩ امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت : فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وناشدها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله، فقالت : لا، كذبوا بل جعل١٠ لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجداً يبكي، وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى الله١١ إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، قال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون.
فمن كان معه١٢ فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعاً ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم١٣ قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرَّحم وهو لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال خذيهم فانطبقت عليهم فأوحى الله إلى موسى١٤ : ما أفظَّك استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم، أما وعزتي لو دعوني مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً١٥، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه فدعا الله حتى خسف الله بداره وأمواله الأرض، ثم إن قارون يخسف به كل يوم قامة١٦.
قال القاضي : إذا هلك بالخسف فسواء نزل عن ظاهر الأرض إلى الأرض السابعة أو دون ذلك، وإن كان لا يمتنع على وجه المبالغة في الزجر، وأما قولهم١٧ : إنه - تعالى - قال١٨ : لو استغاثوا بي لأغثتهم، فإن صح حمل على استغاثة١٩ مقرونة بالتوبة، فأما وهو ثابت على ما هو عليه مع أنه تعالى هو الذي حكم بذلك الخسف، لأن٢٠ موسى ما فعله إلا عن إذن فبعيد، وقولهم إنهم يتجلجلون في الأرض فبعيد، لأنه لا بد له من نهاية، وكذا القول فيما ذكر من عدو القامات٢١ والذي عنده في أمثال٢٢ هذه الحكايات أنها قليلة الفائدة لأنها من باب أخبار الآحاد فلا تفيد اليقين وليست المسألة عملية حتى يكفي فيها الظنّ ثم إنها في أكثر الأمر متعارضة مضطربة فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب٢٣.
قوله :«مِنْ فِئَةٍ » يجوز أن يكون اسم كان إن كانت ناقصة، و «له » الخبر أو «يَنْصُرُونَهُ » وأن تكون فاعلة إن كان تامة و «يَنْصُرُونَهُ » صفة ل «فِئَةٍ » فيحكم على موضعها بالجر لفظاً وبالرفع معنى، لأن «مِنْ » مزيدة فيها، ثم قال :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين ﴾ أي الممتنعين مما نزل من الخسف، يقال : نصره من عدوه فانتصر أي : منعه فامتنع٢٤.
١ انظر الحجة لأبي علي ١/١٣٢..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥/١٩..
٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤ فحسبه: سقط من ب..
٥ في ب: فاستكثر..
٦ في ب: من ذهب..
٧ في الأصل: إليه..
٨ في ب: وهي في مراح..
٩ ما بين القوسين في ب: أوله..
١٠ في ب: جعلا..
١١ لفظ الجلالة: سقط من ب..
١٢ معه: سقط من ب..
١٣ ثم: سقط من ب..
١٤ في ب: موسى عليه الصلاة والسلام..
١٥ مجيباً: سقط من ب..
١٦ في الفخر الرازي: مائة قامة..
١٧ في ب: قوله..
١٨ قال: سقط من ب..
١٩ في الأصل: الاستغاثة..
٢٠ في ب: أن..
٢١ في ب: الغايات..
٢٢ في ب: في إنفاذ..
٢٣ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥/١٩..
٢٤ المرجعان السابقان..
قوله: ﴿وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ﴾ أي: صار أولئك الذين تمنوا ما رُزق من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني، والعرب تعبِّر عن الصيرورة بأصبح وأمسى وأضحى، تقول: أصبح فلانٌ عالماً، وأضحى معدماً، وأمسى حزيناً، والمعنى صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى وداعياً إلى الرضا بقضاء الله وقسمته.
قوله: ﴿وَيْكَأَنَّ الله.... وَيْكَأَنَّ﴾ فيه مذاهب منها: أن وَيْ كلمة رأسها وهي اسم فعلٍ معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل، و «أنْ» وما في حيّزها مجرورة بها، أي: أعجب لأنَّه لا يفلح الكافرون، وسمع كما أنَّه لا يعلم غفر الله له، وقياس هذا القول أن يوقف على «وَيْ» وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي، إلا أنه ينقل عنه أنه يعتقد في الكلمة أن أصلها «وَيْلَكَ» كما سيأتي، وهذا ينافي وقفه، وأنشد سيبويه:
٤٠٢٠ - وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرٍّ
الثاني: قال بعضهم «كَأَنَّ» هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبر والتقين، وأنشد:
297
٤٠٢١ - كَأَنَّنِي حِينَ أُمْسِي لاَ يُكَلِّمُنِي مُتَيَّمٌ يَشْتَهِي مَا لَيْسَ مَوْجُودا
وهذا أيضاً يناسبه الوقف على «وَيْ».
الثالث: أن «وَيْكَ» كلمة برأسها والكاف حرف خطاب، وأنَّ معمولة لمحذوف، أي: اعلم أنَّه لا يفلح، قال الأخفش، وعليه قوله:
٤٠٢٢ - وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِيَ وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا قِيلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
وحقه أن تقف على «وَيْكَ» وقد فعله أبو عمرو بن العلاء.
الرابع: أن أصلها «وَيْلَكَ» فَحُذِفَ، وإليه ذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم،
298
وحقهم أن يقفوا على الكاف كما فعل أبو عمرو، ومن قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين، فإنه يحتمل أن يكون الأصل فيهما «وَيْلَكَ» فحذف ولم يرسم في القرآن إلا «وَيْكَأَنَّ» «وَيْكَأَنَّهُ» متصلة في الموضعين. فعامَّة القرَّاء اتبعوا الرسم، والكسائي وقف على «وَيْ» وأبو عمرو على «وَيْكَ» وهذا كله في وقف الاختيار دون الاختبار كنظائر تقدمت.
الخامس: أنَّ وَيْكَأَنَّ كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها «أَلَمْ تَرَ». وربَّما نقل ذلك عن ابن عباس، ونقل الكسائي والفراء أنها بمعنى: أما ترى إلى صنع الله، قال الفراء: هي كلمة تقرير، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ قال: وَيْ كأنَّه وراء البيت، يعني: أما ترينه وراء البيت، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رحمة لك في لغة حمير.
قوله: ﴿لولاا أَن مَّنَّ الله﴾ قرأ الأعمش «لَوْلاَ مَنَّ» بحذف «أنْ» وهي مرادة، لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ، وعنه «مَنُّ» برفع لانون وجر الجلالة، وهي واضحة.
قوله: لَخِسَفَ «قرأ حفص:» لَخَسَفَ «مبنياً للفاعل أي الله تعالى، والباقون ببنائه للمفعول، و» بِنَا «هو القائم مقام الفاعل، وعبد الله وطلحة لا نُخُسِفَ بِنَا أي: المكان، وقيل:» بِنَا «هو القائم مقام الفاعل كقولك: انقطع بنا، وهي عبارة رديئة وقيل: الفاعل: ضمير المصدر أي: لا نخفسف الانخساف وهي عنه أيضاً، وعن
299
عبد الله» لَتُخُسِّفَ «بتاء من فوق وتشديد السين مبنياً للمفعول، وبنا قائم مقامه.
قوله:»
وَيْكَأَنَّ «كلمة مستعملة عند التنبيه للخطاب وإظهار التندم، فلما قالوا: ﴿ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص: ٧٩] ثم شاهدوا لاخسف تنبهوا لخطئهم، ثم قالوا: كأنه ﴿يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيِّق عليه، بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة، قال سيبويه: سألت الخليل عن هذا الحرف، فقال:» وَيْ «مفصولة من» كَأَنَّ «وأن القو تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم.
قوله تعالى:»
تِلْكَ الدَّارُ «مبتدأ وصفته، و» نَجْعَلُهَا «هو الخبر، ويجوز أن يكون» الدَّارُ «هو الخبر» نجعَلُهَا «خبراً آخر، وحال والأولى أحسن، وهذا تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعني: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً﴾ ليفيد أن كلاً منها مستقل في بابه لا مجموعهما، ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾.
300
قوله تعالى١ :«تِلْكَ الدَّارُ » مبتدأ وصفته، و «نَجْعَلُهَا » هو الخبر، ويجوز أن يكون «الدَّارُ » هو الخبر «ونجعَلُهَا » خبراً آخر، وحال٢ والأولى أحسن، وهذا تعظيم٣ لها وتفخيم لشأنها، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها٤ ﴿ لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً ﴾ كرر «لا » ليفيد أن كلاً منهما مستقل في بابه لا مجموعهما، ﴿ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
١ تعالى: سقط من ب..
٢ انظر البيان ٢/٢٣٨-٢٣٩..
٣ في ب: عظيم..
٤ انظر الكشاف ٣/١٨٠،/ الفخر الرازي ٢٥/٢٠..
قوله: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَاَ﴾، لمَّا بيَّن أن الدار الآخرة ليست إلا للمتقين بيَّن بعد ذلك ما يحصل لهم فقال: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا﴾، والمعنى: أنهم يزادون على ثوابهم، وقوله: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وظاهره أنهم لا يزادون على ما يستحقون.
فقوله: ﴿فَلاَ يُجْزَى الذين﴾ من إقامة الظاهر مقام المضمر تشنيعاً عليهم، وقوله: ﴿إِلاَّ مَا كَانُواْ﴾ أي: إلاَّ مثل ما كانوا، قال الزمخشري: إنما كرر ذكر السيئات، لأن في
300
إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً فضل تهجين لحالهم، وزيادة تبغيض للسيئة إلى السامعين، وهذا من فضله العظيم أنه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويجزي بالحسنة بعشر أمثالها.
فإن قيل: قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة، (وفي هذه الآية كرر الإساءة واكتفى في ذكر الإحسان بمرة واحدة) فما السبب؟
والجواب: أن هذا المقام مقام الترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي في شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى. فإن قيل: كيف لا تجزى السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآباد؟ فالجواب: لأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
قوله: ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن﴾ قال أبو علي: فرض عليك أحكامه وفرائضه «لَرَادُّكَ» بعد الموت «إلَى مَعَادٍ» وتنكير المعاد لتعظيمه، كأنه قال: مَعَادٍ وأي معاد، أي ليس لغيرك من البشر مثله، وقيل: المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معاداً لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليها، وقهره لأهلها وإظهار عز الإسلام وإذلال حزب الكفرة، والسورة مكية، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً، وقال مقاتل: «إنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نَعَمْ «فقال جبريل إنَّ الله يقول: ﴿إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ﴾ » يعني مكة ظاهراً عليهم قال المحققون: وهذا حد ما يدل على نبوته، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزاً.
301
قوله: ﴿مَن جَآءَ بالهدى﴾ منصوب بمضمر، أي: يَعْلَمْ أو «أَعْلَم» إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله، ووجه تعلقه بما قبله أنَّ الله تعالى لما وعد رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرد إلى معاد قال: قل للمشركين ﴿ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى﴾ يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة ﴿وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم.
قوله: ﴿وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب﴾ أي: يوحى إليك القرآن ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ قال الفراء هذا استثناء منقطع، أي: لكن رحمة من ربك فأعطاك القرآن وقيل: متصل. قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. فيكون استثناء من الأحوال ومن المفعول له، ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ﴾ أي: معيناً لهم على دينهم، قال مقاتل: وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
قوله: ﴿وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله﴾ قرأ العامة بفتح الياء وضم الصاد، من: صدَّه يصُدُّه، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد، من: أصده بمعنى صَدَّه، حكاها أبو زيد عن كلب. قال الشاعر:
302
وأصل «يَصُدُّنكَ» «يَصُدُّونَنَّكَ»، ففعل فيه ما فعل في ﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ [هود: ٨]، والمعنى لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله يعني القرآن. ﴿بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وادع إلى رَبِّكَ﴾ أي: إلى دين ربك وإلى معرفته وتوحيده ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ قال ابن عباس: الخطاب في الظاهر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به: أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم ومثله: ﴿وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ وهذا وإن كان واجباً على الكلِّ إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل (التعليم)، فإن قيل: الرسول كان معلوماً منه أنه لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة، فما فائدة ذلك النهي؟ فالجواب: أنَّ الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره، ويجوز أن يكون المعنى: لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك، فإن وثق بغير الله فكأنَّه لم يكمل طريقه في التوحيد، ثم بيَّن أنه لا إله إلاَّ هو أي: لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلاَّ هو كقوله: ﴿رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً﴾ [المزمل: ٩] فلا يجوز اتخاذ إلهٍ سواه.
قوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ من جعل شيئاً يطلق على الباري تعالى - وهو الصحيح - قال: هذا استثناء متصل، والمراد بالوجه الذات، وإنَّما جرى على عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة، ومن لم يطلق عليه جعله متصلاً أيضاً، وجعل الوجه ما عمل لأجله أو الجاه الذي بين الناس، أو يجعله منقطعاً أي: لكن هو تعالى لم يهلك.

فصل


استدلت المعتزلة على أن الجنة والنار غير مخلوقتين بأنَّ هذه الآية تقتضي فناء الكل، فلو كانتا مخلوقتين لكان هذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ﴾ [الرعد: ٣٥]، والجواب: هذا معارض بقوله تعالى (في صفة الجنة) {أُعِدَّتْ
303
لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣] وفي صفة النار: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤] ثم إما أن يحمل قوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ﴾ على الأكثر كقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٤] أو يحمل على الفناء القليل كقوله: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ﴾ [الرعد: ٣٥] على أن فناءها لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها لا جرم أطلق لفظ الدوام عليها.
قوله: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي: في الآخرة، والعامة على بنائه للمفعول، وعيسى على بنائه للفاعل، روى الثعالبي في تفسير عن أُبَيِّ بن كعب قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» من قَرَأَ طسم القصص لم يبق في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنَّه كان مصدِّقًا أن كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهه له الحكم وإليه ترجعون «
304
سورة العنكبوت
305
قوله١ :﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن ﴾ قال أبو علي٢ : فرض عليك أحكامه وفرائضه «لَرَادُّكَ » بعد الموت «إلَى مَعَادٍ » وتنكير المعاد لتعظيمه، كأنه قال : مَعَادٍ وأي معاد، أي ليس لغيرك من البشر مثله، وقيل : المراد به مكة وترداده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره إياها كانت في ذلك اليوم معاداً لها شأن عظيم لاستيلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، وقهره لأهلها وإظهار٣ عز الإسلام وإذلال٤ حزب الكفرة، والسورة مكية، فكأن الله تعالى وعده وهو بمكة حين أوذي وهو في غلبة من أهلها أنه يهاجر منها، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً، وقال مقاتل :«إنَّه صلى الله عليه وسلم خرج من الغار وسار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق نزل بالجحفة٥ بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«نَعَمْ » فقال جبريل إنَّ الله٦ يقول :﴿ إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ ﴾ »٧ يعني مكة ظاهراً عليهم قال المحققون : وهذا حد ما يدل على نبوته، لأنه أخبر عن الغيب ووقع ما أخبر به فيكون معجزاً٨.
قوله :﴿ مَن جَاءَ بالهدى ﴾ منصوب بمضمر، أي : يَعْلَمْ٩ أو «أَعْلَم » إن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله١٠، ووجه تعلقه بما قبله أنَّ الله تعالى لما وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - الرد إلى معاد قال : قل للمشركين ﴿ ربي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بالهدى ﴾ يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والإعزاز بالإعادة إلى مكة ﴿ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم١١.
١ في ب: قوله تعالى..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٥/٢٢..
٣ في ب: فإظهار..
٤ في ب: إذلال..
٥ الجحفة: موضع بين مكة والمدينة. المعجم الوسيط (جحف)..
٦ في ب: الله تعالى..
٧ انظر الدر المنثور ٥/١٣٩..
٨ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٥/٢٢..
٩ قال ابن الأنباري: ( ووجه التقدير لامتناع الإضافة، ولأن "أعلم" لا يعمل في المفعول لأنه من المعاني، والمعاني لا تنصب المفعول) البيان ٢/٢٣٩، وانظر البحر المحيط ٧/١٣٦..
١٠ قال أبو حيان: (ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل، وجاز مع ذلك أن ينصب به جاز أن ينتصب به إذ يؤوله بمعنى عالم ويعطيه حكمه) البحر المحيط ٧/١٣٦..
١١ انظر الكشاف ٣/١٨١، الفخر الرازي ٢٥/٢٢..
قوله١ :﴿ وَمَا كُنتَ ترجو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب ﴾ أي : يوحى إليك القرآن ﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ قال الفراء هذا استثناء منقطع٢، أي : لكن رحمة من ربك فأعطاك القرآن وقيل : متصل. قال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل : وما ألقي إليك٣ الكتاب إلا رحمة٤. فيكون استثناء من الأحوال ومن المفعول له٥، ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكَافِرِينَ ﴾ أي : معيناً لهم على دينهم، قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكره الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه٦.
١ في ب: قوله تعالى..
٢ معاني القرآن ٢/٣١٣، وقال الأخفش: (استثناء خارج من أول الكلام في معنى لكن) المعاني ٢/٦٥٥..
٣ في الكشاف: عليك..
٤ الكشاف ٣/١٨١..
٥ انظر البحر المحيط ٧/١٣٧..
٦ انظر البغوي ٦/٣٧٢..
قوله :﴿ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله ﴾ قرأ العامة بفتح الياء وضم الصاد، من : صدَّه يصُدُّه، وقرئ بضم الياء وكسر الصاد، من : أصده بمعنى صَدَّه، حكاها أبو زيد عن كلب١. قال الشاعر :
٤٠٢٣ - أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُم صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوف الحَوَائِمِ
٤٠٢٣ - أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُم صُدُودَ السَّوَاقِي عَنْ أُنُوف الحَوَائِمِ٢
وأصل «يَصُدُّنكَ » «يَصُدُّونَنَّكَ »، ففعل فيه ما فعل في ﴿ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ﴾٣ [ هود : ٨ ]، والمعنى لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع آيات الله٤ يعني القرآن. ﴿ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ٥ إِلَيْكَ، وادع إلى رَبِّكَ ﴾ أي : إلى دين ربك وإلى معرفته وتوحيده ﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ﴾ قال ابن عباس : الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به : أهل دينه٦، أي : لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم ومثله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ وهذا وإن كان واجباً على الكلِّ إلا أنه تعالى خاطبه به خصوصاً لأجل ( التعليم١ )٢، فإن قيل : الرسول كان معلوماً منه أنه لا يفعل شيئاً من ذلك ألبتة، فما فائدة ذلك النهي ؟ فالجواب : أنَّ الخطاب وإن كان معه لكن المراد غيره، ويجوز أن يكون المعنى : لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلاً في أمورك، فإن وثق بغير الله فكأنَّه لم يكمل طريقه في التوحيد٣، ثم بيَّن أنه لا إله إلاَّ هو أي : لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلاَّ هو كقوله :﴿ رَبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ﴾ [ المزمل : ٩ ] فلا يجوز اتخاذ إلهٍ سواه٤.
١ لم أعثر على ذلك في النوادر، وفي المختصر: قال ابن خالويه: ("ولا يصدَّنَّك" حكاه أبو زيد عن رجل من كلب، وقال: هي لغة قومه) ١١٤، وانظر البحر المحيط ٧/١٣٧..
٢ البيت من بحر الطويل، قاله ذو الرُّمة، وهو في ديوانه ٢/٧٧١، الكشاف ٣/١٨١، القرطبي ١٣/٣٢٢، اللسان (صدد) البحر المحيط ٧/١٣٧، وروي:
صدود السَّواقي عن رؤوس المخارم
السواقي: مجاري الماء. المخرم: منقطع أنف الجبل، يقول: صدوا الناس عنهم بالسيف كما صدّت هذه الأنهار عن المخارم، فلم تستطع أن ترتفع إليها. الحوائم: الجمال العطاش، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم. والشاهد فيه قوله: (أصدُّوا) فإنه بمعنى صدوا..

٣ يعني بذلك أن الفعل هنا وفي سورة "هود" معرب لأن النون مفصولة تقديراً، إذ الأصل: يصدوننَّك، ليقولوننَّ، النون الأولى للرفع وبعدها نون مشددة فاستثقل توالي الأمثال، فحذفت نون الرفع، لأنها لا تدل من المعنى على ما تدل عليه نون التوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو التي هي ضمير الفعل، لالتقائها ساكنة مع النون. انظر اللباب ٤/٣٣١..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٥/٢٣..
٥ في ب: أنزل. وهو تحريف..
٦ انظر البغوي ٦/٣٧٢-٣٧٣..
قوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ من جعل شيئاً يطلق٥ على الباري تعالى - وهو الصحيح - قال : هذا استثناء متصل، والمراد بالوجه الذات، وإنَّما جرى على عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة٦، ومن لم يطلق عليه جعله متصلاً أيضاً، وجعل الوجه ما عمل لأجله أو الجاه الذي بين الناس، أو يجعله منقطعاً أي : لكن هو تعالى لم يهلك٧.

فصل :


استدلت المعتزلة على أن الجنة والنار غير مخلوقتين بأنَّ هذه الآية تقتضي فناء الكل، فلو كانتا مخلوقتين لكان هذا يناقض قوله تعالى في صفة الجنة ﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ [ الرعد : ٣٥ ]، والجواب : هذا معارض بقوله تعالى ( في صفة الجنة )٨ ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣ ] وفي صفة النار :﴿ وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٢٤ ] ثم إما أن يحمل قوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ ﴾ على الأكثر كقوله :﴿ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ النمل : ٢٤ ] أو يحمل على الفناء القليل كقوله :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] على أن فناءها لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها لا جرم أطلق لفظ الدوام عليها٩.
قوله :«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » أي١٠ : في الآخرة، والعامة على بنائه للمفعول، وعيسى على بنائه للفاعل١١.
٥ في ب: ينطلق..
٦ ويسمى هذا مجازاً مرسلاً علاقته الجزئية حيث أطلق الجزء وأراد الكل..
٧ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/١٥٨، تفسير ابن عطية ١١/٣٥٠، البيان ٢/٢٣٩-٢٤٠، التبيان ٢/١٠٢٨..
٨ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٥/٢٥-٢٦..
١٠ أي: سقط من الأصل..
١١ أي: يرجعون. انظر تفسير ابن عطية ١١/٣٥١، البحر المحيط ٧/١٣٧، الإتحاف (٣٤٤)..
Icon